عن إمكانيات استنهاض الوعي اليساري في سورية


وسام الخطيب
2012 / 5 / 17 - 12:08     

ليس خافياَ على أحد أن النكسات التي أصابت الصفوف اليسارية في عهود الاستبداد العربية وما يمكن أن نسميه سوء حظوظ اليساريين بقيادات حزبية لم تتحلى يوماً بأدنى مسؤولية تجاه حقوق الشعب وقضايا الديمقراطية أسهمت في رسم صورة نمطية لا تخلو من قبح، وصلت في الكثير من الأحيان الى حد أن نرى اليسار متواطئاً مع الاستبداد في ما يمارسه على الشعب و مقدراته. وكل هذا يتعارض مع المبادئ اليسارية بشكل عام، تلك التي تدفع الفرد لتحرير نفسه ومحيطه والسعي لتحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لكن الأمور بدأت بالتغيّر مع اندلاع الثورات. ففي تونس، كان للشباب اليساري دور طليعي في قيادة الاحتجاجات جنباً إلى جنب مع باقي مكونات الشعب التونسي ومنهم النهضويون الذين ربحوا الانتخابات بعد نجاح الثورة. وكذلك كان الأمر في الثورتين المصرية واليمنية. أما في الثورة السورية، فالوضع مختلف وأشدّ تعقيداً، وهو يجعلنا نرى اندلاع الثورة بمعزل عن أي حراك سياسي أو مطلبي سبق حدوثه في تاريخ سورية الحديث. وهذا يتطلب منا دراسة للعوامل التي أدت لاندلاع ثورة الكرامة، والفئات التي تشارك فيها وتدعمها بأشكالها المختلفة.
الشرارة السورية
شكّلت مظاهرة الحميدية في 15 آذار/مارس 2011 التي تعرضت لقمع القوات الأمنية واعتقال أغلب المتظاهرين المحاولة الأولى لإطلاق الثورة السورية. على أثرها، وتضامناً مع المعتقلين السياسيين الذين كانوا قد أعلنوا إضراباً عن الطعام في أقبية السجون، حاول أهالي المعتقلين ومجموعة من الشباب المحسوب على التيار اليساري والليبراليين المستقلين الاعتصام أمام وزارة الداخلية. ولكن الأمن أفشل هذه المحاولة بطريقة وحشية للغاية وزج بأغلب من كانوا في الاعتصام في سجونه. أغلب الذين شاركوا في هذين النشاطين هم شباب ينتمون إلى فئة الطلاب أو مثقفين يساريين أرادوا المطالبة بالحقوق الطبيعية لأي مواطن سوري.
لكن هذين المظاهرة والاعتصام، رغم أهميتهما، ليسا الشرارة الفعلية للثورة السورية. فقد كان اعتقال بعض الفتية في درعا بعد كتباتهم شعارات على الجدران هو شرارة الانتفاضة الشعبية الحقيقية. و كان أبطال هذه الانتفاضة من الفئات الشعبية التي تتألف من صغار الموظفين والفلاحين والطلبة. امتدت الانتفاضة إلى مناطق أخرى، وشارك فيها طلاب جامعيون وأفراد من الطبقة العاملة وفلاحون، وكانت الجهات الريفية هي الأكثر نشاطاً كريف حمص وريف دمشق. ثم مرّت الثورة بعد حوالي شهرين من انطلاقها بنقطة تحول هامة جداً. فقد انضمت للحراك مدينة السلميّة الواقعة في منتصف البلاد. وتكمن أهمية انضمامها في أن أغلبية قاطنيها هم من الطائفة الشيعية الاسماعيلية الآغاخانية، مما نفى عن الثورة الصبغة السنيّة. كما أن المدينة معروفة بأنها معقل للنشاط اليساري والقومي السوري منذ استقلال سورية. وهذا بالفعل ما جعل قوام الحراك في السلميّة مؤلف من طبقتين مهمتين هما: النشطاء اليساريين والقوميين السوريين القدماء وبعضهم معتقل سابق، والشباب المتأثر بالمد اليساري الذي لم يغب في يوم من الأيام عن هذه المدينة. ضم الحراك السلموني شباباً وفتيات من الطلبة والموظفين. عرفت الثورة بعد تحرك السلميّة انضمام حماه للركب الثوري. وحماه تضم طبقة من التجار الذين لديهم تاريخ مؤلم مع نظام الأسد بالإضافة لعدد لا يستهان به من الطلبة والموظفين المستقلين.
