أزمة الماركسية و غيابها عن الساحة السياسية


عقيل طاهر
2012 / 3 / 18 - 23:11     

يغني الغراب حين يغيب العندليب , هذا هو الحال في حديقة العالم العربي , غاب العندليب عن الساحة و تقدم الغراب بصوته النشاز , فالشعب لم يجد بديلاً لهذا الغراب , هو المغني الوحيد , فيصفق له الناس قائلين : (( يعيش الغراب , يعيش الغراب , مغني الشعب )) , كمن ينتابه الجوع و يجد فأراً مشوياً فلا يتقزز بل يأكله بتمتع . هذا ما يحدث للعرب في الساحة السياسية , يتجه الشعب نحو الإسلام السياسي ليس حباً فيه , بل هو – بالنسبة للشعب – البديل الوحيد للدكتاتورية الحالية , فالإسلام السياسي هو الغراب الذي يغني في غياب اليسار .
لا ينبغي أن نسأل لماذا يغني الغراب و لماذا يعجب الناس بغنائه , بل ينبغي أن نسأل أين أختفى العندليب ؟

...............................................

لماذا غاب اليسار عن الساحة السياسية ؟

يعود عزوف اليسار عن الساحة السياسية إلى أسباب كثيرة و سيتم نقاشها في هذا المقال من خلال النقاط التالية :

1- سقوط المنظومة الاشتراكية و سيطرة القطب الواحد
2- خلل في التنظيم السياسي
3- تغلغل و تسرب الأفكار التحريفية الإصلاحية داخل التنظيمات السياسية الشيوعية



و أكثر النقاط التي تسببت في دخول الماركسية إلى أزمة هي النقطة الثالثة .فيجب علينا تحديد وضع الماركسية حالياً , و لا يمكننا – كما يزعم البعض – القول أن الماركسية انتهت , بل هي تمر في أزمة . لا يمكن لأي فكرة أن تموت –بالمعنى الحرفي للكلمة – فلا تزال هناك بعض الأحزاب و الجماعات الناصرية أو النازية- على سبيل المثال- , لكن دورها أنتهى , و لكن " الماركسية " بإعتبارها نظرية علمية لا يمكن – بأي تفسير – أن تكون قد أنتهت أو ماتت , لأن النظريات العلمية لا تتوقف عند حد معين , كما حدث مع الناصرية على سبيل المثال أو النازية , لأن مثل هذه النظريات هي نظريات مثالية تصلح لوقت و زمن معين و تحت ظروف معينة .

و نجد أن أكثر النقاط التي تسببت في غياب الماركسية عن الساحة السياسية , هي النقطة الأولى و الثانية و الثالثة , حيث الأفكار التحريفية الإصلاحية أدخلت الماركسية في أزمة و في مثل الوقت , أبعدت الأحزاب الشيوعية عن الشعب و الطبقة العاملة , فالهدف الرئيسي أصبح إصلاح الأنظمة , و بذلك , تم حذف مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " و قرروا أن يكونوا جزء من الأنظمة .

هذا من جانب , أما من الجانب الآخر , فالنقطة الثانية أيضاً تسببت في عزوف الماركسية عن الساحة السياسية , و لا يمكننا اختصار هذا الموضوع و انما يجب التعمق فيه , فالتنظيمات الشيوعية سمحت لأي شخص أن يدخل في ضمن مجموعاتها , فحتى من لا يملك تربة فكرية أو حتى لمحة من لمحات النظرية الماركسية أصبح بمقدوره أن يدخل و يتحدث عن الطبقة العاملة و العدالة الاجتماعية , و هؤلاء , غالباً ما وصلوا إلى مناصب مهمة في الأحزاب , فقط لأنهم يجيدون القول : ( الطبقة العاملة ) و ( البروليتاريا ) و ( لتسقط الرأسمالية ) و ( البرجوازية المتعفنة ) , فهؤلاء كما وصفتهم في مقالي السابق – الشيوعية ليست موضة – هم من يحفظون و يقرأون أقاويل كبار رموز الماركسية و لا يقرأون كتبهم و تحليلاتهم , فيهمون فهماً طفيفاً حول النظرية الماركسية , و ظاهرياً , يبدو أنهم يفهمون فهماً عميقاً,و لكن في الباطن فالمعرفة سطحية . فهؤلاء سببوا خللاً في التنظيمات , و بذلك أصبحوا انتهازيين و هذا أدى إلى عزوفهم عن الساحة السياسية .

و نرى أن سيطرة القطب الواحد بعد سقوط المنظومة الاشتراكية , تسببت أيضاً في غياب الماركسية عن الساحة السياسية , فالمساعدات اللوجستية توقفت , و فوق ذلك , أختفى النموذج الاشتراكي عن العالم , ففي السابق كان هناك نموذج حيّ للإشتراكية , و لكن بعد سقوط المنظومة الاشتراكية لم تستطيع الاحزاب أن تشير إلى نموذج معين .


بعد تقديم النقاط بصورة مختصرة , يتوجب علينا أن نناقش تلك النقاط بطريقة متعمقة و أكثر تحليلية :


1 ) سقوط المنظومة الاشتراكية و سيطرة القطب الواحد

ما أثر سقوط المنظومة الاشتراكية و سيطرة القطب الواحد على عزوف الماركسية عن الساحة السياسية ؟

الأثر عميق , فمن الجانب الأول , أن المساعدات اللوجستية التي كانت تقدمها المنظومة الاشتراكية إلى الأحزاب الشيوعية قد توقفت , فكانت الأحزاب الشيوعية سابقاً , تتلقى الدعم من الكومنترن , فعلى السبيل المثال , ساعد " الكومنترن " في تأسيس الحزب الشيوعي الصيني عام 1921 , و بالإضافة إلى ذلك , تلقت معظم الأحزاب الشيوعية المساعدات في سبيل تحقيق الأممية الشيوعية , أما الآن , فلا يوجد من يقدم تلك المساعدات اللوجستية القيمة .
ايضاً , النموذج الإشتراكي قد أختفى , فقبل سقوط المنظومة الاشتراكية كانت الأحزاب الشيوعية تقدم الأتحاد السوفييتي كنموذج للدولة الاشتراكية , و لكن بعد سقوط المنظومة الاشتراكية لم يتبق أي نموذج اشتراكي لتقدمه الأحزاب للجماهير .

كل هذه التأثيرات مهمة , و لكن التأثير الاكثر أهمية هو سيطرة هذا القطب الرأسمالي , فالآن الأفكار الشيوعية توقفت عن الإنتشار , وقد بدأ زمن أنتشار أفكار الديمقراطية الغربية و أقتصاد السوق و المدنية , فالأفكار الماركسية تم طمسها بتهمة أنها " ماتت " و لا تصلح لهذا الزمن , فأصبحت المعارضة – في أي دولة – تتكلم بإسم الديمقراطية الغربية و المدنية و نست أفكار المساواة و إلغاء الطبقات التي كانت في موضع أو في محور المعارضة قبل سقوط المنظومة الاشتراكية , و فوق هذا كله , أصبحت الدول الغربية تتحدث بأسم حقوق الإنسان و المساواة و التعدد الثقافي , فالناس – البسطاء فكرياً – يصدقون كلام هذه الدول, فالجماهير أصبحت تبتعد عن هذه الأفكار شيئاً فشيئاً و أصبحت أقرب إلى أفكار مثل الديمقراطية الغربية اعتقاداً انها الأفكار أكثر عصرية من الأفكار الإشتراكية .
و ناهيك عن المساعدات التي تقدمها تلك الدول من هذا القطب إلى الأحزاب التي تدعم الأفكار الديمقراطية الغربية , فالأمر تحول إلى سيطرة القطب الرأسمالي كله . فوجود الإسلام السياسي , على سبيل المثال , لا يعني أن هذه القوى تحاول إبعاد السيطرة الأمريكية على الإطلاق , فأن وجودها , في الباطن , يعني بقاء السيطرة الغربية , فالقطب الغربي أصبح الآن يوسع نفوذه بطريقة أكثر سهولة , فلقد ترك أسلوب الغزوات و الحروب , فالممارسة – الغربية – الحالية نجدها ممارسات ميكافيلية , فالآن القطب الغربي يحرك الثورات في العالم العربي و هذا القطب يدعم الشعوب التي تثور , فكنتيجة نجد الشعب يثور ضد دكتاتور ليحظى بالديمقراطية الغربية بقيادة الإسلام السياسي , فيقول ميكافيللي في الفصل الخامس من كتابه الأمير : ((هناك ثلاثة طرق لإحكام السيطرة على دولة حرة معتادة على العيش في ظل قوانينها الخاصة : فإما بتدميرها أو بإقامة الأمير المحتل بها شخصيا , أو بالمحافظة على قوانينها القديمة مقابل الحصول على جزية و إرساء حكومة أقلية موالية تحافظ على صداقتها. و مادم استمرار هذه الحكومة , التي وضعها الأمير , رهينا بصداقته و حمايته لها ; فإنها تبذل قصارى جهدها لصيانة سلطته عليها . و لذلك , فإن أفضل وسيلة للحفاظ على دولة حرة بسهولة هي حكمها بواسطة مواطنيها )) فهنا يشير ميكافيلي إلى حكم الشعب , الحكم الديمقراطي بكلمات أخرى , و نجد هنا ميكافيلي لا يكترث اذا الشعب حظى بالديمقراطية ما دام الأمير هو من يسيطر على هذه الدولة و اقتصادها , و هذا ما سيحدث , القطب الغربي سيحاول بقدر المستطاع تحويل الدول التي كانت تعيش تحت النظم الدكتاتورية إلى دول ديمقراطية , ليس حباً في الشعب العربي , بل حباً في تكملة الطموحات الغربية التوسعية , و لا ريب أن السيطرة الاقتصادية هي الجزء الأهم من تلك الطموحات .

2 ) خلل في التنظيم السياسي

الخلل في التنظيم السياسي يتضمن الخلل في أختيار الأعضاء , فالمشكلة الرئيسية في التنظيم السياسي للأحزاب الشيوعية هي القبول بأي عضو , له خلفية فكرية حول الماركسية أو لا , و هنا لا نقول أن يجب على الأحزاب الشيوعية رفض كل من لا يفهم الماركسية , بل نقول على الأقل , أن يثقفوا من ليست له تربة ثابتة حول النظرية الماركسية , فالمشكلة هي أن الأحزاب قبلت كل من يعرف كلمات و عبارات ماركسية , و فوق هذا , تمكن هؤلاء ( الشبه ماركسيين ) أن يصعدوا إلى مناصب كبيرة في الأحزاب . فالعضو الذي ليست له تربة فكرية ثابتة تتغلغل الأفكار التحريفية إليه بكل سهولة , و سرعان ما يتحول هؤلاء إلى انتهازيين .

فالانتهازية تبعد الجماهير عن الحزب , الحزب يصبح عقيماً من دون الجماهير , فالجماهير هي القوة الحقيقية لأي تنظيم سياسي حزبي . و فوق ذلك , بعد سقوط المنظومة الاشتراكية , لم تتكلف الاحزاب العناء في نشر الأفكار الماركسية مرة أخرى , و بالرغم أن هذه العملية صعبة , و لكن هذا هو العمل الحزبي , لكن , الأحزاب قررت أن تكون جزء من أنظمتها – سواء كانت ديمقراطية أو ملكية دستورية - و قررت حذف آمال العمال .

فالتنظيم السياسي لدى الأحزاب الشيوعية بعد سقوط المنظومة الاشتراكية أصبحت محبطه بالنسبة للجماهير و للعمال , فالجماهير لم تملك خياراً سوى اللجوء إلى الإسلام السياسي , الذي يتوعدهم بحياة الآخرة , و فوق هذا , حياة هنيئة في الدنيا , حيث قوى الإسلام السياسي أستطاعت أن تثبت مفهوم " الدين يسر و ليس عسر " لدى الناس , بمساعدة الناس في حاجاتهم اليومية ; كالأكل أو الأغراض المنزلية و المستشفيات المجانية . فالناس تركوا اليسار تماماً , و اتجهوا نحو الإسلام السياسي تحت أمل جديد , فالخطأ ليس خطاً الإسلام السياسي على الإطلاق , بل خطأ اليسار الذي أبتعد عن الجماهير و ترك الساحة للإسلام السياسي .
فكل هذا مدرج تحت الخلل في التنظيمات السياسية , التي أولاً قبلت بكل شخص , ثوري أم لا , له الكفاءة في التقديم أو لا , الذي نتج بتحويل الأحزاب إلى أحزاب أنتهازية إصلاحية , و ثانياً أبتعدت عن الجماهير بسبب قربها إلى السلطات و ترك الساحة للقوى المعارضة الأخرى .

3 ) تغلغل و تسرب الأفكار التحريفية الإصلاحية داخل التنظيمات الشيوعية

الصراع الرئيسي ما بين البلاشفة و المناشفة , كان الصراع حول إصلاح النظام و إسقاط النظام , فالمناشفة رأوا أن روسيا لم تكن في حالة تسمح لإندلاع ثورة , بينما , البلاشفة رأوا أن روسيا كانت في حالة تسمح للثورة أن تندلع . و البلاشفة كانوا أدق في تحليل الوضع الروسي , بينما المناشفة أرادوا أن يتريثوا و يكونوا جزء من النظام .
فإصلاح الأنظمة البرجوازية هي لا شك فكرة تحريفية , لأنها تدعم الحكم القائم على الطبقية و هذا نقيض الفكر الماركسي . فإذا تلك الأفكار تغلغلت داخل التنظيمات الشيوعية فأنها تلغي مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " , و هذا الإلغاء يعني في الباطن , هدم آمال الجماهير , و الأبتعاد عنها و التقرب إلى الأنظمة البرجوازية .
فالأحزاب الشيوعية الأوروبية على سبيل المثال , قررت أن تكون جزء من الأنظمة الديمقراطية و شطبت مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " تحت حجة أن الصراع الطبقي قد تحول و تغير , و لنفترض أنه تغير و تحول , هل هذا يعني أن نقف في مكان واحد , أليس الماركسية فكرة علمية تحث على التطور و التجدد ؟ و التطور و التجدد لا بد منه أن يكون في صالح البروليتاريا و ثورتها , لا إحباط و إجهاض ثورة البروليتاريا .
فالحزب الشيوعي , الذي تغلغلت و تسربت إليه الأفكار التحريفية الإصلاحية , يترك الجماهير و يخذلهم , فالجماهير تبتعد عن الحزب من جانب – و الحزب يتقبل هذا الإبتعاد – من جانب آخر , يتركون الساحة للقوى المعارضة الأخرى , بإعتبار أن الجماهير أبتعدت عن الماركسية بسبب " فشلها " , بينما الجماهير أبتعدت بسبب أبتعاد الأحزاب عنها , فالجمهور لا يقبل من يتحدث بإسمه و لكنه لا يحقق شيء له , فالجمهور يحب الكلمات الجميلة و المعبرة و لكن في مثل الوقت يريد فعلاً جميلاً و معبراً , فحين يسمع الجمهور الأحزاب تتحدث بأسم الشعب لكن لا تفعل شيئاً للشعب يعتبرونها أحزاباً كاذبة , و لهذا يبتعدون عن الأحزاب .
.......................................................
فتلك هي الأسباب في عزوف اليسار عن الساحة السياسية , و ربما لم تكن كافية , فالأسباب لا ريب أكثر من هذه النقاط و سيتم الحديث عنها في المقالات الأخرى .