طبيعة الأزمة الرأسمالية الحالية - برابهات باتنيك

هاني مشتاق
2012 / 2 / 17 - 09:56     


بقلم :برابهات باتنيك

أمين عام الحزب الشيوعي الهندي الماركسي
يتفق الجميع على ان النظام الرأسمالي يجتاز أزمة خطيرة، ولكن الناس على اختلافهم كل يقرأ الازمة بطريقة مختلفة. فوجهة نظر الشيوعيين، ويتفق معها حتى علماء الاقتصاد التقدميون مثل بول كروغمان وجوزيف ستجلتز، وهي تقول بان الازمة بمجملها نتيجة لانهيار "فقاعة" الاسكان، ونظراً لهذا الحال من الازمة، فإن الانفاق الخاص، سواء على الاستهلاك او على الاستثمار، من غير المحتمل ان يزداد في
المستقبل المنظور، والنهوض به ثانية يمكن فقط من خلال زيادة في انفاق الدولة، مما يعني انه في كل من الولايات المتحدة وفي اوروبا، وبعيداً عن تبني اجراءات تقشفية، على الدولة ان تقوم بدل ذلك بزيادة انفاقها. وحقيقة ان هذا العلاج الشافي لكل مظاهر الأزمة لم يتم تبنيه، جرى توضيحها بعدئذ من خلال "علم الاقتصاد السيء" لصناع الرأي، و"سوء نية" الجمهوريين، وقساوة قلب اليمين، وهلم جرا. وجهة النظر هذه، باختصار، ترى الازمة على وجه الحصر كظاهرة معزولة وتحدث لمرة واحدة.ووضع او مأزق يحدث بالمصادفة ان يقع فيه اقتصاد الولايات المتحدة ومن ثم اقتصاد العالم بسبب انهيار الازدهار القائم على "فقاعة" والتي تسترت على اثارتها السياسية النقدية غير المسئوولة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في ظل رئاسة الآن غرينسبان.

أزمة هيكلية

المشكلة مع وجهة النظر هذه انها محدودة ومقيدة الى أبعد الحدود، وهي لا ترى الحقيقة بكاملها. فالازمة التي تسبب بها انهيار "فقاعة" الاسكان ما هي الا جزء من الحكاية، فهي نفسها مستقرة ضمن أزمة هيكلية أساسية للنظام الرأسمالي. وفي الواقع لقد أبقى كل من "الدوت كوم" و "فقاعات" الاسكان هذه الازمة الهيكلية مخفية، ومع انهيارهما فإننا لم نجد أمامنا فقط الازمة التي تسبب بها هذا الانهيار نفسه ولكن عبئها الثقيل على الأزمة الهيكلية التي تتكشف الآن أيضاً. نظراً لأن هذه الازمة الهيكلية مغروسة في منطق النظام الرأسمالي، وما لدينا هو أزمة نظامية، وليست أزمة متقطعة أو دورية، حيث لا طريق للخروج منها. باختصار، لقد دخلنا مرحلة الازمة المطولة للنظام الرأسمالي التي تذكر بعقد الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي ستفتح ليس على الفور ولكن من خلال سلسلة متكاملة من التطورات السياسية التي سيطلق العنان لها، كما في الثلاثنيات والاربعينيات لاحتمالات وامكانيات ثورية حقيقية للتفوق على النظام وتجاوزه.

دعنا نبدأ من خلال طرح السؤال : لماذا يوجد معارضة مؤثرة جداً لانفاق الدولة كوسيلة للتغلب على الازمة في كل من الولايات المتحدة واوروبا؟ ولماذا يوجد طلب دؤوب مؤيد "للتقشف" الذي يميل الى مفاقمة الازمة؟ أن تقول أن "علم الاقتصاد السيء" لا يكفي. "فعلم الاقتصاد" الذي يكتسب السيادة في أي وقت هو ذلك الذي تصادق عليه الطبقة المسيطرة (هو افتراض صحيح وحقيقي بشكل خاص عن علم الاقتصاد لان له علاقة بسياسة الدولة). و "علم الاقتصاد السيء" هو احد الآليات التي من خلالها تمارس المصالح المالية للشركات الكبرى والتي تهيمن على النظام الرأسمالي المعاصر ضغطها. لقد تم فرض "التقشف" لأن رأس المال المالي يعارض انفاق الدولة الواسع النطاق لتحفيز الاقتصاد .

ان هذه المصالح لا تعارض نشاطية الدولة في حد ذاتها، لكنها تريد لتلك النشاطية ان تأخذ شكل تقديم الحوافز لها هي، ولتعزيز مصالحها، كسبل لانعاش الاقتصاد . انها لا تريد فعل الدولة المباشر من اجل هذا الغرض من خلال انفاق عام أكبر. وأي فعل للدولة يعمل مستقلاً عن رأس المال المالي، والذي يسعى للعمل مباشرة بدلا ً من العمل من خلال تعزيز وتشجيع المصالح المالية للشركات الكبرى، يقوض ويضعف الشرعية الاجتماعية للنظام الرأسمالي، وبخاصة المصالح المالية للشركات الكبرى. نظراً لانه يطرح السؤال التالي :إذا كان مطلوباً من الدولة ان تصلح وتثبت النظام، عندها لماذا تحتاج النظام ككل، ولماذا لا يكون لدينا ملكية الدولة نفسها ؟ لذلك فإن رأس المال المالي في الولايات المتحدة لا اعتراضات لديه حيال الثلاثة عشر تريليون دولار من دعم الدولة لاستقرار وترسيخ النظام المالي، ولكن في اللحظة التي يطرح فيها السؤال حول انفاق الدولة لانعاش الاقتصاد، تبدأ هذه المصالح في الوعظ والتبشير بفضائل وميزات "التقشف". ان عهد سيطرة المال بسبب ذلك هو حيث "تدخل الدولة في إدارة الطلب" وفقاً لكينز.

الان، النظام الرأسمالي يتطلب دائماً بعض التحفيز خارجي النمو من اجل ادامة نموه. انه يستطيع ادامة النمو كلياً على قوته الخاصة، بمعنى كلياً لإن النمو يحدث، لبعض الوقت، ولكن إذا ما اضمحل النمو لأي سبب، بما في ذلك بروز اختناقات بسبب النمو نفسه عندئذ يتشكل شكل لولبي من الاستثمارالادنى والنمو الهابط والذي بواسطته ينقله باتجاه حالة ثابتة ومستقرة، أي بمعنى باتجاه حالة اعادة انتاج بسيط. ولانقاذ النظام وتخليصه من اعادة الانتاج البسيط وضمان أن النمو لا يفقد قوة دفعه اوينهار متراجعاً الى حالة من اعادة الانتاج البسيط فإنه الشيء الذي يجري ضمانه من خلال عمل مجموعة من التحفيز خارجي النمو أو المنشأ.

المحفز الخارجي

تاريخياً، لقد لعب هذا الدور مجموعتان من التحفيز خارجي المنشأ الاولى هي كامل النظام الاستعماري الذي لعب هذا الدور حتى الحرب العالمية الاولى. وقد استخدم مصطلح "النظام الاستعماري" هنا ليس لمجرد الاشارة الى الاستيلاء والتملك الاستعماري ونصف الاستعماري كما في الهند والصين، ولكن ايضاً الى ما سمي "المستوطنات الاستعمارية" التي طرد منها "سكانها الاصليين" لايواء المهاجرين من المركز الرأسمالي. وقد دعم "النظام الاستعماري" النمو في ظل النظام الرأسمالي في الاسلوب التالي : الى جانب هجرة السكان الى "المستوطنات الاستعمارية" أو المناطق المعتدلة المناخ من مستوطنات البيض، كان هناك أيضاً هجرة موازية لرأس المال الى هذه المناطق من المركز الرأسمالي الا ان هذا "التصدير لرأس المال" من المركز صار ممكناً من خلال الاستيلاء على الفائض من الممتلكات الاستعمارية ونصف الاستعمارية "المستقلة إسمياً" وهكذا فإن "نزف" الفائض بدون أي مقابل من الهند والمستعمرات الاخرى حول صادرات رأس المال من المركز الرأسمالي الى المستوطنات الاستعمارية. ولكن ضمن هذه الحركات في احجام ومبالغ "القيمة" كان هناك أيضاً تغييرات هامة تتعلق ببنية السلعة : فبريطانيا، البلد الرأسمالي القيادي وأيضاً البلد القيادي في تصدير - رأس المال، لم تنتج السلع والبضائع التي كان عليها طلباً عالياً من المستوطنات الاستعمارية، مثل الولايات المتحدة. والطلب هناك كان ضخماً على المواد الخام أي المعادن والسلع الاساسية، التي أنتجت في الممتلكات الاستعمارية. لهذا السبب فإن صادرات بريطانيا الرئيسة صارت ممكنة أولاً من خلال السلع والبضائع البريطانية مثل الاجواخ التي بيعت في الاسواق الهندية والشرقية الاخرى، والسلع والبضائع التي صدرت من هذه البلدان الى بلدان مثيلة أو حيث حدث "النزف" أو حتى الى حد أكبر من هذه البلدان. وقد أمكن بيع السلع البريطانية في البلدان المستعمرة ونصف المستعمرة لانه كان هناك أسواقاً "جاهزة للاستعمال" : واسواقها يمكن استخدامها لتنزيل البضائع البريطانية، الى الحد المطلوب، في أي وقت.

هذا النموذج الخالص من الحركة العالمية لرأس المال والسلع والذي كان ملائماً ومريحاً جداً من وجهة نظر المركز الرأسمالي، اسفر عن الازدهار الطويل جداً الذي شهده النظام الرأسمالي من أواسط القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الاولى. وبعد هذه الحرب، انهار هذا النموذج. فقد أراد البرجوازيون المحليون في المستعمرات الحيز او المساحة الخاصة بهم، فاليابان برزت كمنافس لبريطانيا في الاسواق الاسيوية وصار المجال للاستثمار في "العالم الجديد" مستنزفاً مع "الاغلاق للحدود"، كما ان المجال لمزيد من خفض التصنيع في اقتصادات مثل الهند بدأ أيضاً يصبح أكثر فأكثر محدوداً. وكان الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي تعبيراً عن حقيقة أن الآلية القديمة للتعويم المحفز في النظام الرأسمالي لم تعد تؤدي وظيفتها.

وقد انتهى الكساد فقط عندما أصبح المحفز الخارجي المنشأ الثاني للنظام الرأسمالي أي انفاق الدولة، نافذ المفعول، أولاً من أجل تحضيرات الحرب، وما بعد الحرب، تحت تأثير ضغط الطبقة العاملة وتهديد الاشتراكية، لادخال بعض تدابير واجراءات "رفاهية الدولة". ولكن "تدخل الدولة في ادارة الطلب" يأخذ الان مجراه المألوف : بروز رأس المال المالي العالمي كقوة مهيمنة تحت مظلة النظام الرأسمالي، ولأسباب أشير اليها سابقاً ، قد أضعف الفرصة من أجله. ان النظام الرأسمالي باختصار يفتقر الآن الى أية آلية لنقل النمو المستدام له.

الاجور الحقيقية المتدنية

وعلاوة على ذلك، يحدث هذا في الظروف التي تصبح فيها الحاجة لمثل هكذا آلية حادة وملحة. دعنا ننظر في سبب هذا. مع العولمة يكون هناك تدفقاً أكثر حرية وانسياباً لرأس المال، بما في ذلك على شكل مال وأيضاً على شكل سلع وخدمات، عبر البلدان أكثر من أي وقت في تاريخ الرأسمالية. ونتيجة لذلك، فإن رأس المال من العاصمة (الى جانب رأس المال المحلي الكبير) يمكنه أن يجعل مقر الانتاج في بلدان العالم الثالث، حيث الاجور متدنية بسبب وجود احتياطي ضخم من القوى العاملة، وتصدير هذا الانتاح الى الاسواق في المدن الرئيسية. وهذا بدوره يجعل أجور العمال في البلدان الكبيرة غير محصنة وعرضة للسقوط باتجاه الانحدار الذي يمارس من خلال الاحتياطات العملية الموجودة في بلدان العالم الثالث. وفي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تدنى معدل الأجور الحقيقية للعمال في العقود الثلاثة الاخيرة قرابة 30 % .

في بلدان العالم الثالث بدروها، لا يبدو الأمر وكأن معدل الاجورالحقيقي يزداد، على العكس تماماً، فعدم الشفقة وتهجير صغار المنتجين بما في ذلك الفلاحين، وهي سمة مميزة اخرى للعولمة، يستتبع تضخم الجيش الاحتياطي للعمال والذي يمارس أيضاً ضغطاً باتجاه الهبوط على معدل الأجر الحقيقي للعمال الذين يشكلون جيش العمال النشط للنظام الرأسمالي. ومع أخذ اقتصاد العالم ككل، لذلك، هناك ميل بالنسبة لمعدل الأجر الحقيقي للعمال نحو التدني، او على أقل تقدير، ان لا يزداد. وفي نفس الوقت ، ومن ناحية اخرى، هناك زيادة ثابتة في انتاجية العامل بما يعني ان حصة فضل القيمة في الانتاج الاجمالي تزداد.

والآن، نظراً لأن روبية انتاج تأتي للعمال تعطي زيادة لكمية اكبر بكثير من الاستهلاك الذي تعطية روبية تأتي للرأسماليين، فأية زيادة في حصة فضل القيمة في الانتاج لها، وأشياء أخرى تبقى على حالها، تأثير في اضعاف الطلب. وإذا ازدادت استثمارات الرأسماليين عندما تأتيهم الروبية الزائدة، عند ذلك هذا التأثير المهبط للطلب يمكن أن يتم التغلب عليه، ويمكن ان يتحقق المحصول المنتج الكلي. ولكن، فقد رأينا بالفعل ان الميل بالنسبة لاستثمار الرأسماليين، بعيداً عن الزيادة، سيبقى منكمشاً أو منخفضاً في غياب أية آلية للنمو المستدام. والنتيجة الصافية لذلك هي ميل واضح باتجاه ازمة الانتاج الفائض. والدولة الرأسمالية التي استطاعت توفير ترياق لهذا الميل باتجاه الانتاج الفائض من خلال تصعيد انفاقها. وبذلك تمتص جزءً أكبر من فضل القيمة وتساعد على تحقيقه. لا يستطيع فعل هذا بسبب معارضة رأس المال المالي لانفاق أكبر من قبل الدولة.

وبناء عليه يتبع ذلك أن اضعاف الدولة الرأسمالية كمزود او معيل للطلب ساعة يشاء المرء، لا يترك فقط رأسمالية العالم بدون المحفز الخارجي المنشأ الاساسي والضروري من أجل المحافظة على النمو المستدام، ولكن أيضاً يدفعها أكثر نحو ركود وفساد. ولسبب اضافي، أي الميل لدفع حصة فضل القيمة نحو الزيادة في انتاج العالم. ان النظام الرأسمالي العالمي بهذه الطريقة واقع في شرك أزمة هيكلية عميقة لا وجود لطرق واضحة للهرب والخلاص منها. ولا يعني هذا القول بان النظام الرأسمالي سينهار، لان هذا لا يحدث اطلاقاً. ولكن، كما في ثلاثينيات القرن الماضي، ازمة جديدة تبزغ وهي حبلى بالاحتمالات والامكانيات التاريخية لتجاوز النظام والتفوق عليه.

تعريب :هاني مشتاق

عن- صحيفة بيبولز ديمكراسي

الناطقة باسم الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي)