اليسار وقضايا الفكر والثقافة التراث 2


سعيد مضيه
2012 / 1 / 28 - 11:12     

الكفاءة الاجتماعية تحصين مناعة الفرد والمجموع ضد مؤثرات امبريالية الثقافة ، خاصة الذهنية الاستهلاكية. فهي تضخ في المجتمعات التابعة القيم المنحطة مثل الغش والفهلوة والعصامية، تلك القيم الملهمة لسلوكيات تتعارض مع مقتضيات التحرر والتنمية والديمقراطية. الامبريالية لا تكف عن مساعي حرف الأقطار التابعة عن درب التطور المستقل، بل تدمير الأسس المادية للمجتمع المتخلف.
ومن جانب آخر لا تكف الامبريالية عن مساعي التدمير الروحي للمجتمعات التابعة، من خلال الحط من معالم حضارتها وتراثها الثقافي. ركزت جهود الاستشراق الأوروبي في بواكير عصر النهضة العربية على هذه المساعي وحققت نجاحات شوهت مفاهيم شعوب الشرق عن تراثها وتاريخها وحرفت قيمها الحضارية. ينبغي أن لا ننسى أن ترجمة التوراة و تضمينها اختلاق الدولة اليهودية القديمة في فلسطين وتضخيم كيانها بين النيل والفرات واختلاق زعم علاقة الفلسطينيين بجزيرة كريت، إنما كانت من جملة تلفيقات الفكر الاستشراقي. وقد أسهب الراحل الدكتور ادوارد سعيد في تعرية الفكر الاستشراقي وفضح أساليبه ومراميه. وبحق تساءل إدوارد سعيد هل من قبيل الصدفة يفرض الفكر الاستشراقي مقولاته عن الشرق مرة واحدة وإلى الأبد ؟! وفي الوقت الراهن اكتسبت دفعة قوية مساعي الحط من الدين الإسلامي والتراث العربي ـ الإسلامي، خاصة جهود المستشرق برنارد لويس وأتباعه رسل ما بات يطلق عليها الصهيونية المسيحية.
النظرة المتجنية على الإسلام والتراث الثقافي العربي ـ الإسلامي تنزاح عن الموضوعية في تحريفاتها باتجاهين متناقضين شكلا ، لكنهما يغذيان بعضهما البعض. الاتجاهان ينكران الطابع الاجتماعي والتاريخي للقيم الحضارية : اتجاه ينكر على هذا المركب الحضاري مضامينه الإنسانية وقيمه الحضارية بدعوى الشوائب التي طفت على السطح بفعل التبدلات الاجتماعية وتدهور المجتمعات تحت وطأة التسلط ونظم الهدر في العصر الوسيط ثم إنعاش قيم الاستبداد بعد حقنها بمقويات النظم الكولنيالية في العصر الحدث. أما الاتجاه الثاني فيضفي القداسة على تلك التشوهات، يقحمها تعسفا على جوهر الدين، ويجزم من ثم ديمومة صلاحها ووجوب الاسترشاد بها.
كونت الحركة التنويرية ثم الثقافة الوطنية نظرة إيجابية للتراث القومي، وأدرجته عنصرا أساسا في مقاومة الهيمنة الأجنبية . في مرحلة التنوير تلفت رجال الفكر إلى التراث القومي يستمدون منه مقومات التصدي للطورانية التركية والنهوض القومي . دعا المنورون لإنشاء المدارس وأصدروا الصحف ونشروا الكتب ودعوا إلى الأخذ بعلوم الحضارة العصرية ونظمها السياسية. وتعمق مثقفو الحركات الوطنية العربية في التراث الفكري، ونشروا بعض النتاجات الفلسفية والعلمية العائدة إلى العصر الوسيط. برز في هذا الميدان رئيف خوري من لبنان وطه حسين واحمد أمين في مصر وقدري طوقان من فلسطين وجمهور كبير من الباحثين من العراق وسوريا وتونس والجزائر والمغرب. تكللت تلك الجهود بدراسات لمسيرة الفكر العربي ـ الإسلامي استهلها الدكتور حسين مروة ، دمجت التغيرات الفكرية بعواملها الاجتماعية، وذلك في موسوعته " النزعات المادية في الفلسفة العربية ـ الإسلامية". كتب الدكتور مروه في التراث وحركة التحرر الوطني، وكيف نقرأ التراث ؛ وقدم من بعده باحثون عرب دراسات وأبحاث غنية عرضت جدلية الفكر والواقع الاجتماعي.
تبين من هذه الأبحاث أن المجتمعات الإسلامية شهدت في حين من الزمن تسارعا في الحركية الاجتماعية أسفر عن حركية عادت بمحصول خصب من المنجزات العلمية والفلسفية وفي مجال الفقه ، باعتباره جهدا بشريا عمل على تأويل الدين والاجتهاد انطلاقا من مبادئه. تلا هذا النهوض ردة، حيث أقفر الاجتهاد والإبداع العلمي والفلسفي وشاع تكفير أصحاب الإبداعات العقلية وتسفيه أفكارهم وتحريم تداولها، فتساقطت على قارعة الدرب ، ونسيها الناس ، ولم تعد تشكل جزءا من قيم المجتمع ، بل إن نقيضها هو الذي طفا على سطح الحياة الفكرية للمجتمعات العربية ـ الإسلامية البازغة من رحم العصر الوسيط.
شرع التحريف في عهد الملك العضوض الذي استنه الخليفة الأموي ، معاوية بن أبي سفيان. فرض معاوية الجبرية فلسفة للحكم، حيث أقدار الناس مسيّرة بما لا إرادة للبشر فيها. بات الاستلاب فلسفة للحكم."لو لم يرني ربي أهلا لهذا لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره". بهذه السذاجة والمغالطة خاطب معاوية الناس لتبرير تفوقه على أصحاب الرسول ممن سبقوا في الإيمان برسالته وشهدوا معه الجهاد وحملوا رسالته بأمانة من بعده. غير ان جمهور المسلمين لم يعد ذلك الذي شهد صاحب الرسالة والخليفتين الراشدين من بعده . حدث تململ في النفوس، فانساقت مع شهوات الجشع وحب الثراء المتدفق من الأمصار المفتوحة. و نزاهة الحكم ـ كما اورد طه حسين ـ لا تتوقف فقط على نزاهة الحاكم ويقظة ضميره؛ إنما يجب أن يكون لرعيته شبه إجماع على النزاهة وقوة الطبع والرضى والقناعة، فيقوم السلطان على المحبة والعدل، لا يعرف فتنة ناشئة عن جشع أو تحكماُ أو إكراها .
طرح معاوية فكرة الجبرية تنفي إرادة البشر في ما يخصهم، وزاد عليه ذراعه الأيمن، زياد بن أبيه : " إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا. فلنا عليكم الطاعة فيما أحببنا" . باتت سلطة الحكم تستند إلى وجوب الإذعان لإرادة السلطان لأنها ـ حسب الزعم ـ مستمدة من إرادة الله. وتناسلت الجبرية فلسفة للحكم الجائر الفاسد حتى يومنا هذا.
رفض تبريرات الظلم فقهاء هبوا يناهضون الجور . وحسب تقديرات العلامة احمد أمين في كتابه فجر الإسلام فان " الخلافات الفقهية كانت من أهم أسباب اختراع الأحاديث" . وأكد هذه الحقيقة الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق في كتابه : " القرآن والنبي" .
حدثت ثورات سفكت فيها الدماء. حداثة العهد بالنبوة وعدالة الحكم الراشدي ضمنت قوة الدفع لعلم الكلام المتمسك بالنزاهة والداعم لها، كما تجلى في مواقف عدد من الفقهاء المناهضين للجور. شرع علم الكلام مهمته الشاقة حوارا بين الفكر والواقع في العهد الراشدي، ليتحول إلى صراع علني مع السياسات الأموية . ثم دخل الصراع مع الفكر الاستبدادي، حيث بات للخلفاء متكلموهم. في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور علم الكلام المعتزلي. تواصلت العقلانية في الفقه والعلوم والفلسفة. اشتهر الإمام أبو حنيفة النعمان في التاريخ الفقهي، بالخروج على أئمة أهل السنة والجهر بجواز الخروج على الحاكم الجائر. أفتى بأن الخلافة لا تورث ولا تكون بالوصاية و لا تفرض على الناس بالإكراه، و لا بد من البيعة و أن تكون حرة بالاختيار و له في هذا قول مأثور: "الإمامة تكون باجتماع المؤمنين و مشورتهم".
إلى جانب الفقه وأعلامه تطورت علوم اللغة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالشعوذات. غير أن هذا العطاء من العلم لم يحدث تغييرا حاسما على الحياة يمهد لنقلة نوعية شأن الثورات النهضوية في الغرب ؛ وذلك بالنظر لأنه لم يأت في زمن واحد ولم تصاحبه حركة اجتماعية مناصرة للتغيير ودافعة لعوامله.
بلغ علم الكلام ذروة تطوره في فكر المعتزلة. رد الفكر المعتزليّ على جبرية الأمويين فأولى قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. كما أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية. ان ما قام به المعتزلة هو تأويل مستنير متوافق مع روح العصر وساعد كثيرا على التقدم والتغيير نحو الأفضل لأن حكماء المعتزلة استعملوا العقل والقلب والنفس والتأويل والفهم والرأي والتمثل بنفس المعنى. تطور علم الكلام المعتزلي في إطاره الديني الصرف حتى القرن الثالث الهجري، حيث تعمق تأثر الثقافة العربية ـ الإسلامية بالثقافات اليونانية والفارسية والهندية. عرض الدكتور مروة ما قدمه كبار علماء المعتزلة أمثال أبي هذيل والحيائي والكسائي في قانون السببية( العلية)، وكذلك جماعة إخوان الصفا ومساهمتهم الكبيرة في مضمار العقلانية. عند هذه المرحلة لم يعد لعلم الكلام دور في التطور في ميادين الاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية. وظهرت المقدمات المادية والفكرية لظهور الفلسفة.
في عهد المأمون اقترن الانتعاش الاقتصادي بالازدهار العلمي . اكتسب الاعتزال مكانة المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق. تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. وهذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد.
ما كانت التجليات الإيديولوجية المعارضة للحكم الاستبدادي المستند إلى الدين لتظهر بناء على رغبات ذاتية؛ إنما جاءت وليدة التطورات الاجتماعية المنظورة والخفية. الفكر الديني لا يكتسب قداسة ؛ فهو جهد بشري يريد المحافظة أو يريد التقدم. واتكاؤه على الدين لا يمنحه العصمة، هذا ما ينبغي أن يكونه. ذلك أن التفسيرات شتى ، تخضع لظروف البيئة وللعقل البشري وكذلك للأهواء والارتباطات الاجتماعية. فلا بد من التمييز بين الدين والفكر الديني، بين الدين والمشاعر الإنسانية التي تتطعم بالقيم التي تفرزها ظروف الحياة وملابساتها. وهذه مسلمة بات يقر بها الجميع، إلا من ضاق أفقه فتعصب. الفكر الديني جاء عبر مختلف العصور اجتهادا لفهم الدين وحل إشكالات النصوص الغامضة، و لتأويل دلالاتها. وفي كل عصر تستجد قضايا والتباسات تهرع إلى الدين تبحث فيه عن حل لإشكالياتها ، تناول قضية الإنسان ولكن بمقولات دينية. ونظرا لأنه يختص بقضية الإنسان فمن الطبيعي أن تنشأ الحاجة في كل عصر لتفسير جديد للقرآن الكريم. بالنظر لتنوع حاجات الإنسان وقضاياه مع تغير الأزمان والأمكنة ، نجد اجتهادات فقهية تختلف وتتباين.
هكذا فأكثر من فرقة ناجية عبرت تاريخ الفكر العربي – الإسلامي. ومنذ ذلك الزمن القريب جدا من عهد الرسالة ضاقت النصوص المقدسة عن استيعاب أمور المسلمين وقضاياهم. مشاكل البشر أعقد و أكثر تنوعا من أن تستوعب في إطار شامل نهائي؛ ولا يصدق أحدٌ من يدعون التوصل إلى منظومة محكمة للحقيقة المطلقة.
وكما قال مفتي مصر الدكتور علي جمعة " فالإنسان إنسان منذ خلق، لكن التغيير يتناول أفكاره وصفاته وعاداته وسلوكه، مما يؤدى إلى وجود عرف عام أو خاص، يترتب عليه تبديل الأحكام المبنية على الأعراف والعادات، والأحكام الاجتهادية التى استنبطت بدليل القياس أو المصالح المرسلة أو الاستحسان أو غيرها من الأدلة الفرعية". ومضى إلى القول " أما عن تغير المكان، فيعود إلى اختلاف البيئة، حيث إن له أثراً مهماً في تغير الأحكام الشرعية، لأن الناس يأخذون بعض الخصائص من البيئة، وهذه الخصائص تؤثر في العادات والعرف والتعامل، لذلك تظهر عيوب القوانين بوضوح، بانتقالها من أمة إلى أخرى".
من المعرفة تنمو بذرة الفلسفة. والفكر الفلسفي ، أرقى أشكال الوعي الإنساني، يتصل اتصالا وثيقا ـ لكنه اتصال غير مباشرـ بمجمل الحياة الاجتماعية. مضى درب الفكر العربي ـ الإسلامي بالغ التعقيد وهو يشق الطريق إلى المعرفة العقلانية. تم ذلك في الصراع ضد الفكر الأموي وجبريته، واللذيم ورثهما بنو العباس. تواصلت قيم الجبرية تسلب المؤمنين كل ارتباط بحياتهم ودينهم. انفجرت براكين الخلافات في كل اتجاه واتسعت دوائرها.
كان الكندي أول فيلسوف عربي أسس لنظرية العقل الأرسطية؛ ورسالته في العقل أول إسهام عربي في هذا المجال وأثر في اللاحقين أمثال ابن سينا . جاءت فلسفة العقل عند الكندي، حسب الدكتور مروة، " الشكل العربي – الإسلامي الذي اقتضته حاجة المجتمع العربي – الإسلامي". فلم تكن الترجمة العربية لفلسفة أرسطو كما يزعم المستشرقون. تفاعلت في شخصية الكندي ملابسات وعوامل فكرية منها الفكر المعتزلي والعلوم الطبيعية والرياضية والمعارف التي اطلع عليها من علوم اليونان والاسكندرية ، وثقافة اللغة العربية والفقه الإسلامي ، فشكلت مواقف متناقضة في فكره .
يتبع في الحلقة القادمة