من حق الشغيلة الخوف من الاشتراكية...من واجبنا التوضيح


محمد المثلوثي
2012 / 3 / 1 - 17:45     


تمهيد:
الجميع يتحدث عن الرأسمالية وعن أزمتها العالمية. الجميع يتحدث عن اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية باعتبارها السبب الكامن وراء الكوارث الاجتماعية التي تعرفها البشرية. الجميع يتحدث عن كون منوال التنمية المبني على الربح والمنافسة وما يسمونه المردودية الاقتصادية هو أصل كل الاختلالات والفوضى الاقتصادية وتكدس الثروة في يد عدد قليل من البورجوازيين في مقابل انهيار الوضع الاجتماعي لغالبية جماهير الشغيلة. الجميع يتحدث عن كون التطور التقني والتكنولوجي، في ظل أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وبدل أن يكون نعمة على البشر، وعاملا مساعدا في تحسين وضعهم، قد أصبح آفة تحيل في كل يوم آلافا إضافية من اليد العاملة على البطالة وجحيم الفقر والتهميش. والجميع يتحدث عن أن الموجة الثورية الحالية إنما قامت لأسباب اجتماعية، أي أنها في الواقع، انتفاضة ضد النتائج الاجتماعية للخيارات الرأسمالية وانسداد الأفق أمام هذه الخيارات الاقتصادية بالذات. ولا تجد من يعترض عليك حين تقول بأن أهداف الانتفاضات التي تعم العالم وخاصة البلدان العربية هي التشغيل والعدالة الاجتماعية والتحرر من كل أشكال الاستبداد والقمع.
لكن ماذا بعد؟
كيف سنقضي على البطالة؟ كيف سنحقق العدالة الاجتماعية؟ كيف سننهي الاستبداد والديكتاتورية؟
الديمقراطية: هكذا تجيبك وسائل الإعلام ومحللوها وخبراؤها
التداول السلمي على السلطة: هكذا تجيبك الأحزاب
تشجيع الاستثمار: هكذا يجيبك الاقتصاديين من كل لون وصنف
الدولة المدنية والحفاظ على المكاسب الحداثية: هكذا يجيبك الليبراليين
الخلافة الراشدة والعودة لتعاليم الإسلام السمحة: هكذا يجيبك تجار الدين
لكن لماذا فشلت الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة في حل أزمات البلدان الديمقراطية؟ لماذا تواجه الجماهير في اليونان وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية هذه الديمقراطية بالذات وتداولها السلمي على السلطة؟
لماذا لم تستطع الحداثة والدولة المدنية في عالم الحداثة والمدنية أن تمنع وقوع الأزمة والانهيار الاقتصادي؟ لماذا لم تقدر على فض مشاكل البطالة والفقر والتشرد؟ ولماذا لم تستطع تعاليم الإسلام السمحة القضاء على الفقر والقمع والاستبداد في السعودية وإيران والسودان؟
أما إذا همست، مجرد همس، بكلمة الاشتراكية، فان الجميع سينتفض ضدك:
الإسلامي: أنت ملحد
الليبرالي: أنت تريد إعادة الديكتاتورية الدموية لستالين
اليساري: أنت طوباوي تريد تطبيق الاشتراكية في بلد متخلف بدون المرور بالمرحلة الديمقراطية
طيب، أيها السادة
لكي لا نخدش تدينكم المنافق، لكي لا نجرح حسكم الليبرالي المرهف وفزعكم من الكلمات التي ترتعد لها حساباتكم البنكية، لكي لا نقض مضاجعكم الإيديولوجية ولا نمس من هيبة زعمائكم المقدسين، فسوف نترك كلمة الاشتراكية الملعونة جانبا ولنستعض عنها بكلمات لا تجدون حرجا، أنتم أنفسكم، من حشرها بمناسبة وبغير مناسبة في بياناتكم وخطاباتكم.
