المشكلة الطائفية في مصر والبديل العلماني الثوري

عاطف شحات سعيد
2012 / 6 / 4 - 23:13     

منذ فبراير/شباط عام 2011، وبعد الثورة المصرية، تشير بعض الاحصاءات الى انه تم حرق وهدم حوالى 12 كنيسة في مصر. وهذه فقط بعض الأمثلة: منها كنيسة بأطفيح على حدود القاهرة في مارس/آذار 2011، وبأمبابة بمحافظة الجيزة، في شهر مايو/أيار 2011، وكنيسة مار مينا بسوهاج، في مايو 2011 أيضاً، وكنيسة مار جرجس، بالمريناب بأسوان، في سبتمبر/أيلول 2011، وأيضاً كنيسة العذراء بالشرقية، في فبراير/شباط 2012. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2011، قامت قوات الأمن والجيش المصريين، بمساعدة بلطجية، بالاعتداء على متظاهرين كانوا يتظاهرون سلمياً امام مبنيي ماسبيرو ـ الاذاعة والتليفزيون ـ في وسط القاهرة، ووصل الأمر الى دهس المتظاهرين بمدرعات الجيش.

كان المتظاهرون بمعظمهم من الاقباط، وكان هناك عدد كبير من المصريين المسلمين المتضامنين معهم. وكان سبب تظاهرهم الاعتراض على حرق كنيسة أسوان. قام التليفزيون المصري بالكذب وبالتحريض الصريح والسافر ضد المتظاهرين، وقال انهم يحملون اسلحة للاعتداء على الجيش، ودعا المصريين لأن يهبوا لنجدة الجيش المصري ضد المتظاهرين الاقباط المسلحين. وفي فبراير/شباط 2012، قررت جلسة عرفية بقيادة شيوخ سلفيين، وبحضور قيادات أمنية، تهجير 8 أسر مسيحية من قرية شربات، التابعة لمركز العامرية، بمحافظة الاسكندرية، بعدما أشيع أن هناك شاباً مسيحياً ينشر صوراً له تجمعه بسيدة مسلمة من القرية ذاتها. وكان رد فعل العديد من الأهالي حرق بعض المنازل والمحلات القبطية، ونهبها. وانتهى الأمر بقرار المجلس العرفي (الديني – الأمني) بأن من مصلحة الأسر القبطية أن تبيع منازلها وتهجر القرية، درءاً للفتنة، وقال الأهالي إنه لا يمكن ضمان سلامة هذه الأسر، اذا بقيت في القرية. بعد ذلك بفترة، سمعنا ان بعض هذه الأسر عادت الى القرية، بعد تدخل لجنة برلمانية. لكن لم يتدخل أحد لتعويض الأهالي من الخسائر المالية التي لحقت بها. وفي ظل التصاعد غير المسبوق للإعلام السلفي، شهد الاعلام المصري أصواتاً تدعو صراحة لعدم تهنئة الاقباط بأعيادهم. وبعد الثورة ايضاً تباطأت الحكومة والمجلس العسكري، في إصدار قانون بناء دور العبادة الموحد، بعد كل هذه الحوادث التي ارتبطت بتعطيل بناء كنائس جديدة، أو ترميم كنائس قائمة! واقترح مستشارو المجلس العسكري والحكومة إصدار قانون مؤقت لتنظيم بناء الكنائس المخالفة، وترميمها، بدلاً من اصدار قانون العبادة الموحد! ويضاف الي ذلك العديد من الأمور الأخرى، التي استمرت من فترة ما قبل الثورة، والتي تشير الى وجود تمييزٍ فاضح، ضد الاقباط، مثل استبعادهم من تولي الكثير من الوظائف الهامة.

المفارقة أن هذه الأمور حدثت بعد الثورة. والمفارقة أن الـ18 يوماً للثورة، التي انتهت بخلع الديكتاتور مبارك، لم تشهد أي اعتداء على أي كنيسة. والمفارقة ايضاً انه بالرغم من اتفاق القيادات الكنسية وقيادات الأزهر ودار الافتاء على ادانة المظاهرات في بداية الثورة، وتحذير شبابهم من الانضمام للثورة، فإن ذلك لم يمنع شباب الأقباط من المشاركة فيها. وشاهدنا صوراً، اصبحت مملة من كثرة ما نشرت، فيها شباب أقباط يحمون رفاقهم المسلمين بأجسادهم، أثناء صلاة الأخيرين، خوفاً من اعتداء بلطجية مبارك ورجال أمنه.

هل انتهت هذه الثورة، هذا الحلم الرائع، حيث تعانق المصريون، وقدموا حياتهم معاً ضد الطغيان، بلا تمييز، كما قتلتهم قوات الغدر بلا تمييز؟ وهل أصبحت الثورة نقمة في ما بعد، بتصاعد الطائفية في مصر؟ وما هو دور الثوريين تجاه هذا الأمر: هل ينضمون الى جوقة علمانيين ليبراليين لا همَّ لهم سوى شتيمة الإسلاميين، ويطالبون معهم بإقامة دولة «مدنية» علمانية؟ وهل هذا أفضل طريق لنضال الثوريين ضد الطائفية: أن ينضموا للعلمانيين التقليديين ـ الذين لا هم لهم سوى قضية هوية الدولة ـ ويتخلوا عن الغاية الأساسية لدى الثوريين، ألا وهي إقامة دولة العدالة الاجتماعية، بلا طبقات، تقوم على الحرية، وتكافؤ الفرص، والتضامن الإنساني، والمساواة؟ والآن، وبعد أن اصبح الاسلاميون يتحكمون بالأغلبية البرلمانية في مصر (كما انهم يديرون الحكومة في تونس)، كيف يتعامل معهم الثوريون؟ وهل يكون الثوريون من ضيق الأفق، بحيث يتركون مجلس مبارك العسكري- وهو المعبِّر الحقيقي عن المصالح الرأسمالية، والممعن في قتل المصريين واستهداف الثورة، وفي الدفاع عن المصالح الامبريالية في مصر- ويركزون على المعركة مع الاسلاميين؟ وهل تختزل الثورة في هذه المعركة؟ هذه السطور هي اجتهاد شخصي، وهي مجرد محاولة للتفكير بصوت عال في بعض هذه الأسئلة، وتصب معظمها بصفة عامة في المسألة الطائفية اليوم. اتمنى فقط ان تكون بداية لحوار مع الرفاق في مصر والعالم العربي حول هذه المسألة. وسأبدأ هذا المقال ببعض الخلفيات الضرورية.

ثلاث خلفيات ضروية:
قبل البدء في مناقشة ماآلت الأمور اليه بعد الثورة من المفيد تناول أمور ثلاثة هامة: أولها نظري والثاني تاريخي والثالث يتعلق ببعض التعقيدات العملية الحالية حول الطائفية والعلمانية، في منطقتنا، في القرن الحادي والعشرين. تتعلق الخلفية الأولى بعلاقة الماركسية بقضية الدين والعلمانية. وتنطلق معظم الكتابات حول هذا الأمر من النص الشهير الذي ورد في سياق كتاب ماركس في نقد فلسفة الحق لهيجل، وهو النص الخاص بأن الدين افيون الشعوب. وفي هذا الكتاب ورد النص الوارد أدناه، وتعريبه:

«الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو احتجاج عليه، من جهة اخرى. الدين تنهُّدة الكائن المضطهد، قلبُ عالم لا قلب له، وروحُ شروط (اجتماعية) لا روح لها. إنه أفيون الشعب».

‏«Religious suffering is, at one and the same time, the expression of real suffering and a protest against real suffering. Religion is the sigh of the oppressed creature, the heart of a heartless world, and the soul of soulless conditions. It is the opium of the people.»

وهذا النص قد أُشبع قراءات. وليس هنا محل البحث التفصيلي فيه. وربما لا يمكن اختزال الماركسية في علاقتها بالدين في هذا النص. ولكنَّ هناك ملاحظتين اساسيتين حوله. الملاحظة الأولى انه لا يمكن ان ننزع فهم النص من السياق التاريخي (historical context) المكتوب فيه. وأعتقد ان اهم شىء في هذا السياق ليس فقط وضعه في اطار ماعرف بكتابات ماركس الشاب ولكن ايضاً جوهر كتاباته التي وجه فيها نقداً شديداً لما يسمَّى بالجدلية المثالية، او المثاليين الالمان، ومنهم هيجل وفويرباخ. ويعد أهم أسس نقد ماركس لهيجل - رغم اعجابه الشديد به، وبرغم ان ماركس نفسه كان من ضمن مجموعة الهيجليين الشباب، الذين كان عملهم قراءة هيجل - أن الجدلية عند هيجل هي مثالية وتحدث في العقل لا في الواقع. لكن الجدلية الحقيقية التي يجب ان ينتبه اليها الناس هي الجدلية المادية. فأهم شيء يغير الواقع هو تناقضات الواقع نفسه. وهذا ملخص مبسط، وربما مبتذل لهذا الكتاب، ولنقد ماركس لهيجل. ولكن جوهر الفكرة هنا هو أن أي نقد يوجهه ماركس للدين أو المثالية يجب ان يفهم على أساس انه يقول ان كل هذه الافكار لا أهمية لها إلا في ضوء وضعها في الواقع المادي، أولاً.

اما الملاحظة الثانية فهي اننا يجب ان نضع النص في سياقه النصي نفسه (textual context). وفي هذا السياق فإنه يمكن القول ان هناك قراءتين للنص، بالأخذ في الاعتبار سياق العبارات الأخرى المكملة للعبارة. المعني الأول هو ان الدين افيون، والمعاناة الدينية هي معاناة شكلية، لكنها تشوه المعاناة الحقيقية، في العالم، وتختزلها. ولذلك فانه يجب التخلص من الدين كلية، باعتباره عائقاً يحول بين الناس وأن يروا اسباب معاناتهم الحقيقية. اما القراءة الثانية فهي ترى ان مكمن المشكلة في الدين هو انه يمثل عائقاً بين الناس ورؤية معاناتهم الحقيقية. الدين يمثل قلباً في عالم لا قلب له وروحاً في عالم بلا روح. والدين هنا باختصار هو عَرَض المرض وليس المرض نفسه. وهو كما يقول البعض العلاج الخطأ للمشكلة «الصح»، ألا وهي قهر الانسان للانسان. نعم ماركس يقول ان الانسان خلق الدين وليس العكس. ونعم ربما يمكن ان نقرأ هذا النص على أساس ضرورة التخلص من الوهم، بداية، لكشف المرض الحقيقي. لكن اختزال النص في ان ماركس كان كل همه الالحاد والعداء للدين، بدون الانتباه الى ان أصل المشكلة لديه هو تناقضات الواقع المادي، ومعاناة البشرية، بسبب الرأسمالية، يمثل اختزالاً مبتذلاً. وبالطبع لست في حاجة هنا لترديد بعض العبارات التي ربما يراها البعض عبارات طنانة، ألا وهي أن قضية الماركسية الأساسية هي التحرر الانساني، وليس تحقيق العلمانية والالحاد، في حد ذاتهما، بشكل مجرد.

وهناك بعض الكتاب اليساريين الذين نبهوا الى ان الفهم الدوغمائي لماركس، وخصوصاً في كتاباته المتعلقة بالمادية التاريخية، يؤدي الى افتراض ان الرأسمالية هي دائماً قوة تدفع الى العلمانية. وأن طريق الرأسمالية في أوروبا الى العلمانية هو طريق حتمي يقود الى العلمانية
(اي فصل الدين عن الدولة). ومن هذا كتابات استاذ الانثروبولوجيا الشهير، طلال أسد. كما تقول، مثلاً، استاذة الفلسفة اليسارية، ويندي براون، في ورقة مقدمة منها بعنوان «نقد للدين ونقد للرأسمالية»، في مؤتمر المادية التاريخية السادس بلندن، عام 2009، الآتي:

‏«capital itself will be seen to entail and generate a certain religiosity, and even to require a religious supplement, a formulation which may shed light on the convergence of global neoliberalization and a global resurgence of religion.»

اي أنه «سوف تتم رؤية رأس المال، بحد ذاته، يستتبع نوعاً من التدين، ويوَلِّده، لا بل يتطلب ملحقاً دينياً، صياغة يمكن أن تلقي الضوء على تلاقي نيوليبرالية شاملة مع صعود شامل للدين.»

ويقول استاذ ماركسي أخر هو البرتو توسكانو ان كتابات ماركس حول الدين يمكن فهمها على أساس انها تقوم بعدة اشياء في وقت واحد. الأول هو انها موجهة بالأساس لنقد حركات التنوير، وحركات العلمانية، التي تفهم الدين فهماً مجرداً وسطحياً. فهذه الحركات تقوم على نقد روحانية الدين بشكل مجرد، بعيداً عن فهم طبيعة العلاقات الاكليريكية والكنسية بالواقع المادي الطبقي. ومنها أيضاً ضرورة ان ينطلق نقد الدين بشكل أساسي من الواقع المادي. والجدير بالذكر ان هناك بعض الكتاب الذين يصفون العلمانية بأنها طريقة حياة وليس مجرد افكار مجردة (مثل استاذ الفلسفة الأمريكي تشارلز تيلور، في كتابه عصر العلمانية). ولكن في واقع الأمر لا يقدم هؤلاء أي دليل على وجود مفهوم مادي وملموس للعلمانية، غير انها فكرة مجردة ترتبط بالعقل، وليس بالواقع الاجتماعي والطبقي. وباختصار شديد، فإنه يجب فهم نقد الماركسية للدين، على أساس انه نقد للعلمانية، ايضاً. الماركسية تريد تحرير الانسان من كل الدوغمات المجردة، وليس الدين فقط.

وهذه القراءة تستقيم مع قراءة نصوص اخرى لماركس، منها مثلاً كتابه في المسألة اليهودية. وفي هذا الكتاب ينتقد ماركس الفهم الاحادي الضيق لمسألة تحرر اليهود، ويقول ان فكرة الانعتاق السياسي لليهود وغيرهم، بالفصل المجرد بين الدين والدولة، هي فكرة شكلية لا تحقق الانعتاق الحقيقي، بالقضاء على الدولة الظالمة نفسها. فالفصل بين الدين والدولة وحقوق المواطن كلها مفردات طنانة لا تغني ولا تسمن من جوع. وهي تُختزَل في نهاية الأمر بحقوق دستورية لا تضمن أي شيء. وهناك أمور اخرى تتعلق بمسألة العلمانية والماركسية، منها مثلاً قضية فرض الالحاد بالقوة في الاتحاد السوفييتي، بعد الثورة. وهناك كتابات تاريخية كثيرة تشرح ان حقوق الاقليات، ومنها المسلمة، كانت مصونة بعد الثورة مباشرة. ولكن كان الموقف الحاد والعنيف في مواجهة الكنيسة الارثوذوكسية رد فعل على موقف قيادات الكنيسة في دعمها للقيصر. وهذا في اعتقادي الشخصي لا يبرر أن يتم تحقيق العلمانية أو الالحاد، عن طريق القمع، وخاصة في سياق مشروع ثوري يقوم على التحرر.

