الثورة الصينية الثانية وتشكل الرؤية الماويّة - الفصل الثالث- نهاية الجزء الأول -الماركسية والشرق: بحثاً عن -الطريق الصيني-

بيير روسيه
2005 / 1 / 22 - 10:37     

الفصل الثالث- نهاية الجزء الأول
الماركسية والشرق: بحثاً عن "الطريق الصيني"
شهد تاريخ الحركة الشيوعية الصينية سلسلة من الصراعات العصبوية الكثيفة التي تلامس المسائل الأيديولوجية والسياسية والإستراتيجية والتكتيكية. وفي قلب هذه النزاعات حول التوجه كانت تقع محاولة تحديد "الطريق الصيني" أو - الطرق الصينية- وعلاقة الصين مع الغرب ، وعلاقة نضال التحرر الوطني مع الثورة العالمية وأخيراً علاقة الـ ح.ش.ص. مع موسكو.
ولدت الشيوعية الصينية في خضم هذه السجالات. وبزغت من حركة الرابع من أيار 1919. وهي انتفاضة وطنية مناهضة للاحتلال الياباني، ولكن مناهضة أيضاً للحكومة الصينية التي ركعت أمام أوامر القوى الخارجية. إثر الإذلال الوطني الأخير المتمثل في اتفاقية فرساي، وإثر هذه الأخيرة في خط طويل من التنازلات الحكومية، أكدت الانتلجنسيا الصينية رغبتها في لعب دور نشيط من أجل إعادة العافية إلى الصين. وراحت تخوض غمار نقاشات حامية حول الطرق الممكنة للتحديث والوصول إلى الاستقلال والكرامة. لقد خلقت حركة الرابع المجال أمام موجة عميقة من العداء للتقاليد والعداء للكونفوشيوسية، موجة حركت هؤلاء المثقفين المتجذّرين.
هذه الشريحة الاجتماعية الجديدة كانت حساسة جداً إزاء أزمة الهوية الوطنية والتراث الوطني التي كانت تنيخ بثقلها على الوطن. لقد تعرضت الصين، على طول تاريخها الممتد على آلاف السنوات، إلى إذلال متكرر وهي تقف الآن عاجزة أمام الأمم الغربية الشابة. بعد الهزائم التي تعرضت لها في القرن التاسع عشر في محاولاتها من أجل الإصلاح وكذلك هزيمة النظام الجمهوري.
1911-1912، سعى المثقفون المحدثون إلى تحليل الميكانيزمات التي وضعت أسس القوة الأوربية، وأولوا اهتمامهم لليابان، البلد الذي التجأ إليه الكثير من الوطنيين الآسيويين الجذريين.
المثال الروسي فقط- ثورة 1917، الأطروحات البلشفية حول المسألة القومية، إمكانية عقد تحالف مع الدولة السوفييتية-هو الذي بدأ فعلاً يتجاوز النموذج الياباني لثورة ميجي meiji بعد حركة الرابع من أيار. وعند ذاك بالذات اصطدمت الانتلجنسيا الوطنية بالشيوعية.
إن الوسط الاجتماعي الذي شكل ممراً لدخول الماركسية إلى البلد كان بالضبط هؤلاء المثقفين الجذريين. وبالرغم من ضآلة حجمها، كانت الانتلجنسيا الصينية أكبر مما في أي بلد مستعمر أو نصف مستعمر في تلك الفترة. وهذا يفسر جانباً من سبب سرعة انتشار الشيوعية في الصين.
شن دوكسيو ولي دازهاو
أو التقاليد الوطنية للشيوعية الصينية.
كانت حركة الرابع من أيار قد تأثرت إلى حد كبير بمجلة الشبيبة الجديدة التي كانت تصدر في بكين.
إن رؤية إنسانية، "غربية" ، وعصرية كانت قد جمعت هؤلاء المثقفين لسنوات عديدة، والآن، حين أصبحت الخيارات السياسية التي يطرحها الوضع أكثر وضوحاً انقسمت المجموعة. اتجه جناح من "الشبيبة الجديدة" نحو اليمين بزعامة الفيلسوف هو شي. أما الجناح الآخر، فاتجه يساراً بزعامة شن دوكسيو . وفي مجموعات أخرى ومدن أخرى، حصلت انقسامات سياسية مشابهة.
أصبح اثنان من الشخصيات القيادية في حركة الرابع من أيار عضوين مؤسسين لـ ح.ش.ص. وهما: شن دوكسيو ولي دازهاو. كل منهما كان يجسد تقليداً مختلفاً : الأول كان يمثل الوطنية المتأثرة بالغرب والثاني كان يمثل القومية المتركزة على الصين. وتبعاً لستيوارت شرآم: "نستطيع القول دون خشية المبالغة ، بأن الأول كان قبل كل شيء ميالاً إلى الغرب اتجه إلى الوطنية باعتبار ذلك أنجع أسلوب لتحديث المجتمع الصيني، في حين كان الأخير وطنياً رأى في النظرية اللينينية عن الإمبريالية تبريراً لآرائه الشوفينية " (1).
شن دوكسيو هو على الأرجح أفضل شخصية مشهورة في حركة الرابع من أيار. في تلك الفترة كان سبق أن مارس النشاط لسنوات عديدة وكان محرر صحيفة "الشبيبة الجديدة " ، كان غالباً ما ينظر إليه بوصفه غربياً نموذجياً. في الواقع "ممزقاً بين التقليد والرغبة في التغيير الجذري، كان شن دوكسيو شخصية مركبة تتنافر ذاته الخاصة وذاته العامة في أغلب الأحيان.
هذا الثوري المندفع كان متبحراً في البوذية والسانسكريتية واتيمولوجيا etymology[دراسة أصل الكلمات وتاريخها] الطبائع الصينية. هذا البلاء للعائلة الصينية كتب خطاً جميلاً لهيكله الضارب في القدم. هذا القائل بالمساواة بين الجنسين مارس الجنس مع مئات العاهرات وعاش بصورة علنية مع امرأة أخيه في حين كانت امرأته حبلى منه.
وتبعاً لـ وانغ فانكسي، الذي عمل معه في 1930-1931، وكذلك عام 1938، كان شن دوكسيو، قبل الرابع من أيار 1919، واحداً من أعظم المهاجمين للمعتقدات والمؤسسات التقليدية في تاريخ الفكر البشري. ومثل جميع محطمي المعتقدات التقليدية والرواد مارس العمل ليس بالسكين بل بالبلد وزر. فبالنسبة إليه كان الشيء الأساسي هو هدم بيت الماضي المتداعي وهذا ما فعله بقوة وبأس، ولهذا السبب "ينبغي النظر إليه كغربي أو كديمقراطي بورجوازي راديكالي". كان شن يؤمن بأن "الديمقراطية والعلم (هما) مثل الجراحين اللذين بوسعهما إنقاذ الصين" (3).