"التقسيم العادل للثروة": أليس هذا ما تريدونه؟
طيب، لتذهب كلمة الاشتراكية إلى الجحيم، كيف سنقسم الثروة الاجتماعية بشكل عادل؟
"التشغيل": أليس هذا ما تريدونه؟
طيب، لننس حكاية الاشتراكية، كيف سنجعل الجميع يشارك في الإنتاج الاجتماعي؟
"التوازن بين الجهات والفئات الاجتماعية": أليس هذا مرادكم؟
طيب، دعوا الاشتراكية في رفوف الكتب، كيف سنجد التوازن بين الجهات والفئات الاجتماعية؟
جميعكم يقول أن الرأسمالية، هذا النظام الذي نعيش عليه يوميا، هو نظام تقسيم غير عادل للثروة الاجتماعية. وجميعكم يقول أن الآلات والروبوات والحواسيب التي صنعتها الرأسمالية، هي بالضبط ما يجعل الإنتاج لا يحتاج ليد عاملة جديدة ويحيل العمال الموجودين على البطالة. وجميعكم يقول أن منطق الربح السريع والسهل هو الذي يدفع الاستثمار إلى جهات دون أخرى ويخلق التفاوت وعدم التوازن في التنمية. فما العمل إذا؟ هل لديكم رأسمالية أخرى غير هذه التي تسير أمام أعيننا؟ هل لديكم رأسمالية تقسم الثروة بالعدل؟ هل لديكم رأسمالية تدمج الجميع في دورة الإنتاج؟ هل لديكم رأسمالية لا يقودها منطق الربح والمنافسة والمردودية الاقتصادية فتقوم بمشاريع تنموية خيرية لصالح المناطق والفئات الشعبية المحرومة؟
سنكون ممنونين حقا لو أتيتم لنا بهذه الرأسمالية الرائعة. وسنعدكم بإلغاء كلمة الاشتراكية من قواميس كل اللغات، ببساطة لأننا لا نواجه الكلمات ولا نناضل من أجل الكلمات، بل فقط من أجل "تقسيم عادل" للثروة ، مثلما تقولون، ومن أجل أن يساهم الجميع في الإنتاج ومن أجل تنمية متوازنة حقا. وإذا كان كل هذا اسمه رأسمالية جديدة غير الرأسمالية الموجودة الآن، فمرحبا بكم وبرأسماليتكم هذه.
بعد أن أنهينا جدالنا معكم، أيها السادة، وفي انتظار تحقيقكم لهذه الرأسمالية الموعودة التي ستقضي على الاستغلال والبطالة والفقر وتجسد "العدالة" والتوازن الاجتماعيين، نستسمحكم الآن بالاتجاه إلى أنفسنا، نحن جمهور الكادحين، لنعيد طرح نفس الأسئلة السابقة، لكن بطريقتنا الخاصة، ومن وجهة النظر التي تعبر عن مصلحة اجتماعية خاصة بنا ، مع العلم مسبقا أنها ليست وجهة نظر دينية ولا ليبرالية ولا حتى يسارية، فهي ببساطة وجهة نظر طبقية، أي زاوية النظر من موقعنا الذي نحن فيه فعليا، بصفتنا ضحايا نظامكم الرأسمالي الحالي، لكن، أيضا، وخاصة،بصفتنا الرافضين لوضع الضحية ذاك والمتمردين عليه، وحتى إذا كان هناك من إخواننا، الكادحين، من هو راض وقانع بدور الضحية، فسنتسمحه هو أيضا، لأننا سنتركه لخنوعه الذي اختاره بمحض إرادته، وسنتجه لأنفسنا، نحن الكادحين وعموم البشر المنتفضين ضد وضع الاستعباد والاستغلال والاستيلاب الذي وضعنا فيه هذا النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والذي للأسف لم نجد له اسما آخر غير اسم: النظام الرأسمالي.

هل الرأسمالية قدرنا النهائي؟
الحياة هي مجرد اختبار من الله لعباده، والفقر والبؤس وكل المصائب التي تحل فوق رؤوسنا هي مجرد ابتلاء من الله. والربح والرغبة اللامتناهية في الربح، والاستهلاك والرغبة اللامتناهية في الاستهلاك، هي الخطيئة التي لبست روح آدم منذ قضم من تلك التفاحة اللعينة. الله خلق الأغنياء، لكن هؤلاء لابد لهم من خدم وحشم ورعية، ولذلك خلق الله الفقراء. التجارة حلال والربا حرام. المنافسة حلال والاحتكار حرام. الأغنياء يطهرون ثرواتهم بالزكاة والصدقات، والفقراء يطهرون قوتهم بالتفاني في العمل والقناعة بالنصيب.
هذا كل شيء، ولا جديد تحت الشمس. في انتظار يوم الحساب......
لا توجعوا رؤوسكم أيها الفقراء، تلك هي سنة الله في خلقه.....
هذه إحدى وصفات المرق الإيديولوجي للأحزاب الدينية، لكننا سنتركها لشأنها، بما أن تطور نضالات الشغيلة نفسه كفيل برمي هذه الترهات في متحف تاريخ الأشياء العتيقة.
لكن لا يجب الاستهانة بالأمر، فهذه النظرة الدينية هي في الواقع ليست دينية خالصة، بل نستطيع أن نجدها بأشكال أكثر انسجاما وبلغة معاصرة جدا، بل يمكن أن نجدها مبثوثة في ثنايا الخطاب اليساري الذي يقدم نفسه كعدوها اللدود.
فلو سألنا حتى أكثر المناضلين ضد الرأسمالية نشاطا: متى ظهر الربح كمحرك للاقتصاد؟ أو لنعد صياغة السؤال بطريقة أخرى: متى أصبح الإنتاج الاجتماعي إنتاجا من أجل الربح؟ فسيقول لك: الربح ظاهرة طبيعية ظهرت منذ ظهور الإنتاج نفسه. كل البشر منذ بداية الخليقة كانوا دائما يبحثون عن الربح. والإنتاج لا يوجد إلا بصفته بحثا عن الربح. وإذا سألناه عن التجارة والبيع والشراء والعرض والطلب: متى أصبحت هذه الظواهر محورا للنشاط الاجتماعي؟ فسيجيبك: بطبيعة الحال، فالبيع والشراء والتبادل والتداول النقدي، كلها أشياء قديمة قدم الإنسان نفسه.
وحتى لو سألناه عن العمل بالأجرة، فسيقول لنا أن كل المجتمعات البشرية على مر العصور كانت تقوم على استخدام العمال في مقابل أجر.
ما هي الرأسمالية إذا، ولماذا نعتبرها ظاهرة تاريخية مستجدة؟ ما الجديد الذي جاءت به هذه الرأسمالية؟
فطالما أن الإنتاج كان دائما من أجل الربح، وطالما أن التجارة والتبادل والتداول النقدي كان دائما محور النشاط الاجتماعي، فما الذي يميز الرأسمالية عن غيرها من أساليب الإنتاج التقليدية؟
الرأسمالية هي التقدم. الرأسمالية هي الحضارة. الرأسمالية هي التطور التقني والتكنولوجي وهي العلوم والحداثة وفكر الأنوار. الرأسمالية هي الثروة والمال والبورصات والبنوك وهي الطائرات والصواريخ والحواسيب المعقدة......
ما أروع الرأسمالية...فلماذا تناضلون ضدها إذا أيها السادة؟
نحن نناضل ضد الرأسماليين الجشعين. ضد الرأسماليين الطفيليين الذين يعيشون على الريع العقاري والنفطي والخدماتي وعلى المضاربات والاحتكار. الرأسماليين غير المنتجين الذين يبحثون عن الربح السريع والسهل. بالخلاصة نحن نناضل ضد الرأسمالية المتوحشة والنيوليبرالية وسيطرة الطغمة المالية على العالم.
هكذا يجيبنا هؤلاء السادة.
ألم نقل لكم أنهم يغمسون أصابعهم في نفس المرق الإيديولوجي للأحزاب الدينية!
نعم بالفعل، فالربح بالنسبة لهم ظاهرة ملازمة للطبيعة البشرية. أما ما يعيبونه على الرأسمالية فهو البحث عن الربح السهل والسريع. والتجارة بالنسبة لهم مطبوعة في جينات الإنسان، أما يعيبونه على الرأسمالية فهو الاحتكار والمضاربة. والعمل بالأجرة بالنسبة لهم ثابتة من ثوابت الإنتاج الاجتماعي، أما ما يعيبونه على الرأسمالية فهو الاستغلال الفاحش والنزعة الشريرة لرجال الأعمال في هضم حقوق الشغيلة.
هناك الرأسمالية وهناك الرأسمالية المتوحشة: نحن نقاوم الرأسمالية المتوحشة
هناك الرأسمالية وهناك النيوليبرالية: نحن نقاوم النيوليبرالية
هناك الربح وهناك الريع والفوائض البنكية: نحن نقاوم الريع والفوائض البنكية المشطة
هناك الربح وهناك الربح الطفيلي لرجال البورصة: نحن نقاوم الربح الطفيلي في البورصات
هناك المنافسة وهناك الاحتكار: نحن نقاوم الاحتكار
هناك القطاع المنتج وهناك القطاع الخدماتي: نحن نقاوم القطاع الخدماتي غير المنتج
هناك الرأسمالية وهناك الهيمنة الاقتصادية: نحن نقاوم الهيمنة والامبريالية والاستعمار
هناك الاستغلال وهناك الاستثمار: نحن نرغب في الاستثمار لكن بدون استغلال
هناك التطور التقني وهناك البطالة: نحن نريد التطور التقني لكننا نناضل ضد البطالة
في الخلاصة: هناك شيء وهناك وجهه الآخر الملازم، نحن نرغب في هذا ونناضل ضد الآخر.
