الإنتاج الرأسمالي ينتج أيضًا بؤس العامل


خليل اندراوس
2012 / 3 / 25 - 17:59     


*مداخلة ثانية حول كتاب كارل ماركس "رأس المال"*


المادية التاريخية التي تعالج تطور المجتمع البشري تطور من تشكيلة اجتماعية اقتصادية إلى تشكيلة اجتماعية اقتصادية أرقى تطورا من خلال الثورات الاجتماعية هي أكبر إنجاز وانتصار فلسفي وعلمي قام به ماركس. فالمادية التاريخية الماركسية نظرية علمية متجانسة ومتناسقة ومنسجمة تبين كيف ينبثق ويتطور من شكل معين من التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية ومن جراء نمو القوى المنتجة، تشكيلة اجتماعية اقتصادية أخرى أرقى، مثلا الانتقال من العبودية إلى المجتمع الاقطاعي، ومن الاقطاعية إلى الانتقال إلى الرأسمالية، وكيف سيتم حتما وموضوعيا أيضا من جراء نمو القوى المنتجة الانتقال إلى الاشتراكية وبعد ذلك الشيوعية.
وتؤكد الماركسية بأن معرفة الإنسان ووعي الإنسان يعكسان الطبيعة الموضوعية المادية القائمة بصورة مستقلة عنه، أي المادة في طريق التطور، وأيضا تؤكد الماركسية بأن معرفة الإنسان الاجتماعية (أي مختلف الآراء والمذاهب الفلسفية والدينية والسياسية إلخ..) تعكس نظام المجتمع الاقتصادي، فكل المؤسسات السياسة تقوم كبناء فوقي على أساس اقتصادي، فمثلا الذي في عصرنا الحالي كيف تقوم كل الأشكال والمؤسسات السياسية لدول رأس المال، بدور أدوات لتعزيز سيطرة رأس المال على الطبقة العاملة لذلك تقول بأن الفكر الماركسي هو فكر علمي، فلسفته مكتملة متجانسة، فكر غير جامد ومتحيز بل جدلي يترك الأبواب مفتوحة لاستيعاب كل التطور الفكري الإنساني التقدمي ويعطي أدوات عظيمة للمعرفة.
من هذا المنطلق كم نحن بحاجة إلى فهم الأحداث الجارية في عالمنا العربي بطريقة جدلية، لأن الفكر الماركسي يتناقض ويتعارض مع التفسير المثالي الميكانيكي أو الميتافيزيقي للأحداث، لأنها غير كافية وغير مجدية ولا تتماشى مع سرعة وتطور الأحداث ومع المتغيرات الجارية بشكل عاصف في عالمنا ككل وفي العالم العربي بشكل خاص.
فقط الفهم الجدلي المادي الذي هو منتج دراسة وفهم الأحداث في مجرى تغيرها وتطورها الحقيقي، لا بل منهج يستطيع حتى أن ينظر إلى المستقبل ويرى خطوطه ومجرياته العرضية العامة. فمثلا في عالمنا المعاصر مع تطور الرأسمالية، نحو تمركز وتراكم رأس المال، يتردى وضع الطبقة العاملة، وخاصة في الدول التي تقع خارج إطار الدول الغربية والولايات المتحدة وحتى ولو تحسنت بعض المؤشرات. فإذا تمكنت الطبقة العاملة من خلال نضال سياسي اجتماعي طبقي عنيف تحقيق وإحراز بعض الزيادة في الأجور، يجري تغطية ذلك على حساب زيادة شدة العمل ونمو البطالة وارتفاع الضرائب والأسعار وتصبح آلية التضخم المالي إحدى أهم الدوافع لإعادة توزيع الدخل الوطني لصالح طبقة رأس المال، الطبقة المستغلة. وتتردى أوضاع الطبقة العاملة خاصة في فترات الأزمات الاقتصادية المتكررة والتي تعتبر ظاهرة ملازمة للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية.
فالتردي النسبي والمطلق للطبقة العاملة ظاهرة حتمية في العصر الامبريالي وعولمته المتوحشة خاصة في البلدان ضعيفة النمو والتطور كدول أفريقيا وغالبية دول آسيا وأكبر مثال على ذلك مصر حيث يتعرض عشرات لا بل مئات الملايين من الناس للاستغلال من قبل الاحتكارات العابرة للقارات البرجوازية المحلية، ويتجلى هذا حتى في أغنى بلد رأسمالي، أي الولايات المتحدة. وفي الدول الفقيرة تسيطر الطبقة الرأسمالية المحلية والبرجوازية الكومبرادوية (الوسيطة) التي تمثل أنظمة الحكم الاستبدادية، وأكبر مثل على ذلك الدول العربية فأيا كانت الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي استثارت الانتفاضات الشعبية الواسعة في الدول العربية، وأيا كان الشكل الذي تجلت به هذه الأسباب، دينا أو طبقيا أو قوميا، فلا ريب بأن الدفعة والدوافع التي أدت إلى ذلك أنظمة الاستبداد البرجوازية الكومبرادوية الفاسدة في العالم العربي. فيكف يمكن للشعب الفقير المضطهد والمهمش أن يحتمل أكثر من نصف قرن استمرار هيمنة هذه الأنظمة. فلا بد للمظالم المتراكمة في كل مكان من العالم العربي من ان تؤدي وتستتبع انتقام وانتفاضة الشعوب.

*خصائص البروليتاريا الأوروبية*
فلاسفة الاقتصاد من ستيوارت مل وغولدمين سميث، إلى أنصار السوق الحرة المتوحشة وممثلي الاحتكارات العابرة للقارات يدفعون بملايين العمال نحو البطالة والفقر والجوع، وأكبر مثل على ذلك العالم العربي وبعد ذلك تحدث المفاجأة، غير المتوقعة لدى منظري السوق الحرة، لا بل المتوحشة للرأسمال، عندما تحدث الانتفاضات الشعبية للفقراء ضد فساد نظامهم الرأسمالي العبودي.
في خريف عام 1843 وصل إلى باريس الثالوث المشرف على الحوليات الألمانية-الفرنسية، كارل ماركس والصحفي ارنولد روغه، والشاعر جورج هيرويغ- وأنشأوا "تعاونية اشتراكية أو كومونة غي روفانو، مستلهمين الأفكار اليوتوبية التي عرضها الاشتراكي الفرنسي شارل فودييه. ولكن تجربة العيش المشترك كانت قصيرة الأجل، وكذلك تجربة المجلة ذاتها؛ فلم يصدر منها سوى عدد واحد حتى دبَّ الخلاف بين المحررين وتفرقوا، وتلقى ماركس بعدئذٍ عرضا للكتابة في VORWARTS (إلى الأمام) وهي صحيفة شيوعية يصدرها مثقفون ألمان مرتين في الأسبوع وقد عبَّر فيها ماركس لأول مرة عن قناعته بأن الوعي الطبقي هو سماد الثورة.
كما كتب ماركس في تلك الصحيفة: "إن البروليتاريا الألمانية هي منظر البلوريتاريا الأوروبية، كما أن البلوريتاريا الأنجليزية هي اقتصاديتها، والبلوريتاريا الفرنسية هي سياستها". وكان قد سبق لماركس أن تضلع من الفلسفة الألمانية والسياسة الفرنسية، فانكب الآن على تثقيف نفسه بالاقتصاد الانجليزي، شاقا طريقه على نحو منهجي عبر أعمال آدم سميث وديفيد ريكاردو وجيمس مل، وقد كتب الكثير من التعليقات على هذه الأعمال. وكانت هذه التعليقات والملاحظات، التي اشتهرت لاحقا باسم مخطوطات باريس نوعا من المسودة الباكرة لما سيغدو في النهاية كتاب "رأس المال".
في تلك المخطوطة الأولى كتب ماركس يقول: "تتحدد الأجور من خلال الصراع الضاري بين الرأسمالي والعمال، والرأسمالي يربح حتما. فالرأسمالي يمكنه أن يعيش من دون العامل مدة أطول مما يمكن للعامل أن يعيش من دونه". وإذا لم يكن رأس المال سوى ثمار عمل العامل المتراكمة، فإن رساميل بلدٍ ما ومداخيله لا تتنامى إلا حين يؤخذ من العامل المزيد من منتجاته، وحين يواجهه عملهُ على نحو متزايد كملكية غريبة، وتتركَّز وسائل وجوده ونشاطه على نحو متزايد في يدي الرأسمالي".
