القرن الحادي والعشرون: حلم أم كابوس؟


خليل كلفت
2011 / 12 / 25 - 10:52     

 
القرن الحادي والعشرون: حلم أم كابوس؟
 
(مقالات وأحاديث)
 
 
إهداء
 
إلى زوجتي الحبيبة هويدا نور الدين
وإلى ابنتيّ الحبيبتين هند وعزة
هذا الكتاب حلم... وكابوس...
أهدي إليكن الحلم فقط!!
خليل كلفت
 
  
 
 
 
 
المحتويات
 
*   تنويه ..................................................................
1:  حول انهيار النموذج السوڤييتي............................................
2:  حول نظريات الطبيعة الاجتماعية للاتحاد السوڤييتي ........................
3:  القرن الحادي والعشرون يوتوپيا أم ديستوپيا؟ ..............................
4:  التفاعل الثقافي: هل ما زال مجديا؟ ......................................
5:  هل تعاني الماركسية المصرية أزمة خاصة؟ ..............................
6:  الحرب على العراق: الأهداف والتوقعات ................................. 
7:  الرهان الحقيقي في مسألة السكان والتنمية.................................. 
8:  جنوب أفريقيا: عصر ما بعد سياسة الفصل العنصري (الأپارتهيد)............ 
9:  ملاحظات على ملف الرقابة في مصر ......................................
10:  الترجمة في خطر .......................................................
11:  الأدب وجدل المحلية والعالمية: نظرة عامة ...............................
12:  لويس عوض والبحث عن أصل اللغات ...................................
13:  ملحق 1: عرض لكتاب
   "مصير العالم الثالث" لمؤلفيه: توما كوترو و ميشيل إسّون ....................
14:  ملحق 2: عرض لكتاب
   "الأساطير والميثولوچيات السياسية" لمؤلفه: راؤول چيرارديه .................
 
 
 
تنويه
 
 
 
أغلب المقالات والأحاديث التي يضمها هذا الكتاب يرتبط بصورة مباشرة بالأحوال المأساوية التي يبدأ بها القرن الحادي والعشرون. غير أن القارئ سوف يكتشف أن المقالات والأحاديث الأخرى ـ رغم عناوينها التي قد تبدو بعيدة عن أحوال القرن الجديد ـ تضيف إلى تلك الهموم السياسية المصيرية بعض هموم الحالة الثقافية الراهنة.
خليل كلفت     
 
 
 
 
 
1
 
حول انهيار النموذج السوڤييتي[1]
 
 
بانهيار النموذج السوڤييتي في كل مكان (حيث يبدو أن انهياره في بقية بلدانه لم يعد سوى مسألة وقت) تكتمل دورة كبرى من دورات التاريخ الحديث تميزت بوجود هذا النموذج وبانقسام العالم، بالتالي، إلى غرب (رأسمالي) وشرق (سوڤييتي) وعالم ثالث (تابع للغرب أخفقت كافة محاولاته للفكاك من إسار هذه التبعية بالاستفادة من وضع دولي تميز بالتناقض والحرب الباردة بين المعسكرين: الغرب والشرق).
والصورة المستقبلية العامة التي يرسمها انهيار واختفاء هذا النموذج وتبني بلدانه للنموذج الرأسمالي الغربي، هى صورة شمال اتحد بشرقه وغربه فتضاعفت قوته وتضاعف جبروته، وجنوب يتمثل فى عالم ثالث متخلف تضاعف ضعفه وتضاعف انهيار مقاومته. إنها صورة تحتل صدارتها رأسمالية عالمية متحدة موحدة عاتية رمزها الموحي هو حلول ألمانيا الموحدة محل ألمانيا (الاتحادية) وألمانيا (الديمقراطية) المتنافستين السابقتين، ولا يخفى أنها صورة تحيط الثورات الاشتراكية، وحتى كل استقلال وطني، بإطار كئيب من الشروط غير المواتية. وكل ما يبدو فى الأفق هو أن التحولات الجارية فى بلدان النموذج السوڤييتى، وهى بلدان ذات مستويات متباينة فى التطور، تباين كوبا والاتحاد السوڤييتي، ستضاعف ببعض هذه البلدان قوة الشمال وببعضها الآخر بؤس الجنوب.
 
التاريخ والأسطورة
 
بديهي بطبيعة الحال أن مفتاح فهم المغزى الحقيقي لهذه التحولات الجارية في بلدان الشرق، وبالتالي في كل العالم، يتمثل فى فهم الطبيعة الاجتماعية للنموذج السوڤييتي، هذا النموذج الاقتصادي والسياسي والأيديولوچي الذي ساد طوال العقود السابقة في بلدان ما كان يسمى بالمنظومة الاشتراكية العالمية في أعقاب ثورات أو نتيجة لزحف الجيش الأحمر.
غير أن الطبيعة الاجتماعية للنموذج السوڤييتي ظلت، على مدى العقود التي عاش فيها هذا النموذج، عقدة مستعصية فلم ينعقد عليها أيّ إجماع من أيّ نوع، بل تمايزت وتبلورت ماركسيات متعددة متباينة انطلقت من الاختلافات حول هذه المسألة المحورية.
وهناك بوجه خاص الماركسية السوڤييتية التي رأت أن هذا النموذج يساوى الاشتراكية والتطبيق الخلاق للماركسية ـ اللينينية، ونقيضها المباشر، وهو الاتجاه الذي ينتمي إليه مؤلف هذا الكتاب، وهو اتجاه حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا بزعامة توني كليف، الذي رأى منذ أواخر الأربعينات، وليس الآن، أن هذا النموذج ليس سوى النموذج الشرقي لنفس الرأسمالية الواحدة، نموذج رأسمالية الدولة البيروقراطية، كما رأى أن ثورة أكتوبر هُزمت، وأن "شيوعيتها" انهارت منذ أواخر العشرينات من هذا القرن، وليس الآن.
وإذا صحت هذه النظرية الأخيرة فإن الموقف الراهن سيبدو أشبه بمشهد سوريالى: مآتم في كل مكان على ظهر الكرة الأرضية يقيمها ـ الآن ـ الشيوعيون للشيوعية التى انهارت منذ أكثر من ستين سنة، وأفراح في كل مكان على ظهر الكرة الأرضية يقيمها ـ الآن ـ أعداء الشيوعية لانهيار الشيوعية منذ أكثر من ستين سنة. ولسنا إزاء ذكرى حزينة أو سعيدة من أواخر العشرينات، فالشيوعيون وأعداء الشيوعية على السواء يعتقدون أن الانهيار حدث أو يحدث الآن. ويعتقد الشيوعيون أن مؤامرة أعداء الشيوعية كانت عاملا حاسما وراء انهيار الشيوعية، رغم أنه لا مانع لديهم من الحديث عن "أخطاء وسلبيات" للتجربة، جعلت نجاح المؤامرة (الأمريكية بوجه خاص) ممكنا، أما أعداء الشيوعية فيهنئون أنفسهم مرتين، مرة لأن الشيوعية انهارت من الداخل لأنها ضد الطبيعة البشرية، ومرة أخرى لأنها انهارت تحت ضغطهم الطويل المظفر.
ولن يصدّق الشيوعيون أبدا أن شيوعيتهم كما تحققت فى الواقع والتاريخ لم تكن سوى رأسمالية دولة بيروقراطية، كما أن أعداء الشيوعية لن يصدقوا إلا أن الشيوعية تعني فى الواقع البيروقراطية والامتيازات والاستبداد والشمولية حيث لا يمكن الزعم أن هذه الشرور "الشيوعية" اختفت منذ أكثر من ستين سنة فهى، بالأحرى، استفحلت وتفاقمت ولم تأخذ في التداعي والانهيار إلا الآن.
وبعيدا عن مآتم الشيوعيين من الطراز السوڤييتى وأفراح أعداء الشيوعية من كل طراز، ينبغى أن نلاحظ أن هذا المشهد السوريالي ليس سوى المشهد الأخير من ملحمة سوريالية عاشتها البشرية قاطبة طوال عقود طويلة: ينقلب الحلم الشيوعي إلى كابوس يراه الشيوعيون في منامهم ويقظتهم، خاصة خارج بلدان النموذج، أسطورة وردية أو الفردوس تحقق على الأرض، ولهذا يراه الرأسماليون فى كل مكان كابوسا ينبغي التخلص منه، وفي الحالين تتمثل الصياغة العقلانية لهذا الحلم الكابوس في فكرة أن النموذج السوڤييتي هو نموذج الاشتراكية، وتغدو هذه الفكرة أسطورة تستحوذ على عقل وسلوك العالم بأسره، بشعوبه وحكوماته. ولا جدال في أن هذه الأسطورة ليست الأسطورة الوحيدة التي سيطرت على الشعوب أو الحكومات في القرن العشرين، ويكفي أن نتذكر أساطير أخرى بدت للشعوب أو الحكومات سُبُل خلاص في فترة أو أخرى، في كل أو بعض مناطق العالم كالفاشية أو تصفية الاستعمار أو التنمية. على أن هذه الأسطورة تبدو لي أشد هذه الأساطير شمولا، وأطولها أمدا، وأكثرها خصوبة، أىْ قدرة على توليد أساطير جديدة نعيش كثيرا منها الآن، فهي جديرة بالتالي بدراسات ريادية معمقة لفهم الإطار الثقافي، العقلي والأسطوري، الذي تعيش البشرية في سياقه الآن.
ولكى نفهم عددا من تلك الأساطير المتولدة عن الأسطورة الأصلية، مثل الأسطورة القائلة بأن هذه النهاية للشيوعية أو نهاية هذه الشيوعية هي النهاية لكل شيوعية وبأنها بالتالي نهاية التاريخ، أو الأسطورة القائلة بأن انهيار النموذج السوڤييتى انقلاب فى اتجاه مجرى التاريخ الحديث، أو غيرهما من الأساطير، سيكون من الملائم أن نبتعد، وإنْ قليلا، عن الأساطير لنركز، وإنْ بسرعة، على الطبيعة الاجتماعية لهذا النموذج والتي يمثل فهمها كما سبق القول المفتاح الحقيقى لفهم مغزى وأبعاد ونتائج انهيار هذا النموذج.
 
الطبيعة الاجتماعية للنموذج السوڤييتى
 
يتوقف، إذن، مغزى وجود أو اختفاء هذا النموذج على حقيقة طبيعته؛ فهل كان ذلك النموذج اشتراكيا (كما زعم الخط السوڤييتي)، أم انتقاليا بين الرأسمالية والاشتراكية في عهد ستالين (كما زعم تروتسكي) وكذلك في عهود حلفائه (كما زعمت الأممية الرابعة)، أم جماعيا بيروقراطيا أيْ مجتمعا بعد رأسمالي لكنْ استغلاليا (كما زعم شاختمان) أم رأسمالية دولة بيروقراطية (كما زعم توني كليف)، أم اشتراكيا في عهد ستالين انقلب رأسماليا وإمبرياليا اشتراكيا في عهود خلفائه فيما يتعلق بالاتحاد السوڤييتي (كما زعمت الماوية)، أم اشتراكيا في عهد ستالين ثم مهددا بعودة الرأسمالية من خلال التحريفية أو المراجعة (كما كان يؤكد الخط الماوي قبل المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي الصيني الذي تحدث عن الإمبريالية الاشتراكية في 1969، ويجدر بالذكر أن كاتب هذه السطور ظل منذ أواخر الستينات وطوال السبعينات وحتى بداية الثمانينات من أنصار هذا "الطريق الثالث" الذى كان له حظ من الانتشار في الهند ومصر، والذي لا يعدو أن يكون مرحلة من مراحل الفكر الماوي، الذى تتمثل نقطة ضعفه الرئيسية فيما يتعلق بهذه المسألة فى نظره إلى عهد ستالين على أنه عهد اشتراكي، وكان من المنطقي أن أتخلى خلال الثمانينات عن هذا الموقف غير المتماسك وأن أنتقل إلى الفكرة القائلة بأن النموذج السوڤييتى ليس سوى رأسمالية دولة، وإذا كانت هذه الفكرة مشتركة لدى اتجاهات وشخصيات عديدة فإنه يبدو لي أنها تصل إلى أقصى تماسكها لدى اتجاه "توني كليف" وحزب العمال الاشتراكي البريطاني، وهو اتجاه أتفق معه في هذه الفكرة بالذات في حين أتحفظ على أو أختلف مع بل حتى أجهل جهلا مباشراً في كثير من الأحوال، كثيرا من أفكاره وتوجهاته ونظرياته الأخرى) ـ أم ماذا؟ 
وليس من الوارد بطبيعة الحال، في سياق مثل هذا التناول الموجز، أن أحاول مناقشة هذه النظريات والمذاهب، فلا مناص إذن من أن أكتفي بإشارات سريعة يمكن الارتكاز عليها، بعيدا عن أيّ عرض منهجي منتظم، إلى طبيعة وخصائص النموذج السوڤييتي.
فكيف أمكن أن تتحول ثورة أكتوبر إلى رأسمالية دولة، وأن ينقلب الحلم إلى كابوس؟
وبطبيعة الحال، لم يكن المجتمع الذى أعقب ثورة أكتوبر في روسيا مجتمعا اشتراكيا. وإذا كان من المنطقى أن المجتمع التالي حتى لثورة اشتراكية لا جدال في طبيعتها، حتى في بلد رأسمالى غاية في التطور، لن ينقلب إلى مجتمع اشتراكي في غمضة عين، فإن المجتمع التالي لثورة أكتوبر لم يكن انتقاليا وحسب، بل كان كذلك مطبوعا بطابع تخلف روسيا القيصرية، وبالتالى بطابع خصائص ثورة أكتوبر وعدد من الأوضاع والظروف العالمية والمحلية البالغة التأثير.
وكان على ذلك المجتمع الانتقالي أن يتصدى لمهامه الجبارة، الدفاعية والهجومية، الحربية والمدنية، الاقتصادية والسياسية، الديمقراطية والاشتراكية، في سياق شروط وأوضاع وظروف موضوعية وذاتية وثيقة الصلة بخصائص كل من روسيا القيصرية وثورة أكتوبر والحركة الشيوعية العالمية في ذلك الحين.
فرغم التطور السريع العاصف للرأسمالية في روسيا القيصرية في العقود السابقة لثورة أكتوبر، ورثت الثورة والمجتمع الانتقالي التخلف الاقتصادي الذي ضاعفه الدمار الناتج عن الحرب العالمية الأولى وحرب التدخل من جانب 14 دولة والحرب الأهلية. وكان كل هذا التخلف الاقتصادي وثيق الارتباط بطبيعة الحال بالطابع غير الحديث للتركيب الطبقي والديموجرافي. وهكذا كانت روسيا بلد القنانة والفلاحين ولم تكن بلد الپروليتاريا التي كانت ضئيلة الحجم بالمعنى المطلق والنسبي. ولم يكن من شأن هذه القاعدة الاجتماعية الضيقة للثورة أن تؤمّن هذه الأخيرة اجتماعيّا وكان التحالف الثوري بين العمال والفلاحين تحالف جماهير متأخرة ثقافيّا وسياسيّا.
وفي سياق هذا التخلف الاقتصادي والاجتماعي للبلاد والتأخر الثقافي والسياسي للجماهير، أيْ قوى الثورة جاءت ثورة أكتوبر ليس كثورة اشتراكية بلا نعوت أخرى، بل كثورة تنبع خصائصها وطبيعتها من كافة الشروط الموضوعية (المحلية والعالمية) والذاتية (الخاصة بقوى الثورة وقيادتها).
والحقيقة أن ثورة أكتوبر لا يمكن أن تكون مجرد موضوع للبحث الأكاديمي، بل ينبغي النظر إليها أولا ثم إلى الثورات التالية باعتبار الدروس المستفادة من فشلها في الحساب الأخير دروس نجاح ثورات المستقبل. إن ثورة أكتوبر ليست مجرد تاريخ للبحث الأكاديمي وليست بالأخص تاريخا مقدسا قال فيه كرادلة البلشڤية كلمتهم الأخيرة. إنها، على العكس من ذلك، بحث مفتوح ما دامت قضيتها قضية مستقبل وليست رمز حنين إلى ماض أسطوري.
ولم تكن ثورة أكتوبر ثورة أقوى حلقات السلسلة بل ثورة أضعف حلقات السلسلة. ولم تكن الأزمة التي فجرتها أزمة اكتمال نمو مجتمع جديد (الاشتراكية) في رحم مجتمع قديم (الرأسمالية). ذلك أن المجتمع القديم ذاته (الرأسمالية) كان لا يزال جديدا لم يكتمل نضجه في رحم مجتمع أقدم (الإقطاع). كما أنها لم تكن تعبيرا عن النمو الطبيعي لنضال أضداد التكوين البنيوي للمجمع القديم بل كانت تلك الأزمة ترجع بصفة مباشرة إلى تأثير الحرب العالمية الأولى حيث خلفت الجيوش الألمانية في سياقها فراغا هائلا في روسيا عن طريق تدميرها اقتصاديا وعسكريا، فتفاقمت بالتالي أوضاع وأزمات جماهيرها إلى حدّ يستحيل معه العيش على المنوال نفسه. وكان ذلك التدافع المفزع من جانب طبقات المجتمع كافة ومن جانب قواه السياسية كافة لملء أو استغلال ذلك الفراغ هو المجرى الفعلي للثورة والثورة المضادة في روسيا.
لسنا إذن إزاء اكتمال نضج مجتمع برچوازي من ناحية واكتمال نضج النضال من أجل انتصار الثورة الاشتراكية من ناحية أخرى. بل إن طبيعة الثورة ذاتها لم تحسم إلا في معمعان معارك الثورة (إبريل 1917). ولهذا فإن مدى عمق الطابع الاشتراكي لثورة أكتوبر يغدو موضع شك، ويغدو من الواجب بحث هذه المسألة، بعيدا عن الخطب الرنانة، من أجل ثورات المستقبل.
على أن ثورة أكتوبر التي كانت تنتقم منها أوحال التخلف اقتصاديا واجتماعيا، كانت تعاني كذلك من ظرف عالمي غير موات. فالأزمة الحادة التي دفعت إلى الثورات في أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى كانت مرتبطة بدورها بتلك الحرب. وكانت رغم نضج التكوين الاجتماعي-الاقتصادي الرأسمالي في الغرب تعبيرا عن تأثير الحرب وليس عن نضج وعمق النضال الپروليتاري في سبيل انتصار الثورة الاشتراكية على مدى العقود السابقة لتلك الحرب. ولهذا فإن الأزمة لم تكن أزمة ثورية شاملة ولم تكن بالأخص أزمة ثورة اشتراكية. ذلك أن هذه الأزمة الأخيرة كانت تفترض من جانب نضج نمو التكوين الرأسمالي (الشرط الموضوعي الحاسم للثورة الاشتراكية) ومن الجانب الآخر نضج نمو النضال الاشتراكي (الشرط الثاني الحاسم للثورة الاشتراكية). وهذه هي الثورة الاشتراكية التي توقعها ماركس في بداية الأمر: في قلاع الرأسمالية. غير أن التاريخ كان يدّخر لكامل تاريخ الحركة الشيوعية العالمية مفاجأة غير متوقعة ولم تتضح أبعادها إلا على المدى الطويل: نضج التكوين الرأسمالي بوصفه عقبة في سبيل نضج النضال الشيوعي طالما كانت الرأسمالية تمتلك ديناميات وآليات تجعلها قادرة على حفز واستيعاب ثورات تقنية جديدة من ناحية وعلى السيطرة الإمپريالية على العالم وعلى مقدراته الاقتصادية من ناحية أخرى، وعلى احتواء النضالات والأزمات وعرقلة نموها بالقدر المطلوب لثورات اشتراكية وخلق واستغلال الأرستقراطية العمالية والشوڤينية من ناحية ثالثة، كنتيجة للناحيتين الأولى والثانية. إن الشرط الموضوعي لا يسير هنا يدا في يدٍ مع شرط ذاتي مناظر، فالتناظر ذاته غير وارد، حيث يستبعد الشرط الموضوعي الشرط الثاني في مرحلة طويلة من التاريخ لا تزال مستمرة إلى الآن بصورة عامة، وإن كانت مقدمات نهايتها تتراكم باطراد خلال العقود الأخيرة. والحقيقة أن البلاشڤة كانوا يعلمون أن ثورة أكتوبر (وقبلها ثورة 1905) ثورة في أضعف حلقات السلسلة، وليست ثورة في أقوى حلقات السلسلة، في قلاع الرأسمالية، كما تنبأ ماركس. ولكنهم كانوا يؤمنون مع ذلك بنبوءة ماركس بدليل أن أملهم الوحيد في الانتصار الكامل للثورة في روسيا كان يتمثل في ثورة البروليتاريا الأوروبية، في قلاع الرأسمالية. ولئن كانت نبوءة ماركس صحيحة فإن توقع تحققها الوشيك أو القريب كان يعني عدم إدراكه، وعدم إدراك لينين والبلاشڤة، لحقيقة أن الشرط الموضوعي للثورة في الرأسمالية المتطورة يستبعد الشرط الذاتي طوال مرحلة تاريخية طويلة تتميز بأن تناقضات الرأسمالية لم تنمُ بعد إلى الحد الذي يفتح الباب أمام تكامل وليس تعارض الشرط الموضوعي والذاتي للثورة.
ورغم أنني أطلت في هذه النقطة فقد يكون من المفيد أن أضيف أن ماركس ذاته لم يستبعد الثورة الاشتراكية في بلدان متأخرة رأسماليا، وكان رأيه عن روسيا بالذات أنها يمكن أن تنتقل من المشاعة الريفية إلى الاشتراكية دون أن تمرّ حتما بكل مراحل الرأسمالية التي كانت قد بدأت تنمو في روسيا بالفعل، بشرط أن تمتلك إنجازات الرأسمالية مع تفادي ويلاتها. ومن الجلي أن هذا الشرط الذي يعتبر بمثابة قانون عن تخطي المراحل لا يمكن أن يتحقق إلا بافتراض عملية ثورية عالمية أممية تشمل بلدانا متأخرة أو متخلفة وأخرى متطورة للغاية (أو على الأقل بلدين أحدهما متأخر والآخر متطور) حيث تقدم البلدان المتطورة العون المنهجي الشامل للبلدان المتخلفة في مجال التحديث الجذري لقواها الإنتاجية ولأسلوب حياتها. وهنا تتضح نقطة بالغة الأهمية فيما يتعلق بقضية طبيعة الثورة فهذه الطبيعة لا تتحدد بشكل إرادي داخل حدود بلد واحد مهما كان متخلفا فهي بالأحرى قضية أممية، بمعنى أن بلدا متخلفا يمكن أن يسير في طريق ثورة اشتراكية تتجاوز شروطها الداخلية بشرط أن تكون هذه العملية ضمن عملية أوسع تشمل بلدا متطورا أو بلدانا متطورة بافتراض الإخاء الأممي والتعاون الأممي بلا حدود. والواقع أن هذا الشرط بالذات كان ينقص ثورة أكتوبر التي انتظرت سدًى وبلا جدوًى نجدة الثورة الپروليتارية الأوروپية، وبدلا من النجدة الأممية سيكون هناك التطويق الإمپريالي وبناء الاشتراكية في بلد واحد، كعقيدة أو فضيلة وليس كمجرد واقع أو اضطرار أو ضرورة.
وهكذا كان على ثورة أكتوبر أن تعاني محليا من التخلف الروسي؛ الذي كان من شأنه أن يقود إلى نشوء أزمة ثورية بتأثير حرب عالمية أو غير عالمية أو بدون حرب على الإطلاق، لكن دون أن يتأخر هذا التخلف عن فرض شروطه كافة، وأن تعاني أمميا من التقدم الأوروپي الذي كان من شأنه أن يَحُول دون نشوء أزمة ثورية عميقة وشاملة، وأن يساعد على استيعابها حربيا ومدنيا إذا نشأت مراحل منها بتأثير الحرب. وهكذا كانت الأزمة الثورية المحلية والعالمية بالتأثير المباشر للحرب غير أنه لم يكن بوسع مآثر الحرب أن تتجاوز خلق أو تعميق الأزمة، لا إلى إنقاذ الثورة الروسية من تخلف الأوضاع الروسية الأصلية، وبالتالي الحكم على الثورة بطبيعة محددة مهما كانت التصورات البلشڤية الذاتية عنها (ما دامت هذه الثورة معزولة ومحاصرة)، ولا إلى نجدتها بثورة اشتراكية أوروپية اتضح فيما بعد أن توقعها وعقد الآمال عليها لم يكن لهما مبرر حقيقي.
على أن هناك شرطا ذاتيا قد يبدو أكثر رهافة؛ غير أنه حاسم مع ذلك في المسار الفعلي لتطور الثورة، وكان هذا الشرط الذاتي غائبا. فرغم أن البناء الاشتراكي ينطوي على جدل الموضوعي والذاتي الذي لا يمكن التنبؤ سلفا بتفاصيله، إلا أن برنامج البناء الاشتراكي بخطوطه العريضة لكن الحاسمة ينبغي أن يكون موجودا ومستوعبا ومهضوما سلفا على أوسع نطاق من جانب قيادة وطليعة وجماهير الثورة، وإلا فكيف يمكننا أن نتصور قيام ديمقراطية مباشرة تمارس الجماهير من خلالها مهام الحكم وتخطيط الاقتصاد ممارسة فعلية، وليس في الكتابات الإنشائية والخطب الطنانة قبل أو بعد الثورة، وكان تعليق البرنامج الذي تضمنه كتاب الدولة والثورة للينين رمز وعنوان هذا الغياب لبرنامج البناء الاشتراكي.
وهكذا وُلدَ المجتمع الانتقالي التالي لثورة أكتوبر محاصرا من كل جانب، وكان عليه أن يتصدى للقيام بمهامه الجبارة وأن يخوض معاركه الطاحنة، ببطولة الشعب وبحكمة القيادة، لكنْ أيضا مثقلا بقدر هائل من نقاط الضعف والشروط الموضوعية والذاتية غير المواتية.
والواقع أن ذلك المجتمع الانتقالي كان لا يملك ترف الشروع في تحقيق التحول الاشتراكي المستهدف بالشروع على الفور في تطوير القوى المنتجة ورفع مستوى معيشة الجماهير العاملة بصورة مطردة ومتوازنة، بل كان عليه، بدلا من البناء، أن يخوض الحرب سنوات (مع الاكتفاء بتدابير شيوعية الحرب)، وكان عليه أن ينطلق في تطوير الاقتصاد والقوى المنتجة (بعد انتصار الثورة في الحرب الأهلية) ليس فقط من مستوى تخلف سنة 1913 أو 1914 (أيْ مستوى ما قبل بداية الحرب) بل مضافا إليه دمار ست أو سبع سنوات من الحروب المتنوعة المتواصلة.
على أن الحرب الأهلية الطاحنة على مدى سنوات لم تدمر الاقتصاد وحسب، بل أنهكت الثورة والمجتمع الانتقالي بوجه عام ودمرت وأفنت الطبقة العاملة وبالأخص ومن باب أولى طليعتها البلشڤية. وكان هذا يعني أن يغرق الحزب البلشڤي في بحار من الجماهير غير الپروليتارية وغير المسيّسة وغير المندمجة مع الفكر الثوري، وكان كل هذا يعني بالتالي أن الاشتراكية المعلنة والمستهدفة ستبنى بدون اشتراكيين، بدون ماركسيين، وإنْ تضخم الحزب باعتباره حزب السلطة.
وإذا كان الطموح الهائل الكامن في ذلك المجتمع (التطور العاصف للرأسمالية في روسيا قبل الثورة) وبالأخص في البرنامج البلشڤي إلى تطوير جذري للقوى المنتجة قد تلقى دفعة كبيرة من مجرد الإطاحة بالطبقات المالكة القديمة لكي ينفتح له الباب أمام تطور جبار عاصف، فإن انطلاق هذا التطور من عقاله في ظل كل ذلك التخلف الاقتصادي والتقني والثقافي، كان ينطوي على مشروع يعوض عن التخلف بأساليب التراكم البدائي (الاشتراكي) الوحشية التي لا حاجة إليها بطبيعة الحال عندما تكون نقطة انطلاق التحول الاشتراكي رأسمالية متطورة.
وتفشل الثورة في إقامة مؤسسات صحيحة للديمقراطية المباشرة للطبقة العاملة وجماهير العاملين، وينشأ نظام الحزب الواحد، وتفقد السوڤييتات والنقابات ديناميتها بصورة تدريجية فتنحط وتتدهور.
ورغم تحوّل الماركسية إلى مذهب للدولة، في التعليم والإعلام والدعاية والحزب والعمل السياسي والجماهيري والأبحاث والعلوم والآداب والفنون، فإن هؤلاء الأنصار الجدد لدين الدولة لن يعوّضوا عن دمار المناضلين البلاشڤة في الحروب حتى قبل التصفيات الستالينية، وبصورة تدريجية يتبلور مشهد عملية بناء جبارة لكن بلا شيوعيين حقيقيين، وبلا مؤسسات عمالية ديمقراطية من أيّ نوع.
ورغم المذهب القائل أن الاشتراكية لا يمكن أن تكون إلا من صُنْع الجماهير، تصبح الاشتراكية وكل شيء آخر من اقتصاد أو تخطيط أو سياسة أو تنفيذ أو رقابة من صُنْع (ووظائف) بيروقراطية وأجهزة الدولة التي أصبح الحزب والسوڤييت والنقابة في عداد أجهزتها من الناحية الفعلية.
ويندفع المجتمع السوڤييتي في تحقيق مشروع بناء مجتمع حديث يمتلك قوى منتجة متطورة على حساب استهلاك الجماهير العاملة، وبقيادة وسلطة وامتيازات البيروقراطية وبالاعتماد على الأجهزة والأساليب البوليسية مع دور الحزب والسوڤييتات والنقابات في القمع الأيديولوجي والسيطرة على الجماهير، ومثل هذا المشروع لا يمكن إلا أن يكون مشروعا رأسماليا مهما كان نوعيا (رأسمالية الدولة البيروقراطية) ومهما استند على ملكية الدولة أو التخطيط أو الماركسية ـ اللينينية. 
وإذا كان صعود الستالينية في أواخر العشرينات حركة كبرى من التراكم البدائي (الاشتراكي)، والعصف ببقايا الديمقراطية في كافة المؤسسات، وإرساء أسس النظام الشمولي، وصعود البيروقراطية إلى مركز طبقة حاكمة في طور التكوين، فإن المجرى العام لثورة أكتوبر وللمجتمع الانتقالي المبكر، بكافة شروطه الموضوعية والذاتية غير المواتية، سهّل مهمة العصف بثورة أكتوبر باسمها وتبلور النموذج السوڤييتي الذي تم فيما بعد تصديره واستيراده، والذي تمثلت خصائصه الرئيسية في اقتصاد الدولة ملكية وإنتاجا وتوزيعا وتخطيطا وسلطة بيروقراطية الدولة، التي اتخذت أشكالا ديكتاتورية بوليسية لا مثيل لها في التاريخ الحديث، والعلاقات الاستغلالية البيروقراطية، والماركسية ـ اللينينية التي تسبح بحمد النظام الاشتراكي المزعوم القائم ولا تجرؤ على نقده، والأممية اللفظية في السياسة الخارجية التي قامت في واقع الأمر على المصالح السياسية والاقتصادية الاستراتيچية.
إن النموذج السوڤييتي الذي لا يمكننا هنا أن نتابع كافة نواحي نشأته ورسوخه ومراحله، وناهيك بتصديره واستيراده وغرسه في بيئات أخرى ليس سوى رأسمالية دولة شمولية.
 
الانهيار ومغزاه
 
من الجلي أن هذا النموذج ينطوي في داخله على جرثومة انهياره الأكيدة، ليس الانهيار الذي ينتظر كل "نموذج" رأسمالي وحسب، بل الانهيار المرتبط بخصوصيته النوعية، بوصفه رأسمالية دولة شاملة تحظر الاستثمار الرأسمالي الخاص.
ولعل من أبرز نقاط ضعف نظرية رأسمالية الدولة في روسيا عند توني كليف وكريس هارمان وغيرهما من قادة حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا، هذا العجز العقائدي عن استشراف هذا الانهيار. وأعتقد أن هذا العجز ينبع من الإحجام عن تحليل تناقضات رأسمالية الدولة حتى النهاية، وكأن إثبات أن الاشتراكية المزعومة في بلدان النموذج السوڤييتي لم تكن في واقع الأمر سوى رأسمالية دولة، يقتضي التعامي عن تناقضاها وأزماتها وعن المسار المحتمل لتطور تلك التناقضات والأزمات!  
والواقع أن كل أو تقريبا كل محاولات تفسير انهيار النموذج السوڤييتي تركز على فكرة "ردّة" رأسمالية راهنة (الخط السوڤييتي، الأممية الرابعة، الجماعية البيروقراطية) أو قريبة العهد أيْ بعد ستالين والمؤتمر العشرين (الخط الماوي وكذلك "الطريق الثالث" المشار إليه سابقا بالتبعية). ولكن هذه النظريات جميعا تواجه مآزق نظرية بالغة الصعوبة، فكيف يمكن تصديق حدوث ردة رأسمالية عن اشتراكية عالية التطور (الخط السوڤييتي) أو حتى اشتراكية عهد ستالين (الخط الصيني) أو عن اقتصاد انتقالي يُفترض فيه نمو الجديد الاشتراكي على حساب القديم الرأسمالي على مدى عقود طويلة (ماندل والأممية الرابعة) أو عن تكوين اجتماعي-اقتصادي بعد رأسمالي جديد (شاختمان ونظرية الجماعية البيروقراطية)؟
أما نظرية رأسمالية الدولة (توني كليف) فلا مكان فيها للحديث عن ردّة رأسمالية راهنة مع الپيريسترويكا أو قريبة العهد مع المؤتمر العشرين. والردة الوحيدة الواردة عند هذا الاتجاه هي الردة الرأسمالية البيروقراطية الستالينية في أواخر العشرينيات عن ثورة أكتوبر وعن المجتمع الانتقالي الذي ازدوجت فيه بقايا التكوينات الموروثة عن روسيا القيصرية ومحاولات البناء الاشتراكي الأولى خلال قرابة العقد بعد الثورة. وإذا كانت هناك ردة راهنة فهي في نظر هذا الاتجاه ردة عن شكل للرأسمالية (رأسمالية الدولة) إلى شكل آخر للرأسمالية الواحدة نفسها (الرأسمالية عبر القومية). وإذا كان هذا الاتجاه يقدم بالفعل نظرية متسقة مع الطبيعة الرأسمالية البيروقراطية للنموذج السوڤييتي، ويقدم بالتالي تفسيرا عاما سليما لمغزى التحولات الراهنة باعتبارها حركة، ليس إلى الأمام وليس إلى الوراء، بل في نفس المكان من حيث التكوين الاجتماعي-الاقتصادي الرأسمالي الواحد المستمر، فإن مسألة ما إذا كان تفسيره للأبعاد الهائلة والمفاجئة التي اتخذها انهيار النموذج السوڤييتي مقنعا وكافيا تظل مفتوحة للجدال. 
لقد عاشت رأسمالية الدولة الشمولية، رغم تناقضاتها وأزماتها، عقودا طويلة. وفي هذا الزمن الطويل نسبيا أمكن لرأسمالية الدولة أن تعطي أروع ثمارها التي تتمثل في تطوير القوى المنتجة بمعدلات نمو لا تفوقها سوى معدلات نمو الياپان، فحققت في عقود معدودة ما احتاجت الرأسمالية في الغرب لتحقيقه إلى مئات السنين. وفي هذا الزمن الطويل نسبيا أمكن لتناقضات وأزمات رأسمالية الدولة أن تتفاقم وتستفحل وتنضج لتعطي بدورها أروع ثمارها التي تمثلت في كسر إطار الشمولية، وفتح الأبواب والنوافذ أمام نضال الجماهير العاملة في سبيل حرياتها وحقوقها ومستويات معيشتها ونقاباتها وأحزابها وثوراتها.
فهل هناك ما يدعو للعجب في أن تعيش رأسمالية الدولة الشمولية، رغم تناقضها وأزماتها، كل هذا الزمن الطويل؟
والواقع أن التناقض الجوهري الذي ينطوي عليه هذا التكوين الاقتصادي-السياسي الشمولي، والذي يحتاج إلى زمن طويل لإنضاج تفاعلاته المؤدية إلى تفتيت وتفجير هذا التكوين الذي يتغلب عليه مع ذلك لزمن طويل بفضل العوامل البنيوية والظرفية المؤدية إلى تأكيد وإطالة أمد دور الدولة، فالبيروقراطية الرأسمالية لا يمكن إلا أن تطمح إلى التحول إلى طبقة رأسمالية عادية تفتح أمامها أبواب الاستثمار الخاص مهما كان حجم ووزن اقتصاد الدولة والاستبداد الشمولي. وهذا عامل تفتيت لهذا التكوين على المدى البعيد. وليس صحيحا أن البيروقراطية العليا لا يمكن أن تنتحر بالتخلي عن امتيازاتها الهائلة، فهي لا تتخلى عنها في الحقيقة إلا لتضيف إليها، أو لتكسب بدلا منها، كافة مزايا التحول إلى طبقة مالكة وحاكمة بلا قيود دولوية. كما أن الجماهير العاملة المستغلة والمضطهدة أكثر مما في أيّ بلد رأسمالي ليبرالي لا تملك كطبقة أو طبقات سوى الثورة ضد الإفقار والاضطهاد في ظل الحكم الشمولي. وهذا عامل تفتيت آخر لهذه الرأسمالية الشمولية، لكنْ على المدى الطويل أيضا.
فما هي عوامل التماسك البنيوية والظرفية التي تتغلب، ولزمن طويل، على عوامل تفتيت هذا التكوين الشمولي؟
هناك، أولا، ذلك المشروع الهائل لتطوير القوى المنتجة والذي كان المزيد من إنجازاته وقفزاته بالمجتمع يؤكد دور ملكية وتخطيط وبيروقراطية وأشكال حكم الدولة. وطالما ظلت دينامية ذلك المشروع مستمرة وأهدافه الاستراتيچية غير متحققة بصورة كاملة، كان ذلك المشروع مفخرة الدولة الشمولية ومحور عملها وأساس تماسكها. وتتمثل مصالح البيروقراطية كطبقة، أو بالأحرى كطبقة في دور التكوين، في نجاح هذا المشروع، ويجري تغليب المصالح الاستراتيچية للبيروقراطية في الاستحواذ على اقتصاد متطور بالغ التعقيد والحداثة على مصالحها المؤقتة المتمثلة في مزايا التحول السريع إلى طبقة رأسمالية تستثمر وتستخدم العمل المأجور في مشروعات خاصة.
على أن هذا المشروع التحديثي العملاق لم يكن محور وجود ونجاح ومستقبل البيروقراطية وحدها؛ بل كان كذلك محور واقع وأساطير حياة الجماهير العاملة التي كانت واقعة في إسار أوهام وعوده، والتي كان الحكام يخشون غضبها ومقاومتها لأيّ "ردّة" عن دور الدولة التي كانت تعمل على قدم وساق على تحقيقه. كما أن الشرعية التي اغتصبتها البيروقراطية، شرعية ثورة أكتوبر وديكتاتورية الپروليتاريا، كانت تكرس ملكية الدولة وتخطيط الاقتصاد والأيديولوجية الماركسية-اللينينية التبريرية الملفقة، ولم يكن التحدي المباشر لتلك الشرعية مأمون العواقب. وهكذا كانت تلك الشرعية بدورها من عوامل تأكيد وتأبيد دور رأسمالية الدولة الشمولية.
على أن الوضع الدولي، بثوابته ومتغيراته، كان لا يتأخر عن استفزاز وتحدي النموذج السوڤييتي بأسباب متزايدة لاستمرار وتماسك دور الدولة.
ومنذ البداية، كما سبق أن رأينا، كان الغرب الرأسمالي الإمپريالي يتحدى ثورة أكتوبر، بعيدا عن آمال أو أوهام وأساطير نجدة الثورة الپروليتارية العالمية، بشروط الصلح مع ألمانيا، وبالتدخل الأجنبي المسلح، ثم بالتطويق الرأسمالي العالمي بعد ذلك. وكان على الدولة الجديدة ليس فقط أن تطور القوى المنتجة بسرعة مذهلة بل أن تطور كذلك وبالسرعة نفسها قوى الدمار دفاعا عن النفس. ولم تتأخر الفاشية الهتلرية عن الهجوم. وكان من المنطقي أن تؤكد الحرب العالمية الثانية، بالدمار المفزع الذي حلّ بالاتحاد السوڤييتي، دور رأسمالية الدولة من خلال ضرورات إعادة التعمير واستئناف مشروع التحديث العملاق والتحول إلى قوة عسكرية من الطراز الأول، دفاعا عن النفس أمام أخطار مفزعة تأكدت بصعود وتفوق وعدوانية إمپريالية الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك دفاعًا عن الإمپراطورية السوڤييتية، وكذلك للتنافس العالمي على مناطق النفوذ. وأخذت تحديات سباق التسلح والحرب الباردة والثورات العلمية والتقنية في الغرب تؤكد وتطيل أمد دور رأسمالية الدولة. 
على أن هذه المجابهات والحروب الساخنة والباردة وأعباء الدفاع وأعباء الدولة العظمى وأعباء امتلاك وتطوير ترسانة أسلحة تعادل الترسانة الأمريكية بالاستناد إلى اقتصاد لا يتجاوز نصف الاقتصاد الأمريكي، كان لابد أن تنتهي تراكميا إلى إنهاك الاتحاد السوڤييتي وإلى تفاقم تناقضاته واستفحال أزماته. 
وفي عصر لم يعد ممكنا فيه حكم الشعب السوڤييتي بالحديد والنار ومعسكرات العمل، خاصة في ظل تراجع الاقتصاد ومستويات المعيشة، وفي عالم يتميز بأنه صار قرية إعلامية واحدة بإغراءات حقائق وأساطير مستويات المعيشة في الغرب، كان لا مناص من بروز تناقض بعينه. ذلك أن الاقتصاد المنظم على الأساس الجماعي يدخل في تناقض صارخ مع مجتمع تسوده القيم الفردية بعيدا عن ادعاءات القيم الجماعية والشيوعية. وفي غياب المبادرة الجماعية (كتلك التي سادت أيام القيم والمبادرات الجماعية الشيوعية التي أطلقتها ثورة أكتوبر) والتي لا تنسجم إلا مع المبدأ الجماعي حقا، شكلا ومحتوى، في تنظيم الاقتصاد ومع سيادة القيم الجماعية والشيوعية، وفي غياب المبدأ الفردي في تنظيم الاقتصاد والذي من شأنه أن يصيب الطبقات المالكة بحُمّى التراكم الخاص، وأن يقدم الأساس لرقابة فعالة على عملية العمل، وكذلك في غياب الإكراه الشمولي الصارم الذي يمكنه أن يملأ الفجوة بين ضرورات التراكم الجماعي البيروقراطي (الرأسمالي بالطبع) من ناحية، وغياب الحوافز والمصالح الفردية والخاصة لدى طبقات المجتمع كافة من الناحية الأخرى، غدا من المستحيل تفادي ترهل المجتمع وتدني الأداء الاقتصادي وانهيار كل مسئولية إزاء اقتصاد وموارد البلاد أو الدولة وفقدان الاتجاه العام (وكابوس القطار المندفع بأقصى سرعة بلا سائق كما رآه جورباتشوڤ في يقظته)، فلا مناص إذن من أن يجدّ البحث عن الاتجاه الصحيح والأداء الاقتصادي الفعال وسبل تفادي التخلف النهائي عن الغرب وتردّي وانهيار وانفجار الوضع برمته. وإذا كانت المبادرة قد جاءت في الاتحاد السوڤييتي من أعلى (من جورباتشوڤ والپيريسترويكا والجلاسنوست) فهي لم تأت إلا في مناخ يتميز بالانفجارات المتكررة في بلدان "المنظومة" وبعد سنوات من احتدام الصراعات الحاسمة في پولندا )التضامن وليخ ڤاونسا)، ولم تكتسب مبادرة جورباتشوڤ ديناميتها المدمرة والمحررة إلا من عوامل التفتيت الاقتصادي والقومي والأيديولوچي التي كانت تختفي تحت السطح الجرانيتي اللامع، فإذا بنا أمام معارك إعادة هيكلة الاقتصاد في اتجاه الجمع بين الأشكال المتنوعة للملكة الرأسمالية، والصراعات الطاحنة بين القوميات بعد عقود طويلة من الحل اللينيني المزعوم في بلدان المنظومة، والتنصل من الاشتراكية والشيوعية والماركسية واللينينية وثورة أكتوبر والثورات اللاحقة وكل ثورة بعد عقود طويلة من الرفع المنافق عاليا لتلك الرايات الزائفة.  
على أن انهيار النموذج السوڤييتي لا يعني انهيار بلدانه كبلدان أو شعوب أو اقتصادات. وإذا ركزنا على روسيا، يمكن القول إن إنجازاتها في مجال تحديث وتطوير قواها المنتجة (البشرية والمادية والعلمية والتقنية) تؤهلها للتغلب على الأزمة التي رافقت انهيار النموذج وللخروج منها قوة اقتصادية ضخمة (وبالأخص قادرة على اللحاق بالغرب والتنافس معه على قدم المساواة)، تتبوأ مكانتها في صدارة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب إلى جانب الولايات المتحدة وأوروپا الموحدة والياپان، أيْ كعضو أصيل في نادي الشمال الرأسمالي المتقدم.
وإذا كانت المصائر النظرية العامة لبلدان النموذج لا تخرج عن: أ: استمرار النموذج السوڤييتي، ب: الثورة الليبرالية، ج: الثورة الاشتراكية، فإن الانهيار الراهن للنموذج، وعلى أوسع نطاق، يدعو إلى التساؤل عن احتمالات المصائر الفعلية وهل من الوارد بينها إحياء هذا النموذج من جديد بعد هدوء العاصفة.
لقد رأينا كيف كان مشروع تحديث القوى المنتجة هو القوة الدينامية الدافعة، قبل وبعد وإلى جانب الدوافع الأيديولوچية والظرفية، وراء قيام واستمرار ورسوخ النموذج السوڤييتي في مسقط رأسه بالذات. فما هي تناقضات هذا الارتباط بين المشروع والنموذج؟ وما هي علاقة هذه التناقضات بمصائر اقتصادات ونظم بلدان النموذج؟
وقد رأينا أن مشروع التحديث كان يؤكد دوما دور نموذج رأسمالية الدولة. غير أن ضرورات السير بمشروع التحديث إلى نهايته المنطقية، إلى اللحاق الأكيد بالغرب، أخذت تتناقض مع استفحال تناقضات وأزمات النموذج وترهل النظام وتدهور الأداء الاقتصادي، مؤذنة بضرورة إرسال النموذج إلى متحف التاريخ بعد أن وصل بالتحديث إلى مستوى يسهل تحقيق قفزات كبرى انطلاقا منه بشرط التحرر من البيروقراطية الشمولية التي انقلبت إلى عائق كئيب. والحقيقة أن معدلات النمو المتفوقة لهذا النموذج لا تعكس التفوق الاشتراكي على الرأسمالية فهذا ليس واردا بالنسبة لهذا النموذج، الرأسمالي بدوره. بل إن مقارنة هذه المعدلات مع المعدلات الرأسمالية الغربية المتواضعة مقارنة مضللة وخادعة يجري الإلحاح عليها لتكريس أسطورة التفوق السوڤييتي الاشتراكي المزعوم. فالرأسمالية الغربية التي شبعت تحديثا للقوى المنتجة ليست بحاجة إلى مثل هذه المعدلات في النمو ولا تنوي الدخول في سباق عليها مع أحد. والواقع أن نظامها الاجتماعي-الاقتصادي القائم على مبدأ الربح، وليس على التنمية الشاملة لمقدرات ومستويات معيشة الجماهير، يستبعد النمو بمثل هذه المعدلات التي تعني في نهاية المطاف أزمة فيض الإنتاج، نتيجة لأزمة نقص الطلب "الفعال"، بل أصبحت المهمة الاقتصادية الأولى لهذا النظام تتمثل في كبح نمو القوى المنتجة ومواد الاستهلاك وليس في إطلاقه، اللهم إلا في حدود ومجالات بعينها، الأمر الذي يعني أن الرأسمالية الغربية المتطورة دخلت مرحلة الركود المزمن الذي لا فكاك منه. أما معدلات النمو الياپانية التي تتفوق على المعدلات السوڤييتية ذاتها فتدل بصورة قاطعة على أن تفوق المعدلات لا يرجع إلى تفوق رأسمالي أو تفوق اشتراكي بل يرجع على العكس من ذلك إلى ضرورات ملء فجوة التخلف الروسي والياپاني عن الغرب، وينطبق الشيء نفسه على معدلات نمو الرأسمالية في روسيا القيصرية في العقود السابقة للثورة. وإنما يكمن المغزى الحقيقي لكل مقارنة في مدى ملء فجوة التخلف، في مدى اللحاق بالغرب. وفي حين تتخلف روسيا الاشتراكية المزعومة عن الغرب تخلفا مفزعا من حيث إنتاجية العمل، تتجه الياپان إلى تفوق حاسم، وإن كانت الياپان بدورها لا يمكنها بطبيعة الحال أن تفلت من النتائج الكئيبة لنمو تناقضات الرأسمالية على المدى الطويل.
وبديهي أن بلدان النموذج متفاوتة من حيث التحديث ومنها بلدان لم ترتبط بالنموذج إلا عبر الارتباط بالاتحاد السوڤييتي السابق أو بروسيا ضمن هذا الأخير، بمعنى تبني أسوأ ما في النموذج (الحكم الشمولي) دون تحديث، اعتمادا على ما سماه السوڤييت ذات يوم بالتقسيم الدولي الاشتراكي للعمل، فليس أمام هذه البلدان سوى اللحاق بالعالم الثالث. 
وإذا ركزنا على أكثر هذه البلدان تحديثا، لم يعد واردا استمرار أو إحياء النموذج، ليس فقط لأن الوصول بالتحديث إلى مستوى التنافس مع الغرب على قدم المساواة أصبح يشترط التخلص من هذا النموذج، بل كذلك لأن تحول البيروقراطية إلى طبقة رأسمالية يشترط الشيء نفسه.
والحقيقة أن البيروقراطية مصابة في الصميم بتناقض جوهري بين المبدأ الفردي والخاص والعائلي كمثل أعلى للعلاقات الاستغلالية والمجتمع الاستغلالي من ناحية والتنظيم الجماعي لاقتصاد الدولة من الناحية الأخرى. ولا يمكن لهذه البيروقراطية أن تصبح طبقة رأسمالية، ولا حتى طبقة رأسمالية بيروقراطية، بالمعنى الصحيح للعبارة، إلا عندما تكون العملية الرأسمالية سلسلة واحدة من الحلقات المتماسكة والمتوازنة بحيث لا تطغى المصلحة الجماعية للطبقة في التراكم الرأسمالي البيروقراطي الدولوي، بل توجد إلى جانبها مصالح التراكم الرأسمالي الفردي والخاص، التي لا ينبغي أبدا التقليل من شأنها والتي لا يمكن تأمينها على الإطلاق من خلال رأسمالية الدولة الشمولية التي يمكن لمنطقها دائما وكلما اقتضى الأمر أن يعصف بموظفيها "المماليك" مهما كانوا كبارا أو قططا سمانا أو نخبة بيروقراطية عليا. إن البيروقراطي الفرد مدفوع دوما إلى تأمين سيادته للمجتمع من خلال إحلال أسس المبدأ الطبقي الفردي (الملكية الرأسمالية الخاصة وهي المحيط الطبيعي لازدهاره) محل المبدأ الطبقي الجماعي (ملكية وتخطيط الدولة وينطوي هذا المبدأ دوما على إمكانيات العصف بالبيروقراطي الفرد)، على أن هذا المبدأ الفردي ليس أبدا مصلحة فردية منعزلة أو مصلحة أفراد منعزلين بل مصلحة طبقية جماعية لأفراد الطبقة الذين لا يمكن تأمين فرديتهم إلا بجماعيتهم كطبقة ولا يمكن تأمين تماسك جماعيتهم إلا بالحفاظ على مصالحهم الطبقية كأفراد. 
وكانت الثورة الليبرالية الراهنة التي هي محتوى أزمة وانهيار واختفاء النموذج السوڤييتي هي الحل السعيد لتناقض هذا النموذج مع المزيد من سير هذه البلدان بالتحديث إلى الأمام وكذلك لتناقضه مع مصالح البيروقراطية في التحول إلى طبقة رأسمالية كاملة الأهلية. على أن الليبرالية الاقتصادية لن تفترض بالضرورة وفي كافة الأحوال ليبرالية في السياسة والحكم فلا جدال إذن في أن التحولات الجارية تكتنفها مخاوف تحول بعض هذه البلدان إلى بلدان فاشية باقتصاد رأسمالي خاص لتتجه حسب تكوينها الاجتماعي-الاقتصادي الحقيقي إلى الانضمام إلى العالم الثالث أو البقاء في ذيل قائمة بلدان الشمال الرأسمالي.
ولم يكن من الوارد، بطبيعة الحال، أن تندلع ثورات اشتراكية بدلا من هذه الثورات الليبرالية، ذلك أن أحد مجالات نجاح النموذج السوڤييتي كان يتمثل في كافة بلدانه في تصفية الحياة السياسية وتفريغ الأشكال الحزبية والسوڤييتية والنقابية من محتواها، باستثناء محتواها التفريغي ذاته، على أن فك الارتباط بين هذه الدول من جانب والشيوعية من جانب آخر حدث تاريخي بكل معنى الكلمة، وهو يصدم غير أنه يحرّر وبالتالي يدفع إلى الاتجاه الصحيح، اتجاه ثورات اشتراكية من طراز جديد.
والواقع أن التعبئات الجماهيرية الضخمة التي تدشن بها الجماهير العاملة في هذه البلدان انتقالها من معاناة مزمنة إلى معاناة حادة مفزعة إنما هي تعبئات الثورات الجماهيرية الليبرالية، فلا مجال إذن لأوهام انقلابها فجأة إلى مقدمات ثورات اشتراكية.
 
نحو عالم بلا أساطير
 
يتبين من الصفحات السابقة، في ضوء حقيقة أن النموذج السوڤييتي لم يكن من حيث طبيعته الاجتماعية سوى رأسمالية دولة بيروقراطية، أن المغزى الحقيقي لانهيار واختفاء هذا النموذج من بلدانه ومن العالم يتمثل في اختفاء وتلاشى تناقض رئيسي في صفوف الرأسمالية العالمية، بالنتيجة المنطقية الجوهرية التالية: استعادة وحدة الرأسمالية العالمية لنكون إزاء شمال رأسمالي واحد موحد بشرقه وغربه، في مواجهة شعوب الشمال من ناحية وشعوب الجنوب التابع (العالم الثالث) من ناحية أخرى.
وبديهي أن مغزى وجود أو اختفاء هذا التناقض لا يختلف في جوهره وليس في أبعاده بالضرورة، عن مغزى وجود أو اختفاء كل تناقض رئيسي في صفوف الرأسمالية العالمية. إنه ليس أكثر لكنه ليس أقل من ذلك أيضا.
ومن الجلي بطبيعة الحال أن التناقض الرئيسي في صفوف الرأسمالية العالمية قد يقود إلى أزمات مدمرة كالحرب العالمية الأولى أو الثانية؛ وكانت كل منهما انفجارا لتناقض رئيسي في صفوف الرأسمالية العالمية، بين مصالح الرأسماليات الإمپريالية الجديدة المحرومة من المستعمرات، خاصة ألمانيا في كل من الحربين العالميتين، وبين مصالح بقية الرأسماليات الإمپريالية التي كانت قد أكملت اقتسام العالم من قبل، خاصة إنجلترا وفرنسا وروسيا (فيما يسمى بالاستعمار الداخلي).
على أن استعادة الوحدة في صفوف الرأسمالية العالمية، حربًا أو سلمًا، لا تعني بالضرورة أن الوحدة صارت أبدية أو أنها غير قابلة للفقدان نتيجة لإعادة تكوين التناقض من جديد بين نفس المصالح الرأسمالية التي تناقضت من قبل (ألمانيا والحربان العالميتان) أو بين مصالح رأسمالية أخرى تتناقض حول محاور أخرى متوقعة أو مفاجئة (مثل نشوء النموذج السوڤييتي).
وتتجلى خطورة المرحلة التي يتجه إليها العالم الآن عندما ندرك حق الإدراك أن الرأسمالية الإمپريالية العالمية حبلى بالكوارث في الأحوال كافة، في أحوال وجود أو احتدام أو انفجار تناقضات كبرى في صفوفها، لكن أيضا في أحوال اختفاء هذه التناقضات الكبرى واستعادة الوحدة.
ورغم الكوارث التي يمكن للتناقضات الكبرى أن تقود إليها العالم، وقد كانت الشعوب وقودًا لحربين عالميتيْن مدمرتين تفصل بين نهاية الأولى وبداية الثانية قرابة عشرين سنة وحسب، يمكن القول بوجه عام أن هناك إمكانية لاستغلال الثغرات التي قد تفتحها تلك التناقضات لصالح الشعوب.
أما فترات اختفاء التناقضات الكبرى، واستعادة الوحدة، فلا يمكن إلا أن تكون وبالا على الشعوب، خاصة في البلدان التابعة.
وإذا كان اختفاء النموذج السوڤييتي ينذر بكوارث تنطوي عليها قدرات استعادة الوحدة الرأسمالية العالمية، فإن وجود هذا النموذج (في نشوئه وانتشاره ونموه واستقراره وانهياره ذاته) كان دائما في بؤرة الكوارث التي تقود إليها فترات احتدام التناقضات الكبرى في صفوف الرأسمالية. وكان نشوء هذا النموذج وثيق الصلة بالتأثير المباشر لتلك التناقضات وكذلك باستغلال الثغرات التي تفتحها. وإذا كان نشوء هذه الأنظمة مرتبطا مباشرة باستغلال الثغرات (الحرب العالمية الأولى وثورة أكتوبر، الحرب العالمية الثانية وأوروبا الشرقية والصين وكوريا وڤيتنام) فإن الوجود المستقر للنموذج كتناقض في صفوف الرأسمالية العالمية قد تداخل مع تناقض الفاشية مع بقية الرأسمالية الاستعمارية (هجوم هتلر على الاتحاد السوڤييتي) واستقل بكوارثه التي اتخذت صورة الحرب الباردة والحروب الساخنة بالوكالة تنافسًا على مناطق النفوذ ولم تتخذ هذا الشكل "الرحيم" من الكوارث إلا بفضل تطور القدرة العسكرية السوڤييتية التي كان يمكن على الأرجح لولاها أن يتعرض الاتحاد السوڤييتي للهجوم النووي الذي يبدو أن خططه كانت جاهزة.   
صحيح أن تطورات ومعارك التناقض مع النموذج السوڤييتي، والاتحاد السوڤييتي بالذات، كانت متداخلة مع حركات التحرر الوطني الرامية إلى الاستقلال عن الاستعمار الغربي بالاستناد إلى تأييد وعون الاتحاد السوڤييتي (ومعسكره) استغلالا لتناقضه مع الغرب، وصحيح أن الغرب كان يمارس هذا التناقض من خلال الحرب الباردة والحروب المباشرة (كوريا وڤييتنام) وبالوكالة، أيْ بالوسائل العسكرية التي لا يبررها سلوك عدواني من جانب الاتحاد السوڤييتي ومعسكره، وذلك لاعتقاده (الغرب) أن المعسكر السوڤييتي معسكر شيوعي، وليس منافسا رأسماليا مثل الفاشية الألمانية أو الإيطالية أو الياپانية في الحرب العالمية الثانية. غير أنه صحيح أيضا أنه، رغم الدور الاستثنائي الهائل لسوء التفاهم والأسطورة، كانت هناك ممارسة على النطاق العالمي لتنافس إستراتيچي قائم على المصالح، وليس على أيّ سوء تفاهم، من جانب الاتحاد السوڤييتي بالذات.       
وصحيح أيضا أن الغرب لم يهادن الاتحاد السوڤييتي (وبقية بلدان النموذج) قط، بل ناصبه العداء وطوّقه وحاصره وهاجمه عسكريّا (الحرب العالمية الثانية بالذات) وتآمر ضده ووضع الخطط النووية لتدميره وشن ضده حرًا دعائية عالمية استمرت عدة عقود، وصحيح أن هذا الغرب هو الذي فرض، بخطه العدواني، واعتقادا منه أنه يحارب الشيوعية الدولية، على الاتحاد السوڤييتي المسار الذي سلكه (تطوير القدرة العسكرية التقليدية والنووية، تأييد ومساعدة حركات التحرر الوطني الرامية إلى الاستقلال عن الغرب، الاندفاع في هجوم دعائي معاكس على النطاق العالمي بدوره). غير أنه صحيح أيضا أن سوء التفاهم الغربي وبالتالي سلوكه العدواني المتطرف وحربه الصليبية ضد الاتحاد السوڤييتي والشيوعية السوڤييتية وواقع أن الغرب هو الذي "اخترع" الاتحاد السوڤييتي بالخصائص التي أجبره على اكتسابها بدلا من أن تبقى التناقضات السوڤييتية مع بقية الرأسمالية العالمية في حدود أقل حدة بما لا يقاس، صحيح أن كل هذه الأشياء لا تغيّر واقع أن تناقضا كبيرا تم خلقه وتعهُّده بالرعاية والعناية والتطوير والحرب الصليبية المتعددة الوسائل والمراحل، بالخسائر التاريخية الفادحة التي جلبها هذا الصراع غير المبرر على الغرب والشرق في آن معا.
وإذا كان كلامي هذا يصدمني، أنا نفسي، قبل أن يصدم غيري، لأنني تربيت كغيرى على فكرة أن الطبقات الحاكمة تحدد سلوكها بما يتفق ويتطابق وينسجم مع مصالحا الإستراتيچية، فقد فاتني كما فات غيري أن نتعلم أن الطبقات الحاكمة قد يفوتها إدراك مصالحها الإستراتيچية فتنخرط في سلوك مدمر لمصالحها وربما أيضا لبقائها أصلا. وليتذكر القارئ الحرب العالمية الثانية، وليتأمل ما يلي: كيف حدث لعدد من الدول الرأسمالية العالية التطور، بزعامة ألمانيا بالذات، أن أصابها الغرور بقوتها الاقتصادية والحربية المتفوقة فعلا، فحسمت أن مصالحها تقتضي خوض الحرب مع الدول الأوروپية الاستعمارية الكبرى (ومع الاتحاد السوڤييتي)، وفي غضون سنوات معدودة من الحرب دمرت تلك الدول والطبقات الرأسمالية العالم لكنْ أيضا نفسها، ففقدت استقلالها الذي لم تستعده كاملا إلى يومنا هذا (ألمانيا والياپان). والحقيقة أن سوء التفاهم الذي جعل تلك الدول الرأسمالية المتطورة الفاشية، عاجزة عن إدراك مصالحها ووسائل ومراحل تحقيقها وعلى ذلك النحو المدمر ليس بلا سوابق في التاريخ ولم يكن سوء التفاهم المدمر الوحيد في التاريخ المعاصر. 
ومن ناحية أخرى، يؤدي اختفاء النموذج السوڤييتي، وبالتالي اختفاء انقسام العالم إلى شرق وغرب، إلى نتائج يتوقف على فهمها واستيعابها تصوّر المستقبل القريب والبعيد للعالم بصورة موضوعية، كما هو في الواقع، بلا أساطير، وبالتالي التعامل معه بهذه الصفة. على أن الوحدة المستعادة في صفوف الرأسمالية العالمية ليست مستقرة بعد، فالعالم الآن في فترة من السيولة والتفاعلات وإعادات الترتيب لاستيعاب الوحدة المستعادة مع تفادي انشقاقات من شأنها التطور في اتجاه تناقضات كبرى جديدة تقود بدورها إلى كوارث جديدة. 
ومن المنطقي بطبيعة الحال أن نتوقع فترة غير قصيرة من "توابع الزلزال السوڤييتي". ويزيد من حدة الزلزال وتوابعه واقع أن اختفاء النموذج لم يتخذ شكلا هادئا يحلّ فيه خيار أو نموذج محل خيار أو نموذج آخر، بل شكل الأزمة والزلزال والعاصفة والانهيار بما يؤدي إلى فترة من الأوقات الصعبة وفقدان التوازن لدى بلدان النموذج، على أنه كان لا مناص، في كافة الأحوال، من السيولة والتفاعلات وإعادات الترتيب لأن التخلي المدوي عن الشيوعية من جانب بلدان النموذج جعل الغرب يفقد فجأة عدوه اللدود؛ فسقطت فجأة بالتالي أساطيره عن هذا العدو الشيوعي المزعوم، وبالأخص أسطورته عن التهديد أو الخطر أو الغزو السوڤييتي، هذه الأشياء التي كانت ترغم قوى رأسمالية كبرى على الاحتماء بالمظلة الأمريكية. وسوف يعني المزيد من استقرار التطورات السوڤييتية والاطمئنان إلى هذا الاستقرار إعادات ترتيب في أوضاع وتحالفات وسياسات القوى الرأسمالية الكبرى. 
وإذا كانت التوازنات التي ظلت قائمة إلى عهد قريب قد فقدت استقرارها نتيجة للحركة الفجائية التي أصابت بعض عناصرها، أيْ نتيجة للانقلاب في العلاقات مع بلدان النموذج السوڤييتي من ناحية ونتيجة لغيابها النسبي المفاجئ عن الحلبة الدولية لفترة من ناحية أخرى فإن التنبؤ بالصورة المستقبلية الدقيقة التي ستستقر عليها العلاقات والتحالفات والتناقضات بين القوى الرأسمالية الكبرى يغدو بالغ الصعوبة. فمتى يحلّ عالم متعدد الأقطاب الرأسمالية محل هذه الفترة المؤقتة من العالم الأحادي القطب كما يقال الآن؟ وما هي هذه الأقطاب وما وزن كل قطب منها في ضوء تراجع القوة الاقتصادية الأمريكية مع بقاء قوتها العسكرية، وتداعي الاقتصاد الروسي مع بقاء القوة العسكرية الروسية، والقوة الاقتصادية الهائلة دون قوة عسكرية لكل من الياپان وألمانيا الموحدة أو أوروپا معاهدة ماستريخت الموحدة؟ وكيف سيتعامل هذا العالم مع أزمات واضطرابات وهجرات ومجاعات وكوارث وحروب العالم الثالث، بالإضافة إلى مغامرات قواه الإقليمية الطموحة التي تنفتح شهيتها مع التطورات الجديدة؟
والأسئلة التي من هذا القبيل لا نهاية لها من الناحية العملية، غير أن تحليلنا لمغزى وجود أو اختفاء النموذج السوڤييتي لا يضعنا إزاء اختفاء عامل ثوري أو اشتراكي فعال في التوازن العالمي، بل إزاء استمرار القوى الرأسمالية الكبرى نفسها التي ظلت سائدة في العقود السابقة على الحلبة الدولية بما في ذلك روسيا، التي كانت حقيقتها الرأسمالية تختفي تحت الاسم الاشتراكي للاتحاد السوڤييتي السابق. 
وإذا كان من الجلي أن عوامل انشقاقات وتناقضات جديدة في صفوف هذه القوى ليست معدومة ("الحروب" التجارية الأمريكية مع الياپان وأوروپا الغربية) فإن عوامل وحدتها ليست معدومة أيضا (علاج جراحات الانشقاق المنتهي، الأخطار الإيكولوچية، اضطرابات العالم الثالث، إلخ.).
وبعيدًا عن محاولات التنبؤ وسط أجواء غائمة؛ يجمل بنا أن نلتفت إلى بعض خصائص عالم جرد الانهيار صراعاته من أسطورة الاشتراكية السوڤييتية وحررها من كثير من التناقضات الأسطورية والأساطير المتناقضة المتولدة عن تلك الأسطورة. 
وبوجه خاص فإن انهيار هذا النموذج لا يقود إلى انقلاب في اتجاه مجرى التاريخ المعاصر، اللهم إلا من وجهة نظر من يزعم أنه كان نموذجا اشتراكيا (الخط السوڤييتي) أو انتقاليا (ماندل). والواقع أن تأكيد أن اتجاه مجرى التاريخ المعاصر لم ينقلب لا يقدم عزاء لأحد. ذلك أن القوى الرأسمالية الكبرى نفسها التي كانت تسوده طوال العقود السابقة ستظل تسوده في المستقبل المنظور. مع إضافة ذات نتائج متمايزة ومتعارضة: إن اختفاء النموذج السوڤييتي يسهم في خلق ظروف موضوعية غير مواتية لأنه عامل وحدة داخل صفوف الرأسمالية العالمية، لكنه يسهم أيضا في خلق ظروف ذاتية مواتية لأنه يفك الارتباط بين الماركسية وبين قوى غريبة عليها ظلت تشوّهها وتضطهد الجماهير باسمها وتضلل الشيوعيين في كل مكان في العالم بنظريات تدعي تطويرها استنادا إليها.
فهل ما زال العالم، رغم تقلباته وانقلاباته وتكشُّف حقائقه، في عصر الإمپريالية والثورة الپروليتارية؟
أعتقد أن الإجابة بالإيجاب، ولكنْ... بشرط فهْم موضوعي، ثوري حقا، بعيدا عن النزعة الإرادية الثوروية، فهْم لا يعتبر الثورات "الاشتراكية" طوال القرن العشرين ثورات پروليتارية كاملة الأهلية، يعني إخفاقها وفشلها في نهاية المطاف أن تشخيص طبيعة العصر كان خاطئا، بل ينطلق من الحدود الحقيقية لاشتراكية تلك الثورات، والشروط الموضوعية والذاتية التي تقتضيها الثورة الاشتراكية القابلة للحياة. وإذا كانت پروليتاريا البلدان الرأسمالية المتقدمة قادرة، بعد إغناء وتطوير ماركسيتها باستخلاص دروس التجارب المريرة، على إحياء واستئناف النضال الاشتراكي الثوري الأممي فإن قضية الثورة الاشتراكية والاستقلال الوطني  في البلدان التابعة (العالم الثالث) تغدو بالضرورة قضية واحدة في إطار ثورة اشتراكية أممية، حيث يستحيل على بلد أو أكثر من بلدان العالم الثالث القيام بالثورة الاشتراكية وتأمين البناء الاشتراكي إلا في إطار الثورة الاشتراكية الأممية التي تشتمل على بلد أو أكثر من البلدان الرأسمالية المتطورة؛ لأن ثورات العالم الثالث عاجزة عن حماية نفسها ضد الحرب الصليبية التي ستشنها الرأسمالية العالمية الموحدة ضدها، بحكم بداهة ضعفها وتخلفها، كما أن ثوراتها عاجزة عن تحديث قواها المنتجة بلا عون بلا حدود من جانب بلدان اشتراكية متطورة.
والحقيقة أن الوضع الذي يجد الجنوب (العالم الثالث) فيه نفسه الآن، بعد عقود من محاولات الفكاك من التبعية أو تحسين شروطها باستغلال التناقضات بين المعسكرين، برهان ساطع على أن التناقض والصراع بين المعسكرين لم يكن في الواقع سوى تناقض وصراع بين كتلتين رأسماليتين. وكانت الآفاق التي يفتحها ذلك التناقض أمام شعوب العالم الثالث آفاقا كاذبة، فالحقيقة التي تتضح الآن، بعد فوات الأوان، هي أنها لم تفتح أمام أيّ بلد أو شعب أو أمة في العالم الثالث إمكانات لانتشار الثورة الاشتراكية والبناء الاشتراكي، ولم تساعد في أفضل الأحوال إلا في انتشار النموذج السوڤييتي نفسه في طبعاته الأكثر تخلفا والأكثر بعدا عن تحديث حقيقي (استنادا إلى تقسيم العمل الدولي "الاشتراكي" المزعوم). وفي نهاية المطاف، تم إعلان رأسماليات الدول الديكتاتورية ذات الأيديولوچيات القومية والمعادية لأية ماركسية، بما في ذلك الماركسية السوڤييتية، بشرط التعاون والصداقة مع الاتحاد السوڤييتي نظما اشتراكية أو ذات توجه اشتراكي، وكانت النتائج كارثية في كل مكان.
والجنوب الآن هو مكان التخلف وزمانه ورمزه، وقد وصلت التبعية الاستعمارية بالجنوب، بعد فترات من المحاولات المخفقة للتحرّر منها، إلى نقطة مفزعة. وصل الجنوب إلى نقطة الانهيار. ولا يتمثل هذا الانهيار في مجرد التأبيد النهائي، في المدى المنظور، للتبعية بعد إخفاق حركة التحرر الوطني وتراجع آفاق الثورة الاشتراكية أو حتى أوهامها الجميلة، بل هو الانهيار المباشر. فبعد أن وصل الجنوب إلى أقصى تطور ممكن في إطار التبعية ما بعد الكولونيالية، بدأ اليوم، بل أمس، الهبوط على الجانب الآخر من التل، في اتجاه المجاعات والحروب والحروب الأهلية والمغامرات والفوضى والهجرات، وربما لن تهدأ عواصف العالم الثالث قبل انخفاض جذري في سكانه يعيد توازن السكان والموارد في ظل نظم اجتماعية-اقتصادية متخلفة، ربما لتهدأ المالتوسية في قبرها.
ولم يستطع الشرق الأحمر، ولم يكن من شأنه ولم تكن قضيته، أن ينقذ الجنوب. أما الغرب (الشمال) فهو الذي قاد ويقود الجنوب إلى هذا المصير. و قد عجز الجنوب عن الإفلات منه لأنه لم يتملك ولا يمتلك دينامية ذاتية منقذة.
على أن عجز العالم الثالث عن إنقاذ النفس، اعتمادا على النفس أو بعون من آخرين، لم يكن فقط عجزا عن تحقيق تحول اشتراكي، أيْ التحول إلى نظم اشتراكية حقيقية بعيدا عن ديكتاتوريات الاشتراكية القومية الفاشلة، بل كان كذلك عجزا عن التحول الرأسمالي، أيْ التحول إلى بلدان رأسمالية حقيقية ذات بنية اجتماعية اقتصادية حديثة.
وتنبع استحالة التحول الاشتراكي في العالم الثالث من واقع أن العالم كان ولا يزال خاليا من الشرط الجوهري لهذا التطور وهو وجود نظام اشتراكي عالمي أممي متطور أو عملية ثورية اشتراكية عالمية أممية. أما استحالة التحول الرأسمالي، فهي نابعة من واقع أن إنجازات الرأسمالية العالمية تسيطر عليها الرأسماليات الإمپريالية المتطورة وتسيطر بها على العالم الثالث ولا تسمح له بالوصول الحر إلى الإنجازات، أيْ بالتحول إلى رأسمالية عالية التطور، حرة ومستقلة، تنافسها على قدم المساواة.
وهكذا فإن بلدان العالم الثالث لن تتحول إلى بلدان رأسمالية بالمعنى الصحيح إلا كاستثناءات سعيدة تثبت القاعدة. أما النظرية المناقضة، نظرية "نهاية العالم الثالث" عن طريق تحوله إلى رأسمالية كالنمور أو التنانين الآسيوية (نايچيل هاريس) فتبدو نظرية خيالية إذا أدركنا حق الإدراك واقع سيطرة الشمال (الغرب) على العالم مستخدما إنجازاته التاريخية التي لا يريد أبدا الاكتفاء بتوزيعها هدايا على العالم الثالث، وكذلك العجز الكامن في البنية الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية للتبعية.
ومُحاصرا بين هاتين الاستحالتين، ليس أمام العالم الثالث (ومعه بطبيعة الحال عالمنا العربي ومصر) سوى التدهور والمزيد من التدهور. وفي سياق هذا التدهور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والروحي، تنفتح أبواب الجحيم ليس فقط أمام المجاعات والحروب الطاحنة (الأهلية والخارجية) بل كذلك أمام تجارب كارثية لا نهاية لها ترتدي أشكال الأصالة والأصولية والسلفية والحكم الديني (وليس الإسلامي وحسب) ولن يكون هذا الحكم الديني، أيا كان الدين الذي يُقام باسمه، سوى لفترات قصيرة، ولن يكون إنجازه الفعلي سوى المجازر التي ستقام لأية قوى مستنيرة أو علمانية أو ديمقراطية أو شيوعية أو لمعتنقي أديان أخرى، سماوية أو وثنية، ولن يكون كل هذا بعيدا عن مخططات الشمال أو تدخلاته أو مصالحه.
ومع انقسام العالم بصورة نقية واضحة، إلى شمال وجنوب، إمپريالية وتبعية، غنىً وفقر، واستحالة إنقاذ العالم الثالث من داخله من خطر نهاية أخرى مناقضة تماما لنهاية نايچيل هاريس التي أشرنا إليها منذ قليل، يبدو أن أيّ تفكير في مخرج للجنوب لابد أن يتجه إلى العلاقة شمال-جنوب.
غير أن هذه العلاقة ليست علاقة تعاون متكافئ لتنقذ أو تساعد في إنقاذ الجنوب، بل إن العلاقة إمبريالية-تبعية بين الشمال والجنوب لا تؤدي إلا إلى المزيد من تدهور الجنوب، حيث يزداد الغنيّ غنى والفقير فقرا، ولهذا الترابط (الاستغلال) تأثيره المباشر المتواصل على هذا التدهور.
ولا شيء يدعو إلى الاعتقاد بأن الشمال سيحرك ساكنا. صحيح أنه لا يمكن استبعاد دموع التماسيح ولا إرسال أعداد من طائرات المساعدة الإنسانية إلى مناطق المجاعات والهجرات والحروب الطاحنة، غير أن من غير الوارد على الإطلاق أن يهرع الغرب (الشمال) إلى إنقاذ العالم الثالث كما هرع منذ عهد قريب إلى تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، ولن تكون أعمال كحرب الخليج الأمريكية واردة بعد استنزاف ونضوب خامات العالم الثالث والتي سيفقد هذا الأخير بدونها نصف وربما كل أهميته للغرب، حيث أن ثورته السكانية سوف تحطم، في غياب الخامات، كل أساس اقتصادي لتبادله التجاري مع الغرب أو لاستضافته لرساميله، ولن يأتي الشمال في هذه الحالة إلا لاغتصاب أراض تخلو من سكانها في الجنوب[2].
فهل هناك مخرج من نهاية العالم الثالث بالمعنى المناقض لمعنى نايچيل هاريس من خلال أزمة للشمال يستغلها الجنوب أو تكون لفائدته؟
من التفاؤل الساذج، بطبيعة الحال، تصوُّر ثورة اشتراكية وشيكة أو قريبة في أوروپا أو الغرب أو الشمال، فهذه الثورة مرتبطة بصورة حاسمة بردّ اعتبار الماركسية وإغنائها بدروس التجارب القاسية وتطوير مفاهيمها عن الحزب والثورة والبناء الاشتراكي واندماجها في حركات وثورات جماهيرية فعلية من طراز لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث (ثورات أقوى لا أضعف حلقات السلسلة، ثورات جماهيرية عميقة لا ثورات أقليات اجتماعية أو سياسية، ثورات ضرورة لا ثورات مصادفة، ثورات قاعدة لا ثورات استثناء، إلخ.).
وفي الوقت الذي لا تزال مثل هذه الثورات بعيدة، وعلي الأقل غير منظورة، بدأ بالفعل منحدر تدهور الجنوب، فهذه الثورات لا تملك إذن منع أو عرقلة هذا التدهور، رغم أنه لا ينبغي استبعاد دور قد تقوم به شعوب الشمال وطبقته العاملة وحركته الشيوعية في مجال عرقلة تدهور العالم الثالث، بافتراض وعيها بكارثته وتعاطفها معه. على أنه لا ينبغي، من جهة أخرى، المبالغة في هذا الدور الذي يستحيل أن يتجاوز في المدى المنظور قدرات هذه الشعوب إلى حدّ إجبار حكومات الشمال على منع تدهور العالم الثالث أو حتى منع أن يتخذ هذا التدهور تلك الأبعاد الكارثية المتوقعة.
وهناك افتراض لا ينبغي استبعاده تماما. إنه الزلزال الغربي. أيْ الفوضى الشاملة الناتجة عن الأزمة البنيوية الإستراتيچية للغرب، بالذات ضمن الشمال الرأسمالي، أو هذا الأخير ـ بشرقه الذي يعيش الآن فوضى انهياره، بأزماته الاقتصادية الطاحنة، وحروبه الأهلية، وتشريده للشعوب، وبغربه الذي لا يزال متماسكا، ربما في ظاهر الأمر وحسب.
فما هو مبرر افتراض زلزال غربي؟ وما عسى أن تكون طبيعته أو خصائصه؟ وكيف يمكنه أن يؤثر في مصائر الجنوب؟
هل ينبغي افتراض الزلزال الغربي لأن عالما رابعا نما وينمو داخل ذلك العالم الأول رغم بريق سطحه، ولأنه ليس هناك ما يمنع أن تتفاقم أزماته فتنفجر (لوس أنجلوس)؟ أم ينبغي افتراضه لأن انهيار الشرق الرأسمالي (بلدان النموذج السوڤييتي) يمكن أن يهزّ العالم كله بما فيه الغرب الرأسمالي، فيما يتحرك لاستيعاب الزلزال الشرقي وتوابعه؟ هل يتدخل وعي الشعوب الغربية، مهما كان بعيدا عن الوعي العلمي أو الشيوعي، بأن النظام الغربي يقيّد النمو الممكن لحياة هذه الشعوب، مكبّلا نمو القوى المنتجة، عاجزا عن التطبيق الإنتاجي الشامل للثورات العلمية التقنية، سالبا العلوم البحتة والتطبيقية إمكانات أيّ تطور جذري عن طريق فصلها من الناحية الجوهرية عن الإنتاج، تاركا في أجواء مدن الغرب وأريافه التي لم تعد أريافا الانطباع العام المرعب بأن النظام الغربي يهدر كافة الإمكانات التي يقدمها العصر لتقدم السوپرمان الغربي ذاته ـ وليس قطيع المتخلفين المنتكسين في عوالم أخرى بعيدة ـ بحيث تغدو كل خطوة علمية تفتح آفاقا جبارة أمام الإنسانية السبب المباشر لخطوات أخرى إلى الوراء في الحياة الفعلية، وباختصار: فاقدا بركوده المزمن المبرر لاستمرار أيّ نظام اجتماعي-اقتصادي (حيث يمثل هذا الركود المزمن بالذات ذروة التناقض بين طابع القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، تلك القوى والعلاقات التي تظل قبل ذلك متوافقة رغم التناقض)؟ ثم: كيف يمكن لفوضى الزلزال الغربي أن تؤثر في مصائر العالم الثالث؟ برفض الحداثة؟ بالعودة إلى الأصالة؟ باستغلال أزمة الغرب وتراخي قبضته على إنجازاته التاريخية بما يسمح بالتحول إلى الرأسمالية بالمعنى الذي يبشر به نايچل هاريس؟ وكيف يكون ذلك؟ وهل من المحتمل أن يضرب الزلزال الغربي ضربته قبل أن يغرق العالم الثالث تماما في نهايته بمعنى انهياره ودماره؟
ويالها من أسئلة تردّ على أسئلة!!!...
 
خرافة نهاية التاريخ
 
رغم أن انفصال النظرية (الماركسية) عن تطبيقها المزعوم في بلدان النموذج السوڤييتي يمكن التوصل إليه بكل سهولة من أبسط مقارنة بين مبادئ تلك النظرية وأسس تلك الممارسة أيْ تطبيقها المزعوم، تنطلق وسائل الإعلام الغربية وكذلك أجهزة إعلام الحكام الجدد في بلدان النموذج السوڤييتي سابقا من ادعاء أن النموذج السوڤييتي ليس من الناحية الجوهرية سوى الثمرة التاريخية الطبيعية للتطبيق الدقيق والأمين والصارم إلى حدّ الجمود العقائدي للنظرية الماركسية، وبقفزة واحدة يصل الفكر الغربي البرچوازي وتوابعه في العالم الثالث إلي فكرة مؤداها أن انهيار النموذج السوڤييتي يساوي انهيار النموذج النظري الماركسي واللينيني لبناء الاشتراكية والشيوعية، ولا تمثل نظرية نهاية التاريخ سوى صياغة مكثفة لهذه القفزة الواحدة السريعة المتسرعة.  
وبطبيعة الحال، لن تعني نهاية التاريخ شيئا إن لم تكن تعني نهاية الصراع التاريخي بين التكوينين الاجتماعيين-الاقتصاديين الأساسيين في التاريخ الحديث والمعاصر أيْ الرأسمالية والاشتراكية.
ومن الجلي أن نموذج الصراع التاريخي كما تفهمه نظرية نهاية التاريخ يتمثل في الصراع بين الرأسمالية والنموذج السوڤييتي. وقد بدا طوال عقود أن النموذج المذكور يمثل الاشتراكية والشيوعية والماركسية. وإذا كان "ما بدا" هو الحقيقة المطلقة، إذا كان النموذج السوڤييتي يساوي التجسيد الواقعي أو الثمرة الطبيعية للتطبيق الأرثوذكسي للنموذج النظري الماركسي لبناء الاشتراكية أو الشيوعية، فلا مناص من التسليم بأن نهاية التاريخ قد حلت بالفعل. وهذا أمر بديهي في نظر فوكوياما الذي لا شك عنده في هذا التطابق الجوهري بين النظرية الماركسية والتطبيق السوڤييتي.  
ومن المفارقات أن الخط السوڤييتي الموسكوڤي، الذي يسلم بهذا التطابق الجوهري بين النظرية الماركسية-اللينينية والتطبيق "الخلاق" في بلدان "المنظومة" الاشتراكية، جدير بأن يقود إلى الاعتقاد بأن نهاية التاريخ حلت بالفعل لكن أنصاره يتشبثون بحل السهولة المتمثل في الحديث الخادع عن "أخطاء وسلبيات" التطبيق بما يبَرئ النظرية من مسئولية ما حدث، والتفاؤل التاريخي العميق بنجاح آخر لتطبيق هذه النظرية، ربما كما هي دون تطوير، مع تفادي "أخطاء وسلبيات" الماضي في التطبيق الخلاق في المستقبل.
على أنه لم يعد من المقبول أن نواصل تجاهلنا لماركسيات متعارضة مع الماركسية السوڤييتية ظلت تنظر إلى النموذج السوڤييتي على أنه لا يمثل الاشتراكية والشيوعية والماركسية. فليس من الوارد إذن أن ينظر الماركسيون الحقيقيون إلى الصراع بين الشرق والغرب، بين الرأسمالية والنموذج السوڤييتي، بين الرأسمالية والاشتراكية كما تحققت في الواقع، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتي، بين حلف الأطلنطي وحلف وارسو، على أنه كان صراعا ينتهي التاريخ بنهايته، فهذا الصراع لم يكن بين التكوينين الاجتماعيين-الاقتصاديين المتصارعين تاريخيا في العصر الحديث: الرأسمالية والاشتراكية. 
ولا يعني هذا إنكار أن صراعًا تاريخيّا دار ويدور منذ قرابة قرن ونصف قرن بين "التكوينيْن"، لا يعني إنكار الحركة الشيوعية أو حركة الطبقة العاملة أو حركات التحرر الوطني الشعبية، لكنه يعني أن هذا الصراع التاريخي لم يكن يتمثل في صراع النموذج السوڤييتي وبلدانه ضد الغرب وحلفائه، بل إن كل انتصار للنموذج السوڤييتي في أيّ بلد (قيام النظام الستاليني في روسيا على سبيل المثال) كان يعني بالتحديد هزيمة الاشتراكية والشيوعية والماركسية لصالح طبقة استغلالية جديدة صاعدة ترفع مع ذلك رايات الطبقة العاملة والثورة والاشتراكية والشيوعية والماركسية-اللينينية. وإذا كانت الثورات "الاشتراكية" وكافة محاولات السنوات الأولى لبناء الاشتراكية تجسد ذروة الصراع بين "التكوينيْن" فإن تبنّي النموذج السوڤييتي أو تطور الأحداث بحيث تؤدي إلى قيام هذا النموذج كان يعني الجزر والانحسار والهزيمة. والحقيقة أن النضالات والثورات والمحاولات التي تنتمي إلى الصراع بين "التكوينيْن" لم تتجسد في مجتمعات اشتراكية بل فقط في مجتمعات انتقالية في الفترات الأولى التالية للثورات سرعان ما كان يجري تصفيتها في كل مكان، تلك التصفية التي تجسدت في التبلور النظري والعملي للنموذج السوڤييتي الستاليني في الاتحاد السوڤييتي ثم في تطبيقه من الناحية الجوهرية، حتى رغم الصراعات الفكرية الصاخبة في بعض الأحوال، في التجارب اللاحقة. ورغم ما ظلّ يبدو على السطح عقودًا طويلة، لم يتخذ الصراع بين "التكوينيْن" صورة صراع بين معسكرين، اشتراكي ورأسمالي، بل قام في واقع الأمر معسكران، شرقي وغربي، ينتميان إلى تكوين اجتماعي-اقتصادي واحد هو التكوين الرأسمالي واحتدمت بينهما تناقضات المصلحة وسوء التفاهم، كما سبق أن رأينا. 
وإذا كان الصراع بين "التكوينيْن" لم يتخذ شكل الصراع بين بلدان رأسمالية وبلدان اشتراكية، وإذا كان هذا يعني أن هذا الصراع التاريخي فشلت فيه الاشتراكية والشيوعية والماركسية، رغم نجاحاتها ونضالاتها وثوراتها، في تأسيس مجتمع اشتراكي، فليس هناك بالمقابل ما يدعو إلى الاعتقاد بأن هذا الصراع التاريخي قد انتهى. والقول بأن هذا الصراع سوف يتواصل في المستقبل كما ظل قائمًا في الماضي، لا يساوي أكثر من القول بأن المجتمع الرأسمالي ينطوي بحكم طبيعته الطبقية الاستغلالية على ضرورة نضال الطبقة العاملة، ليس فقط دفاعيا في إطار المجتمع الرأسمالي ذاته بل هجوميّا في سبيل انتصار الثورة الاشتراكية لبناء الاشتراكية والشيوعية. كما أن الإخفاقات والهزائم المتكررة للماركسية والنضال الشيوعي لا تعني أن هذا الفشل الطويل يساوي العجز الدائم في المستقبل أيضا عن تطوير النظرية باستيعاب الدروس؛ بما يقود إلى قيام أحزاب وحركات وثورات شيوعية من طراز جديد بما ينقل الصراع التاريخي بين "التكوينيْن" إلى مستوى تاريخي أعلى.
فقط عند استنتاج مثل هذا العجز المستقبلي الدائم، أو عند ادّعاء أن المجتمعات التي انهارت كانت اشتراكية أو شيوعية، يمكن الحديث، دون تأنيب ضمير، عن نهاية التاريخ، لكن لا المجتمعات التي انهارت كانت اشتراكية ولا من الملائم الحديث عن عجز مستديم. إن مجرد الإيمان بوجود المجتمع الرأسمالي، بخصائصه التي أصبحت مفهومة بفضل النقد الماركسي لهذا المجتمع، يساوي الإيمان بأن الصراع قائم وإن كان في بداياته، رغم التاريخ الطويل من النضالات والثورات والحركات والنجاحات والإنجازات والانحسارات والإخفاقات والهزائم والانهيارات، وبأنه سيتطور بالضرورة، لأن من خصائص المجتمع الرأسمالي أنه ينطوي في داخله على طبقتين أساسيتين متعارضتين تعارضًا جوهريّا.
وعندما يحقق النضال ضد المجتمع الرأسمالي نقيضه أيْ المجتمع الاشتراكي، سيكون من الممكن الحديث عن أن الصراع التاريخي بين "التكوينيْن" تحقق فانتهى بذلك. ويمكن لمن يحلو له أن يتحدث عن نهاية التاريخ بوصفها التحقق الفعلي للتاريخ. كما يمكن لمن شاء أن يعتبر نهاية التاريخ بداية التاريخ الحقيقي للإنسان باعتبار أن ما سُمّى دائما بالتاريخ ليس في الحقيقة سوى ما قبل تاريخ الإنسان (كارل ماركس).
 
9 نوڤمبر 1992
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
2
 
 
حول نظريات الطبيعة الاجتماعية
لبلدان النموذج السوڤييتي[3]
 
إلى أين تؤدي التطورات الجارية في الاتحاد السوڤييتي (خاصة منذ 1986 والپيريسترويكا) وبلدان أوروپا الشرقية (خاصة بعد انهيار نظمها الحاكمة في أواخر 1989)؟
هذا هو السؤال الذي يطحن ويعتصر عقول وقلوب الماركسيين (بالمعنى الواسع للكلمة) في كل مكان في العالم. وتتوالى الأسئلة القلقة المؤرقة: إلى اشتراكية ذات وجه إنساني مهما يكن ظاهر مسار التطور الفعلي بعيدا تماما عن أن يكون مبشرا بها؟ إلى الرأسمالية؟ وما مصير حلمهم الذي اطمأنوا طويلا إلى أنه تحقق على الأرض؟ وما مصير البشرية ذاتها في ظل مثل هذا الانقلاب في اتجاه التاريخ؟ وما مصير الماركسية بدورها في ضوء المحصلة التاريخية لتطبيقها طوال هذا القرن؟ ولابد أن تنتهي مثل هذه الأسئلة إلى سؤال جوهري: ما طبيعة النظام الاجتماعي-الاقتصادي الذي كان قائما في تلك البلدان؟ أكان اشتراكيا حقا؟ أكان رأسماليا رغم الشعارات؟ أم ماذا؟ ولا تنتهي الأسئلة: هل يمكن لمجتمع اشتراكي حقا أن يتحول إلى الرأسمالية؟ وبالمقابل: هل يحتاج مجتمع رأسمالي إلى كل هذه العواصف والأعاصير والزلازل والطوفان ليظل مع ذلك رأسماليا؟ ولا تنتهي الأسئلة بل تتواصل قلقة ومؤرقة، محيرة ومعذبة، حقيقية ومضللة، لكن مصيرية في كل الأحوال، إلى ما لانهاية.
على أي حال، هذا هو السؤال الجذري الذي ألقى كريس هارمان، وهو من أبرز مفكري حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا بزعامة توني كليف، على عاتقه مهمة الإجابة عنه في كتابه هذا "العاصفة تهب"، ولهذا العنوان صلة بكراس عنوانه "الجلاسنوست: قبل العاصفة" ألفه هارمان بالاشتراك مع آندي زيبروڤسكي، ونُشر في عدد صيف 1988 ـ أي قبل الانهيار الأوروپي الشرقي (أواخر 1989) بأكثر من عام ـ من إنترناشونال سوشاليزم (المجلة النظرية الفصلية لحزب العمال الاشتراكي) والتي نشرت هذا الكتاب أيضا في عدد ربيع 1990.
ويقدم هارمان هنا استقصاءً شاملا مدققا لكل ما هو جوهري، لكل ما له مغزى، في مسار التطورات الجارية في الاتحاد السوڤييتي منذ الپيريسترويكا، وفي مجرى الأحداث التي عصفت بالأحزاب الحاكمة في أوروپا الشرقية. ورغم أن هذا الاستقصاء الشامل المعمق هو السمة المميزة لهذا الكتاب، الذي هو كتاب سياسي في المحل الأول، لا يكتسب كتاب هارمان أهميته من مجرد الوصف الموضوعي والأمين والغني بالتفاصيل التي تطمح إلى تقديم صورة ناطقة بالحياة، بل هناك دائما ما يعمق مغزى هذا الاستقصاء لما هو راهن من بحث عن جذور الأزمة الراهنة، وكشف للبنية الاجتماعية-الاقتصادية التي كانت هذه الأزمة ممكنة بل حتمية ضمن إطارها، واستكشاف لصورة المستقبل، للنتائج التي لابد أن تؤدي إليها هذه التطورات التاريخية في نهاية الأمر. والحقيقة أن إجابة هارمان حاسمة: الانتقال من شكل للرأسمالية إلى شكل آخر لنفس الرأسمالية، الانتقال من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية المتعددة الجنسيات.
لا جدال بطبيعة الحال في أن إجابة هارمان لن تكون مُرضية لجيع المعنيين، كما أنه لاشك في أنها إجابة واحدة بين إجابات متعددة، موجودة أو محتملة، حاسمة أو مترددة. ذلك أن كافة محاولات تفسير (واتخاذ موقف إزاء) التحولات الجارية في البلدان المعنية وغيرها من البلدان التي ظلت توصف بأنها بلدان اشتراكية (خاصة: الصين، ڤييتنام، كوريا الشمالية، كوبا، ألبانيا، يوغسلاڤيا ـ وقد امتدت العاصفة إلى البلدين الأخيرين بعد نشر هذا الكتاب) ليست مجرد استجابات وردود فعل تلقائية أو عارضة لهذه التحولات العاصفة، بل ترتبط ارتباطا وثيقا بالنظريات المتعددة الأقدم عهدا والتي لا يقل عمر أحدثها عن عدة عقود: نظريات الطبيعة الاجتماعية لهذه البلدان. بل يمكن القول إن كافة المحاولات والتفاسير والتحليلات والأحكام الجديدة ما هي إلا اجتهادات نظريات الطبيعة الاجتماعية، الأصلية القديمة، من خلال محاولات أنصارها ومفكريها فهم هذه التحولات الجديدة.
على أن إجابة هارمان تستمد مغزى خاصا من الظروف التي جاءت فيها، من واقع أنها جاءت "أثناء العاصفة". ظلت النظرية القائلة بأن البلدان المعنية رأسماليات دولة بيروقراطية، والتي تمثل إجابة هارمان إجابتها على السؤال الراهن، نظرية محدودة الشعبية في ظل السيادة العالمية لماركسية الحزب الشيوعي السوڤييتي. والآن.. بعد اندلاع العاصفة التي ألقت بأنصار الخط السوڤييتي في كل مكان إلى متاهات لا مخرج منها من الحيرة وفقدان الاتجاه والتشوش والإحباط والتي أدت ولا بد أن تؤدي بالكثيرين منهم إلى إعادة النظر في الماركسية السوڤييتية برمتها، أصبح من المحتمل تماما أن تجد نظرية توني كليف عن رأسمالية الدولة البيروقراطية وكذلك كل تحليل يرتكز عليها للتطورات الراهنة آذانا صاغية بصورة متزايدة. بل يمكن القول إن إفلاس جملة من النظريات "الماركسية" المتعددة والمتناقضة حول هذه القضية المحورية سيدفعنا من الآن فصاعدا إلى الإصغاء إلى هذه الإجابة وإلى هذه النظرية التي ترتكز عليها بعقول وقلوب مفتوحة.
وخلال قرابة ثلاثة أرباع القرن منذ ثورة 1917 وظهور الاتحاد السوڤييتي ثم بقية بلدان ما يسمى بالمنظومة الاشتراكية العالمية تبلورت عدة نظريات نكتفي بالإشارة إلى أبرزها حسب الترتيب الزمني:
1 ـ نظرية أن هذه البلدان اشتراكية، وهي نظرية هذه البلدان عن نفسها، وهي أيضا النظرية التي ظلت سائدة في الحركة الشيوعية العالمية، وهي النظرية الموسكوڤية المرتبطة بالنموذج السوڤييتي للاشتراكية.
2 ـ نظرية أن هذه البلدان لا هي اشتراكية ولا هي رأسمالية، بل هي في مرحلة انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية أمامها احتمالان: إلى الأمام نحو الاشتراكية عبر انتصار ثورة سياسية عمالية أو إلى الوراء نحو الرأسمالية عبر انتصار ثورة (اجتماعية) مضادة بيروقراطية-برچوازية تحطم مقاومة الپروليتاريا. وهذه نظرية التروتسكية والأممية الرابعة.
3 ـ نظرية أن هذه البلدان تمثل نظاما استغلاليا جديدا لكنه ليس رأسماليا هو نظام الجماعية البيروقراطية وهي نظرية ماكس شاختمان وچيمس بورنهام إلخ...
4 ـ نظرية أن هذه البلدان رأسمالية دولة منذ 1929 في الاتحاد السوڤييتي ومنذ البداية في غيره من البلدان المعنية. وهذه نظرية توني كليف في كتابه: رأسمالية الدولة في روسيا (1948)، وهي نظرية حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا.
5 ـ نظرية أن الاتحاد السوڤييتي بلد رأسمالي، إمپريالي اشتراكي، يهيمن على توابعه الأوروپية الشرقية، إلخ.. وهذه هي النظرية الماوية الأحدث عهدا والتي سيطرت على الصين (وألبانيا) لفترة (في الستينات والسبعينات) وكان لها صداها في الحركة الشيوعية العالمية قبل أن تتلاشى تقريبا مع تصفية الماوية في الصين في أعقاب وفاة ماو تسي تونج (1976) واتجاه الصين إلى سياسة عملية لا جدال فيها.
لا يتسع المجال هنا بطبيعة الحال لأيّ مناقشة مستفيضة لهذه النظريات. وإنما يهمنا في سياق هذه الإشارات إلى الإطار التاريخي النظري العام لكل تحليل للتطورات الراهنة أن نؤكد ما يلي: لا يمكنك في الواقع أن تبحث بجدية الطبيعة الاختماعية للتطورات الراهنة دون أن تنطلق من إحدى هذه النظريات (أو غيرها). ينبغي بالتالي أن أن ينتبه كل المعنيين إلى أن البحث الأعمق المطلوب الآن يتعلق بالطبيعة الاجتماعية الأصلية لهذه البلدان وبالنظريات العديدة التي تبلورت على مدى عقود حول هذه المسألة، والتي فرضت نفسها أخيرا ساعة حسمها: أولا في مجرى الواقع الفعلي للتطورات الجارية، ثم أثناء وبعد ذلك ـ حسب استعداد الماركسيين نظريا وسياسيا ونفسيا ـ على مستوى النظريات.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن نظريات الطبيعة الاجتماعية للبلدان المعنية هي بحكم طبيعتها نظريات "بعد التجربة"، فبعكس النظرية الماركسية الأصلية السابقة على الثورات والتجارب الاشتراكية عن الاشتراكية تتميز النظريات الجديدة بأنها تقييم وتنظير للتجربة، بأنها نظريات عن التجربة، عن واقع عيني، وليست نظريات عن مبادئ هدف ضروري تاريخيا لم يوضع بعد موضع التطبيق.
وتنطوي كل نظرية عن الطبيعة الاجتماعية لهذه البلدان، بالضرورة، على نظرية خاصة بها عن الاشتراكية، وهي ليست بالضرورة النظرية الماركسية الأصلية عن الاشتراكية. فلا يمكن لنظريات متعارضة عن الواقع السوڤييتي المحدد مثلا أن تكون منطلقة من مفهوم واحد للاشتراكية هو مفهومها الماركسي. ولا يمكن أن تقول إحداها إن الواقع المعنيّ الواحد اشتراكي وتقول أخرى إنه رأسمالي وتقول ثالثة إنه انتقالي إلخ... دون أن نستنتج من هذا التعارض الجذري أن هذه النظريات عن الطبيعة الاجتماعية تنطوي على نظريات متعارضة جذريا عن الاشتراكية بل كذلك عن الرأسمالية وعن الدولة وعن أساليب الإنتاج بوجه عام على المستوى النظري. كما أنه لا يمكن لهذه النظريات المتعارضة عن الاشتراكية أن تكون ماركسية أو صحيحة في آن معا. ولهذا فمن الواجب عندما نكون بصدد فحص نظرية من نظريات الطبيعة الاجتماعية أن نبحث نظريتها الخاصة عن الاشتراكية من حيث مدى اتفاقها مع أو اختلافها عن النظرية الماركسية عن الاشتراكية، رغم أن كل نظرية خاصة عن الاشتراكية تعلن نفسها ماركسية وتتخفى وراء أقنعة ماركسية وتغرق مبادئها الخاصة بفيض من المصطلحات والعبارات الماركسية ومن الحق الذي أريد به الباطل.
تعلن النظرية السائدة والأقدم عهدا حول الطبيعة الاجتماعية للبلدان المعنية، أيْ النظرية السوڤييتية، أنها بلدان اشتراكية.
فإلى أيّ مدى مدى تتطابق هذه النظرية عن الاشتراكية مع موضوعها، أيْ الواقع العيني للبلدان المعنية؟ وإلى أيّ مدى تتطابق هذه النظرية وموضوعها معا مع النظرية الماركسية عن الاشتراكية؟
الواقع أن التطابق بين نظرية الطبيعة الاشتراكية ومفهومها عن الاشتراكية وموضوعها التجريبي تطابق جوهري، بل هو الاندماج بعينه، فهذه النظرية ليست في واقع الأمر سوى تنظير لهذا الموضوع، وبعبارة أخرى فهي نظرية تم "تفصيلها" على "مقاس" التجربة، لكن بعبارات "ماركسية".
هذا الحكم الذي يبدو متسرعا للغاية وقاسيا للغاية يؤكده مع ذلك واقع أن المحتوى الفعلي لهذه النظرية لم يكن محتوى نقديا بل كان طوال تاريخها محتوى ذيليا: البحث من داخل حدود التجربة ودون لجوء إلى معايير من خارجها (من الماركسية بالذات) في طبيعة ومشكلات وحلول هذه التجربة. ويعرف الجميع الظروف التي أحاطت بنشأة هذه النظرية وبتطور موضوعها ذاته: ظروف الديكتاتورية الستالينية التي لم تنجح ولم ترغب الإصلاحات الفوقية السابقة للپيريسترويكا في أكثر من تصفية أساليبها الأشد وحشية وضراوة.
لكن حقيقة الطابع الزائف والملفق لهذه النظرية تتجلى بكل وضوح عند أدنى مقارنة لنظريتها عن الاشتراكية ولموضوع هذه النظرية مع النظرية الماركسية عن الاشتراكية. والواقع أن تلك النظرية لم يكن بمستطاعها أن تدّعي أن البلدان المعنية اشتراكية إلا بعد أن تسلحت بنظرية عن الاشتراكية تتعارض تعارضا جذريا مع الاشتراكية الماركسية. فالمسألة كما ترى ليست مسألة نظرية ماركسية (آن الأوان لبحث صحتها من بطلانها) وتطبيق (آن الأوان لبحث نجاحه من فشله) لنفس هذه النظرية، كما يحاول بعضهم طرح المسألة، بل هي مسألة خاصة بنظرية أفرزها واقع بعينه وقدّمها على أنها هي النظرية الماركسية عن الاشتراكية.
فبدلا من النظرية الماركسية عن الاشتراكية والتي تنظر إلى هذه الأخيرة على أنها تحرير الطبقة العاملة لنفسها بنفسها: بوصفها بقيادة حزبها الماركسي الثوري القوة الأساسية للثورة الاشتراكية وبوصف سلطتها والتي هي ديكتاتورية الپروليتاريا ديمقراطية مباشرة تسيطر من الناحية الفعلية وليس بالأقوال وحدها على الدولة والاقتصاد والتخطيط والسياسة الداخلية والخارجية الأممية، حيث لا تمثل ملكية الدولة إلا شكلا للملكية الفعلية والإدارة الفعلية لهذه الملكية من جانب الطبقة العاملة وبقية الجماهير العاملة، وحيث يكتسب التخطيط طابعه الاشتراكي من كونه تخطيطا للإنتاج والتوزيع تباشره الطبقة العاملة لمصلحتها ولمصلحة الاشتراكية والشيوعية إلخ إلخ إلخ.. ـ بدلا من هذا نجد أن ملكية الدولة هي قدس أقداس النظرية السوڤييتية فالدولة التي تقيمها اشتراكية والتخطيط القائم عليها اشتراكي وطابع قوى الإنتاج التي ترتكز عليها اشتراكي ومستويات المعيشة التي تنشأ في ظلها مكاسب اشتراكية والأيديولوچية التي تنقشها على صدرها اشتراكية. كل هذا بفضل ملكية الدولة في حد ذاتها أما كل تحليل ماركسي لملكية الدولة لفهم طابعها الاجتماعي الحقيقي فهرطقة لا معنى لها.
وهذه النظرية غريبة على أيّ احتجاج نقدي بأن البيروقراطية الستالينية غدرت بثورة أكتوبر واغتصبت السلطة وأقامت ديكتاتورية معادية للطبقة العاملة واستندت إلى شرعية ثورة أكتوبر وتأميمها وملكيتها العامة وإلى أيديولوچية اشتراكية ماركسية مزيفة وإلى تحطيم كافة مؤسسات الديمقراطية الاشتراكية من سوڤييتات ونقابات ووسائل إعلام وإلى حزب مغانم شيوعي هو في حقيقته جهاز نوعي من أجهزة الدولة لتقيم مشروعا للتصنيع وتطوير القوى المنتجة يحتل فيه التراكم مركز الصدارة على حساب حاجات الجماهير العاملة وتتضخم من خلاله امتيازات البيروقراطية وتغدو الطبقة العاملة في مجراه محرومة من أيّ أسلحة للنضال. ومثل هذا المشروع لا يمكن أن يكون في ظل الشروط التاريخية الراهنة شيئا آخر سوى مشروع رأسمالي لابدّ له من أن يمرّ بمرحلة طويلة غير تقليدية لأنه نتاج ثورة مغدورة تقيّده مع ذلك ببعض خصائص نشأته التي يستمدّ منها شرعيته ذاتها. وعندما تصل التحولات الراهنة في الاتحاد السوڤييتي وأوروپا الشرقية (ولا يعرف أحد متي يأتي الدور على الصين وڤييتنام وكوريا!) إلى نقطة الرأسمالية الصريحة السافرة (مهما يكن شكلها: رأسمالية دولة، رأسمالية خاصة، رأسمالية متعددة الجنسيات) التي لا يختلف اثنان حول طبيعتها، سيتجلى بوضوح أن ادّعاء أن الاشتراكية بعد أن توطدت وتطورت ونضجت يمكن أن تتحول إلى رأسمالية ادّعاء سخيف حقا وسيدفع ذلك دون شك إلى إعادة النظر في الأسطورة التي سيطرت على الجميع (باستثناء أقليات من الماركسيين) من أوائل القرن إلى أواخره، أسطورة أن البلدان المعنية بلدان اشتراكية، هذه الأسطورة التي صدّقتها هذه البلدان عن نفسها، وصدّقها أنصار الاشتراكية خارجها، وصدّقها حتى أعداؤها الإمپرياليون والرجعيون في كل مكان.
يبدو أن من العبث أن نتوقف هنا عند محاولات تفسير التطورات الجارية لدى أصحاب وأنصار هذه النظرية التي تعصف بها الآن هذه التطورات ذاتها في البلدان المعنية، كما تدخل الأحزاب الشيوعية التي تبنتها تاريخيا في متاهات لا فكاك منها وها هي الأحزاب الشيوعية الغربية تدخل في عمليات لا تنتهي من تغيير الأسماء والبرامج والمبادئ، من الإحباط العام والإحساس بأنها فقدت مبرر وجودها إلخ إلخ.، على أن الميل المتزايد إلى التحرر من الأوهام في صفوف مناضلي الأحزاب التي تتبنى هذه النظرية، تحت ضغط التحولات العاصفة، يدفع وسيدفع الكثيرين منهم إلى إعادة النظر في نظرية الطبيعة الاشتراكية بعيدا عن الأوهام الجديدة التي أطلقتها هذه التحولات ذاتها عن زواج الاشتراكية والحرية، عن اشتراكية ذات وجه إنساني، عن اشتراكية السوق، إلخ إلخ... هذه الأوهام التي لا تبدو بالغة الانسجام مع المجرى الفعلي للتطورات ومع تعبير البيروقراطية السوڤييتية عن أهدافها بتشريعات وبرامج وخطط وتدابير قاطعة التحدد وبلغة بالغة البلاغة ناهيك عن انهيار نظم أوروپا الشرقية التي تحكمها الآن أحزاب معادية للشيوعية والتي تراجعت الأحزاب الشيوعية فيها حتى بعد تغيير الأسماء والبرامج إلى موقع معارضة هزيلة.
سنكتفي بإشارة موجزة هنا، قبل الحديث عن تروتسكية الأممية الرابعة، إلى كل من نظرية الجماعية البيروقراطية ونظرية الإمپريالية الاشتراكية.
يعتقد كاتب هذه السطور أن المأثرة الحقيقية لنظرية الجماعية البيروقراطية هي اكتشافها المبكر لواقع أننا إزاء مجتمع استغلالي لكنني أعتقد أيضا أن مشكلاتها الجوهرية تتمثل في أنها لم تتعرّف في علاقات الإنتاج الاستغلالية على أساس قوى الإنتاج المناظرة لتلك التي تميز الرأسمالية على مجتمع رأسمالي بدلا من "اكتشاف" نظام استغلالي جديد بسبب نظرتها إلى ملكية الدولة بعكس نظرية توني كليف التي ربطتها مباشرة برأسمالية الدولة البيروقراطية مبرهنة أن ملكية الدولة ليست مبررا حقيقيا لاكتشاف أسلوب إنتاج خاص.
أما نظرية الإمپريالية الاشتراكية (التي كانت قد حلّت في أواخر الستينات محل نظرية صينية سابقة قصيرة العمر هي نظرية التحريفية وخطر استعادة الرأسمالية) فقد تم إعدادها في سياق ما سُمِّيَ بالنزاع السوڤييتي-الصيني كأداة من أدواته وليس كنظرية ماركسية أصيلة تطمح إلى التفسير والتغيير. وتتمثل مشكلتها الجوهرية في انطلاقها من خرافة إمكانية الانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ذلك أن هذه النظرية نظرت إلى عهد ستالين على أنه كان قلعة للاشتراكية رغم أخطائه وسلبياته، ولم يبدأ الانحراف عن الاشتراكية والماركسية في نظرها إلا بعد ذلك العهد من خلال الإصلاحات "التحريفية" اللاحقة.
والحقيقة أن كاتب هذه السطور يجهل أيّ تناول لأنصار نظرية الجماعية البيروقراطية للتطورات الراهنة ويرى في تفسير بعض أنصارها المحليين لهذه التطورات بأنها تجري في إطار الانتقال من الجماعية البيوقراطية إلى الرأسمالية، انطلاقا من أن الجماعية البيروقراطية ذاتها لم تكن سوى أسلوب إنتاج "انتقالي" من الإقطاع إلى الرأسمالية، نفس الميل الأصلي إلى المبالغة في شكل الملكية وإلى اكتشاف أساليب إنتاج انطلاقا من ملكية الدولة. كما أن من العبث أن نبحث اليوم عن تفسير ماويّ محتمل للتطورات الراهنة بعد اختفاء الماوية من حكم الصين ومن التأثير القوي خارجها.
والآن، وسط نظرية الطبيعة الاشتراكية والنظرية التي تناقضها على طول الخط، نظرية رأسمالية الدولة البيروقراطية، تبرز نظرية الطبيعة الانتقالية للبلدان المعنية وهي نظرية تروتسكية الأممية الرابعة. وبحكم منطقها الداخلي (الطابع الانتقالي) تتضمن هذه النظرية احتمال أن تؤدي التحولات الراهنة إلى مصائر متعددة:
*  استمرار المجتمع الانتقالي لفترة أخرى (في حالتيْ نجاح أو فشل الإصلاح البيروقراطي الفوقي).
*  الانتقال من المجتمع الانتقالي إلى الاشتراكية عن طريق ثورة سياسية عمالية (تفتح التحولات الراهنة سبيلا إليها).
*  الانتقال من المجتمع الانتقالي إلى الرأسمالية عن طريق ثورة مضادة تحطم مقاومة الطبقة العاملة.
ونظرية المجتمع الانتقالي هي في الأصل نظرية تروتسكي الذي كان ينظر منذ نصف قرن إلى حسم هذا التناقض بثورة سياسية عمالية (ذات نتائج اجتماعية عميقة) أو بثورة مضادة برچوازية تحطم مقاومة الطبقة العاملة على أنه مسألة سنوات قليلة أو حتى أشهر قليلة فقط. وإذا كانت تلك النبوءة لم تتحقق، بل حتى إذا كانت نظرية المجتمع الانتقالي قد فات أوانها في ذلك الحين، فإن الروح الثورية لموقف تروتسكي كانت تتمثل في هذا النداء: ثورة أكتوبر تجري الآن تصفيتها على أيدي البيروقراطية الحاكمة باسم الطبقة العاملة ولكن ضدها فإما ثورة عمالية توقف هذا الانحدار وتستأنف السير في اتجاه الاشتراكية وإما الرأسمالية عن طريق الثورة المضادة التي أضحت مستعدة تماما للانقضاض، وبعبارة أخرى: انقذوا ثورة أكتوبر من التصفية النهائية الوشيكة وإلا فعليها السلام.
وإذا كانت مأثرة تروتسكي الكبرى من الناحية النظرية وفيما يتعلق بالمسألة المطروحة هنا هي أنه وضع النظام السوڤييتي بين قوسين، وطرح طبيعته الاجتماعية-الاقتصادية للنقاش، وكشف طبيعة البيروقراطية المعادية للطبقة العاملة وللاشتراكية، وحذر من أن ذلك النظام كان يتجه بخطى حثيثة نحو الرأسمالية، ودعا إلى الثورة ضدّه دون إبطاء، فقد تمثل الخطأ الكبير في موقفه في نظرية الطبيعة الانتقالية ذاتها والتي قاده إليها اعتقاده أن هناك تناقضا جوهريا بين ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والتخطيط المركزي من ناحية وديكتاتورية البيروقراطية وامتيازاتها ومخططاتها وأهدافها الرأسمالية الأبعد مدى من ناحية أخرى، حيث تمثل ملكية الدولة هذه نقيضا مباشرا للرأسمالية. وكان هذا الخطأ الكبير هو الأب الشرعي من الناحية النظرية لتطور الفكر التروتسكي في اتجاه مناقض لروح ومحتوى موقف تروتسكي فيما يتعلق بمسألة الطبيعة الاجتماعية-الاقتصادية للنموذج السوڤييتي.
ولا جدال في نظر كاتب هذه السطور في أن نظرية المجتمع الانتقالي تنطوي على مغالطة كبرى: فالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية يفترض النمو المطرد للجديد الاشتراكي رغم بقاء عناصر من القديم الرأسمالي لفترة تطول أو تقصر، بينما يعاني هذا "الانتقال" من النمو المطرد إلى حدّ الأزمة للقديم الرأسمالي على حساب بدايات الجديد الاشتراكي التي تحققت قبل انفراد ستالين بالسلطة. ولولا التقييم الخاطئ لملكية الدولة والتخطيط المركزي لكانت هذه المغالطة التاريخية الكبرى مستحيلة تماما.
والحقيقة أن "التروتسكية" أو "تروتسكية" الأممية الرابعة وإرنست ماندل أو "الماندلية" (وهذه الأخيرة هي التسمية الملائمة في رأي كاتب هذه السطور فيما يتعلق بالمسألة المطروحة هنا على وجه الحصر) احتفظت بالمعادلة الشكلية لنظرية الطبيعة الانتقالية عند تروتسكي: مجتمع انتقالي لا هو رأسمالي ولا هو اشتراكي يجمع عناصر من الماضي الرأسمالي مع عناصر من المستقبل الاشتراكي، أمامه احتمال الاشتراكية عبْر الثورة السياسية واحتمال الرأسمالية عبْر الثورة المضادة التي تحطم مقاومة الطبقة العاملة. وما طبقه تروتسكي على الاتحاد السوڤييتي جرى "تثبيته" عليه لكن بطريقة ملتوية ثم جرى مدّه بنفس الطريقة الملتوية إلى كافة البلدان التي سارت في طريق النموذج السوڤييتي (بعد ثورات أو تدخلات سوڤييتية). ولا يملّ ماندل تكرار هذه المعادلة التي كان حسْمها مسألة سنوات قليلة أو حتي أشهر قليلة فقط منذ أكثر من نصف قرن في نظر تروتسكي. بل تطور طرفا هذه المعادلة عند ماندل على نحو يتراجع فيه تدريجيا احتمال استعادة الرأسمالية إلى أن استبعدها نهائيا ووصفها بأنها فكرة مضحكة حتى بعد الپيروسترويكا بسنوات. ومن الجلي أن تروتسكية ماندل فيما يتعلق بمسألة طبيعة ومصائر النموذج السوڤييتي، تتعارض تعارضا جذريا مع تروتسكية تروتسكي رغم أنها تغذت نظريا وكنقطة انطلاق على نقاط الضعف في تحليل تروتسكي لهذا النموذج.
سبق أن أشرنا إلى أن نظرية الطبيعة الانتقالية تتضمن احتمال أن تؤدي التطورات الراهنة إلى مصائر متعددة: استمرار المجتمع الانتقالي لفترة أخرى، الاشتراكية، الرأسمالية. وقبل أن نرى كيف يطرح ماندل الاحتماليْن الأوليْن مستبعدا الرأسمالية استبعادا قطعيا قاطعا ينبغي أن نشير إلى أن نظرية الطبيعة الانتقالية لا تستبعدها بل هي الفكرة الأساسية في تروتسكية تروتسكي بهذا الخصوص، كما يتبنى اتجاه تروتسكيّ راهن (ديڤيد نورث) فكرة أن التحولات الراهنة تؤدي وستؤدي إلى الرأسمالية.
وفي القسم الأخير من مقدمته لكتابه: إلى أين يمضي الاتحاد السوڤييتي في ظل جورباتشوڤ؟ (15 مارس 1989 صفحات 20 ـ 23 في الطبعة الفرنسية)، يستبعد إرنست ماندل منذ البداية "احتمال حدوث استعادة للرأسمالية في الاتحاد السوڤييتي، سواء أكانت ‘عفوية‘ أو من خلال مخطط خفيّ لدى جورباتشوڤ، أو بالإرادة الشعبية"، فالاستعادة "العفوية" للرأسمالية تعني "التقليل على نحو غير مسموح به من شأن الدور المستقل للعامل السياسي، للدولة والقوى الاجتماعية، في مجرى الثورات المضادة. وكما أن الرأسمالية لا يمكن القضاء عليها تدريجيا فإنه لا يمكن استعادتها تدريجيا"، أما تصوّر مخطط لدى جورباتشوڤ أو الجناح "الليبرالي" للبيروقراطية لاستعادة الرأسمالية فهو "يعني أن نسيئ تماما فهم طبيعة وأسس ومدى امتيازاتهم وسلطتهم" بل يدّعي ماندل أن قبول استعادة الرأسمالية يساوي في نظر هذه الشريحة قبول الانتحار الهاراكيري الذي يمثله "قبول سلطة حقيقية للسوڤييتات، أيْ قبول إطاحة الپروليتاريا بها"، وأخيرا فإن الشغيلة "ثلاثة أرباع الشعب السوڤييتي" ليسوا مستعدين "لإعادة المصانع الكبرى، التي أقاموها بكثير من التضحيات، إلى مُلاك خاصين" فهذا لا يتفق مع "مصالحهم المادية الأكثر أولية". ثم يناقش إرنست ماندل أربعة احتمالات "أكثر واقعية لتجربة جورباتشوڤ":
1:  نجاحها في المقرطة ورفع مستوى حياة الجماهير في حدودها الإصلاحية لكن هذا السيناريو هو الأقلّ احتمالا أمام مقاومة الفئات البيروقراطية الأكثر محافظة وجمودا وأمام "التناقضات الاجتماعية والسياسية التي تشكل عقبة أمام أيْ حل ‘إصلاحي‘ لهذه التناقضات".
2:  تجاوزها من خلال التقاء تجذير قسم من الكادر القيادي للحزب الشيوعي السوڤييتي مع تعبئة جماهيرية معادية للبيروقراطية أوسع كثيرا من تلك الجارية حاليا وبالتالي "ربيع موسكو" على غرار ربيع پراغ. وهذا السيناريو بعيد الاحتمال أيضا "لكنْ أقلّ من الأول" لأنه "في هذه الحالة ستعتبر قوى الجهاز جورباتشوڤ أهون الضرريْن بالنسبة إلى خطر ثورة من تحت".
3:  إخفاقها وهو المآل "الأكثر مدعاة للتشاؤم": قيام القسم المحافظ من البيروقراطية العليا بوقف المقرطة وإلغاء الجلاسنوست على الفور في حالة عدم اتساع التعبئة الجماهيرية وتدهور شروط حياة وعمل الطبقة العاملة والإخفاق الاقتصادي وسيكون ذلك بالتأكيد "بمثابة كارثة للاشتراكية، في الاتحاد السوڤييتي وكذلك على المستوى العالمي" لكن الأمور لن تعود إلى وضعها السابق بعد كلّ هذه الحريات التي انتزعت والتي تجعل قمعا باتساع قمع الثلاثينات أمرا لا يمكن تصوّره.
4:  انفلاتها إلى ثورة سياسية: يتأخر تحسين شروط حياة وعمل الطبقة العاملة، ويزداد سخطها ويتحول إلى حركة جماهيرية مستقلة متزايدة الاتساع والتنظيم الذاتي متزايد التمركز من خلال استغلال الجلاسنوست:
وتعلن الجماهير ترشيح نفسها للممارسة المباشرة للسلطة. ويمتلئ شعار "كل السلطة للسوڤييتات!" بكل محتواه الكلاسيكي، في سياق اجتماعي-اقتصادي أكثر مواتاة للغاية من نظيره في 1917، أو 1923، أو 1927. وتنبثق من الپروليتاريا ومن الإنتليچنسيا الاشتراكية الراديكالية قيادة سياسية جديدة، شيوعية بالمعنى الأصيل والحقيقي للكلمة، لتساعد الجماهير في تحقيق أهدافها الأساسية. وتنتصر الثورة السياسية بالمعنى الماركسي لهذه العبارة.
والسيناريو الثالث (تدعيم الديكتاتورية) والسيناريو الرابع (الانفجار الثوري الجماهيري والثورة السياسية) لا يستبعدان بعضهما البعض على المدى الطويل بل قد يؤدي الثالث إلى الرابع، وهما الاحتمالان الأكثر رجحانا "وإنْ من خلال اجتماعهما"، وهما "ينطلقان من تقييم أكثر واقعية لعمق التناقضات الاجتماعية التي تمزّق الاتحاد السوڤييتي".
فالاحتمالان الوحيدان عند إرنست ماندل هما باختصار:
*  استمرار نفس النظام "الانتقالي" من خلال السيناريو الأول (نجاح التجربة) أو الثاني (تجاوز التجربة) أو الثالث (إخفاق التجربة).
*  الثورة السياسية والاشتراكية (السيناريو الرابع).
جاءت تقديرات إرنست ماندل في ربيع 1989 لكن خريف 1989 جاء بانهيار نظم أوروپا الشرقية وباتجاه الاتحاد السوڤييتي بمزيد من التصميم نحو الملكية الخاصة والسوق وتفاقم المسألة القومية، وبدت بوادر استجابة ماندل لهذه التطورات العاصفة في بداية 1990 (في حديثه في مجلة إمپريكور) حيث سلّم بأن پولندا والمجر قد تستعيدان الرأسمالية لكنه قال أيضا إن المعركة لم تحسم بعد وأن حركة پروليتارية جماهيرية لم يشهد التاريخ لها مثيلا توشك على الاندلاع. وهذه النبوءة الأخيرة لم تؤكدها التطورات الأوروپية الشرقية والسوڤييتية حتى الآن، وإنما هي عقائدية تروتسكية حول ضرورة "مقاومة الطبقة العاملة" التي سيكون على ثورة مضادة بورچوازية أن تحطمها مع أن هذه "المقاومة" تم تحطيمها منذ عهد بعيد من خلال آليات النظام الستاليني والتي استمرت من الناحية الجوهرية بعد ستالين بدليل الحالة السياسية الراهنة للطبقة العاملة في الاتحاد السوڤييتي وأوروپا الشرقية وبقية البلدان المعنية.
ومهما يكن من شيء فإن إفلاس ماندل والماندلية فيما يتعلق بهذه المسألة المحورية من المسائل النظرية والعملية للتروتسكية والذي يشمل في آن واحد نظرية الطبيعة الاجتماعية ونظرية إعادة البناء يفتح الباب واسعا (مع التقدير الكامل للإنجازات الضخمة لماندل والأممية الرابعة في بقية المسائل النظرية والعملية للماركسية الراهنة) أمام نظرية أخرى تنطلق من تبني نقاط قوة نظرية تروتسكي والعمل على التغلب على نقاط ضعفها في آن معا، وهي النظرية الأخيرة التي ننتقل إليها الآن.
هذه النظرية التي تحدد الطبيعة الاجتماعية للبلدان المعنية بأنها رأسمالية دولة وتنظر إلى إعادة البناء على أنها انتقال من شكل للرأسمالية إلى شكل آخر لنفس الرأسمالية الواحدة هي نظرية توني كليف في كتابه: رأسمالية الدولة في روسيا (1948) وهي النظرية التي "طوّرها إلى مدى أبعد ودافع عنها، بين آخرين، كريس هارمان، نايچل هاريس، دنكان هالاس، پيتر بينس" كما يقول چون مولينو في كتابه: نظرية الثورة عند ليون تروتسكي (1981، بالإنجليزية، الإشارة رقم 90، الفصل الرابع) وهي، كما سبق القول، نظرية حزب العمال الاشتراكي البريطاني.
ترى هذه النظرية أن النظام السوڤييتي الناشئ عن ثورة أكتوبر 1917 تحوَّل إلى رأسمالية دولة عبر مسار تبرز فيه حقائق أساسية: تخلّف قوى الإنتاج، دمار الحرب الأهلية التي دمرت أيضا الطبقة الثورية ذاتها، صعود البيروقراطية الستالينية كطبقة رأسمالية حاكمة: تمثل سنة 1929 تاريخا حاسما في هذا المسار. وفي مقاله المعنون: من تروتسكي إلى رأسمالية الدولة (إنترناشونال سوشاليزم، عدد صيف 1990)، يشير كريس هارمان إلى تغيرات كبرى تمت دفعة واحدة في شتاء 28-1929، موجزا أفكار توني كليف في كتابه سالف الذكر:
في شتاء 28-1929 قامت البيروقراطية، التي كانت تتذبذب من قبل بين الطبقة العاملة والفلاحين، بالهجوم الضاري عليهما معا. تمّ تحطيم العناصر الأخيرة من الرقابة العمالية في المصانع؛ وتمّ القضاء تماما على الاستقلال النقابي؛ وهبطت الأجور الحقيقية بنسبة 30 أو 40 في المائة؛ ومُنح البوليس السياسي حرية التصرف لمحو بقايا النقاش داخل الحزب، وأضحى النضال ضد "المساواتية" سياسة دولة في حين أخذت التفاوتات بين البيروقراطية والعمال تزداد بصورة كبيرة؛ وتمّ طرد الفلاحين من الأرض من خلال ما يسمى "بالتجميع"؛ وتضاعف عدد المساجين في معسكرات العمل 20 مرة في غضون سنتين (ليتضاعف من جديد عشر مرات في العقد التالي)؛ واستخدم الترويس لتحطيم استقلال الجمهوريات السوڤييتية غير الروسية.
ويقول چون مولينو في كتابه سالف الذكر (ص 137) عن ذلك التحول:
وفي رأسمالية الدولة في روسيا أثبت توني كليف بالتحليل التفصيلي، أنه ابتداءً بالخطة الخمسية الأولى، تمّ إخضاع الاقتصاد السوڤييتي بكل قسوة للتراكم وإنتاج وسائل الإنتاج، كنقيض لاستهلاك العمال. وذلك في تناقض صارخ مع فترة 21-1928 حيث كان هناك، رغم التشوّه البيروقراطي، نموّ متوازن إلى حدّ ما للإنتاج، والتراكم، والاستهلاك.
أيْ أن استعادة الرأسمالية في الاتحاد السوڤييتي تاريخ قديم تحقق منذ أكثر من ستين سنة فلا مجال للحديث (منذ ذلك العهد القديم) عن مجتمع اشتراكي أو انتقالي كما تفعل النظرية السوڤييتية والنظرية التروتسكية على التوالي انطلاقا من ملكية الدولة والتخطيط المركزي الشامل اللذيْن ينظر إليهما كليف على أنهما الأداتان الضروريتان لرأسمالية الدولة البيروقراطية، واللذيْن يرتكز كليف على دراسة مستفيضة معمقة للاقتصاد السوڤييتي ولعلاقات الإنتاج والتوزيع في المجتمع السوڤييتي للكشف عن طابعهما الطبقي الحقيقي الذي تخفيه النظريات التي لا تتصور الرأسمالية إلا في شكل الرأسمالية الخاصة والملكية الخاصة والفردية.
ويودّ كاتب هذه السطور أن يشير هنا إلى تبنيه من الناحية الجوهرية لنظرية رأسمالية الدولة البيروقراطية في السنوات الأخيرة. لكنني أودّ أيضا أن أؤكد أن هذا التبني لا يمتدّ إلى كافة وجهات نظر هذا المذهب الماركسي: الفكري السياسي التنظيمي، ولا يخلو من تحفظات هامة على بعض الأفكار المرتبطة بنظرية رأسمالية الدولة البيروقراطية. وسأشير فقط إلى نقطة واحدة: يبدو أن هجوم هذه النظرية على المبالغة في دور ملكية الدولة في نظريات أخرى قادها إلى المبالغة في تصور أن رأسمالية الدولة الشاملة يمكن أن تكون نظاما "دائما" في بلد واحد أو في مجموعة من البلدان، ولهذا لم يكن باستطاعتها أن تتنبأ بانهيار محتمل لهذا الشكل من أشكال الرأسمالية ولهذا كان التهوين الدائم من إمكانية استعادة شكل الرأسمالية الخاصة رغم أن هذا الشكل لا يمكنه أن يحول في الظروف المعاصرة دون أن تحتل رأسمالية الدولة دورا بالغ الأهمية في الاقتصاد كما هو الحال في قلاع الرأسمالية الغربية ذاتها. وهنا يمكن القول إن هذه النظرية سوف تجد، تحت ضغط التطورات الراهنة، ما تتعلمه من إلحاح تروتسكي على الرأسمالية الخاصة وعلى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لكن ضمن إطار نظري مختلف يعتقد أن رأسمالية الدولة الشاملة يمكن أن تكون، وكانت بالفعل، مرحلة خاصة وشكلا خاصا للرأسمالية، كما يعتقد أنها ستلعب دورا كبيرا في اقتصاد البلدان المعنية في المستقبل.
وإذا كان كريس هارمان يصف محصلة التحولات الراهنة بأنها ستكون انتقالا من شكل رأسمالية الدولة البيروقراطية إلى شكل الرأسمالية المتعددة الجنسيات، مقدِّرا للدور الذي تلعبه الإمپريالية العالمية في هذه التحولات، ومتفاديا أيّ حديث عن رأسمالية خاصة بعقائدية نموذجية لدى هذا الاتجاه في هذه النقطة بالذات، فإن أيّ تحليل ماركسي مدقق لن يعثر على سور صيني بين الرأسمالية المتعددة الجنسيات والرأسمالية الخاصة والفردية ولا بينهما وبين رأسمالية الدولة. وكريس هارمان لا يقيم مثل هذا السور بصورة مباشرة على أيّ حال وإنْ كان تفاديه العقائدي لكل حديث عن الرأسمالية الخاصة قد يوحي به عن حق أو عن غير حق.
 
20 يوليو 1991         
 
 
 
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
3
 
القرن الحادي والعشرون: يوتوپيا أم ديستوپيا؟[4]
 
 
رغم وجود تقاويم، لدى ثقافات عديدة، "تعيش البشرية بأكملها في التقويم المسيحي"، كما يقول سيرچ لاتوش. وهذا وجه من وجوه توحيد العالم بأكمله تحت سيطرة الغرب المسيحي. ولهذا يجد العالم كله، بكل ثقافاته، وبكل تقاويمه، معنى ما لكل هذا الاهتمام بالانتقال من قرن ميلادي إلى قرن ميلادي آخر، أو من ألفية ميلادية إلى ألفية ميلادية أخرى.
غير أننا لسنا بحال من الأحوال إزاء دورة قرنية ميلادية ذات محتوى اجتماعي-اقتصادي. وحتى أولئك الذين يتحدثون عن دورات اقتصادية قرنية (فرنان بروديل) توزع عطاياها ووعودها في زمن، ثم أزماتها وكوابيسها في زمن لاحق، بغض النظر عن سياسات البشر وجهودهم، حتى أصحاب نظريات الدورات الاقتصادية القرنية هؤلاء لا تتطايق قرونهم الاقتصادية مع القرون الميلادية إلا على سبيل المصادفة.
وهكذا فإن الانتقال من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين لا يزيد عن كونه مناسبة للتأمل وإنعام التفكير في المستقبل المنظور.
وعلى كل حال فإن أقصى مسافة زمنية يمكن أن تمتد إليها أبصارنا أو بصائرنا، مهما شحذناها، لن تتجاوز العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين. وهذه على كل حال هي العقود التي تطرح على البشرية أخطر مسألة طرحت عليها طوال تاريخها الحافل.
وإذا كانت نهاية القرن العشرين، وهي النتيجة التراكمية لتطورات هذا القرن بأكمله، هي البداية الوحيدة الممكنة للقرن الحادي والعشرين، و"المدخل الوحيد" المتاح إليه، فلا جدال في أن العقود الأولى من القرن العتيد هي التي سوف تشهد تحقق الإمكانات الكامنة في تلك البداية الوحيدة، ومعرفة إلى أين على وجه التحديد يؤدي ذلك "المدخل" الوحيد.
وبطبيعة الحال فقد كانت أقرب مناسبة مماثلة سابقة هي "دخول" القرن العشرين. وقد دخله البشر كعادتهم مستبشرين تملؤهم وعود سخية وآمال كبار تميز بها ذلك العهد الجميل La Belle Époque (كما ظلوا يسمون مطلع القرن العشرين)، ليكتشفوا أنهم دخلوا قرنا لا يبدأ بأقل من حرب عالمية أعقبتها بعد عقدين فقط تقريبا من الزمان حرب عالمية ثانية، أعقبتها بدورها بعد سنوات قلائل حرب عالمية باردة استمرت حتى أواخر القرن.
وظلت الحروب والأزمات والمعاناة ذات الأبعاد التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ تشكل طابع القرن العشرين، الذي ينبغي إنصافه بالإقرار بأنه كان أيضا القرن الذي شهد أعظم تقدم حققته البشرية في تاريخها كله في مجال العلوم وتقنيات الإنتاج المادي، رغم أن كل هذا التقدم ذاته كان هو "الخير" الذي أعطى لكل تلك الشرور أبعادها الجهنمية، وكان سر هذه المفارقة هو الإطار الاجتماعي التاريخي الذي تحقق فيه ذلك التقدم. ذلك أن القرن العشرين كان أيضا القرن الذي استطاعت فيه الحضارة الرأسمالية أن تحطم–في نهاية المطاف–كافة محاولات التحرر (الاجتماعي أو الوطني) منها.
وأعود الآن إلى عنوان هذا الحديث..
فهل هناك دلائل تشير إلى أن القرن القادم الوشيك يحمل معه بشارة تحقيق يوتوپيا جديدة على هذه الأرض؟ أم تطغي الدلائل التي تشير إلى مضمون هذه الكلمة الجديدة المفزعة التي ينذر نحتها الحديث، وبداية انتشارها في القرن الحادي والعشرين، بالويل والثبور وعظائم الأمور، وأعني كلمة ’ديستوپيا‘ dystopia (وهي أيضا الأنتي يوتوپيا anti-utopia بنفس المعنى) أيْ عكس ونقيض اليوتوپيا؟
وكما هو الحال دائما: هناك المتفائلون وهناك المتشائمون، هناك أهل اليوتوپيا وأهل الديستوپيا. والنصيحة الذهبية في مثل هذه الحالة هي بطبيعة الحال أن نقف ونفكر: بدلا من الانقياد وراء أوهام جديدة تتضح حقيقتها بعد فوات الأوان، وبدلا من أن يشلنا كابوس الديستوپيا إلى حد اليأس من أي مسعى قد يحقق لنا حتى امتياز أن نموت واقفين.
على أنه لا يمكن لأحد أن يفلت من الإحساس بكابوس طوفان وشيك. وحتى أهل اليوتوپيا يريدون أو يتوهمون إنقاذ العالم كله أو عالمهم الخاص من جحيم الديستوپيا القادمة – بل القائمة منذ الآن. أما أهل الديستوپيا فإنهم يهدفون من وراء تصوير الكابوس القادم أو القائم إلى حفز كل مقاومة ممكنة ضد تلك الديستوپيا، التي نكون أو لا نكون وفقا لوجود المقاومة ضدها من عدمها.
وعلى كل حال، ينبغي قبل كل شيء أن نحاول معرفة ما إذا كان هناك خطر بكل هذا الحجم يهدد مستقبل البشرية، وما إذا كانت هناك آفاق حقيقية أمام محاولات تفادي ذلك الخطر.
وبطبيعة الحال فإنه لا أحد يجهل قائمة أو قوائم الأخطار. وهناك الأخطار الإيكولوچية التي تهدد الحياة على الأرض أو على مناطق واسعة منها: البيت الزجاجي، الأوزون، التلوث، التصحر، الجفاف، نقص المياه،..إلخ إلخ. وهناك أخطار اجتماعية واقتصادية وسياسية وحربية لا نهاية لها، ويكفي أن نشير إلى المصير الرهيب الذي يحدق بالعالم الثالث الذي بدأ يغرق أمام أعيننا – خاصة في أضعف بلدان أضعف قاراته (مناطق واسعة من أفريقيا) – في التهميش إلى حد "الإلغاء" موبوءا بالديون الثقيلة، وتوقف النمو والتنمية، والتدهور إلى حد التراجع التاريخي، والانفجار السكاني والمجاعات والحروب الأهلية والحدودية والإقليمية والضوابط المالتوسية.
ولا شك في أن استشراف آفاق السيطرة على كل هذه الأزمات وتفادي كل هذه الأخطار، يرتبط بصلة وثيقة بالحالة التي يوشك العالم أن يدخل بها القرن الحادي والعشرين.
وبدلا من استعراض قوائم المشكلات من منظور ذلك المنطق العقيم في تشخيص وعلاج كافة المشكلات والمتمثل في التمتمة بتعويذة تلك الوصفة السحرية: تعظيم الإيجابيات وتحييد السلبيات فيما يتعلق بكل مشكلة، ينبغي أن يدفعنا إدراك حجم الأزمة إلى أن تكون إشارتنا إلى بعض تلك المشكلات الكبرى بهدف استكشاف كامل حجمها المستقبلي عن طريق منحها كامل ثقلها التاريخي.
وهناك على وجه الخصوص قضية اللحاق بالغرب. وبالنسبة لمناطق ما يسمى الآن بالعالم الثالث، ظلت قضية اللحاق بالغرب قضية القضايا طوال القرن العشرين. وفي الوقت الحالي تنعقد آمال واسعة على تحقيق هذا اللحاق في القرن الوشيك. ولهذا ينبغي أن نفهم تاريخ هذه القضية جيدا ليكون بوسعنا أن نتوقع مستقبلها بصورة صحيحة. فلماذا يرتدي اللحاق كل هذه الأهمية؟ ولماذا يؤدي الفشل في تحقيقه إلى انقطاع كل أمل في مجرد بقاء العالم الثالث، أيْ إلى هلاكه وفنائه وإبادته؟ ولماذا لا ينبغي الالتفات إلى أيّ أمل مستقبلي في العالم الثالث لا يكون أساسه تحقيق ذلك اللحاق؟ ويتعلق كل هذا بطبيعة الحال بالمستقبل المنظور المحسوب بالعقود القادمة، فليس هناك ما يحول دون "لحاق" البشرية كلها بحضارة أخرى أعلى من الحضارة الرأسمالية يأتي بها مستقبل آخر، إذا أثبتت البشرية هنا والآن أن لها من الحكمة والإرادة والعزم ما يساعدها على البقاء حتى ذلك المستقبل، وهذا ما يفترض مسبقا خروجها سالمة من الأزمة الراهنة بدلا من الغرق تماما في محيط البربرية الزاحفة.
والواقع أن مجرد انقسام العالم حاليا إلى مركز ومحيط، إلى شمال وجنوب، إلى رأسمالية متطورة وبلدان متخلفة تابعة في العالم الثالث، إنما يعني أن اللحاق لم يتحقق. ذلك أن اللحاق، أيْ لحاق المحيط بالمركز، إنما يعني إلغاء انقسام العالم إلى مركز ومحيط، وقيام عالم رأسمالي واحد ينقسم على الخطوط الطبقية، وليس أيضا على الخطوط الجغرافية والقومية والإثنية والثقافية.
وبالأمس القريب كان انقسام العالم إلى عوالم عديدة: الغرب الرأسمالي، والشرق الاشتراكي، والعالم الثالث، مدعاة في حد ذاته للتفاؤل. لقد اتضح الآن أن ذلك التفاؤل إنما كان تفاؤلا سطحيا ساذجا يقوم على الأوهام. وكان قد بدا ذلك الانقسام في حدّ ذاته تحديا للحضارة الرأسمالية الغربية، ثم اتضح أن الشرق الاشتراكي لم يكن في الحقيقة سوى فرع جديد "بيروقراطي" لنفس تلك الحضارة، كما اتضح أن الوضع التاريخي للعالم الثالث لم يكن وضع التنمية المستقلة المزعومة وإنما وضع العجز عن اللحاق.
وبهذا يتضح أن هذا الانقسام ليس أبدا مدعاة للتفاؤل، بل ينطوي في حد ذاته على الخطر.
وتتمثل المسألة الجوهرية، في الماضي كما في المستقبل، في قضية انتشار الحضارة الرأسمالية بعد أن نشأت في الغرب وحققت فيه إنجازاتها التاريخية المادية والمعرفية. وقد انتشرت هذه الإنجازات التاريخية في مناطق أخرى من العالم خارج أوروپا الغربية من خلال أكثر من طريق. فهناك الطريق المباشر لاستيطان الأوروپيين الغربيين والإنجليز بالذات لأمريكا الشمالية ولمناطق أخرى من العالم. وهناك طريق لحاق البلدان الأوروپية التي كانت قد تخلفت عن التطور الرأسمالي في القرن التاسع عشر، وكان لها من تاريخها كشريكة في التطور التاريخي الأوروبي العام في العصر الحديث ومن مواردها واستقلالها ما سمح لها باللحاق (ألمانيا، إيطاليا، روسيا). وهناك الياپان التي لا يتسع المجال لبحث عبقرية خصوصياتها.
ثم جاءت مقتضيات الحرب الباردة لتسمح لبعض البلدان الآسيوية خلال النصف الثاني من القرن العشرين بأن تستفيد، في سيرها الحثيث في طريق اللحاق بالغرب، من دعم خارجي قوي بالإضافة إلى جهد داخلي خارق وتكلفة اجتماعية وسياسية رهيبة ومجموعة فريدة من الشروط المواتية: النمور الآسيوية الأصلية والجديدة بما في ذلك الصين الشعبية. وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن الحديث عن أن النمور الآسيوية الأصلية والجديدة قد انضمت بصورة أكيدة ونهائية إلى نادي الحضارة الرأسمالية، منفصلة تماما عن العالم الثالث ومصيره، ذلك أنها تواجه جميعا تحديات سياسية واجتماعية هائلة يمكن أن تقرر مصير كل "نمر" منها في نهاية المطاف.
أما بقية المناطق التي يطلق عليها اسم العالم الثالث منذ منتصف القرن العشرين، فقد كانت تجربتها مختلفة تماما. وإذا تجاوزنا الاحتكاكات السابقة مع الغرب (الحملة الفرنسية على مصر على سبيل المثال) وكذلك محاولات محاولات اللحاق السابقة به طوال القرن التاسع عشر (عهد محمد علي مثلا)، لننتقل إلى القرن العشرين العشرين، فإننا سنجد أن اللحاق بالغرب هو القضية الكبرى المطروحة، في الواقع كما في الفكر، في المستعمرات وأشباه المستعمرات. وقد تحققت في البلدان المعنية مستويات من التطور الاقتصادي والتصنيع والتحديث في إطار التبعية الاستعمارية. وبحلول منتصف القرن، ومع تبلور واقع ومفهوم العالم الثالث من خلال الاستقلال وتجارب التنمية، ظل اللحاق مطروحا بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وإن كان قد شوش عليه في أوقات وأماكن متباينة من القرن العشرين اتجاه اللحاق بالشرق الاشتراكي، ولم يكن اللحاق العالم الثالثي بذلك الشرق الاشتراكي المزعوم سوى المسخ الأشد مسخا للمسخ الأصلي، أيْ للنموذج السوڤييتي.
ويتراءى للنظرة الساذجة أن انتشار الحضارة الغربية، انتشار إنجازاتها التاريخية المادية والتقنية والمعرفية، إنما هو مُعْطىً بسيط ومباشر ومتاح وملك لجميع من يريدون اقتناءه ويملكون المال اللازم لشرائه.
غير أن كافة الأمم التي لحقت بالغرب، أيْ صارت من الأمم الرأسمالية المتطورة، حققت ذلك رغم الغرب، ومن خلال تناقضاته وليس بفضل أريحيته. ذلك أن هناك سمة جوهرية من سمات الحضارة الرأسمالية تتمثل في أن إنجازاتها التاريخية غدت منذ تحقيقها احتكارا للغرب الذي لم ولن يرغب في توزيعها عطايا على كافة البشر. إنها إنجازات تاريخية تملكها وتسيطر عليها الرأسمالية العالمية فلم تعد ملكا للبشرية بحال من الأحوال.
فلماذا يقف الغرب ضد انتشار حضارته الرأسمالية، وأسلوب إنتاجه، وإنجازاته التاريخية؟
لقد عمل الغرب الرأسمالي دائما على إعادة خلق العالم على صورته. وهذا لا يعني السماح للعالم كله بأن يلحق به، بل يعني على العكس من ذلك تحويل العالم كله إلى ملحق متخلف عنه ومكمل له تحت سيطرته الاقتصادية والسياسية والثقافية. والسبب وراء هذا بسيط جدا: الأقوى يريد أن يظل الأقوى لا أن يوزع أسباب قوته على منافسيه المحتملين. وهذا ينطبق على البلد الرأسمالي الواحد انطباقه على العالم بأسره. فالطبقة التي تملك أحدث التكنولوچيا وأحدث وسائل الإنتاج لا تدع هذه الأشياء تنتقل إلى أيدي طبقات أخرى داخل البلاد أو إلى بلدان أخرى. ففي الحالتين ستخسر تلك الطبقة الأريحية الأساس الحقيقي لأرباحها الطائلة وامتيازاتها الهائلة وسيطرتها المحلية والعالمية. وهكذا فإن ما ينسجم مع مصالح الغرب ليس الانتشار بين الآخرين وليس لحاق الآخرين به، بل هو هذا الانقسام إلى مركز ومحيط، بسبب حاجته إلى محيط يضع نفسه تحت تصرفه وتوجيهه لمصلحته هو بما يتفق مع هذه المرحلة أو تلك من مراحل تطور الرأسمالية والإمپريالية.
غير أن هذا لا يعني أن يظل المركز حريصا دائما على الاحتفاظ بمحيط مهما كان الثمن. إننا لسنا إزاء عقيدة جامدة بل إزاء سياسة عملية بل براجماتيكية تماما. ومن الجلي أن المحيط القائم اليوم قد وصل إلى حجم رهيب بضخامته وإلى حالة مفزعة بأزماته وإلى كابوس مخيف باحتمالات المزيد من تعملق الحجم وتفاقم الأزمات. ومثل هذا المحيط يغدو عبئا ثقيلا بل خطرا محتملا من وجهة نظر المركز. وليس أمام هذا الأخير في هذه الحالة سوى خيارين لا ثالث لهما، الخيار الأول: هو التخلص من المحيط باتباع سياسات وإستراتيچيات تساعد المحيط ذاته في القضاء على نفسه، وهذا ما يحدث الآن بالفعل رغم دموع التماسيح؛ الخيار الثاني: هو قيام المركز بتبني مشروع خيالي الضخامة يهدف إلى التحديث الشامل للعالم الثالث، ورفع المحيط إلى مستوى المركز، ووضع حد نهائي لانقسام العالم إلى مركز ومحيط. وليس هناك ما يدل على أن الشمال مولع بمثل هذا المشروع الذي لا يمكن أن يكون هدفه تحقيق الأرباح، والذي لا يمكن أن تدفع إليها سوى أسباب إنسانية خالصة لم تكن أبدا المحرك الحقيقي وراء سياسات الغرب أو الشمال، والذي لا يمكن أن يجبر الشمال على تبنيه سوى ضغوط تاريخية، بنفس الحجم الخيالي الضخامة، من جانب شعوب الشمال. وليس هناك اتجاه فعلي مباشر من هذا القبيل، قبل أن يفوت الأوان.
وهذا الانقسام لا يترك للمحيط مجالا للحاق ولا لتضييق الفجوة ولا حتى للمراوحة في نفس المكان. بل يغدو المحيط موضوعا للتهميش والتدهور والانهيار في نهاية المطاف. ولا فكاك من هذا القدَر إلا بالفكاك من قدر المحيط من خلال اللحاق الذي يحاربه الغرب أصلا. وهكذا تدور رحى حرب خفية بين من يسعون بوسائلهم الضعيفة وإرادتهم المشلولة إلى تضييق الفجوة وإلى إزالة آثار العدوان المتواصل للتهميش (وليس أبدا إلى اللحاق، بل مع التسليم الكامل كمحيط بمكانة وامتيازات المركز) وبين من يفرضون على العالم الثالث التهميش ولا مانع لديهم حتى من إلغائه.
وقانون السباق قاطع التحدد: إن مَنْ يعجز عن انتزاع اللحاق انتزاعا ينبغي أن يعتبر نفسه من الآن عاجزا عن مجرد البقاء.
والحساب الختامي مثير للذهول.
سكان الشمال (أو المركز أو البلدان المتقدمة) يمثلون 25٪ من سكان العالم ولكنهم يستهلكون 70٪ من الإنتاج العالمي للطاقة و75٪ من الإنتاج العالمي للمعادن. والبلدان التي يقطنها الـ20٪ الأغنى من سكان العالم تتصرف في 83٪ من الإنتاج العالمي وعلى الـ20٪ الأفقر أن يقنعوا بـ1.4٪ من هذا الإنتاج. وخلال ثلاثين سنة تقريبا تضاعف فرق الدخل بين الخُمْس الأغنى والخُمْس الأفقر من سكان العالم: كان فارق الدخل بنسبة واحد إلى 30 في 1960 فأصبح بنسبة واحد إلى 59 في 1989.
ويتجه العالم إلى دخول القرن الحادي والعشرين بخريطة ديموجرافية تتميز بأزمتين سكانيتين متجاورتين: ركود سكاني في الشمال وانفجار سكاني في الجنوب.
وفي الشمال يؤدي الركود السكاني إلى مشكلات اقتصادية هائلة ترتبط بالشيخوخة الديموجرافية في المدى القريب والمتوسط، كما ينطوي على مشكلات تتعلق بالبقاء في حد ذاته في المدى البعيد. وفي الجنوب يواجه الانفجار السكاني العالم الثالث بمشكلات تتعلق بالاقتصاد وبالبقاء في حد ذاته في المدى المباشر والقريب والمتوسط، إلى حدّ أن أفريقيا تواجه مباشرة تدخل الضوابط المالتوسية واحتمال التحول إلى قارة قليلة السكان نتيجة للأوبئة والمجاعات والحروب.
أيْ أننا أمام شمال مهدد بالانقراض بسبب ركود نموه السكاني، وجنوب مهدد بالانقراض أيضا بسبب انفجاره السكاني.
وإذا كان الشمال يظل يملك فيما يبدو مبادرة ممكنة لوضع حدّ ذات يوم لاتجاه الانقراض السكاني فيه، فإن الجنوب يبدو عاجزا تماما تكتسحه أزمته السكانية في ارتباط وثيق بكافة أزماته. فهل هناك أيّ أمل حقيقي في أن يتغلب الجنوب على أزمة الانفجار السكاني؟
ومن قبل كاد الانفجار السكاني يدمر أوروپا. ولم يكن بمستطاع هذه الأخيرة أن تنجو من الدمار إلا بفضل ثلاث عمليات تاريخية: 1: الهجرة إلى القارات والمناطق التي أمكن إبادة سكانها، 2: الثورة الصناعية التي غيرت تناسب البشر والموارد تغيرا جذريا، 3: الأسرة الصغيرة الحجم.
ولا شك في أن نجاح البشرية في مكان ما ذات يوم فيما مضى في حل مشكلة الانفجار السكاني، يُزْكي الأمل في نجاحها في مكان آخر ذات يوم آخر في المستقبل في حلّ نفس المشكلة بنفس الوسائل.
غير أن العالم الثالث اليوم ليس أوروپا الأمس!
فالهجرة إلى الشمال ليست بابا مفتوحا أمام أبناء الجنوب. وربما بدا أن الهجرة الشاملة هي الحل المنطقي الوحيد أمام خطر الانقراض في الشمال بسبب الركود السكاني وفي الجنوب بسبب الانفجار السكاني. وفي عالم يرفع شعار العولمة ويحاول أن يقيم على الأرض حرية مطلقة لانتقال السلع والخدمات والأموال والاستثمارات، يمكن أن تبدو "عولمة" سكان العالم، أيْ إطلاق حرية الهجرة أمام البشر حلا  منطقيا. وبغض النظر عن المشكلة التي تمثلها عملية تثاقف acculturation على هذا المستوى الكوكبي، أيْ عولمة التثاقف، فالحقيقة التي لا مناص من التسليم بها هي أن الشمال يقوم بإجراء عملية "عولمة" تحت سيطرته ولمصلحة سكانه وليس لتوزيع العطايا على البشرية جمعاء.
فهل يتجه العالم الثالث إلى إنجاز ثورة صناعية؟ لقد رأينا أن العالم الثالث ليس، بحكم التعريف، سوى العجز عن اللحاق بالثورة الصناعية، ليس سوى إعادة إنتاج التبعية والتخلف، ليس سوى الثورة السكانية بدون ثورة صناعية.
ولا حاجة بنا إلى تأكيد أن الأسرة الصغيرة الحجم ما تزال بعيدة عن واقع أغلب مناطق العالم الثالث، لأنها في الحقيقة ثمرة منطقية لثورة صناعية لم تحدث.
وحتى بافتراض تراجع مفاجئ في معدلات الخصوبة ومعدلات النمو السكاني في العالم الثالث إلى المستويات السائدة في الشمال، فإن النتائج المنطقية للانفجار السكاني إلى الآن ستظل تطارد بلدان العالم الثالث، وخاصة تلك الأكثر نموذجية في تمثيله، طوال القرن الحادي والعشرين.
فهل يبقى أمل حقيقي بعد كل هذا؟
وأمام فداحة الخطر المعلق كسيف ديموقليس على رؤوس البشر عند منعطف القرن الحادي والعشرين، تنشأ ميثولوچيا حافلة بالأساطير يبدعها ويستهلكها سكان العالم الثالث ومؤسساته ليل نهار. وبدلا من البحث الموضوعي والمسئول عن أمل حقيقي يدعو إلى عمل مباشر قبل فوات الأوان، تنبع الآمال والأوهام والأساطير من الشمال وتصبّ في الشمال. ويرتدي المنقذ، أيْ الغرب أو الشمال، أقنعة لا حصر لها. فالنظام العالمي الجديد لن يسمح بانهيار العالم الثالث الشريك الذي لا غنى عنه في التجارة والاستثمار! والولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح بسقوط هذا البلد أو ذاك! وتعاون دول حوض البحر الأبيض المتوسط سينقذ شعوب جنوب وشرق المتوسط من المصير الكارثي العام الذي يهدد العالم الثالث! وهناك أيضا طوفان النظريات والتوجيهات والتعليمات التي تتدفق من الشمال فتتحول إلى أساطير منقذة: الخصخصة، اقتصاد السوق، التكيف الهيكلي... . وهناك الإيمان بثورة التكنولوچيا التي ستقلب الأوضاع رأسا على عقب في مستقبل قريب وكأن التكنولوچيا انفصلت عن الاقتصاد والسياسة وخاصة عن احتكار نفس الشمال أو الغرب.
وهنا تبرز على السطح كلمة ’عولمة‘ globalization، ومع هذه الكلمة (وبالطبع مع واقعها) تنشأ أسطورة جديدة، حيث يبدو أن عملية ’العولمة‘ ستندفع لتقتحم كافة الحواجز ولتمحو كافة الحدود بين البلدان والقوميات والثقافات والاقتصادات المحلية والإقليمية، لتخضع كافة الأجزاء للكل العالمي الواحد الذي لا تفلح أمامه أية مقاومة أو هوية قومية أو إثنية أو ثقافية أو أية مؤسسة أو حركة سياسية.
والواقع أن العولمة لا توحد في سياقها أجزاءً متساوية في كل واحد يعمل لمصلحتها جميعا، ولا تقوم على التنمية الشاملة لكافة الأجزاء لتنسجم في الكل الواحد، وهي ليست "رسالة" جديدة للحضارة الرأسمالية تدفعها إلى تعميم إنجازاتها التاريخية العلمية والتكنولوچية والاقتصادية لتشمل البشرية – بدلا من منطقها الأصلي الذي يميل إلى احتكار تلك الإنجازات ويميل بالتالي إلى تقسيم العالم، كما أنها ليست "أداة" جديدة لتعميم الحضارة الرأسمالية في عالم صار قرية واحدة.
والحقيقة أن العولمة التي تمثل مرحلة جديدة في اندماج الاحتكارات عبر العالم وعبر القوميات والثقافات والدول، وفي إدماج مختلف الاقتصادات المحلية لكافة البلدان في الاقتصاد العالمي الواحد، إنما هي بعيدة تماما عن الانفصال عن مصالح الدول والبلدان والقوميات والثقافات المعنية، إلى الحد الذي يجعلها ذات مصلحة كوكبية شاملة تؤدي إلى انقسام البشر أعمق فأعمق على خطوط طبقية بينما توحدهم على كافة الخطوط الأخرى (الإثنية والثقافية والسياسية).
إن العولمة لم تؤدِّ، وليس من شأنها أن تؤدي، إلى العالم الرأسمالي الواحد وكأنه بلد واحد يتعامل مع كافة أجزائه على قدم المساواة، ومع كافة بشره بتعدد خلفياتهم الإثنية وثقافاتهم على قدم المساواة، أو حتى في الحدود المعهودة لعدالة الحضارة الرأسمالية داخل البلد الواحد. ولهذا فلا معنى لأن نطالب الجميع برفع الرايات البيضاء أمامها، بدلا من المقاومة، ولا معنى لأن ننتظر منها أن تضع حدّا لانقسام العالم إلى شمال وجنوب، أو مركز ومحيط، وأن تنقذ الجنوب بالتالي من مصيره "الطبيعي" للغاية في ظل سيطرة منطق الحضارة الرأسمالية.
في سياق هذا المسار من التردي والتدهور والانهيار والبربرية، تتفشى في كل مكان في العالم الثالث اليوتوپيات والاتجاهات والحركات السلفية باسم أديان ووثنيات وقبليات وقوميات وثقافات لا حصر لها، وتقوم ليس بدور المنقذ كما تتوهم بل بدور معجِّل التردي والتدهور والخراب العاجل.
ويقوم تحالف ثالوث غير مقدس تصبّ فيه أنانية الغرب التي لا حدود لها، مع تخلف وتبعية وفقر العالم الثالث ولصوصية حكامه وضيق أفقهم، مع الاتجاهات السلفية الماضوية التي لا تبشر (من أفغانستان إلى الهوتو والتوتسي) بأيّ نهوض بل يفرزها مسار التردي فتؤدي إلى تسارع التردي والانهيار.
وهذا الثالوث غير المقدس هو الذي يقود العالم الثالث إلى الديستوپيا، إلى جحيم الهلاك الجماعي على الأرض، في مكان وزمان اسمه القرن الحادي والعشرون.
وإذا كان بوسع بلدان قليلة في العالم الثالث أن تنقذ نفسها من هذا المصير الكارثي بجهد خارق ينبغي أن يبدأ قبل فوات الأوان، فإن إنقاذ العالم الثالث بأكمله لن يتحقق إلا بتضافر جهود البشرية بأكملها، وبصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، من الآن وقبل أن يفوت الأوان. وبدون إيقاظ ضمير شعوب الشمال ووعي شعوب الجنوب وإشعال خيال وإحراق روح البشر أجمعين، فلا مجال لأيّ أمل حقيقي، بل ينبغي إدراك أن الأمل يتراجع ويفوت مع كل يوم يفوت.
ونحن نعرف (ونعترف) أن الاتجاهات السائدة حاليا قي كافة الفنون أصبحت تجد في "الفن" ذاته، في الشكل وجمالياته، الغاية الوحيدة التي تعترف بها، والمبرر الوحيد لوجود الفن، بعيدا تماما عن التبشير باليوتوپيات أو مقاومة الديستوپيات.
غير أن هذا لا يعني أن الفن والفنان يمكن أن يتخذا موقف اللامبالاة إزاء خطر يهدد بقاء الإنسان على الأرض، ليس كتضخيم بلاغي بل كواقع فعلي مباشر. فهل يحق لنا أن نحلم بإسهام لا يملكه سوى الفن والفنان في إنقاذ العالم من ديسوتوپيا القرن الحادي والعشرين؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
4
 
التفاعل الثقافي: هل ما زال مجديا؟[5]
 
 
سأحاول أن أطرح، بالإيجاز المطلوب في الوقت الضيق المتاح هنا، سؤالا لا أدعي أن بوسعي الإجابة عليه أو الإحاطة بكل أبعاده. وهو سؤال يتعلق بأبعاد ومغزى وجدوى التفاعل الثقافي بين الشمال والجنوب، بين الحضارة الرأسمالية الغربية وباقي العالم، أيْ عالم الجنوب، أو عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، أو ما يسمى بالعالم الثالث.
والمقصود هو بحث مفهوم وواقع هذا التفاعل الثقافي، فلا شك في أن أقصى قدر ممكن من الإدراك الواضح لطبيعته وحقائقه وأوهامه سيكون مفيدا في إعادة نظر قد تكون ضرورية في اتجاهاته وأولوياته وحتى جدواه.
ومن الجلي أن التفاعل الثقافي مع الحضارة الرأسمالية، مع الغرب، أو مع الشمال كما يسمى الآن، صار واقعا فعليا منذ الاحتكاكات الأولى مع بداياتها الأولى ومع المراحل اللاحقة لتطورها وتبلورها واكتمالها ونضجها، حتى منذ التوسع الإسپاني والپرتغالي والهولندي، حتى منذ الاستعمار البريطاني للهند، حتى منذ الحملة الفرنسية على مصر، وبالأخص منذ التوسع الأنجلوفرنسي، في أربعة أركان الأرض، محولا شعوبها إلى سكان مستعمرات وأشباه مستعمرات.
ومع تطور ورسوخ سيطرة الحضارة الرأسمالية الغربية على العالم، صار اللحاق بالغرب من خلال التفاعل الثقافي معه، مع حضارته الرأسمالية، الهدف التاريخي الكبير للشعوب التي صارت تابعة لهذه الحضارة ولسيطرتها الإمپريالية والكولونيالية.
ولا جدال في أن مواقف مختلف الطبقات الاجتماعية والقوى السياسية والاتجاهات الفكرية والثقافية الناشئة في المستعمرات وأشباه المستعمرات إزاء تلك الحضارة تعددت وتباينت وتناقضت وتصارعت، إلا أن كل هذا لا ينفي الواقع الفعلي للتفاعل الثقافي تحت السيطرة، ولا حقيقة أن الاتجاه العام للشعوب إلى الاستقلال عن هذه الحضارة إنما كان يتطلع إلى اللحاق بها كأداة لا غنى عنها للاستقلال ذاته، مع تباين التصورات والرؤى المتصلة بأبعاد وشروط واتجاهات هذا اللحاق.
ومبرر أو سبب طرح هذه المسألة الآن واضح جلي لا إبهام فيه أو التباس. فالحقيقة التي لا جدال فيها هي أن محصلة قرن أو قرنين أو عدة قرون من التفاعل الثقافي مع الحضارة الرأسمالية الغربية إنما تتمثل في إخفاق هذا التفاعل في تحقيق اللحاق المنشود بالغرب، كما تتمثل في قيام عالمين من شمال وجنوب. يتأكد بعد عقود طويلة من الاستقلالات والتنميات وإخفاقها جميعا أن التعايش بينهما صار مستحيلا تقريبا، وأن الآليات الاجتماعية الاقتصادية السائدة الآن صارت طاردة لما يسمى بالعالم الثالث، ليس إلى حالة متفاقمة من التهميش المتواصل، بل إلى النتيجة المنطقية النهائية لمثل هذا التهميش، أي محو هذا العالم الثالث من الوجود، ليس بمعنى مجازي، بل بالمعنى المادي المباشر.
والحقيقة أن الحروب والمواجهات العسكرية المباشرة المتلاحقة الآن بين الشمال والجنوب، والحروب الأهلية والمجاعات والأوبئة في كثير من بلدان الجنوب، وعملية التهميش المتواصلة للجنوب كله ـ والتي ترتكز على آليات اقتصادية وعلمية وثقافية وتصب في هذه الحروب والحروب الأهلية والمجاعات والأوبئة بالاحتمالات الكارثية التي تنطوي عليها في نهاية المطاف ـ ليست سوى النتائج التاريخية المنطقية لإخفاق اللحاق بالغرب والتفاعل مع الغرب. وهنا ترتفع شعارات التفاعل أو الحوار أو الصدام بين الثقافات أو الحضارات. غير أن ما نشهده في الواقع الفعلي يتمثل في إخفاق وفشل التفاعل تاريخيا، وهزال الحوار الذي تلهث وراءه بلدان العالم الثالث، ونشوب واستفحال الصدام وحتى اندلاع القتال. ومن التضليل الساذج بطبيعة الحال أن يجري طرح صدام الحضارات وكأنه صدام بين الثقافات أو الأديان أو الأمم بما هي كذلك، بعيدا عن الرأسمالية والإمپريالية، بهدف تمويه طبيعة الصدام أو الصراع. ولا ينبغي أن يفوتنا أن الحضارات لا تنفصل  عن محتواها الاجتماعي-الاقتصادي، وأن الحضارت عبر ثقافية وعبر دينية وعبر قومية، وأن الحضارة الرأسمالية على سبيل المثال لا تتناقض من حيث المبدأ مع مسيحية أو بوذية أو إسلام، مع لغة، أو أمة، أو ثقافة.
ولكي نفهم كيف اتخذ التفاعل الثقافي هذا المسار وكيف انتهى إلى هذا المصير، ينبغي أن نتأمل طبيعة هذا التفاعل، والحقائق التي تختفي وراء أوهامه، والتعقيدات التي تحيط بالبساطة المتناهية البادية على ظاهره.
وينبع تعقيد ظاهرة التفاعل الثقافي من شدة تعدد وتنوع عناصره ومكوناته ومجالاته واتجاهاته وشروطه الاجتماعية-الاقتصادية التاريخية.
وينبغي قبل كل شيء أن نتفادى ثنائية الثقافة والحضارة. وإذا كانت الحضارة تمثل مجموعا معقدا قابلا للنقل من الظواهر الاجتماعية (الدينية والأخلاقية والجمالية والعلمية والتقنية) السائدة في مجتمع كبير أو في مجموعة من المجتمعات، وإذا كانت بهذا التعريف أوسع من الثقافة التي تقتصر على بعض عناصرها، أو تتطابق بمعنى واحد من معانيها مع الحضارة، فإنه ينبغي الالتفات إلى أن التفاعل ثقافي وحضاري في آن معا، لأن المجتمعات إنما تتفاعل، رغم كل تفاوت محتمل، بكل المكونات التي تشتمل عليها وليس بمكونات دون أخرى. ومن حيث المبدأ فإن الثقافة المادية والروحية، أيْ الحضارة بكلمة أخرى، والتي لا تقتصر على الآداب والفنون والميثولوچيا والعادات والأخلاق وقواعد السلوك، بل تمتد لتشمل أساليب الإنتاج والتوزيع، والاقتصاد والتقنية، والعلوم البحتة والتطبيقية، هي المحتوى الحقيقي لما يسمى بالتفاعل الثقافي أو الحضاري.
ومن ناحية أخرى، يوحي تعبير "التفاعل الثقافي" بصلة ثقافية حضارية بين الشعوب يمارس فيها كل شعب مع شعوب أخرى عملية تاريخية من "التأثير المتبادل" أو "التفاعل"، بما يؤدي بنا إلى أن نتصور أننا إزاء عملية من الفاعلية المتبادلة، والأخذ والعطاء، والتأثير والتأثر، إن لم تكن تجري على قدم المساواة بين طرفي التفاعل فهي تفترض على الأقل درجة عالية من التقارب في مستوى التطور الاجتماعي-الاقتصادي الثقافي بين الشعوب أو الأمم أو الدول أو الحضارات المتفاعلة على هذا النحو.
ولأن من الصعوبة بمكان افتراض التحقق الفعلي بصورة شاملة لكل مناطق العالم لمثل هذه الدرجة العالية من التقارب في مستوى التطور، فإنه لا مناص من التسليم بأن الفاعلية المتبادلة المتكافئة شكل من أشكال التفاعل الثقافي الحضاري وليست شكله الوحيد.
وعلى هذا فإن تعدد أشكال وجود التكوينات الاجتماعية الثقافية هو الأساس التاريخي والمنطقي لتعدد أشكال ومضامين التفاعل الثقافي أو الحضاري. وإذا كان شكل الفاعلية المتبادلة المتكافئة، شكل التأثير والتأثر أو الأخذ والعطاء بين طرفيْ التفاعل، هو بحكم التعريف الشكل الأكثر تطابقا مع مفهوم هذا التفاعل أو مع كل ما يوحي به هذا التعبير، فإن هذا يعني أن هناك أشكالا أخرى للتفاعل الثقافي الحضاري تتناقض مع مفهومه وإيحاءاته بدرجات متفاوتة تقتصر على التأثر أوالتأثير المحدود وقد تصل إلى حد السيطرة أو الهيمنة الثقافية الحضارية التي لا سبيل إلى الفكاك منها إلا بانهيار السيد أو المسود، أو الاثنين معا وهذا احتمال لا تستبعده التطورات الراهنة في العالم.
وبهذا تكون الفاعلية المتبادلة المتكافئة سمة التفاعل بين حضارات متقاربة ذات تكوينات اجتماعية ثقافية تاريخية متقاربة؛ أيْ أنها سمة التفاعل بين بلدان الشمال الآن، أيْ بلدان الحضارة الرأسمالية الغربية الحديثة والمعاصرة، فيما بينها. وهو تفاعل يضمن، رغم كل صراع على المصالح ورغم كل تفاوت ورغم اختلاف المراحل، التطور والتقدم بصورة مشتركة بين هذه البلدان التي تتمتع بثمار هذه الحضارة. ولكنها ليست بحال من الأحوال سمة التفاعل بين بلدان هذه الحضارة وبلدان العالم الثالث، فهذا الأخير تفاعل تتمثل سمته ليس في الفاعلية المتبادلة المتكافئة بل في الفاعلية من جانب والمفعولية من جانب آخر، كما تشهد قرون من التطور التاريخي في العصر الحديث.
وهناك جانب آخر هو الطابع التزامني (السينكروني) والطابع التعاقبي (الداياكروني) للتفاعل الثقافي الحضاري.
وهنا يقدم لنا التاريخ أشكالا متنوعة من التفاعل الثقافي. فقد قدم حضارات متزامنة ومتقاربة جدا في المكان، وكانت إما في مستوى واحد من التطور الاجتماعي التاريخي أيْ بربرية فقط، أو قديمة فقط؛ عبودية، أو تنتمي إلى ما يسمى بنمط الإنتاج الآسيوي مثل مصر الفرعونية وما بين النهرين، أو إقطاعية فقط. وفي هذه الحالة يتخذ التفاعل الثقافي شكل الفاعلية المتبادلة المتكافئة التزامنية عند مستوى متدن كالبربرية أو عند مستوى أكثر تقدما كأسلوب الإنتاج القديم بشكليه العبودي والآسيوي، أو الإقطاعي، بين شعوب تنتمي إلى حضارة واحدة. أما إذا كانت هذه الحضارات المتزامنة والمتقاربة في المكان في مستويات متعددة من التطور الاجتماعي والتاريخي، فإننا نكون في هذه الحالة إزاء تفاعل ثقافي تزامني يتخذ شكل الفاعلية من جانب والمفعولية من جانب آخر (مثلا الحضارة الفرعونية أو الصينية أو الهندية القديمة في علاقاتها مع المناطق المحيطة بكل حضارة منها). وهذه حالة أشبه بحالة الفاعلية والمفعولية بين الحضارة الرأسمالية الغربية وشعوب العالم الثالث، مع الاختلاف الجذري المتمثل في أن هذه الحضارة الأخيرة هي القادرة ـ بحكم اقتصادها وأسواقها وثوراتها التقنية ومختلف آلياتها وبحكم قوتها المعرفية والعسكرية ـ على بسط سيطرتها على العالم كله، وعلى إضفاء طابع الفاعلية الشاملة العميقة بكل نتائجها الفادحة في مجال السيطرة العالمية بكل نتائجها المأساوية.
على أن هذه الحضارات المتزامنة والمتقاربة أو المتفاوتة من حيث مستوى التطور التاريخي، يمكن أن تكون متباعدة في المكان بحيث لا تسمح لها العزلة النسبية للعصور السابقة بالتفاعل التزامني، فتكون ذاتا وموضوعا في آن معا للتفاعل التعاقبي مع الماضي والمستقبل.
كذلك يقدم لنا التاريخ التفاعل التعاقبي بين حضارات متقاربة أو متباعدة في المكان وفي مستوى التطور التاريخي ولكن غير متزامنة. وهنا يتخذ التفاعل شكل اكتساب حضارة لمنجزات حضارة أو حضارات سابقة أو توريث منجزاتها هي لحضارات أخرى لاحقة.
كذلك فإن كل هذه الأشكال للتفاعل الثقافي تتداخل وتتشابك تزامنيا وتعاقبيا في علاقات بعيدة عن البساطة، لاسيما وأن مستوى التطور التاريخي ليس شيئا واحدا بل هو بالغ التنوع في مراحله وأشكاله.
وقد أدى هذا التفاعل التاريخي التزامني والتعاقبي الشامل إلى نشأة الجماعات البشرية شعوبا وقبائل وأمما وحضارات وثقافات وإمپراطوريات، بكثرة متنوعة ومتغيرة من أشكال الوجود البشري بكل ألوان الطيف. وكانت هذه الاختلافات في مستويات التطور والثقافة والقوة والثروة في مختلف مناطق أو بلدان أو إمپراطوريات العالم في التاريخ، تغدو، في كل مرة، نقاط انطلاق جديدة لتفاعلات جديدة بين البشر في كل مكان من خلال حروب وفتوحات ومقاومات وتثاقفات جديدة. ولهذا فإن اختلاف نقاط ومناطق العالم، حتى عندما يصل هذا الاختلاف إلى الانقسام المستقطب للعالم إلى مركز الغرب أو الشمال، ومحيط الشرق أو الجنوب، لا يلغي الطابع العالمي لكل نقطة، ولا التأثير العالمي في كل منطقة، ولا دور هذه النقطة أو المنطقة في صنع تاريخ الكل العالمي، ولا حتى وجود المركز والمحيط في كل مكان، في كل نقطة على الأرض، وربما أمكن القول إن العالم هو مجموع نقاطه التي تنطوي كل نقطة منها على العالم بأسره.
لقد تعمدت اقتباس الفقرة السابقة من كلمة ألقيتها في مؤتمر سابق للمجلس الأعلى للثقافة هنا، وهذا حتى يكون واضحا أنني لا أقف ولا يمكن أن أقف ضد الحضارة الرأسمالية الغربية ومنجزاتها وثمارها من وجهة نظر تجري وراء استعادة نظم اجتماعية من الماضي، أو من منظور قومي ضيق منغلق، بل أؤكد أنه ما دامت الحضارة الرأسمالية الغربية قائمة، ما دامت لم تترك مكانها للحضارة الشيوعية التي أحلم بها شخصيا غير أنني أعلم أن شمسها لن تشرق غدا، فإن بصيص الأمل الباقي في مستقبل لبقاء وازدهار شعوب، أو حتى بعض شعوب العالم الثالث، لن يتحقق إلا عبر تفاعل من نوع مختلف وفي اتجاه مختلف مع هذه الحضارة الرأسمالية الغربية بالذات.
ولكنْ، لكي يكون هذا الأمل، أو بصيص الأمل، قابلا للتحقيق، فإنه ينبغي ألا نواصل دفن رؤوسنا في الرمال، وينبغي أن نعرف ونعترف بحقائق نتائج قرون من الفاعلية الحضارية للغرب الرأسمالي على حساب مستقبل باقي العالم.
والحقيقة أن آليات الحضارة الرأسمالية الغربية هي التي صنعت كل تاريخ الإمپراطوريات الكولونيالية والإمپريالية الحديثة على حساب شعوب باقي العالم، فلماذا لا نخرج بدرس من هذا التاريخ؟ وهذه الآليات ذاتها هي التي بدأت تاريخ العالم الجديد في الأمريكتين بالإبادة الجماعية لعشرات الملايين من الهنود الأمريكيين، فلماذا نعجز عن تصور أن من المحتمل للغاية أن يبدأ تاريخ انفراد الحضارة الرأسمالية الغربية بالوجود على الأرض بهلاك جماعي لمليارات البشر في باقي العالم؟ ليس بالضرورة بالحروب والمواجهات العسكرية كشكل رئيسي بل بحكم الآليات الاقتصادية العادية؛ العادية للغاية والبريئة للغاية. وذلك مهما كانت نوايا شعوب الشمال طيبة وهذا ما لا نشك فيه، ومهما كان حكامها رحماء وحتى إذا تحولوا بنعمة الرب إلى ملائكة!
وهناك سمة جوهرية من سمات الحضارة الرأسمالية تتمثل في أن إنجازاتها التاريخية غدت، منذ تحقيقها، احتكارا للغرب، وهي إنجازات تملكها وتسيطر عليها الرأسمالية العالمية فلم تعد ملكا للبشرية بحال من الأحوال. فلماذا يقف الغرب ضد انتشار حضارته الرأسمالية، وأسلوب إنتاجه، وإنجازاته التاريخية؟
والحقيقة أن الغرب الرأسمالي عمل على إعادة خلق العالم على صورته. وهذا لا يعني السماح للعالم كله بأن يلحق به، بل يعني على العكس من ذلك تحويل العالم إلى ملحق متخلف عنه ومكمل له تحت سيطرته الاقتصادية والسياسية والثقافية. إن ما ينسجم مع مصالح الغرب ليس الانتشار بين الآخرين، وليس لحاق الآخرين به، بل هو هذا الانقسام إلى مركز ومحيط، بسبب حاجته إلى محيط يضع نفسه تحت تصرفه وتوجيهه لمصلحته هو بما يتفق مع هذه المرحلة أو تلك من مراحل تطور الرأسمالية والإمپريالية.
غير أن هذا لا يعني أن يظل المركز حريصا دائما على الاحتفاظ بمحيط مهما كان الثمن. ومن الجلي أن المحيط القائم اليوم قد وصل إلى حجم رهيب بضخامته وإلى حالة مفزعة بأزماته وإلى كابوس مخيف باحتمالات المزيد من تَعَمْلُق الحجم وتفاقم الأزمات. ومثل هذا المحيط يغدو عبئا ثقيلا بل خطرا محدقا من وجهة نظر المركز.
وهذا الانقسام لا يترك للمحيط مجالا للحاق أو تضييق الفجوة أو حتى المراوحة في نفس المكان. ولا فكاك من هذا القدَر إلا بالفكاك من قدر المحيط من خلال اللحاق الذي يحاربه الغرب أصلا. وتدور حرب متواصلة بمختلف الوسائل بين من يسعون إلى شيء من اللحاق بوسائلهم الضعيفة ومن يفرضون التهميش بل حتى يتحدثون مباشرة أحيانا عن "إلغاء" العالم الثالث.
وقانون السباق قاطع التحدد: إن مَنْ يعجز عن انتزاع اللحاق انتزاعا ينبغي أن يعتبر نفسه من الآن عاجزا عن مجرد البقاء.
على أن هناك بصيص أمل. ففي عالم يحاول أن يقيم على الأرض حرية مطلقة لانتقال السلع والخدمات والأموال والاستثمارات، في إطار ما يسمى بالعولمة، يمكن أن تبدو "عولمة" سكان العالم ـ أيْ إطلاق حرية الهجرة والانتقال بين الشمال والجنوب أمام كل البشر ـ حلا منطقيا. وقد يبدو هذا أيضا حلا ممكنا لخطر انقراض في الشمال بسبب الركود السكاني، وفي الجنوب بسبب الانفجار السكاني.
غير أن مثل هذا الرهان يتطلب انقلابا في اتجاه التفاعل بين الشمال والجنوب في مواجهة التيار السائد لآليات هذا التفاعل. إن هذا يعني أن تدخل "شعوب" الشمال في صميم معادلة التفاعل. لقد أثبتت هذه الشعوب، في مناسبات كبرى عديدة، أنها تقف معنا ربما أكثر مما نقف مع أنفسنا، غير أن هذه الشعوب وطليعتها في كل بلدان الشمال بعيدة تماما عن إدراك الخطر المفزع الذي يتهددنا، فهي قد تدرك العراق وفلسطين ولكنها لا تدرك أن مليارات الكائنات البشرية في العالم الثالث مهددة في مجرد بقائها. فهل نتجه منذ الآن إلى شعوب الشمال وطليعته ليس لتحسين صورتنا كما يقال ـ فلا سبيل في الحقيقة إلى تحسينها ـ بل لنضع أمام عقولهم وضمائرهم الأبعاد الحقيقية لنتائج التاريخ الكولونيالي وللعولمة الإمپريالية التي يحاربونها معنا. والسؤال: هل هذا حل حقيقي أم حلم رومانسي أم وَهْم زائف؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 5
 
هل تعاني
 الماركسية المصرية والعربية
 أزمة خاصة؟
 
 
لا شك في أن هذا السؤال يبدو مدهشا للغاية. ذلك أن كل شيء يخص الماركسية أو الشيوعية أو اليسار في مصر أو العالم العربي يدفع بقوة إلى التسليم بالأزمة. ويبدو من المنطقي بالتالي ما دام ذلك كذلك أن نبحث طبيعة أو طابع أو تجليات أو مظاهر أزمة معلنة أو معترف بها للانتقال إلى بحث سُبُل محتملة للخروج منها أو حتى لوقف استفحالها، بدلا من السؤال الاستفهامي عن مجرد وجود مثل هذه الأزمة.
والحقيقة أنه لا يمكن بحث أزمة الماركسية (أو أزمة حركة تسترشد بطبعة من طبعاتها) إلا في صلة عميقة بموضوعها ذاته أيْ تطور الحركة الشيوعية الثورية في سبيل تغيير العالم وانتصار الثورة الاشتراكية والمسار الثوري الفعلي لهذه الثورة ولبناء الاشتراكية والشيوعية، وبالطبع مع التصدي لكافة القضايا العمالية والجماهيرية والقومية والوطنية والكولونيالية وغيرها من القضايا التي تواجهها الحركة الشيوعية في هذه المرحلة أو تلك من تطورها بمنطق أممي في كل بلد وفي العالم.
ولا شك في أن هذا المسار حافل بأزمات النمو التي تقوِّي الحركة لأنها لا تقتلها، ومعنى هذا أنها يمكن أن تضرب الحركة الشيوعية الثورية بزلازلها وأعاصيرها وقد تمزق أوصالها غير أنها لا تمحوها من الوجود لأن قضيتها لا تموت إلا بتحققها، ولأن جذورها وبراعمها تعاود الظهور ولأن أمراضها تتراجع ولأن الدروس المستفادة من الأزمة تغدو ينابيع لا تنضب لتفادي تكرار الأخطاء النظرية أو السياسية أو الجماهيرية الفادحة، ولمعالجة الأخطاء الجديدة بفهم أعمق وخبرة أنضج قبل فوات الأوان.
على أننا لسنا إزاء مفاهيم منطقية تقوم بينها علاقات مطلقة من الاندراج أو الاشتمال أو الاستبعاد. فالحركة الشيوعية الثورية، ككل حركة في التاريخ، يمكن أيضا أن تقتلها أزمة عاتية مدمرة، فلا تترك وراءها سوى بقايا سليمة بين الأنقاض والدمار والانهيار. وسيكون من السخف الحديث عن مثل هذه الأزمة على أنها أزمة نمو، ولن يعني الإحياء والانبعاث والتجديد لهذه الحركة في زمن آخر أنها أزمة نمو، ولا يحدث مثل هذا الإحياء إلا في سياق دورة أخرى كبرى من دورات التاريخ، فلا نكون هنا إزاء نمو مباشر انطلاقا من المعطيات المباشرة التي تحيط بأزمة، في نفس الفترة التاريخية المحددة موضوعيا وذاتيا لهذه الحركة، بل نكون إزاء قطيعة تاريخية كبرى لا تلغي مع ذلك في الأمد الطويل الصراع الطبقي أو حرب الكل ضد الكل.
وإذا اتخذنا حركة شيوعية ثورية تتقدم بصلابة، رغم أية أزمات داخلية أو أزمات نمو (في علاقاتها الجدلية العميقة بمسار تدريجي أو انقلابي للتطور التاريخي)، كمعيار على أن هذه الحركة قائمة بوصفها حركة ولاتعاني إلا أزمة نمو، فإن كل شيء في واقعنا المصري أو العربي سيدفعنا إلى التسليم بأننا إزاء قطيعة تاريخية كبرى: ذلك أن التراجع التاريخي على كل المستويات هو المسار الفعلي لتاريخ هذه المنطقة من العالم ومنذ وقت طويل.
على أن من السخف أصلا مناقشة أزمة للحركة الشيوعية في منطقة من العالم من منظور قومي أو وطني. ولو تصورنا حالة تتميز بازدهار الحركة الشيوعية عالميا (وليس بالضرورة في كل بلد، وليس بالضرورة في كل منطقة) لكان من الطبيعي تماما التركيز على بحث خصائص وخصوصيات وأبعاد أزمتها في مصر أو في العالم العربي أو في واق الواق. غير أن الحالة القائمة في العالم منذ عقود (ودون أية تباشير من أيّ نوع للخروج منها) تتميز بالتراجع التاريخي للعالم كله بالمعنى الحرفي لهذه العبارة: انهيار الحركة الشيوعية بكل أنواعها في كل مكان، أما أولئك الذين ما زالوا يحتفظون بتسمية الشيوعية، كالصين، فإنهم لا يقومون في الواقع الفعلي إلا بالعمل على قدم وساق في سبيل بناء الرأسمالية مع السعي الحثيث إلى الاندماج في المجتمع الرأسمالي العالمي والتعاون مع الغرب أو الشمال الرأسمالي.
وإذا نظرنا إلى الأحزاب الشيوعية (بالتسميات المباشرة أو غير المباشرة) التي كانت حاكمة في بلدان "اشتراكية"، أو موجودة في "المعارضة" أحيانا أو ضمن "ائتلافات حاكمة" قليلا في البلدان الرأسمالية المتقدمة، أو في المستعمرات وأشباه المستعمرات ثم في البلدان المتخلفة التي ورثتها تحت لافتة البلدان النامية أو العالم الثالث، فإننا لانجد بعد انهيار هذه الأحزاب سوى بقايا ضئيلة تؤكد القاعدة: انهيار الأحزاب الشيوعية الموسكوڤية في كل مكان، بقاء أحزاب منها في الحكم باسم الشيوعية في الأقوال مع بناء شكل أو آخر من الرأسمالية هنا (الصين بالذات) أو الرأسمالية المتخلفة هناك (ڤييتنام مثلا) في الأفعال، مع قوة استثنائية لحزب العمال الاشتراكي في بريطانيا ذلك الحزب الماركسي اللينيني الذي استطاع أن يدرك منذ أواخر الأربعينات أن الاتحاد السوڤييتي (ونموذجه المنتشر في بلدان أخرى) ليس سوى رأسمالية دولة.
وكيف لا تنهار كل الأحزاب الشيوعية في العالم كله بعد الانهيار المروع للنموذج السوڤييتي في الاتحاد السوڤييتي وفي بقية بلدان "المنظومة الاشتراكية"، وبعد انهيار النظريات التي كانت تحلل الظاهرة السوڤييتية التي نشأت عن ثورة أكتوبر 1917: انهارت النظرية الموسكوڤية الستالينية وما بعد الستالينية القائلة بأنها بلدان اشتراكية تتجه في مدى أبعد إلى الانتقال إلى الشيوعية ذاتها بل حتى يُفترض وفقا لنظرية سوڤييتية سادت لفترة أن الاتحاد السوڤييتي انتقل إلى الشيوعية منذ الثمانينات. وانهارت النظرية التروتسكية (مع الإقرار بكل مآثر التروتسكية في فهم وفضح الطبيعة البيروقراطية للنموذج السوڤييتي) عن الدولة العمالية مع انهيار النموذج السوڤييتي وانقشاع وَهْم مقاومة پروليتارية كبرى لهذا الانهيار تستعيد الاشتراكية كما بشر إرنست ماندل بعقائدية مذهلة. وانهارت النظرية الصينية فيما قبل مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في 1969 والتي تبنتها أحزاب أخري في ڤييتنام وكوريا الشمالية والهند ومصر، إلخ. وكانت تتحدث عن اشتراكية مهددة بخطر التحول إلى رأسمالية وعن الحاجة إلى ثورة ثقافية تنقذ اشتراكية متحققة من أزمة عودتها إلى الرأسمالية (وكنتُ ممن يؤمنون بتلك النظرية التي اتضح أنها خاطئة تماما). كما انهارت نظريات أقل شأنا منها نظرية أننا إزاء نموذج بيروقراطي لصالح البيروقراطية الحاكمة فليس اشتراكيا وليس رأسماليا. واتضح أن النظرية الوحيدة الصحيحة في هذا الشأن كانت نظرية توني كليف وحزب العمال الاشتراكي في بريطانيا وكذلك بعض الشخصيات مثل شارل بتلهايم (وكذلك الحزب الشيوعي الصيني بعد مؤتمر 1969 حيث قيل إننا إزاء اشتراكية إمپريالية أيْ رأسمالية إمپريالية تدعي الاشتراكية؛ غير أن هذا قيل في سياق حرب كلامية أيْ في سياق الصراع الصيني السوڤييتي الشهير بعيدا عن التسليم العميق بنظرية توني كليف والأهم من هذا أن الحزب الشيوعي الصيني لم يدرك أن نفس التحليل الذي يشخص هذا النموذج بأنه رأسمالية دولة ينطبق على الصين انطباقه على الاتحاد السوڤييتي). على أن الحقيقة لم تكن كاملة عند أحد فنظرية توني كليف صورت نموذجا لرأسمالية دولة قابلة للحياة لأمد طويل بوصفها كذلك دون أن تتحول بفعل تناقضات بعينها ينطوي عليها هذا النموذج إلى رأسمالية مثل رأسماليات الغرب أو الشمال أيْ الرأسمالية الاحتكارية الإمپريالية التي تلعب فيها رأسمالية الدولة مع ذلك دورا بالغ الأهمية في كثير جدا من الأحيان في البلدان الصناعية المتقدمة والتي تختلف عن النموذج السوڤييتي لرأسمالية الدولة البيروقراطية الشاملة والشمولية.
ويعني انهيار هذه النظريات وكذلك انهيار موضوعها أيْ النموذج السوڤييتي ذاته (مع الاستثناء اللافت للنظر لنظرية توني كليف) أن القرن العشرين شهد أسطورة اشتراكية تمخضت بصورة منطقية تماما عن التطورات اللاحقة لثورة أكتوبر 1917 وبقية الثورات "الاشتراكية" ذات الطابع الانقلابي (كما حدث في أوروپا الشرقية في البلدان التي دخلت في "الاشتراكية" مع احتلال الجيش الأحمر) أو ذات الطابع الجماهيري الشعبي (كما حدث في الصين ويوغوسلاڤيا وغيرهما). ولم يشهد القرن العشرون تاريخا فعليا لبناء الاشتراكية بل شهد مستويات متباينة من بناء الرأسمالية باسم الاشتراكية والشيوعية بقيادة أحزاب مسماة بالشيوعية.
أيْ أن مختلف الأحزاب والحركات الشيوعية تطورت في سياق تاريخي خاص بكل بلد وبالعالم وبالاسترشاد بأيديولوچية هي الماركسية كما قدمها مؤسسوها ومفكروها اللاحقون، وفي سياق أسطوري وهمي يتمثل في تصور العالم على أنه صار منقسما إلى معسكرين رأسمالي واشتراكي، وأننا نعيش في عصر انتصار الثورة الپروليتارية؛ وتنتمي إلى هذا السياق الأسطوري كافة الأيديولوچيات والنظريات والسياسات التي أنتجها فكر النموذج السوڤييتي في كل مكان.
والنتيجة: لا يمكن النظر إلى انهيار الحركة الشيوعية العربية ككل إلا في سياق هذا الانهيار العالمي للحركة الشيوعية التي كانت تعكس حقيقة نضالية صلبة من ناحية وأسطورة وهمية من ناحية أخرى.
وفي مجرى هذا الوضع التاريخي الذي حققت فيه رأسمالية الدولة المسماة بالاشتراكية أوالشيوعية انتصارات وإنجازات هائلة، نشأت وتطورت أيضا حركة التحرر الوطني العالمية التي حققت بدورها إنجازات وانتصارات وضعت حدا للنظام الكولونيالي القديم (في ارتباط وثيق بنوعية تطور الرأسمالية الاحتكارية في المتروپولات الاستعمارية ومدى الحاجة في ظل أوضاع اقتصادية تاريخية إلى استمرار الاحتلال العسكري  والتكلفة الباهظة لهذا الاحتلال في أوضاع تتميز بتطور حركة التحرر الوطني بأقسامها الشيوعية والقومية) كما حصلت على استقلالات وشرعت في تنميات، مع أن هذه الاستقلالات لم تتجاوز المعنى المنقوش في القانون الدولي لاستقلال دولة أو سيادتها، ومع أن هذه التنميات كانت في سياق الاستعمار الجديد والارتباط الوثيق به أو الانكسار المروع أمامه.
والمحصلة: عالم جديد. عالم السيادة المطلقة لرأسمالية الغرب أو الشمال بقيادة الولايات المتحدة، باعتباره العامل القوي التأثير من الخارج في تحولات البلدان التي في مرحلة الانتقال من نموذج نوعي لرأسمالية الدولة إلى النموذج الأصلي للرأسمالية، وباعتباره العامل الحاسم في سيادة الرجعية في المناطق السابقة للتحرر الوطني والاستقلال والتنمية، في المناطق التي غرقت الآن في الحروب الأهلية والمجاعات والأوبئة وهذه ليست حالة أفريقية استثنائية بل هي المصير الذي لا يمكن تفاديه لمناطق العالم الثالث ككل، ومحصلتها النهائية مفزعة فهي لا تقل عن انقراض شعوب الجنوب المتخلف بالمليارات باستثناءات نادرة ممكنة تتعلق بشعوب يمكن أن تحاول إنقاذ نفسها من خلال تحديث صناعي وثقافي بالغ السرعة رغم العقبات الهائلة التي يضعها الغرب أمامها ورغم افتقار الشعوب المعنية إلى دينامية ذاتية منقذة.
وبلغة اليوم فإننا إزاء عولمة ليبرالية كاسحة تكنس من طريقها اقتصادات الجنوب وهويات شعوبه وحتى هذه الشعوب ذاتها، مع مناهضة بازغة للعولمة تنتشر في المحل الأول في بلدان الشمال الصناعية المتقدمة، ولا تدرك أبعاد وحجم ما يتعرض له الإنسان اليوم على الأرض في الجنوب. وبالتالي فإن عولمة أخرى معاكسة للعالم، تقوم على حرية حركة البشر عبر العالم كله بنفس سيولة حركة رؤوس الأموال والسلع والخدمات، بكل عمليات التثاقف الهائلة التي تقتضيها مثل هذه العولمة، تبدو أقرب إلى المستحيل لأن هذه العولمة المتعدية تقيم حواجز منيعة أمام حركة أبناء الجنوب صوب الشمال بالذات.
وبلغة مجازية يمكن القول إننا إزاء حالة أشبه بظهور الإنسان الكرومانيوني منذ حوالي مائة ألف عام ومطاردته للإنسان النياندرتالي (الإنسان السابق عليه) في كل الكهوف إلى أن قضى عليه. فهناك بلغة المجاز أيضا فجوة ألف عام بين الشمال والجنوب لصالح الشمال بالطبع، ومن الصعب تماما أن نتصور أن يعيش عالمان مختلفان إلى هذا الحد معا في عالم واحد. وإذا كان التعايش على أساس التعاون يبدو مستحيلا كما نرى فإن التطاحن يبدو البديل الوحيد.
ولا أقصد بالتطاحن أن الغرب سيأتي بالضرورة لإبادتنا بصورة مباشرة، إذ يكفيه أن يتركنا وشأننا أيْ لمصيرنا، وهو لا يأتي ليضرب مباشرة إلا لأن الفوضى التي يطلقها انهيار العالم الثالث وانقراض شعوبه تلحق الأذي بالغرب ومصالحه بصورة عدوانية مباشرة (11 سبتمبر 2001) أو بأيّ تهديد لمصالحه الإستراتيچية (الاقتصادية والجغرافية-السياسية) كما يراها وكما يفرض رؤيته على الجميع.
يكفي الغرب أو الشمال أن يتركنا لمصيرنا لننقرض فنترك له المجال واسعا ليس أمام استعمار أراضٍ عليها شعوب (كما كان الحال في القرون القليلة الماضية عند استعمار الهند أو الأمريكتين ومناطق أخرى مبكرا، وعند غزوات وفتوحات وتوسعات القرنين التاسع عشر والعشرين)، بل لاستعمار أراضٍ خلت من شعوبها(ولا ينبغي أن ننسى أن تطهير الأراضي من سكانها الأصليين كان اتجاها أساسيا حصد أرواح عشرات وربما مئات الملايين منهم).
ولكن من الذي قرر لنا هذا المصير، مصيرنا؟
قررت لنا هذا المصير حقيقة مروعة من حقائق التاريخ. وهي تبدو حقيقة بسيطة وبديهية. وتتمثل هذه الحقيقة في أنه لم تقم حضارة كبرى في التاريخ إلا وحولت الحضارات الأقل شأنا المعاصرة لها في الزمان والمجاورة لها في المكان إلى عبيد بهذه الطريقة أو تلك للحضارة الكبرى المعنية. وينطبق هذا على الحضارات الفرعونية والعراقية القديمة والصينية والفارسية واليونانية واللاتينية والعربية الإسلامية كما تنطبق على الحضارة الرأسمالية الغربية من الفاتحين الإسپان إلي الرئيس چورچ بوش الابن.
ورغم التفاعل التعاقبي (الدياكروني) بين الحضارات، إلا أن التفاعل التزامني (السينكروني) بينها كان مستحيلا. لماذا؟ لأن السيطرة الإمپراطورية للحضارات الكبرى على الشعوب أو الحضارات أو الثقافات الضعيفة المحيطة بها كان القانون. أما التفاعل فيما بين الحضارات الكبرى ذاتها فكان تعاقبيا عند تباعدها في المكان ولكنه كان شبه مستحيل عند تباعدها الجغرافي الشديد فلا مجال للحديث على سبيل المثال عن تفاعل تزامني بين الحضارتين الفرعونية والصينية في مراحلهما المتزامنة. أما في حالة الجوار أو القرب الجغرافي في نفس الزمن بين حضارات كبرى (كما كان الحال مثلا بالنسبة للحضارتين الفارسية واليونانية) فإننا نجد الصراع والحرب وكذلك التعايش القائم على توازن للقوى في هذه المرحلة أو تلك.
والحضارة المقصودة حضارة بالمفهوم المادي التاريخي، ومهما كانت الخصوصيات التراثية الثقافية أو الدينية أو الروحية للحضارات فإن الصراع لا ينشأ من هذه المكونات بل من المصالح التي لا تعرف دينا ولا لغة، وما يسميه هنتنجتون بصراع الحضارات مبرزا الخصوصيات الثقافية التراثية إنما يُخفي أساس الصراع الحقيقي أيْ سيطرة الحضارة الغربية على كل الشعوب الأخرى، سيطرة "الغرب" علي "الباقي". وليس بوسع أحد إلا أن يعترف بأن الحديث عن "حوار" الحضارات إنما هو صوت صارخ في البرية، صوت لا يسمعه أحد، ولن يسمعه أحد، مهما تعددت المؤتمرات أو المنتديات من أجله ومن أجل نظام عالمي جديد.
فالغرب الذي قرر مصيرنا من خلال الإمپريالية والكولونيالية، والذي يهاجمنا الآن إنما يفعل هذا باعتباره حضارة مسيطرة ككل حضارة سابقة مسيطرة في التاريخ (بل أكثر من كل حضارة مسيطرة سابقة بحكم طبيعة العصر الحديث التي جعلت منها حضارة لا تنحصر في منطقة أو مناطق بل تعيش في كل لحظة في العالم كله) وليس لأسباب دينية أو تراثية أو ثقافية أو روحية أو عرقية، مهما تذرعت المصالح الحقيقية للسيطرة بمثل هذه المكونات.
وهنا، وبقدر ما يتعلق الأمر بنا نحن الماركسيين، حقيقة لا مناص من الاعتراف بها، وهي أن الماركسية لم تدرك لا عند مؤسسيها ولا عند مفكريها اللاحقين كل أبعاد قيام الحضارة الرأسمالية بنتائجها البعيدة الأمد. وصحيح أن الماركسية هي التي قدمت النظريات العلمية التي تفسر استغلال هذه الحضارة لشعوبها وللشعوب الأخرى. غير أن فكرة بالغة الأهمية ظلت غائبة عنها وهي فكرة أن قيام هذه الحضارة سوف يعني في الأمد الطويل حرمان باقي الشعوب من اللحاق بها وبالتالي الوصول بتلك الشعوب إلى استحالة أن يتعايش في عالم واحد "تخلفها" مع "التقدم" الذي احتكرته الحضارة الرأسمالية.
ولا شك في أن فكرة ماركس عن قيام الغرب بإعادة خلق باقي العالم على صورته أيْ بتحويله إلى ملحق به فكرة جوهرية في الماركسية غير أنها لم تأخذ عند ماركس حقها من البحث من أجل استشراف المصير التاريخي ﻠ "باقي" العالم الملحق بالغرب الرأسمالي في المستقبل البعيد، كما أن هذه الفكرة غابت عن نظريات ماركسية لاحقة ذات نفوذ، وغطت عليها فكرة يوتوپية جعلت الخلاص الثوري في عصرنا هذا من نصيب كل شعوب العالم.
ونحن نعلم أن شعار اللحاق بالغرب قد تحقق عبر طرق شتي لدى بلدان وشعوب كانت قد تأخرت عنه، مثل ألمانيا وإيطاليا وروسيا والياپان (وهناك احتمالات أخرى راهنة ربما كانت منها الصين وقليل من النمور الآسيوية الأصلية)، غير أن هذا اللحاق لم يتحقق في المستعمرات وأشباه المستعمرات باستثناء الاستعمار الاستيطاني للأمريكتين وجنوب أفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا وفلسطين.
ومن رفاعة الطهطاوي إلى نظرائه في أماكن شتى في المناطق التي كانت قبلهم أو في أيامهم، أو صارت بعد ذلك،  مستعمرات أو أشباه مستعمرات كان مفهوم شعار اللحاق بالغرب متوافقا عندهم مع الحالة التاريخية التي انطلق منها في هذه البلدان وكان بالتالي قاصرا للغاية، إذ كان يعني الأخذ ببعض مظاهر الرقي في الغرب في مجالات الحياة الاقتصادية والعلمية، إلخ. بعيدا عن إدراك أن القضية هي "أن نكون الغرب ذاته"، من الناحية الجوهرية، محتفظين كما احتفظ هو بتراثه المسيحي، بتراثاتنا البوذية أو الهندوكية أو الإسلامية أو المسيحية أو الأرواحية أو الوثنية، وفقا لاختلاف ثقافات وأديان الشعوب.
وكان الحساب الختامي هو هذا الذي يواجهنا في لحظة الحقيقة هذه.
فالأزمة الحقيقية التي ينبغي أن نستيقظ عليها الآن هي أزمة شعوب البلدان المتخلفة المسماة بالنامية ومنها الشعوب العربية. أزمة بقائها في عالم وقع تحت السيطرة الشاملة لحضارة الغرب أو الشمال بعولمتها الكاسحة الراهنة وهي التجلي المعاصر لسيطرتها السابقة التي بدأت منذ قرون مع نشأة السوق العالمية والكشوفات الجغرافية واستعمار الهند والأمريكتين، إلخ.
فهل يمكن أن نبقى؟ بالصراع ضد هذه العولمة؟ وبأية وسائل؟ بالحرب أو الإرهاب؟
والمفزع أن هذا الاتجاه غير المجدي يتأكد أكثر فأكثر مع تحول القسم الأكبر من شعوب البلدان المتخلفة إلى محرومين تحت خط الفقر يجدون الرايات الجاهزة التي يخوضون تحتها حروبهم المضادة في تراثهم الديني أو القومي أو القبلي أو العشائري أو العرقي.
ورغم كل أمجاد هذه الحرب المضادة التي نخوضها وظهورنا إلى الحائط، فإن المحصلة النهائية لهذه الحرب معروفة سلفا، حتى إذا حلت رايتنا الشيوعية أو الماركسية الأممية محل الرايات القومية أو الدينية. فهي حرب بدأت بالفعل فلا مجال لاستعداد طويل. وفي مثل هذه الأحوال ينتصر الأقوى مهما توهجت البطولات، ومهما لحقت الخسائر بالغزاة السابقين أو الجدد.
ويبقى السؤال: كيف تبقى شعوب ما لا يزال يسمى بالعالم الثالث في هذا العالم الجديد، الذي تفصل بينه وبين العالم المتقدم الاستعماري هُوّة لم يعد من الوارد عبورها في هذه الفترة التاريخية، هذه الهوة التي جعلت التعايش مستحيلا وأشعلت حرب "هرمجدون" بين "الغرب والباقي"؟
وهي حرب متواصلة حتي إذا اختفى طالبان والقاعدة وصدام حسين أو حتى أفغانستان والعراق وفلسطين أو حتى چورچ بوش الابن والولايات المتحدة من الوجود ومن الخارطة. وهي حرب ليست بيننا وبين الغرب مباشرة في كل الأحوال (ولا حتى بيننا وبين الأنظمة التابعة والعميلة بالضرورة) فهي أيضا حرب يتقاتل فيها أبناء الشعب الواحد، حرب تتغذى على المجاعات والأوبئة والحرمان والقبلية لتصب في حرب أهلية مدمرة تشتعل أو تتأجج تحت الرماد في أغلب بلدان أفريقيا وفي أماكن أخرى من العالم المتخلف.
ولكن كيف نبقى في هذا العالم؟
ولا يملك أحد الرد بمفرده على هذا السؤال بحكم طبيعته وحجمه وأبعاده الكارثية. ومن المؤسف أن الطليعة الفكرية تنشغل بكل قضية جديدة تقفز في وجهنا في العالم العربي أو غيره، متجاهلة هذا السؤال المصيري، الذي لم يعد مسألة تأملية (إلا بالنسبة لمن لا يهمهم هذا المصير الراهن الجاري للمليارات من البشر إذا وضعنا المستقبل جانبا) بل صار واقعا فعليا لا أريد أن أكرر هنا أرقامه المعروفة للجميع من قتلى الحروب الأهلية والمجاعات والأوبئة (وبالأخص الإيدز) والحروب الحدودية. ويكفي أن نتأمل ظاهرة "تسونامي" التي لا يمكن فهمهما كمجرد ظاهرة طبيعية خارج البؤس الذي فرضته الحضارة الرأسمالية الغربية على باقي العالم، تاركة هذه الشعوب مجردة من كل وسيلة للخروج من بؤسها مع البشر ومع الطبيعة. فهي إذن من صُنع الإنسان بأخيه الإنسان.
ويبقى بصيص أمل... وهو لا يتمثل في مناهضة العولمة الليبرالية بالأشكال والأبعاد الراهنة لهذه المناهضة، بل يقتضي في المحل الأول أن تدرك هذه المناهضة الحجم التاريخي لما هو مطلوب منها. وبدلا من التركيز على مناهضة بعض أشكال تعديات العولمة الليبرالية في مجال البيئة والحروب، إلخ.، ينبغي إدراك الخطر المروع الذي يحاصر شعوب أو بالأحرى سكان البلدان المتخلفة. ودون أن تستيقظ شعوب الغرب بالذات على هذا الإدراك لنتائج حضارتهم بالذات على باقي شعوب العالم، ودون أن تتحرك هذه الشعوب إلى جانبنا دفاعا عن قيمها التي خانتها حضارتها الرأسمالية، ودون شمول العولمة لحركة السكان بكل سيولة عبر العالم، ودون استعداد شعوب الغرب لتحمل نصيبها الكبير من أعباء وتبعات عمليات المثاقفة التاريخية الكبرى المتوقعة في حالة إطلاق حرية حركة البشر، ودون أن تشترك معنا شعوب الغرب في حربنا من أجل البقاء، فإن مجرد بصيص الأمل يتطاير إلى شظايا.
هل ابتعدنا كثيرا عن الحركات الشيوعية والاشتراكية واليسارية والديمقراطية؟
لا أعتقد. فمن هم الذين سيقودون هذا النضال إلا وهذه القوى في طليعتهم؟
ولكن هذه القوى في أزمة. ولكنْ لا يمكنك أن تخرج من أزمة إلا إذا عرفت جيدا ما هي قضاياك الحقيقية وما هي وسائلك الناجعة بدلا من التلقائية والغوغائية والتفاؤل الكاذب.      
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6
 
 
الحرب على العراق: الأهداف والتوقعات[6]
 
 
رغم أن الحرب الأمريكية على العراق حرب معلنة الأهداف على ألسنة المسئولين الأمريكيين أنفسهم رغم الشعارات البراقة التي تشوش بها الإدارة الأمريكية على تلك الأهداف، ورغم أن الإعلام الأمريكي قدم منذ أشهر وصفا دقيقا مبكرا لإستراتيچيات هذه الحرب وتاكتيكاتها ومسارها المستهدف، فإن من الغريب أن هذه الحرب ما تزال تثير لدى الكثيرين من المهتمين إحساسا بالغا بالغموض سواء من حيث أهدافها السياسية والإستراتيچية أو من حيث مجرى الحرب من الناحية العسكرية.
ويمثل التركيز على هدف واحد دون غيره أحد مصادر الغموض كما أنه يؤدي إلى مبالغة كل وجهة نظر في هدفها المختار ويؤدي بالتالي إلى التقليل من شأن الأهداف الأخرى التي تمثل أخطارا أخرى تحدق بمنطقتنا والعالم. هناك من أكد أن الپترول هو الهدف رقم واحد إن لم يكن الهدف الأول والأخير وهناك من أكد أنه حصار الصين. هناك من أكد أنه تمكين إسرائيل من المنطقة ومن أكد أنه إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط ومن أكد أنه القضاء على الإسلام السياسي وناهيك بمن أكد أنه استهداف الإسلام والعروبة. هناك من أكد أنه أمركة العالم على حساب أوروپا وروسيا وحتى من أكد أنه إعادة النظام الكولونيالي القديم بل حتى من أكد أنه تجربة الأسلحة الجديدة. وبطبيعة الحال فإن القضاء على نظام صدام حسين يظل الهدف الذي يفتح الباب أمام تحقيق أيّ هدف آخر من وجهة النظر التي تركز عليه.
على أن هذه الأهداف وغيرها، أعني العقلانية منها، إنما تشكل أهدافا وأخطارا مترابطة متكاملة عندما نفكر فيها من منظور ينطلق من النظر إلى كل النتائج الأساسية المتفقة مع المصالح الإستراتيچية للولايات المتحدة لقيام نظام موالٍ لها في العراق على أنها أهداف حقيقية مترابطة للحرب، لأن الولايات المتحدة قوة كبرى لديها القدرة على التوصل مسبقا إلى أدق تقدير ممكن للنتائج الأساسية للحرب، ولا يمكن أن تخوضها إلا إذا اتخذت هذه النتائج للحرب أهدافا لها. ويعني هذا أن أهداف هذه الحرب لا تقتصر على أسبابها أو دوافعها المباشرة بل تتمثل في كل نتائجها المتوقعة، وفقا للتقديرات الأمريكية البريطانية على الأقل، ولا أعتقد أن من بينها إعادة النظام الكولونيالي القديم الذي كان ابن زمانه، ولا استهداف الإسلام والعروبة بوصفهما كذلك ولا يجب أن نقع في براثن الفكر الاستعماري الذي يروج لصراع الحضارات والثقافات بل ينطوي الحديث عن أن الإسلام والعروبة مستهدفان على أخطار فادحة على المسلمين والعرب ومنها أخطار تغذية وتفريخ التطرف الديني والقومي التي تجلب معها أخطار التدخلات الاستعمارية وتيسر على بُناة الإمپراطوريات الاستعمارية الجديدة مهمتهم، كما نشهد الآن.
ويمكن القول الآن، بعد قرابة أسبوعين من بداية الحرب الأمريكية على العراق إن هذه الحرب تسير في اتجاه واضح لا رادّ له فيما يبدو باعتبارها حربا قصيرة، حرب أسابيع، وبالمناسبة فإن الشهر والشهرين أسابيع، سوف تنتهي بالقضاء على نظام صدام حسين والاحتلال الأمريكي للعراق لفترة غير قصيرة تكفي لإحلال نظام موالٍ للولايات المتحدة وخاضع تماما لأوامرها ونواهيها.
وبطبيعة الحال فإن قيام نظام موال لأمريكا في العراق سوف يخلق وضعا جديدا تماما في الشرق الأوسط وفي العالم. عندئذ سيكون النفط العراقي بإنتاجه الكبير واحتياطياته الضخمة تحت السيطرة الأمريكية، كما أن مياه دجلة والفرات لن تظل بعيدة عن تلك السيطرة رغم تعدد البلدان التي يجري فيها النهران، وهذا في زمن صارت المياه تمثل فيه كابوسا مفزعا من الجوع والعطش والجفاف والتصحر والحروب. وعنئذ ستكون بلدان المنطقة قد استوعبت الدرس كما أن هذا الدرس قابل للتكرار. ولا شك في أن هذا سوف يتوج المسار الطويل لخلق بيئة ملائمة لإسرائيل والحقبة الإسرائيلية في المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية تماما. وعندئذ ستكون أمركة العالم على حساب أوروپا والياپان وروسيا والصين قد حققت قفزة كبرى إلى الأمام، كما أن حصار الصين من كل اتجاه سيكون أمرا واقعا. ولا شك في أن حدث 11 سپتمبر الذي يلعب دورا كبيرا في هذه التطورات سوف يواصل ضغوطه دافعا إلى توسيع الضربات والحروب ضد الإسلام السياسي حليف الأمس وعدو الحاضر والمستقبل من وجهة نظر الولايات المتحدة. وقد يؤدي هذا في نهاية المطاف إلى الوقوع المباشر لبلدان أخرى في المنطقة وحولها تحت السيطرة الأمريكية المباشرة (پاكستان وإيران وتركيا وبعض البلدان العربية).
ومما ييسر على الولايات المتحدة النجاح في تحويل هذا الكابوس إلى حقيقة واقعة، اختلال التوازن بصورة مخيفة بينها وبين القوى الدولية الأخرى: روسيا التي ما تزال ضحية الانهيار السوڤييتي رغم قوتها العسكرية، دول أوروپا والياپان الضعيفة عسكريا رغم قوتها الاقتصادية، الصين التي ما تزال تحاول الخروج من أقدار العالم الثالث رغم قوتها العسكرية التي لا تقارن بالقوة العسكرية الأمريكية. ومن الجلي أن النجاح في برنامج حرب النجوم سوف يعني إذا تحقق تحول كل هذه القوى الدولية إلى دول من الدرجة الثانية أو الثالثة بالنسبة للولايات المتحدة. وصحيح أن عبء الإمپراطورية من شأنه أن يقصم ظهر أمريكا غير أن أقوى التقديرات نفوذا تؤكد أن القرن الجديد سيكون قرنا أمريكيا. وإذا كان من المستحيل، في نظري، تقدير مسار التطور خلال قرن كامل، خاصة وأنه سيكون قرنا حافلا بالإنجازات التقنية والكوابيس البشرية والأحداث والمفاجآت التي لم تخطر ببال بشر، فمن المؤكد على كل حال أن احتمال القرن الأمريكي ينطبق على العقود القليلة القادمة بصورة خاصة.
ومما ييسر على الولايات المتحدة النجاح في تحقيق أهدافها في إحكام السيطرة على الشرق الأوسط واقع أن هذه المنطقة كجزء من العالم الثالث تنتمي إلى نموذج اجتماعي-اقتصادي ثقافي وصل الآن إلى مرحلة من التراجع التاريخي الشامل الذي ينطوي على أخطار من الفداحة بحيث لا يجرؤ معه أحد على مجرد التفكير فيها، وما يحدث في أفريقيا وفي العديد من مناطق العالم الثالث شاهد بليغ على المسار المتواصل للتدهور والتردي، وهذا المسار بالذات هو الذي ينبغي أن ندرس في إطاره كل حدث كبير في الشرق الأوسط، كما في كل مكان في العالم الثالث.
ولا يمكن أن نتجاهل كل أثر إيجابي ممكن للتناقضات بين المصالح الاستعمارية الأمريكية وغير الأمريكية، كما أنه لا يمكن بالأخص أن نتجاهل حركات شعبية واسعة تناهض حروب الولايات المتحدة وسيطرتها على العالم، وكذلك مقاومة الشعوب ليس دفاعا عن أنظمة مثل نظام صدام حسين بل دفاعا عن مستقبلها، غير أن المدى القصير وربما المتوسط لم يعد يحمل بشارة.
وينقلنا هذا إلى المجرى الفعلي للحرب الأمريكية العدوانية على العراق وإلى الأوهام التي يخلقها صمود نظام صدام حسين قرابة أسبوعين إلى الآن واحتمال صموده أسابيع أخرى.
والحقيقة أن الحرب تدور كما وصفها الإعلام الأمريكي بدقة منذ عدة أشهر. وبإدراك واضح لاختلال التوازن العسكري بين القوات العراقية والقوات الغازية ولواقع افتقار العراق إلى أيّ غطاء جوي باستثناء المدفعية المضادة للطائرات، لا يحشد صدام حسين جيشه في خطوط قتالية في الصحراء المفتوحة بل يتحصن في المدن، ويحلم باستدراج القوات الغازية إلى حرب مدن تعني هزيمتها. غير أن التحالف الأمريكي البريطاني يعتمد على استخدام قوته الجوية المطلقة التفوق وعلى القيام بحرب برية تعتمد على إستراتيچية تنطلق من عقيدة تفادي حرب المدن تماما والاكتفاء بإحكام الحصار حول مدن الجنوب للوصول إلى بغداد وحصارها أيضا دون دخولها وذلك اعتمادا على القصف الجوي المكثف (وزيادة استخدام الطائرات على ارتفاعات منخفضة مع تقلص قوة المقاومات الأرضية) وتتمثل مهمة هذا القصف الجوي بعد تدمير مراكز القيادة والسيطرة والاتصالات في تدمير الجيوش المتحصنة بمعداتها داخل وحول بغداد وغيرها من المدن. وهكذا تنقلب "حرب المدن" المنشودة عراقيا إلى حرب جوية أمريكية بريطانية على الجيوش والتشكيلات والمعدات العسكرية في المدن، وكذلك إلى حرب برية تتمثل في إطالة أمد الحصار لإجبار مدن تعاني الجوع والعطش والظلام على الاستسلام، مع اشتباكات لا يمكن تفاديها في حالات محاولة اختراق الحصار أو فكه أو القيام بهجمات على القوات البرية الغازية.
ومع المزيد من اتضاح انقلاب إستراتيچية حرب المدن المستهدفة من جانب صدام حسين إلى إستراتيچية مضادة هي الحرب الجوية ضد المدن المحاصرة سوف تتهاوى أحلام وأوهام صدام حسين وتنهار القوات الموالية لنظامه. وهكذا تصير أية مقاومة محتملة من جانب الشعب العراقي للغزاة من أجل مستقبله ضد المحتل الأجنبي (وليس دفاعا عن نظام صدام حسين) في أسوأ شرط ممكن. ورغم التمسك بخندق الوطن، رغم ضحايا الأسلحة الذكية والغبية من شيوخ وأطفال ونساء، رغم الصبر على الجوع والعطش والظلام، رغم التضحيات ورغم كل مقاومة، فإن من الإسراف في الأوهام أن نتصور أن شعبا عانى كل نتائج مغامرات حروب صدام حسين بما في ذلك حرمانه من الحرية ونتائج مغامرات چورچ بوش الأب وكلينتون وچورچ بوش الابن سوف يكون قادرا على مقاومة الغزاة وطردهم.
ورغم أن الوقائع أشياء عنيدة، يعمل الإعلام العربي، وهو يحذو في هذا حذو الإعلام الأمريكي، على امتصاص الغضب الشعبي الذي يعم العالم العربي والعالم كله عن طريق تصوير الحرب وكأنها حرب سجال يخسر فيها التحالف الاستعماري في المستنقع العراقي الذي غرق فيه ولا يستطيع الخروج منه، ويتسلح هذا الإعلام المضلل بفرق سريعة الانتشار من المحللين والإستراتيچيين والخبراء، ومن المؤسف أن مثقفين كثيرين يلعبون، على أنفسهم، نفس اللعبة. والرسالة التي يتضمنها هذا التصوير للأمور هي أن العراق صامد فلا حاجة إلى مواقف تتجاوز جمع الأغذية والأدوية والبطاطين ومختلف أنواع التبرعات المالية والعينية لمساعدة الشعب العراقي، بنفس المنطق الذي ينبغي أن نقف به مع الشعب الفلسطيني الصامد في انتفاضة الأقصى كما يقال.
وإزاء هذا المصير المفزع للعراق والمنطقة والعالم فإنه لا مفر من أسئلة تتجاوز الوصف المباشر لأهداف أو تطورات الحرب.
ولا شك في أنها حرب عدوانية وبصورة مركبة للغاية. ومسار التركيب جليّ واضح: الاستعمار البريطاني للعراق يُدخله إلى الحداثة بما يتفق مع مصالح الرأسمالية البريطانية والعالمية، ولا يقوم فقط باستغلاله ونهبه وقهره بل (وكما حدث مع كل المستعمرات وأشباه المستعمرات) يوقف نموه ويحكم عليه بألا يتطور ليصبح بلدا رأسماليا متقدما، يحكم عليه بالقزمية والضمور، وتحت سيطرة نخبة متخلفة في الجيش أو في الأحزاب تمثل جزءا من تخلف البلد لا يتحول استقلاله القانوني إلى استقلال حقيقي، ولأنه بلد متخلف (ككل بلدان العالم الثالث) فإنه لا يستفيد بثروته الپترولية الهائلة ليقوم بتنمية حقيقية فلا يتحول إلى بلد صناعي ويظل غير مستقل اقتصاديا (وبالتالي غير مستقل سياسيا) وتذهب الأموال الطائلة إلى "إقامة جيش قوي" وهذه أيديولوچية روجت لها صناعة السلاح الأمريكية والأوروپية والسوڤييتية لأن هذه الجيوش ـ الضخمة بصورة غير ضرورية ـ لا بديل عنها لبيع الأسلحة، وتتولد لدى النخبة العراقية غير المستنيرة أطماع توسعية تعوض بها فقرها رغم الپترول بسبب النفقات العسكرية الباهظة والفساد ولعدم نجاحها في تحويل العراق إلى بلد صناعي بسبب تخلفها ولأن الاستعمارالعالمي عقبة كأداء في طريق تصنيع بلدان العالم الثالث، فتغزو الثورة الإيرانية ثم تغزو الكويت. وتقوم الرأسمالية العالمية بقيادة الرأسمالية الأمريكية ليس فقط بتسليح العراق حتى الأسنان (بما في ذلك بالأسلحة التي يفتشون عنها اليوم) بل تستدرج نخبته السياسية العسكرية الجاهلة إلى مغامرة الحرب مع إيران وتساعدها الولايات المتحدة كما تساعد دول عربية عديدة "حراس البوابة الشرقية" أيْ العراق في الحرب على إيران ثم تأتي مغامرة الكويت. ويعاني الشعب العراقي الفقر والجهل والمرض وتتدهور أحواله نتيجة لكل أوضاعه ونتيجة لمغامرات حكامه ونتيجة لمساعدة أمريكا بالذات لهؤلاء الحكام المتخلفين في مغامراتهم التوسعية ضد الثورة الإيرانية، ونتيجة لانقلاب الرأسمالية العالمية وأمريكا بالذات على العراق نتيجة لمغامرته ضد الكويت بالذات. ويعيش الشعب العراقي في أحوال من البؤس والجوع والعطش وتفشي المرض في ظل الحصار المفروض عليه في أعقاب حرب تحرير الكويت. وفي النهاية يأتي من قاموا بتسليح العراق ليقوموا بنزع أسلحته، كل أسلحته، وجيشه، بالقوة، بهذه الحرب العدوانية المركبة، لأنها تعبر عن مراحل مترابطة، وإنْ بدت متباعدة، من العدوان المتواصل، بالحكم عليه بالتخلف الاقتصادي والثقافي، وبتسليحه لتدمير النفس وتدمير الآخرين، وبدفعه إلى الحرب ثم بمحاربته وتدميره في نهاية الأمر تمهيدا لإعادة تعميره وبنائه كنظام موالٍ لأمريكا.
إنها إذن حرب عدوانية مركبة تشنها قوة عظمى هي أمريكا ضد بلد شاركت بفعالية في إفقاره وضد نظام شاركت بفعالية في صنعه.
ومع ذلك فلا مفر من سؤال: هل كان يمكن تفادي الحرب مع أمريكا وتحالفها لتجنيب الشعب العراقي المزيد من البؤس والدمار والإبادة؟
وما دامت الحرب قد وقعت بالفعل ولا سبيل إلى وقفها قبل أن تحقق أهدافها فإن المغزى الحقيقي [لطرح هذا السؤال] يكمن فيما يلي: هل يمكن أن تتفادى شعوبنا وبلداننا ونظمنا حروبا مماثلة مع قوى كبرى لمجرد مساعدتهم على تدميرنا؟ هل يمكن الخروج بدرس مفيد، مهما يكن بالغ التواضع، من الحرب الأمريكية على العراق؟
وبطبيعة الحال فإن العنتريات والخطب الرنانة سهلة ولا تكلف صاحبها شيئا غير أنه لا يجيدها سوى أشخاص لا ضمير لهم: لا ينبغي الاستسلام، المقاومة حتى آخر رجل، الموت أفضل من الذل، قطع العلاقات، المقاطعة، الجهاد، إلخ. إلخ. وكل هذا معقول جدا ولكن عندما تفرض علينا حرب عدوانية فشلت كل محاولات تفاديها.
وبعيدا عن الخطب الرنانة ينبغي أن نفكر في مأزق حقيقي صرنا نجد أنفسنا فيه، وقد وصلنا إليه بصورة لا يمكن تفاديها حقا عبر دوامة من جدل الأسباب والنتائج. وأنا شخصيا لا أدعي مطلقا أنني أعرف سبيلا إلى الخروج من هذا المأزق الذي يبدو أشبه بالطريق المسدود، ولهذا صار النقاش الواسع من أوجب الواجبات.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالعراق فإنه يمكن القول إن المسئولية عما يحدث موزعة بنسب متفاوتة؛ بين الاستعمار الكولونيالي القديم ثم الاستعمار الجديد الذي فرض على العراق، وغيره من بلدان العالم الثالث، معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية"، فقد قام بإخراجنا من أنماط الإنتاج التي كنا نعيش فيها وأدخلنا في العصر الحديث مجردين من سلاحه الضروري المتمثل في التحديث الصناعي والثقافي والعلمي إذ فرض علينا هذه المعادلة التي يستحيل تقريبا الخروج منها ولم يخرج منها في الحقيقة سوى بلدان قليلة في شروط تاريخية نادرة. وقام الاستعمار القديم ثم الجديد بحراسة هذه المعادلة من خلال منعنا بالأيديولوچيات الزائفة وبالقوانين وبمختلف الممارسات من التحول إلى بلدان صناعية وهذا التحول الصناعي هو بطبيعة الحال شرط الانتقال إلى النمط السكاني الحديث. ونتيجة لضعفنا وابتسارنا والقهر المفروض علينا لم تتبلور لدينا في القرن التاسع عشر نظرية عميقة وجسورة للحاق بالغرب، باستهداف التحول إلى بلدان رأسمالية متقدمة كالغرب ذاته وقام الاستعمار القديم ثم الجديد بحراسة هذا التصور المتواضع عن اللحاق بالغرب. ولهذا فشلت تنمياتنا واستقلالاتنا، وصرنا بلدانا متخلفة مسماة بالنامية. وهنا تظهر مسئولية الحكام الجدد للبلدان المستقلة حديثا وأشباه الطبقات التي يمثلونها أو يعبرون عن مصالحها. وهنا نلقى ضيق الأفق الناتج عن التبني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للتصور الاستعماري عن أوضاعنا وحدود تطورنا. وظهر حكام مستبدون وجهلة تحت مختلف الأقنعة. وفي هذا المجرى أيضا ظهر صدام حسين وأمثاله محاطين بنخب وفئات طبقية يمثلون قيادة طبيعية لها وتمثل بيئة طبيعية لتفريخهم. وكان هؤلاء الحكام لا يخلقون ثروة جديدة ويدمرون أية ثروة قائمة ويجهلون حقائق العصر فيندفعون في مغامرات تكون وبالا على شعوبهم. وفي حالة العراق فإن البيئة العربية المحيطة بالعراق كانت من نفس النوع. وبدلا من الوقوف بحزم ضد مغامرة صدام حسين ضد الثورة الإيرانية وقف العرب الذين عاصروا تلك الفترة موقف التأييد والتشجيع والمساعدة إزاء المغامرة الصدامية بتأييد وعون من الولايات المتحدة بالذات. وتبددت أطماع صدام وأحلامه بأن يصير مثل شاه إيران كقوة عسكرية ومثل السعودية كقوة پترولية نتيجة لاقتطاع خوزستان ذات المغزى الجغرافي الإستراتيچي والمغزى الپترولي. وكانت المغامرة كما سبق القول لتعويض الثروة التي تم تبديدها على مغامرة التسلح ثم على مغامرة غزو إيران. وفتح فشل غزو إيران الباب أمام غزو الكويت، بنفس المنطق: منطق الحصول على غنيمة لا تقل عن الكويت بأرضها وشعبها وپترولها. وهنا حدث انقلاب في موقف العرب إذ وقفت أغلب البلدان العربية صفا واحدا وراء الولايات المتحدة الأمريكية ضمن تحالفها لتحرير الكويت. وحدث انقلاب لاحق إذ أن هذه الدول أخذت تذرف دموع التماسيح على الشعب العراقي وقامت بغارات على قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية وحاولت تعويم العراق أيْ النظام العراقي، نظام صدام حسين.
أيْ أن صدام حسين بحكم تاريخ بلاده صناعة استعمارية بريطانية، وبتسلحه صناعة أمريكية أوروپية سوڤييتية (روسية)، وبمغامرته الإيرانية صناعة أمريكية عربية، وبمغامرته الكويتية صناعة أمريكية، وبحرب تحرير الكويت بكل آثارها عليه وعلى بلاده من خلال حصار طويل مدمر صناعة أمريكية ودولية وعربية، وبمحاولة تعويمه صناعة فرنسية روسية عربية، ومن المنطقي تماما أن تكون الثمار المرة أن يتحول نظامه (وبالتبعية بلاده وشعبه) إلى نظام مستهدف، ويسهل ضربه سياسيا وأيديولوچيا أمام العرب والعالم.
وهنا يأتي حدث 11 سپتمبر 2001. فالإسلام السياسي الذي كانت الولايات المتحدة بالذات تتطلع حسب تعبير خبرائها إلى التضامن معه بدلا من العداء وتشجيع ثوراته في البلدان العربية، تناقض معها إلى حدّ ضربها بصورة أعادت إلى أذهانها ما لا يقلّ عن ذكرى پيرل هاربور، ضرب رمز قوتها الاقتصادية (البرجان) ورمز قوتها العسكرية (الپنتاجون) إلخ.. أيْ أن الوحش الذي أطلقته الولايات المتحدة وبعض البلدان العربية وبعض البلدان "الإسلامية" أخذ يهاجم صاحبه بشراسة مفزعة. وهنا انقلبت الولايات المتحدة انقلابا كان سيحدث في كل الأحوال ببوش واليمين وبدون بوش واليمين. صارت تعاني هاجس العدوّ الخفيّ الذي يمكن أن يضربها في مقتل. وتمثَّل لها هذا العدوّ ليس فقط في صورة الإسلام السياسي من قاعدة وطالبان والمنظمات والجهات الأخرى والدول التي تدعمها بالأيديولوچية السياسية الإسلامية والمال وكل أشكال الدعم، بل تمثَّل لها أيضا في تحالف ضروري منطقي بين كل القوى التي استخدمتها ثم أهملتها أو ضربتها الولايات المتحدة بالذات بما في ذلك صربيا ميلوسيڤيتش ولكنْ بوجه خاص صدام العراق. وعقدت الولايات المتحدة العزم على المواجهة الحربية الواسعة النطاق للتحالف الخفي الافتراضي أو المفترض ضدها.
وهنا كان من الجلي الواضح أن الهدف التالي لطالبان والقاعدة سيكون العراق وهذا ما حدث. ولم يكن حديث أسلحة الدمار الشامل لدى العراق سوى انعكاس لتصاعد تحالف العراق مع القوى الأخرى المعادية لأمريكا وهاجس انتقال أية أسلحة كيميائية أو بيولوچية قد يملكها العراق (وهي أسلحة واسعة الانتشار في كثير جدا من دول العالم) إلى منظمات إرهابية مثل القاعدة، وكان التاريخ الإرهابي للنظام العراقي، بما في ذلك احتجاز أكثر من عشرين ألفا من الرهائن الغربيين وتوزيعهم على المواقع العراقية الإستراتيچية في الفترة ما بين غزو الكويت وحرب تحرير الكويت، ومن الجلي أن صدام حسين كان يمكن أن يدوِّخ الولايات المتحدة أعواما وأعواما لو أنه تمسَّك بمنطقه الإرهابي واحتفظ برهائنه واستولى على پترول الأحساء في السعودية ورفض الانسحاب ووضع الولايات المتحدة في موقف العجز الكامل عن التصرف والاضطرار القهري إلى تنفيذ أوامر ونواهي صدام حسين إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وأعتقد أن المراكز الإستراتيچية الأمريكية والغربية صارت تدرك جيدا أن هذا السيناريو كان واردا في أعقاب غزو الكويت في أغسطس 1990، وأن الله سلَّم، إذ أعمى بصر صدام وصرف عقله عن التفكير في مثل هذا السيناريو المرعب، ولا أشك مطلقا في أن دوائر أمريكية وعربية بعينها ما يزال يقض مضاجعها مجرد أن هذا الاحتمال كان واردا ذات يوم، ولا أشك مطلقا في أنها كانت تدفع في اتجاه القضاء على هذا الاحتمال نهائيا. وهذا ما جعله حدث 11 سپتمبر بدوافعه المستجدة مهمة بالغة الإلحاح.
وإذا كان حدث 11 سپتمبر سببا مباشرا وراء هذه الحرب (غزو العراق بعد غزو أفغانستان)، وإذا كان ذلك الحدث قد جعل من ضرورة وضع نهاية حاسمة لحرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت) مهمة ملحة للغاية، وإذا كان من المستحيل تحقيق هذه المهمة إلا من خلال غزو شامل بهدف إقامة نظام موالٍ للولايات المتحدة في العراق، فإن هذا لايستبعد الأهداف الأخرى للحرب التي تبدو نتائج منطقية لا يمكن تفاديها لهذه الحرب.
غير أن هناك من يردّ على كل هذا بأن أمريكا هي التي استدرجت العراق إلى غزو الكويت وأعطته الضوء الأخضر (اللقاء الشهير بين صدام وجلاسبي)، وبأن أمريكا هي التي نظمت بنفسها حدث 11 سپتمبر باستخدام القاعدة أو باستخدام غيرها مع إلصاق التهمة بها، لفتح الباب أمام تنفيذ المخططات والحروب الإمپراطورية الأمريكية للسيطرة على العالم تحت رايات الحرب ضد الإرهاب.
على أنني أعتقد أن هناك مبالغة في قصة صدام وجلاسبي. وهذا لا يعفي الولايات المتحدة الأمريكية من مسئولية كبيرة في غزو العراق للكويت. وتتمثل المسئولية الأمريكية والغربية وكذلك مسئولية العديد من البلدان العربية عن ذلك الغزو في أنه كان امتدادا منطقيا لبناء الترسانة العسكرية العراقية بمساعدة أمريكا والغرب كما كان امتدادا منطقيا للمسار الذي حفره الغزو العراقي لإيران ضد الثورة الإيرانية بمساعدة الولايات المتحدة وأطراف دولية وعربية أخرى. كما أنني لا أصدق أن تضرب أمريكا نفسَها تلك الضربة الهائلة الخطرة التي حدثت في 11 سپتمبر لاتخاذها ذريعة للهجوم الإمپراطوري على العالم، وإنْ كنت لا أجهل وجود مؤلفات ونظريات في أمريكا والغرب حول السيناريو الأمريكي أو الإسرائيلي وراء حدث 11 سپتمبر.
وأعتقد أنه كان لا مناص من القضاء على نظام صدام حسين من الداخل والخارج، وربما كان يكفي لتحقيق ذلك مجرد الوقوف الحازم الفعال ضد هذا النظام والعمل المباشر من أجل خنقه منذ غزا إيران، كما غزا الكويت فيما بعد، كما ضرب شعبه ذاته بالأسلحة الكيميائية. غير أن هذا العمل كان ينبغي أن يكون عمل الشعب العراقي  والبلدان العربية، لا أن يكون عمل قوة عظمى ذات أطماع ومخططات دولية واسعة، منها السيطرة على العراق والمنطقة والعالم، هي الولايات المتحدة.
بهذا فقط كان يمكن تجنيب الشعب العراقي ويلات كل هذه الحروب التي تهدد بتدمير مستقبله ذاته. وأنا لا أجهل مدى الصعوبة التي كان ينطوي عليها تحقيق مثل هذه المحاولة من جانب الشعب العراقي والشعوب العربية، على أن الصعوبة الكبرى كانت تتمثل حقا في موقف البلدان العربية المؤيد للحرب العراقية ضد إيران تفاديا لما عُرف بالخطر الإيراني. وكانت بلدان الخليج ومنها الكويت في مقدمة مؤيدي صدام في تلك الحرب ضد الثورة الإيرانية. ثم كان هناك موقف البلدان والقوى العربية التي بدت مهادنة إزاء غزو صدام للكويت اعتراضا منها على تدخل أمريكا وحلفائها بزعم تحرير الكويت، وأسهم في الاتجاه نفسه الموقف الذيلي الذي وقفته أغلب البلدان العربية وراء أمريكا فيما سُمِّيَ بحرب تحرير الكويت إذ أن هذا أضفى نوعا من الشرعية العربية الرسمية على تفويض أمريكا مهمة خنق نظام صدام تمهيدا للقضاء عليه. ورأينا فيما بعد، كما سبق القول، محاولات دولية وعربية لتعويم نظام صدام حسين بزعم مساعدة الشعب العراقي الذي كان يعاني حصارا طويلا مهلكا.
غير أن هناك من يردّ على كل هذا بكل سهولة بتأكيد أن الولايات المتحدة، ما دامت تجد في إقامة نظام موالٍ لها في العراق سبيلا إلى تحقيق أهدافها في السيطرة على المنطقة وعلى العالم، كانت ستغزو العراق على كل حال، حتى بدون غزوه للكويت، حتى بدون أية أسلحة دمار شامل قد يمتلكها، حتي بدون استخدام بعضها ضد شعبه ذاته، وحتى بدون 11 سپتمبر واحتمال تعاونه خاصة بتلك الأسلحة مع إرهاب الإسلام السياسي ومع الجبهة الخفية التي تجمع ألدّ أعداء أمريكا الرسمية.
وهذا يعني أن كل سعي لتجنيب شعب العراق ويلات الحروب الأمريكية العدوانية ضده لم يكن ليجدي نظرا لأن ضرورات إستراتيجية بعينها هي التي تدفع أمريكا إلى غزو هذا البلد أو ذاك بغض النظر عن مروق هذا البلد أو حسن سيره وسلوكه.
غير أن الحرب ليست نزهة، لا بالمعنى العسكري ولا بالمعنى السياسي الدولي، كما توضح التجربة الراهنة ذاتها. ولو كانت أمريكا تتحرك بهذه السهولة المطلقة في العالم لكان هذا يعني أن سيطرتها مطلقة وأنها لا تحتاج إلى أكثر من إصدار فرمانات واجبة التنفيذ على بقية العالم من وقت لآخر.
بل كانت هناك "إمكانية ما" لمساعدة شعب العراق على تفادي الحروب المدمرة التي تحاصره وتدمره منذ بداية الثمانينات، بقيادة نظام صدام حسين، وبمواقف أمريكية وغربية وعربية تجعل تلك الحروب لا مناص منها في نهاية المطاف. ولا شك في أن الشعب العراقي كان سيعاني الكثير من محاولة عربية ودولية حازمة وثابتة ومتواصلة للقضاء على نظام صدام حسين، غير أنني أعتقد أنه عانى أكثر من سلوك النظام ذاته وما أفضى إليه من تدخلات خارجية مدمرة من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في العالم وفي المنطقة.
والحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها هي أنه لا يوجد أيّ حل سحريّ للمأزق الذي يواجهنا ويهدد بالقضاء على مستقبلنا. ذلك أن مسافة زمنية أو تاريخية تقاس من باب المجاز بالقرون والألفيات صارت تفصل بين البلدان الصناعية وبلدان العالم الثالث. وصارت معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية" تهدد بشيء لا يقلّ عن "انقراض" شعوب العالم الثالث خلال عقود قادمة وحالة أفريقيا خير بل شر شاهد على هذا. وفي هذا المسار المروِّع من تردي العالم الثالث تقوم بيئة الحرمان الاجتماعي والاقتصادي والخواء الفكري والثقافي بتفريخ تعبيرات أيديولوچية وسياسية دينية أو قومية أو قبلية أو غيرها تؤدي بسلوكها إلى تسارع مسار التردي وإلى تقريب ساعة الخراب العاجل.
ويمكن أن تتواصل هذه العملية من التدهور والتردي والمجاعات والحروب الأهلية والإيدز والانقراض حتى بدون الحاجة إلى أيّ استغلال جديد أو عدوان جديد من خارج العالم الثالث، من أمريكا أو غيرها، غير أن من طبيعة الأشياء أن تمتدّ آثار سلوك المحرومين المنبوذين المهمشين إلى عقر دار البلدان الصناعية، وهنا لا ينبغي أن يساورنا أيّ شك في أنهم لن يكتفوا بتركنا لمصيرنا المرعب بل سيبادرون إلى مطاردتنا، كنوع من البشر مرشح للانقراض، في كل مكان في العالم. ويجب أن ننتبه إلى أن هذا هو محتوى الحرب التي بدأت ضدنا قبل أن تكمل النيران التهام البرجين وأجزاء من مبنى الپنتاجون.
ولا سبيل إلى تفادي ويلات هذه الحروب سوى تحقيق تحديث صناعي وثقافي سريع يسابق الزمن، مع الاعتراف بضآلة مدة "الوقت بدل الضائع" الذي نعيش فيه الآن، وهذا التحديث ذاته هو الذي يمكن أن يحمينا من ظهور أمثال أسامة بن لادن وصدام حسين وكل أشكال التطرف الأيديولوچي السياسي، الديني أو القومي، وهو الذي يمكن أن يحمينا من الانقراض من خلال المجاعات والحروب الأهلية والإيدز.
ولا جدال في أن العقبة أمام هذا التحديث للعالم الثالث سوف تتمثل بالإضافة إلى نخبه ونظمه الحاكمة في الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة. وإذا لم نكن قادرين على بدء هذا التحديث قبل أن يفوت الأوان نهائيا فلن يجدي كل هذا العويل الذي سوف يلازمنا عندما تشن إسرائيل حرب الإبادة والتهجير ضد الشعب الفلسطيني أو عندما تغزو أمريكا أفغانستان أو العراق أو البلدان التي تليها في القائمة السوداء. 
               
          
       
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7
 
 
الرهان الحقيقي في مسألة السكان والتنمية[7]
 
 
في مقدمة بعنوان له مغزاه هو "الثالث المرفوع" (والمقصود بذلك هو العالم الثالث)، في كتابهما مصير العالم الثالث الصادر في فرنسا في 1993، يرسم المؤلفان الفرنسيان (توما كوترو وميشيل إسّون) صورة ناطقة لكابوس من الماضي القريب يلقي بظله القاتم على المستقبل، عندما يعلنان الحساب الختامي لخمسين سنة من التنمية في العالم الثالث، كما يلي:
يمكننا أن نعد على أصابع اليدين تلك البلدان التي كانت متخلفة في أعقاب الحرب العالمية الثانية ثم حققت الآن الأمر الأصعب: حققت أن تعيش الغالبية العظمى من سكانها في شروط لائقة من ناحية التغذية، والصحة، والتعليم. في آسيا؛ (الصين الشعبية وتايوان) وكوريا الجنوبية، في أمريكا اللاتينية؛ كوستاريكا و(بصورة مشكوك فيها أكثر فأكثر) كوبا. وبوسعنا أن نضيف في آسيا: هونج كونج وسنغافورة، وفي المحيط الهادي: الجزيرة الصغيرة موريشيوس، ويبلغ عدد سكان هذه البلدان الثلاثة الأخيرة جميعا أقل من 10 ملايين نسمة. في أفريقيا: ولا بلد واحد. وهناك بلدان هما جنوب أفريقيا وليبيا يقفان على رأس البلدان الأفريقية في تصنيف "برنامج الأمم المتحدة للتنمية" حسب "التنمية البشرية" غير أنهما لا يمكنهما أن يطمعا في الظهور في هذه القائمة.
وإذا كان هذا هو الحساب الختامي لخمسين سنة سابقة من التنمية في العالم الثالث، فمن المنطقي تماما إذن أن يصيبنا القلق على مستقبلنا. إن حاضرنا، كما لم نتصوره، وكما لم نُرِدْهُ، منذ عدة عقود، وكما فوجئنا به في نهاية تلك العقود من التنمية، يُنذرنا بأن أن مستقبلنا، كما لا نتصوره الآن، وكما لا نريده، وكما لا نريد أن نفاجأ به، قد يصبح حاضرنا غير المتوقع أو مصيرنا المحتوم بعد نصف قرن، أو ربع قرن، أو عشر سنوات، من الآن، حسب شروط المكان والزمان في مختلف بلدان وقارات العالم الثالث.
وفي ضوء الأخطار التي تحدق بمستقبل العالم الثالث، وتطرح مجرد بقائه المادي للتساؤل، والإخفاقات التي انتهت إليها في كل مكان فيه تقريبا برامج ومشاريع وخطط وسياسات التنمية، يبرز السؤال الذي صار من المستحيل تجاهله: ماذا سيكون مصير العالم الثالث، أيْ مصيرنا، نحن بشره وسكانه ومواطنيه، بعد عدة عقود أو ربما بعد عقد واحد (أو ربما اليوم أو أمس)؟!!
وإذا كان إخفاق مختلف بلدان العالم الثالث، بتلك الاستثناءات القليلة المحددة، في مجرد تحقيق معيشة لائقة لغالبية السكان في مجالات الغذاء والصحة والتعليم، يعني بالبداهة إخفاق التنمية، فلماذا أخفقت تنمية العالم الثالث؟
ورغم كل هذا، رغم الإخفاق الأكيد، ورغم أن الشروط العامة للتنمية كانت مواتية أكثر بكثير مما هي الآن أو في المستقبل المنظور، تظل الإجابة الجاهزة على كل سؤال يتعلق بتحديات المستقبل كما كانت دائما هي "التنمية" أو "التنمية المستدامة" أو "التنمية الطويلة الأجل".. ويبدو أن القوة السحرية لكلمة "التنمية"، بكل تاريخ وعبء إخفاقها، وبكل الشكوك حول طابعها الخطابي، تكمن في غياب البديل: فما هي الكلمة الأخرى الممكنة؟ وما هو بالأحرى الفعل الآخر الممكن؟ وهل هناك حقا بديل للتنمية سوى التنمية؟!
وهناك بطبيعة الحال تاريخ طويل من نقد التنمية في العالم الثالث. ولا شك في أن هذا التاريخ يُبرز قبل أية اعتبارات فنية دور طبيعة القوى الاجتماعية التي ظلت مسيطرة محليا وإقليميا وعالميا (من منظور كل بلد من بلدان العالم الثالث). غير أن هذه القوى الاجتماعية توطدت في كل مكان، عالميا ومحليا، ولم تعد سيطرتها على كل تنمية باقية وحسب، بل هي في الواقع أشد رسوخا من أي وقت مضى. ولأنه ليس هناك خلاف حقيقي حول الطبيعة السلبية للشروط العامة الراهنة والمستقبلية المنظورة للتنمية في العالم الثالث، ولأن التجربة الفعلية تؤكد ذلك كل يوم، فإننا نجد أنفسنا دوما أمام كل تلك المراثي التي تتفجع بلا انقطاع ـ حتى في تقارير ووثائق الأمم المتحدة ـ ليس على العالم الثالث وحسب، بل على الحياة بكاملها على الكوكب بأسره.
وهكذا نجد أنفسنا في أعماق دائرة شريرة: من ناحية، تبدو التنمية (كالاقتصاد أو الإنتاج أو التقدم أو الوجود ذاته، أو تطوير هذه الأشياء جميعا) طريقا بلا بديل. ومن الناحية الأخرى، يشكك الإخفاق التاريخي للتنمية في جدوى كل تنمية. ولن يكون سوى مخرج زائف أن نفترض أن التنمية ظلت تعاني من فلسفة ينبغي تخليصها منها لكي يكون مستقبلها رغم الشروط العامة غير المواتية، أفضل من ماضيها رغم الشروط العامة المواتية نسبيا. ذلك أن فلسفة التنمية في العالم الثالث، القديمة لكن المستمرة، لم تكن فلسفة إرادة حرة معلّقة في الهواء، بل كانت في التحليل الأخير من إملاء الشروط المحلية والإقليمية والعالمية للتنمية.
ومع أن فلسفة تنمية العالم الثالث كانت محصلة لشروط موضوعية وذاتية انتقلت من سيء إلى أسوأ، الأمر الذي يجعل "تجديد" تلك الفلسفة مستحيلا من ناحية وبلا جدوى من ناحية أخرى، فالحقيقة أن هناك جديدا يتمثل في أن انقشاع أوهام التنمية أمام كوارث شاملة وشيكة (وحتى واقعة) يخلق وعيا جديدا أمام وضع جديد لم يسبق للبشرية أن كانت فيه في يوم من الأيام. ولا شك في أن هذا الوعي بهذا الجديد في العالم الثالث لا يمدنا إلا بمجرد بصيص من الأمل، بحكم استمرار وتردي شروط التنمية، إلا أنه ينبغي التشبث بهذا البصيص من الأمل، وإنْ كان يخبو يوما بعد يوم.
على أن أي تعامل صحيح مع هذا الجديد، هذا الوضع الجديد، وهذا الوعي به، يقتضي أن نتسلح بإدراك واضح لفلسفة وشروط التنمية في العالم الثالث خلال العقود السابقة.
هناك بطبيعة الحال الإنجازات التاريخية للرأسمالية العالمية (الثورة الصناعية والثورات التقنية والتكنولوچية والعلمية)، والتي جعلت من الممكن أصلا أن تسير البلدان التي ظلت تقليدية حتى القرن التاسع عشر في طريق تطور يستند إلى تلك الإنجازات والثورات، في إطار التبعية الاستعمارية الكولونيالية في بداية الأمر، ثم بعد ذلك في إطار الاستقلال والاستعمار الجديد والتبعية الجديدة. وهناك أيضا واقع أن الغرب الاستعماري ظل يعمل على الاحتفاظ بالمستعمرات وأشباه المستعمرات في إطار متغير من التبعية، فظل يحافظ على احتكاره لإنجازاته التاريخية، وكانت قضيته (ولا تزال) الاحتفاظ بما أصبح يسمى بالعالم الثالث كملحق ومكمل وتابع، وعدم السماح له بأن يصبح رأسماليا بصورة جذرية كالغرب نفسه، وليس هنا مجال إيجاز تاريخ طويل ومعقد من نظرية وممارسة الغرب بهذا الصدد.
ويمكن القول إن المشكلة الكبرى، التي ظلت بمثابة عيب خلقي في التنمية كما فهمناها وطبقناها في العالم الثالث في العقود الماضية، كانت تكمن في واقع أن فلسفة تلك التنمية، والتي كانت محصلة لشروط السيطرة الغربية على العالم ولطبيعة القوى الاجتماعية المحلية، قامت (باستثناءات محددة) على الاختيار بعيدا عن الخيار الحقيقي الذي يطرحه العصر. وكان هذا الخيار، ولا يزال على الأقل على المستوى النظري، بين الرأسمالية والشيوعية. وكانت التنمية في العالم الثالث تقدم في أغلب الحالات على الرفض المعلن لكلا الخيارين. فالرأسمالية مرفوضة والشيوعية مرفوضة، ولا يتمثل الوسط الذهبي إلا في طبعات عديدة من الاشتراكية التي انتشرت ديماجوچيتها في كل مكان في العالم الثالث.
وفي تلك الوسطية ظل يكمن مقتل التنمية كما مارستها أغلب بلدان العالم الثالث. فلم تكن هناك غايات أو أهداف كبرى تضعها فلسفة هذه التنمية نصب عينيها، وظهرت إستراتيجيات تنموية تضع أفقا خانقا للتصنيع يتمثل في إحلال الواردات أو تنمية الصادرات، وبدا وكأن كل شيء قد تم إعداده وترتيبه سلفا من أجل أن يحلّ (إلى الأبد) محل المستعمرات وأشباه المستعمرات في عهد الاستعمار الكولونيالي عالم ثالث (ليس رأسماليا كالغرب الإمپريالي وليس شيوعيا كالشرق السوڤييتي كما كان معتقدا) في عهد الاستقلال. وبهذا يمكن القول إن تنمية العالم الثالث ظلت تفترض الاحتفاظ بالعالم الثالث كعالم ثالث، أيْ بدون أيّ طموح حقيقي إلى الخروج به جذريا من إسار طابعه الهجين اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا إلى الرأسمالية أو الشيوعية. لقد ظلت فلسفة تنمية العالم الثالث فلسفة لتأبيده وتخليده كملحق تابع للقوى المسيطرة على العالم (أيْ الغرب الرأسمالي المحل الأول) ولهذا ظل العالم الثالث حبيس وسطيته وثالثيته ورقصه المستحيل على سلم التطور التاريخي.
وبعبارة أخرى فإن تنمية العالم الثالث لم تكن بهدف تحويله من "محيط" إلى "مركز"، والقضاء بذلك نهائيا على انقسام العالم إلى مركز ومحيط، بل كانت تفترض دوما المحافظة على هذا الانقسام من خلال تنمية المحيط باعتباره محيطا وعالما ثالثا. وكان ذلك يبدو في كثير من الأحيان وكأنه مصلحة مشتركة مع الغرب، على أساس أن بديل تنمية المحيط باعتباره محيطا أفضل على كل حال من بديل الشيوعية، من وجهة نظر الغرب.
على أن تجارب تنمية العالم الثالث لم تكن تجري في انعزال عن المعسكر الآخر، معسكر النموذج السوڤييتي، بل كانت تجري في الحقيقة من خلال علاقات وثيقة من التعاون والعون مع الاتحاد السوڤييتي، على وجه الخصوص، في كثير جدا من الحالات. فهل كان من شأن ذلك أن يقلب طبيعة الفلسفة العامة لتنمية العالم الثالث، من تنمية في إطار التخلف، بعيدا عن التحديث الرأسمالي الجذري، صوب التحديث الشيوعي الجذري؟   
والحقيقة أن الاتحاد السوڤييتي كان يتعاون ويقدم العون في إطار الخيارات القومية الداخلية لبلدان العالم الثالث، في داخل حدود أهداف وأولويات الخطط الخمسية وغير الخمسية للتنمية في تلك الدول. ولهذا يمكن القول إنه ساهم بقوة في جعل تلك المحاولات للتنمية ممكنة، دون أن يكون من شأن تعاونه أن يغير شيئا من طبيعتها الوسطية والثالثية والمتواضعة والمحدودة. ومن ناحية أخرى، كانت الديماجوچية السوڤييتية عن الطبيعة الاشتراكية أو ذات التوجه الاشتراكي لكثرة من بلدان العالم الثالث تسير يدا في يد مع النظرية السوڤييتية عما كان يسمى بالتقسيم الدولي الاشتراكي للعمل، باعتبار أن متروپولات التصنيع الاشتراكية ضمن هذا التقسيم لا تفترض مستويات تصنيع عالية في بلدان العالم الثالث "الاشتراكية" أو "ذات الاتجاه الاشتراكي". وهكذا نلتقي مرة أخرى بالمركز والمحيط لكنْ باعتبارهما مركزا اشتراكيا متقدما ومحيطا اشتراكيا متخلفا. وقد ساعد كل هذا دون شك في تأبيد العالم الثالث باعتباره كذلك. ومع اتضاح الطبيعة الزائفة تماما لشيوعية الاتحاد السوڤييتي ومعسكره، ومع انهيار النموذج السوڤييتي في أغلب بلدانه، يتضح أن من المنطقي تماما أن تلعب الرأسماليات البيروقراطية للدول المسماة بالشيوعية أو الاشتراكية الدور الذي لعبته بالفعل في العالم الثالث، باعتبارها مراكز رأسمالية جديدة تتنافس مع السيطرة التقليدية للغرب على نفس "المحيط" المتخلف الواحد المتمثل في العالم الثالث.
وهنا يبدو من المنطقي تماما كذلك أن البلدان التي حققت شيئا له وزنه في مجال التنمية والنمو والتقدم والرأسمالية والتحديث، حتى صارت قادرة على الأقل على تأمين الضرورات الأساسية لحياة غالبية شعوبها (الغذاء والصحة والتعليم، كما سبق أن رأينا)، هي تلك البلدان التي ارتبطت صراحة بالرأسمالية والغرب والولايات المتحدة والياپان، كما هو الحال مع النمور أو التنانين الآسيوية الواردة في القائمة التي تتصدر هذه المقدمة، أو الصين الشعبية التي ارتبطت صراحة بالشيوعية والاتحاد السوڤييتي، على الأقل لفترة تأسيسية أولى. 
ومن الجلي الواضح أن الغرب لم يقم بتشجيع ورعاية هذا التحديث، تحديث التنانين أو النمور الآسيوية، إلا في إطار إستراتيچية لتطويق وعزل الشيوعية والاتحاد السوڤييتي، أيْ أن ذلك جرى في سياق اضطراري خاص بعيدا عن القاعدة المتبعة خلال أكثر من قرن، قبل وبعد الاستقلال، في بقية أنحاء العالم الثالث الحالي. كما أن الاتحاد السوڤييتي قدم عونه في المرحلة التأسيسية في تطوير وتصنيع الصين الشعبية في إطار المواجهة مع الغرب وتوسيع النفوذ والهيمنة على حسابه في سياق القطبية الثنائية الناشئة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولم تكن الدينامية الذاتية قوية في أيّ موقع آخر (من مواقع المساعدة السوڤييتية للتنمية في العالم الثالث) كما كانت في الصين الشعبية، كما أن المساعدة السوڤييتية، قبل الصدام والصراع، لم تكن بنفس الشمول واتساع النطاق وقوة الفاعلية في موقع آخر كما كانت في الصين الشعبية. 
وهكذا فإن التحديث الحقيقي الذي تم في تلك المواقع في جنوب شرق آسيا (الصين الشعبية والتنانين أو النمور الآسيوية) تحقق في علاقات وثيقة بالصراع بين المعسكرين، من خلال الهجوم الغربي والهجوم السوڤييتي المعاكس، ولم يؤد مع ذلك، بحكم الطبيعة الجوهرية الرأسمالية للمعسكرين، إلا إلى الرأسمالية، الرأسمالية الخاصة أو الليبرالية ورأسمالية الدولة أو البيروقراطية. 
ولهذا فإن من التفاؤل الساذج أن يتوقع أحد تحديثا مماثلا في زمن نهاية الحرب الباردة ووحدة المعسكر الرأسمالي وافتضاح الطبيعة الرأسمالية للنموذج السوڤييتي. وذلك بالإضافة إلى أن هناك شكوكا قوية لا تزال تحيط بالبلدان التي حققت هذا التحديث (الصين والتنانين الأخرى)، وهي شكوك لا تزال تستبقي هذه البلدان (حتى كمجموعة متميزة) داخل دائرة العالم الثالث، بعيدا عن الانتقال الأكيد بها إلى مستوى المراكز، بل مهددة إياها بانتكاسات قد لا تكون بعيدة.
وإذا كان ما يتبقى كاحتمال نظري هو الثورة الشيوعية، فمن المؤكد أن قوى هذه الثورة تعاني الآن أزمة عميقة في حركتها وفكرها، ولابد أن يمر وقت غير قصير قبل أن تنتقل هذه الثورة من سماء الاحتمالات النظرية إلى جدول أعمال التاريخ.
وهكذا تنغلق الآفاق على العالم الثالث. من جهة، التحديث الرأسمالي الجذري "المنقذ" يرفضه ويحاربه الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى تردي أوضاع ومقدرات وعقليات الرأسماليات والبرچوازيات المحلية، بحيث لا تدرك حتى أن ذلك التحديث الرأسمالي الجذري أصبح ضرورة حياة أو موت وأنه يستحق كافة المعارك التي ينبغي خوضها لتحقيقه في مواجهة أعدائه العالميين على وجه الخصوص. ومن جهة أخرى، ستظل الثورة الشيوعية معلقة، لفترة غير قصيرة، إلى أن تنمو قواها الاجتماعية والسياسية على أسس جديدة بعد استيعاب دروس الثورات الفاشلة.
وأمام إخفاق كافة المحاولات السابقة، من تنميات واستقلالات وثورات بكافة الأوصاف والتلاوين، وبعد عقود طويلة وحتى أكثر من قرن من هذه الحركات الاجتماعية والسياسية، بالآمال العريضة التي أيقظتها حول مستقبل البشرية بوجه عام والعالم الثالث بوجه خاص، أمام كل هذا يبدو أن كل هذه "اليوتوپيا" utopia المشروعة تماما تحل محلها الآن "الديستوپيا" dystopia ("نقيض اليوتوپيا") كما لم تخطر على بال كافة الألفيات الثورية الخلاصية المتفائلة طوال أكثر من قرن من الزمان. وإذا كان قد قيل إن هذا القرن العشرين سيكون قرن الاشتراكية أو البربرية، فربما كان ذلك يعني أنه يمكن أن نضع علامة التساوي بين البربرية، التي نرى تجلياتها الآن في كل مكان، و"الديستوپيا" التي تبشر بأن كافة هذه التجليات البربرية ما هي إلا المعالم الأولى لطريق حافل بالهلاك والجحيم والهولوكوستات، وإنْ بدأت في أفقر بلدان العالم الثالث، في أفقر قارات العالم الثالث.
ورغم أن التردي البربري أو "الديستوپي" للعالم الثالث لا يحتاج حدوثه إلى الانفجار السكاني أو إلى المزيد من تفاقمه، إلا أنه ينبغي أن نلاحظ أن المشكلة الديموجرافية الراهنة في العالم الثالث، وإن كانت نتيجة من نتائج السير الطويل في الاتجاه الخاطئ اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وبشريا، أيْ نتيجة من نتائج إخفاق التنمية والثورة في العالم الثالث، إلا أن هذه النتيجة تعود لتصبح السبب المباشر وراء اتخاذ أزمة العالم الثالث لهذه الأبعاد الكارثية، ووراء تسارع التردي إلى هذه الهوة المفزعة من الأوبئة والمجاعات والحروب الأهلية والحدودية والخارجية والخراب العاجل.
ويغنينا الفصل المعنون "السكان نعمة أم نقمة؟" من الكتاب المذكور عن الوقوف طويلا عند الانفجار السكاني. ذلك أنه يعالج معالجة سلسة ومعمقة في آن معا مشكلة العالم الثالث الديموجرافية من الألف إلى الياء، وكذلك علاقات هذه المشكلة مع التنمية وكافة نتائجها البعيدة المدى.
فلا داعي إذن لأكثر من إشارات سريعة إلى المسار الذي اتخذته صيرورة المشكلة الديموجرافية.
وترجع بداية الانطلاق الديموجرافي في العالم الثالث إلى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (في أوقات مختلفة للبلدان المختلفة). فقد أدت تطورات متنوعة إلى انخفاض معدل الوفيات (بدون انخفاض معدل المواليد المرتفع أصلا عبر القرون)، وكان هذا يعني بالضرورة الاتجاه إلى ارتفاع متصاعد لمعدل الزيادة السكانية. ولأن هذه التطورات لا تحدث دفعة واحدة بل بالتدريج، ولأن آثار هذه التطورات (من خلال تواصل انخفاض معدل الوفيات وتصاعد ارتفاع معدل نمو السكان) هي بطبيعتها آثار تراكمية تدريجية، من خلال هيكل عمري جديد بصورة جذرية سرعان ما يغدو في حد ذاته عامل زيادة سكانية عاصفة، فمن المنطقي تماما إذن أن يظل ارتفاع معدل نمو السكان معتدلا نسبيا لفترة من الزمن (قبل تبلور الهيكل العمري الجديد)، بالإضافة إلى الطابع الإيجابي بوجه عام لهذا الارتفاع في عدد السكان في حالة ارتباطه بإنتاج وإعادة إنتاج الموارد البشرية الضرورية لتطورات اجتماعية-اقتصادية تاريخية.
هكذا كان معدل نمو سكان العالم الثالث أقل من 1٪ طوال النصف الأول من القرن العشرين، لكنه ارتفع بين 1950 و1960 من 2٪ إلى 2.3٪، ثم انخفض بعد ذلك إلى 1.9٪ في الوقت الحالي.
وقد نشأ هذا التراجع الأخير لمعدل نمو السكان عن تراجع متزامن لمعدل الوفيات ومعدل المواليد. وإذا كان تراجع معدل الوفيات استمرارا لهذا الميل الناشئ عن تطورات بذاتها منذ القرن التاسع عشر في العالم الثالث، فإن تراجع معدل المواليد يعود إلى تطورات أحدث، اجتماعية واقتصادية وثقافية، بعيدا عن أوضاع وشروط وأعراف وتقاليد ارتفاع معدل المواليد عبر القرون.
على أن من الأهمية بمكان أن نعرف ما إذا كان هذا التراجع كافيا، وما إذا كان قابلا للاستمرار بإيقاع ملائم للتنمية والموارد. والواقع أن معدل نمو السكان لا يزال مرتفعا رغم تراجعه، كما أن استمرار التراجع سيكون بطيئا وتدريجيا للغاية حتى على الأمد الطويل، وذلك بتأثير الهيكل العمري المتميز بارتفاع نسبة الشباب في العالم الثالث. ويظل التراجع أقل من أن يقلل كثيرا من الضغط السكاني على الموارد والتنمية ومستويات المعيشة وحتى الأزمات المصيرية.
ولأن التراجع في ارتفاع معدل الزيادة السكانية يظل بذلك أقل من أن يقلب معادلات المشكلة السكانية رأسا على عقب، فإن الاستقرار الديموجرافي المنشود والمأمول حدوثه سريعا وعند مستوى منخفض للغاية لمعدل النمو السكاني، يغدو محصلة تراكمية تدريجية طويلة الأمد أكثر منه انقلابا ديموجرافيا سريعا أو قريبا بحيث يمكن إدخاله في الحسابات التنموية مهما كانت طويلة الأجل.
وهكذا، وكما يقولون مشروع الوثيقة الختامية لمؤتمر القاهرة الدولي للسكان والتنمية، المنعقد في القاهرة في الفترة من 5 إلى 13 سبتمبر 1994، فإنه:
نظرا لأن نسبة الشباب في التركيب السكاني هي عالية بشكل غير معتاد، فإن عددا كبيرا من الأمم سيشهد في العقود القادمة زيادة أكبر، حتى بالأرقام المطلقة، مما شهدته تلك الأمم حتى الآن.
وهكذا، وكما يقول نفس المشروع، يُحتمل أن تبقى الزيادة السكانية السنوية في العالم فوق رقمها الحالي (90 مليون نسمة) حتى 2015، ويواصل المشروع قائلا:
وبينما استغرق تزايد سكان العالم من بليون إلى بليونين 123 سنة، استغرقت الزيادات اللاحقة بمقدار بليون واحد إلى 33 سنة و14 سنة و13 سنة على التوالي. ويُتوقع ألا يستغرق الانتقال الجاري حاليا، من البليون الخامس إلى البليون السادس سوى 11 سنة وأن يكتمل بحلول 1998.
وسينقضي، بالتالي، وقت طويل قبل أن يصل سكان العالم إلى مرحلة الاستقرار. ويفترض أحدث تنبؤ للبنك الدولي (كما يقول الكتاب المذكور) استقرار سكان العالم عند مستوى 11.5 بليون نسمة بعد أكثر من مائة سنة من الآن.
ويؤكد المؤلفان الفرنسيان أنه في جميع الأحوال (أيْ حتى في حالة توسيع نطاق التعقيم الإجباري أو شبه الإجباري كوسيلة لمنع الحمل وحتى بالمزيد من الاعتماد على وسائل بربرية)، لن تغير أية سياسة لتحديد النسل مهما كانت صارمة المسار الراهن لارتفاع المواليد رغم انخفاض معدل الخصوبة. ويقرران أنه لا مفر من أن يجد الكوكب نفسه في مواجهة زيادة تظل كبيرة لسكانه، وبالتالي يستنتجان هذا الاستنتاج البالغ الأهمية، والذي يصدم كل أولئك الذين يعقدون آمالهم في حياة أفضل وتنمية أنجع على تراجع معدل النمو السكاني، ولكنه يحرر من الوهم ويحفز إلى البحث عن الاتجاه الصحيح الذي ينبغي السير فيه، يقول المؤلفان:
بدلا من نشر الأوهام بشأن إمكان وقف انتشار هذا الميل تماما، من الأفضل أن نحتاط له وأن نستعد لمقتضياته.
ويحذران:
وتبدو أفريقيا باعتبارها قارة فقدان التوازن الديموجرافي، وحتى وإنْ كان من المفارقات أن بالإمكان أن تطرح مسألة قلة السكان: ففي هذه المنطقة تهدد بمعاودة الظهور ضوابط على طريقة مالتوس مع المجاعات أو آفة الإيدز.
كما يحذران من أنه قبل استقرار سكان العالم عند مستوى تضاعُف عددهم الحالي، ستؤدي فترة الانتقال إلى توترات ممتدة، مستمرة، موزعة بصورة غير متساوية.
ويمكن القول إن إدراك العالم الثالث انتقل خلال العقود الطويلة السابقة، وبصورة منطقية تماما، من الاغتباط بالزيادة السكانية إلى تقدير أخطار تجاوزها لكل حجم رشيد، وكذلك إلى تحويلها إلى شماعة تعلق عليها كل إخفاقات بلدانه ودوله وحكوماته، وإلى عقد آماله على الحد من الزيادة السكانية باعتبارها سرّ إخفاق تنمياته. وإذا كان هناك في الماضي أولئك الذين ركزوا أكثر على التنمية كحل للمشكلة السكانية ذاتها، وأولئك الذين ركزوا أكثر على الحد من الانفجار السكاني لإزالة هذه العقبة من طريق التنمية، فإن فشل تصورات هؤلاء وأولئك يقود الآن إلى أوهام جديدة تمتزج فيها كافة الأوهام القديمة، وهكذا تتداخل أوهام الحد من الانفجار السكاني لإيقاف التردي الاجتماعي-الاقتصادي الراهن بكل الأخطار المصيرية التي ينطوي عليها استمراره، مع أوهام التنمية المستدامة أو الطويلة الأجل، بدون نقد جذري للتنميات السابقة وبدون العثور على مفتاح لحل لغز إخفاقاتها السابقة لتأمينها من الإخفاقات اللاحقة.
وانطلاقا من كل ما سبق، سأحاول إيجاز موقفي حول الرهان الحقيقي في مسألة السكان والتنمية، بل في مسألة مصيرنا الذي تهب عليه الآن عواصف مدمرة.
حتى بافتراض تراجع أكثر جذرية في معدل النمو السكاني، فإن الآثار المترتبة على تراكم المعدلات المرتفعة السابقة ستظل تفعل فعلها على مدى قرن من الزمان من الآن. وبالتالي فمع التشديد على أهمية تحقيق المزيد من الانخفاض في معدل النمو السكاني، ينبغي الاعتراف بأن التراكمات السكانية السابقة تندمج الآن مع عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر جذرية (تظل هذه التراكمات السكانية السلبية ذاتها في عداد نتائجها) لتصنع الإطار العام للمجاعات والحروب الأهلية والخارجية التي صارت تهدد العالم الثالث بالفناء.
وبدلا من توهم أن انخفاض معدل النمو السكاني سوف يحقق التوازن بين السكان والموارد ويمهد بالتالي لحياة أفضل لأجيال لاحقة على الأقل، وانطلاقا من أن المسألة "السكانية" ذاتها هي المحصلة الطبيعية لعقود طويلة من التطور في الاتجاه الخاطئ بعيدا تماما عن الاتجاه الصحيح، في فترات تاريخية تميزت بشروط أفضل بكثير من الشروط الراهنة للتنمية، ينبغي أن ندرك أن الحل الوحيد الذي يبدو مجرد بصيص من الأمل (رغم أنه المخرج الوحيد من هذا المأزق التاريخي) يتمثل في تحقيق تحديث جذري شامل (اقتصادي واجتماعي وثقافي) مع ملاحظة أن هذا التحديث الجذري لا يمكن أن يكون إلا رأسماليا (في غياب مؤقت لكن غير قصير للبديل الشيوعي)، ورغم أن هذا التحديث رأسمالي إلا أنه لن يتحقق إلا من خلال معارك كبرى لأنه يعني الاستقلال الحقيقي والتناقض مع مصالح مباشرة للرأسمالية العالمية.
وهكذا يتعدد أعداء هذا التحديث الجذري (الرأسمالي) المقترح. هناك أولا الغرب أو الشمال. وهناك ثانيا جشع ولصوصية الرأسماليات المحلية في العالم الثالث أو الجنوب وعدم ارتفاعها إلى مستوى المسئولية حتى عن مستقبلها في هذه البلدان، وكذلك عدم ارتفاع عقليتها إلى المستوى المطلوب لمجرد إدراك أبعاد الأزمة والحل. وهناك ثالثا (وربما أوّلا) عدوّ يتمثل في عامل الزمن، ذلك أن عوامل الانهيار الشامل والنهائي تكاد لا تترك زمنا بحيث إن العقد الذي لا نكسبه قد يضيع إلى الأبد.
هذا هو المشروع القومي الحقيقي، ليس لمصر فقط وليس للعالم العربي فقط بل لكل بلد ولكل منطقة ولكل قارة من بلدان ومناطق وقارات العالم الثالث. وبدون هذا التحديث الجذري والسريع، لا مستقبل للمشاريع القومية المزعومة بمختلف طبعاتها. كما أن المعركة مع كل أنواع السلفية وأيديولوچيات العصور الذهبية والعودات المستحيلة إلى الماضي في كل مكان في العالم الثالث، وبأسماء معتقدات وأديان ووثنيات وأيديولوچيات تطول قائمتها أو قوائمها، ستكون معركة خاسرة بدون هذا التحديث الذي يمكنه وحده أن يضع نهاية لمسار التردي والانهيار، وهذا المسار وحده هو المسئول عن نشوء وصعود تلك الأيديولوچيات السياسية المدمرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8
 
جنوب أفريقيا:
عصر ما بعد سياسة الفصل العنصري (الأپارتهيد)[8]
 
 
حدث تاريخي:
 
أخيرا... وبعد تاريخ طويل بشع (منذ وصول الهولنديين إلى هناك في 1652)، وصراع طويل مرير (تأسس المؤتمر الوطني الأفريقي في 1912)، ومفاوضات شاقة (طوال 4 سنوات منذ إطلاق سراح نلسون مانديلا في 1990)، وانتخابات ديمقراطية (27 أبريل 1994 والأيام التالية)... تنتهي "رسميا" سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا كسياسة رسمية ودستورية ظلت تقتضي، منذ وصول الحزب الوطني (الحاكم قبل الانتخابات الأخيرة) إلى الحكم في 1948، أيْ منذ قرابة نصف قرن، أن يعيش الأوروپيون (البيض)، والبانتو (الأفارقة السود)، والملونون (المتحدرون من آباء بيض وأمهات سود)، والآسيويون (الهنود)، في مناطق منفصلة، وأن يذهبوا إلى مدارس منفصلة، وأن يعبدوا في كنائس منفصلة ـ وكل هذا وغيره فوق أرضية تاريخية من الانفصال الجذري بين تقدم وثروة البيض وتخلف وفقر وحرمان السود، بين هذين العالمين المتجاورين داخل بلد واحد: عالم الرأسمالية العالية التطور في مناطق البيض والعالم الثالث (أو "الرابع") في مناطق أو معازل السود.
إننا نبتهج مع كل من ابتهجوا في كل مكان في العالم ونحن نشهد نهاية الأپارتهيد أيْ الفصل العنصري كسياسة. وما لم تقع نكسة لا يمكن استبعاد مجيئها من داخل جنوب أفريقيا، من جهات عديدة متربصة، لتضع حدا لهذا التطور ولتعيد عجلة التاريخ، وإنْ مؤقتا، إلى الوراء، سيكون قد تم قطع خطوة هامة على طريق تحقيق أمل من أعز آمال كل من ناضلوا في هذا العالم ضد نظام الفصل العنصري.
على أن بريق الحدث التاريخي، هذا الانتصار المحدد لكن المهم، لا ينبغي أن يخطف أبصارنا أو يعمي بصائرنا إلى حد فقدان الموضوعية الضرورية للوصول إلى إدراك واضح لطبيعة وحقيقة وأبعاد ما حدث في جنوب أفريقيا.
والحقيقة أننا في أزمنة رديئة، وهذه الأزمنة تمنع بحكم التعريف تحقيق انتصارات كاملة أو حتى شبه كاملة، وإنْ كانت تنطوي مع ذلك على آليات تنتهي بنا إلى حالة من الاستعداد النفسي لإسقاطات وأوهام بلا حدود.
وما من شك في أن الفصل العنصري بوصفه سياسة وأيديولوچية رسمية ودستورية مباشرة تتبناها الدولة ينتهي الآن رسميا، غير أن هذا لا يعني في حد ذاته نهاية كل فصل عنصري، فعلي أو قانوني، كما أنه لا يعني بطبيعة الحال، ومن باب أولى، القضاء على العنصرية بكافة أشكالها، فليس الفصل العنصري سوى شكل واحد من أشكال العنصرية وإن كان من أكثرها بشاعة وتدميرا.
وهناك بطبيعة الحال ذلك التراكم التاريخي الطويل للفصل العنصري الفعلي والقانوني، والذي بدأ منذ وصول الأوروپيين إلى تلك المنطقة من العالم في 1652، أيْ منذ ثلاثة قرون ونصف القرن. وعندما وصل الحزب الوطني (الحاكم قبل الانتخابات الأخيرة) إلى الحكم في 1948 وتبنى الأپارتهيد (الفصل العنصري) كسياسة رسمية وكأيديولوچية نوعية وكأساس دستوري، لم تنشأ هذه السياسة من فراغ بل كانت امتدادا (بأشكال جديدة) لسياسة البيض في حكم وعزل وفصل السود وغير الأوروپيين خلال ثلاثة قرون سابقة على هذا التاريخ. أما الآن فلدينا دستور جديد مؤقت، يُفترض أن يحل محله دستور دائم بأغلبية الثلثين بعد خمس سنوات، وجرت انتخابات ديمقراطية على أساس الدستور المؤقت، وفاز المؤتمر الوطني الأفريقي بأكثر من ثلاثة أخماس مقاعد البرلمان الجديد، وتشكلت حكومة وحدة وطنية. وهكذا يمكن القول إن سياسة الفصل العنصري قد انتهت رسميا، ما دام السكان بمختلف أعراقهم سيشكلون معا كمواطنين وعلى قدم المساواة (من الناحية الدستورية) دولتهم الواحدة.
لكن هل تبشر نهاية الفصل العنصري كسياسة وأيديولوچية للدولة بنهاية قريبة للفصل العنصري بتراكمه التاريخي الفعلي (والذي كان قانونيا أيضا منذ البداية) طوال قرون؟
سوف نرى من خلال متابعة هذا التقديم، وبالأخص من خلال قراءة المقالات المشار إليها، أن التفاؤل الشديد في هذا المجال ليس له أساس حقيقي.
 
جمهورية كونفيدرالية تحت سيطرة البيض:
 
من البديهي أن كل تفكير في تحويل جمهورية جنوب أفريقيا إلى دولة ديمقراطية عادية من الطراز الغربي تقوم على مبدأ المساواة في الحقوق بين مواطنين ينطوي على عقدة مستعصية تتمثل في أن هذه الدولة تتناقض مع مصالح الأقلية البيضاء كما يفهم قادتها العنصريون هذه المصالح. مثل هذه الدولة قد تفكر في إعادة بناء الحياة الاجتماعية والاقتصادية، انطلاقا من التأميم أو حتى انطلاقا من تطبيق نظام ضريبي جديد ملائم لمثل هذا الهدف. و"الضحية" في كافة الأحوال هي المصالح الاقتصادية للأقلية البيضاء التي تحتكر ثروات البلاد. بل يمكن أن يتحول مجرد البقاء الآمن لأقلية تضطهد السكان الأصليين على مدى القرون اضطهادا لا هوادة فيه ولا رحمة، إلى مشكلة مستعصية في حالة سيطرة المضطهَدين (بفتح الهاء) على الدولة. وأمام هذه المخاوف المنطقية للبيض وبالأخص لقادتهم، من السذاجة أن نتوقع أن تقبل الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، ومهما كانت الضغوط أو الأهداف، بدولة ديمقراطية لمواطنين متساوين في الحقوق. وباستبعاد مثل هذه الدولة من خيارات الأقلية البيضاء، لا يبقى أمامها، بافتراض استحالة استمرار نفس النظام السابق، سوى أحد أمرين: إما السعي إلى تقسيم البلاد وإما تفريغ الدولة الموحدة من مضمونها كدولة عادية.
ولا نريد أن نقف طويلا عند فرضية استحالة استمرار نفس النظام السابق. ذلك أن مصلحة الأقلية البيضاء في الإصلاح ترتبط بتفادي ويلات نظام الفصل العنصري، وبالرغبة في الحصول على جوائز التخلص منه. وهكذا يمكن القول إن الأهداف من وراء الإصلاح تتمثل في: 1- تصفية النضال الوطني الأفريقي بكافة أشكاله، 2- العلاقات مع البلدان المجاورة باعتبارها "المجال الطبيعي" للنمو والسيطرة، 3- العلاقات الطبيعية مع العالم بعد إلغاء العقوبات الدولية بسبب سياسة الفصل العنصري.
وفي ظل موازين قوى مواتية لقوى الاستعمار والرجعية في كل مكان في العالم، وغير مواتية للشعوب ولحركات التحرر الوطني، بدا للأقلية البيضاء أنه لا مناص من الإصلاح لتفادي النتائج السلبية لسياسة الفصل العنصري وللحصول على جوائز إلغائها، استغلالا لموازين القوى العالمية المواتية، واستغلالا لانهيار أوضاع الدول الأفريقية المجاورة، واستغلالا أيضا لواقع أن حركة التحرر الوطني في جنوب أفريقيا بقيادة المؤتمر الوطني الأفريقي بعيدة تماما (بحكم ضعفها العسكري وبحكم تداعي حلفائها إقليميا وعالميا) عن أن تكون في أوضاع تسمح لها بأيّ قدر من التشدد، أيْ استغلالا لواقع أن المؤتمر الوطني الأفريقي سيكون مستعدا، شأنه في ذلك شأن غيره من حركات التحرر الوطني في بقية أنحاء العالم، للركض وراء الفرصة الأخيرة، وراء تسويات الأزمنة الرديئة التي تنذر بأزمنة أكثر رداءة، وراء هذا الشر الذي لابد منه حسب تعبير السيد چو سلوڤو الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي لجنوب أفريقيا والمستشار الرئيسي لنلسون مانديلا، انطلاقا من أن الشعب الأسود لا يملك الوسائل اللازمة للإطاحة بالسلطة، ولأنه لن تكون لأيّ حرب أهلية طويلة الأمد نتيجة سوى أن تقود البلاد إلى الدمار (لوموند ديپلوماتيك، عدد يناير 1994، مقال پيير بوديه).
فما هو الخيار الذي كان ممكنا ومرغوبا من جانب الأقلية البيضاء والذي كان وراء مبادراتها ومفاجآتها التي لم تنقطع منذ سنوات؟
رأينا منذ قليل أن الدولة الواحدة ذات الأهلية الكاملة والسيادة الكاملة والتي يحكمها المقهورون على مرّ القرون كانت مرفوضة بطبيعة الحال من جانب الأقلية البيضاء. ولم يكن أمامها سوى أمرين: إصلاح يُعطي شكل هذه الدولة مع تفريغها من أهليتها وسيادتها وسلطتها كدولة أو السعي إلى تقسيم البلاد. وهنا ينبغي أن نلاحظ أن السيطرة مع التقسيم والفصل كانت تمثل إطار سياسة الفصل العنصري. أيْ أن هذا التقسيم الذي يحمي البيض داخل مساحاتهم الشاسعة وثرواتهم الواسعة وصناعتهم المتقدمة، ويعزل السود داخل مساحاتهم وجيوبهم الضيقة وبؤسهم الشديد، مع إدخال هذا التقسيم في إطار دولة واحدة تضمن السيطرة للبيض، هو نقطة الانطلاق قبل التسوية الأخيرة.
ولا غرابة في أن أيّ حل قابل للنقاش كان ينطلق من الحفاظ على هذا التقسيم المقدس. التقسيم بالتقسيم المباشر إلى دولة للبيض ودولة أو دول للسود والملونين والآسيويين، أو التقسيم من خلال الدولة الموحدة شكلا والمقسمة بحكم الأمر الواقع لحماية المناطق البيضاء من تجاوزات أية دولة كاملة الأهلية، ولحرمان المناطق السوداء والملونة والآسيوية من امتداد برامج التطوير الحقيقي إليها على أيدي أية دولة تملك الوسائل الضرورية لمثل هذا التطوير.
وبطبيعة الحال كان كلا الاتجاهين (اتجاه التقسيم المطلق واتجاه التقسيم مع السيطرة من خلال دولة مشلولة) قائمين داخل الأقلية البيضاء (وبعض حلفائها). أما اتجاه الدولة المركزية الموحدة فكان بطبيعة الحال اتجاه المؤتمر الوطني الأفريقي الذي تخلى عنه أمام معارضة الحزب الوطني ومختلف القوى السياسية والاجتماعية الممثلة للأقلية البيضاء.
وقد طالبت اتجاهات بيضاء يمينية متطرفة بأن تصل سلطات المقاطعات إلى حد تحييد الحكومة، وكذلك بمقاطعة مستقلة، بـ "وطن قومي"، للأفريكانر.
وكان شعار تحالف الحرية (الذي تشكل في أكتوبر 1993 كائتلاف يوحد جبهة شعب الأفريكانر والحزب المحافظ وحركة إنكاثا و"إدارات" بانتوستانات كوازولو، وبوفوثاتسوانا، وسيسكاي) هو شعار حق تقرير المصير غير القابل للتصرف لكل شعوب جنوب أفريقيا.
غير أن الحل الذي جاء به الدستور المؤقت الذي جرى إقراره في 22 ديسمبر 1993 هو الذي حظى في نهاية المطاف بموافقة القوتين الرئيسيتين: الحزب الوطني (الأبيض) والمؤتمر الوطني الأفريقي، ثم بموافقة أحزاب أخرى أبرزها إنكاثا فيما بعد. وهذا الحل هو الذي يحقق في الواقع مصالح الأقلية البيضاء ويحيطها بكافة الضمانات من خلال "دويلات" مستقلة ذات سلطات واسعة، تضمها جمهورية كونفيدرالية في حقيقتها لأنها كرئاسة وحكومة مجردة من السلطات والوسائل، مع ضمان السيطرة لإحدى هذه "الدويلات" أيْ "دويلة" البيض بحكم الأمر الواقع، أيْ بحكم سيطرتها على معظم مساحة البلاد، وعلى ثروات واقتصاد البلاد، وبحكم جيشها القوي الذي يلعب دور الجيش "الفيدرالي" في حقيقة الأمر.
وحسب الدستور المؤقت (انظر مقال پيير بوديه حول الكثير من المعلومات الخاصة بهذه النقطة) فإن "الأقاليم"، التي سوف تسمى من الآن فصاعدا "مقاطعات"، ستكون لها سلطات تنفيذية في عدد كبير جدا من المجالات: الزراعة، التعليم الابتدائي والثانوي، الصحة، الإسكان، الحكومات المحلية والتنمية الحضرية، التجارة، الشرطة. كما ستكون لها سلطات واسعة في المجال المالي.
وقد جرى إضعاف السلطة التنفيذية وفقا للنظام المعقد الذي أعده خبراء الحزب الوطني. فرئيس الدولة سيكون إلى جانبه نائبان أحدهما يمثل أحزاب الأقلية (بشرط حصولها على 20٪ على الأقل من الأصوات). وستعمل الرئاسة "بالإجماع". وكما كان متوقعا فقد تم تشكيل حكومة وحدة وطنية، ونتائج الانتخابات هي التي تفرض منح حقائب وزارية لكل حزب يحصل على 5٪ من الأصوات. ومثل هذا الاقتسام للسلطة قد يصيب الحكومة بالشلل.
وهكذا نجد أنفسنا إزاء مقاطعات ذات سلطات واسعة، ودولة "كونفيدرالية" مشلولة بحكم واقع أن سلطات المقاطعات إنما تتسع على حسابها، وبحكم قلة مواردها، وبحكم عجزها عن اتخاذ أية إجراءات اقتصادية جذرية، وبحكم أنها تتمثل في رئاسة جمهورية يقيد النائبان ونظام الإجماع دورها وفي حكومة متعددة الأحزاب وبالتالي حكومة وحدة وطنية وبالتالي مهددة بالعجز عن اتخاذ قرارات. ومقابل هذه الدولة، التي قد يصل نفوذها إلى أغلب مناطق أو مقاطعات السود والملونين والآسيويين، لكنه لن يصل أبدا إلى مناطق البيض، والتي لا تتمثل سلطات مقاطعاتها غير البيضاء في حقيقة الأمر إلا في عجزها الحقيقي وحرمانها من الموارد وانطوائها على بؤسها الأزلي، مقابل هذا نجد المنطقة البيضاء سليمة كما هي باقتصادها وجيشها لم تقم في الواقع سوى بإلقاء عبء حكمها "للمناطق" وحماية أمنها "من المناطق"، على كاهل قوى كانت هي ذاتها عبئا على أمنها وبالأخص المؤتمر الوطني الأفريقي، وفي مقابل هذا التنازل عن العبء ضمنت لنفسها ليس فقط استقلال وحماية مصالحها، بل كذلك سيطرتها على الدولة الجديدة، بحكم القوة الاقتصادية والعسكرية المتفوقة بلا منازع، وبحكم القيود الدستورية والواقعية على هذه الدولة الجديدة، كما ضمنت التعاون الواسع النطاق مع عالم إنما كان يعارض سياسة معلنة، وسيكفيه أنه جرى الآن إلغاؤها.
 
 
هل هناك مستقبل آخر؟
 
لقد وصل الهولنديون إلى جنوب أفريقيا في 1652، وأعادوا تسمية رأس العواصف (كما سماه قبلهم بزمن طويل أوروپيون آخرون) برأس الرجاء الصالح. وحتى منذ 1660 (أيْ بعد وصولهم إلى هناك بحوالي ثمانية أعوام) نجدهم يصدرون فرمانات مثل منع دخول غير الأورپيين إلى منطقة رأس الرجاء الصالح إلا بغرض التجارة (وسوف تتوالى الفرمانات والقوانين والدساتير التي تكرس التمييز العنصري والفصل العنصري إلى أن يصبح الأپارتهيد سياسة وأيديولوچية رسمية للدولة منذ 1948)، ونجدهم يتفوقون بسهولة على الهوتنتوت والبوشمان الذين سيختفون من جنوب أفريقيا تماما، ونجدهم يتوسعون شمالا منذ سبعينات القرن الثامن عشر، وهناك يلتقون، شمالي وشرقي نهر "جريت فيش ريڤر"، بالبانتو (السكان الأصليين) وتندلع حروب بين البوير (الهولنديين والذين سيكون اسمهم فيما بعد الأفريكانر) والبانتو طوال مائة سنة، وهي أشبه ما تكون بالحرب بين المستوطنين البيض والهنود الحمر في أمريكا. ولكنهم لا ينجحون نجاح غزاة العالم الجديد في الإبادة الكاملة أو شبه الكاملة للبانتو.
وهكذا يكون لدينا الهولنديون (البوير، الأفريكانر)، وسيأتي من أوروبا مستوطنون آخرون من موظفي الإدارة الاستعمارية البريطانية لجنوب أفريقيا، ولدينا البانتو الذين وصل إليهم الهولنديون (أخيرا، في أواخر القرن 18) واختفى السكان الأصليون الآخرون (الهوتنتوت والبوشمان)، ومن هؤلاء وأولئك، من الآباء البيض والأمهات المحليات، ستنشأ ذرية من الملونين، وسيأتي التجار والصناع الآسيويون أو الهنود لتستوطن البلاد جماعة ثقافية أخرى أيضا.
وفي خطوط تتقاطع مع كل هذا التنوع العرقي والثقافي، ومع الانقسامات الاجتماعية والطبقية، نشأ انشطار على الأرض الواحدة وفي البلد الواحد بين عالم رأسمالي متقدم لكن أبيض وعالم ثالث أو رابع لكن غير أبيض (أسود أو ملوّن أو آسيوي)، وكما استحال تآخي الجماعات العرقية والثقافية المتباينة بفضل أنانية الرجل الأبيض، استحال اندماجها في اقتصاد واحد بفضل احتكار الرجل الأبيض لإنجازاته الاقتصادية، لجعلها سلاحا للسيطرة والاستغلال وليس سلاحا للحياة الكريمة المشتركة التي تتآخى فيها الشعوب وتتطور. وهكذا يبدو الأبيض والأسود، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الرأسمالية وما قبل الرأسمالية، العالم الرأسمالي المتقدم والعالم الثالث المتخلف، يقفان ليس عبر القارات والمحيطات، ليس في مشارق الأرض ومغاربها، بل على أرض واحدة، على أقل من مليون وربع مليون كيلومتر مربع، على مساحة لا تزيد كثيرا عن مساحة مصر، وإنْ كانت من أغنى بقاع الأرض، هكذا يبدوان يقفان متباعدين وكأن كل شيء يدفعهما إلى هذا التباعد، بعيدا عن كل حل إنساني، وبعيدا عن كل تثاقف صحي.
وهذا المشهد، العنيد عبر القرون، ينطق بحقيقة أن التنافر كامن في النظام الرأسمالي وفي أنانيته وفي كافة شروره. والآن... ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين، القادم في أزمنة رديئة، حدث شرخ في الجدار يتمثل في هذا الانتصار المحدد ضد الفصل العنصري، لكنه لا يمس النظام الرأسمالي من قريب أو بعيد. فهل هناك مستقبل آخر تتآخى فيه هذه الشعوب عبر نضال مشترك، سياسي وإنساني وثقافي، ضد كل ما قهر هذه الشعوب بما في ذلك الشعب الأبيض ذاته؟ هل هناك مستقبل آخر تعيش فيه شعوب جنوب أفريقيا، ليس فقط بدون الفصل العنصري كفلسفة، وليس فقط بدون الفصل العنصري كحماية من الغرق في مستنقع العالم الثالث أو من انتقامه وبالتالي كضرورة للسيطرة عليه، بل كشعوب تهنأ جميعا بالحرية والرفاهية باعتبارهما حقا لكل شعب ولكل إنسان وللبشر جميعا؟
الحقيقة أن كل ذلك يمثل قضايا مستقبل طويل من المعاناة والنضال. أما الآن فإننا نشهد على الأقل شيئا بسيطا جدا لكن بالغ الأهمية رغم كل شيء: إنه هذا الاعتراف الرسمي من جانب الشعب الأبيض بأن هؤلاء السود الذين اضطهدوهم وأبادوهم وعزلوهم وفصلوهم واستغلوهم في كافة الأحوال، بشر مثلهم ومن حقهم أن يتمتعوا مثلهم بحقوق دستورية وانتخابية متساوية، ورغم أن الاعتراف الرسمي لا يعني بعد الواقع الفعلي، فلا مفر من أن نعترف بدورنا بأن هذا الانتصار على الفصل العنصري، أن هذا الاعتراف ببطلانه، أن هذا الاعتراف بالمساواة بين هذه الجماعات الثقافية والإثنية المتباينة، سيكون أو يمكن حقا أن يكون بداية وعي جديد وضمير جديد لدى البيض ولدى السود على حد سواء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9
 
 
                    ملاحظات على ملف "الرقابة في مصر"[9]
 
 
أثبتت السلطات المصرية، بمصادرتها عدد تشرين الثاني/كانون الأول (نوڤمبر/ديسمبر) من مجلة الآداب البيروتية، مصداقية ملف الرقابة في مصر الذي صودرت المجلة بسببه، رغم التراجع السريع عن المصادرة التي أثارت موجة من الرفض والاستنكار في مصر وخارجها.
غير أن ملفات الرقابة في مصر وغيرها من البلدان العربية، والتي بدأت بسوريا في عدد سابق، وجدت أيضا من "يُدينها" دفاعا عن الرقابة بزعم أن الآداب إنما تقدم "للسياسة الأمريكية" وفي "هذا التوقيت بالذات"، "أدلة إدانة للوطن العربي"؛ وكأن السياسة الأمريكية بحاجة إلى مثل هذه الأدلة من مجلة ثقافية!؟ وكأن الوقع الفعلي للعالم العربي لا يقدم هذه الأدلة لكل من شاء كل يوم وفي كل لحظة!؟
نحن، إذن، إزاء حكمة مؤداها أننا لا ينبغي أن نكشف عيوبنا أمام قوى تتربص بنا!! غير أن هذا يعني عمليا أن لا نكشف عيوبنا لأنفسنا، وبالتالي أن نعجز عن القضاء عليها، وأن نعجز عن النهوض للصراع مع القوى المتربصة من موقف أفضل. وهذه في الحقيقة حكمة الحكام والسادة والأغنياء الذين يتسلحون بكل أشكال ووسائل السيطرة الطبقية من رقابة وغيرها لوأد كل حقيقة تكشف طبيعة النظم الاجتماعية-الاقتصادية السياسية الأيديولوچية التي يقوم عليها استغلالهم وامتيازاتهم واستبدادهم.
وتتحدى هذه النخبة من كتاب مصر، من خلال هذه الأبحاث والشهادات، تلك الحكمة المضللة ليكشفوا حقائق الرقابة بمختلف أشكالها وتجلياتها في مصر، فيقدمون صورة نابضة بالحياة ورؤية عميقة مرهفة لأخطبوط القوانين والمؤسسات والأجهزة والأيديولوچيات التي تستند إليها هذه الرقابة.
وتنطلق هذه الإسهامات من منظورين في تناول الرقابة: منظور البحث الموضوعي كما تفعل الأبحاث الثلاثة الأولى؛ ومنظور التجربة الشخصية التي تقدمها تسع شهادات ترتبط بتجارب محددة مع الرقابة غير أنها قد تنطلق لتقوم أيضا بإطلالة أوسع على القضية المطروحة فتسلط أضواء وإضاءات تكشف الحصاد المر للرقابة.
وهذه الرقابة تمارسها شبكة من المؤسسات المتباينة تملك سلطات إدارية وقانونية ونفوذا وسطوة فوق القانون، من خلال الحظر والمنع والقصّ والمصادرة والقمع والتشهير والتشريد والتنكيل، وقد تتمثل هذه المؤسسات مباشرة في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية أو في المؤسسات التعليمية مثل جامعة القاهرة والجامعة الأمريكية أو في الأزهر الشريف وبالأخص مجمع البحوث الإسلامية به، أو في الصحافة القومية والحزبية والمستقلة، أو في القضاء الذي يطبق أحكام الدستور والقانون اللذين لا يضمنان الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان بل يسلبان حريات وحقوقا أساسية عن طريق مواد دستورية أو قانونية مباشرة، أو في التأخر الثقافي والأيديولوچي والسياسي عن العصر والحداثة لدى الجماهير العريضة ولدى أكثر فئات المثقفين بالمعنى الواسع للكلمة، أو في الرقابة الذاتيةautocensure  (ومن المفارقات أن هذه اللفظة لم تظهر في الفرنسية قبل عام 1960، وفقا لمعجم Robert، رغم قدم الواقع الذي يدل عليه المفهوم) التي تمثل التكيف المفروض مع أوامر ونواهي هذه المؤسسات ومع الأيديولوچية السائدة.
وبطبيعة الحال فإن المصادرات والحذوف والملاحقات الرقابية التي تتكرر الإشارة إليها في الملف إنما هي أمثلة ونماذج صارخة لظاهرة يومية واسعة النطاق وشاملة. والحقيقة أن الرقابة والرقابة الذاتية لا تقتصران على المنتجات الثقافية والأدبية والفنية والإعلامية؛ إنهما بالأحرى وجهان لتأمين امتثال السكان جميعا في حياتهم بكل جوانبها لمقتضيات السيطرة الطبقية ومراعاتهم الشاملة الدائمة لهذه المقتضيات من جهة، والمسارعة إلى قمع كل خروج أو تمرد على هذه المقتضيات من جهة أخرى. ذلك أنه يمكن القول إن الرقابة تتدخل لتمنع أو تقمع التمرد على الرقابة الذاتية التي لا تعدو بدورها أن تكون التكيف الذاتي من جانب المؤسسات أو الجماعات أو الأفراد مع مقتضيات السيطرة الطبقية التي تمثل الرقابة أداة من أدواتها.
 
1: أبحاث
 
 يقدم الملف ثلاثة أبحاث: الأول عن الرقابة على الصحافة المصرية والثاني والثالث عن الرقابة على المصنفات الفنية. وقد فات على الملف أن يخصص بحثا أو مقالا عن الرقابة على المطبوعات من أعمال أدبية وفكرية وسياسية تتخذ شكل الكتاب بالذات (قوانين المطبوعات وكذلك القوانين الأخرى التي تقيد حريتها: قانون 1909، قانون 1936، قانون 1995، قانون العقوبات، إلخ.)، ولا يغني عن مثل هذا البحث أو المقال واقع أن الشهادات التسع، وحتى قصيدة وفاء المصري التي تدور حول نشر ديوان، تنصبّ على كتبٍ لأصحاب الشهادات أو لغيرهم من الكتاب باستثناء قصة نُشرت في مجلة.
ويستعرض كارم يحيى الآليات الأصلية والمستحدثة التي جرى الاعتماد عليها عند إلغاء الرقابة الرسمية على الصحف في شباط/فبراير 1974، منها الدستور الذي يُجيز فرض "رقابة محدَّدة" في زمن الحرب أو في حالة الطوارىء علي الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام، ومنها نوعية القيادات الصحفية التي تختارها الدولة، وسيطرة الدولة من خلال اختصاصات مجلس الشورى في ملكية الصحف والإشراف عليها، والوضع شبه الاحتكاري للمؤسسات التي تملكها وتشرف عليها الدولة، بالإضافة إلى كل وسائل السيطرة الأصلية، والرقابة الذاتية التي تمارسها المؤسسات كما يمارسها الأفراد، وحشد من القوانين الجديدة المقيدة للحريات. ومن خلال شرح وتفسير آليات وأساليب ممارسة هذه الأنواع من الرقابة، ومن خلال استعراض العديد من الأزمات والمعارك والأحداث في هذا المجال يقدم المقال صورة نابضة بالحياة وشهادة دقيقة وجريئة عن عصر.
ويركز حسن عطية على مناقشة قوانين وممارسات جهاز الرقابة على المصنفات الفنية التابع لوزارة الثقافة ويعدد الأجهزة أو الجهات أو التدخلات الرقابية الأخرى: الأزهر وبالأخص مجمع البحوث الإسلامية في الموضوعات التي تمس الإسلام؛ الجهات الكنسية المسؤولة في الموضوعات التي تمس المسيحية؛ أجهزة الأمن العليا؛ النقابات المهنية؛ وسائل الإعلام؛ الجماعات الدينية غير الرسمية مثل جماعة الإخوان المسلمين؛ دور العادات والتقاليد والأعراف أيْ الثقافة أو الأيديولوچية السائدة. ومع تأكيد رفضه التام لقوانين وممارسات الرقابة القائمة، يحاول حسن عطية استشراف موقف إزاء الرقابة يجمع بين حرية الفرد وحرية المجتمع، كما سوف نرى.
ويطرح أحمد يوسف أسئلة الرقابة حول طبيعتها ووظيفتها ونتائجها والموقف منها، مفندا دعوى أنها تحمي الإبداع والمبدعين، ويصور التردي المأساوي للسينما المصرية الناشيء في جانب كبير منه عن الرقابة في كل مراحلها، بما في ذلك اللجوء إليها حتى منذ مرحلة القصة أو السيناريو لتفادي النواهي وبالتالي لتفادي المصادرة، بكل الخسائر الضخمة التي تعنيها المصادرة، الأمر الذي أدى إلى تفشي الأفلام السطحية وأفلام المواعظ الأخلاقية، وهي رقابة لا تقتصر على جهاز الرقابة على المصنفات الفنية بل تتدخل الأجهزة والجهات الخفية والسافرة، منها الحملات الصحفية والدعاوى القضائية المرفوعة من نقابات مهنية، ومنها الأزهر ووزارتا الدفاع والداخلية، ويؤكد أنه ليس هناك مجال لأيّ سينما حقيقية في المناخ السائد الآن في صناعة السينما في مصر. ويركز جانب كبير من مقال أحمد يوسف علي مسألة الموقف من الرقابة، كما سنرى أيضا.
 
2: الشهادات
 
قبل أن أحاول إيجاز ومناقشة بعض المشكلات التي تطرحها هذه الإسهامات بشأن الرقابة وكذلك بشأن المثقفين باعتبارهم ضحايا أو جلادين، سيكون من المناسب أن نحاول التقليب قليلا في أوراق هذه الشهادات التسع التي تقدم تجارب كانت بمعظمها أزمات مدوية بلغت أحيانا حدّ المأساة، فهي معروفة إذن بجانبها الأكبر، غير أنها مقدَّمة هنا بأقلام أبطالها أو ضحاياها، بأحاسيسهم إزاء اغتيال كلماتهم وأفكارهم وأعمالهم أو إزاء تسلل الرقابة إلى داخل ذواتهم لتقبع هناك فتراقب من المنبع، وبالمزيد من التفاصيل التي تضع النقاط على الحروف في حالات كثيرة، بالإضافة إلى تأملاتهم وأفكارهم وتحليلاتهم؛ في صلة مباشرة بتجاربهم الشخصية مع الرقابة أحيانا، وانطلاقا من تقييم موضوعي لأوضاع الرقابة في أكثر الأحيان.
ويستدعي كل حديث عن الرقابة في مصر أشباح العديد من الأعمال الفكرية والأدبية لرموز مصر في الأدب والفكر والثقافة. حتى نجيب محفوظ و"أولاد حارتنا"، حتى لويس عوض و"مقدِّمة في فقه اللغة العربية"، فلا أحد في مصر ـ مهما علا شأنه في الأدب والفكر ـ يعلو على الرقابة بكل أنواعها، وما تزال أصداء محاولة خنق كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين ذاته تتردد منذ ثلاثة أرباع القرن في أجواء فضاء الثقافة المصرية.
ونلتقي في هذه الشهادات بالمصادرة، وبالحذف قبل النشر، وبملاحقة من ينشر للغير، وبتفادي الرقابة مع الوقوع بالتالي في براثن الرقابة الذاتية، وبمعجزة تفادي الرقابة الذاتية ذاتها والوقوع بالتالي في براثن رقابات أخرى عديدة، وبرقابة المقررات الجامعية، وبملاحقة أساتذة الجامعات. وتتلاقى كل الرقابات بصورة كئيبة منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور، فلا أحد يتخلف عن الركب: لا جامعة القاهرة، ولا الجامعة الأمريكية، ولا الأزهر الشريف، لا القضاء، ولا الدستور، ولا أجهزة الدولة، لا الصحافة، ولا الأحزاب، ولا النقابات، ولا القوى الاجتماعية الأخرى وتعبيراتها السياسية الأيديولوچية وبالأخص الإسلام السياسي.
وكانت المأساة الأكثر ترويعا وخطورة هي تلك التي تعرض لها نصر حامد أبو زيد (93-1996) على أيدي جامعة القاهرة والإسلام السياسي والقضاء المصري والصحافة من التشهير والتكفير وإهدار الدم والتفرقة عن الزوجة والعزل عن التدريس من خلال الإعارة شبه الإجبارية الأشبه بالنفي وسحب كتبه من الجامعة.
ولم تتخلف الجامعة الأمريكية عن الركب حيث تعرضت سامية محرز (98-1999) لحملة واسعة النطاق من التشهير والافتراء ومحاولة العزل عن التدريس، على أيدي الجامعة والصحافة ومجلس الشعب، لقيامها بتدريس رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري ضمن نصوص أخرى، ولولا صلابة سامية محرز ومن وقفوا إلى جانبها لاكتملت المأساة. وكانت الجامعة الأمريكية أيضا (1998) بطلة مأساة أزمة تدريس كتاب "محمد" لمكسيم رودنسون التي انتهت إلى منع تدريس الكتاب وسحب نُسخه من مكتبات الجامعة وعدم التجديد للمدرس الفرنسي والتشهير به.
وقبل ذلك بكثير لم يتأخر الأزهر الشريف ممثلا في مجمع البحوث الإسلامية، مستعينا بمباحث أمن الدولة والنيابة العامة والقضاء المصري والصحافة، عن بذل جهود حثيثة انتهت إلى مصادرة كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" للويس عوض، أحد كبار نقاد ومفكري العالم العربي (1981) فكانت مأساة كبرى إذ جرى اغتيال وحشي للبحث العلمي الحر ولكتاب كان يمكن أن يكون عاملا من عوامل تطور علوم اللغة العربية التي لا يخدمها ولا يطورها أدعياء حمايتها بل يجمدونها ويغتالونها برقابتهم الظلامية الغليظة.
وكانت المصادرة أيضا من نصيب رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر (2000) بعد تشهير الإسلام السياسي بها ونشوب معركة سياسية حادة بينه وبين الدولة. ويقدم حمدي أبو جليل (بالجيم وليس بالخاء كما جاء في الملف) شهادته عن سجنه متهما بالترويج لازدراء الأديان باعتباره مسؤولا مع إبراهيم أصلان عن آفاق الكتابة التي نشرت "الوليمة"، كما كانت المصادرة من نصيب "الروايات الثلاث" في يناير 2001: "قبل وبعد" لتوفيق عبد الرحمن، و"أحلام محرمة" لمحمود حامد، و"أبناء الخطأ الرومانسي" لياسر شعبان الذي يقدم شهادته في الملف عن صدمة المصادرة التي انتهت به إلى قناعات جديدة، كما يقول، بشأن المؤسسات والمثقفين والثقافة وحريات الإبداع والمبدع والمجتمع.
والحقيقة أنني لا أرى مبررا حقيقيا لإشارات متكررة في الملف إلى قبول طه حسين بإجراء تعديلات في كتابه "في الشعر الجاهلي" باعتبار مثل هذا الموقف تنازلا أو تخاذلا مرفوضا. ألا يعني البديل عن هذا التنازل المحسوب حرمان الثقافة المصرية والعربية من ذلك الكتاب الذي كان عاملا من العوامل الحاسمة في تطورها الحديث والمعاصر!؟ وهل كان من الأفضل أيضا أن نحرم أدبنا المصري والعربي من تلك المجموعة القصصية الرائدة "حيطان عالية" لإدوار الخراط، التي رُوقبت ونُشرت بعد الحذف ولم تُنشر مكتملة إلا في الطبعة الثالثة!؟ وهل كان من الأفضل أن نحرم أدبنا من رائعة صنع الله إبراهيم: "تلك الرائحة" (1966) التي صودرت ولم يُسْمَحْ بنشرها إلا بعد حذف مشاهد جنسية وإشارات سياسية ولم تُنشر كاملة إلا في 1986!؟
على أن الشوڤينية الذكورية لا تتخلف بدورها عن الركب، وقد تعرضت لها نعمات البحيري التي تروي في شهادتها تجربة أليمة إذ عانت من هجوم شرس بدعوى أن قصة قصيرة نشرتها في مجلة إبداع (بعد الحذف أيضا) كتابة جنسية بذيئة، كما تقول. حوصرت الكاتبة وقوطعت وتعرضت للإدانة الأخلاقية والتحرش الجنسي ومن رقابة اجتماعية ذكورية وحوربت في مكان العمل وتقوضت حياتها الأسرية وكما تقول أيضا صارت تنفي وجودها حتى بين أهلها زاعمة أن كاتبة القصة نعمات بحيري أخرى وانتهت إلى العزلة، ولم تنقذها سوى مساعدة قوية من نجيب محفوظ (على يد سعيد الكفراوي) ومن جابر عصفور ولطيفة الزيات. كما تعرضت للشوڤينية الذكورية ذاتها بهيجة حسين التي تفادت رقابة الناشر بطبع رواياتها على نفقتها الشخصية في دار نشر خاصة، وتفادت رقابة الدولة بفضل ضعف التوزيع وبالتالي عدم انتباه الرقابة كما تقول، بل حققت معجزة تفادي الرقابة الذاتية بإرادة حديدية إذ كتبت ما أملاه قلبها وعقلها، غير أنها سرعان ما وقعت فريسة رقابة قاسية مريرة من آحاد الناس من نقاد وأصدقاء ومعارف ومن الأهل والأسرة، وهي بطبيعة الحال شكل من أشكال رقابة مناخ اجتماعي وثقافي بعينه، وهي أيضا رقابة ذكورية جاهلة تُسقط أحداث الروايات على كاتباتها كما تستنتج بهيجة حسين.
وتقدم سمية رمضان تجربة كاتبة لم تصادر الرقابة إنتاجها ولم تحذف منه شيئا وظلت تظن أنها لم تراقَب، غير أنها تكتشف مع المزيد من التأمل أن هذا الظن ذاته لم يكن سوى الرقابة ذاتها: إن الرقابة الذاتية خلقت "وَهْمَ" التخلص من رقابة الدولة والمجتمع.
ولا يفوتني التنويه بالقصيدة الاحتجاجية المتحدية اللاذعة "منشور سري" لوفاء المصري التي تهرب من "الرقابه الداخليه/ اللي غير الخارجيه/ اللي جوه الداخليه" فتقرر طبع "الديوان/العورة" في السر.
 
3: المثقفون والحرية
                          
كان لامناص من أن تطرح مسألة المثقفين نفسها في ملف عن الرقابة، و يوجب هذا وقفة عندها الآن قبل أن ننتقل إلى قضية الموقف من الرقابة.
وينطلق أحمد الخميسي في تقديمه للملف، وهو من إعداده، من رصده لما يعتبره تناقضا في موقف المثقفين إزاء الرقابة بين أزمة "الوليمة" وأزمة "الروايات الثلاث"؛ فهم يقفون، في رأيه، في الأزمتين مع الدولة ممثلة في وزارة الثقافة والحكومة: في الأزمة الأولى مع حرية الإبداع وضد المصادرة وفي الأزمة الثانية ضد حرية الإبداع ومع المصادرة. ويرى في عدم تماسك موقف المثقفين اليوم استمرارا لتردده وضعفه منذ بزوغ الفكر المصري الحديث (رفض علي عبد الرازق إعادة طبع كتابه "الإسلام وأصول الحكم"؛ قبول طه حسين بتعديل كتابه "في الشعر الجاهلي"؛ التزام نجيب محفوظ بعدم نشر روايته "أولاد حارتنا" في مصر إلى يومنا هذا).
على أننا نجد أنفسنا ـ وفقا لهذا التصور ـ ليس إزاء "تناقضٍ" بل إزاء "ثباتٍ" في موقف المثقفين، فهم مع الدولة في حركتها وفي الاتجاه نفسه رغم الصراع أحيانا، كما يقول أحمد الخميسي في موضع آخر في تقديمه. أما تناقض موقفهم إزاء حرية الإبداع أو إزاء المصادرة فإنه يمكن تفسيره في هذه الحالة بسهولة بتناقض موقف الدولة نفسها إزاءهما في الأزمتين، وهذا التناقض هو الذي سيكون من المطلوب تفسيره، بالإضافة إلى ضرورة البحث عن تفسير لهذا الارتباط الأزلي بين المثقفين والدولة.
وأعتقد أن من وقفوا مع الدولة في الأزمتين هم في المحل الأول مثقفوها، فالصحافة شبه الرسمية مثلا هي صحافة الدولة التي تخضع لإشرافها وتعمل بتوجيه منها، ولا غرابة في أنْ تتعاون معها أحزاب أخرى لها مثقفوها. وكان كل هذا في أزمة "الوليمة" بالذات في مواجهة قوى الإسلام السياسي ومثقفيها والأحزاب التي تعاونت معها وإن كانت رواية "الوليمة" قد صودرت على كل حال. أما في الأزمة الثانية فقد تحركت الدولة لتفادي معركة جديدة مع الإسلام السياسي وقامت بمصادرة "الروايات الثلاث" بما يتفق مع موقف الإسلام السياسي لسحب البساط من تحت أقدامه كما يقال، ووقفت الدولة ومثقفوها هنا أيضا مع الدولة ولا غرابة في هذا بطبيعة الحال.
ولسنا هنا إزاء المثقفين كمجموعة اجتماعية متجانسة واحدة ترتبط بطبقة واحدة فقط وتسعى إلى تحقيق نفس المصالح بل نجد أنفسنا إزاء الدولة التي كان لها مثقفوها الأكثر عددا والأعلى صوتا والأقوى سيطرة على وسائل القمع والإعلام في حين أن قوى الإسلام السياسي كان لها أيضا مثقفوها في جماعاتها المباشرة أوفي أحزاب تعاونت أو تضامنت معها في معركة "الوليمة". ولهذا فليس من شأن تناقض أو تضارب مواقف المثقفين أن يؤدي إلى أيّ دهشة أو صدمة أو مرارة.
غير أن كل هؤلاء ليسوا هم المقصودين في الملف في أغلب الأحيان بتعبير المثقفين. المثقفون في الملف هم تلك النخبة أو الجماعة الواسعة من المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين والنقاد في مجالات الفكر والسياسة والأدب والسينما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية وغيرها. ورغم تعدد الانتماءات الطبقية والتوجهات الأيديولوچية لهؤلاء المثقفين أيضا، ورغم أنهم لا يتخذون موقفا موحدا من كل شيء وبصورة مستمرة، إلا أن من الظلم أن نزعم أن هؤلاء المثقفين لم يقفوا ضد المصادرة ومع حرية الإبداع في الأزمتين، ولا ينبغي أن ننسى أن الدولة صادرت رواية "الوليمة" ولم يقف وراءها هؤلاء المثقفون. وكان وقوفهم ضد المصادرة في الأزمة الأولى أقوى بما لا يقاس بحكم طبيعة المعركة؛ ليس لأنهم مرتبطون بالدولة، بل لأنهم ضد المصادرة سواء على أساس قوانين وأجهزة الرقابة والقمع التي تمثل الدولة أو على أساس مقتضيات أيديولوچيات الإسلام السياسي. أيْ أنهم وقفوا في الأزمة الأولى مع حرية الإبداع ضد المصادرة التي طالب بها الإسلام السياسي وقامت بها الدولة!! وقد وقف هؤلاء المثقفون مع الحرية ضد المصادرة بقوة عارمة في الأزمة الأولي بحكم ضخامة حجمها وبحكم مغزاها السياسي وبمبادرة أقل في الأزمة الثانية بحكم حجمها الأقل وبحكم ملابسات أحاطت بها. وعلى كل حال فإن مستوى نشاط هؤلاء المثقفين في سبيل الحرية وثيق الارتباط بمستوى حركة قوى المجتمع ككل في سبيل الحرية الاجتماعية والسياسية.
ويميل أحمد الخميسي إلى الرجوع بهذه الظاهرة التي يرصدها، ظاهرة الضعف التاريخي لموقف المثقفين إزاء الدولة، إلى خروجهم من عباءة الدولة في عهد محمد علي لخدمة الأسطول والجيش والتصنيع ومختلف المهن، وإلى ارتباطهم إلى يومنا هذا بصلة الرحم هذه في ظل مجتمعات قامت فيها الدولة دائما بالدور الأساسي مستخدمة المثقفين أداة لنشر سياستها فيما تشبث المثقفون بالدولة أساسا لاستمرار وجودهم من الناحية المادية والأدبية.
ولاشك في أن الإنتلچنسيا، أيْ المثقفين بالمعنى الواسع للكلمة، ينتمون، رغم استقلالهم النسبي، إلى الدولة والطبقة الحاكمة وفي أنهم مرتبطون بهما بل مندمجون فيهما، بل هم الدولة، ليس فقط حيث يكون للدولة دور أساسي بل في كل الأحوال. فهؤلاء الإنتلچنسيا الذين تخلقهم الطبقة في مجرى نشأتها وتكوينها وصعودها وسيطرتها إنما تتكون منهم مختلف أجهزة ومؤسسات الطبقة الحاكمة ودولتها، وهم أدوات قمعها وسيطرتها، وهم الذين ينظمون وظيفتها الاقتصادية، ووظيفتها في الهيمنة على المجتمع المدني، ووظيفتها في الإكراه بواسطة الدولة.
وهنا يمكن القول مع جرامشي Gramsci   إن كل البشر مثقفون intellectuals حيث لا يمكن استبعاد أيّ نشاط بشري من مشاركة العقل (أو الذهن أو الفكر أو المعرفة التقنية أو الثقافة)، ولا يمكن فصل homo faber أيْ الإنسان صانع أو حامل الأدوات عن sapiens homo أيْ الإنسان العاقل (أو العارف أو المفكر أو المثقف)، غير أن البشر لا يمارسون جميعا وظيفة المثقفين في المجتمع. ولهذا فرغم أنه لا يمكن الحديث عن شيء اسمه "غير المثقفين" intellectuals-non لأنه لا وجود لهم فإنه يمكن الحديث عن المثقفين، وهم الذين يقومون بالأنشطة الفكرية أو الثقافية أو المهنية أو العلمية أو التقنية، إلخ.، في مجموع نسق العلاقات التي توجد في إطارها هذه الأنشطة (وبالتالي البشر الذين يجسدونها) ضمن الكل المعقد للعلاقات الاجتماعية. وهنا يبرز مفهوم المثقفين العضويين الذين تخلقهم الطبقة الصاعدة أو السائدة في مجرى نشأتها وتطورها وسيطرتها كطبقة. وهناك بطبيعة الحال مفهوم المثقفين التقليديين الذين كانوا من قبل مثقفين عضويين لطبقات دالت دولتها. وهكذا ستكون لدينا (إلى جانب المثقفين التقليديين) مجموعات أو فئات أو قطاعات بالغة التنوع من المثقفين العضويين؛ أولئك الذين ينتمون ـ انطلاقا من أوضاع ومواقع ومنطلقات متنوعة ـ إلى الطبقة الحاكمة، وأولئك الذين ينتمون إلى طبقة اجتماعية تتكون كطبقة لذاتها واعية بمصالحها الكبرى، وأولئك الذين ينتمون إلى هذه أو تلك من الطبقات أو الفئات الاجتماعية الأخرى ذات المصالح المتميزة والأيديولوچيات المتنوعة.
غير أننا رأينا أن هؤلاء المثقفين أو الإنتلچنسيا ليسوا المقصودين في الملف ولهذا ينبغي أن نراهم بين المثقفين بالمعنى النوعي الضيق (المفكرون والأدباء والفنانون) من خلال انتماء قسم منهم إلى الطبقة والدولة و/أو السلطة كمثقفين عضويين، وانتماء قسم آخر إلى الطبقة العاملة كمثقفين عضويين شيوعيين أو نقابيين، وانتماء أقسام غيرهما إلى المثقفين التقليديين أو إلى المثقفين العضويين لقوى ذات أيديولوچيات تقدمية تحاول السير بالعالم إلى الأمام، أو رجعية تجاهد في سبيل العودة به إلى الوراء. ينطلق ياسر شعبان من تغير مواقف الأحزاب السياسية والمثقفين 180ْ بين هوجة "الوليمة" وهوجة "الروايات الثلاث"، ويتحدث عن توتر أشبه بشعرة معاوية كأدق توصيف للعلاقة بين السلطة والمثقفين في ارتيابهما ونفورهما المتبادلين غير أنه يقول إن هناك بُعْدًا آخر هو احتياج السلطة إلى المثقفين في سياق مجابهة مع قوى يمينية متطرفة تسعى إلى الإطاحة بها، إلخ.، إلخ.،. ويتطلع ياسر شعبان إلى حرية المجتمع والتغيير الحقيقي. وأعتقد أنه يوجد هنا التباس في المقصود بالمثقفين، وإنْ كان أميل إلى المعنى الضيق المنحصر في المبدعين في مجال الثقافة. أما حمدي أبو جليل فإن صدمة "الوليمة" تدفعه إلى أن يرى في المتمردين من أمثال حيدر حيدر أصحاب تمرد مفتعل يقفون على أرضية واحدة من التقاليد والمحافظة مع خصومهم المتمثلين في الإسلام السياسي مثلا، أما المتمرد الحقيقي فإنه، في رأيه، لا يصدم أحدا في الأغلب الأعم حتى لو خاض في أعزّ معتقدات الناس وأرسخها، مع أنه كان يرجو (كما جاء في الشهادة نفسها) أن يصبر "المتمردون الأصلاء"! على تبعات صدام حاسم يُنهي الموضوع إلى الأبد!
وبدلا من الإسراف في جلد الذات بتصور طاقة لا يملكها ولا يمكن أن يملكها المثقفون وحدهم، بنزعة إرادية، ثم رصد تخاذلهم واستكانتهم بالقياس إلى هذه الطاقة المتوهمة، ينبغي أن نلتفت إلى الرسالة التاريخية الكبرى التي حققها المثقفون بالمعنى الواسع المتمثل في الإنتلچنسيا وبالمعنى الضيق المتمثل في الكتاب والأدباء والفنانين، إذ أنهم هم الذين أعادوا خلق الأمة العربية التي كانت غارقة في تأخر وظلام القرون الوسطى حتى خلال القرن التاسع عشر(وخلال عقود طويلة في القرن العشرين في مناطق من عالمنا العربي) فأخرجوا إلى الدنيا أمة جديدة كان المثقفون هم الذين منحوها ـ في سياق تفاعل عميق مع حركة الشعوب ومع التطور الاجتماعي الاقتصادي وفي اتصال بالعالم والعصر الحديث ـ وعيها بنفسها وبالعالم وبثقافتها الحديثة ودولتها الحديثة. وقد تطلعت هذه الأمة ذات يوم إلى اللحاق بالغرب والعصر الحديث والحضارة الرأسمالية. غير أن هذه الأمة الجديدة التي تكونت، شأنها في هذا شأن سائر المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، في إطار سيطرة تلك الحضارة التي لم تتمثل رسالتها مطلقا في انتشارها كحضارة إلى مناطق جديدة من العالم بل تمثلت دوما في إخضاعها لسيطرتها واستغلالها ونهبها، لم يكن بمستطاعها اللحاق بالغرب والحضارة الرأسمالية كإطار للنضال في سبيل حضارة مستقبلية هي البديل الوحيد الذي يحلم به البشر عبر تصورات بالغة التنوع منذ فجر تاريخ المجتمع الطبقي الاستعبادي. وهكذا انتهت عقود طويلة من محاولات اللحاق إلى إخفاق الاستقلالات والتنميات وكل محاولات الفكاك من إسار معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية" التي فرضها الغرب الاستعماري، والتي صارت تنذر الآن بكوارث لم يسبق لها مثيل في التاريخ.
 
4: مع الحرية ضد الرقابة
 
في عالمنا الثالث اتخذت السيطرة الطبقية (وهي طبقية على سبيل المجاز لأننا إزاء أشباه طبقات في مناطق هي مجرد ساحات مفتوحة لسيطرة ونهب واستغلال ونفوذ الحضارة الغربية) أبعادا مخيفة من إنكار أبسط الحريات والحقوق على الشعوب، وينطبق هذا بطبيعة الحال على مصر وغيرها من البلدان العربية مع اختلافات كمية مهمة في بعض النواحي، ليس فقط في مجال الرقابة بكل أنواعها، بل كذلك في كل وسائل هذه السيطرة الطبقية.
وإذا أخذنا الرقابة ليس بمعنى الرقابة المباشرة قبل أو بعد النشر أو العرض، بل كرقابات هي محصلة السيطرة الطبقية والأيديولوچيات والشوڤينيات الاستعمارية والرجعية والظلامية، فإنها موجودة في كل مكان في العالم، في الشمال والجنوب، في الغرب والشرق، وفي مختلف الثقافات والحضارات القائمة الآن، فنحن إزاء دول استبدادية جبارة ورأسماليات احتكارية جبارة تتصرف في وسائل بالغة الضخامة للقمع تستخدمها في إحكام الرقابة والرقابة الذاتية داخل بلدانها وخارجها.
ولا يجوز أن نزعم أن مصر أو سوريا أو المغرب أو أيّ بلد عربي يمارس الرقابة والقمع بكل أنواعهما في مقابل عالم حر تنعم شعوبه بالحريات والحقوق والازدهار. إن هذا سيكون بلا شك تزييفا لا يغتفر، وأسلوبا صبيانيا في مشاكسة أنظمتنا الاستبدادية حقا. غير أن كل شخص له ضمير حي لا يمكن إلا أن يقف ضد القمع بكل أشكاله وضد الرقابة بكل أشكالها في البلدان العربية، وكذلك في كل مكان في العالم، ولا جدال في أن الحريات (النسبية أيضا) التي تحققت في بلدان الشمال إنما كانت محصلة نضالات وتضحيات، وهي تظل في خطر، بل صارت الآن مهددة بأخطار كارثية، مالم تتواصل النضالات والتضحيات.
وبدلا من الخوف القاتل من الدعوة إلى الحرية وكأنها الفوضى، أو كأن من المحتوم أن تفضي إلى الفوضى، ينبغي أن نطالب باستقامة بإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات والحقوق الديمقراطية، وليس فقط القوانين أو المواد القانونية المتصلة  بالرقابة وحدها.
وهنا نعود إلى أحمد الخميسي الذي يؤكد بإدراك عميق لأبعاد المشكلة المتصلة بالكل الاجتماعي-الاقتصادي استحالة تصوّر "جزيرةِ حريةٍ للأدب" وسط بحر من القمع الاجتماعي والسياسي، مؤكدا أيضا وقوفه المبدئي ضد كل أشكال الرقابة في سياق إطار أوسع من الحريات الديمقراطية، وهو يتحدى مع خليل مطران تكسير الأقلام وتقطيع الأيدي وإطفاء الأعين وإخماد الأنفاس فهي جميعا لا تجدي في منع مقاومة قهر الإنسان لأخيه الإنسان.
على أن الملف يحمل أيضا آراء أخرى تقف مع الحرية بنفس العزيمة والإصرار غير أنها تثير أفكارا جديرة بالاحترام والنقاش وصولا إلى الاتفاق أو الاختلاف بشأن بعض التحفظات المستنتجة منها.
ويحاول حسن عطية استشراف موقف إزاء الرقابة يجمع بين حرية الفرد وحرية المجتمع. وهو يشير إلى أن البعض يرى ضرورة إلغاء الرقابة وفقه المصادرة إيمانا منه بأن حرية التعبير مطلقة، بينما يرى بعضٌ آخر أن الرقابة شرّ لابد منه (على سبيل المثال: حماية النشء من أفلام الپورنو التي تصل عبر الإنترنت). ويرى أيضا أن مبدأ الرقابة لا ينبغي أن يكون مطلقا كما أن مبدأ الحرية لا ينبغي أن يكون مطلقا، لأن حرية الفرد في التعبير لا تنفي حق المجتمع في حماية ذاته، ولا تنفي حرية الآخر في التعبير عن رأيه بهدف التحاور الخلاق لصالح تقدم المجتمع. وهو يرى أن الموافقة على وجود الرقابة لا يعني الحجْر على الإبداع بقدر ما يشير إلى أهمية حماية المجتمع من الفاسد من الإبداع. ومن هنا ضرورة إعادة النظر في القوانين المنظمة للرقابة المجتمعية ليصبح للمثقف دور فعال فيها وليصير جهاز الرقابة ذاته مجلس حكماء من المثقفين الجادين. غير أنه يعود فيشير إلى أنه لا يمكن ضمان حكمة هؤلاء المثقفين مادامت الدولة هي التي تختارهم وهي التي تدير الرقابة، ويؤكد من جديد أن الرقابة إنما هي بالفعل شرّ لابد منه في مجتمعاتنا العربية في عصر يغزونا فيه الآخر بقوته التكنولوچية وتُدار فيه مؤسساتنا الثقافية والتعليمية بعقول مستلبة.
ويفند أحمد يوسف زعْم كل مؤسسة رقابية أنها لا تراقب الإبداع بل تحميه أو أن الرقابة "تقمع وتحمي" في آن واحد، ويستعرض الحصاد المر الذي تعاني منه السينما المصرية من الرقابة سواء من المنبع أو في مرحلة القصة أو السيناريو تفاديا لخسائر المصادرة بعد الإنتاج، كما سبق أن رأينا. ويشير أحمد يوسف إلى أنه رغم بريق الدعوة إلى إلغاء الرقابة فإن هذه الإجابة الجاهزة على سؤال الرقابة إنما هي بالغة التبسيط لقضية شائكة تحتاج إلى طرح الأسئلة الصحيحة وليس إلى الإجابات الجاهزة. ويفند أحمد يوسف حجة حماية "النظام العام" عن طريق الرقابة غير أنه يؤكد وجود وجه آخر يتمثل في أننا نقبل الرقابة بل نطالب بها "بحرارة صادقة" في مواجهة العولمة وعصر السماوات المفتوحة والقرية العالمية الواحدة، إلخ.، لأنه لا يمكننا أن نتجاهل أن العولمة في جانبها الاقتصادي والسياسي إنما هي أيديولوچيا تستخدمها الولايات المتحدة لفرض الأمركة على العالم. وهنا تبرز فكرة رقابة على السينما تمثلها سلطة مستقلة منتخبة من داخل صناعة السينما والمثقفين بل ربما من الجمهور أيضا، غير أنه يرى أن دولة عصرية تقوم على مؤسسات ديمقراطية وعلى اقتصاد راسخ متوازن، إلخ.، يمكنها وحدها الاستغناء عن جهاز الرقابة.
وعلى هذا النحو، صارت الرقابة ضرورية لتحقيق التوازن بين تجريديْن هما حرية الفرد وحرية المجتمع، وكأن المجتمع ليس هو المجتمع الطبقي الذي تشمله سيطرة الطبقة الحاكمة على مجموعاته الاجتماعية وأفراده، والحقيقة أنها ضرورية ليس لتحقيق حرية الفرد أو المجتمع أو التوازن بينهما بل لتحقيق السيطرة الطبقية على المجتمع والفرد ولقمع كل محاولة لتحريرهما.
أما الغزو الثقافي فلا جدال في أنه قائم، ليس من المنظور المنغلق الذي يرى في كل فكر أو أدب أو فن قادم من الخارج غزوا ثقافيا، بل بأن نأخذ في الاعتبار هذا التدفق الفوري المتواصل للصور والمعلومات وثقافة اللاثقافة عبر وسائل الاتصال الحديثة (الإنترنت، التليڤزيون، إلخ.، ). غير أن الرقابة لا يمكن أن تكون الأداة المقبولة لمقاومة هذا الغزو الثقافي ليس فقط لأنها عاجزة وغير فعالة في هذا المجال بل أيضا وقبل كل شيء لأنه لا يحق لأيّ رقيب أن يحدد للشعوب التي تهدد العولمة الأمريكية هويتها معايير التمييز بين الثقافة العالمية التي ينبغي أن نرحب بها وننفتح عليها ونتفاعل معها واللاثقافة التي يحملها إلينا الغزو الثقافي من الخارج (ومن الداخل). ولا يمكن أن تزدهر ثقافتنا من خلال رؤية دفاعية تحاول حمايتها بمنع الغزو الثقافي عن طريق الرقابة، بل إنه لا سبيل إلى ازدهارها إلا في إطار من الحرية الحقيقية والتفاعل مع ثقافات العالم. ولن يتحقق النمو الحر والتفاعل الحر عن طريق لجنة أو مجلس حكماء من المثقفين محل مختلف أنواع وأشكال وأجهزة الرقابات القائمة. إن هذا لن يحقق سوى إضافة شكل أو نوع أو جهاز جديد إلى الرقابات القائمة.
                                                                                               
           
           
                    
         
 
               
 10  
 
 الترجمة في خطر[10]
 
 مثل كل المثقفين، يعاني المترجمون من أوضاع ضاغطة وقيود ثقيلة تعرقل قيامهم بمهمتهم كما ينبغي. وقد يبدو أن هذه المهمة شأن خاص بالمترجمين أو المثقفين، غير أن الحقيقة أنها في المحل الأول مهمة تقتضيها حاجات وضرورات تخص المجتمع الذي لا يمكن أن يتفادى الجمود وحتى التراجع إذا هو انعزل عن التفاعل الضروري المتواصل مع بقية ثقافات العالم.
 ولهذا فإن لوجود معوقات كبيرة أمام الترجمة والمترجمين دلالة بالغة الخطورة إذ أن هذا يعني الكثير فيما يتعلق بحالة المجتمع الذي فرضت شروطه التاريخية عليه وعلى ثقافته هذه المعوقات. وبطبيعة الحال فإن هذه القضية ترتدى أبعادا أكثر خطورة عندما يكون المجتمع المعنيّ من المجتمعات الأكثر احتياجا إلى التفاعل العلمي والتكنولوچي والاقتصادي والثقافي مع العالم كشرط ضروري لتجاوز مشكلات هيكلية تاريخية كبرى، كما هو الحال مع مجتمعنا المصري.
ولا جدال في أن الترجمة هي الأداة الكبرى للتفاعل بين ثقافات العالم في سبيل حقن كل ثقافة بإنجازات كل ثقافة أخرى كشرط ضروري لبقاء كل ثقافة وحتى لمحافظتها على هويتها التي تتكلس وتجمد وتذوي بالانغلاق في غياب التفاعل الذي يصقلها ويمنحها الوعي حتى بخصوصيتها.
وهذا هو السبب في أننا لا نستطيع أن نتصور الثقافة اليونانية القديمة بدون التفاعل عبر الترجمة مع الثقافة المصرية القديمة، ولا الثقافة العربية الإسلامية بدون التفاعل عبر الترجمة مع الثقافة اليونانية وعدد من الثقافات القديمة الأخرى، ولا الثقافة الأوروپية الحديثة بدون الثقافة العربية الإسلامية، ولا الثقافة المصرية والعربية الحديثة بدون التفاعل مع الثقافة الغربية والعالمية الحديثة والمعاصرة عبر الترجمة التي واصلت طوال القرنين التاسع عشر والعشرين تطوير ثقافتنا ومن خلالها مجتمعاتنا ودولنا وأمتنا، إذ أنه لا جدال في أن المثقفين بالمعنى الواسع المتمثل في الإنتليچنسيا وبالمعنى الضيق المتمثل في المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين قاموا من خلال مسيرة طويلة بإعادة خلق أمتنا بدولها ومجتمعاتها وطبقاتها الاجتماعية، في علاقة وثيقة بحركة شعوبنا من جهة وبالعالم بثقافاته وإنجازاته من الجهة الأخرى.
ومن المؤسف أن الترجمة على كل أهميتها، التي تتجلى بوضوح من منظور دورها التاريخي، ورغم كل إنجازاتها طوال قرنين، أحاطت وتحيط بها شروط وأوضاع وعوامل سلبية في سياق خانق وخطر في المدى الطويل يتمثل في التواضع الشديد في شعارات اللحاق بالغرب، أيْ تواضع نظرية وممارسة مجتمعاتنا فيما يتعلق بمدى طموح تطورها ذاته.
 
 
ماذا نترجم؟
 
من المؤسف أن المكتبات المصرية ليست عامرة بالمراجع والكتب والدوريات الأجنبية التي تحمل المعارف والآداب التي نحتاج إلى ترجمتها. وحتى إذا بقينا ضمن حدود المركزية الأوروپية الأمريكية فإننا نجد نقصا فادحا في مكتباتنا في هذا المجال. ويبحث المترجم دون جدوى في أهم مكتباتنا مثل دار الكتب ومكتبات الجامعات بما في ذلك مكتبة الجامعة الأمريكية عن مراجع أو كتب أو دوريات علمية أو فلسفية أو أدبية تُعَدُّ من الأصول التي لا غنى عنها. إن هذا اللامعقول هو ما يسود في مكتباتنا الكبرى المذكورة وغيرها. وإذا كان توافر الكتاب هو نقطة الانطلاق في كل ترجمة فكيف يمكن أن نتوقع ازدهار الترجمة في مثل هذه الأوضاع؟!
 فما الذي أفقر مكتباتنا في مجال الكتب الأجنبية إلى هذا الحد المزري (على سبيل المثال: لا يوجد في دار الكتب سوى النزر اليسير من أعمال هيجل)؟ لا شك في أن عوامل عديدة قد تضافرت يبرز من بينها فرض الرقابة على دخول المطبوعات إلى مصر، ومنها الاقتصاد أيْ مدى قدرة بلد فقير على الإنفاق على استيراد المطبوعات الأجنبية، ومنها نقص الوعي بأن الإنفاق على الكتاب لا يقل أهمية عن الإنفاق على رغيف العيش، لأن الكتاب أداة ضرورية للتحرير والتحديث (بالمعرفة العلمية والتقنية والثقافة) كأساس لكل استقلال وطنى حقيقي.
 
حالة النشر
 
 وتعاني مصر من مشكلة ضآلة نسبة الكتب المترجمة إلى الكتب المنشورة الضئيلة العدد أصلا. ويمكن أن نستشهد ببعض البيانات الإحصائية المفيدة ـ رغم مضي عشرة أعوام عليها ـ من ببليوجرافيا أصدرتها إدارة الترجمة بالقسم الثقافي بالسفارة الفرنسية بالقاهرة في 1989 بعنوان: مؤلفون بالفرنسية في ترجمات عربية ـ مصر 1952-1989. وقد هبطت نسبة الأعمال المترجمة من 10٪ عند منعطف الستينات(7 و12٪ في الفترة 1958-1962) إلى 5٪ في نهاية السبعينات، ورغم حدوث زيادة كمية لم يسبق لها مثيل في إنتاج النشر الذي تضاعف إلى أربعة أضعاف خلال عقد واحد تميز أيضا بالتهميش التدريجي للقطاع العام في النشر ورواج الكتاب الإسلامي، انخفضت نسبة الكتب المترجمة إلى 2-3 ٪ من مجموع إنتاج النشر في أواخر الثمانينات. وكان هناك 5102 كتاب مترجم من الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية من أصل 54534 كتاب مطبوع بين 1952و 1982(أيْ خلال ثلاثين عاما) بنسبة 35و9٪ أيْ أن عهد عبد الناصر الذي يجري الحديث عن انغلاقه كان العصر الذهبي للترجمة، كما يقول ريشار چاكمون في مقدمته للببليوجرافيا المذكورة. وكانت ثلاثة أرباع هذه الترجمات عن الإنجليزية وقد أصدرت مؤسسة فرانكلين حوالي ألف كتاب منها.
 والحقيقة أن مكتبة الكتب المترجمة في أيّ بلد عربي (مصر مثلا) لا تقتصر على إنتاج هذا البلد بل تشمل الإنتاج الترجمي لكل البلدان العربية، بالإضافة إلي إنتاج بلدان أخرى كثيرة تُصْدر ترجمات إلى العربية في عواصمها نفسها وكذلك في البلدان العربية. فمصر لا تقرأ إذن ترجمات مصرية فقط بل تقرأ أيضا ترجمات البلدان العربية التي لا يعوض إنتاجها عن تواضع إنتاج مصر، رغم الإسهام البارز لكل من لبنان والكويت، بالإضافة إلىالإسهام البارز لكل من روسيا وفرنسا في ترجمة فكرهما وأدبهما دون أن ننسى إسهام الولايات المتحدة خاصة في نشر سياستها ودعايتها بالعربية.
 وتتعدد دور النشر ومؤسساته ومشروعاته وسلاسله ودورياته التي يشمل إنتاجها الترجمة، ومنها مشروعات أو سلاسل تقتصر على نشر الأعمال المترجمة. وبالإضافة إلى دور النشر الكبرى مثل هيئة الكتاب ودار المعارف ودار الهلال ودور النشر الخاصة التي تمثل الترجمات جانبا مهما من نشاطها، هناك مؤسسات صحفية وجامعات ومراكز أبحاث تهتم أيضا بنشر الإنتاج المترجم، غير أن الإنتاج الكلي لهذه الجهات يعكس التلقائية والارتجال وفي أفضل الأحوال أذواق وميول واختيارات المترجمين الأفراد أكثر مما يعكس سياسة موضوعة بعناية تركزعلى نوعية الكتب، ومستوى الترجمة والمراجعة، والتوازن بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والرياضيات والتكنولوچيا، وعلى ترجمة الأصول، والمتابعة الدءوبة للإنتاج العلمي والفكري والأدبي الحديث في مختلف الثقافات.
 وهناك بطبيعة الحال جهود مبشرة يأتي على رأسها المشروع القومي للترجمة الذي ينتج مالا يقل عن ستين كتابا مترجما كمتوسط سنوي في الفترة من بداية 1995إلى نهاية 2002 في ترجمات تتمتع بمستوى متميز من معايير اختيار الأعمال المترجمة والمترجمين والمراجعين وتشمل معارف متنوعة في طبعات أنيقة، كما يتميز المشروع  برفع أجور الترجمة إلى مستوى ما يزال أقل كثيرا من المستوى المنصف المطلوب غير أنه يُعَدّ قفزة بالمقارنة بانهيار أجور الترجمة في هيئة الكتاب وقصور الثقافة ودار الهلال ودار المعارف وأغلب دور النشر الحكومية والخاصة وكذلك في كل الدوريات المصرية بلا استثناء تقريبا.
 غير أن هذا المشروع البالغ الأهمية الذي يستحق كل التقدير كما يستحق النقد البناء ما يزال يعاني من سلبيات لعل من أهمها ضآلة عدد النسخ (نسمع عن ثلاثة آلاف نسخة وعن ألف نسخة) لحساب سباق محموم مع الزمن على زيادة عدد العناوين (حوالي خمسمائة عنوان في ثمانية أعوام صدر أغلبها في العامين الأخيرين) مما يركز الإنفاق على الترجمة والمراجعة وإعداد الكتاب للطبع دون أن يكون الطبع نفسه حقيقيا بمعنى الكلمة، إذ أن هذه الكمية الضئيلة من النسخ لا يمكن أن تبشر بعملية ثقافية متكاملة الحلقات تتوجه إلى دائرة واسعة من القراء.
 ولعل من سلبيات هذا المشروع الكبير عدم دوريته إذ يؤدي هذا إلى نوع من الاختلال في عملية التوزيع. ويبدو أن الدورية مستبعدة لحساب زيادة عدد العناوين بسرعة بالغة. وكان ولا يزال هناك حل ملائم للتوفيق بين متناقضات زيادة عدد النسخ وزيادة عدد العناوين وتحقيق دورية الإنتاج والتوزيع، وذلك عن طريق تحويل المشروع القومي للترجمة إلى إدارة تُصْدر سلاسل دورية: القصة والرواية؛ المسرح؛ النقد الأدبي؛ التاريخ؛ الفلسفة؛ الاقتصاد؛ التكنولوچيا؛ العلوم الطبيعية والرياضيات؛ إلخ.، على سبيل المثال). وكان من شأن هذا أن يحتفظ للمشروع برقم مرتفع للعدد الكلي لعناوينه، ومعالجة اختلال علاقة القاريء  بالكتاب من خلال دوريته، مع زيادة عدد النسخ من كل كتاب لتوسيع دائرة القراء فالمثقفون وحدهم صاروا يشكلون طليعة واسعة في مصر.
كما يعاني المشروع أيضا من عقيدة جامدة تتمثل في رفض مطلق للترجمة عن لغة وسيطة بدلا من البحث عن شروط ومعايير ملائمة لمثل هذه الترجمة. ويؤكد الدكتور جابر عصفور في مقال له في مجلة الألسن للترجمة (العدد الأول، يونيه 2001) أن هذا المشروع ـ الذي يطمح فيما يطمح إلى كسر احتكار المركزية الأوروپية الأمريكية وكسر احتكار الترجمة عن اللغات الأوروپية وفي نفس الوقت الالتزام بالترجمة عن لغة الأصل مباشرة وليس عن لغة وسيطة ـ ترجم حوالي 220 كتاب عن اللغات الأوروپية وعلى رأسها اللغة الإنجليزية بالطبع من أصل 250 كتاب أصدره المشروع إلى ذلك الحين (يونيه 2001) بنسبة  حوالي 88 ٪ فلم يُتَرْجَمْ عن الفارسية والعبرية والأوردية والتركية والسريانية والصينية ولغة الهوسا سوى حوالي 12٪. أيْ أن عقيدة استبعاد الترجمة عن لغة وسيطة أدت من الناحية العملية إلى تكريس المركزية الأوروپية الأمريكية وكذلك إلى تكريس استبعاد آداب شعوب أخرى كان من الممكن ترجمتها عن الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما مع الالتزام بمعايير محددة تتعلق بمستوى الترجمة إلى اللغة الوسيطة ومستوى المترجمين عنها. كما ينبغي الانتباه إلى حقيقة أن المترجمين عن لغات عديدة حديثة الانتشار في منطقتنا ليسوا بالكفاءة المطلوبة في أغلب الأحيان بالإضافة إلى تواضع خلفيتهم الثقافية وهذا ما يتجلى في جانب كبير من ترجماتهم.
 
والركود
 
 وتعاني الترجمة ويعاني المترجم في مصر من ركود الكتاب كجزء من الركود الاقتصادي، ومن ضيق نطاق إقبال الناشرين على الترجمة، ومن ضآلة المقابل المالي للترجمة. ويؤدي كل هذا بالمترجمين إلى البحث عن حل في النشر خارج مصر وبالأخص في الكويت وكذلك في المشروعات الأجنبية للترجمة في مصر وبالأخص في نشاط إدارة الترجمة بالقسم الثقافي بالسفارة الفرنسية بالقاهرة، ومعنى هذا أن مصر صارت بيئة طاردة للترجمة والتأليف، لأسباب عديدة منها الرقابة ومنها المقابل المالي المتدني للترجمة ولا شك في أن هذا يؤدي أيضا إلى سوء الترجمة في أغلب الأحوال.
 
مشكلة لغوية
 
 وتعاني الترجمة في مصر والبلدان العربية من مشكلة لغوية نوعية تتمثل في أن الترجمة الجيدة من لغات أخرى إلى اللغة العربية تقتضي الاستيعاب اللغوي في ثقافتنا لعلوم ومعارف وثقافات تلك اللغات. ولا جدال في أن قرنين من الترجمة والتعليم ونقل علوم كثيرة إلى اللغة العربية في المدارس والمعاهد والجامعات قد أسهمت في استيعاب هذه المعارف من اقتصاد وفلسفة وأدب وفيزياء ورياضيات، إلخ.، غير أن التعريب الشامل شرط ضروري للاستيعاب الشامل، والمقصود هو تعريب التعليم في كليات الطب والعلوم الطبية و الكليات العلمية والتقنية الأخرى وكليات الهندسة وغيرها.
 وتكتفي الكليات الجامعية والجامعات التي تنتمي إليها هذه الكليات بالانتظار الكسول مع شكوك عميقة سطحية في الحقيقة في قدرة اللغة العربية على استيعاب الطب والعلوم الأخرى التي يتم تدريسها بالإنجليزية بالذات. وبطبيعة الحال فإن المشكلة نابعة من واقع أن هذه المعارف الحديثة نشأت وتطورت في أوروپا و في أوروپا الجديدة أيْ الولايات المتحدة الأمريكية فهذه البلدان إذن هي صاحبة المعارف والنظريات والاختراعات الحديثة وهي أيضا صاحبة اللغات التي أنتجتها في وقت ظللنا فيه خارج عملية الإنتاج العلمي والتطبيقي لمعارف عديدة، غير أن التعريب، رغم مصاعبه وإشكالياته، يمكن أن يغدو أداة من أدوات اللحاق بركب إنتاج العلم وتطبيقاته، والشرط الضروري لتحقيق هذا هو بالطبع التحديث العميق والسريع للبلاد.
ويكتفي مجمع اللغة العربية بالقاهرة في عمله المتواصل طوال عقود في هذا الشأن بتقديم قوائم بألفاظ عربية تقابل الألفاظ الأجنبية لمصطلحات علوم ومعارف عديدة، وبالإضافة إلى النقص الفادح في هذه القوائم البعيدة عن أن تكون شاملة، فإن مجرد تقديم المقابل العربي للفظ الأجنبي لا يمكن أن يكون بديلا عن التعريب الذي يقدم المصطلحات ضمن عملية مترابطة الحلقات من التعبير بالألفاظ والتعبيرات الاصطلاحية والأساليب والسياق. ولا شك في أن غياب هذه الأداة الضرورية للترجمة في كثير من المجالات الحيوية يؤدي إلى فوضى الترجمة وغموضها وعجزها عن استيعاب النصوص النوعية في مجالات عديدة.
 
الترجمة والحرية
 
 وكما يقول الدكتور جابر عصفور في المقال السابق الذكر، تعاني الترجمة من عرقلة أشكال من الرقابة المباشرة وغير المباشرة تفرضها الدولة على الإنتاج الثقافي ومنه الترجمة. ولا جدال في الدور البالغ التأثير للرقابة والرقابة الذاتية، في غياب رسوخ الحريات والحقوق الديمقراطية البديهية في البلاد، على الثقافة والترجمة والمثقفين من مؤلفين ومترجمين. وبالإضافة إلى رقابة الرقيب التي تقيد بصورة مباشرة استيراد الكتب والدوريات الأجنبية، هناك رقابة المؤسسات التي ترفض النشر أو تنشر بعد التعديل أو الأجهزة التي تصادر بعد النشر. وهناك الرقابة الذاتية التي يمارسها المترجمون أنفسهم على أنفسهم عن طريق تجنب أعمال تتضمن التابوهات الشهيرة، أو الاضطرار إلى التعديل بالحذف أو التخفيف لفقرات أو تعبيرات أو ألفاظ أو أفكار ينطوي نشرها على عواقب وخيمة.
ولا جدال في أن الرقابة بمختلف أشكالها وأنواعها تتحالف مع تدني أجور الترجمة لتحكم على المترجمين بالهجرة بأعمالهم إلى ناشرين خارج الوطن. ولا جدال أيضا في أن هذه الرقابة التي قامت بتقزيم المؤلفين والمترجمين من خلال اضطهادهم وملاحقتهم والاحتفاظ بدخولهم متدنية وخفض مستويات معيشتهم حرمتهم أيضا من فرص النمو ككتاب ومفكرين ومترجمين في سياق احتكار الدولة نصف المدنية نصف الدينية أو الاحتكار الذي تتقاسمه هذه الدولة مع رأس المال الخاص للإنتاج الثقافي عبر ملكية وسائل الإنتاج الثقافي، وعبر وسائل السيطرة على شروط هذا الإنتاج ومن هذه الشروط تسلط الرقابة وكذلك اتساع نطاق وأشكال الرقابة الذاتية التي لا تعدو أن تكون التكيف الاضطراري من المنبع مع مقتضيات الرقابة التي تفرضها الدولة كأداة للسيطرة على السكان والطليعة.
 