والعلمانية نفسها هي منتج تاريخي (مثلها مثل الدين). ولا يعقل ان نسبتدل ديناً بدين. فهناك من العلمانيين المتطرفين مَن يدافعون عن الرأسمالية والقمع بضراوة، وهؤلاء لا يقلون، ان لم يكونوا أكثر، سوءاً من رجال الدين، اتباع الجلادين. وفي مصر في ما بعد الثورة، كما سأتناول ذلك في ما يلي، نرى هؤلاء الذين لا يبالون بأن يقوم الجيش بانقلاب صريح على الثورة، وبالانقضاض على الاسلاميين. هل هذه علمانية؟ وهل هكذا تنتهي الطائفية؟ والمطلوب هنا ان نفهم العلمانية كوسيلة، وليس كغاية، بوصفها روحاً للتحرر من سطوة الدين، وليس كدوغما جديدة مجردة. وهذا ما اقصده بضرورة تحقيق علمانية ثورية، سوف أحاول أن أتناول ملامحها في نهاية هذا المقال.

أما الخلفية الثانية فتتعلق بتاريخ قضية الاقباط والطائفية في مصر. ومن المستحيل هنا عمل بحث تفصيلي لهذا الأمر. ويمكن القول باختصار إن كثيراً من الكتابات التاريخية حول قضايا الطائفية والمسألة القبطية لم تتناول هذه المسألة في سياقها الاجتماعي والطبقي، وانما ركزت على مسألة نشأة الوطنية المصرية الحديثة، وقصة ثورة 1919، «وعاش الهلال مع الصليب.» ومن الاستثناءات القليلة لهذا ـ على حد علمي المتواضع ـ مقال كتبته الرفيقة غادة طنطاوي، في مجلة اوراق اشتراكية، نشر في نوفمبر/تشرين الثاني، عام 2009. وأيضاً بعض الكتابات للباحث والمؤرخ الجامعي، بول سدرة، ومنها مقال هام نشر عام 1999، ويركز على تاريخ المسألة القبطية في سياقها الطبقي في مصر.

وباختصار شديد فإن تناقضات الدولة المصرية ـ بوصفها دولة رأسمالية متخلفة ـ تطلبت الابقاء على الطائفية. ارتفعت حقوق الاقباط فقط عندما صعدوا طبقيا،ً وضغطوا في سبيل حقوقهم. فدولة محمد علي «الحديثة» لم ترسل الاقباط للخارج للتعليم، كما لم تجند الاقباط. وكان أول تجنيد للأقباط عام، 1880 في عهد اسماعيل. ومن جهة اولى كانت الدولة تمنح الاقباط حقوقاً دستورية، وكانت حقوق الاقباط الواقعية تتغير تميزاً وتدهوراً، بحسب ظروف الواقع. وعلى سبيل المثال شهد القرن 19 ـ على حد تعبير الرفيقة غادة في مقالها المذكور ـ تطوراً كبيراً في حصول الاقباط على حقوقهم الدستورية، وفي التعليم وغيره، بسبب نفوذ الاقباط من الاعيان وكبار التجار. وتقول مثلاً:

«وتشير إحصاءات العقد الأول من القرن العشرين، إلى أن الأقباط كانوا يمثلون 7% من المصريين، ويسيطرون على 20% من الثروة، و45% من الوظائف الحكومية، و40% من الرواتب الحكومية».

وليس كلامي السابق على الحركة الوطنية معناه انكار اهميتها. لكن فقط كان مكمن انتقادي لاختزال تاريخ الطائفية والمسألة القبطية بمسألة الحركة الوطنية. وواقع الأمر يقول ان تصاعد هذه الحركة شهد تقلصاً للتمييز ضد الاقباط. وهذا بالطبع لا ينكر ان الاقباط الفقراء كانوا يعانون كغيرهم من المصريين. وعندما انقلب أعيان الوفد واحتكروا الوطنية لأنفسهم، وعادوا العمال، فإن ذلك كان ضد الاقباط والمسلمين من العمال، في آنٍ معاً. وفي يوليو/تموز 1952 لم يكن هنالك سوى لواء قبطي واحد في الجيش المصري. وفي عهد عبد الناصر كانت هناك صيغة علمانية مرنة، ولكنها مفروضة بالقوة. لكن كانت اغلبية الاقباط في البرلمان من المعينين، وهو أمر تواصل حتى اليوم، وبعد ثورة يناير 2011. وقد استمر الأمر، ليتدهور ايام السادات ومبارك وحتى ثورة يناير. ويقدم الباحث بول سدرة شرحاً مفيداً للتطور الطبقي للاقباط وتجمعاتهم، وخاصة مثلاً دور المجلس الملي، الذي كان دائماً من الاغنياء وأصحاب النفوذ، وأيضاً شبكات العمل الاجتماعي والخيري التي تطورت حول الكنيسة منذ السبعينيات، وهذا تفسير هام صاحب انعزال الكنيسة والكثير من ابنائها عن السياسة.

وليس هدف هذه السطور على الاطلاق الادعاء بأن هناك تجانساً طبقياً في ما بين الاقباط. فالاقباط، كما المسلمون، مختلفون طبقياً. على العكس، فالهدف فقط من ذلك هو أن تُفهم تطورات الأمر، في سياقها الاجتماعي، وأن نفهم لماذا استمرت الطائفية في مصر، طوال هذه السنوات. وهناك تفسيرات عديدة لهذا، من اهمها فشل مشروع الحداثة، ومنها ايضاً فشل الدولة الوطنية في تحقيق الوحدة. فالدولة الوطنية الحديثة ليست نموذجاً واحداً، فقد نجحت شكلياً في الغرب في «إنهاء» الطائفية في عصور التنوير والحداثة، بينما الدولة الرأسمالية المتخلفة في عالمنا لم تنجح في ذلك. لكن بالاضافة الى ذلك يمكن القول بأن الرأسمالية، طوال الوقت، استدعت الطائفية وحافظت عليها. وعلاقتها بالعلمانية علاقة ملتبسة، ولم تكن يوماًً سوية ومبدئية. وبالرغم من التركيز في هذه السطور على المسألة القبطية فقط، لكن هذا الكلام يسري على الكثير من الاقليات الدينية، مثل اليهود والشيعة والبهائيين (وأيضاً الاقليات الجنسية، وهم أكثر عرضة للاضطهاد في اعتقادي الشخصي).

وفي مصر ما قبل الثورة، كانت هناك ثلاثة آراء سائدة، حول وجود التوتر الطائفي في مصر. أولها هو الرأي القبطي المتطرف، الذي يقول إن مصر هي بلد قبطي، والمسلمين غزاة، ولا حل للمسألة القبطية الا بالاعتراف بذلك. وهناك رأي معتدل يقول يجب على الاقل الاعتراف بعلمانية الدولة، وحق المواطنة المصرية للجميع، بناء على ذلك. وهناك رأي بعض المسلمين المتطرفين الذين يقولون إن مصر دولة اسلامية، وان الاقباط يعاملون معاملة متميزة، والدليل اننا لا نأخذ منهم الجزية، كما انهم احرار في كل شيء في مصر. وهناك رأي الدولة الرسمي والنخبة الحكومية، التي تردد بشكل أعمى الكلام على النسيج الواحد، وانه لا توجد مشاكل طائفية، وانما حوادث فردية. هذا الرأي الأخير لا يأخذ في الاعتبار تاريخ العنف الطويل الطائفي، الذي لا يمكن تناوله بالتفصيل في هذه السطور؛ ذلك العنف الذي لم يتوقف منذ احداث الخانكة عام 1972.

وفي مقالة بعنوان التحول من الصراع الى الوفاق المجتمعي (منشورة في كتاب «عبقرية الثورة المصرية»، 2011، ص 463)، يقول استاذ الطب النفسي محمد المهدي ان الحالة الطائفية تمر بعدة مراحل وهي: الأفكار الطائفية، ومن ثم المزاج الطائفي (المشاعر الطائفية)، ثم المناخ الطائفي، ثم الصراع الطائفي، ثم المواجهات الطائفية، وأخيراً الحرب الأهلية الطائفية. ويقول الكاتب انه للأسف الشديد، فالوضع في مصر قد وصل الى مرحلة المواجهات الطائفية. وكتب الكاتب هذا المقال، بعد بعض الحوادث الطائفية التي وقعت بعد الثورة.

أما الخلفية الثالثة فتتعلق ببعض التعقيدات العملية الحالية حول الطائفية والعلمانية، في منطقتنا، في القرن الحادي والعشرين. والفهم السليم للنقطتين السابقتين يقودنا للقول بأن فهم الماركسيين الثوريين لمسائل الطائفية والعلمانية ينبغي ان يكون مبنياً على فهم تعقيدات الواقع والتاريخ. فبعض الماركسيين الدوغمائيين ربما ينتظر تحقيق الدولة العلمانية في واقعنا العربي المعاصر، بنفس الصورة التي حدثت في أوروبا، بغض النظر عن فارق السياق التاريخي، وفارق التطور الرأسمالي في دولنا. وبعض الدوغمائيين ربما يعادون الدين بصورة مجردة، وهذا بغض النظر عن أن بعض المتدينين في عالمنا المعاصر يقعون في صفوف المُضطهِدين وبعضهم يقع في صفوف المُضطهَدين. هذا ناهيك عن ان ماركس نفسه انتقد العلمانية والتنويريين أصحاب الفكر المجرد.

وهذه مجرد امثلة بسيطة لبعض التعقيدات الواقعية التي ينبغي على الثوريين فهمهما ومراعاتها، عند تبني استراتيجيات ومواقف ضد الطائفية. أول هذه التعقيدات ان منطقتنا بالذات تشهد استخداماً مكثفاً للدين، بحيث أصبحنا نرى بعض مستخدمي الدين في مواقع القائمين بالاضطهاد، وآخرين متدينين ضحية لذلك. وفي منطقتنا مثلاً نرى حركات ذات صبغة دينية تقاوم الاستعمار ـ بغض النظر اذا اتفقنا او اختلفنا معها، مثلاً، في أداءاتها الداخلية أو الطائفية، مثل حركتي حماس وحزب الله. وفي ذات المنطقة نجد الكيان الصهيوني نفسه يتسم بصبغة دينية. ومؤخراً وبعد الثورات العربية، نجد ان حزب النهضة يقود الحكومة في تونس، وحزب الحرية والعدالة، التابع لجماعة الأخوان المسلمين في مصر، يسيطر على البرلمان حتى الآن.

فهل يستقيم مع كل هذا التعقيد ان يقول بعض الثوريين ان الحل هو العلمانية بشكل مجرد؟ وفي عالمنا اليوم، وخاصة بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، التي لا زالت لها تبعات، بالرغم من توقف ادارة اوباما رسمياً عن استخدام مصطلح الحرب على الإرهاب، فان اوروبا تشهد تصاعداً غير مسبوق للإسلاموفوبيا (رهاب الاسلام). ويستهدف ساركوزي، «العلماني»، الاسلام والمسلمين، لا لسبب سوى لكونهم مسلمين، ويتعرض المسلمون في الولايات المتحدة لاضطهاد وتمييز منظمَيْن. ولذلك يجب ان يتبنى الثوريون استراتيجة تفرق بين القائم بالاضطهاد والمتعرضين للاضطهاد، بسبب استخدام الدين، أو حتى بسبب العلمانية، كما هي مطبَّقة بالفعل، وكل هذه الأمور تخفي وحشية رأس المال.

أما التعقيد الثاني فهو الانقسام الطبقي بين بعض المنتمين لذات الفكر الديني، أو نفس المجموعة التي تقوم بالاضطهاد، أو التي تتعرض له. فهناك من بين الاقباط في مصر من هم اقرب للطبقة الحاكمة من فقراء الاقباط، الذين يتعرضون للاضطهاد والتمييز، لا لشيء سوى بسبب تمتعهم بميزات موقعهم الطبقي. ويختلف السلفيون في مصر، طبقياً، ليس فقط بسبب تنوع انتماءاتهم لجماعات سلفية مختلفة. ويروي لنا كثير من رفاقنا في مصر قصصاً كثيرة عن عمال سلفيين كان لهم دور بارز في اضرابات العمال، في السنوات الاخيرة، قبل اسقاط مبارك، وحتى الآن. هؤلاء لهم افكار رجعية كسلفيين، وهم متقدمون، نسبياً، كعمال. وذات الكلام يقال على التعميم أن كل الاقباط في مصر جماعة واحدة متجانسة، مثلاً، بدون فهم الاوضاع والتحالفات الطبقية للكثيرين منهم، فهذا أيضاً خطأ كبير.

أما التعقيد الثالث فهو التنوع الكبير لتيارات الاسلام السياسي، كما سلفت الاشارة. وحتى لو اتسمت كلها بالرجعية، لكنها ليست كلها وهابية مثلاً، وهناك منها من ولد في رحم مقاومة الاستعمار، وهناك من له أكثر من نصف قرن من خبرة العمل السري والمناورات والمفاوضات مع الانظمة المختلفة. أما التعقيد الأخير، كما سلفت الاشارة ايضاً، فهو وصول تيار الاسلام السياسي للحكم في بعض الدول في المنطقة، وهذه مسألة تغير الظروف بشكل كبير في التعامل مع هذا التيار. وهذا يضع اليسار الثوري أمام تحدٍّ جديد لا يقتصر على كشف الرأسمالية القديمة، التي اعتاد عليها، ولكن تلك المتشحة بعباءة الدين. وبالطبع لا يجب أن يخضع الثوار لابتزاز هذا التيار، بعد الوصول للحكم، وخاصة عندما يستخدم الأخير سلاح التكفير. لكن ليس النقيض من ذلك هو الانصراف إلى الشتيمة والسب المجردين، بدون النضال امام وحشية رأس المال «الذي يمسك سبحة» (على حد تعبير الرفيق سامح نجيب في مصر، والذي لا يختلف عن الرأسمالي الذي يمسك سيجاراً). وعلى اليسار ان يخوض النضال ضد هؤلاء، ليس بوصفهم مسلمين، ولكن بوصفهم رأسماليين ورجال أعمال وتجار دين. فهناك فارق جوهري كبير بين وجود الاسلام السياسي في صفوف الحكم، ووجوده في صفوف المعارضة. فالأول لم يعد ايديولوجية غيبية فقط، بل بات يحتمي بالأجهزة السياسية للدولة. بينما الآخر قد يكون عرضة للاضطهاد.

ليس من اي مبدئية ثورية التخلي عن أي مُضطَهد، فمعارك المضطهدين تتشابك. فحتى لو اختلفنا وناضلنا من أجل فضح التيار الاسلامي في مواقع الحكم يجب ان نناضل بكل مبدئية، وحتى المنتهى، اذا كان هناك مُضطهَدون من التيار الاسلامي. وهذه الأمور من بديهيات ما يمكن تسميته بالعلمانية الثورية. وبالمناسبة انا لا ادافع عن هذا المسمى على اطلاقه. فلنسمِّه ما شئنا. ولكن الهدف هو تحقيق التحرر والمواطنة الحقيقية، من خلال نضال اشتراكي، وليس نضال عقلاني مجرد، بدون انتظار تطبيق العلمانية المجردة في مفهومها التاريخي الأوروبي، في عالمنا، بذات الطريقة التي حدثت في أوروبا. وبعد هذه الخلفية المطولة، فلنقم الآن بإلقاء نظرة سريعة على ما حدث بعد الثورة في المسألة الطائفية؟

نعمة الثورة أم «نقمتها»:
إحدى أهم النتائج التي يأملها المجلس العسكري في مصر، وحلفاؤه المتمثلون في الأنظمة الرجعية في المنطقة، وفي الامبريالية العالمية، هي ان يكره الشعب المصري، والأقباط من ضمنه، الثورة؛ أن يصل الناس للترحم على أيام مبارك. فهل فعلاً كانت الثورة نقمة على المسألة القبطية؟ ربما يكون هذا التساؤل صادماً للكثير من الثوريين، فأي ثورة لا يمكن ان تكون نقمة. لكن بعيداً عن الصدمات، ربما يجب ان نبحث في الموضوع، بهدوء. وللإجابة عن هذا التساؤل، يجب ان نبحث في ثلاث نقاط. الأولى هي الثورة نفسها، ليس فقط باعتبارها فعلاً جماهيرياً عظيماً يثبت قدرتهم على التغيير، ولكن أيضاً باعتبارها تمثل رمزاً وخلقاً لإمكانيات وفرص نضالية عظيمة. اما النقطة الثانية فهي مقارنة منهج المجلس العسكري بمنهج مبارك، في ما يتعلق بالمسألة الطائفية. أما النقطة الثالثة فهي قضية صعود الاسلاميين، في السياسة وفي الحكم، بكل ما يحمله ذلك من معنى. سأناقش هذه النقاط ببعض الاختصار، في ما يلي.

أما عن النقطة الأولى فهي الفعل الثوري ذاته، الذي شارك فيه ملايين المصريين، مسلمين وأقباطاً: كثير من الاغنياء وابناء الطبقة الوسطى، ولكن ايضاً كثير من العمال، الذين كان لهم دور حاسم في الثورة. بعض الجهلاء ينظرون الى الثورة باعتبارها فقط هذا الحدث الرائع الذي استمر لمدة 18 يوماً، وانتهي بإسقاط الديكتاتور مبارك. وبالمناسبة فإن كثيراً من محللي العلوم الاجتماعية لا يقومون بذلك الخطأ وحسب، ولكن معظمهم يدرسون ويقومون بالبحث في مسألة الثورات السياسية والاجتماعية، مع تجاهل دور صناعها الأساسيين، أي الجماهير نفسها. صحيح أن هناك أهمية لأحداث الثمانية عشر يوما،ً في عام 2011، ولكن الثورة ايضاً لا تتمثل في مطالبها التي لا تموت طالما لم يتم تحقيقها، ولكنها ايضاً تمثل ذاكرة ورمزاً يعيش عليهما من شاركوا فيها، ويقوم الشباب والمستضعفون باستدعائهما باستمرار. وببعض التبسيط المخل يمكن القول إن نتائج الثورة تتمثل في الكثير من الأمور، أهمها: 1) نزع حالة الخوف بين كثير من المواطنيين وتولد شعور قوي بالثقة بالفعل الجماعي، الذي نجح من قبل في إسقاط ديكتاتور؛ 2) خلق امكانية نضالية مستمرة طالما لم تتحقق أهداف الثورة؛ 3) فتح كل احشاء المجتمع، حيث تصبح مطالب كل الفئات والمجموعات المضطهدة معلنة، ويصبح هؤلاء أكثر جرأة في طرحها. وهذا ما يصفه البعض بخلق مسألة ثورة التوقعات في التغيير للأفضل، بعد الثورة. ولكن الامكانية النضالية تختلف عن مسألة ثورة التوقعات، بالرغم من التقاطع بين الإثنين. والمقصود بالامكانية النضالية هو وجود مظالم حقيقية، في كل وقت، تحتاج لمن يتشابك معها. وبينما كان يتندر الثوريون قبل الثورة بأنه لا يوجد كوادر ثورية للاشتباك والتضامن مع مظالم العمال والكادحين، فانهم يشتكون الآن من كثرة المظالم التي ظهرت فجأة على السطح. اصحاب المظالم أصبحوا في كل مكان في مصر، مع مظالمهم، ولا ينتظرون ثوريين لاقناعهم بضرورة الاحتجاج. وبالمناسبة فإن فتح احشاء المجتمع يعني ايضاً كل ما في هذا المجتمع من جهل وتطرف وطائفية. فليس معنى قولي إن المجتمع مليء بالامكانيات النضالية أن هذا الجهل يذهب، بطريقة سحرية وبلا رجعة. ولكن هذا الجهل والتطرف لا يمكن التعامل معه بطريقة الخطب العقلانية المجردة العصماء، ولكن بالتعامل النضالي، والتضامن ضد المظالم. وفي هذا السياق مثلاً خرج الكثير من الشباب القبطي من القمقم، في الثورة. وبعد الثورة تأسس مثلاً اتحاد شباب ماسبيرو، الذي تبلور بقوة بعد مذبحة ماسبيرو. ومن هذا ايضاً خرجت حركتان باسم شهيدين من شهداء ماسبيرو، هما مينا دانيال ومايكل مسعد. ولذلك فمن الغباء الشديد إنكار اهمية فعل الثورة وآثار الثورة في نفسية كل المصريين، وخاصة كل المستضعفين. اما بعض «الثوريين» الذين لا همَّ لهم سوى الاستسلام لنار الاحباط، والتحسر على «سرقة» العسكر للثورة، فهؤلاء لا يستحقون هذا الاسم، ولا سيما اذا انكروا الامكانيات النضالية والآثار النفسية للثورة في كل المظلومين.

أما عن النقطة الثانية فهي المقارنة بين مبارك والمجلس العسكري، في ما يتعلق بالمسألة الطائفية. لا ينبع هذا السؤال من خطأ ساذج مبني على افتراض أن فترة حكم المجلس العسكري، وما يسمى بالمرحلة الانتقالية في مصر، هي مقطوعة الصلة بنظام مبارك. ولكن المقارنة هنا مفيدة، وخاصة انها تأتي في أعقاب ثورة. يمكن القول باختصار إن نظام مبارك كان يقوم على لعب دور مزدوج، في ما يتعلق بالطائفية، فمن ناحية هو الراعي الأول لها، عن طريق عدم وجود سيادة قانون حقيقية، وعن طريق رعايته للتمييز الطائفي، ومن ناحية ثانية، فالنظام كان يدعي ايضاً انه حامي الاقباط والاقليات، عن طريق ادعائه الحياد بين الجميع. وبالطبع يعد من السذاجة المفرطة القول إن نظام مبارك كان نظاماً علمانياً. فقد ورث مبارك دولة السادات بكل عبثها الدستوري ولعبها بالورقة الطائفية. لا يمكن وصف نظام مبارك بأقل من انه نظام منافق ومجرم، فهو ديني ومسلم وقت الحاجة، وهو راعي سيادة القانون والأقليات وقت الحاجة. وكما كان للأقباط قسم بجهاز مباحث امن الدولة لمتابعتهم، وكان لمبارك علاقة خاصة بالبابا الراحل شنودة، فقد شهد عصر مبارك عشرات من الحوادث الطائفية. ويعد من الكذب الصريح إلصاق هذه الحوادث فقط بالجماعات الاسلامية والمتطرفين الدينيين، ولكن الدولة كانت ترعى رسمياً، بطريقة صريحة أو ضمنية، هذه الملفات، وملفات تغيير الديانة او بناء او ترميم الكنائس كان يديرها، بطريقة مباشرة، جهاز مباحث أمن الدولة. كانت كل هذه الأمور تدار بطريقة عرفية وأمنية. اي انها كانت بعيدة كل البعد عن الحلول القانونية، التي ليس بها تمييز. ووصل الأمر لمستوى غير مسبوق من الاجرام، في نهاية عصر مبارك، بمذبحة نجع حمادي، في عيد الميلاد 2010، وتفجير كنيسة القديسين، بالاسكندرية، عشية قداس نهاية العام في دسيمبر/كانون الأول 2010. فبالاضافة الى انتهازية الدولة ورعايتها الطائفية، اشارت بعض الدلائل الى تورط رموز الحزب الوطني والاجهزة الأمنية نفسها في هذه المذابح. الدولة نفسها هنا أصبحت قاتلة للاقباط، ولا يمكن بعد ذلك تصديق انها راعية للأقليات ولسيادة القانون.

فهل تحول المجلس العسكري عن هذه الممارسات؟ يمكن القول باختصار انه اذا كان مبارك هو نظام منافق ومجرم، فإن المجلس العسكري كان دموياً بامتياز. أي أن الطائفية استمرت، ولكن بصورة إجرامية دموية. ويمكن القول ان هناك ملامح اساسية، في ما يتعلق بفترة المجلس العسكري. الأول منها هو استخدام التسامح مع الطائفيين، بل واستخدامهم سياسياً، ليس ضد الاقباط فقط، ولكن لخلق نعرة طائفية، وجرائم تبرر استمرار المجلس العسكري، بحجة أنه هو الذي سيجلب الأمان للشعب. ورأينا المجلس العسكري يتواطأ، في مسألة دخول ملايين بل بلايين الدولارات، التي جاءت لتمويل السلفيين، من قطر ومن السعودية. ورأينا تسامح المجلس العسكري مع الخطاب المنهجي المليء بالكراهية، في الإعلام الرسمي والاعلام السلفي، الموجه للأقباط والشيعة والعلمانيين، على حد سواء. اما الملمح الثاني فهو تزايد عمل الاجهزة الاستخباراتية واستخدام المجرمين، الذين يسميهم الاعلام المصري بالبلطجية، في الفترة الانتقالية. واذا كانت لمبارك ـ بكل ما كان يتصف به من غباء واحتقار للجماهيرـ حنكة سياسيةٌ ما، فهي تفوق بمراحل حنكة خلفائه العسكر. هؤلاء كان همهم الأساسي فض الثورة والانقضاض عليها. وكان الملف الطائفي أحد أهم وسائلهم. فبلغ عدد الكنائس التي أُحرقت نسبة غير مسبوقة لم تصل إليها أيام مبارك نفسه. واستمرت الجلسات العرفية بدلاً من القانون. ووصل الأمر حد اقتراف مجزرة ماسبيرو. وذهب قادة المجلس العسكري، بكل بجاحة وصفاقة، لتهنئة الأقباط بعيدهم، بعد أن قتلوا أبناءهم في ماسبيرو.

لهذا يمكن القول إن نزعتهم الدموية، واحتقارهم لكل ما هو مدني، يُعتبران فرقاً أساسياً في ما بينهم وبين مبارك. ولهذا أيضاً يمكن القول إن الملمح الثالث الأساسي لفترة المجلس العسكري هو أن الطائفية اصبحت ملفاً هاماً وحيوياً، وضرورة اساسية للقضاء على الثورة. والغريب في الأمر أن هؤلاء القتلة لم يعد لديهم أي قدرة على المناورة، فهم قتلة، وهذا أمر لا لبس فيه، ومن ثم لم تعد لديهم مساحة كبيرة للمخادعة، بادعاء أنهم حماة الاقليات وسيادة القانون. اذا كانت الدولة ايام مبارك قاتلاً مبتدئاً، فهي تحولت ايام العسكري لقاتل اكثر احترافاً، والسبب تزايد عمل الاجهزة الاستخباراتية، في ظل المجلس العسكري، وخاصة لتعويض هزيمة جهاز الشرطة، وربما لعدم ثقة العسكريين بأي أحد سوى بأنفسهم وبأجهزتهم الاستخباراتية. وبينما يمنع الاعلان الدستوري تأسيس احزاب دينية، وجدنا المجلس العسكري يتسامح، ويترك المجال لعمل هؤلاء. والمجلس العسكري، بالتضافر مع الاسلاميين، غذوا الاستقطاب الديني العلماني، بطريقة لا يمكن ان نصفها بأي شىء سوى انها مقصودة ـ سواء بتنسيق أو بغير تنسيق ـ وخاصة منذ استفتاء مارس/آذار 2011. وهكذا كانت الطائفية والتكفير مقصودين لتقسيم قوى الثورة، وبدلاً من ان يكون التقسيم الحقيقي هو بين القوى الثورية وتلك المنتمية للثورة المضادة، كان التقسيم هو ذلك الضبابي، بين القوى المدنية العلمانية وتلك المؤمنة بالشريعة والدين. كانت الطائفية احد أهم اسلحة المجلس العسكري. هو مجلس طائفي بامتياز. ووصل بأعضائه الاجرام الى حد أنهم لا يمانعون فعلاً في نشأة حرب اهلية طائفية في مصر، وما القتل المنظم، وما التسامح مع الحرق والقتل، سوى دليل على ذلك.

أما النقطة الثالثة فهي تصاعد دور الاسلاميين في مصر ما بعد الثورة، الذي وصل الى تحكمهم في نسبة لا تقل عن 65 % من مقاعد البرلمان المصري. تصاعد صوت الاسلاميين في السياسة أمر لا لبس فيه. وهناك خطآن أساسيان يرتكبهما أي قارىء لمشهد تصاعد دور الاسلاميين، في السياسة في مصر. الخطأ الأول هو وضع كل الاسلاميين في سلة واحدة. فبالطبع هناك فارق كبير بين جماعة الأخوان المسلمين والجماعات السلفية، وتلك التي كانت لها خلفية جهادية، مثل الجهاد، أو الجماعة الاسلامية. وكل جماعة من هؤلاء، في نقطة تاريخية من عمرها التنظيمي وخبرتها السياسية، تختلف عن الأخرى. ربما يجتمع الجميع في انهم يناورون باسم الدين، ويدغدغدون مشاعر الجماهير الفقيرة، باسم الدين. ولكن الفارق الكبير بينهم هو ان اكبرهم، أي جماعة الإخوان المسلمين، لديها حنكة سياسية كبيرة، وقدرة كبيرة على المناورة السياسية، بسبب طول عمرها السياسي، وتاريخها مع المناورات مع الأنظمة المختلفة. أيضاً هناك فوارق طبقية وعمرية بين قيادات هذه الجماعات وشبابها. وهذا أمر هام لا يمكن تجاهله. كما ان الفريق الواحد كثيراً ما توجد فيه اتجاهات عديدة، ومنهم من كان اقرب للثورة، ومنهم من هو أقرب للرجعية وشيوخ وفتاوى الوهابية. ويكفي ان نعلم ان هناك حوالى 5 احزاب خرجت من رحم جماعة الأخوان المسلمين، مع الفارق، بالطبع، في ما بينها، فهي: 1) حزب الحرية والعدالة، وهو اهم الأحزاب، وهو المرتبط تنظيمياً بالجماعة؛ 2) حزب الوسط، وهو حزب قديم حاول التأسيس ايام مبارك، ولكنه يختلف مع الجماعة في الكثير من الأمور، 3) حزب النهضة، وهو حزب يقوده القياديان السابقان في الأخوان محمد حبيب وابراهيم الزعفراني، 4) حزب التيار المصري، ويمثل تيار شباب الأخوان الذين شاركوا في الثورة واختلفوا مع قياداتها، 5) حزب الريادة، وهو حزب منشق من حزب النهضة. وهناك 6 احزاب سلفية في مصر تأسست بعد الثورة. وهناك اربعة احزاب خرجت من جماعات جهادية. وهناك 3 احزاب تنتمي الى جماعات صوفية. وقد تناولت هذه النقطة في ما سبق، ولا داعي للتكرار. لكن باختصار لا يمكن على الاطلاق وضع كل هذه الاحزاب في سلة واحدة. فمثلاً بينما يمثل حزب النور اقرب الاحزاب السلفية للوهابية، هو وحزب الاصالة التابع له محمد حسان، فان هناك مجموعات سلفية رفضت انشاء احزاب، منها مثلاً الجبهة السلفية لدعم ثورة يناير، وهم من أكثر السلفيين انتقاداً للعسكر والإخوان معاً. وهناك ايضاً مجموعة سلفيي كوستا، نسبة الى المقهى المعروف، بالقرب من ميدان التحرير. وهي مجموعة اكثر استنارة، وهم ايضاً متمسكون بعدم انشاء احزاب، ويرون ان الاحزاب السلفية والإخوان من أكبر المُسيئين للاسلام.

اما الخطأ الثاني، الذي يرتبكه بعض الثوريين، فهو النظر للإسلاميين بديماغوجية لا ترى تحولاتهم وانكشافهم امام الجماهير. فهذا الخطأ ببساطة معناه النظر للاسلاميين كجسم جامد غير تاريخي ثابت على يمينيته (وهي بالمناسبة غير مبدئية) وتجاهل كيف ينظر الناس لهذا الجسم ومواقفه وتحولاته. ومن نتائج هذا الخطأ الوقوع في فخ التشاؤم والسذاجة المفرطة، في القول إن الاسلاميين سرقوا الثورة، أو تحالفوا مع العسكر، بدون رؤية تطورات الصراع بين الفريقين مثلاً. فلا الاسلاميون، ولا العسكر، في حالة اتفاق دائم، ولا الاسلاميون ولا العسكر نزهاء من ازماتهم الداخلية وصراعاتهم مع الجميع، بما في ذلك ابناؤهم في الداخل (نعم العسكر نفسه في حالة رعب دائم من غضب الجنود والرتب الصغيرة داخل الجيش، بسبب جرائم المجلس المستمرة). واذا كان صعود الاسلاميين تحدياً للثورة المصرية (وربما الثورات العربية)، فهو أيضاً فرصتها العظيمة لكشف زيفهم امام الجماهير. وهل يعتقد أي عاقل أن الجماهير تنظر لتقارب الإخوان مع واشنطن بعين غافلة؟ إن انكشاف الإخوان، في المستقبل، في الاقتصاد، وانكشافهم في علاقتهم بواشنطن، سيكونان عاملين أساسيين لفضحهم أمام الناس؛ هذا ناهيك عن مناوراتهم وغموضهم، بشأن المواطنة، وقضايا الأقليات.

الخلاصة ان الثورة فجرت أحشاء المجتمع، وفجرت امكانياته النضالية اكثر. ولا يمكن ان تكون نقمة. لقد جاءت بكل ما جاءت به، اي بفرص نضالية غير مسبوقة، وتصل أهمها الى استمرار الثورة نفسها، وأيضاً بتفجير خطاب الجهل والتطرف. وعلى الثوريين التعامل مع كل هذه الأمور، اذا كانوا ثوريين حقاً. كل ما في الأمر انهم يجب ان يكونوا على دراية وفهم للتحولات الكبيرة التي حدثت بعد الثورة، بما في ذلك صعود الاسلاميين، ووحشية النظام الحاكم الذي لا يختصر جهداً لإجهاض الثورة وقتل ابنائها، فعلاً لا قولاً. أكتب هذه السطور ولايمكنني توقع خريطة القوى بعد انتهاء ما يسمى بالمرحلة الانتقالية في مصر. ولكن واقع الأمر يشير الى ان القادة العسكريين سوف يستمرون في المسك بأمور البلاد، لفترة ما، وخاصة لتحكمهم في أجهزة القمع والاستخبارات، وتمتعهم بغطاء دولي، حتى ولو كان هناك رئيس مدني منتخب وبرلمان. ولا يمكن ان نعلم طول هذه الفترة. أي ان جرائم العسكر ربما لن تنتهي، بما في ذلك الجرائم الطائفية. ولا يمكن على وجه الاطلاق ان توصف الثورة بالنقمة، الا اذا تم اجهاضها، ونجح العسكر في القضاء على الثورة تماماً، وهذا افتراض نظري، لأن الروح الثورية لا تموت. ولكن ماذا يفعل الثوريون في مواجهة كل هذه التعقيدات؟ هذا ما سأحاول مناقشته، باختصار، في ما يلي.

ماذا يفعل الثوريون بين العلمانيين والإسلاميين (وهمجية العسكر ورأس المال)؟
كما سلفت الاشارة فإن مجلس مبارك، وبتوافق مع الاسلاميين، قد نجح في خلق حالة استقطاب ديني علماني، وساعد في احتقان الطائفية، التي وصلت الى مستوى المواجهات العنيفة، والقتل، وحرق دور العبادة. وكان رد بعض العلمانيين التقليديين هو عدم ممانعتهم في انقلاب صريح عسكري، للتنكيل بالاسلاميين، بحيث يحل ذلك مشكلة الطائفية، من وجهة نظرهم. وأعتقد ان اي استراتيجية سليمة للثوريين يجب ان تنطلق من فهم تعقيدات الأوضاع الحالية، والاستقطابات الموجودة، ليس فقط الاستقطاب العنيف، والشكلي معاً، بين الديني والعلماني، ولكن ايضاً حالة المنافسة على السلطة بين العسكر والأخوان. وكما يجب على الثوريين فهم فرص الثورة النضالية، وامكانية استمرارها، وايضاً فهم تغير الاوضاع الذي جلب الاسلاميين للسيطرة على البرلمان، فان الفهم العميق لا يعني ابداً المساواة بين العسكر والأخوان. فمن يسيطرون على الجهاز الأمني والاستخباراتي لا يتساوون مع من يتحكمون في جهاز هام للسلطة، ليس لديه القدرة على ممارسة العنف، وهو البرلمان. ويمكن الاتفاق مبدئياً على ان اساليب مواجهة الطائفية، التي اتبعها الثوريون، قبل الثورة، لا تصلح الآن. فنحن امام مستجدات كثيرة، ليس فقط أننا امام مجرمين دمويين لا يبالون بعمل حرب طائفية، وهم العسكر، ولكن أيضاً مع وجود الاسلاميين في البرلمان. كما أن الاكتفاء بنقد العلمانيين التقليديين، وبكشف تجرد خطابهم من المساواة، وفضح انتهازيتهم، لا يكفي. ويجب ان نعترف ايضاً ان تطورات الأوضاع في ما يتعلق بالسلطة ـ كما سلفت الاشارة ـ غير معروفة. ولا نعرف اي صيغة ستنتهي اليها الأوضاع في مصر، في المستقبل القريب. لكن يبدو ان هناك صراعاً سوف يطول بين مثلث العسكر والاسلاميين والقوى الثورية، هذه القوى التي لم يتصل معظمها، بقوة، بالعمال والفقراء وجموع المضطهدين.

ويبدو لي ان هناك ثلاث نقاط أساسية يجب اثارتها في موضوع مواجهة الطائفية. الأولى هي كيفية تعامل الثوريين مع قضايا الاقليات المضطهدة، ومنها الأقباط. أما الثانية فهي ضرورة عمل استراتيجية مرنة ومبنية على فهم سليم للتعامل مع الاسلاميين في الحكم، اما الأمر الثالث فهو قضية هوية الدولة. وهي قضية، بالرغم من انها مفتعلة، لكن على الثوريين التعامل معها وعدم تجاهلها، بالاكتفاء بالقول انها مفتعلة. أما النقطة الأولى فأعتقد ان الثوريين كانوا ناجحين فيها الى حد كبير. فيجب على الثوريين الاستمرار في كل ما يقومون به من التضامن مع كل الاقليات المضطهدة، بلا هوادة، وبلا استثناء، وبحساسية مفرطة، وخاصة لتفجر الاوضاع الطائفية أكثر مما في أي وقت مضى. وأقول بحساسية مفرطة، لأن الاضطهاد سوف يأخذ أشكالاً اكثر تعقيدأً، وربما بطريقة غير مباشرة أكثر. والمبررات دائماً جاهزة. وربما سيكون أكثر سفوراً.على أنه لا يمكن ان نصادر على الواقع. ويجب ان تكون هناك قرون استشعار قوية للثوريين، لمتابعة ذلك. ويذكر ان ثمانية من رفاق تيار التجديد الاشتراكي مثلاً يتعرضون للحبس لمدة عامين، في «جريمة» لا تمثل سوى رمز لقبح العسكر، وإجرامهم، وهي التضامن مع الاقباط، في مظاهرة قامت في ظل مبارك، بعد تفجير كنيسة القديسين. لكن في ذات الوقت يجب علينا ان ننتبه ان الثوريين ربما كان صوتهم خافتاً في قضايا البهائيين والشيعة المضطهدين، على عكس بعض المنظمات الحقوقية. وأنا هنا لا اختلف مع تصوُّر تيار الاشتراكيين الثوريين لمواجهة الطائفية، المتضمن في برنامجهم، الصادر مؤخراً، لاستمرار الثورة. ولكنني اعتقد ان مثل هذه القضايا المسكوت عنها يجب ان ننتبه اليه ايضاً.

