قمة -كارتاخينا- ... وتراجع النفوذ الأميركي

نعوم تشومسكي
2012 / 5 / 22 - 09:01     

على الرغم من أن قمة الأميركيتين التي انعقدت الشهر الفائت في مدينة كارتاخينا الكولومبية لطختها فضيحة المخابرات الأميركية وأدت إلى تهميشها، فقد كانت حدثاً بالغ الأهمية لأسباب رئيسية ثلاثة، هي: كوبا، والحرب على المخدرات، وعزلة الولايات المتحدة.

أحد العناوين الكبرى لصحيفة "جامايكا أوبزيرفر" كشف أن "القمة تُظهر مدى انحسار النفوذ الأميركي". ويورد المقال أن "البنود الأساسية على جدول أعمال القمة شملت تجارة المخدرات "المربحة" والمدمّرة، وكيف تمكّنت دول منطقة بأكملها أن تجتمع باستبعاد دولة واحدة هي كوبا".

لقد انتهت اللقاءات من دون التوصّل إلى اتفاق بسبب معارضة الأميركيين على هذين البندين، أي سياسة عدم تجريم المخدرات وحظر مشاركة كوبا. وقد يؤدي استمرار سياسة العرقلة التي تمارسها واشنطن من دون أي شك إلى استبدال "منظمة البلدان الأميركية" بأخرى حديثة التأسيس هي "مجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي"، التي تُستبعد منها أميركا وكندا.

لقد وافقت كوبا على عدم حضور القمة تحاشياً لمقاطعتها من قبل واشنطن. إلا أن اجتماعات القمة أقرّت بوضوح أنها لن تستمر لفترة طويلة في التغاضي عن سياسة التعنُّت الأميركية، بعدما تفرَّدت أميركا وكندا في حظر المشاركة الكوبية بحجّة انتهاكات هافانا لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وتستطيع شعوب أميركا اللاتينية تقييم هذه الاتهامات انطلاقاً من خبرتها الواسعة في هذا المجال، إذ بات سجل الولايات المتحدة الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان مألوفاً لها. لقد عانت كوبا على وجه التحديد من الهجمات الإرهابية الأميركية والخناق الاقتصادي عليها عقاباً على استقلاليتها – أو "تحديها بنجاح" لسياسات واشنطن وصولاً إلى "مبدأ مونرو".

ولا يتعيَّن على الأميركيين اللاتينيين قراءة المؤلفات والدراسات الأميركية لإدراك أن واشنطن تدعم الديمقراطية(إذا)، وفقط إذا، كانت تتوافق مع أهداف إستراتيجية واقتصادية. وحتى حين تكون كذلك، فهي تفضِّل "أشكالاً محدودة من التغيير الديمقراطي من الأعلى إلى الأسفل، حتى لا تجازف بإغضاب هيكليات القوة التقليدية التي كانت أميركا متحالفة معها خلال فترة طويلة– داخل مجتمعات غير ديمقراطية تماماً"، كما يشير إليه "توماس كاروذرز"، أحد المناصرين الجدد لسياسة ريجان.

وقد تحوَّلت الحرب على المخدرات خلال قمة "كارتاخينا" إلى مسألة محورية بمبادرة من الرئيس الجواتيمالي المنتخب حديثاً الجنرال "أوتو بيريز مولينا"، الذي يخطئ من يعتبره ليبرالياً رقيق القلب. وانضم إلى مبادرته مضيف القمة الرئيس الكولومبي "خوان مانويل سانتوس" وغيره.

أما مبعث القلق فليس بالأمر المستجد، إذ كانت "لجنة أميركا اللاتينية المعنية بالمخدرات والديمقراطية" نشرت قبل ثلاث سنوات تقريراً حول الحرب على المخدرات التي خاضها الرؤساء السابقون "فيرناندو أنريك كاردوسو" البرازيلي، و"إرنستو سيديو" المكسيكي، و"سيزار جافيريا" الكولومبي، ناشد بعدم تجريم المارجوانا واعتبار استخدام المخدرات مشكلة صحية عامة.

لقد أظهرت بحوث عديدة أجرتها "مؤسسة راند" عام 1994، أن الوقاية والمعالجة أكثر فعالية من حيث التكلفة بالمقارنة مع التدابير القسرية التي تنال الحصة الكبرى من التمويل. كما أن الإجراءات غير الجزائية المماثلة تتميَّز حتماً بطابع أكثر إنسانيةً.

