الماركسية هي أسرع مراحل الرأسمالية - ردا على مقال د. هشام غصيب


أمير خليل علي
2012 / 2 / 8 - 17:53     

طالعت مقال د. هشام غصيب بعنوان: "فلسفة ماركس" المنشور على موقع الحوار المتمدن على الرابط

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=253536

والذي جاء فيه الفقرة الهامة التالية:

" لقد عاش ماركس عصر ثورات سياسية وثقافية واقتصادية عارمة. ولاحظ ارتباط هذه الثورات بنشوء الرأسمالية وتطورها. بل لاحظ أنه في الوقت الذي خلت فيه العصور السابقة، أو كادت، من الثورات، وإن شهدت بعض الانتفاضات الدموية العبثية، فإن تاريخ الرأسمالية يكتظ بالثورات المتنوعة. لا بد إذاً أن يكون هناك شيء مميز في طبيعة الرأسمالية يجعلها تولد الثورات الاجتماعية..... لكن ماركس أدرك أيضا أنه، لئن كانت الثورات ما قبل 1848 تسعى إلى "تعزيز" الرأسمالية وإزالة معوقاتها، فإن ثورات عصره (ماركس) وما بعده ستهدف إلى تقويض أركان الرأسمالية ووأدها وقبرها. هذا ما اعتقده ماركس. هل تؤكد وقائع تاريخ العالم منذ وفاة ماركس (1883) هذا الاعتقاد؟ إنها قضية جدالية تحتاج إلى كثير من النقاش. فإذا قسنا الثورة الروسية (1917) والثورة الصينية (1949) وثورة طلبة فرنسا (1968) بنتائجها، لربما خلصنا إلى الرأي أن (هذه) الثورات الاجتماعية ما بعد 1848 كانت آليات أساسية لتجديد الرأسمالية وتعزيزها وتوسيعها. فهي مسؤولة عن إطلاق ثلاثة من مردة الرأسمالية المعاصرة : الصين، روسيا، فرنسا." انتهى

وهذه فقرة ملهمة .. لأنها تفتح لنا آفاق تقييم المشروعات (البديلة) التي ظهرت في الحقبة الرأسمالية .. بما في ذلك الماركسية نفسها.

فهل كانت هذه المشروعات البديلة بمثابة "تجاوز" أو إلغاء" للرأسمالية؟؟
أم كانت بمثابة مجرد "إصلاح" و"تعديل" و"تجديد" للرأسمالية؟؟

وهذا سؤال مهم جدا .. إلا أننا نجد د. هشام غصيب يصر على تصور واحد متوقع .. وهو أن الماركسية هي تجاوز وإلغاء للرأسمالية.

وفيما يلي .. سأحاول التدليل على أن عكس هذه الأطروحة .. له مبررات أقوى.

يقول د. هشام غصيب:
"وبالتحديد، فإن الطابع الجدلي الديالكتيكي لفلسفة ماركس ينبع من كونها فلسفة الثورة الحديثة. فالجدل هو جبر الثورة، كما وصفه الروسي هيرتزن. إنه منطق تطور النظم. وأساسه هو كون نظام ما كلا واحداً، أي كونه واحداً متعدد الأجزاء المترابطة معاً من حيث الوجود (أنطولوجيا)..... إن الأجزاء والنظم نفسها تولد نقائضها وتتحول إليها عبر هذه العلائق. فبذور فناء النظم تكمن فيها" انتهى.

نلاحظ هنا أن د. هشام غصيب يستخدم لفظ "تطور" و"تولد" .. ثم ينتقل منها إلى .. لفظ "نقائض" .. ولفظ "فناء".

ولنا أن نسأل: ألا يمكن أن يكون الـ "تطور" المقصود هنا .. هو مجرد "تحول" أو "تقلب" أو حتى "تجدد"؟؟؟ دون أن يعني بالمرة .. "تجاوز" .. أو "إلغاء"؟؟

لكن د. غصيب يتحول بنا من "التجدد" والتحول" .. جريا على عادة أغلب الماركسيين .. نحو "الزوال" و"الفناء" .. حين يقول: " النظم نفسها تولد نقائضها وتتحول إليها عبر هذه العلائق. فبذور فناء النظم تكمن فيها."

وهنا نجد انتقالا سريعا .. وغير مبرر .. بين التطور وبين النقائض .. وبين التولد وبين الفناء.

وتتضح هذه "النقلة الدرامية" وتزداد جلاء مع تقدم نص د. غصيب حيث يقول:

"إن النظم تاريخية في جوهرها. وأساس المنهج الجدلي هو تدبر النظم في حركتها وتاريخيتها، ومن منظور "زوالها" وتخطيها، لا من منظور "ديمومتها" وهذا ما تخفق في فعله المنهجيات التحليلية السكونية السائدة في الفكر البرجوازي السائد. فهي تعالج النظم من منظور "ديمومة" اللحظة الراهنة، أي سكونيا. كما إنها لا تعالج نظاماً ما بوصفه عضوية حية تتحرك بفعل تناقضاتها الداخلية، وإنما إما بوصفه بناء ثابتا أزليا وإما بوصفه كومة من الجزئيات المترابطة معاً عرضيا وسطحيا." انتهى.

وفي هذا النص يصبح الانتقال الدرامي واضح جدا .. من التاريخ إلى القطيعة التاريخية .. ومن الديمومة إلى الزوال .. ومن السكون إلى الحركة .. ومن مفهوم العضوية إلى مفهوم التناقض الداخلي ..

إلا أن د. غصيب هنا يتبنى مقارنة غير دقيقة .. بين ما اسماه المنهج الجدلي الماركسي .. وبين المناهج التحليلية البرجوازية .. حيث يقول:
"وأساس المنهج الجدلي هو تدبر النظم في حركتها وتاريخيتها، ومن منظور زوالها وتخطيها، لا من منظور ديمومتها. وهذا ما تخفق في فعله المنهجيات التحليلية السكونية السائدة في الفكر البرجوازي السائد."

فهذا التقييم التعميمي ليس دقيقا بالمرة .. ولا ينطبق على منهجيات التاريخ المعاصرة.

ذلك أن أهم منهجيات التفكير التاريخي المعاصر (سواء أسميناها برجوازية أم لا) .. إنما تتمثل في منهجية فوكو الأركيولوجية الجينيالوجية .. ومنهجية نيتشه ودولوز الجينيالوجية الاختلافية .. ومنهجية تاريخ مدرسة الحوليات الفرنسية لدى بروديل ..
وجميع هذه المنهجيات المعاصرة .. ترفض وتقطع تماما مع ما ذكره د. غصيب حول "التحليل السكوني" .. الذي لا يجد أمامه سوى أن يسقط في تحليل أسباب الديمومة .. أو أن يسقط في تحليل أسباب الفناء.

فجميع هذه المنهجيات التاريخية المعاصرة .. ترى أن منظور "الزوال والفناء" هو منظور غير كاف وغير سليم .. وكذلك ترى أن منظور "الديمومة" أيضا غير كاف ..

