الصعود المثير لمرشح -جبهة اليسار- للرئاسة في فرنسا: هل هي بداية -عودة الروح-؟


داود تلحمي
2012 / 3 / 23 - 22:44     

في الحملة الإنتخابية للرئاسة الفرنسية، التي تنتهي مرحلتها الأولى يوم 22 نيسان/أبريل، لتعقبها دورة ثانية في 6 أيار/مايو، لفت الإنتباه ذلك الصعود المثير في استطلاعات الرأي لمرشح "جبهة اليسار"، جان لوك ميلانشون. فقد بدأت استطلاعات الرأي في الشهر العاشر من العام الماضي تعطيه نسبة تصويت بحدود الـ 5 بالمئة ليصل حتى كتابة هذه الأسطر في بعض الإستطلاعات الى ما يقارب الـ 14 بالمئة. وهو ما يُعتبر، بكل المعايير، إنجازاً غير عادي.

الحزب الشيوعي: رهان على جبهة اليسار ثبتت صوابيته

و"جبهة اليسار" تضم بالأساس الحزب الشيوعي الفرنسي و"حزب اليسار"، الذي يقوده ميلانشون، والذي تشكل في العام 2008 بانشقاق عن الحزب الإشتراكي، حزب الرئيس الأسبق فرانسوا ميتيران والمرشح الحالي للرئاسة فرانسوا أولاند. والى جانب هذين الحزبين، هناك مجموعة من القوى والفعاليات الأخرى انضوت تحت راية "جبهة اليسار" ومرشحها الموحد للرئاسة.
وحزب اليسار الذي أسسه ميلانشون استوحى مسيرته من تجربة "حزب اليسار" الألماني – دي لينكه-، الذي شق طريقه منذ أواسط العقد الأول من القرن الجديد في الخارطة السياسية الألمانية ليصبح واحداً من خمسة أحزاب رئيسية في هذا البلد الأكبر سكانياً والأقوى إقتصادياً في أوروبا. ومعروف أن حزب اليسار الألماني تشكّل، بالأساس، من مجموعتين رئيسيتين، إحداهما ورثت الحزب الإشتراكي الموحد الذي كان حاكماً في ألمانيا الشرقية منذ أواخر الأربعينيات وحتى العام 1989، والثانية تشكلت بانشقاق كتلة يسارية من الحزب الإجتماعي الديمقراطي الألماني (يسار الوسط)، وهو الحزب الكبير الذي شكّل عدة حكومات ألمانية خلال العقود الماضية، كانت آخرها حكومة المستشار غيرهارت شرودر، التي غادرت السلطة عام 2005 لصالح الحزب المسيحي الديمقراطي بزعامة أنغيلا ميركل، المستشارة الحالية.
وميلانشون من مواليد المغرب في العام 1951 لوالد فرنسي ووالدة من أصول إسبانية، وانتمى في شبابه الى تنظيم يساري جذري، أي مناهض للرأسمالية، لكنه لم يلبث أن انضم الى الحزب الإشتراكي في العام 1977 وشغل لفترة قصيرة (2000- 2002) موقعاً حكومياً ثانوياً في وزارة ليونيل جوسبان، من الحزب نفسه. كما شغل، قبل ذلك وبعده، موقع عضوية مجلس الشيوخ عن الحزب الإشتراكي لمدتين تصلان الى عشرين عاماً. وهو حالياً عضو منتخب في البرلمان الأوروبي منذ العام 2009 عن حزبه، حزب اليسار.
وكان الحزب الشيوعي الفرنسي يدأب منذ أواخر الستينيات الماضية على تقديم مرشح خاص به في الإنتخابات الرئاسية. وقد حصل مرشحه جاك ديكلو في انتخابات العام 1969، بعد استقالة شارل ديغول، على أكثر من 20 بالمئة من الأصوات. وكان الحزب قد خرج من الحرب العالمية الثانية مكللاً بدوره النشط في مقاومة الإحتلال الألماني النازي لفرنسا، لتصل نسبة أصواته في الإنتخابات النيابية في أواخر الأربعينيات الماضية الى حوالي 28 بالمئة، وليصبح بذلك مع الحزب الشيوعي الإيطالي أقوى حزبين شيوعيين في أوروبا الغربية بعد الحرب.
ولكن الثمانينيات شهدت تراجعاً لنفوذ الحزب الشيوعي الفرنسي ورصيده الإنتخابي، حيث حصل مرشحه للإنتخابات الرئاسية في العام 1981، وكان أمينه العام آنذاك جورج مارشيه، على زهاء 15 بالمئة في الدورة الأولى، ليدعم في الدورة الإنتخابية الثانية مرشح الحزب الإشتراكي فرانسوا ميتيران، الذي فاز في ذلك العام بالرئاسة. ولكن، منذ ذلك الحين، بدأت مسيرة تراجع لنفوذ الحزب وقاعدته الإنتخابية لتصل نسبة مرشحه في إنتخابات الرئاسة في العام 2002، وهو آنذاك روبير أُو، أمينه الوطني (وهي التسمية التي اعتُمدت في الحزب بدل تسمية الأمين العام)، الى زهاء الـ 4 بالمئة. ثم تنحدر نسبة مرشحته في إنتخابات الرئاسة الأخيرة في العام 2007، وهي أمينته الوطنية ماري جورج بوفيه، الى أقل من 2 بالمئة.
أما في إنتخابات العام الحالي، فقد اتخذ الحزب الشيوعي، قبل عدة أشهر، قراراً إستثنائياً بدعم مرشح من خارج الحزب منذ الدورة الأولى، وهو قرار لم يلقَ إجماعاً في صفوفه في حينه. لكن الأداء الملفت للإنتباه للمرشح الذي تم دعمه، وهو مرشح حزب اليسار ميلانشون، أعاد الآن ثقة غالبية قواعد الحزب الشيوعي بصوابية القرار. فالمرشح الموحد أثبت حضوراً بارزاً في الفعاليات الجماهيرية وفي وسائل الإعلام، من خلال قدراته الخطابية المميزة وحضوره الجذاب (كاريزميته) وقدرته على صياغة أفكار اليسار الجذري المناهض للرأسمالية بلغة مباشرة ومفهومة من القطاعات الشعبية الواسعة، في زمن القلق الشعبي الواسع بفعل اندلاع الأزمة الإقتصادية العامة للنظام في العام 2008 واستمرار مفاعيلها حتى الآن. كما تميّز المرشح اليساري باعتماد لهجة هجومية قوية ومؤثرة خاصة تجاه مرشحة اليمين القومي المتطرف ومرشح اليمين الحاكم والرئيس الحالي للبلد نيكولا ساركوزي.
وفيما يتنازع المرتبتين الأوليين في الإستطلاعات مرشح الحزب الإشتراكي فرانسوا أولاند (يسار الوسط) والرئيس الحالي نيكولا ساركوزي، مع ترجيح واضح لاحتمال نجاح المرشح الإشتراكي في الدورة الإنتخابية الثانية، بات هناك ثلاثة مرشحين كبار يأتون بعدهما في القوة الإنتخابية. وكانت مرشحة اليمين القومي المتطرف مارين لوبن، إبنة مؤسس هذه الحركة جان ماري لوبن، في الموقع الأكثر تقدماً طوال الأشهر التي سبقت بدء الحملة الانتخابية بشكل رسمي يوم 20.3.2012 ويأتي بعدها مرشح الوسط فرانسوا بايرو، ثم مرشح جبهة اليسار. لكن مرشح جبهة اليسار واصل صعوده في الأسابيع الأخيرة، بحيث تمكن من احتلال الموقع الثالث في أول استطلاع يجري بعد افتتاح الحملة الإنتخابية رسمياً.
أما المرشحون الخمسة الآخرون، فبالكاد يصل معظمهم الى الـ 1 بالمئة، في حين بالكاد تتجاوز مرشحة أنصار البيئة الـ 2 بالمئة من نوايا التصويت. وقد دفعت هذه الأرقام المتواضعة بعض قادة "الحزب الجديد المناهض للرأسمالية"، الذي له مرشحه الخاص به في الإنتخابات، ولكنه بقي ضعيف الحضور في الإستطلاعات حتى الآن، الى الدعوة علناً للتصويت لمرشح جبهة اليسار، بهدف إثبات حضور قوي للتيار اليساري الجذري يؤثر على السياسات اللاحقة في البلد بعد الإنتخابات.
وفي كل الأحوال، فإن إنجازاً كبيراً بالنسبة لليسار الجذري في فرنسا قد تحقق حتى قبل شهر من الدورة الأولى للإنتخابات. وبالطبع، ليس هناك أي احتمال جدي بأن ينتقل مرشح جبهة اليسار الى الدورة الإنتخابية الثانية، التي تقتصر على المرشحين الأولين، وهما على الأغلب أولاند وساركوزي. ولكن نسبة الأصوات التي يحصل عليها المرشح اليساري الجذري في الدورة الأولى تسمح له وللأحزاب التي تقف وراءه بعقد اتفاق من موقع القوة مع مرشح الحزب الإشتراكي، الذي تعطيه كافة الإستطلاعات حتى الآن ترجيح الفوز بموقع الرئاسة. وهو سيكون إنجازاً غير قليل لهذا التيار، بعد سنوات طويلة عجاف عانى فيها هذا التيار من تراجع وتهميش متزايدين في الخارطة السياسية الفرنسية.
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فبعد الإنتخابات الرئاسية، ستجري انتخابات نيابية، ستجني فيها جبهة اليسار، بالضرورة، ثماراً أوسع من خلال حضور أكبر في الجمعية الوطنية (الإسم الذي يطلق على الهيئة التشريعية الفرنسية الرئيسية، أي ما يوازي مجلس النواب في بلدان أخرى)، بما يفتح آفاقاً لاحقة لدور سياسي أفعل في السنوات القادمة.
وهذا التطور يؤشر الى بداية عودة الروح، على حد تعبير الأديب الراحل توفيق الحكيم، لهذا التيار الذي احتل لعقود طويلة في فرنسا موقعاً مؤثراً على الصعيدين السياسي والإجتماعي، كما على الصعيد الفكري- الثقافي. وفي حين تتخبط بلدان أوروبية عديدة، بما فيها فرنسا نفسها، في أزمة إقتصادية غير مسبوقة بحدتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ومنها بلد مثل اليونان، باتت قطاعات واسعة من شعبه تعاني من الإفقار والتهميش الإجتماعي الناتج عن تنامي البطالة وتراجع مستوى الدخل والمعيشة، فإن من الطبيعي أن تكون هناك كلمة لليسار الجذري في مواجهة هذه الأزمة، في مواجهة حلول ووصفات اليمين و"الليبرالية الجديدة" والمؤسسات المالية للإتحاد الأوروبي، التي هي وصفات إفقار للطبقات والشرائح الأدنى مع تواصل إثراء الشريحة العليا وأصحاب رأس المال الكبار في هذه البلدان.
وإذا كان الشعار الذي عنون به المفكر والإقتصادي المصري والعالمي البارز سمير أمين أحد كتبه الأخيرة "إخراج الرأسمالية من أزمتها... أم الخروج من الرأسمالية المأزومة" هو شعار صائب من حيث المبدأ وبأفق استراتيجي، فإن من الواضح انه يمكن التقدم باتجاه تحقيق هذا الهدف الذي حدده الشعار بخطوات متلاحقة وعلى مراحل. والبداية هي إعادة الوعي بواقع وأسباب الأزمة لدى القطاعات الشعبية الواسعة في البلدان الرأسمالية المتطورة، التي ضللتها أدوات الإعلام والدعاية الرأسمالية طوال العقود الماضية، خاصة مع صعود خيار "الليبرالية الجديدة" في الثمانينيات الماضية، وأبعدتها عن رؤية الخلل الحقيقي في النظام الإقتصادي- الإجتماعي، والحل الحقيقي لمسلسل الأزمات المتلاحقة والمتفاقمة لهذا النظام الرأسمالي، الذي توهم قبل عقدين من الزمن بأنه قد "أنهى التاريخ" بعد انهيار الإتحاد السوفييتي وتجربته للتحول الإشتراكي... فإذا بالتاريخ يستعد، ولو بعد حين، لإنهاء النظام نفسه.