من حق الشغيلة الخوف من الاشتراكية...من واجبنا التوضيح (جزء ثالث)


محمد المثلوثي
2012 / 3 / 4 - 21:46     

للاطلاع على الجزء الأول والثاني هذا الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?t=4&aid=297276
أما النتيجة الثانية لتضخم التركيب العضوي للرأسمال فتتمثل في كون الجزء الثابت من الرأسمال، والذي أصبح يمثل النسبة الأهم من الرأسمال الكلي، تنحدر قيمته مع كل تطور تقني وتكنولوجي وتعميمه على كل القطاعات والمجالات. فاختراع آلة جديدة يمكنها تعويض الآلات القديمة سريعا ما يجعل قيمة الرأسمال تنخفض بانخفاض قيمة تلك الآلات القديمة. واكتشاف معالجات تقنية (فيزيائية أو كيميائية) في التصرف في المواد الأولية، يجعل جزء من هذه الأخيرة يفقد قيمته بشكل فجائي. لكن أكثر من ذلك فاختراع آلة جديدة أكثر إنتاجية من الآلات الموجودة يخفض مباشرة من القيمة التي يضيفها العامل للبضاعة، وهذا ما يجعل قيمة كل البضائع الأخرى تنخفض بدورها متأثرة بهذا الاختراع التقني الجديد. ويمكن معاينة ذلك خاصة في القطاع الصناعي والانحدار الدائم لقيمة البضائع الصناعية. وحتى في الزراعة، وإذا استثنينا عوامل شح الأراضي الخصبة نتيجة الاستنزاف أو بعض العوامل المناخية الاستثنائية، فان قيمة البضائع الزراعية تنخفض باطراد. كل هذا يجعل من القيمة الزائدة المتبلورة في البضاعة تنخفض، وبالتالي فان نسبة الربح تنخفض ولا يمكن تعويض ذلك إلا بإنتاج كمية أكبر من البضائع. وهذا ما سينشأ عنه إغراق شامل للسوق، بما ينشأ عنه من ارتفاع العرض في مقابل الطلب الفعلي على هذه البضائع.
لكن لسائل أن يسأل: إذا كان التطوير التكنولوجي يمثل سببا في انهيار الأرباح، فلماذا يتسابق الرأسماليين عليه؟
الأمر بسيط للغاية. فالتطوير التكنولوجي يوفر للرأسمالي الذي يبادر به قيمة زائدة استثنائية في السوق مقارنة بالرأسماليين الآخرين الذين مازالوا يستعملون تقنية صناعية قديمة. وهو ما يسمح له بجني أرباح استثنائية سواء باع بضاعته بنفس قيمتها في السوق أو حتى إذا خفض فيها لربح معركة المنافسة. غير أن كل اختراع صناعي جديد سريعا ما يتلقفه الرأسماليين الآخرين ليتم تعميمه، وبذلك تنحدر قيمة كل البضائع إلى مستواها الوسطي ويفقد الرأسمالي الذي كان قد بادر بالاختراع أفضليته. وليس خافيا أن الحروب والنزاعات حول احتكار التكنولوجيات الجديدة، وقوانين حماية براءة الاختراع وما يسمى بالملكية الفكرية وكل الوسائل الاستخبراتية سواء لحماية الأسرار التكنولوجية أو لسرقتها، كلها تعكس رغبة كل رأسمالي في الاستفادة أطول مدة ممكنة من اختراعه التكنولوجي الجديد قبل أن يتم تعميمه ويفقد طابعه المتفرد الذي يدر الأرباح الاستثنائية.
* فائض الإنتاج وآثاره:
لم تعد ظاهرة فائض الإنتاج سرا يمكن إخفاؤه. فحيث ما وليت وجهك هناك مغازات تملأ الساحات العامة ومخازن على امتداد الهكتارات، كلها تعج بكل أصناف البضائع. غير أن هذا الكم المتعاظم من البضائع لا يجد طريقه بسهولة إلى الاستهلاك، بل إن صناعة الإشهار والترغيب في الاستهلاك وفنون التسويق أصبحت قطاعا رأسماليا بذاته، وليس غريبا أن كل الشركات العملاقة تخصص أقساما بمئات الخبراء والعمال والموظفين فقط للاعتناء بالتسويق. بل إن التسويق أصبح فرعا علميا بذاته يتم تدريسه في الجامعات والمعاهد المتخصصة. ولماذا كل هذا؟ لأن القدرة الفعلية على الاستهلاك لا تسير بنفس سرعة الإنتاج. أو لنقل أن هناك اختلال دائما ومتعاظما بين دائرة الإنتاج ودائرة الاستهلاك. وهذا ليس لأن البشر قد حققوا اكتفاء فعليا في حاجاتهم، بل لأنهم لم يعودوا قادرين على الشراء.
لكن فائض الإنتاج مرض مزمن في النظام الرأسمالي، ولا يتحول هو أيضا إلى أزمة إلا حين ينتقل من فائض انتاج نسبي، إلى فائض انتاج مطلق يمس كل القطاعات الاقتصادية. وهذا الأمر لا يحدث إلا بشكل دوري متعاقب. وسرعة هذه الدورات أو بطؤها متعلق بتقلص السوق أو توسعها. فمثلما أن اكتشاف أسواق جديدة أو تطورا في وسائط النقل يمكن له أن يبعد شبح الأزمات إلى حين، فان جمود الأسواق يدفع إلى تسريع وتيرة الأزمات. ولعل ما تشهده الرأسمالية منذ عقود هو التقلص المهول لدورة الأزمات بحيث أصبح الأمر يظهر وكأن الرأسمالية في أزمة دائمة لا تتوقف.
أما فائض الإنتاج فهو في الواقع فائض في الرأسمال. حيث من جهة فان عدم دخول البضائع إلى دائرة الاستهلاك يعني عدم تحقق القيمة الزائدة، أي عدم تحقق الربح وبقاؤه في حالة من الكمون البائر. وبما أن الربح المتحقق من خلال بيع البضائع هو الشرط في استكمال دورة الإنتاج، أي في إعادة توظيف الربح في شكل رأسمال جديد، فان فائض الإنتاج يعني تعطل هذه الدورة، بما يقود للكساد والانهيار. ومن جهة أخرى فان فائض الإنتاج يقف عائقا أمام دخول رؤوس أموال جديدة في ميدان الإنتاج، وبالتالي تحولها إلى كمية نقدية فاقدة القيمة. هذا الواقع يدفع الرأسماليين إلى الاتجاه لما يسمى المضاربات المالية. وهي في الواقع مضاربات على المستقبل، أي أن الرأسمال الذي لا يجد طريقه للاستثمار الفعلي يتجه إلى الاستثمار في القطاعات التي تعد بأرباح في المستقبل. وهذا الأمر بالذات هو ما يصنع ما يسمونه الفقاعة المالية التي بقدر ما تنفس وقتيا على الرأسمال، فان انفلاقها يؤدي إلى أعظم الأزمات مثلما حدث في الفقاعة المالية التي ارتبطت بقطاع الإعلامية والتكنولوجيات الدقيقة خاصة سنة 2006 ، ونفس الأمر حدث سنة 2008 فيما أصطلح عليه بأزمة السوبرايم والتي ارتبطت بأزمة الرهون العقارية.

* الاختلال بين القطاعات الإنتاجية وآثاره:
يقود منطق الربح الرأسمالي إلى ميل دائم للاستثمار في القطاعات التي توفر أفضل نسبة من الأرباح. هذه الظاهرة ينتج عنها أن الاستثمار الرأسمالي لا يسير بشكل متوازن بين القطاعات الإنتاجية. ففي حين نشهد اتجاه جزء كبير من الرأسمال إلى قطاع إنتاجي معين، نشهد في المقابل هجرة رؤوس الأموال عن القطاعات الإنتاجية التي لم تعد توفر نسبة أرباح مغرية. هذا الواقع ينتج عنه اختلال دائمة في القطاعات الإنتاجية. ولعل أخطر الاختلالات تلك التي تتعلق بالإنتاج الزراعي، حيث فيما نشهد تضخما ورميا للاستثمار الرأسمالي في قطاع زراعي معين، ينتج عنه لاحقا فائضا مهولا من هذا النوع الإنتاجي، نشهد في المقابل تصحرا في قطاعات زراعية حيوية، بما ينتج عنه نقصا كارثيا في انتاج بعض المواد الغذائية. ففي تونس مثلا يمكن معاينة كيف أن تركز الرأسمال في الزراعات التصديرية قد أنشأ تصحرا في عديد القطاعات الزراعية الحيوية وتدمير أشكال انتاج كانت فيما مضى توفر للسكان حدا معينا من الحصانة الغذائية، إضافة لرهن هذا القطاع الحيوي لتقلبات السوق العالمية.
وبطبيعة الحال فتركز الرأسمال في قطاع إنتاجي معين ينتج عنه مع مرور الوقت فيضا من الرأسمال في هذا القطاع. وبالتالي تنخفض شيئا فشيئا نسبة الأرباح. غير أن إعادة توزيع الرأسمال على القطاعات الإنتاجية الأخرى يتطلب فترة زمنية كبيرة. وهذا الأمر يخلق أزمة فائض رأسمال اصطناعية وأزمة في نسبة الأرباح لا تستطيع الرأسمالية الخروج منها لفترة طويلة، هي الفترة اللازمة لاتجاه رؤوس الأموال إلى قطاعات إنتاجية أخرى توفر قدرا أعلى من الربحية. وهذا يخلق من جهة فوضى في الإنتاج بين تضخم الإنتاج في قطاع وندرته في قطاع آخر. ويخلق من جهة أخرى حالات إفلاس عامة لمؤسسات الإنتاج التي تجد نفسها فجأة تدخل طور الكساد بدون أن تجد القدرة على تحويل نشاطها لقطاع إنتاجي جديد. وهو بالطبع ما ينتج عنه كوارث اجتماعية من طرد آلاف العمال وفقدان الآخرين المرتبطين بشكل مباشر أو غير مباشر بالقطاع الإنتاجي الذي هو بصدد الإفلاس لموارد رزقهم.
هذه الفوضى الإنتاجية منشأها كون إدارة الإنتاج لا تقع بشكل مخطط من طرف المجتمع نفسه بل هي موكولة لمنطق الربح الرأسمالي والذي هو بطبيعته لا يستهدف توازنا في الإنتاج كما في الاستهلاك، بل يستهدف تحقيق أكبر نسبة من الأرباح.

* انحدار قيمة البضائع وآثاره:
كما سبق أن بينا، فكل تطوير تقني يقود إلى انحدار في القيمة الفردية للبضائع. وهذا يعني أن كمية العمل الاجتماعي المجرد المتبلورة في البضاعة الواحدة ينخفض مع كل تطور في إنتاجية العمل. لكن العالم الرأسمالي كله يقيس ثروته من خلال تلك الكمية من العمل. لذلك فكل تطور رأسمالي يقود إلى التخلي التدريجي عما جعلته الرأسمالية مقياسا للثروة الاجتماعية، أي العمل. وهذا الأمر ينتج عنه أنه كلما تضخمت الثروة الاجتماعية فإنها تفقد قيمتها. فلو أخذنا ألف وحدة من بضاعة معينة يحتاج إنتاجها لمائة ساعة عمل، فان تطويرا تقنيا جديدا، أو اختراع آلة جديدة، من شأنه أن يخفض قيمة هذه الألف وحدة إلى النصف. وهو ما يضطر الرأسمالي إلى انتاج ضعف كمية البضائع من أجل الحصول على نفس القيمة السابقة. وهكذا نجد أنفسنا أمام تضخم الثروة المادية ضعفا كاملا بدون أن تتطور القيمة الحقيقية لهذه البضائع. فألفي وحدة من تلك البضاعة لا يساوي، بمقياس العمل الاجتماعي المجرد، سوى نفس المائة ساعة عمل السابقة. والنتيجة العامة لهذا الأمر هي الاختلال العام والدائم بين القدرة الانتاجية المنفلتة وبين القدرة الاستهلاكية الفعلية. فالعمال أنفسهم الذين أنتجو الألف وحدة من البضاعة سينتجون ألفي وحدة في نفس المدة الزمنية وسوف لن يتحصلوا بالتالي على أي شيء إضافي في أجورهم. وإذا سحبنا هذا الأمر على المجتمع كله، فانه يعني أن العمال سينتجون ضعف ما كانوا ينتجونه من البضائع غير أن قدرتهم الاستهلاكية الفعلية ستبقى على حالها. أو تنخفض بانخفاض القيمة العامة لكل البضائع بما في ذلك وسائل المعيشة.

في الخلاصة:
لاحظنا كيف أن أسلوب الإنتاج الرأسمالي نفسه هو من يقود إلى الأزمات والاختلالات. وعلى عكس ما يظنه البعض، فان كل تطور رأسمالي يزيد من حدة هذه الأزمات واتساع نطاقها وشمولها لجهات وقطاعات جديدة. لذلك فان كل ما يروجه الاقتصاديين والسياسيين البورجوازيين من كون الحل للخروج من الأزمات هو التنمية ومزيد دعم الاستثمار الرأسمالي لا يعدو أن يكون تدجيلا ينفيه واقع التطور الرأسمالي نفسه. فالمطلوب ليس مزيد الاستثمار الرأسمالي بل إعادة النظر في هذا الأسلوب من الإنتاج واستبداله بأسلوب إنتاجي جديد لا يقوم على نفس القوانين الاقتصادية الرأسمالية السائدة مثل الربح والمنافسة والمردودية الاقتصادية...الخ، بل على أساس توجيه الإنتاج نحو تلبية فعلية متوازنة لحاجات البشر.
لكن في الواقع فأزمات الرأسمالية لا تمس إلا جزئيا الرأسماليين. فهذه الأزمات قد تدفع إلى إفلاس بعضهم، وقد تنخفض نسبة أرباح البعض الآخر، لكن تأثيرها الفعلي يكون على جمهور الشغيلة وعموم المنتجين والفقراء. ففي حين يقود انخفاض نسبة الأرباح إلى انخفاض جزئي في كتلة ربح الرأسمالي (وأحيانا فان انخفاض نسبة الربح تكون متوازية مع ارتفاع في كتلة الربح)، فانه يقود إلى إحالة جزء كبير من العمال على البطالة ويسد الباب أمام قسم كبير من اليد العاملة الشابة لدخول دورة الإنتاج، بما يخلق جيشا عظيما من المهمشين والمعطلين الذين لا يعانون من نقص في مواردهم، بل يعانون من انعدام كلي لأي مورد رزق، وهو ما يعني مواجهتهم للتجويع والتفقير والتهميش.
هذا الواقع هو ما يفسر أن كل أزمة من أزمات الرأسمالية تمثل الشرط الواقعي والمادي لبروز موجات انتفاضية ضد هذا النظام الاقتصادي والاجتماعي. ولعل الموجة الانتفاضية الحالية التي يشهدها العالم بصفة عامة والدول العربية بصفة خاصة تجد تفسيرها في النتائج الكارثية للأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها النظام الرأسمالي منذ أواخر سنة 2007 .
هذا هو عالمكم أيها السادة، وتلك هي التنمية التي تعدوننا بها، وذاك هو الاستثمار الذي تريدوننا أن نجلس القرفصاء بانتظار عصاه السحرية.....
لكن لماذا أطنبنا في الحديث عن الرأسمالية وأزماتها، في حين أننا وضعنا عنوانا يتعلق بالاشتراكية؟
الأمر لا يتعلق بإعطاء معلومات اقتصادية جديدة حول الرأسمالية، فكل ما عرضناه أشياء معلومة منذ زمن طويل. ويمكنكم في هذا الباب العودة للرجل الذي فعلتم كل ما في جهدكم لتحويله إلى صنم ميت وتحفة أثرية قديمة، يمكنكم ببساطة العودة لماركس، هذا الذي حولتم أبحاثه النقدية إلى عقائد ميتة وإيديولوجيات جامدة. لكن الأمر في الواقع يتعلق بإعادة النظر النقدية في الاشتراكية نفسها، ذلك أن الرأسمالية قد أعلنت إفلاسها التاريخي وعجزها عن تقديم حلول للمعضلات العميقة التي أغرقت فيها البشرية، ولم نعد نسمع إلا قلة قليلة ممن يدافع بشكل صريح ومعلن عن هذه الرأسمالية ونظامها. فموضوعنا بالأساس يتعلق بالاشتراكية كما هي محفورة في الذاكرة التاريخية لجمهور الشغيلة، وبالتخصيص اشتراكية النظام الذي التصقت به هذه الكلمة، أي نظام الاتحاد السوفييتي السابق. ومرد الموضوع هو كون الاشتراكية قد انطبعت في الأذهان في صورة نظام شمولي ديكتاتوري دموي، نظام معسكرات الاعتقال ومحتشدات العمل القسري، نظام التجنيد الإجباري وقمع معارضيه باسم الاشتراكية، نظام تسليح عسكرة الاقتصاد وجر الشغيلة لحرب عالمية باسم النضال ضد النازية والفاشية واقتسام العالم مع بقية القوى الرأسمالية الأخرى، نظام التايلورية في العمل وقمع انتفاضات العمال في كرونشتاد وأوكرانيا باسم الدفاع عن الثورة، نظام التراتبية البيروقراطية والامتيازات لأعضاء الحزب الحاكم، نظام التشيكا والاستخبارات والمجازر في حق الفلاحين باسم مقاومة الكولاك.
وما كان ممكنا إعادة النظر في هذه الاشتراكية الدموية بدون مقارنتها بالرأسمالية، وطرح السؤال إن كان هذا النظام "الاشتراكي" يختلف في شيء في أسلوب إنتاجه عن الرأسمالية.
فإذا كانت الاشتراكية هي اشتراكية النظام السوفييتي، فمن حق الشغيلة رفضها. لذلك سنحاول إبراز الحقيقة التاريخية كون الاشتراكية السوفييتية لم تكن في الحقيقة سوى الرأسمالية وهي تعيد انتاج نظامها باسم الاشتراكية. وهذا ليس لاستدرار عطف العمال، أو التخلص من تركة ثقيلة، بل في إطار إعادة النظر النقدية للتاريخ. وهو السبيل الوحيد الذي نراه ممكنا للخروج من حالة العقم التي تعيشها الحركة العمالية وفتح آفاق جديدة لتجاوز الرأسمالية وأسلوبها البربري في الإنتاج. (يتبع)