موضوعات حول الدوغمائية : لا تتوقف عن التساؤل


هشام صالح
2012 / 6 / 2 - 23:59     

قد بدأت بكتابة هذا المقال تحت عنوان ( في نقد تقديس الماركسية ) , و لكن على غرار المقال السابق , واجهت صراعاً بيني و بين نفسي حول عنوان المقال , فجمل أو عبارات مثل ( تقديس الماركسية ) أو ( الدوغمائية ) أصبحت مكررة , و لهذا رأيت أن أختيار عنوان معبر سيكون جاذباً للقراء في الساحة الفكرية . عندما كنت أطوف في أرجاء عالم الانترنت وجدت مقولة آينشتاين : (( أهم شيء أن لا تتوقف عن التساؤل )) فوجدتها عميقة أكثر مما هي سطحية , فالسؤال هو الشك و الشك يؤدي إلى المعرفة , فالسؤال هو المصدر الحقيقي للمعرفة , فرأيت أن لا يمكن للمرء أن يزيل القشرة الدوغمائية من فكره من دون أن يشك و يسأل , فعنوان هذا المقال يدعو بكل صراحة إلى إزالة الطابع الدوغمائي في الفكر .
تقديس الشخصيات و النظريات وجدناها في مختلف الأطياف الفكرية في العالم , فرأينا من يقدس النازية و هتلر , و من يقدس صدام و البعث , و من يقدس موسوليني و الفاشية .. لكن لا يخطر على المرء بال أن هناك من يقدس "الماركسية " , أو بالأحرى , من الصعب تصديق أن هناك من يقدس الماركسية لأنها نظرية في جوهرها غير قابلة للتقديس , فمن يقدسها ينزع جوهرها الحيوي .
تقديس النظرية و تقديس الشخصيات بالضرورة تؤدي إلى التحليلات المزيفة , فالذي يقدس و يعبد شخصية معينة يدافع عنها بغض النظر مما فعل أو قتل , فتقديس الشخصية هو النظر إلى هذه الشخصية بنظرة عالية بنظرة لا يمكن لأحد الوصول إليها , نظرة إلهيه نوعاً ما , حيث هذه الشخصية لا يمكنها أن ترتكب أي خطأ , بل , من المستحيل أن ترتكب أي خطأ .
يسأل سارتر نفسه : (( أبوح بالحقيقة فأخون البروليتاريا أم أخون الحقيقة دفاعاً عن البروليتاريا ؟ )) , هذا السؤال جوهري , و متعلق بتقديس النظرية , فهل نخون الحقيقة في سبيل الدفاع عن البروليتاريا ؟ , أيّ , هل ننسى كل القتل و كل سفك الدماء الذي حصل في الدول الاشتراكية في سبيل الدفاع عن الماركسية ؟ الماركسية لم تدعو ابداً إلى ذبح و قتل الناس , فهؤلاء القادة مثل , ستالين و ماو تسي تونغ و كيم إل سونغ و بول بوت ألخ .. أزالوا القشرة الإنسانية و الأخلاقية من الماركسية , و قتلوا و سفكوا دماء الناس بأسم الشيوعية و الحرية و العدالة .
و فوق كل القتل و سفك الدماء , ساهموا هؤلاء في تجميد الماركسية , فالمادية الديالكتيكية تحولت من فرضية أو من مجرد نظرية إلى قانون في الحياة مثلها مثل قانون الجاذبية , هذا وهم ما بعده وهم , كيف نقول أن هناك نظرية لم تكن منجزة :هي نظرية صحيحة و هي حقيقة كل الوجود , فالمادية الديالكتيكية تخبرنا أن كل شيء قابل للتطور لا شيء جامد , كيف يجمدها اصحابها و هي تحث على الحيوية ؟
فالذي لا يفهمه بعض مفكرينا , مع الأسف الشديد , الفرق ما بين الفرضية و القانون . القوانين هي الأشياء المفروضة علينا , مثل قانون الجاذبية , فالجاذبية قانون و ليس فرضية , لا يمكننا إفتراض وجود جاذبية بل نستطيع جزم وجودها . أما الفرضية هي الأشياء التي نفترضها , مثل الماركسية و التاريخ , فالماركسية تفترض أن مراحل التاريخ ستؤدي إلى الاشتراكية , المشاعية إلى العبودية إلى الاقطاعية إلى الرأسمالية إلى الاشتراكية , فهذه النظرة اثبتت عدم صحتها – بعد التجربة الاشتراكية – فنفهم أن الماركسية و التاريخ عبارة عن فرضيات و توقعات , فماركس على سبيل المثال , توقع العولمة أو المرحلة الكوسموبولتية , فهذا التوقع صحيح و لكن هذا لا يعني أن ماركس يعلم الغيب , و لا يعني هذا أن يتوجب علينا تقديس ماركس و عبادته .