لأن كلا المنظورين (الزوال والديمومة) .. هما منظوران ينطلقان من نظرة جوهرانية أرسطية عتيقة تؤكد أن: هذا النظام "أ" هو النظام "أ" .. الذي لا يمت للنظام "ب" بأي شبه .. لأن "أ" لا يمكن أن يكون "ب" وأن يكون أيضا "أ" .. في نفس الوقت .. انطلاقا من المصادرة الأرسطية الجوهرانية لقانون الثالث المرفوع المنطقي .. التي تركد أن أي جوهر "أ" .. لابد وحتما أن يختلف جوهريا عن الجوهر "ب" .. وهي النظرة المنطقية الأرسطية الشكلانية .. التي سبق أن أثبت هيجل نفسه (ومن بعده) .. تهافتها واستحالة تطبيقها في مجال العلوم الإنسانية .. رغم صحتها في مجال الرياضيات فقط .. وربما في بعض العلوم الشكلانية غير الإنسانية .. التي تخضع لعملية التفسير الجوهراني .. وتستبعد عملية الفهم الهيرمينوطيقي .. حيث أصبح الفهم هو المنهج الفكري المعاصر بامتياز .. بينما أصبح "التفسير" هو بمثابة منهج تم تجاوزه .. أو أنه بالأجدى قد أضحى قاصرا على مجال العلوم الرياضية الشكلانية والعلوم الطبيعية المادية وحدهما) .

لذا .. فإننا انطلاقا من أهم وأحدث المناهج التاريخية المعاصرة .. الأركيولوجيا والجينالوجيا والحوليات .. يمكننا القول بأن أغلب الثورات (الماركسية) التي تمت داخل النظام الرأسمالي .. قد أدت بالفعل إلى تحسين وتسريع كفاءة الرأسمالية .. سواء العالمية أو حتى القطرية أيضا ..

وأن هذا التحسين والتطوير والتجديد للرأسمالية .. بفعل وجراء تدخل (ثورات) الماركسية .. قد تم إما بشكل صريح ومباشر .. أو حتى بشكل غير مباشر .. بحيث يتماشى مع مسار "مكر التاريخ" الهيجيلي .. أو تماشى مع فكرة "العود الأبدي" النيتشوية .. حيث تتراوح على الإنسان نفس الأمور لكن مع اختلاف أزمانها وأماكنها .. وكأنما يحدث لها نوع من التطور أو التغير .. بينما هذا التطور والتغير هو محض وهم ينجم جراء تعلقنا بالحاضر وعجزنا عن فهم "أنساب" الأمور وتعالقاتها الشديدة مع الماضي والسابق والتراث .. وفقما أوضح هيدجر.

إذن فإذا طبقنا أحدث المناهج التاريخية المعاصرة .. في فهمنا لحركة وتأثير الماركسية على التاريخ المعاصر .. لوجدنا أن:

الماركسية نفسها ليست أكثر من مجرد "تنويعة" .. لنفس طرق ومسارات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك .. داخل نفس النظام الرأسمالي .. الذي بقى كما هو .. بل تطور وتقوى وترسخ وتوسع .. بشكل أكبر.

فكيف حدث هذا؟

تقليص الإغتراب وتضخيم الإنتاج:

يقول د. هشام غصيب: "(تتكون) أصول الماركسية، .. من ثلاث نظريات رئيسية: نظرية الاغتراب، ونظرية العمل للقيمة، والتصور المادي للتاريخ...." انتهى

وهذا توصيف صحيح لمكونات الماركسية ..

لكنه يغفل اطلاعنا على "الوزن" الحقيقي لكل واحد من هذه المكونات الثلاثة .. كما يحدث في التطبيق الفعلي لدى الدول والأحزاب التي تزعم تبني الماركسية حاليا.

وذلك أن الماركسية .. منذ البداية .. تحتكم إلى نفس معايير الرأسمالية .. وأقصد هنا تحديدا ما نجده في الماركسية من انشغال شديد بمسألة ومعايير الإنتاج .. ثم توزيع واستهلاك ثمار الإنتاج .. مع تعمد تغييب أو غياب مسألة الاغتراب .. باعتبارها مجرد "تخريفات" غير علمية قالها ماركس في مرحلة "إنتاجه" الفكري المبكر .. حين لم يكن علميا بما يكفي للتركيز على مسألة الإنتاج وحدها .. وهذا وفق رؤية ألتوسير وتقسيمه لإنتاج ماركس إلى مرحلة مبكرة عاطفية .. ثم مرحلة متأخرة علمية.
وهذا يعني أن جل اهتمام الماركسية .. حتى ولو خالفت ماركس نفسه .. هو بالتحديد مسألة الإنتاج .. وليس مسألة الإغتراب الإنساني .. التي اعتبرها (مسألة الاغتراب) ألتوسير مجرد "تخريف" ماركسي ظهر نتيجة عدم تمكن ماركس نفسه من فهم الماركسية .. وفقما فهمها العلامة ألتوسير.

ربما يمكن القول بأن الماركسية وقعت .. وفق مفهوم "مكر التاريخ" الهيجيلي .. في حبائل الرأسمالية .. لتعمل على إنتاج وتطوير الرأسمالية نفسها .. بدلا من أن تعمل على تجاوزها .. كما زعمت .. لكن تبقى النتيجة هي أن الرأسمالية هي الآن أشد قوة ورسوخا (بل وأكثر اتساعا وعالمية) .. مما كانت عليه أثناء حياة ماركس.

وهذا الفخ الذي وقعت فيه الماركسية – سواء بقصد أو بدون قصد – يمكن تفسيره جراء وقوع الماركسية في عاملين – كما ذكرنا أعلاه:

- انشغال الماركسية بمسألة دورة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك ..

- تغييب البعد النفسي والإنساني والإغترابي .. عن الماركسية ..

وقد تم هذا تحت دعوى أن مسألة "الاغتراب الإنساني" هي مسألة برجوازية غير واقعية .. ذكرها ماركس في مرحلة الشباب غير الناضجة ..

بينما فضلت الماركسية (الناضجة المتأخرة) التركيز على مسألة الإنتاج .. بدعوى أن هذه المسألة هي مسألة واقعية بروليتارية .. ركز عليها ماركس في مرحلته المتأخرة.

ذلك أن كافة أنماط الماركسية المتحققة في الواقع .. سواء الماركسية اللينينية والستالينية والماوتسية والكاستروية والشافيزية .. إنما تظهر .. حرصا شديدا .. على تنظيم المجتمع .. باعتباره حصرا وفقط .. مجرد مجتمع يجسد دورة الاستهلاك والتوزيع والإنتاج ... لا أكثر .. حيث يتحول فيه البشر في هكذا مجتمع (ماركسي) .. إلى مجرد عمال (بروليتاريا) .. يتلخص وجودهم في ثلاث وظائف أساسية هي:

- الإنتاج .. من كل بحسب قدرته .. التي تحددها الدولة

- استقبال "التوزيع" الذي تحدده لهم الدولة باعتبارهم مجرد مساهمين في الإنتاج (لكل حسب ما ينتج) ..

- استهلاك (كوتا) تحددها لهم الدولة .. بحيث يتمكنون من إعادة الإنتاج مرة أخرى ..

وبهذا الشكل أصبح المجتمع الماركسي (سواء المأمول أو الفعلي).. هو مجرد مجتمع يتراتب هيراركيا وهرميا بكل صرامة ودقة .. وفق ما تحدده الدولة .. التي تحتكر لنفسها حق ""فرض" النظام الإنتاجي الأمثل .. الذي يحدد لكل فرد .. ما ينتجه .. وما يحصل عليه من مقابل .. وما يستهلكه.

وهكذا أصبح المجتمع هو مجرد مصنع رأسمالي كبير تديره دولة مركزية واحدة .. وذلك بدلا من المصانع المتعددة التي يديرها أشخاص رأسماليون متعددون بحيث ينجم عن تعددها قدر من اللامركزية بما يؤدي إلى نشوء نوع من المنافسة بين المصانع الرأسمالية .. والتي تراها الماركسية (المنافسة) باعتبارها تؤدي إلى إهدار موارد المجتمع.

وبهذا يتضح لنا أن إحدى مشكلات الماركسية إنما تكمن في نزعتها "الوضعية الجديدة" التي تتمثل في توجهين هما:

1- استبعاد الإغتراب من التحليل الماركسي ..

2- بهدف التركيز على الدور الهام والأساسي الذي يلعبه الإنتاج في المجتمع.

وبهذا يصبح مفهوم "الإغتراب" في الماركسية .. هو محض وسيلة أو ذريعة لممارسة لعن وسب الرأسمالية .. فقط .. دون أن يصبح هدفاً للتقليص والإلغاء .. بحد ذاته

بل ربما أصبح "الإغتراب" ذريعة لتبرير الحياة الإنتاجية الإغترابية التي يعيشها المواطنون في الصين وكوريا الشمالية .. وغيرها من الدول الماركسية .. وتصويرها على أنها ليست أسوأ من الحياة العادية التي يحياها العامل في الدول الرأسمالية.

ومن هنا ربما نفهم أهمية المحاولة الإنقاذية التي قام بها سارتر لإضفاء طابع إنساني على الماركسية .. بل ويمكن أيضا أن نفهم لماذا فشلت هذه المحاولة.


الماركسية باعتبارها ظرفية تأخر تاريخي:

إن تحول الماركسية الروسية إلى الطور القوموي الوطني .. إبان طرد تروتسكي من روسيا ثم اغتياله .. يؤكد أن الماركسية التي تم تحقيقها في الواقع التاريخي .. لم تعد أكثر من حركة رأسمالية وطنية تديرها طبقة "حاكمة" إدارية .. تسيطر على مقدرات وقرارات دولة مركزية .. تهدف فقط لاحتكار السوق المحلي والموارد المحلية .. وتنظيم علاقات الإنتاج داخل دولة وطنية محددة .. وذلك بذات الطريقة التي جرت في كافة الدول الرأسمالية الغربية في مراحلها المركنتالية .. وحتى نشوء الدولة الوطنية القومية المركزية .. لكن بشكل مركزي .. عوضا عن الشكل الغربي المفتت والذي تشكل عفويا مع نهايات عصر الإقطاع.

ومما يعزز هذا الاستنتاج .. حقيقة أن جل أعمال ماركس نفسه .. إنما انطلقت من حسرته على عجز وطنه (ألمانيا) عن مواكبة التقدم الصناعي الباهر لكل من إنجلترا وفرنسا .. وقد ورد تأكيد لهذا في مقدمة كتاب ماركس وإنجلز: الأيديولوجيا الألمانية.

وهذا يعني أن أحد أهم محركات ودوافع الماركسية هي: محاولة تجاوز الفجوة التي نجمت عن تخلف ألمانيا عن اللحاق بالدول الرأسمالية المنافسة مثل انجلترا وفرنسا ..

ولهذا السبب تحديدا .. ركزت الماركسية على "تغيير" العالم (أي وضع ألمانيا المتأخر رأسماليا واقتصاديا) .. بأكثر مما ركزت على "فهم" العالم ..

ذلك أنه لم يعد يوجد وقت (لدى ألمانيا) لممارسة فهم" ما إذا كان هدف تنظيم وزيادة "الإنتاج والتوزيع" .. هو هدف يستحق التحقيق أم لا .. طالما أن انجلترا وفرنسا قد حققتها بالفعل ..

ولذا فقد تم استبعاد كل ما كتبه ماركس في محاولة "إعادة فهم" المعايير والعالم .. على يد ألتوسير .. عندما أحس ألتوسير .. بنفس ما أحس به ماركس .. حين كانت فرنسا قد خرجت وهي تشعر بأنها أقل الدول الغربية تقدما بعد الحرب العالمية الثانية .. حيث تعرضت للاحتلال الألماني .. وأصبح من الضروري على الفرنسيين .. تأجيل مهمة "الفهم" .. مع الإنشغال الحصري بدلا من ذلك .. بمهمة "التغيير" وحدها ..

وقد وجد جل المفكرين الفرنسيين أن أفضل الطرق لإنجاز مهمة "التغيير" واللحاق بكل من انجلترا وأمريكا .. هي الطريقة الماركسية .. في استعادة واضحة لنفس الهم الماركسي المشغول بتأخر ألمانيا .. مقارنة بانجلترا وفرنسا في القرن التاسع عشر .. أيام ماركس.

هذا التحليل يؤدي بنا إلى اعتبار الماركسية .. هي نسخة مكثفة من الرأسمالية.

فالماركسية وفق هذا التحليل .. هي بمثابة اختصار وحرق وتسريع .. لنفس طريقة التنمية الرأسمالية ..

فالماركسية هي الطريقة التي تختارها الدول الرأسمالية المتأخرة .. حين ترى أنها تخلفت عن ركب الدول الرأسمالية المتقدمة ..

فقد اختارها ماركس لألمانيا .. حين وجدت ألمانيا أنها متأخرة عن انجلترا وفرنسا الرأسماليتين .. في القرن 19
واختارها لينين لروسيا .. حين وجدها متأخرة عن العالم الغربي الرأسمالي .. في القرن العشرين.
واختارها ألتوسير وجل المفكرين الفرنسيين لفرنسا .. حين شعروا بأن فرنسا أصبحت متأخرة عن العالم الغربي .. في القرن العشرين.

إذن فالماركسية هي اختيار الدول التي تريد اللحاق بالركب الرأسمالي الذي تجاوزها .. بحيث تهدف الدول المتأخرة من تبني الماركسية إلى القفز السريع .. فوق الفجوة الرأسمالية التي تفصلها عن هذه الدول الرأسمالية التي سبقتها.

ولهذا السبب تحديدا .. فإن الدول الرأسمالية المتقدمة ترفض على الدول الرأسمالية المتأخرة تبني الماركسية .. لأنها بذلك تحاول تعويض ما فاتها بشكل مكثف وسريع .. وبطريقة تراها الدول الرأسمالية المتقدمة "انتهازية" .. لأنها تنافسها على حيازة نفس المعايير والنتائج .. لكن بشكل مكثف .. مثل الطالب الذي فاته أن يستذكر دروسه قبل الإمتحان .. فلجأ إلى الغش من طالب أخر استذكر دروسه إلى جواره.

هنا يكون الطالبان أمام نفس الامتحان ويحتكمان إلى نفس المصحح والمراجع ووفق نفس المعايير والدرجات .. لكن أحدهما قد تعطل عن الاستذكار .. بينما نجح الآخر في الاستذكار.

هذا تحليل ممكن لفحوى الخلاف بين الرأسمالية والماركسية ..

وبناء عليه .. يمكن اعتبار الماركسية .. بمثابة تسريع متعمد وتكثيف مخطط لأهم محرك في الرأسمالية (وهو الإنتاج) .. وليست الماركسية بمثابة تجاوز أو إلغاء أو زوال للرأسمالية .. بل هي فقط محاولة الدول الرأسمالية المتأخرة للحاق بالدول الرأسمالية المتقدمة.

يعني هذا أنه لا يوجد تناقض حقيقي جوهري بين الماركسية وبين الرأسمالية .. بل فقط يوجد اعتراض حول ترس السرعة الذي تستخدمه الماركسية للحاق بالرأسمالية.

ذلك أن نقطة قوة الماركسية تتمثل في أنها تختزل تعقيدات الماكينة الرأسمالية .. في هندسة محركها الاقتصادي وحده .. ثم تقرر الماركسية أن تدوس على ترس السرعة الأكثر عزما في الماكينة .. لتصعد بها نفس التل الرأسمالي الذي تكافح كافة الدول الرأسمالية لصعوده .. وتقطع نفس المسافة الرأسمالية .. لكن في وقت أقل من الدول الرأسمالية غير الماركسية ..

لذا فإن الخلاف بين الماركسية وبين الرأسمالية .. إنما هو خلاف حول حجم الدولة وحول درجة مركزية الدولة فقط .. ولكن لا يوجد بين الماركسية والرأسمالية خلاف حول دور الدولة .. ولا حول أهداف الدولة .. ولا حول دور أو وضع المواطنين في الدولة.
(ملاحظة: لابد أن نميز هنا بين الرأسمالية وبين الليبرالية لنفهم هذه المسألة.)

فمن الصحيح أن الماركسية "ثورية" .. لكن باعتبارها ثورة لتسريع جدل النمو الرأسمالي .. وليست ثورة لتجاوز الرأسمالية.

إن ما تقدمه الماركسية ليس بذور نظام جديد (لارأسمالي) .. بل يمكن اعتبار الماركسية بمثابة "تسميد" وتحفيز لنفس البذور الموجودة في الرأسمالية .. بحيث تنتج وتكبر بصورة أسرع وأضخم.
بل إن البذور التي تركز عليها الماركسية هي فقط البذور المتعلقة بالعملية الإنتاجية .. مع إهمال شديد للبذور الإجتماعية والثقافية والفكرية والنفسية .. وذلك لأن الماركسية هي مجرد تركيز على "تسميد" وتحفيز البذور ذات القابلية الأسرع للتضخم والإنتاج والقياس الكمي الواقعي .. مع إهمال واستبعاد لما تظنه من بذور أخرى تستغرق وقتا أطول في الإنتاج والتحفيز.

لذا يمكننا اعتبار الماركسية نوعا من "التكثيف الاختزالي" للماكينة الرأسمالية ..

ذلك أن جل ما تحاوله الماركسية هو فقط تحويل "رأس المال" من يد الرأسمالي .. إلى يد الدولة المركزية .. مع الإبقاء على دور رأس المال في الإنتاج والتوزيع .. بنفس الطريقة .. حيث فشلت كافة محاولات الدول الماركسية .. في إقامة أي نوع من الاقتصاد لا يعتمد على "النقد المالي" في تدوير ماكينة الاقتصاد .. كما فشلت الصين في ابتكار أي استراتيجية مجتمعية .. بديلة عن استراتيجية الإنتاج بغرض التصدير المغرقة في المركنتالية.

ولهذا فإن ما يكتبه د. هشام غصيب عن الماركسية هو صحيح وهام للغاية، حين يقول:

"بل حتى تصور ماركس للاشتراكية ينبثق من دراسته الرأسمالية. فالاشتراكية وفق ماركس كامنه في الرأسمالية، بمعنى أنها القوة غير المتحققة الكامنة في الرأسمالية، حيث إن الأخيرة تولد الشروط الموضوعية من ثروات وموارد مادية ومعنوية لتحقيقها.." انتهى.

ويمكننا الآن أن نفهم هذه الجملة الهامة في ضوء جديد – كما أوضحنا أعلاه.



تفقير الجدل:

يقول د. هشام غصيب:

"والحق أن مفهوم الثورة لا يتحدد معناه ومغزاه الحقيقيان ولا يأخذ مداه الفعلي ولا يكتسب عقلانيته التاريخية إلا في الماركسية وعبرها بفضل منهجها الجدلي. ويحدد ماركس سيرورة الثورات جدليا على النحو الآتي(انظر مقدمة كتابة”إسهام صوب نقد الاقتصاد السياسي”، الذي نشره عام 1859): إن النظام المادي، سواء أكان طبيعيا أم اجتماعيا، يولد، بفضل علاقاته الداخلية الضرورية وتفاعلاته الخارجية، عناصر وقوى في داخله تحمل في أحشائها بذور نظام جديد أعمق وأوسع وأرقى من النظام القائم، بمعنى أن الحركة الداخلية للنظام القائم وتفاعلاته الخارجية تولد نقيضه في أحشائه. وينمو هذا الجنين وينضج إذ يأخذ النظام القديم مداه. ويزداد التوتر بينهما في داخل النظام القائم حتى يصل حداً لا يعود عنده النظام القائم قادراً على احتواء القوى، التي تحمل بذور النظام الجديد. عند ذاك، تفجر هذه القوى النظام القديم من الداخل وتقوض أركانه مشيدة النظام الجديد على أنقاضه ومن الدمج الجدلي بين عناصره. هكذا تتطور النظم المادية وهكذا تحدث الثورات في شتى المجالات. بذلك يكون ماركس قد كشف النقاب عن جدل الثورات ومنطقها وجبرها ومغزاها التاريخي." انتهى.