من منكم لا يعرف الاقتصادي الفوضوي المشهور برودون، انه جدكم الأول، أيها السادة، فالرأسمالية بالنسبة له منقسمة إلى لوائح اقتصادية ايجابية وأخرى سلبية. المطلوب بالنسبة له هو التخلص من اللوائح الاقتصادية السلبية والاحتفاظ بالايجابية.
وأنتم ، أيها السادة، إنكم لا تفعلون سوى تطوير هذه الثنائيات الوهمية، كل حسب هواه، وكل حسب مزاجه.
لكن أيها السادة،
الرأسمالية متوحشة...ليست هناك، ولم توجد قط، رأسمالية إنسانية...وسنترك لكم الوقت لتبحثوا في التاريخ إن كانت قد وجدت رأسمالية إنسانية بالفعل.
الرأسمالية ليبرالية...وإذا كنتم تظنون الكينزية وسيطرة الدولة على إدارة الاقتصاد شيء غير ليبرالي، فأنتم إما أنكم لا تفهمون الليبرالية أو أنكم تجهلون الكينزية.
أما الريع والفوائد البنكية وأرباح رجال البورصة والأرباح التجارية في القطاع الخدماتي فكلها اقتطاع من الربح في ميدان الإنتاج، أي من الربح الرأسمالي الذي لا يتأتى إلا من فائض القيمة الذي يستأثر به الرأسمال من خلال استخدامه المنتج لقوة العمل.
والاستثمار الرأسمالي ليس سوى إعادة توظيف الأرباح في دائرة الإنتاج. وبما أن الربح لا يعدو أن يكون سوى الاسم الملطف لسرقة جهد العمال، فان الاستثمار لا يقوم إلا من خلال الاستغلال ومن أجل توسيع دائرته.
أما التطور التقني، في ظل الرأسمالية، فلا يقود إلا إلى إزاحة اليد العاملة وتعويضها بالآلة والروبوات والحواسيب.
في الخلاصة، فكل وجه ترونه "ايجابيا" في الرأسمالية يشترط وجود الوجه الذي ترونه "سلبيا" فيها.
للأسف، كان بودنا أن لا يكون الأمر كذلك....لكنه بالفعل كذلك
لكن لنعد لحكاية الربح والإنتاج من أجل التبادل والعمل المأجور والتداول النقدي...
هل تظنون حقا أن هذه الأشياء التي ترونها الآن، يعود تاريخها إلى دراما سيدنا آدم وحكايته الطريفة مع إغواء رفيقة دربه حواء وتواطئها المشؤوم مع إبليس اللعين الذي تمثل لها في الشكل الجنسي المثير للثعبان؟ هل حقا تظنون ذلك؟
إنكم مخطئون تماما أيها السادة.
****************************************************************************

الجزء الثاني

ولتتثبتوا من الأمر ما عليكم سوى العودة لأجدادكم ليحكوا لكم كيف كان يعيش أسلافنا قبل قرنين أو حتى أقل من ذلك. وهذا سيعطيكم عنصرا من عناصر الإجابة. أما إذا أردتم معرفة الحكاية كلها فيجب أن تصغوا لقصة حياة فلاحي القرون الوسطى، وهذا حتى لا نثقل عليكم بالعودة إلى قصص حياة القبائل القديمة، أو المشاعيات البدائية.
في الواقع كان هناك نمطان رئيسيان من الفلاحين في القرون الوسطى. الأول هو ذاك الفلاح الذي يملك قطعة أرض صغيرة على أطراف الملكية الإقطاعية الكبيرة لأسياد الأرض من الإقطاعيين والنبلاء أو الملكيات الكبيرة للكنيسة، ونجد مثل هذه الملكية الكنسية لدينا في تونس مثلا تحت اسم الأراضي الحبوس أو الأوقاف. أما الثاني فهو ذاك الفلاح الذي لا يتوفر على أية ملكية حقوقية للأرض وهو مدمج في شكل قنانة كلية ضمن الإقطاعية الكبيرة يعيش فيها هو وأسرته ولا يغادرها طوال حياته.
بالنسبة إلى النمط الأول من الفلاحين فلقد كان يعيش جزئيا على الإنتاج الأسري، أي على الاقتصاد البيتي الذي يستهدف أساسا تلبية الحاجات العائلية، وكان اتجاهه للسوق لمبادلة الفائض القليل من إنتاجه ببعض حاجياته الأخرى مسألة عرضية ومحدودة، أي أن إنتاجه الخاص لم يكن متوجها بالأساس لغاية المبادلة بل لغاية الاكتفاء الذاتي. وبحكم صغر حجم الأرض التي يقيم عليها نشاطه الزراعي، وبحكم محدودية أدوات الإنتاج التي يستخدمها فلقد كان مجبرا على الذهاب، هو وأبناؤه، للعمل في أرض الإقطاعي المحاذية له، خاصة في المواسم الفلاحية للبذر أو لحصاد المحصول. وفي مرحلة تاريخية أولى كان يتلقى في مقابل عمله جزء من المحصول وفقا لعقد مكتوب أو شفوي (عقود المغارسة مثلا).ونظرا إلى ضعف تطور وسائل الإنتاج والطبيعة المحدودة لهذا الإنتاج الزراعي وارتهانه إلى العوامل المناخية، فسواء تعلق الأمر بالفلاح أو بالإقطاعي فان الإنتاج لم يكن موجها بالأساس للمبادلة بل لتلبية حاجات الاقتصاد الأسري. وحتى عمليات التبادل التي كان يقوم بها الإقطاعي من أجل الحصول على بعض وسائل الترف كانت هي أيضا محدودة بمحدودية التجارة الوطنية والعالمية نفسها وضعف تطور وسائل النقل وعدم أمان الطرق التجارية، بحيث كانت الإقطاعيات في الغالب تعتمد الاكتفاء الذاتي سواء من خلال تنويع الزراعات المنزلية أو تنويع الحرف بما جعلها أشبه بالفضاءات المغلقة على نفسها.
أما النمط الثاني من الفلاحين فلقد كان يعيش هو وأسرته كتابع من توابع الإقطاعي، وكان في وضع أشبه بالوضع العبودي، فهو عمليا لم يكن يملك الأرض ولا أدوات العمل، وكان يعيش على جزء من الإنتاج الذي يقوم به لصالح الإقطاعي. وكان إضافة إلى العمل الزراعي الذي يقوم به يشارك في خدمة سيده من خلال الأعمال الحرفية أو تربية المواشي وتنظيف الإسطبلات وكل أعمال الصيانة والتدبير المنزلي. وكما هو واضح فان هذا النمط من المزارعين لم يكن يمارس أي نوع من المبادلة وإنتاجه موجه تماما لتلبية حاجاته الأسرية وحاجات سيده الإقطاعي.
كل هذا النظام الزراعي المغلق لم يكن ليتفكك إلا بتطور قوى الإنتاج سواء من خلال تطور الزراعة بما أصبح يوفر جزء احتياطيا للفلاحين المستقلين مكنهم من بداية الانفصال النسبي عن الإقطاعيات الكبيرة وتطويرهم لإنتاجهم الزراعي وتوفير لفائض من الإنتاج يسمح لهم بدخول عالم المبادلات التجارية وتنويع نشاطاتهم، أو من خلال بروز التعامل النقدي وتعويضه للمقايضة، وبداية تشكل رؤوس أموال نقدية دفعت العديد من الأقنان والفلاحين إلى الهجرة إلى المدن ودخول غمار التجمعات الحرفية وبداية فرقعة طابعها المغلق. ونشاط الدورة التجارية، وتطور الرأسمال التجاري وبداية بروز هيمنته كانت الدافع وراء تطور الصناعات الحرفية وتحولها شيئا فشيئا إلى صناعات مانيفاكتورية أوسع وأكبر لتلبية الحاجات المتنامية لسوق التبادل. كذلك اكتشاف طرق الطواف البحري وتطور وسائط النقل والأمان النسبي للطرق التجارية واكتشاف مناجم الفضة والذهب في العالم الجديد وتطور النظام الاستعماري، كل هذه التحولات العظيمة كانت السبب الكامن وراء انحلال المجتمع التقليدي القديم وبروز نمط انتاج جديد يعتمد بالأساس على التبادل والإنتاج من أجل الربح. ومن نافل القول أن هذه العملية التاريخية لم تكن ممكنة بدون فصل المنتجين عن وسائل إنتاجهم وخاصة منها الأرض سواء من خلال النزوح التلقائي للفلاحين والمزارعين المعدمين باتجاه المدن، أو من خلال تحويل الأراضي الزراعية إلى مراعي واسعة لتلبية حاجيات فبارك النسيج المستحدثة والزراعات الأحادية، أو من خلال العمليات القسرية التي قامت بها الدولة.
هكذا، أيها السادة، فعالم اليوم الذي تظنون أنه وجد منذ الأزل، لم يكن موجودا قبل قرون قليلة. فلا الربح كان محورا وهدفا للإنتاج الاجتماعي. ولا التبادل كان غايته، بل تلبية حاجات الاقتصاد الأسري، والعمل المأجور، أي المقابلة بين وسائل الإنتاج وقوة العمل المنزوعة من أي وسيلة عمل وتحولها إلى بضاعة تباع وتشترى، لم يكن سائدا أو معروفا آنذاك. والتداول النقدي كان ظاهرة محلية ومحدودة، والنقد لم يكن مثلما نراه اليوم آلهة العالم، بل مجرد واسطة معزولة ضمن تبادل معزول وعرضي.
وماذا يعني هذا كله؟
للأسف، أيها السادة، هذا يعني أن نظامكم الرأسمالي ليس نظاما طبيعيا في الإنتاج، بل هو ظاهرة تاريخية مستجدة وطارئة ولم يكن لها وجود من قبل.
قد لا يعني لكم هذا الأمر شيئا، غير انه يعني لنا الكثير.
فإذا كان أسلوب الإنتاج الرأسمالي أسلوبا تاريخيا وليس مطلقا للإنتاج، وقوانينه الاقتصادية هي قوانين تاريخية وليست قوانين طبيعية، فان ذلك بقدر ما يحزنكم ويبعث فيكم الريبة والشك، فانه يبعث فينا الآمال الكبيرة في تغييره وفي إيقاف سريان قوانينه وتجاوز أصنافه الاقتصادية.
ما هي الرأسمالية بالضبط؟
لكي لا نثقل عليكم سنقول ما تعرفونه جميعا: الرأسمالية هي الإنتاج من أجل الربح. كل أساليب الإنتاج السابقة لم تكن كذلك. ففي العصور الحديثة فقط أصبح الإنتاج الاجتماعي موجه بالكامل باتجاه واحد وحيد هو الربح ومزيد مراكمة الربح.
هل نكشف سرا عائليا خطيرا عندما نقول ذلك؟
في الواقع نعم: الربح هو الفضيلة الاقتصادية الوحيدة في هذا المحيط الرأسمالي المتلاطم الأمواج. ومن أجله يمكن لأكثر الفضائل الأخلاقية رسوخا أن تتحول إلى رذيلة، مثلما يمكن لأكثر الأعمال وحشية أن تتحول إلى مدنية وتحضر وتجد لها من الفلاسفة والعلماء ورجال الدين الذين يسبغون عليها أكثر الأوصاف لطافة وتعففا.
التقدم، التطور، المدنية، الحداثة، التنمية، التنوير، الديمقراطية، الحرية...الخ يمكننا أن نعثر على قاموس كامل بمئات الصفحات يحتوي على آلاف المفردات البلاغية التي تلف بخيوط الغزل الرومنسية معشوقها السري: الربح. لكننا للأسف لو رفعنا الغطاء الفضي المزخرف لوجدنا وجه مصاص الدماء وعرق الشغيلة. لوجدنا الربح وهو يلعق بلسانه كضباع شرهة في البراري.
لكن ماذا يعني توجيه الإنتاج باتجاه الربح؟
هذا يعني من جهة كون طبيعة ما ننتجه وكميته وظروف إنتاجه والهدف من هذا الإنتاج ليس تلبية الحاجات الواقعية والفعلية للبشر، بل تحقيق الربح. وهو يعني من جهة أخرى كون ما نحتاجه لم يعد تلك الأشياء التي نراها ضرورية لحياة متوازنة ومريحة ومبدعة، بل مجرد استهلاك لبضائع تعرض نفسها بأكثر الأشكال إغواء أو دعارة. ومن ظمأ استهلاكي إلى آخر أشد منه، بفضل مشاهد الإشهار الغرائزية، يتحول البشر من الدوران حول ذواتهم وحياتهم الحميمية، إلى الدوران حول صنم البضاعة، ليبيعوا أعمارهم وأجسادهم ثمنا لحميميتها الفيتشية المصطنعة.