وفي هذه المخطوطة يقول ماركس بأن مصير العامل في المجتمع الرأسمالي هو "المشقة" "واختزاله إلى آلة وعبوديته لرأس المال". ويقول ماركس في هذه المخطوطة "أما عمله (أي عمل العامل ) فيغدو كينونة خارجية توجد خارجه منفصلة وغريبة عنه، وتأخذ بمواجهته كقوة مستقلة، ذلك ان الحياة التي وهبها للموضوع تواجهه كقوة معادية وغريبة"، ويستمد ماركس هذه الصورة من واحد من أحب الكتب إليه، وهو فرانكنشتين، حكاية المسخ الذي ينقلب على خالقه. ومع أن بعض الباحثين يرون أن هنالك قطيعة جذرية بين فكر ماركس الشاب وماركس الناضج، إلا أن كلا من التحاليل وأسلوب (التعبير العميق والواضح والحاد الذي يتخذه هذا التحليل هما من عمل الرجل ذاته الذي رأى في رأس المال، بعد أكثر من عشرين عاما، في كتاب "رأس المال"، بأن الوسائل التي ترفع الرأسمالية الإنتاجية من خلالها تشوّه الإنسان وتحوله إلى كِسرة إنسان وتنحط به إلى مستوى آلة، وتدمر المحتوى الفعلي لعمله بتحويله إلى تعذيب وتسلب منه الطاقات الفكرية لعملية العمل. "وتحول عمره إلى زمن من العمل، وتسحق زوجته وطفله بقوة رأس المال الماحقة".
في آب عام 1844 أمضى ماركس وإنجلز معا عشرة أيام، وحول هذا يكتب إنجلز: "حين زرت ماركس في باريس صيف عام 1844 بات اتفاقنا الكامل في جميع الميادين النظرية واضحا، وعملنا المشترك يعود في التاريخ إلى تلك الفترة". ولقد تمم كلٌّ منهما الآخر على النحو الأكمل، ماركس بما لديه من ثراء المعرفة، وإنجلز بما لديه من معرفة بالثروة. على الرغم من امتيازات إنجلز الذي حظي بوظيفة كاملة في الوقت الذي كتب أيضا عددا هائلا من الكتب، والذي كان يجد الوقت للتمتع بلذائذ الحياة البرجوازية الراقية، حيث الجياد في اسطبلاته والكثير من الشراب في أقنيته، أدرك إنجلز منذ البداية بأنّه لن يكون قطّ ذلك الشريك المسيطر. وقبلَ دون تذمر أو غيرة، أن تكون مهمته تقديم العون الفكري والمادي الذي جعل عمل ماركس ممكنا، وقد كتب إنجلز: "لا يسعني أن أفهم كيف يمكن لأحد أن يجسد العبقرية، فهي شيء بالغ الخصوصية لدرجة أننا نعلم منذ البداية، نحن الذين لا نمتلكها. أن من المتعذر إحرازها، أما من يجسد شيئا لهذا فلا بد أن يكون ضيق التفكير إلى حدٍّ مخيف".
كتب ماركس واصفا وضعه المادي الصعب والفقر الذي كان من نصيبه بنوع من الفكاهة المريرة قائلا: "لا أحسب أن أحدا قطّ قد كتب عن "النقود" وجيبه خاوية إلى هذا الحد". في كتاب كارل ماركس الذي وضعه بعد قراءة هيغل وكتاباته الصحفية في الجريدة الرينانية والذي دُعي "مساهمة في فقد الاقتصاد السياسي" كتب يقول، وهذا استنتاج يتسم بأهمية خاصة: بأن "تشريح المجتمع المدني ينبغي أن نجده في الاقتصاد السياسي". أما كتاب "رأس المال" لماركس فقد صدر المجلد الأول منه عام 1867 أما المجلد الثاني فقد صدر عام 1885 تلاه مجلد ثالث جمعه أيضا إنجلز في عام 1894، أما ما يُدعى في العادة ب"المجلد الرابع" "نظريات القيمة الزائدة" فقد حققه كارل كاوتسكي عام 1905. بعد صدور المجلد الأول من "رأس المال" في عام 1867، كانت هناك مؤامرة الصمت التي حسبت البرجوازية أن تقتل بواسطتها في المهد الفكر والنظرية الماركسية. ولكن ماركس وإنجلز استطاعا أن يحبطا هذه المؤامرة. وكان قد سبق للبرجوازية أن ردت بمؤامرة حقيقية من الصمت على ظهور مؤلف ماركس "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" في عام 1859. وقد بذل أصدقاء ماركس وفي المقام الأول منهم إنجلز جهودا كبيرة جدا في إحباط هذه الخطة.

*ما هي قوة العمل*
في كتاب "رأس المال" نجد بحثا علميا عميقا وواسع الاطلاع في كل مجمل العلاقات بين الرأسمال والعمل في صلته بكل علم الاقتصاد، ويضع نصب عينيه هدفا نهائيا قوامه "كشف القانون الاقتصادي لحركة المجتمع المعاصر". ويخلص ماركس إلى القول على أساس بحوث لا ريب في نزاهتها بأنّه يجب القضاء على كل "أسلوب الإنتاج الرأسمالي". يبدأ ماركس في المجلد الأول لكتاب "رأس المال" بعرض العلاقة بين البضاعة والنقد، ثم ينتقل إلى الرأسمال، وهنا نقترب في الحال من النقطة المركزية في كل البحث. ما هو الرأسمال؟ ويقول: "إنّه النقد الذي يتحول إلى بضاعة لكي يتحول من جديد من بضاعة إلى مبلغ من النقد أكبر من المبلغ الأول. ويأتي ماركس بالمثال التالي ويقول: "فإني اذ أشتري القطن بـ 100 تالر وأبيعه بـ 110 تالرات، إنما أثبت الـ 100 تالر هذه خاصتي كرأسمال، كقيمة ذاتية النمو. ومن هنا ينهض سؤال: من أين تؤخذ هذه التالرات الـ 10 التي أكسبها في هذه الحال، كيف يحدث ان يتحول 100 تالر عن طريق تبادل بسيط ثنائي إلى 110 تالرات! ". ويفسر ماركس هذه الظاهرة على النحو التالي: "لا يمكن فك هذا اللغز إلا إذا وجدنا في السوق بضاعة من نوع خاص تماما، بضاعة تتلخص قيمتها الاستعمالية أو قيمتها الاستهلاكية في خلق قيمة تبادلية. هذه البضاعة موجودة، إنها قوة العمل. فإن الرأسمالي يشتري في السوق قوة العمل ويجبرها على العمل من أجله لكي يبع منتجها. ولهذا يجب علينا قبل كل شيء أن ندرس قوة العمل".
ما هي قوة العمل؟ إنها بموجب قانون معروف، قيمة وسائل العيش الضرورية لكي يتمكن العامل من الإبقاء على وجوده ويواصل نوعه وفقا للمستوى المتكون تاريخيا في البلد المعني. ونحن نفترض بأن العامل يحصل على القيمة الكاملة لقوة عمله. ثم اننا نفترض أن هذه القيمة تتجسد في ست ساعات عمل في اليوم، أي نصف يوم عمل، اما الرأسمالي فإنّه اشترى قوة العمل ليوم العمل بكامله، ويجبر العامل على العمل 12 ساعة أو أكثر، وعليه يمتلك الرأسمالي في حال عمل من 12 ساعة، منتج 6 ساعات من عمل العامل دون أن يدفع عنه أي مقابل. ومن هذا يستخلص ماركس الاستنتاج التالي: "إن كل قيمة زائدة أيا كان القسم المأخوذ منها- سواء ربح الرأسمالي، ام الريع العقاري أم الضرائب وإلخ... إنما هي عمل غير مدفوع. ومصلحة الصناعي في أن يبتز كل يوم أكبركمية من العمل غير المدفوع، ومصلحة العامل في العكس، وينشب النضال حول مدة يوم العمل".
وهنا لا نستطيع أن نسهب في عرض البحث بصدد القيمة الزائدة ولكن كما يبين ماركس في العديد من الاستشهادات، بأن الأجرة أقل من كامل منتج العمل. وينتهي المجلد الأول لكتاب "رأس المال" ببحث عن تراكم الرأسمال. واروع ما طرحه ماركس في هذا المجال هو البرهان المقنع على أن تراكم السكان العاملين الفائضين يجري إلى جانب تمركز وتراكم الرأسمال، وعلى أن هاتين العمليتين تجعلان في آخر المطاف الانقلاب الاجتماعي ضرورية من جهة وممكنا من جهة أخرى.