وهذا وصف جيد من د. غصيب .. للمنهج الجدلي الذي ابتكره هيجل ووظفه ماركس .. لكنه يسكت عن الاستمرار في التحليل .. فلا يقول سوى نصف الحقيقة .. لا كلها.

فمثلا عندما ابتكر هيجل المنهج الجدلي .. حرص فيه على اكتشاف تطور وتقدم الفن والفلسفة والتاريخ والقانون والمنطق والوجود .. بينما جاء ماركس ليقوم بقصر وحصر المنهج الجدلي على تطور وتقدم التاريخ الاقتصادي والسياسي فقط .. وبذلك عمل ماركس كما يلي:

- تركز المنهج الجدلي الماركسي في مسار وحيد ضيق اقتصادي سياسي ..

- بينما كان المسار الأوسع والأشمل الذي ابتكره وقصده هيجل لنفس المنهج الجدلي .. لا يقتصر على السياسة أو الاقتصاد وحدهما .. بل يشمل كافة الاشكال والمناشط البشرية (وربما غير البشرية) الأخرى.

كذلك
- أصبح نظام ماركس الجدلي هو نظام قابل للتدخل والمسك والقبض والتحريك والتوجيه وفق إرادة المفكر الثوري بما يمنح المفكر الثوري وهم القدرة الإرادوية على السيطرة والتحكم في جدل التاريخ ومساره ..

- بينما كان نظام هيجل الجدلي هو نظام أوسع .. يشمل حتى المفكر الذي يظن أنه قادر على تخطيط جدل الكون أو التحكم فيه .. بينما هو فقط منخرط داخل هذا الجدل .. بحيث حتى لو خطط هذه المفكر لمسار التاريخ .. فإن "مكر التاريخ" ينتصر عليه في النهاية.

وما فعله ماركس في جدل هيجل .. شبيه بما فعلته الماركسية في الرأسمالية .. اختزال .. تسريع .. تكثيف .. تركيز على نقاط بعينها وتضخيمها مع استبعاد نقاط أخرى وإهمالها.

ملاحظة هامشية أخيرة:
صحيح إن المطالع لكتابات وأفكار ماركس .. يجدها أكثر ثراء .. مما هي عليه (فيما حللناه أعلاه) في الماركسية الرسمية المعتمدة لدى أغلب الأحزاب الماركسية .. ولدى كافة الدول التي تزعم تبني الماركسية ..
إلا أنه من الحقيقي أيضا .. أن ماركس نفسه لا يقدر أن يقول غير ما يقوله بالنيابة عنه هذه الأحزاب الماركسية وهذه الدول الماركسية .. وحتى عندما يقول عكس ذلك .. فإنهم يقمعون صوته ويصادرون عليه.

فنصوص ماركس أصبحت بمثابة نصوص مقدسة جديدة .. تتعرض أيضا لنفس ما تتعرض له النصوص المقدسة القديمة من تحميل لمختلف الأوجه .. وإساءات الفهم والتفسير.

لذا فإن ما نعالجه أعلاه هو الفهم السائد للماركسية لدى أغلب أتباعها .. وليس الماركسية نفسها.