ماركس والحقوق المدنية


حميد كشكولي
2012 / 3 / 27 - 01:29     

إن ما دعاني إلى التفكير في هذه المسألة هو التصور الذي يكاد أن يكون سائدا في أن ماركس و الشيوعيين عموما يعادون الحقوق المدنية في ظل النظام البرجوازي. وقد ترسخ هذا التصور بفعل موقف الشيوعية التقليدية و الاتحاد السوفييتي السابق المناهض لكل الظواهر الاجتماعية في الغرب من فنون وموسيقى وآداب و ثقافات بغض النظر عما كانت تقدمية أو رجعية، باعتبارها " تقليعات برجوازية" " فاجتنبوها" .
وقد يجهل أو يتجاهل كثيرون أن نظرة ماركس إلى الحقوق المدنية كانت نظرة تاريخية وطبقية . وقد صيغت في كل المراحل التاريخية الحقوق على شكل رزمة قوانين ومقررات وعقود اجتماعية و أطر أخلاقية و ثقافية ، تنظم العلاقات الاجتماعية المتناسبة مع النظام السائد. ولا شك أن هذه الحقوق و العقود الاجتماعية تتعرض إلى تغيرات وتحولات وإلى نسخ و الغاء بتغير العلاقات الاجتماعية لكي تحل محلها حقوق مدنية وقوانين جديدة تتناسب مع العلاقات الاجتماعية الجديدة.

و يعتقد كثر من مخالفي ماركس وكذلك من مؤيديه أنه كان معارضا للحقوق المدنية في ظل النظام البرجوازي ، هذا الاعتقاد تعزز وترسخ عند كثيرين اثر توسع حركات حقوق الإنسان في أنحاء العالم و انتهاكها من قبل الأنظمة الدكتاتورية والقمعية ، و قيام البرجوازية في البلدان الحديثة بالتراجع عما سنته من حقوق أساسية للمواطنين ، و تدخل قوات الأمن في شؤون المواطنين الخصوصية ما أثار ردود فعل واعتراضات جماهيرية . وكذلك أصبح ذاك التصور سائدا نتيجة نمو وبروز أطياف مختلفة من المعارضة والموالاة و ناشطين في مجالات حقوق الإنسان ينتمون إلى تيارات وميول سياسية وطبقية متنوعة من يمينية ويسارية ، و من متنورين و ظلاميين ومن منتهكي الحقوق و المخالفين لها بصراحة ، إلى أن نصل إلى ضحايا و ناشطين زج بهم في غياهب السجون والمعتقلات وكذلك وصل الأمر إلى تبني شركات و مؤسسات دولية وعالمية لنشاطات حقوق الإنسان والحقوق المدنية وقد كان كل هذا مدعاة إلى القلق و التساؤلات الأساسية .

وثمة تناقضات بين آراء مؤيدي ومخالفي حقوق الإنسان ، كما هناك جدل نظري كثير بين الاشتراكيين والماركسيين فيما يخص حقوق الإنسان و موقف ماركس والماركسية منها.
تحظى الحقوق منذ ظهور الطبقات والوعي الطبقي بأهمية قصوى إلى حد التقديس وقد تم رفعها إلى منزلة إلهية في المجتمعات الطبقية حيث الأكثرية أي الطبقات والشرائح الفقيرة محرومة من حقوقها الاجتماعية،. وقد انبرى الفلاسفة و رجال الدين والدولة والسياسيون والحكماء والشعراء وعامة الناس لتفسيرها وشرحها وتأويلها ، كل وفق مصالحه و رؤاه ، لكن نادرا ما تمت معالجة هذه المسألة تاريخيا وطبقيا. وقد كان ماركس من القلائل الذين عملوا على رفع الستار الديني و الملحمي و غير التاريخي عن هذا المصطلح بعد أن قام بتحليله وفق رؤية تاريخية ومن منطلق الصراع الطبقي.

يقول ماركس إن الأفكار الحاكمة في المجتمع هي أفكار الطبقة الحاكمة. فالطبقة التي تسيطر على أدوات الإنتاج المادي في المجتمع تسيطر أيضًا ـ من خلال مؤسسات التعليم والإعلام وغيرها ـ على أدوات الإنتاج الفكري وتستطيع أن تسيد الأفكار التي تعبر عن مصالحها. ومن أهم هذه الأفكار الاعتقاد بوجود "مصالح عامة" تتجاوز صراع المصالح "الضيق" بين المستغلين والمستغلين، أو أن الدولة تلعب دورًا محايدًا بين مختلف طبقات المجتمع، أو أن السوق يمثل علاقات تبادل حرة بين أفراد متساويين، أو أن الجماهير لا تستطيع أن تدير المجتمع بشكل جماعي دون حاجة للـ"خبراء"، الخ... ففي ظل سيادة مثل هذه الأفكار في المجتمع لا تجد البرجوازية صعوبة كبيرة في التعايش مع أشكال الحكم الديمقراطية.
وتعد قضية الهيمنة هذه مدخلاً مناسبًا لفهم طبيعة الحريات الليبرالية التي توفرها الديمقراطية الحديثة. فكما نعلم لا تقتصر الديمقراطية البرجوازية على الانتخابات البرلمانية والتعددية السياسية، بل تمتد لتشمل سلسلة من الحقوق والحريات ـ حرية التعبير، والاجتماع، وتنظيم النقابات والأحزاب والجمعيات، وحقوق التظاهر والإضراب والاعتصام وغيرها. والواقع أن البرجوازية تتعامل مع هذه الحقوق والحريات بمنطق شبيه بتعاملها مع الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. فالإصلاحات الاجتماعية التي تعطيها البرجوازية للطبقة العاملة والفقراء لها طبيعة مزدوجة. فهي من جانب غالبًا ما تكون نتيجة لضغوط من أسفل تمارسها الجماهير ذاتها. ولكنها من جانب آخر تكون مفيدة للبرجوازية حيث تساهم في كسب ولاء الجماهير للرأسمالية وبالتالي تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي، فضلاً عن كونها حوافز ضرورية لرفع الإنتاجية وبالتالي زيادة قدرة الرأسمالية على تحقيق الأرباح. ولعل "دولة الرفاهية" التي تم بناؤها في الغرب في الخمسينات والستينات مثالاً جيد على ذلك حيث ساهمت في رفع الإنتاجية وتحقيق الاستقرار في الوقت ذاته. إلا أن البرجوازية تضطر بالطبع في فترات لاحقة للتراجع عن هذه الإصلاحات بسبب تفاقم أزمتها وانخفاض معدل الربح، وهو ما نراه في الغرب على مدى العقود الثلاثة الأخيرة حيث لم تعد البرجوازيات قادرة على تحمل نتائج إصلاحات الستينات.

ويقول في المسألة اليهودية: "لم تكتشف فكرة حقوق الإنسان في العالم المسيحي إلا في القرن الماضي. لا يملكها الإنسان بالولادة، بل إنها تنتزع في الكفاح ضد التقاليد التاريخية التي نشأ عليها الإنسان حتى الآن. وهكذا فحقوق الإنسان ليست منحة من الطبيعة، وليست صداق التاريخ المنصرم وإنما هي ثمن كفاح ضد صدفة الميلاد وضد الامتيازات التي أورثها التاريخ من جيل إلى جيل حتى الآن. وهي نتيجة للتعليم ولا يستطيع أن يملكها إلا من اكتسبها و استحقها."
وفي مقتطف من نقد برنامج غوتا ، يقول:
وفي الطور الأعلى من المجتمع الشيوعي، بعد إن يزول خضوع الأفراد المذل لتقسيم العمل ويزول معه التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي؛ وحين يصبح العمل، لا وسيلة للعيش وحسب، بل الحاجة الأولى للحياة أيضاً؛ وحين تتنامى القوى المنتجة مع تطور الأفراد في جميع النواحي، وحين تتدفق جميع ينابيع الثروة العامة بفيض وغزارة، –حينذاك فقط،
يصبح بالإمكان تجاوز الأفق الضيق للحق البرجوازي تجاوزاً تاماً، ويصبح بإمكان المجتمع إن يسجل على رايته: من كل حسب كفاءاته، ولكل حسب حاجاته!

إن مخالفة ماركس للقوانين والحقوق في المجتمع البرجوازي كانت مخالفة للعلاقات التي تقوم هذه القوانين والحقوق بحمايتها وصيانتها، إذ كانت هي الضامنة للاستغلال و استمرار القمع والعنف الرسميين بحق أكثرية أبناء المجتمع مشرعة بقوانين أضفيت على القدسية.

السبب الأساس لاعتراض ماركس على تلك القوانين والحقوق البرجوازية أن أكثرية المجتمع ليس لها أي دور في سنها وتدوينها. ولم يكن الكبار ملزمين بتطبيقها ، بل كان على العبيد و المحرومين إطاعتها . وقد تحقق للمواطن العادي كسب حقوقه من قبيل حق التنظيم وحق الانتخاب و الاجتماع و ابداء الرأي .. الخ بعد نضالات وعذابات و معاناة في السجون والمعتقلات و حتى التضحية بالنفس و حمل السلاح .