وكما كتب إنجلز: "ولنضف أيضا أن الكتاب باستثناء بعض الأشياء الديالكتيكية الصعبة في الصفحات الـ 40 الأولى- مكتوب، رغم علميته الدقيقة، بلغة مفهومة تماما وحتى ممتعة، بفضل أسلوب المؤلف التهكمي الذي لا يرحم أحدا". وكتب إنجلز يقول: "منذ ان تواجد الرأسماليون والعمال على الأرض، لم يظهر كتاب يتسم بمثل هذه الأهمية بالنسبة للعامل كالكتاب الموضوع أمامنا (أي كتاب رأس المال). فإن العلاقة بين الرأسمال والعمل- أي ذلك المحور الذي يدور حوله كل نظامنا الاجتماعي المعاصر- مدروسة هنا للمرة الأولى بأسلوب علمي، وكذلك بتعليل وحدة لم يكونا إلا بمقدور الألماني (المقصود هنا ماركس)، ومهما كانت مؤلفات أوين وسان سيمون وفوريه لا تزال قيمة، فإن الألماني وحده توفق وبلغ تلك الذُرى التي يبدو منها بوضوح وجلاء كل ميدان العلاقات الاجتماعية المعاصرة، مثلما يتكشف أمام المتفرج الواقف على أرفع القمم المنظر الجبلي المنبسط إلى أسفل".
وكما جاء في كتاب رأس المال، "في ظل العلاقات الاجتماعية الراهنة يجد الرأسمالي في السوق البضائع، بضاعة تملك خاصة في يده فريدة قوامها ان استهلاكها هو مصدر قيمة جديدة، هو خلق قيمة جديدة، وهذه البضاعة هي قوة العمل. ويطرح السؤال، ما هي قوة العمل؟ إن قيمة البضاعة، كل بضاعة تقاس بالعمل الضروري لإنتاجها. وقوة العمل توجد في شخص العامل الحي الذي يحتاج إلى كمية معينة من وسائل العيش سواء لنفسه أم لإعالة عائلته التي تؤمِّن استمرار وجود قوة العمل بعد موته أيضا". وعليه يشكل وقت العمل الضروري لإنتاج وسائل العيش هذه قيمة قوة العمل. إن الرأسمالي يدفع مقابلها أسبوعيا، ويشتري بالتالي الحق في الإفادة من عمل العامل الأسبوعي. وحتى هذه النقطة سيتعين على السادة الاقتصاديين أن يوافقوا معنا بالإجمال في مسألة قيمة العمل. وها هو الرأسمالي يعهد إلى عامله بعمل في خلال وقت معين، ينفق العامل كمية العمل المتمثلة في أجرته الأسبوعية. وإذا افترضنا أن أجرة العمال الأسبوعية تمثل ثلاثة أيام عمل، فإنه إذا ما بدأ العمل يوم الاثنين، يعوض على الرأسمالي في مساء الاربعاء، كل قيمة الأجرة المدفوعة. ولكن هل يكف عن العمل بعد هذا؟ كلا أبدا. فإن الرأسمالي قد اشترى عمله الأسبوعي، ويجب على العامل أن يعمل أيضا في الأيام الثلاثة الباقية من الأسبوع.

*لمصلحة المجتمع بأسره*
إن هذا العمل الزائد الذي يبذله العامل، العمل علاوة على الوقت الضروري لأجل التعويض من أجرته، هو مصدر القيمة الزائدة، مصدر الربح مصدر تعاظم الرأسمال وتعاظمه على الدوام بصورة أسرع. "إن قيمة قوة العمل يدفع عنها مقابل، ولكن هذه القيمة أقل بكثير من التي يستطيع الرأسمالي ابتزازها من قوة العمل، وهذا الفرق، اي العمل غير المدفوع هو الذي يشكل نصيب الرأسمالي أو بالأصح نصيب طبقة الرأسماليين. وعلى حساب هذا العمل غير المدفوع على وجه الضبط يعيش على العموم جميع أعضاء المجتمع من غير الكادحين، ومنه تدفع الضرائب الحكومية والمحلية التي تقع على عاتق طبقة الرأسماليين، والريع العقاري لمالكي الأراضي إلخ.. وعليه يرتكز كل النظام الاجتماعي القائم (النظام الرأسمالي).
"وما دام قسم من المجتمع يملك احتكار وسائل الإنتاج، فإنه يتعين على العامل، الحر أو غير الحر، أن يجمع إلى وقت العمل الضروري لأجل إعالته بالذات، وقت العمل الزائد لكي ينتج وسائل العيش لأجل مالك وسائل الإنتاج". ماركس- رأس المال ص 202.
