مبدأ العلية


محمد فيصل يغان
2012 / 4 / 14 - 14:35     


يشكل مبدأ العلية المحور الأساس لكل الفكر الإنساني بكافة تجلياته. إنّه المبدأ الذي يتخلل كافة مصادر تشكيل الوعي ومنها لحظة الحدس. وقد تقطر هذا المبدأ المعرفي (العلية) من خبرات الإنسان المبكرة في الطبيعة وملاحظته للأحداث من حوله. وهذا المبدأ لا تنحصر صلاحيته في التفاعلات ما بين الموجودات المادية الجامدة بل يمتد ليؤطر تفاعل المادة الحية بأشكالها مع محيطها, إذ تتمركز عليه وحوله, كل الملكات الذهنية التي تشكل المستوى الأول للعقل, وعليه تقوم أيضا, تفاعلات كافة الأشكال المادية الحية سواء على مستوى الفعل ورد الفعل الغريزي أو على مستوى الأفعال المنعكسة الشرطية. باختصار, إنّ فعل كافة أشكال الوجود المادي يتمركز على مبدأ العلية, وهو البديهية الأولى التي اكتشفها العقل الإنساني والتي بقيت صامدة وأعادت تأكيد صحتها أمام تنوع التجارب وتعددها على مدار تاريخ البشر.
لا يشكل نمط المعرفة الحدسية استثناء لهذه القاعدة. إذ نجد مبدأ العلية حاضرا دوما سواء بشكل واعٍ أو لا واعٍ في ثنيات هذا النمط. أمّا الشكل اللاواعي, فيظهر في سياق عمليات إنتاج المعرفة التي يمارسها الفرد داخل النمط الغيبي, حيث يتم توظيفه من قبل العقل بشكل طبيعي في إنتاج المعرفة, كون هذا التوظيف هو شرط ضروري لإنتاج أيّة معرفة, وتنطبق مقولة هيغل التالية عن الجدل على مبدأ العلية (البشر فكروا جدليا منذ زمن طويل قبل أن يعرفوا ما هو الجدل, تماما كما تكلموا النثر قبل أن ينشأ مصطلح النثر) والبشر اعتمدوا العلية منذ زمن طويل قبل أنْ يعرفوا ما هي العلية. أمّا الشكل الواعي لتوظيف العلية في الإنتاج المعرفي الباطني, فيكون من خلال توظيف الأشكال النظرية المشوهة للعلية, تلك الأشكال التي نظرها الفرد لتتلاءم مع الوظيفة التبريرية المناطة بالعقل, وتهدف كافة هذه التنظيرات للعلية في نهاية المطاف, إلى إدخال مبدأ الغائية كمبدأ علوي مفارق, سابق على مبدأ العلية, حيث إنَّ الأخير (حسب المفهوم الغيبي), لا يمكن له أنْ ينتج معرفة أكيدة, كونه مبدأ تجريبيا استقرائيا في أحسن الأحوال.
نجد هذا التوجه إلى إدخال الغائية كمكمل أو بديل عن العلية مثلا عند أرسطو كأحد الأشكال الأربعة للعلل, متمثلاً في الغاية (بالإضافة إلى الصانع والمادة والصورة). كما نجدها حاضرة أيضًا في المذاهب الفلسفية المثالية وخاصة عند مناقشة مواضيع مثل الحتمية والمسؤولية الإنسانية, وفي الفلسفات الدينية كلها. أمّا التشكيك والطعن في العلية, فيقوم على الحجج التالية, والتي نجدها ذاتها ولو بصياغات مختلفة عند خصوم العلية قديما وحديثا. والحجج هي باختصار (حسب هيوم):
• حتى تتم معرفة الصلة العلية بين الأشياء, تبقى المعرفة تجريبية استقرائية أي غير أكيدة. ملاحظة الكون لا تسمح لنا بملاحظة القوة الرابطة بين السبب والنتيجة, فقط أنَّهما تتحدان بالحدوث conjoined ولكن غير متصلين connected (سببيا). وعليه فمصطلحات العلية تبدو غير ذات معنى في الفلسفة أو الحياة العامة.
• الخبرة تعلمنا فقط أنَّ الحوادث تتتابع الواحدة تلو الأخرى دوما, دون أن تعلمنا شيئا عن الرابطة السرية (بينها), والتي تجعل هذه الحوادث غير قابلة للانفصال عن بعضها.
• أنّه حتى بعد الحصول على الخبرة الخاصة بعملية العلة – النتيجة, فإنَّ استنتاجاتنا منها لا تقوم على مبدأ عقلي مسبق apriori reasoning أو أيَّة عملية أخرى من عمليات الفهم.
هذه هي الحجج التي تلخصها أيضا الرؤية البيانية الإسلامية للعلية في القرن الثاني الهجري حسب ما يفصلها لنا الجابري, (محمد عابد الجابري, بنية العقل العربي) وهي ذاتها التي نجدها عند فلاسفة المذهب الأمبيريقي في أوروبا, مع فارق أنه هناك حسب الفكر البياني مبدأ أكثر بداهة وسابق عليه ألا وهو الغائية, وبالنهاية فإنَّ الغاية الربانية هي العلة, وأن لم تكن علة أولى يليها تسلسل في العلل, فهي علة واحدة متواصلة تفعل في كل زمان.
أي أنَّ العلية لكونها تجريبية استقرائية في حالة الفلسفة الأمبيريقية, وبوجود الخالق القادر في الحالة الدينية, تصبح غير حتمية (فيجوز) حضور العلة وغياب المعلول أي أن تلامس النار قطنا فلا يحترق.
من الواضح هنا أن هذه المنهجية انتقائية وتبريرية ولها توظيف محدد في الصراع مع الفلسفات المنافسة في حينه وأقرب ما تكون للديماغوجية مدفوعة الأجر. فما نظن قائلا بهذا الكلام كان يمتنع عن الأكل بانتظار حصول الشبع دون علة ولا عن شرب الماء لحصول الارتواء دون علة الشرب.
ما يبشر به القائلون بهذه الحجج, هو أنَّ ملاحظاتنا المتكررة للطبيعة تخلق لدينا (عادة) أنَّ الحوادث مترابطة, وعلى أساس هذه (العادة) نفترض جزافا أنَّ المستقبل سيكون مماثلا للماضي, بالتالي, فإنَّ المعرفة المبنية على هذه العادة لا تفيد اليقين (الإستقراء الجزئي و المعرفة الظنية).
ونحن نقول صحيح ولكن, لا تفيد اليقين في حالة عزل هذا المفهوم (العادة) عن مساق عملية إنتاج المعرفة وتعميمه على المستقبل ((extrapolate بمعزل عن التجربة والعمل المفضيين لليقين (المعرفة اليقينية ممكنة دون الحاجة إلى أن يكون الإستقراء كليا).
العلية هي قانون مستنتج من النظر إلى جزء من الواقع وعلاقاته (العلية في الجزئيات), وهذا القانون يعكس العلاقة ما بين حلقات السلسلة المعرفية التي تم تشكيلها حلقة تلو أخرى من خلال التفاعل الجدلي للعقل مع الطبيعة, أمَّا افتراض أنَّ جذب السلسلة من آخر حلقة لدينا, سيعطينا الحلقات القابعة في المستقبل وعلى نفس وتيرة السلسلة السابقة و ذلك بناء على الملاحظة البسيطة, يشوبه عدم اليقين بالضرورة, ويمثل ما ابتدأنا به هذه المناقشة, أي عزل لحظة معرفية وتعميمها واعتبارها كل المعرفة.
اليقين في العلاقة العلية لا ينتج عن مجرد ملاحظة تكرار اقتران العلة بالمعلول بمظهرها الأبسط, بل نتيجة العلم اليقيني بأن الكون تحكمه قوانين طبيعية ثابتة لا تتغير, وهذا العلم اليقيني مبني على كامل التجربة الإنسانية بمعناها الواسع (حتى ألمعجزات يمكن فهمها على أنها إثبات للقدرة المطلقة من خلال خرق قانون العلة المطلق). فتكرار ظاهرة اشتعال الخشب نتيجة للاحتكاك هو نمط (بالمعنى الإحصائي TREND ) لا يكفي وحده للاعتقاد اليقيني بوجود علاقة علية بين الاحتكاك والاشتعال, وإنما اليقين ينتج عن سلسلة القوانين الطبيعية الثابتة والفاعلة في حدوث الاشتعال من الاحتكاك. فمن القوانين التي تحكم تحول أشكال الطاقة (الحركية إلى حرارية) وقوانين القوى الكهرومغناطيسية الفاعلة بين الجزيئات إلى القوانين الحاكمة للتفاعلات الكيميائية بين العناصر والتي تم التأكد منها تجريبيا لعدد هائل من المرات, كل هذه القوانين والثقة فيها تضفي صفة اليقين على العلاقة العلية البسيطة ظاهريا ما بين الاحتكاك والاحتراق. وكون هذه القوانين قابعة في صلب الظاهرة المدروسة ومؤسسة لها, يكتشف المراقب تلازم وتداخل العلية بالشروط, وأن هناك شروطا ضرورية وأخرى كافية وهكذا. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ الرأي القائل بأن العلوم الحديثة قد تجاوزت العلية إلى (اللاتعين) حسب مبدأ هايزنبرغ , هو نتيجة خلط بين الواقع الطبيعي الممثل بالحدث معزولا عن المراقب, والواقع الطبيعي شاملا للحدث والمراقب, فبالحالة الأولى, لا يوجد هناك ما يثير الشك في كون العلية (في الطبيعة الفيزيائية بالأخص) هي واحد لواحد, بمعنى ارتباط حتمي ما بين العلة والمعلول. أمّا عدم التيقن الذي يؤطره مبدأ هايزنبرغ في اللاتعين فيعود للجانب (المعلوماتي) للظاهرة المركبة من حدث طبيعي وحدث الملاحظة. والمطالبة والحال هذه بأن تكون المعلومة الناتجة عن الملاحظة يقينية بنفس درجة يقينية الحدث الطبيعي بمعزل عن المراقب هو مطلب مثالي مرفوض مبني على فرضية (تطابق) الواقع مع العقل المثالية. نشير هنا إلى أنَّ (تسوية) ما مع أصحاب الرأي المخالف للعلية ممكنة إذا اعتبرنا ما يسمى بالعادة أو بالاقتران أو العلة الظرفية, يكافئ شرط الكفاية, فاحتكاك قطعتي خشب أو تلامس النار والقطن يمثلان شرط كفاية لحدوث الاشتعال ولا يمليان حتمية حدوثه, أمّا العلة الإلهية والفعل الإلهي المتواصل فيمكن الاستعاضة عن حضورهما الفعلي بحضور القوانين الطبيعية التي أقرَّها الإله كشرط ضروري, فالشرط الضروري إذن متحقق للطرفين. هذه التسوية تكون ممكنة لو أنَّ المشكلة تبقى محصورة في إطار الحوادث الطبيعية, إلاّ أنَّ هدف معارضي العلية يتجاوز الإطار الطبيعي إلى الإطار الاجتماعي الإنساني, إلى الإرادة. فالتسوية أعلاه تخرج الإرادة الإلهية, أو بالأصحّ إرادة من يدعي تمثيل الإله, من الصورة لصالح إرادة البشر, مع ما يعنيه هذا على مستوى رفض واقع ما والسعي لتغييره من خلال اكتشاف وتفعيل القوانين. إذن العلية مرفوضة, ولست أنت من يريد أنْ يفعِل القوانين ولا توفير الشرط الكافي, بل الإله هو من يريد, وهم يمثلون هذه الإرادة, والخروج عليها بالتالي كفر ومعصية.
الاقتصار على الملاحظة السطحية لظاهرة الاحتكاك وتلازم الاشتعال مع هذه الظاهرة, لا يتعدى استنباط نمط إحصائي سائد في مجموعة الحالات المستقرأة, أي أن العقل لا يتجاوز الاستقراء إلى أشكال التحليل والتركيب المتقدمة, والنمط بالضرورة لا يخلق علما يقينيا (يبقى في حكم الاقتران الظرفي) إذا لم يتم تجاوزه وصولا للقوانين المؤسسة للظاهرة, ويقين النمط لا يتجاوز المجموعة (عينة الظواهر) المستقرأة أي التاريخ, ولا يتجاوزه لمستقبل الموضوع.
هذا التمييز ما بين القوانين اليقينية والمبنية على العلية وبين تلك التي يشوبها عدم اليقين والقائمة على النمطية الإحصائية يبدو بأوضح صوره عند مقارنة العلوم الطبيعية بالعلوم الإنسانية. فالأولى تسمح بطبيعتها بإعادة خلق الظاهرة في ظروف متحكم بها لعدد لا متناه من المرات وبالتالي تسمح بتجاوز النمط إلى ما يؤسس له من قوانين طبيعية أثبتت درجات عالية من اليقين خلال سلسلة لا متناهية من التجارب في ميادين متنوعة ومتعددة, أما الثانية وبحكم طبيعتها فلا تقدم لنا إلا بالكاد ما يمكن أن يكون قواعد عامة وفرضيات تكاد لا تقترب من يقينية القوانين الطبيعية, فالظواهر المتوفرة للاستقراء محدودة عددا ومتباينة نوعا إلى هذه الدرجة أو تلك, كما أن إمكانية إعادة إنتاج الحوادث في ظروف متحكم بها تكاد أيضا أن تكون معدومة.
بهذا التمييز نعتقد أنه صار بالإمكان ألإجابة على السؤال الذي يطرحه علي أومليل حول علم الاجتماع عند ابن خلدون على النحو التالي (لكن ألسؤال هو التالي: لماذا لم يتجه ابن خلدون بعلمه الجديد إلى الموضوع الطبيعي لهذا العلم, أي إلى المجتمع, بل اتجه نحو التاريخ ليرى أن هذا هو الميدان الذي يصلح لكي يطبق عليه علمه المكتشف؟ ذلك أن ابن خلدون, وبعد أن اكتشف علمه الجديد, تساءل عن الميدان ألذي سيصلح لكي يطبق عليه هذا العلم, فكان جوابه أن هذا الميدان هو التاريخ, وليس المجتمع, أي الموضوع الطبيعي لعلمه المكتشف, وهذا هو ما يثير الاستغراب.) (علي أومليل, في التراث و التجاوز) الإجابة تكمن في أن ابن خلدون ببساطة لم تتح له الفرصة ليستقرئ تجارب تاريخية لقيام الدول وانتقال الأمم من طور إلى طور خارج تجربة الدويلات الإسلامية في المغرب العربي. فكما يلاحظ أومليل (وطبعا لم يكن لصاحب المقدمة إلمام حقيقي بتاريخ الأنظمة السياسية للأمم غير الإسلامية, شأنه في ذلك شأن غيره من المفكرين المسلمين) (المصدر السابق)وبالتالي فما كان متاحا لابن خلدون مكنه فقط من استباط النمط المتحكم في الدورة البسيطة للدولة الإسلامية من أصولها البدوية إلى الدولة الحضرية التي أفسدها الترف, ولم يكن بإمكانه مثلا أن ينتقل من ملاحظته لتناقض البداوة – الحضر إلى القانون الأشمل الذي يفسر حركة التطور المجتمعي و بالتالي إلى نتيجة التناقض أي الدولة القومية, فما كان من ابن خلدون إلا أن حصر علمه الجديد القائم على النمط لا على العلية, في مجاله اليقيني ألا وهو تاريخ الدولة الإسلامية وفي (تصحيح الخبر) التاريخي وحاول جاهدا أن يوفق ما بين (القيمة المعيارية للسياسة التي تكون وفقا للشريعة) و(نظرته الموضوعية إلى المجتمع) (المصدر السابق). , ففي هذا المجال يكون الإستقراء كليا و المعرفة يقينية, أما في مجال المجتمع الإنساني يصبح ما إستقرأه ابن خلدون جزئيا و لا يفيد بالتالي إلا الظن. نكتفي بهذا القدر من فكر ومنهجية ابن خلدون.