أن مرحلة ستالين أو عهد الستالينية , هي المرحلة التي تم فيها تجميد الماركسية , مثل اللوحة الخماسية للتاريخ أو مثل التقسيم الثلاثي المبسط لتعريف الماركسية , فالتاريخ أصبح محصوراً في خمس مراحل فقط , و الماركسية أصبحت نظرية متكونه من : المادية الديالكتيكية و المادية التاريخية و الاشتراكية العلمية , فالنواحي الثانية من الحياة تم تجاهلها و تم اختزال الماركسية في هذه التعريفات المبسطة التي من الممكن أن تصنع جيشاً من الموالين لفكر ستالين , فهناك لا وقت للشرح و التأويلات , فأجعلهم يحفظون الماركسية خيراً من أن يفهموها .
فمشكلة بعض مفكرينا أنهم من حفظة الماركسية , فهم حفظوا المادية الجدلية و التاريخية , و حفظوا الاشتراكية العلمية و المراحل الخماسية للتاريخ , فعندما تتحدث إليهم تجدهم جميعاً يقولون مثل الكلام , لأنهم بكل بساطة يحفظون الماركسية و لا يفهمونها , و لا أحد يدعّي هنا أنه يفهم الماركسية , و لكن سبيل المعرفة أفضل من سبيل الحفظ , فهؤلاء حفظة الماركسية يعيشون في القرن الماضي , و يحللون القرن الحالي بمعطيات القرن الماضي , فلا مجال لهم للتطور اذا بقوا على هذه العقلية .
المرحلة الستالينية جعلت الماركسية نظرية صلبة , جامدة , مانعة , و جاهزة , فلا يمكن لأي شخص أن يقول شيئاً ضد الماركسية بشكلها الستاليني , فيصف تروتسكي ( القائد الميداني للثورة الروسية ) المرحلة الستالينية :
(( البلاشفة – بالنسبة إلى غورتر , بانيكويك ,و حفنة معينة من السبارتاسستس الألمان– أستبدلوا دكتاتورية البروليتاريا بدكتاتورية الحزب الواحد , و ستالين أستبدل دكتاتورية الحزب الواحد بدكتاتورية البيروقراطية , البلاشفة اقصوا كل الأحزاب بإستثناء حزبهم . خنق ستالين الحزب البولشفي لمصلحة الزمرة البونبارتية Bonapartist Clique . تعاون البلاشفة مع البرجوازية , لقد أصبح ستالين حليفهم و داعمهم . )) ( الستالينية و البولشفية 1937 )
فيعلل تروتسكي كلام غورتر و بانيكويك و حفنة معينة من السبارتاسستس بأن البلاشفة أستبدلوا مفهوم دكتاتورية البروليتاريا بدكتاتورية الحزب الواحد , و زاد ستالين " الطين بلة " بإستبداله دكتاتورية الحزب الواحد بدكتاتورية البيروقراطية . فنستنتج من كلامه أن ستالين قد رسخ و ثبت السلطة البيروقراطية في الاتحاد السوفييتي , فهناك فئة منتفعة و فئة منحطة , فالمنتفعون ساعدوا على ظهور ستالين كالقائد الأوحد و الأعلى , لأنه يفيدهم " هنا و هناك " , فحفاظاً على مصالحهم الشخصية ساعدوا في تقديس ستالين و الماركسية و الكتب. فلا يوجد مجالاً للشك , و لا مجال للتساؤل حول صحة أفعال الحزب أو مدى الصحة الفكرية التي يمتلكها الحزب , فالحزب لا يمكن أن يخطأ , الحزب هو الذي يفكر عن الأفراد , هو يلقن الناس , الناس تحولوا من بشر إلى مكينات المصانع لا رأي لهم , فقط يعملون و يطيعون .
أي دكتاتورية بروليتاريا هذه ؟ التي تقمع الناس و تحرمهم من التفكير ؟! هل قال ماركس يوماً هكذا ؟ , هل قال يا عمال العالم أقمعوا ؟! , فهو دعا إلى الاتحاد بين العمال لعالم أفضل , للجنة في الأرض , و ليس للجحيم في الأرض ! .
يجب على الزمرة الدوغمائية الموجودة في ساحاتنا الفكرية أن يبدؤوا بالسؤال , لماذا ندعم القتلة ؟ لماذا نلطخ أيدينا بدماء الأبرياء , و من الخطأ أن يعتقد أحد أن هذا الرسالة موجهه إلى الستالينيين فقط , بل هذه الرسالة موجهة إلى كل من يقدس الشخصيات و النظريات . لماذا تقبلون على أنفسكم أن تدعموا أشخاصاً حرموا الناس من حقهم في الحياة , حقهم في الاستمتاع و التفكير الحر ؟ هل لأن لا يوجد بديل ؟ أم لأن التاريخ مزيف ؟ ,هل يعقل أن كل البلاشفة الذين أنتقدوا ستالين كانوا على خطأ ؟ هل يعقل أن رفاق ماو تسي تونغ الذين أنتقدوه كانوا على خطأ ؟ , لا يمكننا أن نقول عنهم خونة أو مرتدين أو تحريفيين لأننا لم نعاني و نقاسي ما عانوه في حياتهم , أنظروا إلى روسيا اليوم , لا يترحمون و لا يتذكرون الماضي , أيعقل دولة الحرية و الاشتراكية و العدالة لا يشتاق إليها أحد ؟ أنظروا إلى الصين اليوم , أصبح الصيني يبيع كليته من أجل آيفون IPHONE و الآيباد IPAD , لا أحد يشتاق إلى ماو تسي تونغ ؟ هذا يعني أن كل الشعارات التي رفعها السوفييت و باقي الدول الاشتراكية مزيفة , لا أشتراكية و لا عدالة و لا حرية , كل هذا الكلام كان كذب من قبل حفنة من البيروقراطيين المنتفعين , و يقول تشارلي تشابلن في فيلم الديكتاتور العظيم THE GREAT DICTATOR :(( أن الدكتاتوريين يحرروهم أنفسهم فقط )) , و هذا ما فعله القادة الديكتاتوريين في العالم ; حرروا أنفسهم فقط و أستعبدوا الناس , يتحدثون بأسم الشعب و لكنهم لا يحبون الشعب , يخافون من الشعب , لا يثقون بالشعب .
الشعارات سمعناها و حفظناها , و لكن لم نر أي تطبيق لها , و يؤسفنا جداً أن نجد إلى اليوم أشخاصاً يدعمون الديكتاتوريين الذين ضحكوا على الجماهير , فالعالم إلى اليوم لم ير الاشتراكية الحقيقية أو دكتاتورية البروليتاريا التي كان يحلم بها البشر , و اذا كان النموذج الستاليني أو الصيني أو الكوري هو النموذج الأصح للدكتاتورية البروليتاريا , فلا نريد هذا الشكل من دكتاتورية البروليتاريا , فهذا الشكل هو الدكتاتورية ضد البروليتاريا , الاشتراكية الحقيقية تسمح بالرأي و الرأي الآخر , تسمح بالتعددية الحزبية , تسمح بالنقد , فالاشتراكية المزيفة البيروقراطية هي التي تقمع و تخاف من الناس .
فالسؤال و الشك هو مصدر المعرفة , من دون الشك لن نتطور و لن نتعلم , فالبكاء على الماضي لن ينفع , و إعادة أحياء المتاحف لن تفلح , فمع بزوغ قرن جديد, ندخل إلى مهمة جديدة , فالحاضر هو المهم و ليس الماضي , صحيح نتعلم من الماضي , و لكن لنعمل في الحاضر و ننجح في المستقبل , فالساحة الفكرية يجب عليها أن تتبنى أمور متعلقة بالعصر أكثر مما متعلقة بالعصور المغبرة , و ما دامت هذه الزمرة الدوغمائية موجودة, يصعب علينا تحليل الحاضر , يصعب علينا التحدث عن الحاضر .