مفهوم المعرفة كقيمة


محمد فيصل يغان
2012 / 4 / 29 - 14:36     


منذ بدايات تشكل الوعي الإنساني, واكتشاف الإنسان لمدى القوة والسيطرة اللتين تمنحهما إيّاه العلوم, ارتبط طلب العلم لديه بمحاولة تقرب الإنسان من مصاف الآلهة والتشبه بها. ونتيجة لتعسف أصحاب العلوم من بني البشر في استخدامها لقمع واستغلال الآخربن, تشكلت قناعة ضمنية بكون العلم خاص بالآلهة الذين يملكون الحكمة اللازمة لتوظيفه في سبيل الخير والسعادة, وأمّا الإنسان فحصوله على العلم يؤدي به للابتعاد عن الحكمة, بتوظيفه في خدمة مصالحه الشخصية ولتحقيق أطماع التملك والسيطرة لديه. فالمعرفة إذن تنقسم إلى خير الحكمة وشر العلم, وبناء على هذه القناعة تعددت التصورات لهذين المفهومين, وتعددت مصادرهما المفترضة بتعدد الباحثين, أمّا المشترك في هذه التصورات فكان نسبية العلم ومطلقية الحكمة, نفعية العلم وقيمية الحكمة, وبالمجمل, عقلانية العلم وحدسية الحكمة.
فالحكمة إذن فعل إيمان وليس بفعل تعقل, فالحكمة تتلخص بالإيمان بالقيم المطلقة ودون الالتفات إلى حقيقة كون الإيمان ما هو إلا تشكل قناعة في مفهوم ما لحظة الحدس, وتجاهل حقيقة أنّ القيم, بوصفها مفاهيم تشكلت في لحظة الحدس قابلة للموضعة والتعقل, مما يوحي للعقل بثنائية القيم – العلم الزائفة.
وبتجاهل حقيقة الحكمة هذه, تصبح هي معيارًا للمعرفة, والمعرفة التي لا تؤدي للحكمة (أي العلم) هي معرفة باطلة. ولكن الحكمة تعنى بالكليات, والعلم ينشأ من فحص الجزئيات, فكلما اتجهت المعرفة للعلمية والتخصص, كلما زادت الهوة ما بينها وبين الحكمة, وقد اتسعت هذه الهوة مع التجربة التاريخية للمجتمعات الإنسانية وصنوف الاستغلال والسيطرة التي مارسها من امتلك ناصية العلم, وترسخت هذه القناعات في كافة مستويات العقل البشري, من الأسطوري إلى الفلسفي. في الفنون والأدب مثلا, نجد أنَّ الأعمال القائمة على الخيال العلمي تجسد هذه النظرة القيمية للعلم, إذ نجد شخصية العالم المتجرد من إنسانيته والذي يعامل الأفراد كفئران تجارب ويهدف إلى حكم أو تدمير العالم, نجد هذه الشخصية تتكرر في الكثير من الروايات والأفلام, ومن ناحية أخرى, نجد تشخيص المخلوقات الفضائية (والتي تمثل قمة التطور التقني) على أنّها مخلوقات ذات أجسام ضامرة دلالة على ضمور الإحساسات وفي الوقت نفسه لها جماجم متضخمة كناية عن سيطرة العقل على سلوك هذه المخلوقات. والناحية الأبرز هي كون وجوه هذه المخلوقات خالية من أي تعبير, وهكذا نراها تمارس التجارب العلمية المؤلمة على البشر دون أن يبدو على وجوهها أية ردود فعل, وتمثل هذه المخلوقات مستقبل الإنسان الذي يتبنى العلم دون الحكمة ويتبنى العقل الموزون دون الحدس بصفة الأخير منبعا لإنسانية الإنسان.
الحكمة إذن اقتضت أنْ تنحصر المعرفة بشقيها في النخبة صاحبة الحكمة, النخبة المختارة من قبل الآلهة لتلقي قبس الحكمة الإلهية, واقتضت أيضًا أنّ المعرفة الهادفة لزيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة وبالتالي على أخيه الإنسان, هي بالأساس شر, وأنَّ المعرفة الشريفة هي المعرفة المؤدية لمعرفة الإله والتقرب منه واقتباس الحكمة بغية الخلاص الأبدي. ونجد أنَّ العقل الأسطوري قد خلَّد هذه القناعات وصوّر الحصول على المعرفة من قبل البشر على أنَّها سرقة من الآلهة, كما في أسطورة الإنسان الأوّل وسرقته لثمار شجرة المعرفة, وسرقة (بروميثيوس ) لسر النار من الآلهة والعقوبة الإلهية التي استحقوها.
وباستغلال هذه القناعات الدفينة في عقول البشر, قامت الفئات المسيطرة في المجتمعات الإنسانية بتبرير وترسيخ سلطاتها وما يتبع هذه السلطات من امتيازات مادية ومعنوية, فابتداء من ساحر القرية في العهود الغابرة , مرورا بالمؤسسات الدينية في العصور الحديثة وحلفائها من الطبقات المتنفذة, وانتهاء بإصرار الدول الصناعية الكبرى على احتكار التقنية ومنعها عن العالم الثالث, تم اتباع سياسة تجهيل العامة من الناس والادعاء بامتلاك الحكمة الإلهية اللازمة لتسيير القطعان البشرية بما يخدم مصالح هذه الفئات والطبقات. فمنع انتشار الأسلحة النووية مثلا, يقوم على ادعاء أنّ دول العالم الثالث غير ناضجة, ولا تمتلك الحكمة السياسية اللازمة للتعامل مع هذه القدرة مما يعرض البشرية للخطر.
وفي عصرنا الحديث, نجد منظري الرأسمالية وهم يبرئونها من طبيعتها الوحشية واللاأخلاقية من خلال الزعم بأن التطور القائم على العلم هو بطبيعته لا أخلاقي, وأنَّ القيم الإنسانية الأصيلة ليس لها مكان في العلم, وبالتالي فإنّ لا أخلاقية ووحشية المجتمع الرأسمالي لا تقتصر عليه, بل هي طبيعة مشتركة بين كافة المجتمعات المتطورة تقنيا وعلميا, والقبول بهذه الطبيعة هو ثمن طبيعي يجب أن نرضى بدفعه في سبيل التقدم, إذ لا مجال لحل التناقض (الزائف) ما بين القيم الإنسانية والعلم اللاإنساني. فهذا ماركوز وفي كتابه الإنسان ذو البعد الواحد , يقرر بأن موضوعية العلم تفرض عليه إقصاء القيم الإنسانية من حياة المجتمعات القائمة على التطور التقني والعلمي كونها ذاتية بالأساس ولا يمكن (موضعتها) كما لا يمكن إكسابها شرعية كافية من خلال منحها بعدا ميتافيزيقيا لا يمكن التحقق منه بالقطع. وبهذا يحاول ماركوز ترسيخ القطيعة والتناقض ما بين العلم والقيم الإنسانية, ويعود بهذا التناقض إلى الفكر اليوناني القديم سواء الأفلاطوني أو الأرسطي في محاولة منه لإظهار هذا التناقض الزائف حتميا وأبديا.
وأمّا البديل القيمي الوحيد الذي يقدمه العلم فهو (في نظر ماركوز) قيم (النجاعة) في السيطرة على الطبيعة وبالتالي على الإنسان. أمّا الحل أو بالأحرى البديل الوحيد للوضع القائم الذي يقدمه لنا, فهو الانتحار الاجتماعي بتسليط فئات المجتمع المهمشة من غوغاء وأقليّات وعاطلين عن العمل وحتى طلاب, بتسليط هذه الفئات التي هي بالتعريف هامشية على مقدرات المجتمع, فإمّا هذا أو ذاك.
ولم تقتصر هذه الفوبيا من التطور العلمي والتقني على أبناء المجتمعات الصناعية الرأسمالية, بل تعدتها إلى المجتمعات المتخلفة التابعة لها, فأصبحت العلمانية كمفهوم مشوه ناتج عن غياب الفهم العلمي لتطور الفكر في سياق التاريخ البشري, وغياب الفهم الصحيح لطبيعة النظام الرأسمالي, أصبحت تمثل خطرا مزعوما يهدد ما تبقى لشعوب هذه المجتمعات من إنسانية. فنجد هذا التناقض الزائف ما بين القيم والعلم على أشدّه في مجتمعاتنا تحت شعار تناقض الدين والعلمانية, وفي بعض الحالات المتطرفة, نجد رفضا للعقل بكافة تجلياته ونكوصا إلى العرفانية الحدسية. ويستشهد أصحاب هذه المواقف بالانهيار الأخلاقي والمعنوي للإنسان الغربي في المجتمعات الرأسمالية ومحاولات هروبه (إلى الوراء) بالبحث عن ملاذات روحانية في الديانات القديمة أو بعض الرجاء في محاولة (ترشيد) العقل من خلال فلسفات ما بعد الحداثة.
هل هناك حقا تناقض بين العلم والقيم؟ لقد جهدنا في الفقرات السابقة على إظهار أنَّ العلم بحقيقته حيادي, وأنَّ (لا أخلاقيته ولا قيميته) لا تنبع من طبيعته, بل من ممارسات الذين يمتلكون العلم والتقنية بوصفها قوة إنتاج, بل إنَّ العلم يمكن أنْ يتجاوز حياديته إلى أنْ يكون منهجا للارتقاء بتصوراتنا للقيم الأصيلة إلى مستويات أرقى وأشمل, وأكثر قربا من مثاليتها.
فرغما عن التوظيف اللاإنساني لمخرجات العلم من قبل الطبقات المهيمنة على المجتمعات الإنسانية ومحاولة تعظيم الربح لرأس ألمال على حساب العمالة, إلا أن التقدم العلمي قد ساهم وإلى درجة كبيرة في أنسنة ظروف العمل وظروف الحياة بشكل عام, فمن خلال التطور العلمي والتقني في مجال الالات البسيطة تمكّنت المجتمعات من الاستغناء عن العبودية والقنّ كقوى إنتاج, ومن خلال الآلات الأكثر تعقيدا مثل الإنسان الآلي (الروبوت) أصبح ممكنا تتويج نضالات العمال في سبيل ساعات عمل أقل وظروف عمل أقل اعتمادًا على الجانب العضلي من قوة العمل البشري, والقول نفسه ينطبق على التطورات العلمية في مجال الاتمتة والتحكم . وقد أجبر هذا التطور رأس المال على أن يستثمر رغما عنه في تثقيف العمال, على الأقل في الجانب التقني المتخصص لضرورات تعاملهم مع مخرجات العلم والتقنية الحديثة.
وعودة للسؤال أعلاه, نجيب بأن المنهج العلمي بطبيعته, يربط ما بين الممارسة ونتائجها والمنطلقات المؤسسة للرؤية من جهة والمنهج من جهة أخرى, ومن خلال هذه الجدلية, تترسخ وتترقى في الوجدان الإنساني القيم الأصيلة بالانتقال بها من لحظة حدس سابقة إلى لحظة حدس أرقى. وتتعزز شرعيتها في الوجدان الإنساني دون اللجوء إلى (منحها بعدا ميتافيزيقيا لا يمكن التحقق منه). وفي الوقت نفسه يعري المنهج العلمي التصورات الزائفة لتجسيد هذه القيم التي زرعتها الطبقات المهيمنة على مقدرات المجتمع.