بالمقابل نجد أن مجال التجارب المتاحة لماركس للاستقراء والتحليل قد أعانته على تجاوز الأنماط إلى استنباط قوانين عامة أقرب إلى اليقينية العلمية تحكم حركة المجتمعات البشرية وتطورها, والتي أوضحت إلى حد بعيد الطبيعة المركبة والمتداخلة للدورات الاجتماعية, وهذه القوانين هي بالضبط ما استوحاه لينين ووظفه في بناء دولة الاشتراكية العلمية الأولى في العالم متجاوزا هو أيضا السقوط في الفهم النمطي للماركسية.
نجد أيضا سلبيات هذا الخلط ما بين العلية والنمط عند التطرق لمسألة الحرية, فمن خلال ملاحظة بواعثنا وأفعالنا لا يرى البعض سوى النمط اللايقيني, وبذلك يلجأ (للعادة) ومصدرها المفارق بدلا من الوعي بالقوانين الفاعلة الذي يوحد الباعث بالفعل كعلة ومعلول (و إذن فإن هيوم لا يؤمن بوجود إرادة حرة, بل هو يعتقد أنه إذا وجدت بواعث معينة فلا بد أن تستتبعها بالضرورة أفعال معينة. فليس في النفس الإنسانية سوى مجرد تعاقب بين الظواهر, ولا مجال للحديث بالتالي عن جوهر مريد أو عن علة محددة) (زكريا ابراهيم, في مشكلة الحرية). بالمجمل فإنَّ العلية تفعل, إنّها تفعل من خلال توظيفها الواعي أو اللاواعي.
هكذا نجد مثلا أنَّ عالما فيزيائيا مثاليا ينتج في المخبر علما حقيقيا من خلال التوظيف الواعي لمبدأ العلية, من خلال توفيره الشروط الضرورية والكافية لوقوع الحدث المطلوب.
ونعقد هنا مماثلة (مشروعة) مع آلية تشكيل مفهوم العلية لدى الطفل والمبنية على الملاحظة السطحية وتكرار الظاهرة, مما يؤسس مفهوم العلية لديه على مبدأ التوليد GENERATIVE , فالحادثة السبب تولد الحادثة النتيجة, فهي علية آلية AUTOMATIC , وبذلك يهتز مفهوم السببية لديه عند شذوذ ظاهرة مفردة عن هذه القاعدة. فالطفل لا يمتلك القدرة بعد على تأسيس العلية على مبدأ التحكم CONTROLLED, أي على التجربة في ظروف متحكم بها, وهي قدرة تتحصل للإنسان في مراحل النضج .
إذن, فالعلية بمعزل عن التجربة وبالاكتفاء بالملاحظة السطحية, قد تنهار إلى مفهوم العادة (النمط). في حين إنَّ العادة هي خطوة مرحلية لتقليص الاحتمالات في البحث العلمي عن العلة. فمن خلال المراقبة السطحية لعاداتنا الغذائية مثلا, نجد أنَّنا (عادة) ما نصاب بالحساسية عند تناول صنف معين من الأغذية, هذه العادة الملاحظة تخدم الطبيب في حصر مصادر المادة المسببة للحساسية في بحثه العلمي عن العلة الصحيحة, عن المركب الكيماوي المسبب (حتما) للحساسية. إذن فالابتعاد عن المنهج العلمي في البحث, وعزل لحظة معرفية وتعميمها, يؤديان بالضرورة لظهور المفاهيم المغلوطة عن الواقع.
ونذكر هنا أنَّ العلية كانت هاجسا لدى نيوتن لم يتمكن من تجاوزه لأسباب موضوعية تتعلق بدرجة تطور العلوم في زمانه. إذ إنَّ نظريته في الجاذبية كانت تعني ضمنا (التأثير عن بعد) والذي يلغي (السبب) حيث لم تكن نظرية المجال قد طُورت بعد. وتجاوز هذا (التأثير عن بعد) كان هاجسا فاعلا في تطوير نظرية النسبية لاحقا. هكذا ومن خلال الإصرار العقلي على احترام مبدأ العلية, انتقلت العلوم الفيزيائية خطوة كبيرة إلى الأمام, في حالة النسبية, وأغنت لاحقًا نظرية الكم من خلال مساجلات أينشتاين – بوهر المعروفة والمتمحورة أصلاً على هذا المبدأ.