درس من التاريخ - يسار عربي أم صهيونية ماركسية من نوع جديد؟!


نبيل عودة
2012 / 1 / 3 - 14:13     

كشفت الثورة السورية تخبط أكثرية تيارات اليسار العربي، أو الأصح قادة اليسار العربي.
كنت على ثقة أثناء ثورتي تونس ومصر، أن قوى الثورة، التي خاضها الشباب غير المنتمي للفكر الأصولي والتنظيمات السياسية الإسلامية، أو الأحزاب الرسمية المصرح لها، غير مؤهلة على بناء تنظيماتها واحتلال الواجهة السياسية. وان الأحزاب النشيطة جزئيا ومصرح لها حسب القانون في النشاط السياسي، غير مؤهلة أيضا لقيادة حركة تغيير اجتماعي وسياسي بهذا الاتساع.أنظمة القمع نجحت بمنع قيام تنظيمات سياسية، أو وضعتها تحت الملاحقة والقمع، مما لم يؤهلها لأي دور هام في تفجير الربيع العربي والتأثير عليه سياسيا وتنظيميا.
التنظيمات الوحيدة التي ظلت على الساحة، بفضل الدعم المالي الواسع الذي كانت تتلقاه من مصادر عربية وغير عربية، وبهدف لا يخفى على أحد ، وشكلت مؤسساتها الاجتماعية وشبكة واسعة من الخدمات الاجتماعية وغير الاجتماعية، مهدت لها نجومية واسعة في أوساط الفقراء والمعدومين، في أنظمة عربية حولت 80% من الشعوب العربية إلى شعوب فقيرة ومعدومة وشبه جاهلة تعليميا أيضا.. هي التنظيمات الإسلامية الأصولية، أصلا لم تقم أي تنظيمات إسلامية غير أصولية. وشاهدنا كيف يتحالف النظام مع تلك التنظيمات، وسابقا قال الكواكبي :" الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني". فالويل من لقاء الاستبداديين!!
ليس بالصدفة أن المكانة السياسية للأصولية الدينية ارتفعت لتحتل الصدارة، رغم موقفها البعيد عن المشاركة في حركة الربيع العربي. ورغم تناقض أطروحاتها الاجتماعية مع أطروحات ثوار ميادين التحرير.
لست متفائلا من التطورات. ولكني لست متشائما من المستقبل. ما يقلقني هو الثمن الذي ستدفعه المجتمعات العربية لتتخلص من أوهام الدين السياسي أو السياسة الدينية، أو الاستبداد الديني...
من ناحية أخرى لن أتفاجأ إذا قام قادة إسلاميين لتعقيل حركاتهم، وفهم إن أي تجاوز لعلمانية المجتمع في عصرنا الحضاري المتنور سيقود إلى ردود فعل تطيح بهم وتسقطهم سياسيا أو تقلص تأثيرهم السياسي. ربما هذا واضح في تونس بشكل نسبي. في مصر الصورة مركبة أكثر. في سوريا كل الأوراق مبعثرة الآن. ولكن لا تبرير إطلاقا لفهم أن الربيع العربي، بات خريفا عربيا.