وعلى امتداد سنة و شهر من الثورة كان الدور القيادي والأبرز هو للريف السوري إلى جانب مدينة حمص بطابعها المعقّد (مدينة-ريف). أي أن المكونات الأساسية كانت الطلبة والفلاحين. أما الموظفين والعمال بصفة عامة فهم من سكان حلب ودمشق وقد لزموا الحياد إلى وقت قريب.
إن دخول دمشق وحلب إلى خريطة الثورة عنى الكثير لجهة الانخراط الطبقي في الثورة السوريين، وإن كانت مشاركة طبقة التجار محدودة حتى الآن. فقد أسهم ذلك في إضعاف النظام اقتصادياً وإنقاص إنتاجية قطاعاته. ولعل "إضراب الكرامة" و"إضراب الموظفين" لعبا دوراً هاماً في إدخال بعض الطبقة الوسطى في الحراك الثوري الهادف لإسقاط النظام. رغم ذلك، فشلت عدة محاولات في الوصول إلى العصيان المدني الشامل.
الثورة والوعي الطبقي
إن لتشكيل الوعي الطبقي أهمية كبرى في دعم الثورة و إنجاحها وربما في ضمان أن لا تضيع مكتسباتها سياسياً واقتصادياً من أيدي الطبقات الكادحة التي فجّرتها وقدمت التضحيات وعانت أكثر من غيرها من ظلم واستبداد الأسد طوال نصف قرن. وإلى جانب الوعي الطبقي، من الواجب الحفاظ على الوعي الديمقراطية ومبادئه للحيلولة دون عودة الاستبداد من باب حكم القطاع العام.
مما سبق، نرى أنه كان للطلاب والكادحين كجمهور يساري مفترض دور هام في اندلاع الثورة وفي دعم زخمها إلى جانب القوى الإسلامية والشعبيّة الغير مؤدلجة. وعليه، فهناك بوادر ليعود اليسار جماهيرياً وصاحب كلمة ليحقق مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية السياسية في مجتمع عرف التمييز والقهر.
ما ينقص الحركات اليسارية هو نشر الوعي من مخاطر تسلق القوى ذات التوجهات الإقطاعية أو العائلية. ويفيد اليسار العمل على حث الطلاب الطبقات الكادحة التي شكلت عناصر الثورة من بداياتها لنهاياتها على حماية حقوقها في الثورة وما سيليها. ولابد لليساريين التكتل وتعرية القوى المحسوبة على اليسار التي تحمي نظام الأسد وتوحي بأنه تقدمي. وكل هذا لا يمكن أن يتم إلا بالانخراط في حركة الشارع والقبول بالجيش الحرّ كحركة مقاومة شعبيّة لكونه يحظى بدعم الجماهير المنتفضة.
لابد لكل الطامحين لرؤية سورية بلداً تسوده العدالة الاجتماعية والعلمانية والديمقراطية، بلداً يقيم علاقات متوازنة مع البلدان الأخرى انطلاقاً من المصلحة الشعبية السورية، أن يتحدوا مع الشارع ومع بعضهم بعضاً وأن يلمسوا الواقع بشكل مرن بعيداً عن الجمود في فهم المبادئ الماركسيّة، وبعيداً عن الاستنساخ من تجارب لا تتماثل ظروفها مع الظروف السورية.