كان الأثر الذي أحدثته الثورة الروسية ، و الأكثر من ذلك، حركة الرابع من أيار، هو الذي قاد شن دوكسيو إلى تغيير آرائه. في 20 أيلول 1920 أعلن عن نفسه كماركسي وبدأ يحضّر لتأسيس الحزب الشيوعي، الذي أصبح سكرتيراً عاماً له. لم يهمل شن الفلاحين كما يزعم عادة، ولكنه لم يكن يثق بهم، ذلك أن الريف كان مهد الكونفوشيوسية . و بدلاً من ذلك، فقد سلط انتباهه على المدن. بوصفها مراكز تحديثية، وعلى الطبقات الاجتماعية باعتبارها عوامل ثورية. كان مقتنعاُ بأن الثورة مثلها مثل "الديمقراطية والأخلاق " هي من عمل القديسين".
لي دازهاو كان أيضاً واحداً من الشخصيات الرئيسية في حركة الرابع من أيار ويمكن اعتباره مع شن دوكسيو من المؤسسين الأولين للشيوعية الصينية. كان انتماؤه إلى الماركسية بشكل خاص حذراً لأن ذلك يعود إلى عام 1918. في فترة حركة الرابع من أيار كان ينظر إليه بوصفه ميالاً إلى الغرب، ولكنه سرعان ما بدأ يظهر نزعة قومية صينية ذات طابع هجومي كنقيض لكوسموبوليتية حركة الرابع من أيار ولأممية شن دوكسيو. كانت آماله تغوص عميقاً في داخل الصين والفلاحين.
وتبعاً لموريس مايستر، فإن التأثير الأساسي على ماو إنما جاء من لي دازهاو. وحقاً .فإن رؤية لي وإرادويته ، ونزعته الوطنية و الشعبوية كانت تشغل كلها جزءاً لا يتجزأ من البلشفية الحماسية التي اعتنقها. وهذا ما يبرر لجوء مايستر إلى القول بأن هناك قرابة بين تقاليد لي و الشعبويين الروس (4) من جهة وتقاليد ماو من الجهة الأخرى. "ومع هذا فإن هناك احتمالاً كبيراً بأن أفكار ماو في سني تكونه قد تبلورت إلى حد كبير بتأثير من أفكار لي. ولم يقتصر لي على تعريف ماو على النظرية الماركسية في شتاء 1918-1919. حين كان ماو يعمل كمساعد مكتبة في جامعة بكين الوطنية، بل زود ماو أيضاً بمراجعته الخاصة للماركسية ومشاعره المتدفقة حول مغزى ثورة أكتوبر . وليس من المحتمل أيضاً ألا يكون ماو قد تأثر بالمفاهيم الشعبوية الهرطقية الممزوجة بالأفكار الماركسية للي، ولا سيما نداءاته الحارة في 1919 إلى المثقفين الشباب لترك المدن وتكريس طاقاتهم لتحرير الفلاحين في الريف" (5) مع أن ماو نفسه سوف يكتشف بنفسه العالم الريفي في 1925.
لا ينبغي بالطبع تبسيط هذا الموضوع . لقد اعترف ماو فيما بعد بتأثره العميق بشن دوكسيو: "ذهبت إلى شانغهاي للمرة الثانية في 1919. هناك التقيت للمرة الثانية بشن دوكسيو. كنت التقيت به للمرة الأولى في جامعة بكين وقد ترك علي أثراً يفوق ربما تأثير أي شخص آخر (...) في شانغهاي تناقشت مع شن دوكسيو حول خططنا من أجل تأسيس عصبة لبعث هونان" (6).
و مع ذلك لا يمكن نكران واقع أنه يمكن العثور على مثل هذه العناصر الوطنية، الإرادوية و الشعبوية في أعمال ماو ولي، في شكل ثقافي لدى الأخير وفي شكل نشاطي لدى الأول. ومن بين التأثيرات التي ساعدت على تشكيل رؤية ماو من الممكن أيضاً الإشارة إلى ذلك التأثير الذي مارسه صديقه كاي هسن . في رسالة إلى شن دوكسيو في عام 1921، طرح كاي وجهة نظر شعبوية تماماً: "الصين ككل" هي "بلد بروليتاري". نتيجة لموقعه العالمي فإن تأخره الاقتصادي قد أصبح عاملاً إيجابياً للكفاح الشيوعي.
إن الانتظار سوف يعطي البورجوازية الوقت كي تتقوى ويؤجل المحاسبة الثورية لأمد طويل. كان من المفروض انتهاز الفرصة الراهنة والإقدام على بدء الهجوم. ومن ثم "إذا كنا أذكياء وراسخي العزم، فسون نكون بالتأكيد قادرين على اللحاق بالحركات العمالية في أوربا وأمريكا في فترة قصيرة جداً..." (7).
شرقنة الماركسية و عصرنة الفكر الصيني:
انطلق مثقفو الحزب الشيوعي الصيني نحو الشعب. افتتحوا مدارس عمالية وأقاموا حلقات بروليتارية، مكتشفين خلال ذلك واقع البؤس والفقر. دعموا تطور النقابات مضوا إلى الريف، في البدء بعض الرواد القلائل ومن ثم الجميع. غرست الحركة الشيوعية جذورها في المجتمع الصيني.
ولكن من الأساس، كان الـ ح.ش.ص. ثمرة عاملين:
الأول هو الثورة الروسية (تعلم المناضلون الصينيون الشيوعية، وخاصة اللينينية، قبل الماركسية) والثاني هو الجناح الراديكالي من الانتلجنسيا.
كلا الميراثين كانا شرعيين ، وكان إسهام الكومنتيرن غنياً . لقد ضمنت الهوية البروليتارية للحزب الشيوعي الصيني، وفي الوقت نفسه منحت إطاراً نشطاً لنسج العلاقة بين التحرر الوطني والثورة الاجتماعية. من جهته كان إسهام الانتلجنسيا أساسياً أيضاً. لقد هيأت الكوادر والأهم من ذلك زودت الحزب بجذور صينية فعلية. كان من الممكن أن يبقى الحزب الشيوعي صغيراً ، ولكنه لم يكن مجرد تجمع أدخل إلى البلد بشكل اصطناعي بعض الطلاب العائدين من الغرب. منذ انطلاقته، كان ثمرة التاريخ الصيني، وبشكل خاص تطور الحركة الوطنية وتمايزها.