ما اعنيه بتجاوز علمانية المجتمع، هو قيام أنظمة دينية بدل أنظمة القمع الفاسدة التي سقطت. الحل المفترض الذي سيفرضه الربيع العربي ، هو نظام ديمقراطي ليبرالي يفصل بين الدين والدولة. وينهج على أساس حرية للدين وحرية من الدين. ولا استعمل اصطلاح "ديمقراطية " بمعناه التاريخي الفلسفي، إنما بمعناه التطبيقي العملي المعاصر بصفته نظاما للتعددية السياسية وتبادل السلطة ، وهذه قشور الديمقراطية فقط، أما بالتطبيق، الديمقراطية تعني بناء نظام سياسي للدولة على أسس قانونية تفصل بين السلطات وتفرض الرقابة القانونية على أجهزة الحكم وكوادر السلطة، ونظام يحمي أمن المجتمع وحقوق الإنسان والمواطن حسب جميع المواثيق الدولية، ويبني اقتصادا على أسس متينة تكفل العمل والرفاه للمواطن، وتكفل تطوير مرافق التعليم والأبحاث التي بدونها لا تقدم ولا تطور. والمجتمع الديمقراطي يطور الحياة الحزبية (أو تنظيمات المجتمع المدني) للمنافسة على خدمة المواطن وليس للمنافسة على المصالح الشخصية لقادة الأحزاب والتنظيمات. وأنا لا أعرف نظاما ديمقراطيا إلا الأنظمة الأوروبية ودساتيرها وطرق تنظيمها لمجتمعاتها واقتصادها وخدماتها للمواطنين. في المجتمعات الديمقراطية، المجتمع في خدمة المواطن وليس المواطن في خدمة المجتمع، والدين في خدمة المواطن وليس المواطن في خدمة الكهنوت الديني ورجاله.
ربما يكون السقوط الكبير في هذه الثورات بروز عجز اليسار العربي عن التعامل الفكري السليم مع حركات التغيير، وهذا برز بقوة في الموقف من الثورة السورية.
في فترة ما عرفنا في فلسطين ما يعرف اليوم في الدراسات السياسية الإسرائيلية ب "الصهيونيين الماركسيين"، وأكاد أرى تماثلا كاملا بين نهجهم الفكري والعملي ونهج الماركسيين اليساريين العرب من ثورة الشعب السوري، أو لنسميهم ب "البعثيين الماركسيين".
الصهيونيون الماركسيون، نَّظروا حول الضرورة العاجلة، لإعادة إيقاف الهرم الاجتماعي اليهودي على قاعدته السليمة، من أجل إتاحة المجال لنشوء الصراع الطبقي في المجتمع اليهودي العتيد، وهو تطور لن يتحقق إلا ، حسب تنظيراتهم، في إطار إقامة الدولة اليهودية القومية، وهذا يقود فيما بعد إلى الصراع الطبقي ثم إلى الثورة الاشتراكية وكل الحلم الرطب الذي لا يختلف عن أحلام سائر الماركسيين بكل تياراتهم .. وعليه كانوا نشطاء في احتلال فلسطين وتشريد شعبها في سبيل بناء حلمهم الماركسي. وليس سرا أن الاتحاد السوفييتي في تلك فترة (1948- فترة ستالين)، لم يكن بعيدا عن نفس تلك الأفكار "الماركسية"!!
البعثيون الماركسيون وقفوا بمعظمهم ضد ثورة الشعب السوري ، بتنظيرهم ،عن نظام الممانعة، النظام المقاوم للاستعمار، نظام الصمود في وجه المؤامرات، نظام وطني قومي ، والشعب السوري الثائر مجموعات متآمرين وخونة، وعملاء عرب للإمبريالية والصهيونية. لذلك يتصدى البعثيون المركسيون لمشاريع إسقاط النظام السوري المقاوم .
الصهيونيون الماركسيون شاركوا في سياسة تشريد الشعب الفلسطيني واحتلال وطنه، عمليا تنفيذ الأيديولوجيا الصهيونية التي قال عنها قائد صهيوني هو كورت بلومنفلد بأنها:"هدية أوروبا لليهود". ربما كانوا "إنسانيين" أكثر برفض المذابح ضد المواطنين العزل. وبرفض هدم هذا الكم الرهيب من القرى والبلدات الفلسطينية ( أكثر من 500 بلدة).
البعثيون الماركسيون لا يقلقهم 6000 قتيل برصاص الشبيحة وقوى أمن النظام السوري، ولم يسمعوا عن 60 ألف معتقل( البعض يقول 100 ألف) منهم 20 ألف غير معلوم مصيرهم. وعشرات آلاف الجرحى من "المتآمرين الامبرياليين" أبناء الشعب السوري.
نظام ممانعة وصمود؟! لم نعرف ممانعته وصموده إلا في سحل شعبه المنتفض ضد فساد النظام وبطشه وإفقاره لشعبه، وسرقة ثروته الوطنية.
لم أسمع عن شعب تحول كله إلى متآمرين على نظامهم.شعب يوصف بالعمالة للإمبريالية وكان النظام السوري يشعلها حربا لا تتوقف ضد المحتل في الجولان، وضد ضرب منشئاته الوطنية، ولم يشارك تحت القيادة العسكرية للامبريالية الأمريكية في ضرب العراق وضرب القوى الوطنية اللبنانية ، واحتلال مدمر للبنان استمر أربعة عقود مارس فيها النظام السوري القمع والنهب للثروة الوطنية اللبنانية، وما زال آلاف اللبنانيين مفقودين في السجون السورية ولا يعلم ذويهم عن مصيرهم شيئا.
"نظام الممانعة الوطني" قاد سوريا من تطور إلى تطور أدنى، من رقي تعليمي إلى تدهور متواصل، وتراجع متواصل في مستوى الدخل ومستوى حياة المواطنين، من دخل 400 دولار شهري للعامل عام 1980 إلى ما دون أل 100 دولار شهري اليوم.
بماذا يختف البعثيين الماركسيين عن الصهيونيين الماركسيين ؟
وصلني قبل أسبوع بيان صادر من قواعد الحزب الشيوعي السوري. هو الرد الأمثل على البعثيين الماركسيين. تتنصل فيه القواعد الشيوعية السورية من قيادة الحزب الشيوعي السوري الداعمة للنظام، وتعلن انحيازها للثورة ويؤكد بيان قواعد الحزب إنهم"غير معنيين بهذه القيادة وممارساتها السياسية" وأكدوا حرصهم الشديد "على مواكبة نضالات شعبنا ورفد طاقاته وقواه الوطنية والديمقراطية، والعمل معاً لبناء القاعدة الوطنية العريضة التي تشكل ظهيراً حقيقياً للانتفاضة"
وجاء في البيان أيضا: "إذا كانت المواقف التقليدية لأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، بما فيها الشيوعية، تؤكد بما لا يقبل الجدل نهجها الانتهازي الأصيل، ومجافاتها لمصالح الطبقات الشعبية التي تدَّعي تمثيلها، والتحاقها المطلق بسياسة النظام، وارتباطها بمصالح الطغمة الحاكمة، فإن المواقف الراهنة لقياداتها تعدُّ الأسوأ على الإطلاق، في كونها تكريساً للتمزيق الحزبي والتشتت النضالي، بل والتسابق لكسب ود السلطة الاستبدادية والدوران في فلكها، وتغطية عوراتها وجرائمها، متعيشة على فتات بعض المصالح الضيقة والشخصية لحفنة من المتسلطين على الحزب وقراراته".
ويواصل البيان:" نعتبر أنفسنا غير معنيين بهذه القيادة وممارساتها السياسية... وإن حراكنا هذا يأتي في مرحلة تحول ثوري يمر بها وطننا، ما يرتب علينا الاستمرار في النضال لتحقيق مطالب شعبنا في الحرية والكرامة والعدالة، آخذين بعين الاعتبار أن العملية النضالية تتطلب حشد كل الشيوعيين واليسار ومن يتحالف معهم بجبهة واحدة يصقلها الميدان وتجمعها وحدة الهدف والمصير، على طريق إعادة الوجه المشرق للحركة الشيوعية السورية كحركة كفاحية منحازة إلى جانب الشعب، النابذة لكل الانتهازيين والمتكسبين على حساب نضالهم وتاريخهم".

اؤلئك هم إخواني في الفكر الماركسي. ليس منفذي المشروع الصهيوني ولا منفذي المشروع ألبعثي ألأسدي!!
[email protected]