ولكن لا تزال الى يومنا هذا شعوب عديدة مثل بعض الشعوب العربية في الأرض لم ينالوا أي حق من هذه الحقوق التي يحلمون بها. لم يعارض ماركس الا الحقوق اللا إنسانية التي استحالت إلى قيود للجماهير الغفيرة و نقيضة لمصالحها. إنه عارض حقوقا تحولت إلى قيود وأسر للمواطن العادي و كبحت أحلامه وتطلعاته. كما اعتقد ماركس أن القانون في ظل النظام الرأسمالي جاء ليشرع ممارسة العنف المنظم الذي تمارسه الطبقة الحاكمة على العمال والمحكومين، و رأى أن هذا القانون سن لحماية المستغلين .
ومن كل هذه المعطيات يمكننا الحكم على ماركس بأنه خالف كثيرا من القوانين البرجوازية ، ولكنه كان في ذات الوقت المدافع الأمين عن الحقوق المدنية الحقيقية ، بضمنها حق مشاركة المواطن في القرار السياسي و الحكم ، وكان يدعو إلى العمل على تحقيق هذه الحقوق في المجتمع البرجوازي ، ورأي النضال في سبيلها أمرا ضروريا باعتبارها في صالح حركة الطبقة العاملة.
وقد احتج ماركس على الرقابة و تدخل البوليس في الحياة الخصوصية للمواطنين والتجسس عليهم ، كما اعلن معارضته لتحكم السلطات الحاكمة بالبريد و السفر و تقييد تحرك الناس في السفر والاقامة ... ومن هذا المنطلق يمكننا اعتبار ماركس مدافعا أمينا ومناضلا عنيدا في سبيل تحقيق الحقوق المدنية و كرامة الإنسان.
إن عدم المساواة يستمر حتى في المجتمع الاشتراكي و تستمر الحقوق البرجوازية بحاجة إلى تحقيقها ، إذ ستبقى فيمة النتاج تقاس بقوة العمل ،ى وبالتالي تظل الحقوق في هذه المرحلة أيضا مسألة ضرورية ، لكنها ستتغير مع التغيرات التي سوف تحصل اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا واخلاقيا.

وهذه حقيقة لا يرقى إليها الشك أن ماركس لم تعجبه جوانب كثيرة في الحقوق المدنية في ظل النظام البرجوازي وكان ينتقدها و يعمل ضدها مبينا كل نواقصها و دواعي مخالفته لها ، كما كان في ذات الوقت يناضل في سبيل كثير من الحقوق الاجتماعية و المدنية للإنسان.
و يجب هنا الأخذ بنظر الاعتبار أن ماركس انطلق في انتقاده لحقوق الإنسان لأنه رأى فيها مطالب محدودة وحقيرة للإنسان ، إذ أنه طالب بحقوق أخرى تتجاوزها ، وتعطي للمواطن العادي حرية أكبر ، مثل حق التدخل في القرار السياسي والاقتصادي ، وحق الانتخابات الذي كانت الأكثرية وعموم النساء محرومين منه . وقد طالب بالغاء عقوبة الاعدام و حرية الرأي و منع الرقابة على الرأي والصحافة و حرية التنقل والاقامة والسكن وعشرات من المطالب الأخرى. و لا ننسى أن مخالفة ماركس وانتقاده لحقوق الإنسان لها مفهوم تجريدي . إذ يمكن أن يتم الاعتراف رسميا بحق حرية الرأي والتعبير ، لكن يجب الانتباه إلى أنه هل بامكان الجميع الاستفادة من هذا الحق؟ ففي كثير من البلدان الحديثة من بينها أمريكا و ايطاليا وبريطانيا تمتلك الديناصورات المالية والسياسية اكبر وسائل الاعلام ، وتقوم هذه الميديا بتشكيل الرأي العام وهندسته . في وقت تكون الطبقات الدنيا تعجز عن اصدار مجلة اسبوعية بانتظام . فلا يجوز منح الانسان حق الأكل والشرب و حرمانهم من الغذاء والماء الصالح للشرب.
إن أساس انتقاد ماركس للسياسة في المجتمع البرجوازي يقوم على أن المؤسسات الاجتماعية و البنى السياسية من ضمنها الدولة ، والعائلة و الدين و المؤسسات القضائية و التنفيذية غريبة عن اكثرية الجماهير وخصوصا العمال، وأنها قد تم فرضها عليهم و تتحكم بهم. وهذه معادلة مقلوبة ، اذ بدل أن تحكم الجماهير بهذه المؤسسات ، أصبحت هذه المؤسسات هي التي تتحكم بهم .

ولا يقرأ المرء في أي مكان في كتابات ماركس أنه دعا إلى حرمان الطبقات الأخرى من الحقوق المدنية واعتبر كومونة باريس نموذجا للحكومة العمالية ، أذ على رغم وحشية البرجوازية و قمعها لحركة العمال و فرضها الرقابة على المنشورات العمالية والشيوعية ، والتشهير بالعمال و المظالم الكبيرة التي الحقتها بهم ، الا أن ثوار الكومونة لم يمنعوا المطبوعات البرجوازية و لم يقوموا بحرق صحفهم ولم يلجؤوا الى أعمال غير شريفة ولا أخلاقية ضد البرجوازية ، إذ كان البرجوازيون يصدرون جريدتهم في باريس بكل حرية.

المصادر التي تدعم هذا المقال :

الاعلان العالمي لحقوق الإنسان
المسألة اليهودية _ كارل ماركس
نقد فلسفة الحق عند هيغل- كارل ماركس
نقد برنامج غوتا- كارل ماركس
وان كل هذه المصادر متوفرة في مكتبة التمدن

وللحديث صلة


2012-03-26