هل تفتح الحركات المناهضة ل-وول ستريت- آفاقاً لتشكّل قوة يسارية مؤثرة في الولايات المتحدة؟


داود تلحمي
2012 / 3 / 8 - 08:54     

بات واضحاً أن التحركات المناهضة للطغمة المالية المسيطرة في الولايات المتحدة وللسياسات الداخلية والخارجية التي تفرضها على الحكم في البلد، وهي التحركات التي دشّنتها حركة "احتلوا وول ستريت" في نيويورك يوم 17/9/2011، قد اتخذت بعداً جدياً على صعيد إعادة الإعتبار للوعي الشعبي الواسع لحقيقة النظام الإقتصادي- الإجتماعي في البلد. فالحركة، التي سرعان ما اتسعت لتشمل مئات المدن والساحات في أنحاء البلد الشاسع، نقلت هموم وإحباطات وتطلعات قطاعات واسعة من المواطنين الأميركيين الى الواجهة، وساهمت في تعميق الإدراك العام هناك لحقيقة مصادر الأزمة الإقتصادية التي انفجرت الى العلن في البلد منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وللسبب الفعلي لتردي أوضاع الغالبية الساحقة من المواطنين الأميركيين خلال الأعوام الأخيرة.
وكان من ضمن إبداعات هذه الحركة العفوية، أو بالأحرى المنطلقة من مبادرة مجموعات قاعدية من الشبان والمثقفين وبعض القطاعات الأوعى من المواطنين، رفع شعار "نحن الـ 99 بالمئة"، بما يعني أن الطغمة المالية المستأثرة بالقرار وبالثروة في البلد لا يتجاوز مجموع أفرادها نسبة الواحد بالمئة من مجمل عدد السكان، الذين يزيد عددهم عن الثلاثمئة مليون نسمة.
فمن خلال هذا الشعار المثير للإنتباه يمكن الإيحاء لأوسع قطاعات الشعب في الولايات المتحدة، بكل تشكيلاته الإثنية المتنوعة، بأن هذه الحركة تستهدف الدفاع عن مصالحها والسعي لتحجيم النفوذ المفرط في شأن البلد ومصيره لقلة قليلة من أصحاب الثروات ورأس المال. فهذه القلة تحتكر السلطة الفعلية في كافة المجالات الحيوية في البلد، وهي تحوّل العملية الديمقراطية والإنتخابات الى لعبة شكلية مفرغة من كل مضمون، ولا تغيّر من واقع الهيمنة التي تفرضها هذه القلة على مصير الشعب والبلد. لا بل والأدهى أن هذه القلة تسعى الى تعزيز هذه الهيمنة بشكل حثيث ومتواصل عبر استخدام كل وسائل النفوذ والتأثير الدعاوية والإعلامية والأيديولوجية بهدف مواصلة تضليل القطاعات الواسعة من الشعب، والحؤول دون تملكها لهذا الوعي لحقيقة آلية الفعل والقرار السياسي والإقتصادي في البلد، الذي يدّعي، رغم ذلك، أنه يرفع راية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم.
والأسئلة التي تطرح نفسها بعد مضي زهاء نصف العام على انطلاق هذه الحركة، التي لا ينفي بعض المبادرين لها تأثرهم بمشاهد الثورات العربية خلال العام المنصرم، وخاصة بمشاهد الثورة المصرية، ورمزها الأبرز ساحة التحرير، هي: هل يمكن أن تنجح هذه الحركات في تحقيق تغيير حقيقي في الولايات المتحدة؟ وهل يتأثر النظام السياسي والإقتصادي في هذا المركز الرئيسي للنظام الرأسمالي المعاصر في حال استمرار واتساع هذه الحركة؟ وهل من الممكن أن تتحول هذه الحركات المنتشرة في أنحاء الولايات المتحدة الى حركة سياسية منظمة، ذات طابع يساري إنعتاقي متقدم في مضمونها، تقوم لاحقاً بدور فاعل في مسار البلد؟
في البداية، لا بد من القول أن بنية النظام السياسي والإقتصادي الأميركي هي بنية مركّبة وليس من السهل إطلاقاً التأثير فيها بشكل جذري وسريع، لكون الطابع الإستغلالي للنظام غير واضح أمام الجمهور الواسع، المتأثر في غالبيته بوسائل الدعاية والإعلام المهيمنة.
فمعروف، مثلاً، أن اللعبة السياسية منذ عقود طويلة محصورة عملياً بين حزبين كبيرين، يدافع كلاهما عن النظام القائم ويتلقيان تمويلهما الأساسي، وخاصةً تمويل حملاتهما الإنتخابية، من مصادر متداخلة وأحياناً من المصادر ذاتها، وهي في المقام الأول أموال كبرى الشركات والمؤسسات المالية والإقتصادية الضخمة في البلد، التي تشكّل، في واقع الحال، المصدر الحقيقي للسلطة والقرار أكثر من اية تشكيلة أو واجهة سياسية في عموم البلد، بما في ذلك الرئيس ومجلسي الكونغرس. وهذه الشركات والمؤسسات الضخمة هي التي تسيطر، عبر قدراتها المالية الهائلة، على وسائل الدعاية والإعلام والتأثير الشعبي الواسع، بما في ذلك وخاصة شبكات التلفزيون الكبرى والتكنولوجيات الحديثة، بما يشمل حصة اساسية من مواقع شبكة الإنترنت الإعلامية والدعاوية. ووسائل الدعاية والتأثير هذه هي التي تعمل على تأبيد النظام السياسي والإقتصادي، مع تعديلات تجريها بين حين وآخر لتعزيز قوة هذا النظام ومنع الأزمات المختلفة، الداخلية والخارجية، من تحقيق اهتزاز حقيقي فيه.

مئات الأحزاب والتنظيمات في البلد... لكن الواجهة للحزبين الكبيرين وحدهما

ومعروف أن هناك في الولايات المتحدة المئات من الأحزاب والتنظيمات السياسية، وعدد غير قليل منها يسعى للمشاركة في العمليات الإنتخابية النيابية، وحتى الرئاسية، ولكن قلما يستطيع أن يلفت الإنتباه الى مجرد وجوده. حيث لا تمكّنه الإمكانيات المالية المحدودة لديه من إسماع صوته والحصول على نسبة ذات شأن من الأصوات، باستثناء حالات قليلة، كانت إحداها حالة رالف نادر، المحامي ذي الأصل اللبناني المدافع منذ عدة عقود عن حقوق المواطن المستهلك والذي كان مرشحاً عن حزب الخضر في الإنتخابات الرئاسية التي جرت في أواخر العام 2000، وتمكن من الحصول على زهاء 3 بالمئة من الأصوات، ولكن بالطبع دون الفوز بالأغلبية في أية ولاية، مما منعه من ترجمة هذه الأصوات الشعبية الى أصوات في ما يعرف بـ"الكلية الإنتخابية"، أو "الناخبين الكبار" الذين يفوز من يحصل على أغلبية الأصوات في كل ولاية بعدد محدد منهم يمثلها. وهي صيغة رسّخت نظام الحزبين الكبيرين، وهمًشت بقية الأحزاب والقوى. والحزبان هما في الواقع أقرب الى آلتين إنتخابيتين منهما الى حزبين واضحي السياسات والخيارات على غرار الأحزاب المعروفة حتى في بلدان أوروبا.
فبالرغم من وجود بعض الفروقات في توجهات الحزبين، وهي فروقات لم تكن دائماً واضحة ولكنها ازدادت وضوحاً في العقود الأخيرة، ألا ان الحزبين، وخاصة الرؤساء المنتمين اليهما، لا يبتعدان عن السياسات العامة للبلد وعن الدفاع عن مصالح الشركات والمؤسسات الكبرى في المقام الأول، وبالتالي الدفاع عن مصالح الرأسمالية الأميركية في السياسات الكونية التي تتبعها إدارات واشنطن المتعاقبة.
وكانت بعض الأدبيات اليسارية في أواسط القرن المنصرم تعتبر أن أحد الحزبين أقرب الى الإحتكارات النفطية والثاني أقرب الى المجمع الصناعي- العسكري. لكن هذا التمييز فيه شيء من التسطيح الذي لا يأخذ بعين الإعتبار الحجم الهائل للإحتكارات والشركات والمؤسسات المالية الأميركية وتداخل المصالح والتوجهات في ما بينها، وبالتالي بين كلا الحزبين.
وما ميّز الحزبين بشكل خاص، في العقود الأخيرة، هو هوية المناصرين لهما، والذين يصوتون بشكل تقليدي لهذا الحزب أو الآخر. حيث تميل، مثلاً، غالبية من الأميركيين السود من أصل إفريقي بغالبيتهم الى التصويت للحزب الديمقراطي، وكذلك مجموعات إثنية أخرى، وكذلك غالبية الأميركيين اليهود. فيما تميل العناصر المحافظة والمتشددة دينياً للتصويت بشكل أكبر للحزب الجمهوري. كما ان الحزب الديمقراطي يعطي الإنطباع بأنه أميل الى دور أكبر للدولة في الإقتصاد، وهو ميل جسّده بشكل بارز خلال القرن الماضي الرئيس الديمقراطي فرانكلين روزفيلت (1933-1945). فيما تميل تيارات قوية في الحزب الجمهوري الى تقليص دور الدولة الإقتصادي لصالح القطاع الخاص، وهو نهج جسّده بشكل خاص في العقود الماضية الرئيس الجمهوري رونالد ريغن (1981-1989).
وهي توجهات جعلت الحزب الديمقراطي، كقاعدة عامة، يبدو في المحصلة الى يسار الحزب الجمهوري بعض الشيء، دون أن يعني ذلك انه حزب يساري أو يسار وسطي على غرار أحزاب "الدولية الإشتراكية"، أو الأحزاب الإجتماعية الديمقراطية المنتشرة في القارة الأوروبية. دون أن نغفل أن هناك نواة صغيرة داخل الحزب الديمقراطي من العناصر ذات التوجهات اليسارية، المتفاوتة الوضوح، وإن كانت هذه النواة محدودة الحضور على المستوى الوطني وقليلة التأثير في السياسات العامة لأي رئيس يتم انتخابه من الحزب. وأبرز مثال على ذلك هو الرئيس الحالي، ذو الوالد الإفريقي والمسلم، باراك أوباما، الذي اعتمد في انطلاق حملته الإنتخابية في العام 2008 على قطاعات من الحزب الديمقراطي تميل في قسم كبير منها الى هذه المناخات اليسارية (يستخدم الأميركيون تعبير "ليبرالي" بديلاً عن تعبير يساري في معظم الحالات)، مما أوجد بعض الرهانات على إمكانية قيام الرئيس الجديد بتغيير فعلي في سياسات البلد الإجتماعية- الإقتصادية كما في المجال الخارجي. لكن السنوات الثلاث ونيّف التي أمضاها أوباما في الحكم منذ انتخابه عام 1980 جعلته يخيّب آمال غالبية المراهنين على تغييرٍ كهذا. مما جعل من الصعب على المراقبين رؤية فروقات جوهرية بين سياساته الخارجية، وحتى بعض السياسات الداخلية، وسياسات سلفه جورج بوش الإبن، الذي كان مدعوماً من التيارات الأكثر يمينية في الحزب الجمهوري وفي المجتمع الأميركي.
المهم في الموضوع الذي نتحدث عنه هنا، ونحن الآن في عام إنتخابي في هذا البلد، هو ان بعض رموز الحزب الديمقراطي تراهن على إمكانية استيعاب الحركة الشعبية المناهضة للطغمة المالية التي يرمز لها حي "وول ستريت" في نيويورك، بحيث تجعلها رصيداً إنتخابياً إضافياً لها. بحيث يتمكن هذا الحزب، في المحصلة، من الإلتفاف على المطالب الجذرية لهذه الحركة، كما حصل في مراحل سابقة مع استيعاب حركات احتجاجية أخرى، مثل حركة السود الأفارقة الأصل وحركة مناهضة حرب فييتنام في الستينيات الماضية، ومناخات النقمة الواسعة على الفساد السياسي في السبعينيات، وهلم جراً.
ومن الثابت والجليّ أن القوى الرئيسية التي تقف وراء السلطة السياسية والإقتصادية في البلد، وهي قوى غير مرئية دائما في دورها هذا، تجنح باستمرار الى إجراء بعض التعديلات في واجهات النظام السياسية، تحديداً لاستيعاب النقمة والتمردات وإبقائها في إطار النظام السياسي والإقتصادي المسيطر عليه. حصل ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، في أواسط السبعينيات الماضية، بعد الهزيمة الأميركية في حرب فييتنام وفضيحة "ووترغيت" الشهيرة التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون، عندما تم تقديم شخصية متدينة تبدو بريئة وغير ملوثة بمناخات الفساد، وهو الديمقراطي جيمي كارتر، الحاكم السابق لولاية جورجيا، ليصبح الرئيس الجديد للبلد في رهان على إعادة الإعتبار لصورة النظام لدى المواطنين الأميركيين. لكن "سذاجة" كارتر ومحدودية قدراته السياسية لم تفِ بالغرض بالنسبة لبعض الذين أتوا به، فانتهى الأمر به الى الفشل في تجديد رئاسته لدورة ثانية في انتخابات عام 1980، والمجيء برئيس جمهوري شديد اليمينية، هو رونالد ريغن، الذي يعتبره الأميركيون مع نائبه جورج بوش الأب الذي خلفه بعد ثمانية أعوام المسؤولين بشكل أساسي عن الضغط الكبير الذي مورس على الإتحاد السوفييتي الى درجة ساهمت في التعجيل بإسقاطه وتفككه. وهو ما جرى اعتباره في حينه انتصاراً تاريخياً للولايات المتحدة في "الحرب الباردة"، وتعويضاً هائلاً عن هزائم السبعينيات.
وشهدنا السيناريو ذاته في ظروف شبيهة بعض الشيء في العام 2008 بعدما ورّط الرئيس السابق جورج بوش الإبن الولايات المتحدة في حربين دمويتين ومستنزفتين لطاقات البلد في أفغانستان والعراق ساهمتا، الى حد معين، في التعجيل بانفجار الأزمة المالية – الإقتصادية الكبرى، التي اندلعت في ذلك العام تحديداً، وما زالت مفاعيلها وامتداداتها العالمية مستمرة حتى الآن. وجاء الرئيس الحالي باراك أوباما، صاحب الخلفية الثقافية والنباهة والدراية الأفضل بما لا يقاس من سلفه، مرة أخرى، لإعادة الإعتبار لثقة الأميركيين بنظامهم السياسي والإقتصادي، والى حد ما، لتحسين صورة الولايات المتحدة في العالم، بعد أن تردّت الى حد كبير في السنوات السابقة، خاصةً في العالمين العربي والإسلامي. خاصة وأن سنوات بوش الإبن شهدت أيضاّ صعود عدد من القوى الجديدة الهامة في أنحاء العالم، التي باتت تهدد بشكل متزايد الهيمنة الإقتصادية الأميركية على الصعيد العالمي، وربما لاحقاً هيمنتها في مجالات أخرى.

هل يحبط المنتفضون محاولات "احتواء" الحزب الديمقراطي لهم؟

وحتى نعود الى موضوعنا، نطرح السؤال: هل، بعد أن انكشفت محدودية نوايا وقدرات أوباما على إحداث تغيير ملموس في النظام الأميركي، ناهيك عن التغيير الجدي في السياسات الخارجية، يمكن أن يُفشل المناهضون لطغمة "وول ستريت" محاولات الإستيعاب والإعادة الى الحظيرة؟
من الواضح أن تغييراً جدياً في جوهر النظام السياسي والإقتصدي الأميركي يتطلب طول نفس وتطوراً عميقاً في مستوى الوعي الشعبي الأميركي لطبيعة هذا النظام. ومدخله الرئيسي في هذه المرحلة هو العمل على تأطير هذه الحركة القاعدية المناهضة للطغمة المالية – الإقتصادية من خلال إدامتها وتنظيمها كحركة سياسية يسارية، يقرر المشاركون فيها أشكالها التنظيمية، وتقوم بتطوير قدراتها وإمكانياتها باستمرار، باستقلالية عن الحزبين الكبيرين والإحتكارات والقوى الإقتصادية التي تقف وراءهما، وبالتعاون، بالضرورة، مع مختلف القوى اليسارية المناهضة للنظام الإقتصادي- الإجتماعي، وبالضروري السياسي، القائم في البلد، بغض النظر عن تأثيرهذه القوى المحدود حتى الآن. بحيث تراكم هذه الحركة القدرة على الفعل والتأثير بشكل مضطرد وتفعل فعلها على أمد أطول لإحداث التغيير المطلوب لصالح القطاعات الشعبية الواسعة. وذلك، بالطبع، سيتحقق بشكل متدرج وعبر جملة من المراحل والإنجازات الجزئية، وعلى الأغلب من الإنتكاسات أيضاً.
فالنظام الأميركي ليس نظام زين العابدين بن علي أو نظام حسني مبارك، بالإمكان الإطاحة به في ثورات شعبية خاطفة نسبياً، على غرار ثورتي تونس ومصر. وأسلحة النظام الأميركي هائلة ومتنوعة في مواجهة الحركات المعارضة وفي تضليل القطاعات الشعبية، وهو يتمتع بدرجة عالية من التنظيم والتماسك. وهو واقع يتطلب، بالتالي، مستوى عالياً من التنظيم والرؤية الواضحة للعملية المعقدة للتغيير المطلوب ترجمته على الأرض، في "معركة مواقع" طويلة الأمد نسبياً.
وما سيجري في الولايات المتحدة سيكون بالضرورة بالغ الأهمية بالنسبة لمجمل الوضع العالمي، نظراً لتأثيرات هذا البلد الواسعة، خاصة على الصعيد الإقتصادي، على الصعيد العالمي بفعل حجم البلد وقدراته كما بفعل بنية النظام العالمي السائد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهي تأثيرات أظهرها بوضوح هذا الإمتداد الواسع والسريع لأزمة أواخر العام 2008 المالية والإقتصادية، التي تحولت في ظرف أسابيع الى أزمة عالمية شبه شاملة، هي في واقع الحال أزمة النظام الرأسمالي العالمي المعاصر بمجمله.