حوار مع المناضل الاشتراكي طارق علي: الهيمنة الغربية والربيع العربي وأزمة الرأسمالية

ضي رحمي
2012 / 2 / 13 - 22:44     

ترجمة:
ضي رحمي
حوار:
ديفيد بارسيمان
ديفيد بارسيمان يدير حواراً مع الكاتب والمذيع المعروف بمعاداة الامبريالية "طارق علي". أجريت المقابلة في 26 أكتوبر 2011، سانتا في - نيو مكسيكو - الولايات المتحدة الأمريكية.


مقدمة



بدأت موجة الثورات في الشرق الأوسط بالثورة التونيسية، حين إندلعت في ديسمبر 2010، وعلى ما يبدو، فإن الأمر برمته كان بمثابة مفاجأة شديدة الوطأة على النظام العالمي. ولكن قبل أن نخوض في أحداث العام المنصرم، دعونا نلقي نظرة على أوضاع البلدان العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار.


- خريطة النفوذ بعد الحرب العالمية الثانية


حقيقة ما حدث في العالم العربي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، هو أن حالة الضعف التي كانت عليها كل من الامبراطورية البريطانية والفرنسية، قلصت من نفوذهم السابق، وبالتالي لم تمكنهم من فرض أية سيطرة حقيقية على الشرق الأوسط. وأصبح الأمر بالنسبة للولايات المتحدة مسألة وقت فقط، المملكة العربية السعودية تم تسوية وضعها أثناء الحرب العالمية الثانية نفسها، حين سيطر "روزفلت" والحكومة الأمريكية على شئون الحكم في المملكة، دون أي مقاومة من البريطانيين. وهكذا كانت السعودية آمنة تحت مظلة الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية، وظلت هكذا حتى اليوم. في مصر والعراق – دعونا نبدأ بهذين البلدين- كان لدينا امبراطوريات أوروبية لاتزال تملك نفوذاً، القوات العسكرية البريطانية حاضرة، وقناة السويس يملكها الغرب. وفيما بعد بدأت سلسلة من الثورات، في أغلب الأحيان كانت من قبل ضباط في الجيش، لكنها كانت تحظى بدعم شعبي كبير جداً.

تبدل مسار مصر تماماً بعدما أطاح جمال عبد الناصر والضباط الأحرار بالملك فاروق في عام 1952، ولكن لم يكن ليكتمل هذا التحول التاريخي إذا لم يتخذ "ناصر" قراره الخاص بتأميم قناة السويس. اتخذ ناصر هذا القرار التاريخي لأنه في مصلحة مصر، وكان بمثابة الصفعة على وجه الامبراطوريات الأوروبية، وبدا الأمر وكأن الولايات المتحدة غير معنية بهذا القرار، وذلك لأن واشنطن لم تتأثر به بشكل مباشر. و سرعان ما ردت بريطانيا على قرار تأميم القناة، فأعدت العدة لغزو مصر. بريطانيا، فرنسا وإسرائيل – الأسد البريطاني العجوز، بمساعدة الثعلب الفرنسي والظربان الإسرائيلي– شنوا عدواناً ثلاثياً على مصر عام 1956، وترقب العالم بأسره النتائج المترتبة على هذا العدوان.


بطبيعة الحال قاوم المصريون هذا العدوان بشدة واستبسال، ولكن علينا أن نعترف أن العامل الرئيسي الذي حسم الحرب هو تدخل الولايات المتحدة الأمريكية. فالامبراطوريات الأوروبية لم تتشاور مع الأمريكان قبل بدء الحرب، وكانت تلك هي لحظة فارقة في مسار الحرب الباردة. فالولايات المتحدة لا تريد أن ترى في نهاية الأمر "ناصر" واقعاً في أحضان الاتحاد السوفيتي، وكانت ترى أن القوات البريطانية والفرنسية بهذه الحرب يدفعونه في هذا الاتجاه. وهكذا، كانت هذه هي المرة الأخيرة التي تقدم فيها كل من بريطانيا وفرنسا على أمراً ما دون الرجوع أولاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

وهكذا، في الوقت الذي وضع فيه غزو السويس نقطة النهاية للامبراطورية البريطانية، أعلن أيضاً عن ميلاد القومية العربية. في ذلك الوقت لم تكن أفريقيا قد حصلت على استقلالها بعد، الوضع الذي انتهى لاحقاً. ناصر، وبطبيعة الحال، تعامل مع الانتصار العسكري في مصر – حيث بقيت قناة السويس تحت السيطرة المصرية – كونه مثلاً ودرساً للعرب لكيفية التقدم للأمام: حين تقاتل تمتلك زمام الأمور. وهكذا اجتاحت موجة القومية العالم بقوة. وجاء وقت شعر فيه العرب بإمكانية وجود ما يسمى بـ "الدولة العربية المتحدة" بعواصمها الثلاث الفاعلة: القاهرة، دمشق وبغداد.

في عام 1958 اندلعت الثورة في العراق، وتمكنت من الإطاحة بالنظام الملكي الموالي لبريطانيا. وأعدم الملك وولي عهده المرعب علنأً أمام الجماهير. وكانت مصر قد تخلصت من الملكية، هكذا كان حاملي التيجان في العالم العربي يترنحون من ضربات الثورات. لقد كانت أوقاتاً مجيدة مفعمة بالسعادة والزهو، أتذكرها جيداً كصبي ترعرع في هذا الوقت. ولكن ما حدث بعد ذلك هو أن إسرائيل، كما هو معروف، أصبحت محوراً مركزياً في السياسة الأمريكية. ولم ترغب أمريكا في مشاركة القوى الأوروبية، فتواجد الأمريكان بأنفسهم داخل المملكة العربية السعودية، وبشكل أقل أو أكثر في منطقة الخليج ككل، ولكن طبعاً ليس بالشكل الذي هم عليه الآن. ومنذ ذلك الحين وإسرائيل هي لاعب الولايات المتحدة المتحدة الرئيسي في الشرق الأوسط.

- حرب يونيو ونهاية القومية العربية

لعدة أسباب كانت حرب يونيو 1967 محطة فاصلة في المسار العربي. فقد تسببت الهزيمة التي لحقت بالمصريين والسوريين على يد إسرائيل، في إنهاء مرحلة القومية العربية من ساحة السياسة العربية، ولم تعاود الفكرة الظهور مرة أخرى حتى الآن. لقد حظيت إسرائيل بالدعم الغربي، لا سيما الولايات المتحدة. ومن جانبها تابعت الولايات المتحدة بشغف شديد كيف تمكنت إسرائيل بمهارة وسهولة من معاقبة القومية العربية، وهكذا أصبحوا أصدقاء العمر. إنه عام 1967 وليس عام 1948. عام 1948 كان هاماً لإعلان ميلاد الدولة العبرية، المدعومة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا. ولكن 1967 هو العام الأهم حيث تبنت الولايات المتحدة فعلياً إسرائيل، منذ ذلك الحين والسياسة القائمة بين البلدين هي سياسة "بيتي هو بيتك".

بعد هزيمة يونيو بوقت قصير، توفي عبد الناصر. ومع بداية عام 1970 كانت الولايات المتحدة تدفع بخليفته، أنور السادات، ليلعب دور الولد المطيع، ويقوم بعقد صفقة مع إسرائيل. وذلك لأنهم شعروا أنهم بحاجة إلى مصر، باعتبارها الدولة الأهم والأقوى في المنطقة العربية من حيث عدد السكان والقوة العسكرية، لوضع حد للمواجهة بين العرب وإسرائيل. وهكذا تم توقيع إتفاقية للسلام بين مصر وإسرائيل. وبالتالي، لم يكن خبر حصول كل من "أنور السادات" و"مناحم بيجن" على جائزة نوبل للسلام مفاجئاً لأحد، وفي هذا الصدد أدلت "جولدا مائير" رئيسة الوزراء الإسرائيلية بتصريح لا يُنسى، عندما سُألت: "ما رأيك في حصول هاذين الشخصين على جائزة نوبل للسلام؟" فردت قائلة: "إنها الجائزة الخطأ.. إنهما يستحقان جائزة الأوسكار"، حيث برع كل منهما في تأدية دوره.

أعتقد أن ما رأيناه مع ظهور حكومة السادات كان استسلاماً تاماً لإسرائيل فيما يخص السياسة الخارجية. لقد كانت معاهدة سلام مهينة ومذلة لمصر. فوفقاً لبنودها، لا يحق للجيش المصري اتخاذ أية تحركات داخل الحدود المصرية، دون إبلاغ الإسرائيليين بها سلفاً. وكان هذا يعني أيضاً تخلي الدولة المصرية عن الفلسطينيين. والأمر الثالث، أنه بتوقيع هذه الاتفاقية لم ترتم مصر في أحضان إسرائيل وحسب، إنما أصبحت تابعة للغرب بشكل كامل. هكذا نجح "السادات" بمساعدة الإمبريالية الغربية في تدمير كافة الإصلاحات التقدمية التي كان "ناصر" قد أرسى قواعدها.


قبل بداية ثمانينيات القرن العشرين، كانت عملية الخصخصة وتدمير شبكة الضمان الاجتماعي، التي نحن على دراية كاملة بها الآن، قد أخذت أولى خطواتها. كما أستعان السادات بالجماعات الإسلامية في قمع وتدمير الوجود القومي (والشيوعي أيضاً) داخل الجامعات المصرية، وهناك العديد من الحكايات المرعبة التي تروى عن هذا الوقت. لقد أسسوا لمصر جديدة، مصر التي عرفناها منذ ذلك الحين وحتى اندلاع ثورة 25 يناير: مراكز القوى، والنظام الديكتاتوري القائم على السياسات القمعية. لكن مع توقيع السادات لاتفاقية السلام مع إسرائيل، خسر أنصاره داخل التيار الإسلامي، وكان السبب الرئيسي الذي ساقه أعضاء الجماعة الإسلامية التي نفذت عملية اغتياله تبريراً لذلك هو توقيعه على تلك الاتفاقية.


وعلى عكس ما أشاعت الصحافة الغربية، فقد تقبل المصريون خبر اغتيال السادات قبولاً حسناً. وخلاف الجموعة التي نفذت عملية الاغتيال، كان تعليق الكثير من المصريين على هذا الحدث بـ "الحمدلله" . كان مبارك حاضراً عند مقتل السادات، لكنه تصرف بسرعة شديدة، واختبأ أسفل منضدة كانت موجودة داخل المنصة مما حماه من الإصابة. لقد حافظ على حياته، وأصبح خلفاً للسادات. في البداية أدار أموراً محدودة، ثم ما لبث بعد فترة قصيرة أن عاد إلى النهج القديم، وأصبح أشد قمعاً وتسلطاً من السادات ذاته.


- ديكتاتورية مبارك والمد الإسلامي


وهكذا شاهدنا كيف ظهرت ديكتاتورية مبارك، وكيف أصبحت مثل العثة التي تلتهم كل شيء. اعتمد مبارك على القمع المفرط للحفاظ على النظام، ولضمان تدفق السخاء الأمريكي بما عُرف "بالمعونة الأمريكية" التي تقدر بمليارات الدولارات، والتي يذهب معظمها للجيش والنخبة مقابل البقاء في السلطة. هذا هو المزيج الذي صنع تلك الديكتاتورية. نحن نعلم جيداً، أنه وخلال العشر سنوات الأخيرة ازدادت حدة التوترات في مصر، أولاً مع الإسلاميين؛ فقد أعتمد مبارك في تعامله معهم على سياسة ذات حدين: لا تنافسني في المجال السياسي، في مقابل الكثير من التنازلات في المجال الثقافي. وكانت سياسة مبارك تلك، هي التي جعلت التيار الإسلامي أقوى من ذي قبل.

وقد كان، لم ينافس الإسلاميون مبارك في المجال السياسي. أتذكر جيداً أنني عندما كنت في القاهرة عام 2002، أجريت مقابة مع أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين، وكان اللقاء في عيادته، حيث كان طبيباً، وذلك لأن عمل الجماعة كان محظوراً وفقاً للقانون. ووجهت له هذا السؤال: "ترى ما هو الموقف الذي ستتخذه الجماعة في حالة غزو الأمريكان للعراق؟" ورد قائلاً: "أخ طارق، دعني أخبرك إذا حدث أمراً مثل هذا فإن أبواب الجحيم سوف تفتح"، فرددت بدوري قائلاً: "إنني في إنتظار هذا، فالجماعة بإمكانها القيام بدور محوري في هذا الشأن. كما أن تدخل مصر سوف يزيد الأمور تعقيداً أمام الغزاة"، فرد قائلاً: "لا تقلق". وبالطبع، لم يحدث شيئاً حين غزت القوات الأمريكية العراق. لم تفتح أبواب الجحيم ولا حتى السماء ولا أية أبواب أخرى. كل ما سمعناه هو أصوات خافته من المعارضة في مصر.


وأخذ الحظر المفروض على الجماعة – التي عُذّب العديد من أعضائها – يتضائل شيئاً فشيئاً. وكان مبارك على علم بأن الكثير من داعمي الجماعة والمتعاطفين معها من رجال الأعمال. لهذا في كل مرة كان يقومون فيها بعمل ما لايروق له، كان يهددهم قائلاً: "حسنأ، سوف نسحب كل التراخيص الممنوحة لكم" وفوراً في أعقاب التهديد تتراجع قيادة الجماعة وتمتثل للشروط المفروضة، وتعود للحظيرة. ولكن كان يعرف شباب الجماعة بأنهم الفئة الأكثر تشدداً وتمسكاً بالمبادئ.


ولكن ما نتحدث عنه الآن بالأساس هي المنظمة السياسية الوحيدة المتماسكة التي كانت موجودة في مصر خلال هذه السنوات، لأنه وبعد القضاء على القوميين عانت الساحة السياسية من فراغ كبير. عندما ضرب التيار القومي في مصر، استسلم أعضاؤه وانسحبوا. ومع ذلك بقي البعض منهم متواجد، لكنهم لم يبذلوا الجهد الكافي. جماعة الإخوان المسلمين هي التي كانت حاضرة حين اندلعت الاحتجاجات. وكانت أياماً لم تكن لتراودهم ولا حتى في أحلامهم، عندما تدفق الشباب الثائر في شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس، مما شكل تحدياً للنظام لتعدد الجبهات ولصعوبة السيطرة على الموقف، وكان لسان الحال يقول، إذا أردت استعادة السيطرة، فأنت مضطر للجوء إلى الجيش.

في هذا الوقت، كان المتظاهرون، المرابطون في الميادين بوجوههم الشابة التي يملؤها الأمل، قد استقبلوا قوات الجيش المصري بالود والترحاب، مما صعّب عليهم توجيه مدافع دباباتهم صوبهم. وهكذا، فإن تلك الخلطة بين العدد الكبير للمعتصمين، مع عجز الجيش عن اتخاذ قرار بالتعامل معهم هي التي أدت إلى سقوط الطاغية. في النهاية، أدرك الأمريكان أنه ليس بمقدورهم أن يبقوا على مبارك في السلطة بعد الآن، على الرغم من أنهم حاولوا جاهدين فعل ذلك. لقد صرحت "هيلاري كلينتون" بشكل علني قائلة: "لطالما كان مبارك صديقاً وفياً. لهذا اعتبره أنا وبيل كلينتون فرداً من العائلة". بالتأكيد، للسيدة كلينتون مطلق الحرية في أن ترى مبارك كما يحلو لها أن تراه، لكن المصريون لا يعتبرونه فرداً في عائلتهم الكبيرة. ربما عبر زمناً طويل، لم يكن الانفصال بين طغاة المنطقة العربية المدعومين من قبل الولايات المتحدة وبين السواد الأعظم من شعبوهم واضحاً كما كان جلياً في شوارع مصر في تلك الشهور. لقد كانت حقاً أياماً مفعمة بالزهو والعزة.

- تعد إطاحة العقيد معمر القذافي بالملك "إدريس" عام 1969 وإنهاء الملكية من ليبيا من أهم الأحداث في الشرق الأوسط العربي، وما تبعه من طرد لقوات الولايات المتحدة الأمريكية من قاعدة "ويلر" الجوية، والتي كانت تتمركز بالقرب من طرابلس. وأصبحت ليبيا، كما هو الحال مع العراق في ظل صدام حسين وسوريا تحت حكم الأسد، عبارة عن دولة بوليسية تتمحور حول القائد الملهم، بكل ما يميز تلك الدول من مركزية، وسيطرة الأقلية على الثروة، والفساد، إلخ. وقصته معروفة للجميع، فقد لقي القذافي مصرعه في نهاية 2011. لقد كنت متحفظاً للغاية حول تدخل "الناتو" في ليبيا، ما وصفته أنت بالحذر. في رأيك، ما هو الأساس الذي اعتمدت عليه إدارة أوباما، في فرض ما أسموه "بمسئوليه الحماية"؟

في واقع الأمر، لقد تسببت "مسئولية الحماية" تلك، كما كانوا يدعون، في ارتفاع عدد الشهداء بين المدنيين الليبيين الذين كانوا تحت حمايتهم في بنغازي. لقد تواصل القصف الجوي لأكثر من ستة أشهر فوق طرابلس، سرت ومصراتة وغيرهم من مدن ليبيا. ولم يبث عبر الأقمار الاصطناعية إلا أقل القليل. على عكس الوضع في العراق، حيث كانوا يظهرون قوتهم، وكانت التغطية الإعلامية متواصلة دون انقطاع، ولم تُظهر قناة "الجزيرة" القطرية هول القصف في ليبيا أيضاً، لأن الحكومة القطرية كانت تدعم تدخل الناتو. ولهذا كانت تغطية الجزيرة مؤيدة الحرب تماماً، مما أفقدها المصداقية ومما يعني أيضاً أننا فقدنا واحدة من أهم القنوات الإخبارية المستقلة في العالم العربي نتيجة لموقفها هذا.

دعنا نتحدث بشكل مباشر. ستة أشهر من القصف المتواصل، ويدعون أن الخسائر البشرية تكاد تكون منعدمة؟ لا أصدق هذا. لقد كنت أتحث مع شخصاً لا أستطيع البوح بإسمه، يملك المعلومات وعلى اتصال مباشر بمن هم على علم بتلك التفاصيل في بريطانيا، وجهت له السؤال التالي: "ما هو عدد الذين قتلوا في ليبيا جراء قصف الناتو، أربعون أم خمسون ألف مدني؟" فأجاب قائلا: "لا، هذا رقم ضخم". فسألته بدوري: "كم إذاً تحديداً؟" فقال: "ربما عشرون ألفاً".

حسناً، لدينا "ربما عشرون ألفاً" ذلك يعني أنهم ربما يكونوا ثلاثون ألفاً. لأن فكرة وجود ما يسمى "بالقصف الدقيق" ما هي إلا محض هراء. أنهم لا يستطيعون فعل ذلك حتى مع هجماتهم بواسطة طائرات بدون طيار في باكستان. لهذا فأنا أستطيع أن أقول أن هذا هو الوضع، رغم أن علي أن أضيف أنه ليس لدينا دليل على هذا حتى الآن، وأغلب التقارير – على ندرتها – الواردة من هناك كانت بواسطة الصحفيون. لم يرسل أحد خصيصاً لجمع التقارير كما كان الحال أثناء غزو العراق، لا عبر قناة الجزيرة ولا بواسطة روبرت فيسك ولا غيرهم. لهذا ليس لدينا أية تقارير تفصيلية ودقيقةعن هذه الحرب تحديداً.

حتى إذا كان هذا هو الحال، وأنهم قد قتلوا ما يقرب من عشرون إلى ثلاثون ألف ليبي، فماذا يعني هذا؟ لماذا ذهبوا إلى ليبيا بالأساس؟ رغم أن الناتو كاد أن يسيطر سيطرة تامة على ليبيا، فمنذ عشر أو ربما أثنى عشر عاماً وهم في مباحثات مع القذافي بهدف تدجينه، وقد نجحوا في هذا بالفعل وادخلوه حظيرتهم. ودليل على هذا تصريح "كوندليزا رايس" بأن القذافي يعد نموذجاً للديكتاتور العصري الذي يجب أن يحتذى به في العالم العربي.

هكذا، وجد توني بلير ضالته المنشودة في أحضان القذافي. وتدفقت الأموال من هنا إلى هناك. هذا هو الحال دائماً مع بلير: لا شيء دون مقابل. بدأت وسائل الإعلام البريطانية في تمجيد القذافي، وأخذت تصفه بأنه رجل دولة من طراز فريد. وكان هناك العديد من الأمور الأخرى: مولت أموال القذافي كلية لندن للاقتصاد. كما قام البارون "انتوني جيدنز" تابع بلير الأمين بزيارة طرابلس لمقابلة القذافي، وبعد أن قرأ "الكتاب الأخضر" صرح قائلاً: "ما ورد في هذا الكتاب مشابهة جداً لما نقوم به في بريطانيا". وهو ما نطلق عليه "الطريق الثالث"، وأنه لطريقك الثالث. إلى هذا الحد وصل تعاونهم مع القذافي. حينما بدأت الغارات الجوية الغربية في قصف المدن الليبية، صرح نجل القذافي في مؤتمر صحفي قائلاً: "لقد قمنا بتمويل الحملة الانتخابة الخاصة بساركوزي" وقد يكون هذا حقيقي، هذه هي الدرجة التي وصل إليها التعاون بين هؤلاء الناس، ثم فجأة يصبح وحشاً لأن هناك يحاول قمع إنتفاضة إندلعت ضده؟ من تراهم يخدعون!

أساساً، أعتقد أنهم قاموا بغزو ليبيا للفوز بسوق جيدة لاستثماراتهم. فكما هو معرف فإن النفط الليبي يعد من أجود أنواع النفط في العالم، كما إن تكلفة إنتاجه رخيصة جداً. هكذا يعيدون إعمار الساحل الليبي ببناء الفنادق السياحية ومن ثم تبدأ مشاريعهم هناك. هذا هو السبب الحقيقي وراء غزو ليبيا، ليتخلصوا من الديكتاتور العجوز، حتى وإن كان على استعداد لأن يكون رجلهم المخلص في المنطقة.

ما من شك إنه في كل مرة كان يقوم القذافي فيها بزيارة لروما أو باريس، كان يهين قادة أوروبا بإصراره على نصب خيمته الغبية في وسط المدينة، وكأنه يسخر منهم. لقد كان غريب الأطوار على عكس صدام حسين والأسد اللذان تميزا بالوحشية، لكن كانا على قدر من الذكاء. حصل القذافي على قدر ضئيل من التعليم، وكان في الثانية والعشرون من عمره حين قام بانقلابه العسكري ضد الملك، في ذلك الحين كان "عبد الناصر" هو مثله الأعلى، لكنه سرعان ما نسيه تماماً. هذا إذاً ما ميز القذافي تحديداً، غرابة الأطوار.

ولكن هذا ليس كل شيء، لأنه وياللسخرية، أوربما يكون الأمر على العكس كما سنرى، أن تقوم كل من بريطانيا والولايات المتحدة بتسليم الإسلاميين من أعضاء تنظيم القاعدة بعد تعذيبهم، للقذافي لكي يقوم بدوره بتعذيبهم أيضاً. أحد الذين عذبوا على يد القذافي هو قائد قوات المقاومة في طرابلس اليوم، ولقد طالب بريطانيا بتقديم اعتذار رسمي له لأنهم عذبوه بأنفسهم أولاً، ثم قاموا بتسليمه للقذافي فيما بعد. لذا أنا أعتقد أن جرائم التعذيب تلك لم تحسم بعد.

وأعتقد أن هؤلاء الناس الذين تحمسوا وشجعوا تدخل الناتو قائلين: "أن تلك هي المرة الأولى التي يجب علينا أن ندعم تدخل الناتو، لأنه هذه المرة حقاً تدخلاً إنسانياً"، مدينين لنا بإجابات على بعض الأسئلة حول عدد الضحايا المدنيين، وعن مستقبل ليبيا. أنت تعرف رأيي جيداً، فلقد صرحت به مراراً، رغم مرارته، فأنا أفضل أن تكون الانقلابات داخلية. قد تطول المعركة، ونخسر في سبيلها كثير من الأرواح، لكن من المؤكد أيضاً أن التدخل العسكري الغربي لا يحافظ على الأرواح.

لقد كان هذا رأيي في كوسوفو أثناء الحرب على يوغوسلافيا، ولم أبدله حتى الآن. وحين تسمع الآن بعض فصائل اليسار وبعض اليساريين القدامى وهم يرددون: "علينا أن ندعم مثل هذا النوع من التدخل" يخيل إليك أنهم وصلوا لدرجة من اليأس تدفعهم لدخول الحظيرة طواعية. لقد شاهدنا هذا النوع من السياسيين من قبل، كنت أعتقد أنهم قد تعافوا من هذا الوهم بعد حرب العراق، أنهم يسوقون نفس ححجهم لتبرير الحرب على العراق الآن مع القذافي، باستثناء أن صدام حسين لم يفعل ما كان يفعله القذافي عند القبض عليه. إن عرض وسائل الإعلام العالمية لصور المذابح التي اقترفها القذافي بحق الليبيين كانت خير عون لهم على صبغ التدخل بالشرعية الكافية.

هناك صديقاً لي يعمل كاتباً، وهو يؤمن بنفس أفكاري، قال لي ذات مرة: "لو أنني شاهدت صوراً من العراق مثل تلك التي شاهدناها عن ليبيا، ربما اتخذت موقفاً داعماً للحرب آنذاك". بعض الناس لا يعي حتى ماذا يقول، ويبدو أنهم توقفوا عن التفكير في معنى بعض المفاهيم الهامة، لتسيطر النزعة الإنسانية عليهم ويصبح مفهوم الإنسانية هو الأولى بالاهتمام. مما يعني أنهم فقدوا الثقة في أنفسهم وتخلوا عن مبادئهم. لذلك أنا متآلف تماماً مع موقفي من رفض الحرب، و أعتقد أن هناك ما يبرره، كما سنرى لاحقاً.

وماذا سيكون موقفهم إذا صعد الإسلاميون في ليبيا الآن إلى السلطة؟ بالنسبة لي، لا أرى في الأمر أزمة. صعود الإسلاميين بإرادة الشعب خيراً من صعود شخص لا يمثل أحد. ومن خلال التجربة ستكتسب الجماهير الخبرة. الآن في تونس، وليبيا، وفي مصر نرى صعود الإسلاميين للسلطة، أليس كذلك؟ حسناً، فلنتعامل معهم، لنرى ماذا لديهم ليقدموه. إذا لم ينجحوا في تحقيق المطالب الشعبية، ستدفع بهم الجماهير جانباً مشكلة كياناً جديداً. تلك هي الطريقة المثلى، ولكن ربما يكون الغرب أقل تفاؤلاً في هذا الشأن.

- حقيقة الأمر أن في تونس، الدولة المتاخمة لليبيا، الفصيل الذي فاز في الانتخابات التي أجريت في نهاية أكتوبر 2011، يمكننا وصفه بأنه تشكيل إسلامي معتدل.


بالضبط. وفاز أيضاً الإسلاميين الأتراك، الشكل الإسلامي المفضل لدى الناتو، بالانتخابات التركية منذ عدة سنوات، وهم الآن ركيزة أساسية فيما يسمى بالمجتمع الدولي، ويتمتعون بالدعم المطلق من قبل وزارة الخارجية الأمريكية. وتستعد الآن جماعة الإخوان المسلمين في مصر لعقد صفقة مماثلة.


نحن نعلم أن هناك مباحثات ثلاثية تجرى وراء الكواليس، بين الولايات المتحدة وجماعة الإخوان المسلمون والجيش المصري، بهدف تسوية الأوضاع بشكل يرضي جميع الأطراف. في تونس فاز حزب الغنوشي في الانتخابات، ونحن في الإنتظار. عندما كان الغنوشي يتحدث من منفاه في بريطانيا، كان يقول أنه يؤمن بالعدالة الاجتماعية، دعونا نرى هل سيقدم الإسلاميين أي منفعة اجتماعية لشعوبهم، أم سيكتفون فقط بفتح أبواب البلاد أمام المزيد من الاستثمارات الغربية.

وهكذا، ما لدينا الآن هو نفس النظام السابق، ولكن مع ملمح ديمقراطي، وهو الأمر الهام قطعاً. لقد ملئ الإسلاميون الفراغ الموجود. لم يكن بإستطاعة اليسار فعل ذلك. لم يكن هناك وجوداً للقوى التقدمية، وبعضهم ساند الولايات المتحدة في حربها ضد العراق وأفغانستان. لذلك كان من الطبيعي ان يصبح الأخوان المسلمون هم الحزب الأكثر تماسكاً من بين أحزاب المعارضة. في تونس نجح عدد قليل من اليساريين في الوصول إلى البرلمان، ومن جهتي أتابع الموقف جيداً، لذلك دعونا نرى ماذا سيقدمون، وما الذي يمكنهم فعله.

- يبدو أن مصطلح "مسؤولية الحماية" يتم تطبيقه عملياً بشكل إنتقائي للغاية. ومن الواضح أن هناك بعض المواطنين الأكثر حظاً من غيرهم في هذا العالم. دعنا نكون أكثر وضوحاً. فالكشميريين الذين يعيشون في الشطر الهندي من كشمير قتل منهم عدة آلاف – الرقم الرسمي المعلن هو سبعون ألف قتيل منذ اندلاع الاحتجاجات عام 1989 - ورغم ذلك لا يشملهم مصطلح "مسئولية الحماية". ونلاحظ أن ما يقترف بحق هؤلاء الناس تحديداً لا يعني فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة في شيء.

الغرب لا يهتم إطلاقاً بالأوضاع هناك. لقد تدخل الهنود بشكل مفزع لقمع الثورة في كشمير. وأسمح لي أن أضيف، أنه بالنسبة لأعداد القتلى كانت أكثر بكثير جداً مما أقترفه الصينيون في التبت، تلك هي المقارنة. فعلى الفور حين تظهر القلاقل في التبت تتأهب وسائل الإعلام الغربية ويبدأ بوذيو هوليود في صناعة الأفلام، بينما عندما يمارس الهنود قمعاً وحشياً وعلى نطاق واسع في كشمير، بشكل أبشع بكثير مما هو عليه الحال في التبت، يكون رد الفعل الغربي هو – الصمت.

التفسير المنطقي لهذا الوضع، من وجهة نظري، هو إذا كان لدينا دولة ما يُشاع عنها أنها دولة ديمقراطية، ففي تلك الحالة لها أن تفعل ما قد يحلو لها، وعلى العكس عدم تحلي الدول بالديمقراطية - كما هو الوضع في الشرق الأوسط - يعد سلاحاً يستخدم ضد تلك الدول. لا يوجد تسفير غير ذلك فالبشر هم البشر في كل مكان. لقد احتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها العراق، وهم يدعون الآن أنهم على وشك الرحيل، حسناً فاليذهبوا غير مأسوفاً عليهم. لكن ستبقى حقيقة أنهم جراء احتلالهم العراق قد لقي ما يزيد عن مليون عراقي حتفه. من سيدفع ثمن جرائم الحرب تلك؟ بوش، تشيني، بلير، أم آزنار؟ يجب أن يحاكم هؤلاء القتلة بصفتهم مجرمي حرب، لكن أنا على يقين أن أمراً كهذا لن يحدث.

إذاً فالمعايير المزدوجة تلك هي جزء من العالم الذي نعيش فيه. والسبب في ذلك أنه بإلقاء نظرة شاملة على دول العالم سنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة التي تتحلى بالسيادة فعلياً. والمفارقة في الأمر أن من يحدد سيادة الولايات المتحدة هي الولايات المتحدة نفسها، وأن من يحدد سيادة الدول في أوروبا والشرق الأوسط هي الولايات المتحدة أيضاً. ووفقاً لهذا الوضع، تنفرد الولايات المتحدة بتحديد ما االذي ينبغي القيام به دون أية معارضة جادة.

في بعض الأحيان ترفض ألمانيا هيمنة الولايات المتحدة، فتمتنع عن المشاركة في الحروب. ولكنها ليست هكذا على الدوام، لقد رفض الألمان المشاركة في الحرب على العراق، وعلى ليبيا أيضاً. لكنهم شاركوا في الحرب على أفغانستان، مما أدى إلى حدوث لغطاً شديد في أوساط النخبة هناك. والخلاصة هي أن ألمانيا قد لا تنصاع للأوامر الأمريكية، لكنها لا تعارضها أيضاً. ربما يتمتع الصينيون بالسيادة، داخل حدودهم فقط، كما أنهم مستقلون اقتصادياً، لكن لم يحدث أن تحدت الصين الولايات المتحدة عسكرياً مطلقاً. وبالتالي فإن الدولة الوحيدة ذات السيادة الحقيقية في العالم اليوم هي الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الامبراطورة.

ومع ذلك حدث مؤخراً أن عارضت بعض الدول قراراً للولايات المتحدة، ربما تكون المرة الأولى، وذلك في مجلس الأمن حين رفضت كل من روسيا والصين الموافقة على قرار بفرض عقوبات على سوريا. وكان الدافع وراء هذا الموقف، شعورهم بالخديعة عندما دعموا قرار المجلس بشأن الحرب على ليبيا، حيث طرح الأمر على أنه تدخل محدود بهدف منع القذافي من قصف بنغازي فقط. لقد أستغل الناتو موافقتهم – على حد قولهم – ولهذا صوتوا ضد التدخل العسكري في سوريا. ربما يعتقد البعض أن هذا الموقف ينم عن بعض الصدع، لكن في رأيي أنه لا يشكل معارضة حقيقية.

- في الواقع، سياساً أصبح مصطلح "منطقة حظر جوي" مرادفاً لتغيير الأنظمة. والآن عند الحديث عن تنامي نفوذ حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، يرى البعض أنه بمثابة الذراع العسكري لامبراطورية واشنطن.

هذا حقيقي فعلاً. لم يخض حلف شمال الأطلنطي حرباً واحدة أثناء الحرب الباردة، رغم أن السبب وراء تأسيسه هو مكافحة ما كان يسمى بالتهديد السوفيتي لدول أوروبا الغربية. لكن منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، أصبح الناتو نشطاً جداً فجأة. وأنا أعتقد أن وظيفته الأهم بالنسبة للولايات المتحدة كونه وسيلة لتغيير الأنظمة، كما أنه يمهد لها الطريق عبر العالم. لا أستطيع تذكر أسم المسئول الأمريكي االذي صرح ذات مرة تصريحاً وقحاً للغاية حيث قال: " نحن مطمئنون تماماً. إذا توصلنا إلى تحقيق أهدافنا عن طريق الأمم المتحدة فلتكن الأمم المتحدة، وإن لم يحدث من خلالها سنلجأ لحلف شمال الأطلنطي، إذا لم نتكمن من هذا أيضاً، فعندئذٍ سنذهب بأنفسنا".

مثالاً لذلك ما حدث في العراق، حين لم يتمكنوا من استخدام الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، ذهبوا بأنفسهم ضمن تحالف من الراغبين. هكذا تجري الأمور، لذلك لا نستطيع أن نأخذ قرارات تلك المؤسسات على محمل الجد. لأن كل تلك المؤسسات – عسكرية، دولية، أو اقتصادية - اُنشأت بواسطة مؤسسات ضخمة تابعة بدورها للولايات المتحدة وتعمل وفقاً لشروطها، إنها مجرد حقيقة من حقائق الحياة. لذلك عندما يقول لي أحدهم أن "الامبراطورية الأمريكية ضعيفة"، أرد قائلاً: "حسناً، ربما هي ضعيفة اقتصادياً إلى حد ما، قبضتها العسكرية والمؤسسية لاتزال قوية جداً، لا تستخف بهذا".

- بالحديث عن وطنك باكستان، الذي نجده ما يلبث أن يتعافى من كارثة حتى يبتلى بأخرى، فيضانات، عنف داخلي، وتفشٍ للفقر على نطاق واسع. كنت قد قمت منذ عدة سنوات بتأليف كتاب "كيف لباكستان أن تنجو؟". منذ ذلك الحين أظهرت باكستان بعض المرونة في سبيل الحفاظ على قوتها. ولكن إلى متى سيصمد الباكستانيون تحت وقع تلك الضربات؟

وضع الدولة الباكستانية الآن يبكيني. لقد كتبت عن أحوالها، وقمت بتحليل الأوضاع هناك، لدي ثلاثة كتب والعديد من المقالات حول باكستان. أحياناً أشعر أنه لم يعد هناك ما يقال حول هذا الموضوع. ما الذي يمكنني إضافته؟ نعم، الكوارث الطبيعة – زلازال، فياضنات - تمثل أحد العوامل، لكن تلك أموراً تعاني منها كثير من الدول. ما لدينا في باكستان هي كوارث من صنع البشر. الجيش بسيطرته على الحكم بناءاً على تعليمات الولايات المتحدة يقف كحجر عثرة أمام ازدهار وتطور باكستان. ومن المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتدخل في اللحظات الفارقة بإعطاء الضوء الأخضر للانقلابات العسكرية في باكستان.

- أيوب خان، وضياء الحق.

كانت أمريكا سبباً في صعود أيوب خان للسلطة عام 1958، في ذلك الوقت كانت باكستان تستعد لإجراء أول انتخابات عامة في تاريخها بحلول 1959، وخشيت أمريكا من صعود الأحزاب الراغبة في أن انسحاب باكستان من الاتفاقيات الأمنية الدولية وأن تدفع بها إلى الدخول في تحالفاتٍ أخرى، خاصة أن حركة عدم الانحياز التي أسسها الزعيم الهندي "جواهر لال نهرو" كانت تلقى رواجاً شعبياً كبيراً. لذلك كان من الأفضل لهم عدم إتمام العملية الانتخابية، وقد كان. في عام 1971 أقر العمل بالأحكام العرفية مما أدى في النهاية إلى تفكيك البلاد وانفصال الجزء المعروف بأسم باكستان الشرقية ليصبح بنجلادش.

ثم جاء الجنرال ضياء الحق إثر انقلاباً عسكري مدمراً إذا جاز لنا القول. فإذا كان أيوب خان قد تسبب في تقسيم باكستان، فإن ضياء الحق قد دمر البنية السياسية والثقافية الباكستانية تماماً. حيث طبق عقوبة الجلد بشكل علني، والإعدام أيضاً، وكان قد أمر بإعدام آخر رئيس الوزراء منتخب وهو "ذو الفقار علي بوتو" عام 1977. كما سلبت حقوق المرأة تماماً، وكل هذا كان يجري تحت غطاءاً من الشريعة الإسلامية. منذ ذلك الحين وباكستان ترذخ تحت مناخ قبيح وكريه بشكل عام.

كل هذه الجرائم تم التغاضي عنها، فقط لأن الجنرال ضياء الحق كان حليفاً لا غنى عنه بالنسبة للولايات المتحدة في حربها ضد الروس في أفغانستان. لقد كان رفض "بوتو" لوقف العمل في صناعة القنبلة النووية الباكستانية هو السبب وراء عدم تدخل الولايات المتحدة لإنقاذ حياته، وكان "كيسينجر" قد حذره قائلاً: "إذا لم تكف، سنجعل منك عبرة لمن يأتي بعدك"، وكان رد بوتو عملياً إذ أصر على الاستمرار في تصنيع القنبلة النووية، وكان أن جعلت منه الولايات المتحدة نموذجاً مخيفاً بالفعل.

ولكن سرعان ما أتم الجنرال ضياء الحق - رجل أمريكا - ما بدأه "بوتو" باستئناف العمل في تصنيع القنبلة النووية. لأن الولايات المتحدة عجزت عن إدراك أن التسليح النووي الباكستاني مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمثيله في الهند، لأن النخبة العسكرية الباكستانية ما كانت لتقف مكتوفة الأيدي أمام امتلاك الهند للأسلحة النووية. وهكذا غضت الولايات المتحدة الطرف، وامتلك ضياء الحق الأسلحة النووية في الوقت الذي كان يساعدهم على دحر الروس في أفغانستان. لقد كتبت "كيف لباكستان أن تنجو؟" ولا يزال هذا السؤال بلا إجابة حتى الآن.

كنت قد أشرت في هذا الكتاب منذ عام 1984 للعوامل التي ستؤدي لانهيار باكستان، والتي لا تزال حاضرة إلى الآن. لكن ما يحمي باكستان من الانهيار إلى الآن هو امتلاك الجيش للأسلحة النووية، مما يجعل الأمور أكثر تعقيداً أمام الولايات المتحدة، التي بالتأكيد بإمكانها تدمير باكستان، لكن الثمن سيكون فادحاً جداً. فالولايات المتحدة ليست على علم بمكان كل الأسلحة النووية، رغم أنها تعتقد ذلك. بعض الأسلحة النووية تم إخفاءها في أماكن سرية لا يعرفها إلا عدد قليل جداً من الموثوق بهم.

تلك هي الأوضاع هناك الآن. وفي الوقت نفسه لديك ما يسمى بالديمقراطية بوجود شخص سياسي منتخب في السلطة، وهو آصف علي زرداري، أرمل رئيسة الوزراء الراحلة بنظير بوتو، التي أغتيلت أثناء خوضها معركة الانتخابات عام 2007. كانت بوتو مثالاً تقليدياً للسياسيين في آسيا الجنوبية، إلا أنها كانت أكثر فجاجة حين صرحت قائلة: "أعهد بقيادة الحزب لابني من بعدي، ولكن إلى أن يحين آوان هذا أتركها لزوجي". في وضع يذكرنا بممالك القرون الوسطى، وحتى في أزماناً لاحقة كان أباطرة المغول يمتنعون عن تسميه ولياً للعهد من بين أبنائهم، خشية نشوب حرب أهلية بعد وفاتهم، ومع ذلك فقد حدثت أحياناً أموراً مشابهة. لقد كانت بوتو واضحة ودقيقة للغاية، وهكذا أطلقت عليها الصحافة الأمريكية لقب "أميرة الديمقراطية"، وقد كان أن أورثت بوتو قيادة الحزب لأسرتها من بعدها.

وهكذا أصبح الحزب إرثاً عائلي. ولكي نكون منصفين بحق زرداري، ينبغي لنا أن نذكر أنه لم يحاول أن يخفي حقيقة أن جني الأموال وامتلاك الثروة هي الدافع الوحيد وراء اهتمامه بالسياسة. وأن تكون رئيساً لباكستان فإن هذا يعني أنك ستجني أمولاً أكثر بكثير من كونك زوجاً لرئيسة الوزراء أو حتى وزيراً، رغم أنه نجح في كسب أمولاً طائلة طيلة الأعوام التي أعتلت فيها بوتو السلطة. لذلك نحن أمام رئيساً ربما يكون واحداً من أكثر القادة فساداً في العالم. وهناك مئات الروايات من كل صوب وحدب في باكستان عن مدى تضخم ثروته وفساده.

عندما اجتاحت الفياضانات باكستان عام 2010، عقدت شقيقة زرداري اجتماعاً لمناشدة رجال الأعمال في كراتشي وطلبت منهم: " نحن بصدد إنشاء صندوق لرعاية الأطفال بإسم بوتو، يسعدنا ان تشاركونا بتبرعاتكم". وعلى الفور حال سماعهم هذا النداء، هب رجال الأعمال وقوفاً الواحد تلو الآخر وقالوا: "عليك فقط أن تخبرينا باحتياجتهم أياً كانت أسمنت، أرز، ملابس، أوأدوية. فقط حددي لنا المناطق المنكوبة ونحن سنشتري الاحتياجات ونوفرها لهم، لكننا لا نستطيع التبرع بالأموال للصندوق". وغادرت شقيقة زرداري الإجتماع قبل نهايته غاضبة، فالجميع إذاً على علم بمجريات الأمور هناك.


يعيش الباكستانيون في حالة يأس، والظروف تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. فعلى الحدود الباكستانية من الجهة الشمالية لدينا الحرب في أفغانستان، والآن نعاني من أمتداد تلك الحرب إلى الداخل. لقد توقعت حدوث ذلك منذ أكتوبر 2001. ولدينا مشاكل من صنع الجيش في إقليم بلوشستان، مما دفع زعماء البلوش إلى الذهاب إلى سفارة الولايات المتحدة توسلاً لطلب الحماية والمساعدة في إنشاء دولتهم المستقلة. ثم لدينا هجمات الطائرات بدون طيار المتواصلة على باكستان منذ تولي أوباما الرئاسة منذ عامين ونصف، والتي أشتدت كثافتها إلى المدى الذي جعلها تتخطى إجمالي هجمات الطائرات بدون طيار على باكستان أثناء ولاية بوش بأكملها.

- هل ترى أية تشابه بين خطاب واشنطن الآنبشأن باكستان وبين ما كان يقال عن كمبوديا في الستينيات؟ وكيف أنها كانت الملاذ الآمن والمأوى لأعداء الولايات المتحدة الذي حال بينها وبين تحقيق النصر في فيتنام، وكيف كانت تلك الذريعة وراء شن الغارات الجوية عليها عبر الحدود، ثم لاحقاً الغزو الكامل مع بداية عام 1970. والآن نجد رسائل عدوانية تصدر عن وزارة الخارجية الأمريكية وكذلك من رئيس هيئة الأركان، تقول بأن باكستان تلعب لعبة مزدوجة، بإيوائها لجماعة حقاني المتمردة، ودعمها غير المباشر لحركة طالبان. ما هي احتمالات غزو الولايات المتحدة لباكستان؟

أعتقد إنها احتمالية ضعيفة للغاية. والسبب أن الجيش الأمريكي لا يريد التورط في بلد آخر، وخاصة أن باكستان ليست بلداً صغيراً. يبلغ تعداد السكان في أفغانستان حوالي 26 مليون نسمة، بينما يقترب تعداد السكان في باكستان إلى ما يقرب من 200 مليون نسمة إن لم يكن قد تخطى هذا الرقم بالفعل.

إن غزو بلداً مثل باكستان يعني أن تنتظر تحدياً كبيراً، ولذا أنا لا أعتقد أن البنتاجون سوف يسمح بحدوث هذا، تماماً مثلما كان معادياً جداً لأي غارات جوية على إيران. لا تنسى إلى أي مدى كانت الولايات المتحدة عدوانية، وكيف تحاول الآن أن تستغل حوادثها السخيفة المصطنعة. انظر كيف يطل أوباما بنفسه على شاشات التلفزة ليخبرنا كيف أنهم اكتشفوا مؤامرة كبيرة، وأن هناك مختلاً عقلياً سيحاول إغتيال السفير السعودي، وكيف أن إيران هي من تقف وراء هذه العملية.

من يصدق هذا الهراء! لقد أثارت رواية أوباما تلك سخرية الإيرانيون. الولايات المتحدة على يقين من قدرة الإيراننين على فعل هذا إن أرادو، ومن المعروف أن لهم أسالبيهم الخاصة في تنفيذ مثل تلك الهجمات، وليس بتلك الطريقة الساذجة. ولماذا يقتلون هذا التافه القابع في سفارة واشنطن؟ من هو؟ في نهاية الأمر هو مجرد سفير، مقتله لن يغيرمن الأمر شيئاً. إنها فقط محاولة للاستفزاز وزيادة الضغط على إيران. إنهم مثيرون للشفقة. أما بالنسبة لباكستان، بطبيعة الحال، الوضع أكثر خطورة، لكنه ليس بالأمر المفاجئ لهم. فهم يعلمون جيداً أن الدولة الياكستانية، ولأسباباً خاصة بها - سواء قبلوا تلك الأسباب أم رفضوها – لن تسمح بتسليم أفغانستان للهنود.

رجال حامد قرضاي يتفاوضون بإستماتة مع الهنود، ومع قوات الغزو أيضاً. والمخابرات العسكرية الباكستانية على علم بذلك. إذاً السماح بتواجد جماعة حقاني لم يكن من قبل المخابرات الباكستانية فقط، بل أيضاً من قبل القيادة العسكرية العليا في باكستان. ذلك لأن فكرة أن الأستخبارات الباكستانية هي قوة في حد ذاتها فكرة غير حقيقية، ولم تكن يوماً هكذا. والمرة الوحيدة التي تمتعت فيها باستقلالية نسبية، كانت عندما سمحت لها الولايات المتحدة بالاتساع في الحجم لتكون عوناً لها في خوض الحرب على أفغانستان.

- تعني أثناء الحرب خلال الثمانينيات، وما عرف بالجهاد ضد الاتحاد السوفيتي.

تلك هي الفترة الوحيدة التي كان للاستخبارات الباكستانية دوراً شبه مستقل. بالتأكيد، كان يحدث في بعض الأحيان أن يقوم بعض الضباط بتنفيذ أموراً ما دون إذن، ولكن رغم هذا، فإلى حداً كبير تعد الأستخبارات الباكستانية أحد أكثر الوحدات إنضباطاً في الجيش الباكستاني. لذلك فعندما يقول أحدهم الاستخبارات الباكستانية، فإنها مجرد شفرة، حتى لا يهاجم الجيش الباكستاني بشكلٍ مباشر. ينبغي علينا أن ندرك هذا تماماً. وما حدث كان كالتالي، نعم، هم أطلقوا العنان لجماعة حقاني، ليظهروا قدرة الأفغان على المقاومة، ولمدة عشرون ساعة واصلت الجماعة إلقاء القنابل وإطلاق النار على مبنى السفارة الأمريكية ومقر حلف شمال الأطلنطي في وسط العاصمة كابول.

ولم يكن هجوم حقاني يشكل تهديداً عسكرياً حقيقياً للولايات المتحدة. ولكن ما أزعجهم هوعدم تدخل باكستان لمنع حدوث ذلك الأمر. فالتأثير النفسي والسياسي لهذا الهجوم كان أشبه بما حدث عندما أحتلت جبهة التحرير الوطنية الفيتنامية السفارة الأمريكية عام 1968، أثناء ما عرف بهجوم التت، كان مصير الفيتناميون هو القتل بالطبع، لكنهم كانوا قد تمكنوا من وضع علم جبهة التحرير فوق السفارة الأمريكية في سايجون.

هكذا كان الأمر، لقد كانت تلك الرمزية تعني شيئاً في الواقع. لقد كان هجوماً مماثلاً لسابقه فقط بواسطة أشخاص آخرين، لكن الرمزية العسكرية لم تختلف كثيراً. هذا هو ما أثار غضب الرجال في الولايات المتحدة، وبخاصة ديفيد بتريوس وغيره، الذين كانوا يشعرون أن النصر سيكون حليفاً لهم في تلك الحرب. لكن الرسالة الرمزية كانت تقول أن تلك الحرب ربما تستمر للأبد، ذات مرة صرح بتريوس: "سيكبر أطفالي والحرب لازالت مستمرة". حسناً، لم يتفق الباكستانيون مع بيتروس في الرأي، وكهذا ازدادت حدة التمرد واتسعت رقعته. وكان الهجوم بمثابة رسالة وجهها الباكستانيون لقرضاي وأعوانه من العملاء تقول: "نحن على علم بكل يدور خلف ظهورنا، حول مباحثاتكم القذرة مع الهنود". لقد كانت محاولة من باكستان لتأكيد مكانها على الخريطة عند الاتفاق على تسوية ما بعد الإنسحاب.

- لقد كتبت تقول "أن الحملة الانتخابية لباراك أوباما بدأت فعلياً في الثاني من مايو 2011، حين قتلوا بن لادن إنتقاماً منه". كل المؤشرات تظهر تراجعاً كبيراً في نشاط تنظيم القاعدة. لقد كانت نهاية مأساوية ومثيرة للشفقة لبن لادن، أن يقتل ويلقى في البحر، بعد أن كان يجلس ليشاهد بطولاته السابقة على شرائط فيديو بمنزله في أبوت آباد وكأنه نجم متقاعد من نجوم هوليوود.

اسمح لي أن أصحح أمراً، فتنظيم القاعدة لم يعد يشكل خطراً منذ زمن بعيد. لقد كانت مجموعة من ألفي شخص على أقصى تقدير، عقدوا العزم على إثارة القلائل وضرب المؤسسات الرمزية داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا هو السبب وراء إختيارهم لبرجي مركز التجارة العالمي، رمز الرأسمالية الأمريكية، ومبنى البتاجون كرمزاً للقوة العسكرية الأمريكية. ولم أشعر قط بخطر تكرارهم لما فعلوا مرة أخرى. لقد كانت عملية من ضربة واحدة، مصطنعة للغاية، لكنها مؤثرة للغاية. لقد ظل العالم بأسره يتابع صور الهجوم مراراً وتكراراً لمدة طويلة.

ولكن الأمر ليس جديداً. الطريقة جديدة بالطبع، لأن هذا الشكل من الهجوم لم يسبق لأي جماعة إرهابية القيام به من قبل. لكن الجماعات الإرهابية، بمختلف أنماطها، لها وجود في جميع أنحاء العالم منذ فترة طويلة. والسمة المميزة لهم أنهم لايؤمنون بالتعبئة والتنظيم الجماهيري من أجل المطالبة بشئ ما، ولكن يعتقدون في العمليات المثيرة. خلال القرن التاسع عشر وآوائل القرن العشرين تم استغلال الفوضويين لضرب عدداً من الملوك والرؤوساء، مما أثار زوبعة عنيفة صدرت على إثرها قوانين خاصة لقمعهم. هذا مشابه تماماً لدور الإسلاميين الآن.

لقد شبهت تنظيم القاعدة بالفوضويين، مما أثار غضب البعض مني من كلا الجانبيبن الإسلاميين والفوضويين على حد سواء. لكنها الحقيقة. أنهم ضربوا ضربتهم القوية، لكن لم تكن لديهم القدرة على تكرارها مره ثانية أبداً. والحقيقة أن تشبيه كل من يحمل السلاح ضد الولابات المتحدة، خاصة في الدول التي تحتلها، ببن لادن أمر غير مقنع. فالتنظيم الذي كان تحت أمرة بن لادن والظواهري ضعيف للغاية، بالقطع يمكن لأي مجموعة أن تطلق على نفسها نفس الأسم، لكن بالأساس القاعدة منظمة صغيرة، أقل بكثير جداً مما يشيعون.

- دعنا ننتقل بالحديث إلى الانهيار الاقتصادي الذي يضرب الولايات المتحدة وأوروبا. كيف تطورت الأوضاع وصولاً لما يحدث الآن.

ما وصلنا إليه الآن هو نتيجة حتمية للتغييرات التي حدث خلال فترة التسعينيات. وما كان يعرف بـ "اجماع واشنطن"، الذي ينطوي على وجهين. أحدهما، أننا لم نعد نواجه تهديداً عقائدياً من أي مكان في العالم، فالاتحاد السوفيتي تم تدميره، وحقيقة أنه كان يمثل خطراً لا وجود لها الآن، كأنه لم يكن أبدأً. والصينيون حلفاءاً لنا منذ مدة. هم يريدون التحول إلى الرأسمالية، ونحن نريد الاستثمارات.

فالصين لديها أعداداً ضخمة من الأيدي العاملة، ولهذا لديها القدرة على الانتاج بتكلفة أقل بكثير مما نستطيع نحن. فلماذا لا تعتمد شركاتنا وصناعتنا والرأسماليون هنا على الأيدي العاملة الصينية لتوريد السلع الرخيصة إلى المحلات التجارية؟ وهكذا نكون قد استثمرنا المال في ربح المزيد من المال. أو بعبارة أخرى، رأس المال من الآن فصاعداً لن يكون رأس مال إنتاجي اطلاقاً، رؤوس الاموال سوف تستخدم في المضاربة المالية. هذا ما حدث للنظام الرأسمالي تحديداً في مرحلة العولمة، الأمر الذي يسبب الآن تلك الأزمة العنيفة. وهناك سبباً آخر للأزمة وهو كما قلت سابقاً، أن كل ما تقوله الولايات المتحدة يقوم معاونيها بتنفيذه.

وخاضت أمريكا تلك التجربة بفسها، وكذلك فعلت أوروبا. وكانت بريطانيا هي أكثرهم فجاجة في هذا الأمر، ولهذا يعاني الاقتصادي البريطاني الآن من جراء هذا معاناة شديدة. وكانوا يفتخروا بأن مدينة لندن توفر مناخاً حراً بلا قيود، يخول لك أن تفعل ما يحلو لك دون قوانين أية ضابطة، بعبارة اخرى، مدينة لندن كانت بمثابة "جوانتنامو" للرأسمالية العالمية. بقدومك هنا: يمكنك أن تنجو من أي شئ. وبالفعل هكذا كانت تجري الأمور، لكن توقع العديد من الاقتصاديين إستحالة دوام هذا الوضع.

واحد من أهم الاقتصاديين الذين حذروا من هذا كان "روبرت برينر" الأستاذ في جامعة كاليفورنيا. فقد كتب مقالاً ضخماً في مجلة "نيو ليفت ريفيو" أصبح كتاباً فيما بعد بأسم "اقتصاديات العالم المضطرب"، والذي تنبأ فيه بأن أزمة الأرباح تلك على وشك أن تسبب في أضراراً جسيمة. إن المضاربة برؤوس الأموال في فترة العشرين أو الخمسة وعشرون عاماً السابقة قد أدت إلى خلق ما يسمى بـ "رأسمالية الكازينو" حيث المقامرة بالأموال. هذا ما حدث.

نغامر بمليار هنا، ربما نربح خمسة مليارات، أو قد نخسر كل شئ. من تراه يهتم؟ إنها ليست أموالنا على أية حال. إنها أموال المساهمين وأصحاب السندات وأموال الرهن العقاري، وصناديق المعاشات. كل هذه الأموال استخدمت في المضاربة في البورصة. وقد تجلت العواقب الوخيمة لتلك المضاربات عام 2008، عندما عجز النظام في وول ستريت عن التصرف حيال الأزمة العنيفة.

لقد كانت لحظة حاسمة في تاريخ العالم بالنسبة للولايات المتحدة، بوصفها زعيمة العالم الرأسمالي. كان يمكن لها أن تكتفي بهذا القدر، وتعترف بالحاجة إلى إجراء تغيير. كان يمكنها استغلال الوضع الهادف إلى إنقاذ البنوك والأغنياء لتحقيق أغراض أخرى.على سبيل المثال أن تعلن أنها بصدد تشجيع الإنفاق الاجتماعي: مثل أعمال البناء، وتوفير فرص العمل، تغيير وجه أمريكا عن طريق استحداث نظاماً للنقل العام، وتوظيف العاطلين لبناء السكك الحديدية. كل هذا كان يمكن القيام به.

ولكن ما لدينا هو رئيس مخلص للنظام الذي أتى على رأسه، ولم تكن لديه يومأ الرغبة في تحديه أو تغييره. لقد أشرت في كتابي "متلازمة أوباما" إلى سلوك الشاب أوباما عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي، حين أعترض الديمقراطيون ذوي الأصول الأفريقية على الاستقطاعات التي فرضت في شيكاجو، خطب فيهم قائلاً: "علينا أن نتعلم كيف نكون أكثر حكمة وحرصاً". وفترة طويلة، ظل أوباما مخلصاً للحذر، وللحكمة التي تحدث عنهما. لذا فإن هذا الرئيس، الذي جمع معظم أمواله من الوول ستريت، الذي كان بإمكانه أن يعين "كروجمان" أو "ستجليفتش" في منصب وزير الخزانة، لكنه أختار "جيثنر" بدلاً منهما، هذا الرئيس لم يكن على استعداد لفعل شيء. إن سياسات الوول ستريت وبنك "جولدمان ساكس" دعمت بشكل علني في ظل إدارة بوش ومن بعده أوباما، هذا هو النظام الذي تدعمه الولايات المتحدة.

الوضع الحالي أشبه بمن يضع ضمادة لوقف نزيف دماغيّ مميت، بدلاّ من أن يجري عملية جراحية قد تنقذ حياة المريض. الوضع في أوروبا الأن حرج للغاية: انهارت كل من أيسلندا، أيرلندا، واليونان. أسبانيا والبرتغال على وشك الانهيار، وإيطاليا تنهار بالفعل. ستة بلدان في مهب الريح.

وإلى الآن لم تجرى أي تغييرات بشأن السياسة أو خطط العمل. لهذا ليس لدينا إلا أن يمتلك الفقراء والمطحونين والمهمشين ثقة غير محدودة في قوتهم، والإيمان باستحالة وقوف أي شئ في طريقهم، أو أن يعجزوا عن رؤية تلك القوة، مما سيزيد الأمور سوءًا وحينها سيواصلوا الانحدار لأسفل. على سبيل المثال، يمكنني القول بأن حالة اليونان الآن هي ما يسمى بوضع ما قبل الثورة، محتمل طبعاً ألا تحدث. لكني أشعر أن الثورة ستندلع هناك.

لقد فاض الكيل باليونانيين، ولديهم الآن رغبة عارمة في التخلص من الأمر برمته. يستقبل اليونانيون في الأحياء الشعبية نواب البرلمان من حزب "الباسك" الاشتراكي الديمقراطي بالبصق عليهم، إلى هذا الحد تصاعد الغضب في اليونان. وبمرور الوقت تكونت حركة احتجاجية واسعة، وهي حركة قوية، تتسم بالحكمة عادة، لكنها أيضاً تظهر الغضب الشديد في بعض الحالات. وهو أمرِ مبشر وعظيم. ولكن الحركة وحدها ليست كافية للوصول إلى التصعيد المطلوب. لو أن الإضرابات العامة في اليونان لا تتمكن من إجبار هؤلاء الرأسماليين على تغيير مسارهم لشدة تشبثهم بمصالحهم، فإن هذا يعني الحاجة إلى موجة احتجاجية قوية تأتي من الطبقات الأسفل القادرة على تحويل مسار التيار. ونأمل أن يحدث هذا، ليس هناك خياراً آخر.

بالعودة إلى سؤالك مرة أخرى، في الوقت الذي أصبح الاقتصاد الصيني ورشة العالم، كانت أوروبا متفرغة فقط للاقتراض، ولإنفاق الأموال، والاستهلاك. وهذا هو النموذج، الاستهلاك بواسطة الأموال المقترضة، والديون. هناك الكثيرين، هنا وفي أوروبا، يخبروننا كيف كانت تطاردهم البنوك بالدعاية للاقتراض: أقترض، أنت لم تحصل على قرضٍ كاف، أمتلك المال. والناس الذين أقترضوا بالفعل يعانون الآن بشدة.

الاقتصاد الأمريكي يعاني من كارثة ضخمة جداً. ومن غير المقبول أن يطل الديمقراطيين الآن ليقولوا: "اللعنة، تلك الأزمة بفعل تخريب الجمهوريين". لقد كان للديمقراطيين الأغلبية في مجلس الشيوخ، ومجلس النواب خلال أول عامين من فترة إدارة أوباما، إذاً لا يمكنهم إلقاء التبعة على الجمهوريين الآن. لوموا أنفسكم، بالتحديد لقد فعلتم ما كان يقوله الجمهوريون، لماذا لم تفعلوا شيئاً مختلف؟ إن إيرازهم لصورة أوباما كأسير لقوى اليمين تفتقر إلى المصداقية. إنها علامة على يأس الليبراليين، لأنهم على يقين أن أوباما كان كارثة، لكنهم لا يستطيعوا الاعتراف بهذا، لأن الاعتراف بهذه الحقيقة يعني أنهم خسروا كل شيء.


- ازدهار يعقبه كساد هي سمة ملازمة للرأسمالية عبر تاريخها. هل ما نشهده الآنيختلف موضوعياً عن فترات كساد سابقة؟

لا، وأود أن أحذر من فكرة أن الرأسمالية سوف تنهار. لقد مرت الرأسمالية بأزمات حادة في تاريخها، وأعتقد أن الثوري الروسي " لينين" هو من قال ذات مرة: "لن توجد أزمة الرأسمالية الأخيرة، ما لم يكن هناك بديل". وأنا أعتقد أنه كان محقاً في قوله هذا. فالرأسمالية نظام مرن للغاية، لديها القدرة على الخروج من أزمتها، كما أنها قادرة على أن تحطم آمال تابعيها. هكذا الرأسمالية، وهكذا ستستمر.

تلك هي الإجابة، لن يحدث انهيار ذاتي للنظام الرأسمالي. والآن نجد أنه وبسبب الأزمة الاقتصادية، ظهرت أزمة أخرى متعلقة بها وهي أزمة سياسية، والتي أطلقت عليها أسم أزمة "الوسطية المتطرفة". فنجد أن دولة بعد أخرى، في أوروبا والولايات المتحدة، تحكم بوسطية، يسار معتدل، أو يمين معتدل. أنهم على اختلافهم يفعلون الأمر ذاته، بوش وأوباما، بلير وكاميرون، ساركوزي ومن سيأتي خلفاً له. وفي ألمانيا في كثير من الأحيان نجد حكومات ائتلاف وطني.

هذا الوضع أدى إلى كراهية الأجيال الجديدة بشدة لتلك الوسطية. وأنا أرى أنها متطرفة لأنها تبلورت وفقاً لسياسات اقتصادية متطرفة جدًا، كانت مرتبطة بالحروب في الخارج، التي يبغضها الكثير بالطبع، لكن لا حيلة لديهم لمنعها، بغض النظر عمن هم المنتخبون في السلطة. وهذا وضع سياسي خطير.

دعني أخبرك أمراً بالنسبة لأوروبا، في فرنسا لدينا برنامج اليمين المتطرف بزعامة "مارين لوبان"، ونجد برنامج النازيين الجدد في هولندا، حتى إيطاليا نجدهم يتعاملون بصرامة وتشدد مع أمورٍ مثل الهجرة والمسلمين، كلها أشكال متطرفة جداً. ولكن إذا ألقينا نظرة على برامجهم الاقتصادية، على سبيل المثال "ماريان لوبان" زعيمة القوميين المتطرفين في فرنسا، إنها لا تعتنق نفس أفكار أبيها. تحديداً، حين سألت "ما الذي تؤمنين به؟" أجابت قائلة: "أؤمن بالجمهورية الفرنسة بالطبع، لكن الجمهورية الفرنسية التي تتحكم في اقتصادها بشكل كامل". وعندما سئلت ما الذي تعنيه بالتحكم الكامل، قالت: " الصحة، التعليم، الغاز، والسكك الحديدية. كل هذه الأمور يجب أن تظل تحت سيطرة كاملة للدولة". أن المزج بين التعصب القومي وكراهية الأجانب، مع وضع برنامج اقتصادي جذري، هو حقاً أمرٍ خطير.

والسؤال الذي علينا أن نسأله هو: لماذ لا يتبنى أياً من أحزاب اليسار المعتدل، الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، تلك المطالب والتي هي تاريخياً مطالبهم؟! لقد أصبح اليمين أكثر إدراكاً من اليسار بما يجب القيام في هذا الجزء من العالم، وهذة مشكلة حقيقية. ستتواصل حقب الازدهار والكساد، لا أعتقد أن الأزمة الاقتصادية الناتجة عن أزمة رؤوس الأموال ستستمر للأبد، بمرور الوقت ستتخذ إجراءات لتغيير الأوضاع، وفقاً لما يحدث في كل بلدٍ على حدا.

النظام الرأسمالي يختلف تماماً عن النظام الديمقراطي الاجتماعي، وهذا ما نراه الآن تحديداً. لقد وجد أنصار التيار الديمقراطي الاجتماعي في السابق، ضرورة تدفعهمم لمنافسة الاتحاد السوفيتي، وقالوا: "إن ما نفعله هو النسخة الديمقراطية لما طبق هناك"، الآن لم يعد لديهم حاجة لذلك، فالاتحاد السوفيتي لم يعد موجوداً، لذلك فقد أصبحوا الآن خارج الصراع. لكننا سنواصل النضال ، سنحارب الرأسمالية حتى تخر صريعة. هذا هو النظام الذي نحيا في ظله، وأعتقد أن على الشباب أن يتأمل وأن يدرك هذا الوضع جيداً.

- ذات مرة قالت "مارجريت تاتشر" بفخر: "ليس هناك بديل". من وجهك نظرك ما هو التطور الذي طرأ على النظام الحالي من حيث القدرة على الإستجابة بشكل مترابط ؟

هناك دائماً بديل. والحقيقة أن هذا البديل يظهر في حيز الوجود بنضال الناس وكفاحهم. الأمر الذي نفتقده الآن هو أنه ليس هناك حزباً يناضل من أجل خلق هذا البديل. ولهذا السبب أقول أننا في قبضة حالة من الوسطية المتطرفة. ولكن هناك حركات تنشأ وتتطور، وبإمكانهم أن يصبحوا البديل المطلوب في بعض أجزاء أوروبا كما سبق وأن كانوا في أمريكا الجنوبية. ربما تظهر حركات مماثلة في الولايات المتحدة في يوماً ما، إن لم يكن الآن، أو في العالم العربي. لهذا أنا أرى أن ما يحدث الآن هو نذر يسير مما هو آت. وعند حدوثه، سيكون مفاجئاً للجماهير أيضاً. فقط عليك أن تناضل وتكافح من أجله.

دعنا لا ننسى أن نظام الليبرالية الجديدة بأكمله، والذي تم تطبيقه في مكان ما ثم ما لبث أن إنتشر في العالم بأسره، كان أول من دعا له، على ما أعتقد، مجموعة صغيرة ومنغلقة من المفكرين، من أمثال فريدريش هايك وغيره وكان ذلك خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. وتلك المجموعة كانت تسمى "مجتمع مونت برلين" حيث اعتادوا اللقاء ومناقشة أفكارهم تلك، وحقيقة الأمر أنهم كانوا محط سخرية الجميع، كانوا يلقبونهم "بالمجانين"، بما في ذلك أتباع النظرية الكنزيّة الذين كانوا يحكمون العالم بمساعدة حكومات من الطراز الديمقراطي الاجتماعي. هؤلاء رجالاً مجانين هكذا كان وسمهم، وسواء كانوا مجانين أم لا، فأنهم قد سيطروا بالفعل على العالم بأكمله.

لذلك علينا أن نبدأ في التفكير بجدية بشأن البدائل. ورأيي الشخصي، أن الركيزة الأساسية الواجب توافرها في هذا البديل، هي تدخل الدولة لامتلاك الممتلكات وتأميمها، دون ذلك فإن أي محاولات للإصلاح الاجتماعي مستحيلة. لم يعد كافياً أن تمول الدولة تلك الإصلاحات بفرض الضرائب، لقد مضى آوان هذا من زمنٍ بعيد. يجب أن تقوم الدولة بدور أساسي في النظام الاقتصادي لتمويل مشاريع الصحة والتعليم والمواصلات العامة. إذا لم تتدخل الدولة وتقوم بهذا الدور، تأكد أن الأمور ستسير من سيء إلى أسوأ.

ولذلك فإن النضال من أجل إعادة دور الدولة في إذهان الناس كما كانت من قبل، هو أمر هام ضروري جداً. وهوالفخ الذي سبق وأن سقط فيه دعاة الليبرالية الجديدة وبعض الفوضويين، حيث لا مكان لسيطرة للدولة،رغم أننا اضطررنا لاستنباط سياسات جديدة عندما غاب دور الدولة. وحقيقة الأمر أن دعاة الليبرالية الجديدة كاذبون، لأنهم لم يكونوا ليحققوا أهدافهم بدون مساندة ودعم الدولة وتمرير سياساتهم بسن قوانين جديدة.

- وعمليات الإنقاذ والدعم الحكومي.

رغم أن الدولة كانت هي مصدر كل الشرور، سرعان ما خر المصرفيين ومضاربي البورصة مستجدين بها قائلين: "عزيزتي الدولة، نحن في مشكلة وفي حاجة ماسة لمساعدتك". ولهذا تعالت بعض الأصوات تقول أن الدولة بصدد ترسيخ اشتراكية جديدة للأغنياء هذه المرة. لكن، الاحتياجات الأساسية للمواطنيين، التي لاتزال خارج اهتمام الدولة، هي أولى بهذا الدعم، وهي الأمور التي يجب أن تنجز.

واحدة من الأكثر الأفكار المطروحة على الساحة في بريطانيا الآن، هي فكرة تكوين لجان ومجموعات جماهيرية في كل المدن، على أن تكون مهمتها الأساسية هي رفع عشرة مطالب أساسية ومصيرية والعمل على حشد أعداد كبيرة من الناس، ربما تكون تلك الحشود غير مسيسة، لكنها ستقاتل بعنف وقوة لتحقيق مطالبها. ثم تنظم تلك الحشود مسيرة مليونية تتجه باحتجاجاتها نحو البرلمان: "هذه هي مطالبنا، والتي لم تتبنها أياً من الأحزاب المنتخبة داخل البرلمان". ولن يقف الأمر عند حدود الدعاية فقط، لكن سيهدف إلى تحقيق شيئاً. هكذا يمكن أن ينتشر في جميع أنحاء العالم. لا يبغي أن نتعجل وجود أحزاب جديدة الآن، بل وضع الأساس القوي لهذه الأحزاب هي الخطوة الأهم.

هذه المجموعات، على الرغم من أن بعض الشباب المنتمين لها لا يعتنقون فكراً محدداً، إلا أنها يمكنها التأسيس لبناء أكثر تماسكاً. فرغم أن فكرة العيش في خيام لبضعة أسابيع في الشوارع تبدو لطيفة، إلا أنها لا يمكن أن تمتد لفترة طويلة. سيشعر الشباب حتماً بالتعب، من ثم سيرجعوا لسابق حياتهم ويواصلوا أعمالهم كالمعتاد. لهذا نحن في حاجة شديدة إلى إنشاء مؤسسات تعمل على تحدي ما هو معتاد.

- ماذا عن فاعلية الانتخابات في إحداث التغيير؟ وهل ساعد انتخاب أوباما في 2008 على تحرير الناس أخيراً من هذا الوهم؟

في بعض البلدان التي حدث فيها هذا كان أمراً إيجابياً جداً، كما في أمريكا الجنوبية، حيث تنتخب الحكومة تلو الأخرى من أجل تحقيق التغيير. بالطبع، تلك الحكومات المنتخبة لا تستطيع أن تغير كل شيء، لكنها تبدأ في تنفيذ الخطوات الأولى. على العكس تماماً أوباما، فهو لم يظهر يوماً رغبة حقيقية في التغيير. ولطالما كانت شعاراته مضللة وجوفاء، على سبيل المثال شعار: "التغيير كما نؤمن به" إذا نظرت إلى معناه تجده لا يعني التغيير على الإطلاق، أو "نعم نستطيع" والذي يعد أكثر الشعارات خواءاً، بين كل الشعارات التي رفعت في مجمل الجولات الانتخابية حول العالم، ورغم ذلك فقد أنتشر وحاز شعبية كبيرة.

والأمر المضحك حول الهيمنة الأميركية هو أن ترى بعض ساسة أوروبا المثيري للشفقة، فرغم أنهم لا يتحدثون الإنجليزية، إلا أنهم يختتمون خطاباتهم مرددين شعار أوباما "نعم نسطيع ، نعم نستطيع". أية عالم هذا الذي يعيشون فيه؟ إلى هذا الحد فقدوا التواصل مع شعوبهم؟ والسؤال الذي يجب أن يطرح هو: نعم، نستطيع ماذا؟ نعم نستطيع تحدي القوى الرأسمالية؟ لا. نعم، نستطيع منع الحروب؟ لا. نعم، نستطيع تعزيز الحقوق المدنية؟ لا. نعم، نستطيع أن نعتقل العملاء؟ نعم. هذا هو التغيير الذي نؤمن به، سنعتقل عملاء أكثر مما اعتقل بوش، وسنطلق سراح عددا ً أقل مما أطلق سراحهم من معتقل جوانتنامو.

لا أعتقد أن الناس قد استوعبوا درس أوباما بشكل جيد. فحتى الآن هناك الكثرين ممن تتلاطمهم الأوهام، لذلك نجدهم يلتمسون له الأعذار، فهو من وجهة نظرهم سجين. وهي من أكثر الححج المفضلة لدي، أن يكون لدينا "سجين زندا"، أو بالأحرى "سجين البيت الأبيض". من هو السجين؟ لقد جاهد أوباما وضحى بالغالي والنفيس ليصل إلى البيت الأبيض. لقد استعد لهذا منذ وقتاً بعيد، بأن رّوج لنفسه في صورة المعتدل، المحافظ، واللاعنصري. لاعنصري في الولايات المتحدة الأمريكية؟! البلد التي وصل فيها عدد المساجين السود داخل السجون أو الخاضعين لإطلاق سراح مشروط – مما يمنعهم من الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات – إلى عدد مماثل لتعداد الرقيق السود في الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية!!

أهذه هي أمريكا ما بعد العنصرية؟! يجب أن تفضح هذه الأمور. وأنا متأكد من أن الأمريكيون ذوي الأصول الأفريقية على وعي بأواضعهم المتردية، لكنهم يرفضون التحدث عنها بشكل علني. بعض الناس لا يحبذ ما أقول، لكني سأستمر سأردده مرارً وتكراراً، حتى تتبدد الأوهام. لا يهمنا لون بشرة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أو كونه رجل أو أمرأة. إن الحكم عليه يجب آلا يكون وفقاً لجنسه أو عرقه، بل يجب أن يكون وفقاً لأفعاله، لأنهم ليسوا روؤساء أو وزراء عاديين، أنهم رؤوساء الإمبراطورية، وهذا التمييز الأخير هام جداً.

- لقد كنت جزءاً من حركات اجتماعية عديدة على مدى عقود، في كل من باكستان و بريطانيا. كنت تعلم أنها كان يمكن أن تأخذ منحى غير متوقع، ولكن لا يمكننا يقيناً أن نؤكد حدوث نتيجة حتمية ما. الآن، وفي ظل هذه اللحظة المفعمة بالاضطرابات الاقتصادية الضخمة، هل يمكن التكهن باحتمالية تدخل ثوري ما. وفي حالة حدوثه، كيف سيكون شكل هذا التدخل. اؤكد ثانية مجرد تكهن.

لا يمكن لأحد التكهن بحدوث أمراً كهذا، لم يتوقع أحد سلسلة الانتفاضات التي إندلعت في العالم العربي، وهذا يدل على أن التاريخ لايزال متفرد، نعم يمكن تقليده ومحاكاته، لكن من الصعب جداً تكراره، فالتاريخ يصنع قنواته ومساراته الخاصة. لهذا يمكنني القول بأن من المتوقع أن يحدث شيئاً. في بعض البلدان، اليونان تحديداً، إن إندلاع ثورة سينقذ الجميع. لن يبالوا كثيراً بمن سيأخذ بزمام الأمور، فقط سيقولون ساعدنا، سيراه الناس منقذاً. لكن هل ما إذا كان اليسار أوالجماهير مهيأين لتحدي النظام القائم بشكل مباشر، فهذا سؤالاً آخر، وهو الأمر الذي يشكل خطراً كبيراً أيضاً.


وأنا أقول بعد قدر كبير من التفكير. إن المصريين والتونسين واليمنيين وغيرهم ممن لا يزالوا يواصلون النضال، انتصروا لأنهم كانوا مستعدون للتضحية بأرواحهم، وكان لسان حالهم يقول: "حسناً، إذا لزم الأمر، فسوف نموت". عندما يفقد الناس الشعور بالخوف من الموت، يصبح تحقيق المعجزات ممكناً.

لم يصل الأوروبين إلى هذه المرحلة بعد. وحقيقة الأمر هم بحاجة إلى معجزة أكبر من معجزة الإطاحة باثنين من أكبر طغاة العالم العربي، كما ان هناك آخرون تحت التهديد. لذا، نعم، يمكن أن يحدث، لكنه يتوقف على مدى الوعي السياسيلكل شعب على حدا. بالطبع، الوعي السياسي لا يسير على وتيرة واحدة، يمكن أن يرتفع، ثم ما يلبث أن يثبت ويصاب بالسطحية لسنوات طويلة قادمة.

وفجأة يمكن أن يتغير الوضع، فيتنامى الوعي السياسي بعمق وبشكل سريع. عندما يحدث هذا، فأنت تحتاج بالفعل لبعض المؤسسات، بغض النظر عن كونها جمعية شعبية أو منظمة سياسية أو حزب من نوع جديد، للاتخاذ القرارات مع الجماهير ودعمهم. وليعلنوا: "الآن نحن مستعدون لانتزاع السلطة" عليك أن تفعل هذا. أما إذا كنت من الذين يرددون شعارات سخيفة مثل: "يمكننا تغيير العالم دون الاستيلاء على السلطة"، فالأفضل لك أن تنسحب وأن تنذوي بعيدأ، لأنك لن تحقق شيئاً أبداً.

- يبدو في حديثك أنك لديك شعور بإمكانية حدوث مفاجأة، وأن هناك أمل في إحراز قدر من التقدم.

أعتقد، في ضوء ما حدث في العالم العربي، وبالنظر إلى ما حدث عبر التاريخ، فإن هذا يجعل المفاجآت متوقعة. فالتاريخ عملية متجددة، والأحداث تقع بشكل مفاجيء وتأخذ الجميع على حين غرة. أنا لا أقول هذا بطريقة صوفية، أنا أقول أنه عندما يصل الناس إلى المرحلة التي يسأموا فيها العيش بالطريقة القديمة، ويشعر الحكام باستحالة الحكم بتلك الطريقة بعد الآن، فإنهم يصبحون أكثر لجوءاً للقمع، أكثر استبداداً عن ذي قبل، مثل الرأسمالية الاستبدادية نفسها، عندئذٍ يكون كل شيء محتملاً ومتوقعاً. أنا لا أقول أن النصر بالضرورة سيكون حليفاً لنا، لكننا سنخوض المعركة بكل التأكيد.
-------------------------------------------------------------------------------------


* طارق علي: مذيع وكاتب اشتراكي معروف بدوره البارز في الحملات ضد الامبريالية من فيتنام إلى العراق. وُلد طارق علي ونشأ في مدينة لاهور بباكستان، ومنذ سنوات عديدة انتقل للعيش بلندن حيث يقوم بتحرير مجلة "نيو ليفت ريفيو"، ذلك بالإضافة إلى كونه متحدث ومخرج وكاتب مسرحي وروائي شهير. ألّف طارق علي العديد من الكتب التي من أهمها: "ظاهرة أوباما" و"في التاريخ"، وغيرها من الكتب.





* تم نشر الحوار لأول مرة في مجلة "النيو سوشياليست ريفيو" الإلكترونية.