موضوعات حول الدوغمائية : في نقد التصنيفات الدوغمائية


هشام صالح
2012 / 5 / 28 - 20:36     

(( ينبغي أن نحذر الانزلاق إلى التصنيف الجامد الصارم , ومصدر الحذر هنا أنه ليس – في الواقع – من حدود مقفلة بين أسلوب و آخر , فليس من حقنا إذن أن نضع هذا الباحث أو ذاك في هذه ((الخانة )) ثم نختم عليه بحكم اطلاقي وحيد الجانب . إن مثل هذه الصرامة الحاسمة غريبة عن المنهج الذي نهتدي به )) ( حسين مروّة , النزعات المادية في الفلسفة العربية الأسلامية , المجلد الأول , ص94-95 , دار الفارابي )

تصنيف الناس بشكل صارم و حاسم في خانات غريب عن المنهج الذي نهتدي به , هكذا يصرح الأستاذ الكبير حسين مروّة في إحد من أهم كتبه التي نشرها و التي ساهمت في تحليل الفلسفة العربية الإسلامية بإسلوب علمي .
فمن خصائص الدوغمائية هي إطلاق تصنيفات مطلقة و حاسمة على الناس , تماماً مثل المتدينين الذين يصنفون الناس إلى مؤمنين و مشركين , هذا المؤمن سيذهب إلى الجنة , و هذا الكافر الحقير مصيره النار و العذاب , فلا يجوز المؤمن يكون على خطاً , و لا يجوز للكافر أن يكون على صواب.
هذه العقلية الدوغمائية , مع الأسف الشديد, بقت معنا بالرغم من إنتمائنا إلى الفكر العلمي , فالتحليل أصبح مزيفاً , فالشخص الذي يقول ماركس أخطأ هنا قالوا عنه غير مثقف ولم يقرأ الماركسية بشكل صحيح , و الشخص الذي يقول لينين لم ينبغي عليه يفعل ذلك قالوا عنه مرتد , و الشخص الذي يقول لم ينبغي على ستالين قتل هؤلاء الملايين قالوا عنه تحريفي. فهنا نجد إطلاق تلك التصنيفات تبرر عدم ثقافة صاحب تلك التصنيفات , لأنه أساساً لا يفهم ما يقول , و بالإضافة – سايكولوجياً – هو يغطي ضعفه من خلال إطلاق تلك التصريحات لأنه لا يقبل بالجديد لأن الجديد غريب عما قرائه من أقاويل أو عنواين فيرفضه رفض تعصبي و حاسم .
فتلك التصنيفات من الضروري تخلق طابع جمودي في الفكر , لأن التصنيفات لها تعريفات معينة مطلقة , فمن ينتمي إلى هذه الخانة فهو " هكذا " و من ينتمي إلى تلك الخانة فهو " هكذا و كذا " , بغض النظر عن الشخص نفسه , و هذا بكل الأشكال بعيد عن الجوهر الماركسي الحقيقي .
لينين , في كتابه الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية , قد أستشهد بكتابات عدة كتاب لا يتوافق معهم " ايدولوجياً " , مثل هوبسون و هيلفردنغ , هذا يدل على مدى قوة النص الذي يستفيد من أعدائه ليخلق فكراً جديداً أو ليأتي بفهموم أوضح للإمبريالية آنذاك , فلم يغض – لينين – نظره عن هؤلاء الكتبة على أساس إنتمائهم للأيدولوجية البرجوازية , بل أستفاد منهم و قد علل أكثر من مره مدى إستفادته من كتب هؤلاء , و هنا نستنتج أننا لا يمكننا التعويل على عقولنا فقط , بل هناك عقول أخرى متنورة و متقدمة , لا يمكننا أن نحشر و نحصر هؤلاء داخل غرفة تحت عنوان برجوازيون أغبياء , هذا لا يصح , فهذا الطابع الدوغمائي الإستبدادي القائم على " إما معنا أو ضدنا " أو " نحن معنا الحقيقة المطلقة و أنتم لا " يضعف الطابع العلمي للنظرية و يضعف القوة الفكرية لدى الماركسية , لأن هذا الطابع متناقض مع جوهر النظرية , أيّ , الطابع الدوغمائي في الفلسفة الماركسية الحيوية , فهذا تناقض مابعده تناقض و لهذا نجد كل من يقدس الماركسية لا يفهمها , لأنه يحصر نفسه داخل زمن لا يريد أن يتخطاه , أو معجب بشخصية بشكل قوي جداً , لدرجة يقدس كل ما يفعله .

تقول روزا لوكسمبورغ : (( الحرية فقط لمؤيدي الحكومة و أعضاء الحزب – بغض النظر عن عددهم – هي ليست بحرية على الإطلاق. الحرية دائماً و حصرياً Exclusively هي حرية من يفكر بشكل مختلف . )) ( الثورة الروسية , الفصل السادس , مشكلة الديكتاتورية )
فالحرية وفقاً للوكسمبورغ لا تنسب إلى حفنة معينة من الناس , من مؤيدي الحكم أو أعضاء الحزب أو الحكومة , بل تنسب إلى من يفكر بشكل مختلف. و هذه النظرة أعطيها تأييدي لأنها تخلو من أي طابع دوغمائي يحصر الفكر و يرفعه فوق الأفكار الأخرى , فالفكر أذا اعتلى فوق الأفكار , فهو من الضروري , ينفي كل الأفكار المجاورة له على أساس أو ظناً أنه الفكر الصحيح بشكل مطلق , فروزا لوكسمبورغ , بالنسبة لي , النموذج للماركسي الذي يفكر بعقل حر , و بهذا ماركسي حقيقي لا دعائي أو دوغمائي يرفض الأفكار الأخرى و يعتقد أن فكره هو الفكر الصحيح .
يستطيع الإنسان أن يفهم الدوغمائية الموجودة في في ألمانيا النازية , أو إيطاليا الفاشية , أو العراق البعثية , لكن لا يفهم المرء الدوغمائية الموجودة في وطن الأحرار أو وطن الإشتراكية و العدل , وطن العمال , الوطن الذي يرفع راية الشعب – كما كان مذكور في نشيد السوفييت – فمن القبيح رؤية الحريات الشخصية تقمع في أول نموذج اشتراكي في العالم , فوجود الآراء الأخرى أو مساهمة الأفكار الأخرهي التي تجعل الاشتراكية العلمية متفوقة على الأفكار الأخرى في الساحة الفكرية أو السياسية . قمع الأفكار الأخرى هي ليست من خصائص الاشتراكية العلمية , الاشتراكية العلمية لم تكن ابداًخجولة و مذعورة من الأفكار الأخرى , لأن هدف الاشتراكية العلمية هي التجدد و التطور , عكس الثبوت و الجمود.
فالحريات الشخصية تقمع على أساس تصنيفات معينة , ليبرالي , أو ديمقراطي , أو اصلاحي ألخ , فالتصنيفات تلك , تغض النظر عما يريد هذا الفرد قوله أو توضيحه , فالقول غير مهم , المهم هو أن هذا الشخص " ليس معنا " أو " برجوازي صغير " أو التهمة في الدرجة الصغرى " له ميول برجوازية و يجب أن يصلح نفسه " . فنقد التصنيفات الدوغمائية , بالضرورة تكون نقد العقل الدوغمائي الذي يعتمد على مفهوم الحقيقة المطلقة , نقد الحفنة الدوغمائية التي تعرقل سيرورة الطابع العلمي لدى الفلسفة الماركسية .