ولا شك أن التجارب تتطابق مع هذه الاستنتاجات. فأكثر المواد تسبباً بالوفيات هي إلى حدٍ كبير التبغ الذي يقتل أيضاً غير المدخّنين بنسب عالية (التدخين اللا إرادي). لقد تراجع استعمال المخدرات تراجعاً حاداً بين القطاعات الأكثر تعلماً، ليس نتيجة تجريمه إنما بفعل تغيير نمط الحياة.

وفي تناقض صارخ، لم تنتج عن الإجراءات القهرية للحرب الأميركية على المخدرات طوال 40 سنة، عملياً أي آثار على استخدام المخدرات أو أسعارها في الولايات المتحدة، فيما عاثت فساداً في كل أنحاء القارة الأميركية. وتكمن المشكلة بالدرجة الأولى في الولايات المتحدة: من ناحية الطلب (على المخدرات) وتزويد (الأسلحة) على حدٍ سواء. أما الأميركيون اللاتينيون فهم أولى الضحايا ويعانون من مستويات مروِّعة من العنف والفساد، حيث ينتشر الإدمان على طول مسارات عبور المخدرات.

وحين تُطبَّق السياسات طوال سنوات عدة بمساعٍ دؤوبة على الرغم من فشلها الواضح على صعيد الأهداف المعلَنة، ويتم في الوقت ذاته تجاهل البدائل التي قد تكون أكثر فعالية بصورة منهجية، تُطرح الأسئلة بالتأكيد حول الدوافع الفعلية وراء ذلك. يكمن حينها أحد الإجراءات المنطقية في استكشاف النتائج المتوقعة، التي لم تكن أبداً غامضة وخفيّة على أحد.

ففي كولومبيا، كانت الحرب على المخدرات غطاءً شفافاً لمكافحة التمرُّد. لقد أدى التطهير بالدخان – أحد أشكال الحرب الكيماوية – إلى تدمير المحاصيل والتنوُّع البيولوجي الغني، ويساهم في دفع ملايين الفلاحين الفقراء للنزوح إلى أحياء بائسة في المدن، من أجل تخصيص مساحات شاسعة للمناجم، والأعمال التجارية الزراعية، ومزارع المواشي الضخمة، وغيرها من المزايا التي يستفيد منها الأقوياء.

ومن المستفيدين الآخرين من الحرب على المخدرات نذكر المصارف التي تعمد إلى غسل كميات هائلة من الأموال. ففي المكسيك، تتورّط كارتلات المخدرات الكبرى في 80 في المئة من القطاعات الإنتاجية، بحسب باحثين أكاديميين، فيما تَجري أعمال مماثلة بأماكن أخرى.

أما أولى الضحايا في الولايات المتحدة فهم الأميركيون الأفارقة من الرجال، وإنما بأعداد متزايدة أيضاً النساء والسكان من أصول لاتينية – أو باختصار، أولئك الذين همَّشت دورهم التغييرات الاقتصادية التي أُطلقت في خمسينيات القرن الماضي، وغيَّرت مسار الاقتصاد في اتجاه "الأموَلة" ونقل عمليات الإنتاج إلى خارج البلاد.

وبفعل الحرب على المخدرات- الانتقائية إلى حدٍ بعيد- تم إرسال الأقليات إلى السجون، فيما شكل العامل الرئيسي في ازدياد عمليات الزجّ في السجون منذ الثمانينيات، التي تحوَّلت إلى فضيحة دولية. وتشبه هذه العملية "التطهير الاجتماعي" في أنظمة دول تابعة لواشنطن في أميركا اللاتينية، الرامي إلى التخلُّص من "غير المرغوب فيهم".

وانعزال واشنطن في "كارتاخينا" لا يعكس إلا المضي قدماً في تطورات تحوُّلية أخرى من العقد الماضي، بعدما بدأت أميركا اللاتينية تُحرِّر بعد طول انتظار نفسها من سطوة القوى العظمى، وتعالج حتى مشاكلها الداخلية المروِّعة.

لطالما تميَّزت أميركا اللاتينية باجتهادات قانونية ليبرالية وبتمرُّد في وجه السلطة المفروضة. وقد يُلهم الأميركيون اللاتينيون مرة جديدة التقدُّم في حقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة.