فائض القيمة كمثال


يعقوب ابراهامي
2012 / 3 / 31 - 19:19     

"العاصفة في فنجان" التي هبت في الآونة الأخيرة على صفحات "الحوار المتمدن"، بشأن نظرية "فائض القيمة"، لم تكشف فقط عن الجهل التام لأبسط مبادئ الإقتصاد السياسي الماركسي لدى "محترفي الماركسية" و"حفاري القبور"، بل كشفت أيضاً (وهذا أهم بكثير) عن الموقف غير العقلاني والمتحجر، من النصوص الماركسية، لدى "مفكرين ماركسيين" من بقايا العهد الستاليني، أشبه بموقف رجل الدين من كتابه المقدس.
لم يخطر ببال أحدٍ من المتحاورين (عدا أفراد "الشلة" طبعاً) أن يفصل بين فهم النظرية كما صاغها كارل ماركس وبين الدفاع عنها أو نقدها. لم يخطر ببال أحد (عدا كما قلنا أفراد "الشلة") أنه لكي ندافع عن النظرية، أو ننقدها، يجب أولاً أن نفهمها.
المدافعون الحمقى عن النظرية (بخلاف أفراد "الشلة") انفسموا إلى قسمين: قسم لم يفهم نظرية فائض القيمة (إمّا لصعوبتها قياساً بمؤهلاته الفكرية أو لأنه لا يجيد اللغة الأنكيزية) ومع ذلك دافع عنها دفاع المستميت، ومنهم من فهمها (معروف في كل العالم ان السجون وفرت للشيوعيين الوقت الكافي لقراءة كتاب "الرأسمال") ولكنه نسى أمراً تافهاً هو أن هذه النظرية صيغت بصورتها النهائية قبل أكثر من 140 عاماً، ومنذ ذلك الحين غيرت الرأسمالية صورتها: عامل النسيج لا يحيك القطن بالنول اليدوي (كما فعل أيام كارل ماركس) بل يعطي الأوامر ل"الكومبيوتر"، و"فائض القيمة" لا يذهب الى جيب "رأسمالي جشع" بل إلى حاملي الأسهم الذين قد يكون بعضهم عمالاً في نفس المعمل (ناهيك طبعاً عن البرجوازية الوضيعة).

عندما يكتب فؤاد النمري: "إن كارل ماركس لا يمكن أن يقول ان قيمة سلعة قوة العمل تختلف اختلافا كبيرا عن القيمة التي تخلقها عند استعمالها" - ماذا سيقول عندما أثبت له أن هذا بالضبط هو ما قاله كارل ماركس؟ هل سيقول أن كارل ماركس أخطأ (وهذا ما تقتضيه منه النزاهة الفكرية والشجاعة الأدبية، وهذا ما كنت أنا أفعله لو كنت في مكانه وكنت مقتنعاً بما أكتب) أم إنه سيغير رأيه لمجرد أن ماركس قال ذلك؟ هل سيقول فؤاد النمري من الآن "ان قيمة سلعة قوة العمل تختلف اختلافا كبيرا عن القيمة التي تخلقها عند استعمالها" رغم أنه قال عكس ذلك قبل لحظة؟ (أنا طبعاً أعتقد أن ما سيفعله النمري هو السكوت أي: الهرب).

في الصفحة 193 من كتاب "الرأسمال" (الطبعة الأنكليزية الصادرة عن دار النشر للغات الأجنبية في موسكو) يقول كارل ماركس: "إن قيمة قوة العمل، والقيمة التي تخلقها قوة العمل إثناء عملية العمل، هما ذاتا حجمين (Magnitude) مختلفين تماماً، وهذا الفرق بين القيمتين هو الذي يدفع الرأسمالي الى شراء قوة العمل".
ماذا تقول عن ذلك فؤاد النمري؟

(مسألة شيقة أخرى هي لماذا احتاج كارل ماركس الى 193 صفحة من الحجم الكبير لكي يصل إلى هذه النتيجة؟ ماذا كتب في 193 صفحة من الحجم الكبير؟ صديقي رعد أشار إلى ذلك عندما تساءل: " لماذا يزداد شعوري بانّ ماركس كان يتسلى وليس يتفلسف فقط عندما كتب عن فائض القيمة؟". رأيي هو أن التسلية والكتابة والتفلسف شكلت عند كارل ماركس نسيجاً واحداً. وقد كان هناك من قال إن ماركس هو اسلوب الكتابة.
أنظروا كيف يشرح كارل ماركس الفرق بين "القيمة" و"السعر" (وأنا أقتبس من الذاكرة): "هناك من يعرضون ضميرهم وشرفهم للبيع بسعر معروف رغم أن ضميرهم وشرفهم ليس لهم قيمة".)

أما "حفار القبور" (وتبعه بعد ذلك فؤاد النمري) فقد اكتشف طريقة جديدة لاختبار صحة، أوعدم صحة، النظريات الأقتصادية.
يقول "حفار القبور" مخاطباً حسقيل قوجمان: "اتمنى ان لا اكون قد فهمتك بشكل صحيح .فهذا ما يكتبه عادة المدافعون عن النظام الراسمالي."
بتعبير آخر: أن الذي يقرر صحة أو عدم صحة نظرية اقتصادية معينة هو لا الحقائق على أرض الواقع بل إذا كان القارئ (غير الذكي) يشتم فيها دفاعاً عن النظام الرأسمالي أم لا.
فؤاد النمري لم يدع الفرصة تفلت من يديه وسارع في الهجوم: " لم ينتبه قوجمان إلى أن قوله بأن الرأسمالي يدفع للعامل القيمة الكاملة لقوة عمله فذلك يعني أنه لم تعد للعمال أية حقوق لدى الرأسمالي. وأشير إلى مداخلة رفيقنا عبد المطلب وهو أن تحليل قوجمان يأخذ به المدافعون عن النظام الرأسمالي".
قد نغفر لفؤاد النمري هذه العثرة. هو لا يجيد اللغة الأنكليزية. ولكن "حفار القبور"؟ من يريد "حفار قبورٍ" لا يجيد "حفر القبور"؟

إليكم كيف يدافع كارل ماركس عن النظام الرأسمالي في الصفحات 193-194 من كتاب "الرأسمال""
"أن بائع قوة العمل، كبائع أية سلعة أخرى، يقبض القيمة التبادلية لسلعته ويفترق من قيمتها الإستعمالية . . . أن الرأسمالي، الذي يشتري سلعة قوة العمل، يدفع مقابلها كامل قيمتها (its full value)".

"The capitalist as buyer pays for the labour-power its full value" - Karl Marx
الآن يقول "حفار القبور" مخاطباً كارل ماركس: "اتمنى ان لا اكون قد فهمتك بشكل صحيح .فهذا ما يكتبه عادة المدافعون عن النظام الراسمالي."
أمّا أنا فأسأل القراء: هل تعتقدون أن فؤاد النمري قرأ كارل ماركس؟

حسقيل قوجمان قرأ كارل ماركس. لا أعرف إذا كان قد فهم كل ماقرأه من كارل ماركس (أشك في ذلك) ولكنه بالتأكيد فهم نظرية فائض القيمة كما أراد كارل ماركس أن نفهمها.
المصيبة هي أن حسقيل قوجمان لا يرى في نظرية "فائض القيمة" فرضية اقتصادية مثل سائر الفرضيات الإقتصادية الأخرى لسائر خبراء الإقتصاد، بل يرى فيها حقيقة علمية "طبيعية" مثل الحقائق الطبيعية الأخرى: كالكسوف والخسوف، المد والجزر، دوران الأرض حول الشمس وطبعاً كالجاذبية (كيف يمكن تجاهل الجاذبية؟).
كارل ماركس، وفقاً لحسقيل قوجمان، لم يتوصل الى نظرية فائض القيمة كما توصل ريكاردو مثلاً الى نظرياته الإقتصادية، بل "اكتشف" "قانون" فائض القيمة كما اكتشف نيوتون قانون الجاذبية: "فهذا القانون ككل القوانين الاقتصادية كان صحيحا وساريا قبل ان يكتشفه كارل ماركس وكان صحيحا يوم اكتشافه وما زال صحيحا اليوم وسيبقى صحيحا ما دام في العالم اسلوب انتاج راسمالي".
هذا طبعاً يجرنا الى النقاش الأبدي: هل الماركسية علم كسائر العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والكيمياء (ومعروفة مقولة حسقيل قوجمان الخالدة: ان الماركسية لا تقل دقة عن الفيزياء) أم إن الماركسية هي مجموعة من الفرضيات والنظريات والأفكار، في التاريخ والإقتصاد والإجتماع، وفرضياتها ونظرياتها هذه ليست لها صرامة قوانين العلوم الطبيعية؟

لنأخد نظرية "فائض القيمة" كمثال. نذكر هنا باختصار وجيز الأسس التي تقوم عليها:
1. النظام الرأسمالي يقوم على تبادل السلع.
2. للسلعة قيمتان: قيمة استعمالية (تخدم غرضاً معيناً) وقيمة تبادلية (يمكن استبدالها بسلعة أخرى). عندما يتحدث ماركس عن القيمة (دون أن يذكر إذا كانت استعمالية أو تبادلية) فإنه يقصد القيمة التبادلية. هذا ما سنفعله نحن أيضاً.
3. قيمة السلعة يقررها مقدار العمل (ساعات العمل) الضرورية لإنتاجها
4. قوة العمل في النظام الرأسمالي هي سلعة. العامل يبيع هذه السلعة والرأسمالي يشتريها
5. قيمة قوة العمل (ككل سلعة أخرى) يقررها مقدار العمل (ساعات العمل) الضرورية لإنتاجها
6. لكي ينتج العامل قوة عمله يحتاج الى غذاء، كساء، مأوى، إلخ
7. ساعات العمل الضرورية لإنتاج كمية الغذاء والكساء والمأوى التي يحتاجها العامل لإعادة إنتاج قوة عمله تقرر قيمة قوة العمل (القيمة التبادلية لقوة العمل).
8. الرأسمالي يشتري من العامل قوة عمله ويدفع مقابلها كامل قيمتها (قيمتها التبادلية).
9. بعد أن يشتري الرأسمالي قوة العمل من العامل ويدفع له كامل قيمتها من "حقه" أن يستفيد منها.
10. القيمة الأستعمالية لقوة العمل هي أنها تعمل لساعات معينة. أي أنها تنتج قيمة (القيمة كما قلنا في رقم-3 هي ساعات العمل المحتزنة في السلعة)
11. القيمة التي تنتجها قوة العمل هي أكبر من قيمتها الأصلية
12. الفرق بين القيمتين هو فائض القيمة وهو مصدر ربح الرأسمالي

هذه هي الفرضيات التي تستند إليها نظرية فائض القيمة. كلها فرضيات معقولة. ولكن هل هناك بينها فرضية واحدة يمكن القول عليها أنها فرضية علمية بمفهوم العلوم الطبيعية؟
أين هو "الجهاز" الذي حلل السلعة الى قيمتين: استعمالية وتبادلية؟ من قال أن ليس هناك قيمة أخرى ثالثة؟ أين هو الميكروسكوب الذي فحص "القيمة" ورأى أنها مؤلفة من "ساعات عمل"؟ أنا مثلاً أعتقد ان هناك أموراً أخرى تقرر القيمة، لا تقل أهمية عن ساعات العمل، ورأيي هذا له نفس القيمة "العلمية" كأي رأيٍ آخر. من يقرر ما هي "الحقيقة" إن كانت هناك حقيقة؟
وحتى إذا كان هذا صحيحاً في عهد كارل ماركس هل هذا لا يزال صحيحاً في عهد الثورة المعلوماتية؟ هل هناك طريقة "علمية" للبرهنة على ذلك؟
وهل فائض القيمة يذهب كله حقاً الى جيب "الرأسمالي الجشع"؟ ربما كان هذا صحيحاً في عهد كارل ماركس. هل هو يصدق الأن في عهد دولة "الرفاه الإجتماعي"؟
ومن يحتاج الى نظرية "فائض القيمة"؟ ما هي أهميتها عدا أهميتها التاريخية والفكرية؟ وعلى أي أساس "علمي" يقول حسقيل قوجمان أنها ستبقى ما بقي النظام الرأسمالي؟ وهل هو حقاً يعتقد أن لندن الرأسمالية التي يعيش فيها الآن هي نفس لندن التي كتب فيها كارل ماركس كتاب "الرأسمال" و"اكتشف" نظرية فائض القيمة؟

"يمكننا القول بصورة عامة ان كل عناصر الفلسفة الماركسية المشتقة من هيغل ليست علمية، بمعنى أنه ليس هناك ما يدعونا الى الإفتراض بأنها صحيحة" (برتراند راسل - عن د. فؤاد تادرس أستاذ الفلسفة بكلية الملك بجامعة لندن في أحدى تعليقاته في الحوار المتمدن)