وبالرغم من ضعفه الشديد آنذاك، فقد كان هذا الحزب الشاب يبعث على الأمل، على أن إدخال الماركسية إلى الشيوعية الصينية لم يكن أمراً سهلاً . إن إدخال المفاهيم الأساسية ، والتوجه السياسي والتقنيات التنظيمية، كما كان الأمر في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الغربية، لم يكن كافياً. فلكي تتم عملية الإدخال، كان على الفكر الصيني أن يترجم الماركسية إلى لغة عالمه الذهني الخاص. إلا أنه لم يكن من السهل إدراك كيف يمكن تحقيق ذلك، لقد ساهمت الثورة الروسية في خلق جسر بين الغرب والشرق في العديد من الميادين. كان على الماركسيين الروس أن يكتشفوا ويحددوا أصالة بلدهم وثورتهم. كانت التشكيلة الاجتماعية الروسية فريدة من نوعها، وكذلك كانت مهام الثوريين. ترتب على لينين و ترو تسكي، كل بطريقته الخاصة، وفيما يتعلق بمجالات مختلفة وفي مراحل مختلفة ، أن يحللا الخصوصية الروسية ويدمجاها مع منظور للعمل. وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء قدرتهما على دمج قواهما في معركة مشتركة في عام 1917، برغم شراسة جدا لاتهما القديمة.
بعد الانتصار، قدر للبلاشفة أن يتعاملوا مع مشكلة المجتمعات غير الأوروبية التي كانت جزءاً من الإمبراطورية القيصرية وكذلك مع النضالات القومية التي كانت تستعر على حدود الدولة العمالية الجديدة. وقد جمعوا خبرة ثمينة في هذا المجال و بسرعة كبيرة. غير أن طروحات مؤتمراتهم و سجالاتها لا تمثل إلا انعكاساً باهتاً لتعقيد المشاكل والصعوبات التي كانت تواجههم. غالباً ما كانت الكوادر العاملة في هذا الحقل هي نفسها التي أدركت إدراكاً أكمل أهمية المسألة. وهذا ما ينكشف بأوضح شكل في كتابات سلطان عالييف (10) و سافاروف (11) وتحليلاتهما.
غير أن الصين كانت شيئاً آخر غير روسيا وجاراتها من الجمهوريات المسلمة. كان من واجب الثوريين الصينيين أن يحللوا أصالة بلدهم وتشكيلته الاجتماعية والفكرية. كانوا قليلي التسلح لهذه المهمة. وكانت النقاشات الصاخبة لحركة الرابع من أيار تشير بوضوح إلى اضطرابهم. والأهم من ذلك ، نادراً ما كان يتوفر لديهم الوقت لتطوير هذه القضايا. لقد كانوا من جيل وجد نفسه في الحال منغمساً في نشاط كثيف وفي مواجهة ثورة شاملة قدر لها أن تقع بعد أربع سنوات فقط. كان جيلاً مفرطاً في النشاط مكتوباً له أن يواصل الرحلة الفكرية لأجيال ثلاثة.
يلاحظ رولاند ليو ما يلي: "حين اصطدمت الانتلجنسيا الشابة بالبلشفية حديثة المنشأ كان تصرفها سريعاً ومستعجلاً إلى حد يدفع المرء إلى التكلم على نوع من تلسكوبية [ تقريب مشهد أو شيء بواسطة التلسكوب (المعرب)] حقيقية للتجارب، والمسألة هي أن ما استغرق أجيالاً عديدة كي يتحقق في حالة روسيا - ثلاثة أجيال من هرزن إلى لينين- وأكثر من ذلك بكثير في العالم الغربي، أي عملية نضوج المجتمع المدني، ومقارنة أفكار مختلفة حول التغييرات الضرورية، ومحاولات التجريب الاجتماعي، كل ذلك حصل في الصين عملياً في جيل واحد (12) وذلك كان جيل شن دوكسيو.
هذه المهمة كانت صعبة بشكل خاص لأن الميراث القيم لماركس و انجلز حول هذا الموضوع لم يكن معروفاً بشكل كبير لوقوعه تحت ظلال "أرثوذكسية" الأممية الثانية أولاً و الستالينية فيما بعد.
تدويل internationalization الماركسية والتاريخ متعدد الاتجاهات:
الماركسية لها تاريخ (13). كان تكونها في القرن التاسع عشر ثمرة التطور الرأسمالي و النضالات الطبقية الحديثة وتطور الفكر الغربي، أي التاريخ الأوروبي. لقد تحولت إلى ظاهرة عالمية بشكل أساسي في القرن العشرين إلا أن عملية إضفاء العالمية هذه على الماركسية تحققت على مستويات عدة وأكدت اغتناءها وتحولها المستمرين.
لقد عملت الإمبريالية على تحويل الماركسية، نظرية الثورة الحديثة، إلى شأن عالمي وذلك بخلقها للسوق العالمي المبني على علاقات الهيمنة و النضالات الطبقية العالمية. ولهذا فقد وضعت (أي الإمبريالية.م) الأساس لاندماج حركة التحرر الوطني والثورة الاجتماعية.
واجهت الماركسية ، بمنهجها التاريخي والمادي، تشكيلات اجتماعية متنوعة مختلفة تمام الاختلاف عن المجتمعات الأوروبية حيث وضعت في الأصل مقولاتها التحليلية. والماركسية كفلسفة، دخلت عوالم ثقافية تعبر عن خط تطور مختلف عن الخط الأوربي الذي نشأ بالارتباط مع تاريخه الاجتماعي- الاقتصادي الفريد، من اليونان القديمة إلى المسحية من جهة والفكر العلمي من جهة ثانية. وكان على الماركسية ، بوصفها سياسة البروليتاريا، أن تكيف أداتها الإستراتيجية و التكتيكية مع العمليات الثورية الجديدة.
إن عملية تدويل الماركسية قد بدأت أثناء حياة ماركس وانجلز. استعمل ماركس مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي. وفي الغروندْريسّة ، أثناء تحضيره لكتابة رأس المال، شرع في تركيب سلسلة كاملة من المنظومات التحليلية فيما يتعلق بالمجتمعات غير الأوروبية. وقد شرحت وفسرت الإيحاءات السياسية لهذا البحث التجريبي والتأمل النظري لأول مرة في روسيا. لقد أقام ماركس علاقات مع المناضلين والمنظرين الشعبويين وناقش إمكانية حدوث ثورة اشتراكية مبكرة في الإمبراطورية القيصرية والدور الكامن للمشاعة الريفية. وإذ حثه على توضيح موقفه الحقيقي الماركسيون الروس الأوائل الذين شعروا أن مؤسس العقيدة كان يكشف عن مواقف متناقضة وانتهازية إزاء الشعبويين، أجاب ماركس دون مواربة أنه في "رأس المال" خص الطابع "الحتمي تاريخياً" للتطور الرأسمالي بأوروبا الغربية وحدها. (14).
احتجّ ماركس بحدة ضد أولئك الذين "يحوّلون لوحتي التاريخية عن نشوء الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى نظرية تاريخية- فلسفية عن السياق العام المفروض بشكل قدري على كل الشعوب بغض النظر عن الظروف التاريخية التي يوجدون فيها (...). يمكن عن طريق دراسة هذه المنظورات كلاً على حدة ومن ثم مقارنتها بعضها ببعض أن نكتشف بسهولة الحل لهذه الظواهر (اختلافها) غير أنه لن يحالفنا النجاح أبداً من خلال المفتاح الرئيسي لنظرية تاريخية- فلسفية يكمن فضلها الأعلى في كونها نظرية فوق- تاريخية" (15). وبالمثل ، فقد حذر انجلز من رؤية ميكانيكية للماركسية كانت قد شرعت بالانتشار في أواخر القرن التاسع عشر" (16).
كان بحث ماركس وأنجلز يقودهما إلى مفهوم متعدد الاتجاه لتاريخ العالمي. إن تتابع أنماط الإنتاج التي ظهرت في أوروبا، ليس من الضرورة أن يحدث في بقاع أخرى من العالم. وهكذا فقد ارتاد ماركس وأنجلز حقلاً هاماً من حقول البحث.
المونوليتة [الأُحادية] الستالينية إزاء الماركسية الصينية:
كان لـ ح.ش.ص. في منتصف العشرينات قواعد عديدة سهلت بحثه عن "الطريق الصيني".
كانت تتصادم هناك نقاشات واسعة في الكومنتيرن. وكان يجري رفع الإسهام الميثودولوجي [المتعلق بالطريقة أو المنهج] لماركس وانجلز إلى قباب السماء. تم اكتشاف مراسلة ماركس حول "الطريق الروسي" (17) بعد أن كانت قد تعرضت إلى النسيان وانمحت من ذاكرة أولئك الذين كانت تعنيهم أكثر من أي شخص آخر (الماركسيين الروس في أواخر القرن التاسع عشر). وحصل هناك في الاتحاد السوفييتي نقاش كبير حول نمط الإنتاج الآسيوي.
في الصين نفسها وحيث كشف تطور النضالات الجماهيرية المعنى الكامل لمسألة المحتوى الطبقي للتحرر. استطاع الـ ح.ش.ص أن ينهل من منبع حركة التحرر الوطني المعاصرة، كما كان يجسدها شن دوكسيو ولي دازهاو.
فقد استطاع، مع شن، أن يعثر على مدخل إلى العالم وإلى الفكر العلمي، والنقد الجذري للتقاليد ومعنى دور الفرد في الديمقراطية، وكلها عناصر أساسية لثورة ثقافية في الصين. غير أن هذه العلامات لم تقده إلى التقليل من أهمية المشاعر الوطنية. ومن المثير للاهتمام، على هذا الصعيد، التمعن في تطور أحكامه بصدد عصيان البوكسر[أعضاء جمعية صينية سرية كانت في أصل حركة معادية للأجانب بسبب الإهانات التي تعرضت لها الصين (1895-1898). عام 1900عرضوا للخطر البعثات الأوروبية الأمر الذي أدى لتدخل الدول العظمى الأجنبية.]
ومعتقداتهم الخرافية شجباً عنيفاً (18). وفي 1924، وبعد أن أصبح شيوعياً، راح يدافع عنهم دفاعاً حاراً: "يشكل البوكسر" واقعة مهمة في تاريخ الصين. وفي حقيقة الأمر، فإنهم لا يقلون شأناً عن ثورة 1911 (...) لقد شهد كل منا بربرية البوكسر وطابعهم الرجعي والخرافي... (ومع هذا) إذا قرأنا التاريخ الدبلوماسي والتجاري للصين خلال الثمانين سنة الأخيرة، فلن يكون في وسعنا الامتناع عن الإقرار بحقيقة مفادها أن قضية البوكسر كانت التمهيد العظيم والمأساوي لتاريخ الثورة الوطنية الصينية" (19).
من الجهة الأخرى، عبرت الوطنية الصينية للي دازهاو عن تمرد سليم ضد عبادة كل ما هو غربي. واحتج ضد غطرسة البيض، المسيحيين: "يشعر الأوروبيون، بأنه نظراً إلى ثقافتهم ، لا شيء يمكن أن يضاف إلى المسيحية. وتبعاً لهم، ليس هناك من عالم غير عالم البيض، وفي نظر الفرنسي تيودور جوفري (...) وحدها المسيحية تقدمية، وتغير نفسها باستمرار وتستطيع أن تتكيف مع ميول العالم الراهن" (20).
استنهاض الثقافة الصينية كان عاملاً مهماً "للبعث الثقافي" الذي دعا إليه لي دازهاو. كان ينبغي خوض النضال المعادي للإمبريالية في ذلك الميدان أيضاً، وليس فقط في الميادين الاقتصادية والسياسية كان على الصين أن تستعيد هويتها التي كانت تتعرض إلى الإنكار على يد التأكيدات المبتذلة للغرب المسيحي.
كان على الثورة الثقافية أن تجد جذوراً وطنية. فبعد اختراق العالم الريفي، كان على الحركة الشيوعية أن تتعلم التكلم بلغتها الخاصة وتملك صورها وتخيلاتها الذهنية . لقد تم استيراد فكرة الديمقراطية. ولكي تكون الديمقراطية الجماهيرية نافذة، كان عليها أن تكتشف المنابع السياسية والثقافية الصينية.
كان على الحزب الشيوعي الناشئ ، وجهاً لوجه إزاء تجربة ثورة كبيرة، أن ينتهز الفرصة كي يصهر هذه المعطيات الوطنية والعالمية، وينشئ ماركسية صينية غنية على وجه الخصوص.
ولكن، في هذا الحقل أيضاً، عمل صعود الستالينية في الاتحاد السوفييتي على تعديل بارامترات parameters [البارامتر هو العنصر الثابت في عملية فكرية معينة] المشكلة. فمنذ ذلك الحين وصاعداً، تقرر أن يكون هناك مصدر نهائي واحد وحيد للقرار في الحركة الشيوعية: موسكو. لقد أصبحت المونوليتية السياسية واحداً من أحجار الأساس في الحقبة الستالينية. هذه المونوليتية امتدت لتشمل الفكر النظري والتاريخي: وحدها الرؤية وحيدة الاتجاه للتاريخ العالمي كان في مستطاعها تبرير سلطة المركز الواحد. جرى خنق النقاش حول نمط الإنتاج الآسيوي، وتعرض ماركس غلى المراجعة، وتم حظر استعمال المفهوم. ولم يعرف البحث الماركسي في هذا المجال انطلاقة حقيقية جديدة إلا في الستينات، بفضل عملية نزع الستالينية وتراكم المعطيات الجديدة وتطور نضالات التحرر الوطني. (21)
و لكن في أواخر العشرينات توقف السماح للشيوعيين الصينيين بالتفكير بحرية حول فرادة تاريخ بلدهم بالمقارنة مع تاريخ أوروبا، أو حول فرادة التاريخ الأوروبي بالمقارنة مع تاريخ مناطق أخرى من العالم بصدد ذلك الموضوع. لقد تطلبت الأرثوذكسية ذلك، ومع هذا، فإن رغبتهم في الدفاع عن الصين في وجه الاتهام الباطل بالسكونية والركود الوارد في كتابات ماركس قد دفعتهم أيضاً إلى تعريف ماضي بلدهم بالإقطاعية.