فبفضل الكيمياء السحرية للربح يتحول إنتاجنا، انتاج أيدينا بالذات، إلى قوة غريبة تواجهنا. والآلة التي صنعناها بأنفسنا، تلك الآلة العجيبة، تتحول إلى سلسلة تحيط بأعناقنا وتقهرنا وتسحقنا لتحولنا إما إلى آلات ميكانيكية مثلها أو إلى عاطلين زائدين عن الحاجة.
وعندما تتحول القيمة الاستعمالية لإنتاجنا، أي كمية ونوعية ما نحتاجه فعلا، إلى مجرد خلفية أو مبرر لقيمته التبادلية، أي لكمية ما سيدره من أرباح، فان حياتنا نفسها، حياتنا الحيوية كنوع بشري، تصبح مجرد اغتراب معمم. وليس غريبا بعد ذلك أن تصبح المجاعات والكوارث والحروب والفقر والبؤس الذي يكتسح العالم، ليس غريبا أن يصبح كل ذلك مجرد مشاهد تلفزيونية للاستهلاك العمومي.
الرأسمالية هي تحويل كل شيء إلى بضاعة معدة للتبادل، للبيع والشراء. لكن لتدخل البضاعة إلى سوق التبادل عليها أن تحمل تلك الصفة التي تجعلها قابلة للمبادلة مع البضائع الأخرى. وإذا كانت القيم الاستعمارية المتنوعة للبضائع، أي قدرة كل بضاعة معينة على تسديد حاجة استهلاكية محددة، لا يمكن أن تكون موضوع تبادل، بما أن القيمة الاستعمالية لا يمكن ضبطها في كمية معينة يمكن قياسها بالمقارنة مع كميات أخرى، فلن يبقى للبضاعة إلا ميزة كمية واحدة هي بالضبط كمية العمل الاجتماعي المجرد المتبلور فيها.
وهكذا فظهور البضاعة كشكل اجتماعي موحد للإنتاج ما كان ممكنا إلا بتطور العمل إلى عمل اجتماعي مجرد. وهذا الأمر ذاته ما كان ممكنا بدون تطور التجارة والصناعة إلى حد توارت فيه القيمة النوعية الخاصة للعمل خلف كميته التبادلية المجردة. والكمية المجردة للعمل لا قياس لها إلا الزمن، أي عدد الساعات التي يبذلها العامل الاجتماعي في انتاج البضاعة. وهكذا فالنظام الرأسمالي برمته لا ينظر للبضائع من زاوية تحقيقها لحاجة استهلاكية معينة بل من زاوية كمية العمل الذي تحتاجه ومقارنة ذلك بالمتوسط الاجتماعي في فترة محددة. والحاجة الاستهلاكية لم تعد سوى خلفية أو الإطار المادي الذي تتجسد فيه القيمة التبادلية للبضاعة.
لكن تحول العمل إلى مقياس لقيمة البضائع، وتحول هذا العمل إلى عمل مجرد يجد شرطه التاريخي في فقدان العمل لطابعه الفردي، أي انفصال المنتجين عن الشروط المادية للإنتاج.وهذا يعني أن المنتج الخاص يتحول، بفقدان العمل لتميزه النوعي، إلى قوة عمل متحررة من كل وسيلة انتاج ومتحررة من أي تميز خاص. وهذا الأمر يجعلها تدخل الإنتاج بصفتها بضاعة قابلة للتداول هي نفسها. هذه البضاعة الخاصة، التي هي قوة العمل، تتميز عن بقية البضائع بكونها الوحيدة التي تنتج قيمة كل البضائع الأخرى، أي أنها القوة الوحيدة التي بمقدورها بعث الروح التبادلية في الأشياء «الميتة» بإضافتها قيمة زائدة، أو ما يسمونه فائض القيمة.
وبطبيعة الحال ففائض القيمة لا يعود لقوة العمل بل لمالك وسائل الإنتاج. وهذا ليس لغزا أو أحجية، بل لأن عملية تبادل بضاعة قوة العمل تقع خارج دائرة الإنتاج المباشر لفائض القيمة، ذلك أن قيمة بضاعة قوة العمل هذه تتحدد مسبقا في سوق التبادل البضاعي، وفقا لقيمتها المعروضة في السوق، أي العرض والطلب على هذه البضاعة.