أما النقطة الثانية فهي مسألة تطوير برنامج وفهم عميق للتعامل مع الاسلاميين في السلطة، بحيث يكون مرناً ومتفهماً لاختلاف دورهم عن دور العسكر، برنامج لا يجب ان يقع في مأزق الابتزاز من الاسلاميين، ولا يقع في فخ نقد العلمانيين التقليديين، وشماتتهم، وشتيمتهم المجردة والفارغة بحق الاسلاميين. وعلى حد تعبير تامر وجيه، في احد وسائط الاعلام الاجتماعي، مؤخراً، فإنه «كما أن كثيراً من الإسلاميين مصابون بمرض اسمه العلمانوفوبيا، فإن هناك علمانيين مصابين بمرض اسمه الاسلاموفوبيا». الكثير ضمن الطرفين ليست لديهم قضية سوى كراهية الطرف الآخر، وليست لديهم قضية حقيقية. الثوريون لا يجب ولا يمكن أن تحركهم الكراهية. الثورة هي مشروع للتحرر. والثوريون لا يريدون مواجهة الرأسماليين، أو الاسلام السياسي، الغارق في الرأسمالية، بوصفه مشروعاً غيبياً، ضد العقلانية، في المجرد، ولكن المواجهة الحقيقية تكون في المعارك والنضالات، لكشف زيف هؤلاء ولاسيما قياداتهم. فاذا كان احد ملامح أي مشروع ثوري لمواجهة الاضطهاد هو فضح ومواجهة القائمين على الاضطهاد، فإن هذا ينبغي ان يكون مبنياً على فهم تناقضات أوضاع هؤلاء، وايضاً ينبغي ان يكون مبنياً على فهم ان هناك الكثيرين من الاسلاميين الشباب والسلفيين، الذين ضجروا من قياداتهم، وان هناك الكثير من العمال بين هؤلاء.

اما النقطة الثالثة والأخيرة فهي مسألة هوية الدولة، وموقع الشريعة الاسلامية في دستور الدولة. وأنا هنا أنطلق من فكرة أن هوية الدولة هي فكرة مجردة. فلا يهتم جمهور الفقراء بها، ولا الدستور يزيد عن ورقة تتلاعب بها الطبقات الحاكمة وقتما ارادت. والأهم بالطبع هو الاهتمام بالمضمون الاقتصادي والاجتماعي لدولة الثورة. لكن في ذات الوقت، ولأننا في زمن ثورة، ولأن هذه القضية تهم كثيرين، وليس فقط الاقباط، ومع الأخذ في الاعتبار أن هذه المسالة ربما تكون فقط رمزية، لكن لها استتباعات مستقبلية، فلا يمكن تجاهلها. وفي هذا يجب ان نعترف ان كثيراً من الثوريين يبدو انهم استسلموا لوجود الاسلاميين في الحكم، وقبلوا بمسألة بقاء المادة الثانية من الدستور، على علاتها، في الدستور القادم. ومع اعترافي بأن هذا الموقف كان يبدو سليماً، في وقت من الأوقات، للرد على مسألة الاستقطاب العلماني الديني، المبالغ فيه، فإنه يبدو لي ان على الثوريين أن يكونوا، الآن، أكثر وضوحاً في مطالبتهم بدولة تقوم على المواطنة الحقيقية، وان يقولوا صراحة إنهم ضد الإبقاء على هذه المادة.

ومناداتي بما يسمى بـ «العلمانية الثورية» ليس معناها ابداً أن نكون علمانيين على طريقة العلمانيين الليبراليين. وهذا ليس بمشروع جديد بديل من التحرر الاشتراكي، واستكمال الثورة، وضمان استمرارها. فلنسمِّها بأي اسم، كما اقترحت من قبل. وأنا أعي هنا أن الثورة المصرية قد اخترعت تعبير الدولة المدنية، بديلاً من العلمانية. وكان هذا التعبير ناجحاً من وجهة نظري في تجميع القوى الثورية، ايام ثورة يناير/كانون الثاني 2011. ومع تقديري الشخصي لهذا التعبير ونجاحه، في وقت من الأوقات، ولكونه محل اتفاق كثيرين، الآن ـ فيما أُدرك ان كثيراً من السلفيين أعلنوا ان مجرد ذكر كلمة مدنية في الدستور يعني بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت ـ أخشى أن يكون هذا المصطلح ملتبساً وقائماً على التوافق أكثر من كونه متضمناً مضموناً ملموساً عن قيم الحرية، التي تضمنتها الثورة. ومكمن خشيتي هو ارتباط المفهوم الآن بما يقول به الإخوان المسلمون من فكرة «الدولة المدنية ذات المرجعية الاسلامية.» وأنا هنا فقط أقترح ـ وكبداية للنقاش مع الرفاق والثوريين - فكرة العلمانية الثورية، كمصطلح بديل، وارتباطه بالثورية إنما هو لتمييزه من كلام العلمانيين الليبراليين المجرد. وهذه «العلمانية» الثورية تختلف عن علمانية الليبراليين، في الآتي: 1) هي ضد الرأسمالية، أي أن هدفها هو المساواة الاجتماعية، وليس المساواة القانونية والدستورية، وحسب؛ 2) وهي ضد الامبريالية، ولا تقبل بتدخلات الامبريالية، تحت دعوى حماية الأقليات؛ 3) وهي تقوم على النضال، وليس الدعاية، والخطاب النظري والعقلاني فقط؛ وهي لا تأتي بمنحة من أحد بالضرورة، كما أنها تقوم على تفهم مطالب الأقليات الدينية، مع ربطها بالعدالة الاجتماعية والمفهوم الطبقي؛ 4) ان تعمل على ربط قضايا المضطهدين والاقليات معاً، وأن لا تستثني أحداً؛ 5) أن تواجه، بشجاعة، تقلبات القائمين على الاضطهاد، وتوازناتهم، وأن تنتقدهم، في إطار نضال ملموس، وليس دعاية مجردة؛ 6) وأخيراً هي ايضاً تحارب، باستماتة، ونضال مبدئي، دفاعاً عن كل ابناء تيار الاسلام السياسي، إذا تعرضوا لظلم العسكر ورأس المال. إن أحد أهم ملامح العلمانية الثورية أنها ضد عبادة أي أفكار مجردة، لأنها قائمة على النضال، من أجل التحرر من الطائفية والرأسمالية معاً. ولذلك فالعلمانية الثورية يمكن أن تكون ضد العلمانية نفسها، إذا كانت هذه الأخيرة تقوم على الكراهية (ساركوزي واضطهاد المتحجبات)، او على الفكر المجرد، القائم على احتقار المتدينين (مثل حالة بعض الليبراليين المصريين). العلمانية الثورية لا تقوم على أي رطان دستوري وليبرالي عن المواطنة. فالمواطنة الحقيقية تنتزع في النضال، ولن تمنحها أبداً النخب المريضة. والعلمانية الثورية جوهرها هو فهم الماركسية بعمق، كمشروع للتحرر الانساني، وليس لتحقيق العلمانية و«الإلحاد»، في المجرد المطلق. هدف الماركسية الثورية الأول والأساسي هو التحرر من كل انواع الظلم، عن طريق نضال العمال والفقراء والكادحين، فيما تقع همجية الرأسمالية في قلب الظلم الانساني. والرأسمالية هي العدو الأساسي، وهي أهم صُنّاع الطائفية، والمنتفعين بها.

عاشت ثورة مصر والثورات العربية