إدانة شن دوكسيو وتبدل الحياة الداخلية في الـ ح.ش.ص:
في الوقت نفسه، حدث تغير عميق في الحياة الداخلية للـ ح.ش.ص، بعد كارثة 1927، أرادت موسكو أن تتجنب قيام تحليل للأسباب التي دفعت إلى الهزيمة من شأنه نزع القناع عن المسؤولين الفعليين عنها. لم يكن ممكناً المساس بسلطة المركز الواحد. لذا كان لا بد من العثور على كبش فداء، كان هذا الكبش شن دوكسيو الذي سرعان ما طرد من القيادة في العام نفسه.
بالرغم من أنه لم ينكر مسؤوليته الخاصة فقد رفض شن دوكسيو في رسالة تطفح بالعزة الدور الذي رغب الجناح الستاليني أن يوكله إليه. (22) وبعد طرده من الحزب أصدر شن شرحاً عاماً: "منذ اشتراكي مع رفاقي في تأسيس الحزب الشيوعي الصيني في عام 1920، كنت دائماً أطبق بإخلاص السياسة الانتهازية لقادة الأممية الشيوعية: ستالين، زينوفييف، بوخارين، وغيرهم التي قادت الثورة الصينية إلى فشل ذريع ومحزن. ومع أني كنت أعمل بلا كلل ، ليلاً نهاراً، فإن نواقصي لا تزال أكبر من فضائلي" (23).
كان شن قد عارض سياسة الدخول إلى الكومينتانغ منذ البداية. وعند كل منعطف كبير في الوضع، كان يطرح مسألة استقلال الـ ح.ش.ص. مثلاً، كان قد طالب بمغادرة ح.ش.ص. لصفوف الكومينتانغ في اجتماع اللجنة المركزية في تشرين الأول 1925. ولكنه اصطدم بفيتو ممثل الكومنتيرن. "كان علي أن آخذ بعين الاعتبار رأي لجنتنا المركزية وأن أصون أيضاً الانضباط الأممي. لهذا لم أحتفظ بموقفي بقوة" (24).
تمثل سنة 1926 "فترة حاسمة جداً (...) تلك كانت اللحظة التي أعلنت فيها البروليتاريا رسمياً، عبر وسيطنا ، الاستسلام للبورجوازية، وأرادت أن تتبعها وتلحق بها (...) من ذلك الحين وصاعداً بدأ (...) الحزب الانزلاق نحو الانتهازية. بعد انقلاب 20 آذار ، أكدت في تقريري إلى الكومنتيرن رأيي الشخصي في أن تعاوننا مع الكومينتانغ ينبغي ألا يكون تعاوناً من الداخل بل من الخارج (..) رداً على هذا التقرير، كتب بوخارين مقالة في البرافدا ينتقد فيها بشدة رأيي (...) مرة أخرى ودائماً لنفس الأسباب، كان علي الرضوخ" (25).
كان شن يطلب حينذاك وباستمرار تغيير السياسة. ووافق باستمرار على التقيد بالانضباط في التطبيق. تلك كانت هي بالضبط مسؤوليته عن هزيمة 1927. وإنها مسؤولية ثقيلة: "لقد غرقت بعمق في الجو الانتهازي للكومنتيرن. لقد أصبحت لاشعورياً أداة لتنظيم ستالين الصغير، لم أستطع تعميق ثقافتي الخاصة، لم أستطع إنقاذ الحزب والثورة، إن مسؤولية كل ذلك تقع على كاهلي وكاهل رفاقي. إن اللجنة المركزية الحالية تقول: "تحاولون التهرب من مسؤولياتكم وإلقائها على أكتاف الكومنتيرن"، هذا القول مضحك. لا أحد يستطيع أن يبقى إلى الأبد محروماً من حق انتقاد الانتهازية في الأوساط العليا ويدعو إلى العودة إلى الماركسية اللينينية، بحجة أنه هو نفسه قد ارتكب أخطاء انتهازية. وفي الوقت نفسه لا أحد يستطيع تجنب المسؤولية عن تطبيق سياسة انتهازية بحجة أنها آتية من الأعلى (...) يجب أن نعترف بكل صراحة وموضوعية بأن كل السياسات الانتهازية ، سواء في الماضي أو في الحاضر، قد جاءت من الكومنتيرن. يجب عليها أن تتحمل مسؤوليتها إزاءها . لم يكن في وسع الحزب الشيوعي الناشئ أن يبني نظريات ويضع أية سياسة من لدنه، غير أن الجهاز القائد للحزب يتحمل مسؤولية التنفيذ الأعمى لسياسة الكومنتيرن الانتهازية (...) لقد ساهمت بقوة في هذه السياسات الخاطئة من خلال قبولي بها" (26).
مع طرد شن دوكسيو تعرضت الحياة الداخلية للحزب إلى الإفقار. لم يقبل شن بمبدأ المونوليتية. "لقد سمح حتى لغير الماركسيين والفوضويين بالالتحاق بصفوف الحزب". هذا كما أكده غريغور بنتون، مضيفاً: "تحت قيادته ، كانت وجهات نظر مختلفة تتصارع بحرية ، ومع أن نتيجة هذا النقاش كانت قد أقرت في موسكو، فقد مر وقت لا بأس به قبل أن يتحول الحزب الشيوعي بالتمام إلى السير على الخطوط الروسية".
حتى ماو تسي تونغ اعترف بأن الحزب كان في ظل قيادة شن دوكسيو "نشطاً إلى حد بعيد" بالرغم من أنه لم يستطع أن يحذف الشجب الطقسي لـ"الفكر البرجوازي" لشن (في الحقيقة: الخط السياسي الذي فرض على شن من قبل مستشاريه في الكومنتيرن). في 1959، كتب ماو قائلاً: "حين شرعنا في تأسيس الحزب ، فإن أولئك الذين التحقوا به كانوا جميعاً شباباً اشتركوا في أو وقعوا تحت تأثير حركة "الرابع من أيار".