ومن نافل القول كون قيمة قوة العمل تتحدد بقيمة البضائع التي يستهلكها العامل لبقائه كعامل، ليس كفرد بل كطبقة اجتماعية، وهو ما يعني أنها موضوع نزاع اجتماعي ومرتبطة بالظروف الاجتماعية الخاصة بكل بلد أو مجموعة بلدان.
هذا هو بإيجاز شديد أسلوب الإنتاج الرأسمالي. ونحن لم نعرض هنا سوى ما يعرفه الاقتصاديين البورجوازيين أنفسهم ويقرون به. غير أن الأحجية تبدأ عندما يصطدم هذا الأسلوب في الإنتاج بالأزمات المتعاقبة التي لا تؤرق ضمير العالم الرأسمالي فقط، بل تعصف بكيانه وتهدد وجوده وتدفعه إلى الفوضى وتثير جمهور الشغيلة ضده.
فما هو سبب الأزمات يا ترى؟
في الحقيقة فان سبب الأزمات هو بالضبط هذا الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج بالذات، غير أننا نستطيع منهجيا أن نبرز الأسباب العامة بشكل منفصل، بدون أن يغيب عن أناظرنا أن هذه الأسباب لا تعبر إلا عن الشيء نفسه بطرق مختلفة ومظاهر متعددة.
*تضخم التركيب العضوي للرأسمال وآثاره:
ينقسم رأس المال إلى جزأين: الأول يمثل قيمة رأس المال الثابت، أو الشروط المادية للإنتاج من مواد أولية وآلات وبنايات...الخ. أما فيمثل قيمة الرأس المال المتغير، أو قيمة أجور العمال. وبدون الدخول في كثير من التفاصيل، يمكن لأبسط معاينة لتطور الرأسمالية أن تبرز التضخم المتعاظم للرأسمال الثابت بمقارنة بالرأسمال المتغير. وهذا الأمر له نتيجتان عامتان. الأولى تتمثل في التناقص النسبي الدائم للقيمة الزائدة التي يضيفها العامل مقارنة بالرأسمال الكلي. وبما أن هذه النسبة المتناقصة ليست سوى التعبير الرياضي عن نسبة الربح، فهذا يعني أن تطور التركيب العضوي للرأسمال، أي نسبة الرأسمال الثابت بالمقارنة بالرأسمال المتغير، يسير عكسيا مع نسبة الربح.فكلما تطورت قيمة المواد الأولية والآلات والبنايات...الخ مقارنة بقيمة الأجور، انخفضت بنفس النسبة القيمة الزائدة مقارنة بالرأسمال، أي انخفضت نسبة الأرباح، حتى وان كانت الكتلة المطلقة للقيمة الزائدة قد تطورت. وهكذا نجد كيف أن كل تطوير في القدرة الإنتاجية للرأسمال يوازيها انخفاض في نسبة الأرباح. لكن الأمر لا يؤدي مباشرة للأزمة إلا حينما يتحول من ظاهرة نسبية، أي تهم جزء فقط من الرأسمال العالمي، إلى ظاهرة مطلقة تمس كل القطاعات الاقتصادية وكل البلدان. وهذا الميل العام لتضخم التركيب العضوي للرأسمال ووجهه الملازم المتمثل في ميل معدل الأرباح نحو الهبوط، لا يجد الرأسماليين في مواجهته سوى إما اكتشاف قطاعات إنتاجية جديدة، وهذا ما يفسر التوسع السريع للرأسمالية بما يجعلها تستنفذ في كل مرة المجالات الحيوية الجديدة التي يمكنها أن تعيد الروح في الجسم الرأسمالي المتهالك. وإما تشديد وطأة استغلال قوة العمل من خلال تطوير الإنتاجية. يضاف إلى ذلك تطوير وسائل النقل والشحن والاتصالات وكل التكنولوجيات الخاصة بالاقتصاد في المواد الأولية والوقت اللازم للإنتاج. ومن الطبيعي أن كل هذه الحلول الكلاسيكية التي تجدها الرأسمالية لكبح سريان قانون ميل معدل الأرباح نحو الانخفاض هي نفسها تهيئ الأرضية للأزمة اللاحقة وتجعل منمن وسائل الخروج منها أشد صعوبة وتعقيدا. وهكذا ففي كل مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية، تجد هذه الأخيرة نفسها في مواجهة هذا القانون القاسي، لكن أسلحة مواجهته القديمة تتآكل وتصير عديمة الفائدة. وهذا في الواقع ما يفسر كون كل أزمة من أزمات الرأسمالية لا تفعل سوى التهيئة لأزمة قادمة أكثر عمقا وضراوة.