فكل عمل يقوم به العامل الذي يستأجره الرأسمالي يقوم بعمل مزدوج. ففي سياق قسم من وقت عمله، يعوض الأجرة التي يقدمها لهُ الرأسمالي. وهذا القسم من العمل يسميه ماركس "العمل الضروري". لكنه يتعين عليه بعد هذا أن يواصل العمل، فينتج في سياق هذا الوقت لأجل الرأسمالي القيمة الزائدة التي تشكل جزءًا كبيرًا منها الربح، وهذا القسم من العمل يسمى العمل الزائد.
في الفصل الأخير عندما يتحدث ماركس عن تراكم الرأسمال يؤكد بأن أسلوب الإنتاج الرأسمالي أي أسلوب الإنتاج الذي يفترض وجود الرأسماليين في جانب والعمال الأجراء في جانب آخر، لا ينتج الرأسمال من جديد وعلى الدوام وحسب، بل ينتج كذلك في الوقت نفسه والمرة تلو المرة بؤس العامل وعليه يتأمن وضع يوجد فيه دائما في قطب الرأسماليين الذين هم مالكو جميع وسائل العيش وجميع المواد الخام، وجميع أدوات العمل، وفي قطب آخر الجمهور الضخم من العمال المضطرين إلى بيع قوة عملهم من هؤلاء الرأسماليين مقابل كمية من وسائل العيش لا تكفي في أفضل الأحوال إلا للإبقاء على قدرة العُمال على العَمل ولتربية جيل جديد من البروليتاريين القادرين على العمل. ولكن الرأسمال لا يتجدد إنتاجه وحسب بل يتزايد ويتنامى باستمرار، وتتنامى في الوقت نفسه سلطته على طبقة العمال المحرومة من الملكية. وبما ان إنتاج الرأسمال يتجدد بمقادير أكبر فأكبر أبدا، فإن أسلوب الإنتاج الرأسمالي المعاصر يحدد كذلك بمقادير أكبر فأكبر أبدا، بأعداد متعاظمة ابدا، إنتاج طبقة العمال المحرومين من الملكية.
"إن تراكم الرأسمال يجدد إنتاج العلاقة الرأسمالية على نطاق متسع المزيد من الرأسماليين أو المزيد من رأسماليين أكبر في قطب، المزيد من العمال الأجراء في قطب آخر... وهذا يعني تراكم الرأسمال تزايد البروليتاريا". (ص 600 من رأس المال).
"بقدر ما تتزايد الثورة الاجتماعية ... بقدر ما يتزايد فيض السكان النسبي أو الجيش الاحتياطي الصناعي. ولكن بقدر ما يزداد هذا الجيش الاحتياطي بالمقارنة مع الجيش العامل والنشيط (المشتغل بانتظام) بقدر ما يزداد فيض السكان الدائم، أو تلك الفئات من العمال الذين بؤسهم متناسب عكسا مع عذابات عملهم. وأخيرا بقدر ما تزداد الفئات الفقيرة جدا من الطبقة العاملة ويزداد الجيش الاحتياطي، بقدر ما يشتد الإملاق الرسمي وهذا قانون مطلق للتراكم الرأسمالي". (ص 631).
هذه هي بعض القوانين الأساسية للنظام الرأسمالي المعاصر. وبنفس القدر من الحدة التي يؤكد بها ماركس على جوانب الإنتاج الرأسمالي السلبية، يثبت بنفس القدر من الوضوح أن هذا الشكل الاجتماعي كان ضروريا لأجل تطوير قوى المجتمع المنتجة إلى درجة من العلو تجعل من الممكن تطور جميع أعضاء المجتمع تطورا متساويا جديرا بالإنسان. إن جميع الأشكال الاجتماعية السابقة كانت مفرطة في الفقر لهذا الغرض، إلا ان الإنتاج الرأسمالي وحده يخلق الثروات والقوى المنتجة الضرورية لهذا الغرض. ولكنه يخلق في الوقت نفسه بشخص جماهير العمال المظلومين تلك الطبقة الاجتماعية التي تواجه أكثر فأكثر ضرورة أخذ هذه الثروات وهذه القوى المنتجة في يدها لكي تستغلها، لا لمصلحة الطبقة الاحتكارية كما تستغل في الوقت الحاضر بل في مصلحة المجتمع بأسره.



//المراجع:
إنجلز: "بصدد كتاب ماركس رأس المال"
لينين: "كارل ماركس ومذهبه"
رأس المال لكارل ماركس- فرانسيس واين