بعد ثورة أكتوبر وحين كان لينين لا يزال حياً ، وكان الصراع الطبقي حاداً ، وقبل أن يصعد ستالين إلى السلطة، كانوا هم أيضاً نشطين، إن منبع الشن دوكسويّة هو الأحزاب الاشتراكية-الديمقراطية في الخارج والبرجوازية في الداخل. بشكل عام لم تكن هناك دوغمائية في تلك الفترة، بالرغم من أخطاء الشن دوكسويّة" (27).
بعد ذلك ، أسبغت موسكو الانسجام على الدوغما [العقيدة الجامدة] ولوحت بتهديد الطرد. أصبح الجدال السياسي الصريح مستحيلاً. كان يجري التعبير عن الخلافات ، حتى الجدية منها، بطرق ملتوية وبلغة رمزية. غاصت الحياة الداخلية للحزب بعمق في التعصبية. ومضى المركز الأممي الستاليني يضع شيئاً فشيئاً رجاله على رأس الحزب الصيني.
كوكيو باي- الذي حل محل شن دوكسيو في 1927-ولي ليزان ، الذي سبق الأول في 1928-تحولا بدورهما إلى كبشي محرقة.
حمل كوكيو باي مسؤولية مغامرة كومونة كانتون التي دعا إليها ستالين. في 1930، افتتحت محكمة اللي ليزانيّة [نسبة إلى لي ليزان]. كانت جريمة لي ليزان اللجوء إلى ممارسة الخط اليساري القصوي الذي فرضته موسكو من 1928 إلى 1930 بحماس يساري قصوي ونتائج كارثية. أراد المركز الستاليني أن يقدم إدانة نموذجية. ولكن بالرغم من حضور بافل ميف، المبعوث الجديد للكومنتيرن، فقد اكتفت قيادة الـ ح.ش.ص. ، ومن بينها شو آن لاي، بإصدار إدانة معتدلة، مشيرة إلى ثقل الظروف الموضوعية. والأسوأ من ذلك أن لي ليزان تولى الدفاع عن نفسه وأشار إلى أن الصينيين كانوا في موقع أفضل من الروس لفهم بلدهم" (28).
قررت الكومنتيرن أن هناك حاجة إضافية إلى إطالة عملية البت في قضية لي ليزان تحت محاكمتها المباشرة. استدعي لي إلى موسكو للتحقيق. وأمر بالبقاء في موسكو حتى 1945. وسرعان ما حل مكانه طلاب صينيون عائدون من موسكو: وانغ مينغ (شن شاويو) وبوغو (كين بانغسيان).
عشية نزاع ماو تسي تونغ و وانغ مينغ:
مع وصول الـ"28 بلشفياً"- كما كان الطلاب الذين عادوا للتو من موسكو يسمون بنوع من السخرية- أمل ستالين أن يقوي قبضته على جهاز الحزب الصيني (29) وانغ مينغ، وبوغو وغيرهما من "الأمميين" لم يكن لهم تاريخ أو قاعدة خاصة بهم في الصين، وهذا ما كان يزيد من تبعيتهم حيال موسكو. وتجربتهم الفعلية الوحيدة كانت نابعة من الصراع العصبوي داخل الحزب الشيوعي (البلشفي) في الاتحاد السوفيتي و الكومنتيرن. لقد كانوا الستالينيين الفعليين للـ ح.ش.ص. كان الإخلاص لموسكو المعيار الرئيسي لانتخاب أعضاء المكاتب السياسية القومية، كما أكد وانغ فانغسي، "لم يكن انقلاب وانغ مينغ العمل الخاطئ لفرد معزول، بل مجرد عنصر في عملية أعم من الستالينية كانت تلامس كل فروع الكومنتيرن" (30).
لقد حولت البيروقراطية السوفييتية الكومنتيرن إلى أداة لسياستها العالمية. وسعت إلى إخضاع الأحزاب الوطنية سياسياً وتنظيمياً. لقد ربت كوادرها بتلك الروحية. وهكذا، فقد أعيد تشكيل المكتب السياسي للـ ح.ش.ص. تبعاً لأوامر موسكو في 1931. كان الـ"28 بلشفياً" يتلقون الدعم من الكومنتيرن. ومع ذلك ، كانوا يسيطرون على مجموع جهاز الـ ح.ش.ص. كان عليهم أن يجربوا ويرسخوا قبضتهم على الحزب الذي أصابه الضعف نتيجة الهزيمة، ولكنه كان، مع ذلك يقف على تاريخ غني. لم يولد الحزب الشيوعي صينياً. وكان إخضاعه بقوة إلى موسكو أحد العوامل الأساسية في الصراعات التي اندلعت بين وانغ مينغ و ماو في الثلاثينات والأربعينات.
لم يستطع جناح وانغ مينغ أن يفرض من شانغهاي، حين كانت القيادة الوطنية تعمل سراً، سيطرته على القوى الشيوعية في جيانغسي. وتأجلت المنازلة الحاسمة بين المكتب السياسي الرسمي والقيادة الإقليمية برئاسة ماو إلى 1935.
في الواقع ، يبدو أن موسكو لم تنظر حتى عام 1934 إلى ماو نظرة مريبة (31). كان ماو قد عارض لي ليزان حين كان الوقت قد حان لذلك. لم يدافع عن شن دوكسيو، الذي له عليه، باعترافه، فضل كبير: كان قد التحق بالقطيع وبدأ يعوي مع الذئاب (32).
كان لدى ماو أسبابه الخاصة لانتقاد السكرتير العام للحزب، وربما، لتجنب إعادة فتح ملف الثورة الصينية الثانية. والأكثر من ذلك، أنه أراد، بعد انخراطه في صراع عصبوي عنيد داخل الـ ح.ش.ص، أن يتجنب صداماً مباشراً مع ستالين.
لم يكن في مقدور ماو، بالطبع، ألا يبقى حذراً من الدور الفعلي لموسكو في 1927. في سنة 1936، حين قام بإجراء كشف حساب للهزيمة نزولاً عند طلب إدغار سنو، لم يوفر انتقاده لمبعوثي الكومنتيرن. صحيح، "لقد وضع ماو أكبر اللوم على شن دوكسيو الذي "أدت انتهازيته المتأرجحة إلى تجريد الحزب من القيادة الحاسمة ومن خطأ مباشر خاص به في لحظة كانت تعني فيها أية مساومة أخرى الكارثة". ولكن، بعد شن، حمل المسؤولية المباشرة لـ بورودين، المستشار السياسي الروسي الأساسي والذي تبعاً لـ ماو، "كان يقف قليلاً إلى يمين شن دوكسيو.. وكان مستعداً للقيام بأي شيء لإرضاء البورجوازية، حتى تجريد العمال من السلاح، وهو أمر دعا إليه في نهاية الأمر".
كان روي ، المندوب الهندي للكومنتيرن "يقف قليلاً إلى يسار كل من شن و بورودين، ولكن كان ذلك مجرد وقوف. فقد كان "في وسعه التحدث فقط" ، تبعاً لـ ماو، "وحتى التحدث بكثرة دون طرح أي منهج للتطبيق" (33).
في مقالة استرجاعية لصحيفة "الشعب اليومية" نفسها، وذلك بتاريخ 27 تشرين الثاني 1979 ، يتم نسب كامل عمل وانغ مينغ، بدءاً من سنوات 1920 فصاعداً، إلى الدعم الذي كان يحظى به من موسكو و الكومنتيرن.
يشير المؤلف إلى أن "وانغ مينغ قد أنفق 30 سنة من عمره في روسيا، في حين أنه لم ينفق أكثر من دزينة من السنوات في الصين". تقتبس المقالة تصريحاً لـ ماو في سنة 1971:
"بدعم من الأممية الثالثة ، عمدوا (الـ28 بلشفياً) إلى الاستيلاء على الحزب (في 1931) لأربع سنوات طويلة" (34).
لم يكن وانغ مينغ قريباً لـ ماو. واستنتج قائلاً: "إن أصعب وأعقد نضال كان ذلك الذي خاضه الشيوعيون، اللينينيون الأمميون (أي الـ28 بلشفياً) ويخوضونه ضد أفكار ونشاطات ماو المعادية للينينية والاشتراكية وذات الصبغة البرجوازية والنزعة القومية الضيقة" (35).
لقد هيمن الصراع بين جناحي ماو و وانغ مينغ على التاريخ السياسي للـ ح.ش.ص. خلال فترة الثلاثينات والأربعينات. وتشكلت الماويّة في إطار هذا الصراع الداخلي. كما كانت قد تشكلت في إطار حرب الأنصار التي شنت لأول مرة ضد الكومينتانغ ومن ثم ضد القوات اليابانية.
كان ماو يبحث الآن بوضوح تام عن طريق "صيني". وقد فعل ذلك في سياق وطني عالمي جديد: ميزان القوى نفسه غير الملائم الناتج عن هزائم 1927 إلى 1934 في الصين، الثقل الهائل للبيروقراطية السوفيتية في الحركة الشيوعية العالمية، وأخيراً، تسارع السير باتجاه الحرب العالمية الثانية. هذا الظرف التاريخي الخاص كان من شأنه أن يترك أثراً عميقاً في الماويّة.
هوامش الفصل الثالث:
1-شرام. مقدمة "القادة السياسيون..ص 29.
2-غريغور بنتون: "اثنان من القادة.." ص 326-327.
3-وانغ فاكسي: "شن دوكسيو، أبو الشيوعية الصينية" ص 161-162.
4-حول الشعبويين الروس والتقاليد الماركسية انظر المقال الممتع لتيودور شانين: "ماركس في أواخر أيامه: آلهة ومهنيون" في : ماركس في أواخر أيامه والطريق الروسي- ماركس وأطراف الرأسمالية. ت. شانين. لندن. ملبورن وهينلي. 1983.
5-موريس مايسنر: لي تاشاو وأصول الماركسية الصينية. نيويورك. آثينيوم 1979 ص 262. من أجل نقد أطروحة مايسنر حول خط لي- ماو، انظر مقال إيف شيفرييه عن لي دازهاو في "القاموس.." ص 311-318.
6-أورده إدغار سنو: "نجمة حمراء فوق الصين". رسالة إلى شن دوكسيو، 1 شباط 1921، في كارير هيلين دنكوس و شرآم، ص 293-296. فيما بعد أصبح كاي هسن أكثر أرثوذكسية. لا يسع المرء إلا مقارنة هذا النص لـ كاي هس مع السياسة التي اتبعها ماو في الخمسينات. خلال فترة القفزة الكبرى إلى الأمام، كان الهدف تخطي بريطانيا الكبرى-هذه المرة، في حقل الإنتاج-في خمسين سنة. الأكثر من ذلك، أن ماو انقلب نحو الموضوعة الشعبوية عن "لصفحة البيضاء": الفقر شيء جيد ، لأنه يدفع المرء إلى الثورة والوطني المتخلف شيء جيد لأنه مثل صفحة بيضاء يستطيع المرء أن يسطر عليها مشروعه لمجتمع جديد غير معاق.
8-حول هذا الموضوع انظر بشكل خاص : بيري أندرسون "أوروبا الشرقية في ذرّيات الدولة الاستبدادية، لندن :1967.
9-إن الادعاء أن ترو تسكي حاول أن يفرض نموذجاً أوروبياً غربياً للثورة على روسيا سوف يكون قراءة مغلوطة تماماً للشهادة. حين طور مفهومه عن التطور غير المتساوي والمركب في الفترة الإمبريالية وكذلك نظريته عن الثورة الدائمة في 1905.
كان ذلك بالضبط إظهاراً لأصالة الصيرورة الروسية مقارنة مع أوروبا الغربية. بليخانوف و المناشفة هم الذين اعتقدوا أن في مقدور روسيا أن تتبع طريق التطور نفسه مثل باقي أوروبا، بل ربما بخطى أسرع. حول هذا الموضوع انظر بشكل خاص: ميخائيل لوي: سياسة التطور غير المتساوي والمركب، نظرية الثورة الدائمة. لندن فرسو. 1981.
10-كان سلطان عالييف شيوعياً تترياً. أصبح ، لفترة من الوقت، مساعداً لستالين في مفوضية الأقليات في الاتحاد السوفيتي ولكنه سرعان ما تعرض إلى الشجب من جانب الأخير وطرد من الـ ح.ش. (ب) في 1923. و مما يبعث على الأسف أنه ترك كتابات قليلة. كان سلطان عالييف واحداً من أولئك الذين دعوا الكومنتيرن إلى إبداء اهتمامها بالشرق ، و ليس فقط بالغرب، كما يشهد أحد مقالاته في 1919على ذلك: "الثورة الاشتراكية في الشرق".. ثمة مقاطع منه مترجمة في كارير دنكوس و شرآم ص 239-242. طور موضوعة "القومية البروليتارية" فيما يتعلق بالشرق وأكد على الحاجة إلى دمج التراث الثقافي الإسلامي بالشيوعية.
11- أرسل لينين سافاروف إلى تركستان في عام 1919 للتحقيق في النزاعات التي نشبت بين المسلمين والروس، شيوعيين وغير شيوعيين. حلل سافاروف الطبيعة "الاستعمارية" للثورة الروسية في هذه المنطقة من آسيا الوسطى وعملية الثورة في الشرق. في 1922، نشر كتاباً في الاتحاد السوفيتي يلخص فيه نتائج تجربته. هناك مقطع منه منشور تحت عنوان "الشرق والشيوعية"..في كارير دنكوس و شرآم ص 242-245.
12- رولاند ليو:"تشكل.." ص 229-230.
13-انظر أرنست ماندل "مكانة الماركسية في التاريخ". في " دفاتر البحث والدراسة" العدد1. باريس. المعهد الأممي للبحث والتجريبية. 1986.
14-كارل ماركس: "جواب إلى فيرا زاسوليتش" 8 آذار 1881 في ت.شانين "ماركس في آخر.." ص 136.
15-كارل ماركس: "رسالة إلى أوتيشيستفيني زابيسكي" (مترجمة من الأصل الفرنسي: "جواب إلى ميخايلوفسكي") تشرين الثاني 1877. في ت.شانين "ماركس في أواخر حياته.."ص 136.
16-في أواخر حياته ، كتب انجلز عدة رسائل يحارب فيها التفسير الاقتصاد وي والميكانيكي الضيق للحتمية التاريخية. وفي هذا المجال فإن لبحوث انجلز نبرة تنطوي على انتقاد للذات: "يقع علينا ماركس وأنا، جزئياً اللوم لواقع أن الجيل الجديد يشدد أحياناً على الجانب الاقتصادي أكثر مما ينبغي. لقد ترتب علينا التشديد على المبدأ الأساسي في وجه خصومنا ، الذين كانوا ينكرونه، ولم يكن يتوفر لدينا دائماً الوقت الكافي والمكان والفرصة لإعطاء العناصر الأخرى ما تستحق من الاهتمام. ولكن حين صار الأمر يتعلق بتقديم فصل من التاريخ، أي ، القيام بتطبيق عملي، اختلف الأمر، ولم يعد مسموحاً ارتكاب أي خطأ. ومع هذا، فمن سوء الحظ أن يحدث أحياناً كثيرة أن يفكر الناس أنهم قد استوعبوا جيداً نظرية جديدة وأن في مستطاعهم تطبيقها دون أن يرف لهم جفن بمجرد إلمامهم بمبادئها الأساسية، وحتى ذلك دون الكثير من الصحة . و إني لا أستطيع أن استثني الكثير من "الماركسيين" الأكثر حداثة من هذا الانتقاد، ذلك أن أكثر أنواع سقط المتاع بعثاً على الدهشة قد أنتج هنا، أيضاً.."من انجلز إلى بلوخ في كونيغسبرغ" 21 أيلول 1890. في كارل ماركس وفريدريك انجلز. أعمال مختارة. المجلد الثالث. موسكو دار التقدم 1977.
17-دافيد ريازانوف: "اكتشاف المسودات" في شانين: "ماركس في أواخر .." ص 127-133. كان ريازانوف حينذاك مدير معهد ماركس- انجلز- لينين في موسكو. في 1924 نشر أربع مسودات من رسالة ماركس إلى فيرا زاسوليتش حيث كان قد اكتشفها في 1919.
18-شن دوكسيو: "على نصب فون كيتلر" مقتطفات من مقال مكتوب عام 1918. في كارير دنكوس و شرآم ص 289-291.
19-شن دوكسيو: "فكرتان خاطئتان بصدد البوكسر". مقتطفات من مقال مكتوب عام 1924. المصدر السابق ص 310-312.
20-لي دازهاو: "المسألة العرقية". مقتطفات من ملاحظات دونها أحد الناشرين خلال محاضرة للي دازهاو ألقاها في النادي السياسي لطلبة بكين في 13 أيار 1924. المصدر السابق ص 305. في تلك المحاضرة أعلن لي دازهاو أن الحرب الطبقية سوف تندمج على مستوى عالمي.
21-حول هذا الموضوع انظر ت.شانين: ماركس في أواخر حياته والطريق الروسي".
ماريان ساور: "نمط الإنتاج الآسيوي والماركسية المعاصرة" في س.أفينيريا.
"مقدمة" في نصوص مختارة لماركس، انجلز ، لينين، حول المجتمعات ما قبل الرأسمالية. باريس. المنشورات الاشتراكية. 1978. أرنست ماندل :"تشكل الفكر الاقتصادي لكارل ماركس. ماركس. ماسبيرو. 1982. إريك هوبسباوم: "مقدمة" في "كارل ماركس والتشكيلات الاقتصادية الـ ما قبل رأسمالية". لندن. لوزان و وشارت 1964.
22-شن دوكسيو: "رسالة إلى جميع أعضاء الـ ح.ش.ص" 10 كانون الأول 1929. في برويه: المسألة الصينية.. ص 441-465.
23-المصدر السابق ص 441.
24-المصدر السابق ص 443.
25-المصدر السابق ص 445.
26-المصدر السابق ص 451.
27-غريغور بنيتون: "الشيوعية الصينية والديمقراطية قبل 1949" مجلة اليسار الجديد، العدد 148-1984.
28-ستيوارت شرام: ماو تسي تونغ ص 146-150.
29-والأمر الأكثر سخرية هو اللقب الذي أسبغه عليهم ماو: "الـ28 بلشفياً ونصف" وتلك كانت إشارة إلى واقع أن هذا "القائد العظيم" قد استطاع أن يجند فقط شخصاً في الاتحاد السوفيتي، على الرغم من المساعدة التي أبداها بافل ميف وبالرغم من وجود مئات الطلاب الصينيين المقيمين في روسيا. فيما يتعلق بالتطور السياسي للمستعمرة الصينية في الاتحاد السوفيتي، انظر وانغ فانغسي: الثوري الصيني.
30-وانغ فانغسي. المصدر السابق ص 153.
31-انظر بنيامين يانغ: "مؤتمر زويني كخطوة أولى في صعود ماو إلى السلطة". مسح للدراسات التاريخية للـ ح.ش.ص. الصين الفصلية العدد 106-1986 ص 254.
32-تعرض شن دوكسيو إلى تشويه السمعة من جانب القيادة الماويّة وبقي المؤرخون الصينيون ، لفترة طويلة ، إما صامتين بصدد دوره أو وصموه بالخيانة. وكنتيجة لذلك أصبح لي دازهاو، الذي تعرض للقمع في 1927، الشخص الوحيد المعترف به رسمياً بوصفه مؤسس الـ ح.ش.ص. في الآونة الأخيرة فقط أعيد الاعتبار تاريخياً وسياسياً لشن دوكسيو في الصين.
33-ورد في إدغار سنو، مرجع سابق ص 190.
34-وانغ فانغسي: "في ذكرى صراع ماو تسي تونغ ضد الخط الانتهازي لـ وانغ مينغ. عمل منشور بعد الوفاة من قبل شو شونغ لي. الترجمة الإنكليزية وردت في ب. ب. سي .(هيئة الإذاعة البريطانية)
17 كانون الثاني 1980.
35- وانغ مينغ: اللينينية والثورة الصينية" ص 9-10.


تنضيد واصل العلي
سوريا- مدينة حمص