 
 
أعلى النموذج

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
  
11
 
 
الأدب وجدل المحلية والعالمية: نظرة عامة[11]
 
مع اتساع نطاق ترجمة الأدب العربي الحديث، من رواية وقصة قصيرة وشعر ومسرح، خلال العقود الأخيرة، إلى لغات أخرى ذات أسواق واسعة للأدب، تطرح نفسها بصورة منطقية تماما مسألة فرص وإمكانات واحتمالات وصول الأدب العربي الحديث إلى العالمية.
والواقع أن الأدب العربي الحديث لم يصل إلى نضجه الحقيقي إلا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ويصحّ هذا بالنسبة للرواية والقصة القصيرة والمسرح رغم الإنجازات المحددة (والرائعة أحيانا) للنصف الأول من القرن، غير أنه يصحّ كليا، بل بحكم التعريف، فيما يتعلق بالشعر العربي الحديث الذي شهد ميلادا جديدا تماما منذ أواخر الأربعينات أو منذ الخمسينات بالذات إلى أن حلَّ نهائيا محل الشعر العربي العمودي، التقليدي.
وكان من المنطقي تماما أن يأتي اتساع نطاق الترجمة في العقود الأخيرة من القرن العشرين، بعد تبلور ونضج الأدب العربي ذاته. فمن المنطقي إذن أيضا أن تكون العالمية محصلة لعملية تطورية طويلة لاحقة، وما تزال الآن في طور بداياتها الأولى.
وإذا كانت عالمية أدب من الآداب تعني ببساطة "محصلة" الانتشار الواسع والعميق والراسخ لهذا الأدب (أدب كاتب أو كوكبة أو جمهرة من الكتاب في لغة بعينها مثلا) من خلال الترجمة بالذات (على صفحات الكتب أو الدوريات، أو على شاشات السينما أو التليڤزيون أو الڤيديو أو الكمپيوتر، أو فوق خشبة المسرح، إلخ.، إلخ.) بلغات مختلفة في ثقافات عديدة لشعوب أو أمم شتى، فلا مجال للقفز إذن إلى تصور تحقق حالة يمكن وصفها بالعالمية لأدب من الآداب، الأدب العربي الحديث مثلا، لمجرد أن هذا الأدب قد نضج ولا يني ينضج أو لمجرد أن ترجمته بدأت أو أخذ نطاقها يتسع. ولا مبرر بالتالي "لتعجُّل" العالمية، أو "الهرولة" إلى العالمية، أو الإحباط السريع "لامتناع" أو "تمنُّع" العالمية. ذلك أن الطريق إلى العالمية، أمام أدب تحقق نضجه "حديثا" وبدأت ترجمته "مؤخرا"، إنما هو طريق طويل وشاق.
نحن، إذن، إزاء بدايات عملية تطورية بحكم طبيعتها ذاتها. وهنا يتحدى عامل الزمن (الزمن الطويل اللازم لهذه الصيرورة) كل طموح فردي ذاتي إلى العالمية أثناء حياة الكاتب إلا على سبيل الاستثناء. وحتى في هذه الحالة ستكون "العالمية" المتحققة شيئا متواضعا بالمقارنة بالعالمية الحقيقية بمعناها المتجاوز للمكان والزمان، والمرادف للوصول إلى الإنسان أينما كان والتفاعل والحوار معه في سبيل خلق وعي إنساني وضمير إنساني هما العالمية في أسمى معانيها، فهي عالمية تتحقق وتترسخ (ويتحقق "يقين" تحققها ورسوخها) عبر العقود والقرون والألفيات.
وبطبيعة الحال فإن الشرط الأول لعالمية الأدب يتمثل ببساطة في أن يكون أدبا، أيْ أدبا رفيعا بحكم التعريف. والأدب الرفيع في لغته الأصلية قابل، ببداهة كونه أدبا، للوجود عبرالمكان والزمان، عبر اللغات والثقافات والقوميات والعقود والقرون والألفيات. على أن هذه القابلية للعالمية والانتشار، هذه القابلية للترجمة، لا تتحقق أيْ لا تصبح واقعا عينيا إلا بوسائلها الخاصة أيْ بالشرط المسبق الثاني لعالمية الأدب، ويتمثل في الترجمة بالذات. ويتمثل الشرط البديهي الثالث في في حقيقة أن هذه العملية بشقيْها (1- إنتاج الأدب في المكان والزمان 2- تحوُّله إلى العالمية متجاوزا المكان والزمان) إنما هي عملية تطورية تجري بصورة تاريخية، حيث لا ينبغي أن نطابق بين العالمية من جهة، والرواج "العالمي" المؤقت أو الموضات والفرقعات والتقاليع "العالمية" السريعة الظهور والتلاشي من جهة أخرى.
ولأن تجاوز الأدب للمكان والزمان يمثل لب مسألة عالمية الأدب، وأيضا لأن هناك علاقة ملتبسة نستشعرها في كثير من المناقشات حول جدل العالمية والمحلية في الأدب، وكذلك أيضا لأنه ينبغي دوما استكشاف عالمية توحد البشر وتصنع شرط مقاومتهم وتحررهم ضد كل الانقسامات التي تفرضها عليهم شروط ومصالح اجتماعية ضد طبيعتهم الجوهرية، وهي عالمية ظل الأدب طوال تاريخه الحافل قلبها وعقلها وضميرها؛ لكل هذا ينبغي أن نتوقف هنا عند بعض أبعاد هذا الانتقال من المكان الواحد إلى كل مكان، ومن الزمان الواحد إلى كل زمان، إلى الخلود.
والأدب يتم إنتاجه وكذلك "استهلاكه" محليا، وكلمة "محلي" هنا نقطة من المكان في نقطة من الزمان، فالعملية إذن مكانية زمانية أو "زمكانية"، كما يقال. ورغم هذا، رغم الطابع المحلي، المكاني الزماني، لإنتاجه واستهلاكه، يملك الأدب قابلية العالمية أيْ الخلود في نفس المكان رغم تغيره، والانتقال إلى الخلود في كل مكان آخر رغم اختلافه وتغيره.
ما سرّ هذه القابلية للانتقال والانتشار والترجمة والتحول والعالمية؟ ما سرّ هذا الاستعداد وهذه القابلية للقيام بنفس الوظيفة الجوهرية الواحدة ("للأدب") في كل زمان ومكان، أو بالأحرى في كل زمكان، باعتبار كل مكان بعينه في زمان بعينه لقاءً خاصا فريدا بين المكان والزمان؟
إن هذا يعني دون شك وجود سمة مشتركة عالمية كامنة في كل أدب حقيقي، فهو قابل للقيام بنفس الوظيفة مع كل البشر إذا استطاع أن يصل إليهم (بالترجمة) مهما كان مكان وزمان إنتاجه. ولهذا تعيش الأساطير والملاحم وروائع الأدب في عصور سابقة في لغاتها الأصلية وفي بقية لغات العالم، وتصنع وعي وضمير ووحدة البشر عبر القرون وعبر الألفيات. وتبقى هذه الروائع الأدبية بعد أن ذهب البشر الذين أبدعوا إنتاجها وأبدعوا تلقيها واستيعابها في الثقافات الأصلية باعتبارها الشكل الأسمى لخلودهم على الأرض من خلال إسهامهم الخالد في المتصل المكاني الزماني لحياة البشر، ما بقيت حياة البشر.
ودون شك، أيضا، تعني هذه السمة التي تمنح الأدب الحقيقي قابلية العالمية، أن من شأن المزيد من تحليل المحلية، أيْ اتجاه الغوص في الواقع المحلي، أن يكشف عن أن العالمية كامنة تحت كل محلية، عن أن التكيف مع بيئة خاصة، والعيش في مائة عام من العزلة، والأزياء الخاصة، واللغة أو اللهجة الخاصة، ومستوى التطور الاجتماعي–الاقتصادي، والاختلاف في أحوال الدين والثقافة والعلم والفلسفة، والتكوين الخصوصي الفريد كمحصلة، أن يكشف عن أن كل هذا لا يستبعد العالمية بل يمتزج بها ويتشكل في إطارها. ذلك أن طبيعة الإنسان واحدة، وحياته متناظرة جوهريا، في كل زمان ومكان حتى في العزلة، حتى في مثل عزلة الهنود الأمريكيين الذين أثبتوا التناظر والوحدة في طبيعة الإنسان من خلال سيرهم قدما، في عهود عزلتهم، في نفس طريق الصيرورة العامة لكل البشر. على أن العزلة هي الاستثناء وليست القاعدة حتى في عهود ما قبل التاريخ. ولهذا كانت صيرورة الأدب بمثابة بوتقة عالمية تتشكل بداخلها ليس الأعمال الأدبية فحسب بل كذلك الأنواع الأدبية التي أسهمت في تطويرها آداب أمم شتى.
وصحيح أن العالم الآن مركز سائد من الإمپرياليات، ومحيط مسود من القوميات والشعوب والبلدان المقهورة. وصحيح أن مركز العالم ذاته مركز ومحيط من الطبقات، وأن محيط العالم بدوره مركز ومحيط من أشباه الطبقات. غير أننا نستكشف مع ذلك عالما كله مركز وكله محيط، رغم أن الانقسام السائد حاليا بمركزه المسيطر يشكل الشرط العام المأساوي لصناعة الأدب وصناعة الثقافة.
 
وحدة الإنسان وعالمية الأدب
 
على مستوى ما، يمكن النظر إلى العالم على أنه كون أو كرة پاسكال Pascal (كرة مركزها في كل مكان ومحيطها ليس في أيّ مكان)، وإنْ بشيء من التعديل. فالعالم، على هذا المستوى، مركزه في كل نقطة على سطح الكرة الأرضية ومحيطه في كل نقطة على هذا السطح أيضا، فكل نقطة ـ إذن ـ مركز ومحيط في آن معا.
والمقصود هو أن مناقشة جدل المحلية والعالمية، فيما يتعلق بالأدب (وغير الأدب)، يمكن أن تبدأ بتأكيد عام، ذي طابع مجازي بطبيعة الحال، هو أن كل نقطة على سطح الأرض تأثرت بكل نقطة أخرى على هذا السطح وأثرت فيها. وعند هذا المستوى يغدو من العبث أن نبحث عن العالمي منفصلا عن المحلي أو عن هذا الأخير منفصلا عن الأول. إنهما هنا ممتزجان في كل نقطة، وربما أمكن القول إن العالم هو مجموع هذه النقاط التي تنطوي كل نقطة منها على العالم بأسره.
ولا يفقد هذا التأكيد قوته بسبب طابعه المجازي. ذلك أن التاريخ وما قبل التاريخ يؤكدان الأساس الواقعي "التاريخي" لهذا المجاز: الإنسان (الإنسان كما نعرفه اليوم أيْ: Homo Sapiens Sapiens أيْ: الإنسان الكرومانيوني) الذي نشأ، ربما منذ 40 ألف سنة[12]، في مكان واحد، لعله أفريقيا الوسطى أو الجنوبية، ثم انتشر على وجه الأرض، حاملا معه لغته الواحدة، اللغة كما نعرفها اليوم، والتي تفرعت إلى لغات ومجموعات لغوية خلال عشرات الآلاف من السنين[13]؛ وانتشار البشر والثقافات واللغات ومن خلال نماذج شتى للانتشار؛ والهجرات والحروب والفتوحات والإمپراطوريات التي حرثت وجه الأرض طوال التاريخ.
ولهذا فإن العالم ليس مجموع "تجاور" مناطقه بل هو، بالأحرى، محصلة "تفاعل" مناطقه.
غير أنه كما يؤدي التطور الفلكي إلى نشأة النجوم والكواكب والأقمار وغيرها من أجسام سماوية في المجرات، من "مادّة واحدة" وبصورة مترابطة ولكن غير متساوية، أدى التفاعل التاريخي الشامل ذاته، بحكم آلياته المعقدة، إلى نشأة الجماعات البشرية شعوبا وقبائل وأمما وحضارات وثقافات وإمپراطوريات بكثرة متنوعة ومتغيرة من أشكال الوجود البشري بكل ألوان الطيف. وكانت هذه الاختلافات في مستويات التطور والثقافة والقوة والثروة في مختلف مناطق أو بلدان أو إمپراطوريات العالم في التاريخ تغدو، في كل مرة، نقاط انطلاق جديدة لتفاعلات جديدة بين البشر في كل مكان من خلال حروب وفتوحات ومقاومات وتثاقفات جديدة. ولهذا فإن اختلاف نقاط ومناطق العالم، حتى عندما يصل هذا الاختلاف إلى حدّ الانقسام المستقطب للعالم إلى مركز الغرب أو الشمال، ومحيط الشرق أو الجنوب، لا يلغي الطابع العالمي لكل نقطة، ولا التأثير العالمي في كل منطقة، ولا دور هذه النقطة أو المنطقة في صنع تاريخ الكل العالمي، ولا حتى وجود المركز والمحيط في كل مكان، في كل نقطة على الأرض.
وفي سياق هذه العلاقة البعيدة عن البساطة، بل البالغة التعقيد، تبدو العالمية والمحلية، عند مناقشة عالمية ومحلية الأدب، وكأنهما "عالمان" أو مبدآن منفصلان: أحدهما هو الواقع المحلي لمنطقة من مناطق العالم، والثاني مكان آخر يسمى العالم. وتغدو القضية بوجه عام بحث المحلية التي قد تعني الغوص في أعماق الواقع المحلي الخصوصي بل الفريد لمنطقة، هذا الواقع المحلي "المعيش" الذي يبدو منعزلا عن بقية العالم ومنقطع الصلة بها، وبين العالمية التي قد تعني الانتشار أو أهلية الانتشار في هذا العالم الذي يبدو منفصلا عن أجزائه أو الذي يبدو أنه "يُحلق" فوق كل مناطقه. ويبدو التناقض هنا ماثلا في صميم الغوص الرأسي الذي يسير في عكس الاتجاه الأفقي بحكم تناقض اتجاه الحركة، بين الغوص والانتشار، بين الغوص في كل منطقة على حدة والانتشار عبر المناطق، بين سمة الخصوصية المحلية التي يجلبها الغوص في المحلي المختلف عن كل محلي آخر وسمة العالمية والانتشار التي تثير مشكلة قابلية المحلي للتحول إلى العالمية، أيْ قابلية كل منطقة في العالم للانفتاح على بقية مناطقه، على مستوى الأدب والفنون والثقافة، رغم الاختلاف الذي يبدو نقيض التماثل، رغم الخصوصية التي تبدو نقيض العمومية.
وبإدخال الكاتب والقارئ، أو الكاتب والقارئ والمترجم (في حالة الترجمة)، في معادلة المحلية والعالمية يستوقفنا الطابع المحلي دوما لهذه المعادلة. فالكاتب يكتب في واقع مكاني زماني بذاته، يتسم بخصوصياته الفريدة من لغة وثقافة وأوضاع اجتماعية تاريخية، يكتب في هذا الواقع المحلي ومنه، وفي السياق الأدبي المحلي الخصوصي ومنه، وبتكوينه الأدبي والفكري ككاتب، من بيت في ريف، أو شقة في مدينة، أو خيمة في واحة، في بلد ما، في قارة ما، في أحد العقود أو القرون أو في إحدى الألفيات، بكل الخصوصيات التي ينطوي عليها كل ذلك. ولأن أساس الإنتاج في التأليف والترجمة والتلقي "فردي" بصورة نموذجية، مهما كانت الأوضاع الاجتماعية لصناعة الأدب ولآليات إنتاجه واستهلاكه، فإن القارئ أو المتلقي يقرأ أو يتلقى في واقع محلي يتسم بخصوصياته كذلك. وينطبق الشيء ذاته على المترجم. إن تداول الأدب لا يجري إذن بين واقع محلي ومكان مُفارق لكل مكان واسمه العالم، بل بين كاتب في واقع محلي، وقارئ في واقع محلي آخر، عبر مترجم في واقع محلي ثالث (في حالة الترجمة). وما العالمية سوى هذا الانتشار في مناطق محلية في مختلف أنحاء العالم. وعسى هذا أن يؤكد، من جديد، أن العالم إنما هو مجموع أو محصلة لتفاعل كل مناطقه المحلية، وأن العالمية كامنة في كل ما هو محلي.
وإذا كان ما يبدو على السطح عند الحديث عن خصوصية منطقة في العالم بالمقارنة مع خصوصيات بقية مناطقه هو "الاختلاف"، فإن ما ينبغي الالتفات إليه أيضا هو أن هذه المناطق (أو "النقاط") جميعا تشترك في عناصر توحِّدها مهما امتزجت بقوة بالخصوصيات المحلية لكل منطقة. إننا إذن إزاء اختلاف ووحدة في آن معا.
ويتمثل التجلي الأول للوحدة في حقيقة أننا نتحدث عن مناطق العالم ليس كجغرافيا طبيعية بل كبشر يعيشون فيها ويكدحون ويبدعون. إننا نتحدث إذن عن الإنسان. الإنسان رغم اختلاف المكان والزمان. والإنسان واحد. فالتجلي الأول لوحدة الأدب في العالم يتمثل إذن في الإنسان، في طبيعة الإنسان. ولعل من المقبول أن نوجز طبيعة الإنسان في هذا الانفتاح المتواصل على الارتقاء والتطور والتقدم والصعود ليس كموضوع للطبيعة بل كسيد للطبيعة، يسيطر عليها بصورة متعاظمة من خلال معرفتها بصورة متعاظمة.
ومن البديهي أن الأدب الذي يعبر عن هذه المسيرة للإنسان، عن هذه الصيرورة، عن تجاربها الفريدة في كل مكان، قابل للتداول أو الاستيعاب الجمالي والفكري في كل مكان، بين كل البشر، في تبادل بينهم لطبيعتهم الجوهرية الواحدة، رغم اختلاف الزمان والمكان، رغم اختلاف اللغة والثقافة واللون والعرق والدين، رغم كل اختلاف، أيْ رغم امتزاج، أو بالأحرى بفضل امتزاج، هذا المشترك بين البشر بالخصوصية المكانية الزمانية. وهذا هو السبب في واقع لا جدال فيه وهو أن الأدب كان طوال تاريخه عابرا لحدود المكان والزمان، كان "مهاجرا أبديا" في المكان والزمان.
وفي سياق وحدة الإنسان في العالم، رغم اختلاف شرطه في المكان والزمان والقومية والطبقة والسيطرة والخضوع، ظل الأدب يعبر عن طبيعة الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة فصار الأدب الحقيقي في أيّ مكان وزمان ملكا للإنسان كله في كل مكان وزمان. ومن خلال تداوله واستيعابه وإعادة إنتاجه صنع الأدب بوتقة واحدة انصهرت فيها أساطير الشعوب وتجاربها والأنواع الأدبية والأشكال والأساليب التي تعبر عنها. وتبادَل البشر ليس الأعمال التي تنتمي إلى النوع الأدبي فقط بل أيضا أصول ومبادئ ومعايير تطوير وصقل النوع الأدبي ذاته. وصار الأديب ينتج من خلال استيعاب وهضم الأدب العالمي في كل عصوره ليعرف طريقه إلى جمهوره المحلي أو الإقليمي الذي يتلقى أدبه بالمعايير العالمية لذوقه واستيعابه، وكذلك إلى الجمهور الأوسع في بقية أنحاء العالم حيث تسود المعايير ذاتها، منظورا إليها في الأمد الطويل.
 
هل "المحلية هي الطريق إلى العالمية"؟ 
 
هناك إجابة شهيرة للغاية، ومعروفة في كل مكان في العالم، على سؤال عالمية الأدب. والإجابة المقصودة هي: "المحلية هي الطريق إلى العالمية". ولا بأس، بالتالي، بصياغة أخرى مثل: "منتهى المحلية منتهى العالمية".
ويبدو لأول وهلة أن الإجابة بسيطة للغاية: إن من ينشد العالمية عليه بالمحلية.
وما المحلية؟ إنها الكتابة عن الواقع المحلي لكل كاتب، لأنه يعيشه، يسبر أغواره، يحمل على كاهله همومه، يعرف تاريخه وتراث ماضيه، ويعرف حاضره بكل أبعاده، ويعرف طموحاته للمستقبل، يعرفه كجغرافيا وتاريخ، يعرفه كضمير وروح، يعرف إنسانه بكل غنى معاناته، يعرف أشخاصه الذين يحملون شخصيته أو هويته بكل ثرائها. وبالأحرى فإنه لا يعرف هذا الواقع المحلي، بل هو هذا الواقع المحلي ذاته، لأنه ابنه المبدع الذي يعيشه بكل أبعاده في كل لحظة، ويؤهله كل شيء للكتابة عنه، للتعبير عنه، لتقييمه ونقده، لجعله يدرك قوته وضعفه، ليمنحه الوعي بنفسه جماليا وثقافيا وروحيا، اجتماعيا وفكريا وسياسيا. فكيف لا يكتب عن واقعه المحلي؟ بل كيف يكتب عن شيء غيره، عن شيء خارج تجربته المعيشة، عن شيء غريب عن حياته ومعاناته؟!
غير أن من البديهي أن أبواب العالمية لا تنفتح تلقائيا أمام "كل" كاتب محلي النزعة، يكتب عن واقعه المحلي المعيش. إن "المحل" يمكن أن يكون مقبرة الكاتب، كما يمكن أن يكون منطلق عالميته. و"المحل" يمكن أن يحبس بداخل نطاق زمانه ومكانه جهدا هزيلا لكاتب بائس، وقد ينطلق منه أدب إنساني رفيع لكاتب عظيم لا ينقصه لاكتساب حق المواطنة في ثقافات العالم (بصورة تاريخية) سوى مترجمين قديرين مبدعين ينقلونه إلى تلك الثقافات. وإذا كان كل واقع محلي راسخ ينطوي بالضرورة على تجربة إنسانية ثرية وعلى ثقافة تستوعب وترشد هذه التجربة فإنه يبدو من البديهي أن الفرق بين المحلية كسجن أو مقبرة والمحلية كطريق إلى العالمية يكمن في الفرق النوعي بين كاتب وكاتب، بين موهبة وموهبة، بين بيئة أدبية وبيئة أدبية؛ وباختصار: بين الوقوف عند "سطح" الواقع المحلي المعيش حيث الخصوصيات الظاهرية الزاهية الألوان للطابع المحلي ليس في امتزاجها مع الحقيقة الإنسانية العميقة والحقيقة الأدبية الرفيعة بل منتزعة بعيدا عن عمق ذلك الامتزاج، وبين الغوص إلى "عمق" الواقع المحلي المعيش، الغوص إلى اللآلئ الإنسانية والأدبية في الأعماق دون أن يمحو نورُها الساطع الخصوصيات الفريدة التي تنطوي عليها تلك الأعماق بكل ألوان الطيف.
وهكذا نرى المحلية التي بدت للوهلة الأولى واقعا صلبا تستحيل إلى مفهوم مراوغ، ومراوغ للغاية. وسرعان ما يتضح أن الإجابة التي اعتقدنا أننا توصلنا إليها بكل سهولة، وبكل سرعة، عنوان لأسئلة لا نهاية لها.
على أن الانتقال من الواقع المحلي المعيش، الذي هو ـ بصورة نموذجية ـ قدر كل كاتب وكذلك نقطة انطلاقه إلى العالمية، أيْ إلى كل واقع محلي آخر لكل قارئ (عبر المترجم أو بدونه) يتمثل مفتاحه فيما يبدو في "الغوص". وهناك نوعان مختلفان للغاية ومتعارضان تماما من الغوص. فهناك الغوص في الخصوصيات المحلية إلى حد الغرق فيها وهذه سمة الكاتب المحلي بامتياز، والذي عفا عليه الزمن، مهما ظن أن غوصه هذا يذهب إلى أعمق من قشرة السطح. وهناك الغوص في أعماق "كلية" حياة الواقع المحلي (الذي لا فكاك منه وإنْ بأشكال محوَّرة بالغة التعقيد في إنتاج كل كاتب، كقاعدة عامة). وهذا النوع الأخير من الغوص إلى الأعماق هو المفتاح الحقيقي إلى العالمية، لأنه يصل في استقصائه الفني إلى كلية جوهر الظاهر وظاهر الجوهر، إلى العام في الخاص والخاص في العام، إلى الحقيقة الأدبية والأسطورية والفلسفية الكامنة في هذا التشكل الخصوصي الفريد لحياة بشرية في قشرتها وفي لبها، وتحت قشرتها وحول لبها.
وهذا هو السرّ العميق وراء حقيقة أنك تسبح في أجواء ملحمة جلجاميش أو الإلياذة أو روائع الأدب العالمي في كل العصور عندما تقرأ الرواية القصيرة "حيوات جافة"[14] وهي رواية قصيرة بالغة الواقعية المحلية[15] يصف فيها الروائي البرازيلي جراسيليانو راموس Graciliano Ramos بإيجاز شديد وموضوعية صارمة: "أهوال حياة فابيانو، راعي بقر، وسينيا ڤيتوريا، وطفليهما، وكلبة، في مرتفعات السرتون. وبصورة رائعة للغاية، يشرع راموس في أنسنة هؤلاء الناس الذين جردتهم الحياة من إنسانيتهم إلى حد أنهم ينظرون إلى أنفسهم أحيانا على أنهم أفضل قليلا من الحيوانات، ويقدمهم في صراعهم الخاسر من أجل البقاء في بيئة طبيعية واجتماعية معادية"، كما يقول چون جليدسون John Gledson  [16]أو يعبر فيها: "عن الاختناق الإنساني لراعي البقر المحكوم بالمستويات الدنيا للبقاء"، كما يقول الناقد البرازيلي أنطونيو كانديدو Antonio Candido[17].
وغني عن البيان أن الغوص الحقيقي في الواقع المحلي المعيش لا يتحقق بالانطلاق المباشر منه بالضرورة. فإلى جانب الروائع الأدبية التي تنطلق من تناول البيئة المحلية الراهنة، المدينية أو الريفية أو الرعوية، هناك روائع أدبية تتناول موضوعات مستمدة من تراث محلي أو أجنبي من التاريخ أو الأسطورة، غير أن هذه الروائع لا تتحقق روعتها إلا بمغزاها المكاني الزماني، بمغزاها الراهن، عند الكتابة وعند القراءة. إن الأديب يجد نفسه دائما هنا وهناك، ولا فكاك له من الواقع المحلي حتى عندما يتناول أسطورة أجنبية، ولا فكاك له من العالم، أيْ من خلاصة كل واقع محلي آخر، حتى عندما يتناول واقعه المحلي المعيش.
وقد يفكر الأدباء الطامحون إلى العالمية في أن يدخلوا سوقها بأعمال تتناول قضايا تلتقي عندها الاهتمامات الإنسانية في كل مكان، كالحب والموت والحرية والغيرة والكبرياء والشبق والحسد والانتقام وغيرها، بعيدا عن الواقع المحلي، وقد يفكرون على النقيض في الذهاب إلى تلك السوق بالخصوصيات الفريدة لواقعهم المحلي باعتبارها ميزة نسبية (وفقا لتعاليم ريكاردو Ricardo) تذهب إلى كل مكان فلا تجد سلعة منافسة مماثلة لها ببداهة خصوصيتها. غير أن من يخططون للعالمية في صميم مشروع كتابتهم قد لا يفوزون أبدا بما يفوز به الكاتب الأصيل الذي يخرج دائما من غوصه في الكون وفي العالم وفي واقعه المحلي بلآلئ فريدة تملك الميزة النسبية والمطلقة وتملك السحر والجمال وتملك الحقيقة الإنسانية والحقيقة الأدبية في كيمياء سحرية ساحرة لا تعرف من أسرارها أين ينتهي المحلي ولا أين يبدأ العالمي.
والحقيقة أن النظر إلى الخصوصيات المحلية على أنها ميزة نسبية في التبادل الأدبي بين مختلف مناطق العالم يمكن أن يقود إلى مفهوم فظ وفقير ومغلوط عن الطابع المحلي للأدب. وصحيح أن المستهلكين في سوق الأدب لا يطلبون فقط مرآة يرون فيها نفس وجوههم بعشق نرجسي محلي بل يطلبون أيضا صندوق الدنيا الذي يرون فيه كل طابع محلي آخر للحقيقة الإنسانية العامة. غير أن الطابع المحلي ليس ديكورا خارجيا سياحيا ينبغي أن نزين به عرضنا من الإنتاج الأدبي ليزيد، بذلك، الطلب عليه في مناطق العالم الأخرى. إن الطابع المحلي هو بالأحرى المغزى (أو الشكل أو التكوين) المكاني الزماني للحقيقة الأدبية. وكما أن اللغة لا توجد إلا في شكل لهجات المناطق الجغرافية لانتشارها، وكما أن العالم ذاته لا يوجد إلا في شكل مناطقه، وكما أن العام لا يوجد إلا في شكل الخاص، فإن الأدب لا يوجد إلا في شكل أعماله ذات الطابع المحلي، أيْ ذات المغزى الراهن لواقع وأسطورة حياة الإنسان.
ولهذا يتحقق الطابع المحلي في وجود، كما في غياب، تفاصيل المظاهر المحلية لعمل أدبي. لأن الطابع المحلي لا يكمن في هذه التفاصيل للمظاهر المحلية بل يفسر تشكل الحقيقة الأدبية والإنسانية على هذه الصورة المكانية الزمانية الخصوصية. فالطابع المحلي لا فكاك منه مهما تجرد العمل الأدبي من تفاصيل خصوصيات البيئة المحلية لأن الطابع المحلي ليس سوى الحقيقة العامة في الشكل الوحيد الممكن لوجودها الفعلي، وليس سوى الزاوية التي تتم منها نظرة إلى العالم، هذه النظرة التي تتم دوما من زاوية ما.
وفي مقاله المهم المعنون "الكاتب الأرجنتيني والتراث"، يرى بورخيس Borges أن المشكلة التي تزعم النظرية السائدة في الأرجنتين آنذاك (1932) وجودها في هذه العلاقة مشكلة زائفة ولا وجود لها أصلا. ويرى بورخيس أن من السخف أن ننكر على راسين Racine حقه في أن يحمل لقب شاعر فرنسا بسبب الثيمات الرومانية والإغريقية التي كرس لها شعره، كما يرى أن من السخف أن نفكر في تقييد شكسپير بالثيمات الإنجليزية بدلا من الإسكندناڤية مثل هاملت أو الإسكتلندية مثل ماكبث. ويرى، فيما يتعلق بإنتاجه الخاص، أن الطابع المحلي لبوينوس آيرس تحقق في قصته المتأخرة "الموت والبوصلة" التي لم يسع فيها إلى تحقيقه وليس في كتب قديمة له، منسية وجديرة بالنسيان في رأيه الشخصي، التي كانت تغص بعناصر وتفاصيل وألفاظ الطابع المحلي لمدينته. ومن الطريف أن بورخيس يدعم رأيه بفكرة يستمدها من كتاب "انهيار وسقوط الإمپراطورية الرومانية"، حيث يلاحظ جيبون Gibbon أنه لم يرد ذكر للجمل في الكتاب العربي الصميم، أيْ القرآن. ويرى بورخيس أن هذا الغياب للجمل كاف لإثبات أصالة القرآن، بعكس السائح أو القومي العربي الذي يحتاج إلى قافلة من الجمال في كل صفحة لإظهار الطابع المحلي العربي كما يقول[18].
والحقيقة أن ملاحظة جيبون ضللت بورخيس، فالقرآن لا يخلو، كما يزعم، من الجمل. فقد ورد لفظ "الجمل" وهو الكبير من الإبل والحبل الغليظ وبهما فسرت الآية 40 من سورة الأعراف، كما وردت ألفاظ "جِمالة" (جمع: جمل)، والإبل (وهي الجمال ولا واحد لها من لفظها)، و"الناقة" (الأنثى من الإبل والمراد بها ناقة صالح)، و"البعير" (وهو ما يصلح للركوب والحمل من الدواب، كالجمل والناقة)، و"الأنعام" (جمع: نَعَم، ومنها الإبل)، في عشرات الآيات[19].
ومن الجلي، إذن، أن ملاحظة جيبون التي ضللت بورخيس خاطئة ولا أساس لها، غير أن ما أراد بورخيس إثباته عن الأدب يظل قائما وصحيحا: إن من يكتب في مصر الآن مثلا رواية أو مسرحية تدور حول أسطورة أوديپ مثلا لن يكتب عملا أدبيا جديرا بهذا الاسم، ولن يضيف شيئا حقيقيا إلى الأعمال التي تناولت هذه الأسطورة بالمعالجة الفنية من قبل، إنْ لم يحمل عمله قيمة يمكن وصفها بالطابع المحلي أو المغزى الراهن، المكاني الزماني، إنْ لم يُضِفْ إلى الأسطورة والأعمال التي قامت عليها في الماضي، الحقيقة الجوهرية الفريدة للحظة الراهنة في مصر، مثلا، دون أن يكون بحاجة، بالضرورة، إلى ذكر مصر، أو إلى الإشارة إلى بعض تفاصيل عناصر ومظاهر ومشاهد طابعها المحلي الراهن.
 
 
 
    
 
 
 
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12
 
 
لويس عوض والبحث عن أصل اللغات[20]
"حول مقدمة في فقه اللغة العربية"
 
لا يدهشنا أبدا ـ أو لا يدهشنا كثيرا ـ أن يمتد البحث العلمي الموسوعي للدكتور لويس عوض ليشمل اللغة بوجه عام، أو اللغة العربية بوجه خاص.
لا يدهشنا هذا رغم أن البحث العلمي اللغوي كان شيئا نادرا بين كبار الأدباء والمفكرين والعلماء في جيل لويس عوض، وفي أجيال أخرى قبله وبعده.
وعلى سبيل المثال الصارخ فإن طه حسين، وهو المثل الأعلى للأدب العربي والفكر العربي، كان رغم إتقانه معرفة علوم ومسائل اللغة، ورغم رعايته وتشجيعه لجهود البحث العلمي الحر في اللغة العربية وعلومها، ورغم إسهامه البارز؛ بل الاستثنائي مع الأجيال الأولى من الأدباء والمفكرين والعلماء في القرن العشرين في تطويع اللغة العربية للتعبير عن الثقافة العربية الحديثة؛ لم يكن له أيّ إسهام علمي مباشر في مجال اللغة، كذلك فإن العقاد، رغم دوره الذي لا ينكر مع غيره في تحديث اللغة العربية، لم يقدم أيّ إسهام علمي لغوي.
ورغم هذه القاعدة العامة هناك أفق واسع ولكنْ إسهام محدود لأمين الخولي في مجال النحو العربي، ويبرز اسم إبراهيم مصطفى في هذا المجال، وقد كان العقل النحوي المفكر وراء محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة (عندما كان ما يزال رافعة من روافع تطوير علوم اللغة العربية) بالتعاون مع وزارة المعارف المصرية في منتصف القرن العشرين لتطوير وتحرير النحو العربي، تلك المحاولة البالغة الأهمية لكن التي فشلت في نهاية الأمر تحت الضربات المتلاحقة من جانب أعداء تطوير النحو العربي بالذات ولكنْ أيضا، بسبب نقاط ضعفها، ويسطع اسم إبراهيم أنيس كمثال نادر في البحث اللغوي الذي توجته إنجازات علمية فذة في عدد من علوم اللغة العربية.
أما جهود الأكاديميين في مجال علوم اللغة فقد ظلت ـ كقاعدة عامة ـ داخل إطار قاس من الاجترار الكسول لنقاط ضعف تراثنا مع تفادي أو محاربة نقاط قوته، ومن العرض التعليمي للعلوم اللغوية قي الغرب، ووضع هذا وذاك في علاقة تجاور جامدة، رغم استفادات شتى بشرط ألا تنال من أسطورة اللغة العربية المقدسة وألا تحاول أن تطبق عليها القوانين اللغوية التي تنطبق على اللغات "الأخرى" فلا تمس العربية!
مع كل هذا، لا يدهشنا كثيرا أن يشمل لويس عوض مجال اللغة أو اللغة العربية بإنتاجه الموسوعي، فهذه طبيعة موسوعيته في عصر أو قرن كان قد صار فيه البحث اللغوي محور محاور نظريات ومذاهب الفكر والفلسفة.
على أنه "يبدو" من المدهش حقا أن يكون نوع البحث اللغوي، الذي استطاع أن ينتزع لويس عوض من اهتماماته الفكرية والنقدية الكثيرة الأخرى، هو فقه اللغة، وبالأخص علاقة اللغة العربية بمسألة أصل مشترك للغات السامية والحامية واللغات الهندية الأوروﭙية وربما غيرها.
فكيف نفسر هذه العودة المباشرة إلى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلى التركيز على الفيلولوچيا، ومجموعات اللغات، وأصل اللغات، بعد أن كان العلم اللغوي في الغرب قد تحرك مبتعدا وظل مبتعدا طوال القرن العشرين عن ذلك التركيز الفيلولوچي؟
وهناك بالطبع تفسير جاهز، إنه الكيد للإسلام والعربية! على اعتبار أن هذا النوع من البحث الفيلولوچي هو المجال الطبيعي لبحث مسألة أن تكون اللغة العربية، كغيرها من اللغات، جزءًا لا يتجزأ من تفاعل لغوي هائل قد يقتصر على مجموعات لغات بعينها أو يمتد ليشمل كل لغات الأرض.
على أن هناك مجالا لتفسير أكثر إنصافا وأكثر موضوعية، وإذا كان مذهب تقديس اللغة العرية وعلومها قد حكم على هذه العلوم بالجمود الأزلي بعيدا عن إنجازاتها الكبرى في أزهى عهود الحضارة العربية الإسلامية، فقد تمثل الواجب الإلزامي في أن يجدّ السعي بحثا عن أسباب لتطوير علومنا العربية التي تخلفت بصورة فادحة عن العلم الغربي، في إطار اللحاق والتعويض وسدّ الفجوة، وكان من المنطقي أن يكون من هذه الأسباب ـ بين أشياء أخرى ـ ضرورة العودة إلى علم لغوي تفادينا وحاربنا تأثيره في علومنا اللغوية طوال القرن العشرين، وهو علم اللغة التاريخي أو المقارن أيْ فقه اللغة، وهكذا جاءت محاولة لويس عوض لتطبيق نتائج هذا العلم على اللغة العربية، أو بالأحرى محاولته لاستكمال هذا التطبيق الذي بدأه وطوّره العلم اللغوي الأوروپي، في وقتها، خاصة عندما بدا ("بدا" فقط للأسف!) أن ثقافتنا العربية الحديثة صارت أنضج نسبيا للدخول في مثل هذا الحوار العلمي عبر اللغوي حول لغتنا لتطوير علومها بدلا من تقزيمها باسم التقديس والتكريم والحماية والصون!
وهناك مدخل آخر إلى العودة أو ما يشبه العودة إلى مسألة أصل اللغات، ويتمثل هذا المدخل في أحدث إنجازات علم الآثار، فقد أعطت هذه الإنجازات دفعة جبارة للعودة إلى بحث أصول اللغات الهند-أوروﭙية من حيث الإطار الزمني لهذه المسألة ومن حيث النماذج المتنوعة للانتشار، وينطبق الشيء نفسه على مسألة أصول كل مجموعة من مجموعات اللغات الأخرى مع تقدم أبحاث ونتائج وإنجازات علم الآثار في مناطق هذه اللغات، غير أن هذه الإنجازات أعطت دفعة جبارة أيضا لمسألة الأصل الأول المشترك أو الأصول الأولى المشتركة لكل اللغات التي عرفتها البشرية، ذلك أن علم الآثار يتجه في العقود الأخيرة إلى حسم فرضية ظهور الإنسان العاقل أو الأحدث homo sapiens sapiens (وليس الإنسان العاقل أو الحديث homo sapiens وهو السلف المباشر للإنسان الأحدث) منذ حوالي أربعين أو خمسين أو مائة ألف سنة، في منطقة واحدة من العالم بلغة واحدة، ثم انتشار هذه اللغة مع انتشاره لإنشاء مواطن جديدة في مختلف أنحاء العالم تقوم فيها مجتمعات الصيادين-جامعي الثمار ، وهي المواطن والمجتمعات التي انتشرت إليها فيما بعد مجموعات لغات مثل مجموعة اللغات الهند-أوروﭙية جنبا إلى جنب مع انتشار الحضارة الزراعية، ويتجه علم الآثار في العقود الأخيرة إلى حسم هذه الفرضية وإحلالها نهائيا محل فرضية ظهور هذا الإنسان (الأحدث) في مناطق متعددة بلغات مختلفة.
وتتمثل الفكرة الجوهرية في كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" في فرضية أو نظرية الأصل الواحد المشترك للمجموعات اللغوية السامية والحامية والهندية الأوروﭙية والطورانية وربما غيرها ـ كما قال: إنها فكرة أن مجموعات اللغات هذه إنما هي الفروع الرئيسية لشجرة واحدة أسبق منها جميعا، ولم يقل الكتاب مطلقا إن العربية فرع من اللغات الهندية الأوروﭙية، كما جاء في تقرير مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر أو كما جاء في نص الحكم القضائي بتأييد ضبط الكتاب ومنع توزيعه.
ويقع هذا الكتاب الضخم في قسمين: الأول ـ ويمثل رُبْع حجمه تقريبا ـ   مخصص لعرض الفكرة الجوهرية السابقة بالإضافة إلى قضايا كثيرة اعتقد لويس عوض أنها ضرورية في سياق عرض نظريته، أما أنا فأعتقد أن عشرات الصفحات في هذا القسم الأول الذي يزيد قليلا على المائة صفحة، وهو القسم النظري، تبددت حول موضوعات شتى لا تتصل مباشرة بموضوع الكتاب وكان بوسع لويس عوض أن يَفْصلها، مكرسا تلك الصفحات لمزيد من العرض السلس للمسألة التي كانت تحتاج إلى المزيد من القول حتى يكون العرض سلسا وناجحا ومنتجا، أما القسم الثاني، أيْ ثلاثة أرباع الكتاب، فإنه يعرض القوانين الفونولوچية للتغيرات الصوتية للألفاظ ذات الدلالة المشتركة في مجموعات لغوية متعددة، ويطبق هذه القوانين على مادة فونولوچية غزيرة تشمل مجموعات اللغات المعنية بكثرة من لغاتها الحية والميتة.
وليس المقصود هنا تقييم أفكار واستنتاجات وفرضيات ونظريات وتطبيقات "مقدمة" لويس عوض، فهذه مهمة بعيدة عن اهتماماتي اللغوية المباشرة التي تنحصر في النحو العربي تقريبا كما أنها فوق طاقتي، والحقيقة أن هذه المهمة تحتاج إلى كوكبة من العلماء المتخصصين في علوم التاريخ والثقافة واللغة أو إلى عبقرية تضارع عبقرية لويس عوض.
المقصود هنا بالأحرى هو الإمساك بالفكرة الجوهرية التي قدمها الكتاب أيْ فكرة الأصل المشترك لمجموعات اللغات المعنية، في سبيل استكشاف آفاق توسيع محتمل لنطاق تطبيق هذه الفكرة، ربما ليشمل كل اللغات على وجه الأرض.
وتتسلسل عناصر الفكرة الأساسية لمسار "توالُد" اللغات في "مقدمة"، على أساس منجزات الفيلولوچيا الأوروپية وفرضياتها، على النحو التالي:
أولا: تتراكم المعطيات الفيلولوچية والفونولوچية فتكشف عن وجود معجم مشترك ضخم بين مجموعة كبيرة من اللغات، ومعجم آخر لمجموعة أخرى، إلخ.، وهكذا تكتشف الفيلولوچيا كثرة من مجموعات اللغات التي قد تشمل المجموعة الواحدة منها مئات اللغات الحية والميتة، ومن هذه المجموعات تلك المسماة بالسامية والحامية والهندية الأوروپية وهي المجموعات التي يركز عليها الكتاب.
ثانيا: مع المزيد من تراكم هذه المعطيات يتضح للفيلولوچيا أن الأمر لا يقتصر على المعجم الضخم المشترك بين لغات المجموعة الواحدة كالمجموعة الهندية الأوروپية، إذ تكتشف وجود معجم مشترك ضخم بدوره بين المجموعات المعنية هنا، أيْ أن المسألة لم تعد مسألة لغات أصلية تنحدر من كل منها مجموعة لغات بل صارت مسألة لغة أصلية تنحدر منها تلك اللغات "الأصلية".
ويتمثل دور "مقدمة" في العمل على تحويل هذه الفرضية التي قدمها العلم الغربي إلى نظرية تقوم على القوانين اللغوية، وكذلك في إدخال اللغة العربية في قلب هذا التفاعل اللغوي التاريخي الهائل الذي يتجاوز مجموعات اللغات المعنية. 
ثالثا: تتكشف أمام الفيلولوچيا آفاق أرحب تعود بنا إلى ظهور الإنسان العاقل، ويتحدث الكتاب عن مذهبيْن في العلم الغربي: ظهوره في مناطق متفرقة من العالم أو ظهوره في منطقة واحدة. ولأن ظهور الإنسان العاقل إنما كان بلغته فإن العلم الغربي يشتمل على مذهبيْن بهذا الصدد: ظهور لغات متعددة في مناطق متعددة أو ظهور لغة واحدة للإنسان العاقل في المنطقة الواحدة التي ظهر فيها أولا. ويؤيد لويس عوض مذهب ظهور الإنسان في منطقة واحدة ومذهب ظهور اللغة الواحدة في تلك المنطقة، ويشير لويس عوض إلى أن مذهب المنطقة الواحدة واللغة الواحدة: "يقول بأن المجموعات اللغوية القديمة والحديثة، كأجناس البشر قديمها وحديثها، تنحدر في نهاية الأمر من منبع واحد، وأن هناك شجرة واحدة للغات الأرض كل ما هناك من لغات هي فروع لها وأغصان". ومن الجلي أنه يؤيد هذا المذهب على اعتبار أنه "الخط العلمي" في مواجهة خط علم الأجناس والأعراق والعنصرية.
ونعرف بطبيعة الحال أن مدار بحث لويس عوض في "مقدمة" لا يتمثل في فرضية الأصل الواحد لكل لغات الأرض (وهو يؤيدها دون توسع في المناقشة) بل يتمثل في فرضية أو نظرية الأصل المشترك للمجموعات المسماة بالسامية والحامية والهندية الأوروپية.  
كما أن من الجلي أن حديثه هنا عن الإنسان العاقل أو الحديث Homo sapiens وليس عن الإنسان العاقل العاقل أو العارف العارف أو الأحدث Homo sapiens sapiens، فالإنسان الذي يتحدث عن ظهوره في منطقة واحدة بلغة واحدة هو الإنسان النياندرتالي أيْ السلف المباشر للإنسان الأحدث وهو الإنسان الكرومانيوني. ولا جدال في أن المعلم العاشر كان يقصد هذا الإنسان الأحدث بدليل أنه يتحدث عن الإنسان الحالي ويشير إلى أن أرسطو يسميه بالحيوان الناطق، ولو أن لويس عوض كان قد اطلع على مراجع ربما كانت حديثة جدا في زمن تأليف "مقدمة" وتوجز إنجازات علم الآثار في العقود الأخيرة من القرن العشرين لكان بوسعه أن يتحدث عن الإنسان الأحدث باسمه وعن لغته الأحدث أيْ اللغة كما نعرفها language-as-we-know-it وليس عن ظهور أو لغة الإنسان العاقل أو النياندرتالي.
وإذا كانت علوم الآثار والأنثروپولوچيا والثقافة قادرة على أن تعيد بناء صورة للإطار المكاني والزماني لنشأة وتطور وانتشار الإنسان الأحدث فإنها تظل عاجزة عن أن تقول لنا أيّ شيء عن هوية تلك اللغة أو اللغات، وإن كان بمستطاعها أن تقول لنا الكثير عن الخصائص الجوهرية للغة المتطورة التي تتلاءم مع أنماط سلوك الإنسان الأحدث كما تكشف ثقافته المادية، وهي بالضرورة لغة مفاهيم رمزية معقدة وتفكير مركب متطور، بعيدا عن بساطة وبدائية لغة أسلافه بما في ذلك سلفه المباشر، أيْ الإنسان العاقل أو النياندرتالي. أما علم اللغة التاريخي فإن بمستطاعه أن يشمل بدراساته الفيلولوچية والفونولوچية وإحصاءاته المعجمية مختلف المجموعات اللغوية على وجه الأرض من خلال البحث المباشر للغة التي تُعَدّ نموذجا لكل مجموعة منها، ويمكنه من ثم أن يكتشف ويحسم مسألة ما إذا كانت الإحصاءات المعجمية الشاملة تؤيد أو لا تؤيد فرضية الأصل الواحد لكل لغات الكوكب، غير أن هذا العلم لا يستطيع بالبداهة أن يضع معطياته الفيلولوچية في إطار كرونولوچي صارم.
ورغم سوء التفاهم المنطقي القائم بين علوم موضوعها الثقافة المادية للإنسان وعلوم موضوعها اللغات المنطوقة أو المكتوبة علىالحجر أو الطين أو الجلد أو الورق أو السيليكون فإن الفرضية العقلانية تتمثل في أن اللغة أو اللغات التي ظهرت مع الإنسان الأحدث وانتشرت مع انتشاره واستقرت مع استقراره هي الأصول الأولى السحيقة القدم لكل اللغات التي عرفها العالم الحديث خلال الآلاف الأخيرة من السنين وإلى يومنا هذا.
ومادمنا إزاء اتجاه علم الآثار إلى حسم نشأة هذا الإنسان في منطقة واحدة من العالم ثم انتشاره منها وإلى رسم مسار هذا الانتشار بصورة كرونولوچية، ويفترض هذا ـ بطبيعة الحال ـ اللغة الواحدة للبشر، يكون بوسعنا أن نفترض انطلاقا من علم الآثار وحده (إذا صحت أحدث إنجازاته واكتملت وعود إنجازاته اللاحقة) أن كل اللغات طوال تاريخ الإنسان الأحدث، منذ ظهوره إلى الآن، إنما هي ـ مهما كانت الحلقات الوسيطة المحتملة ومهما كانت تشكلات المجموعات واللغات واللهجات ـ استمرار محوَّر بصورة تاريخية بالغة التعقيد، من خلال تواصل التمايزات والاندماجات والتفاعلات اللغوية، من خلال نماذج شتى بالغة التعقيد بدورها، ذلك أنه لا مجال لافتراض أن الإنسان، في زمان ما، في مكان ما، نسي لغته تماما، وابتكر لغة جديدة تماما لا صلة لها باللغة التي ترجع إلى زمن نشأته كإنسان.
ومادام الإنسان الأحدث، بلغته الأحدث، حديثا إلى هذا الحد، مجرد عشرات الآلاف من السنين[21]، فإن تجربة استمرار لغات ما تزال حية منذ آلاف السنين أو لغات أخرى عاشت آلافا من السنين قبل موتها، تلقي الضوء على حقيقة بسيطة وهي أن استمرار اللغات عشرات الآلاف من السنين أيْ منذ نشأة الإنسان الأحدث أمر يسهل تصوره، رغم أن الاستمرار يتحقق عبر التغيرات المتواصلة، ورغم أن موت لغة، كاللغة المصرية القديمة، لا يعني انقطاع صلة اللغة اللاحقة باللغة الميتة ولا باللغات التي كانت هذه اللغة قد حلت محلها في الماضي، فالموت والحياة ليسا هنا سوى التغير، ليسا سوى التغير اللغوي.
ومهما يكن من شيء، مهما تكن هذه الفرضيات صحيحة أو خاطئة، فإن ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا هو إخضاع كل الظواهر (ومنها اللغة العربية بحقائقها وأساطيرها) للبحث العلمي الحر. وبدلا من تقديس اللغة العربية، وهو تقديس تمثلت ثماره المرة دائما في الإضرار الفادح بها وبعلومها، انطلاقا من أيديولوچيا سياسية دينية لغوية بعينها تسيطر على مجتمعنا ودولتنا، وكذلك على من يتمردون عليهما تحت هذه الراية نفسها، ينبغي رفع مختلف القيود التي تكبل تطور اللغة العربية كلغة وكعلوم لغوية.
وهناك حقيقة بسيطة لم يحسب حسابها أحد؛ لا مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ولا مباحث أمن الدولة، ولا نيابة أمن الدولة، ولا محكمة جنوب القاهرة الابتدائية، ولا القانون المصري ولا الدستور المصري (بنصوصهما المقيدة لأبسط الحريات)، ولا رشاد رشدي، ولا السادات، ولا كل من تآمروا ضد كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية"... هذه الحقيقة البسيطة هي أن إجراءات ضبط أو منع توزيع أو مصادرة كتاب هى قبلة الموت لهذه الإجراءات ذاتها وللقوانين التي تستند إليها، إذ أنها الضمانة الأولى لإشعال الطلب على الكتاب، ومضاعفة قرائه، ونشر أفكاره، وتجنيد أنصار جدد لتحرير البحث العلمي الحر من كل القيود التي تخنقه في بلادنا، ومع ذلك، مع اعترافي بالفوائد السبع لضبط ومصادرة الكتب، أضم صوتي إلى أصوات كل المطالبين بالإفراج عن "مقدمة في فقه اللغة العربية"، وعن الحرية.    
 
 
ملحق 1
 
عرض لكتاب:
 
مصير العالم الثالث[22]
تأليف: توما كوترو و ميشيل إسُّون
 
 
يشتمل هذا الكتاب، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، على قسمين يتألف كل منهما من ثلاثة فصول. والقسم الأول بعنوان: حالة العالم الثالث، والقسم الثاني بعنوان: التنمية المستعصية.
وإذا أردنا التعرف بسرعة على موضوعات فصول الكتاب، يمكن القول إن الفصل الأول يتناول مفهوم وواقع العالم الثالث اليوم: هل ما يزال هناك عالم ثالث أم أنه انفجر إلى ثلاثة عوالم ثالثة؟
ويتناول الفصل الثاني المسألة السكانية: النمو السكاني ـ أهو نعمة أم نقمة بالنسبة للفقراء؟
ويضعنا الفصل الثالث أمام محاولات إجابة على أسئلة حاسمة: هل من الممكن تغذية هذه الكتل البشرية بصورة سليمة؟ وأين من ذلك الزراعة والفلاحون في العالم الثالث، سواء على الصعيد التقني أو الاجتماعي أو البيئي؟ وأية سياسات زراعية من شأنها تلبية متطلبات كل ذلك؟ والمعونة الغذائية، وبصفة أعم: معونة التنمية، أهي نعمة أم أداة للمزيد من استعباد البلدان الفقيرة؟
وينقلنا الفصل الرابع إلى قطاع الصناعة وإلى مزيد من الأسئلة المصيرية: ماهي الدروب التي سلكتها البلدان التي رغبت في التحرر من خضوعها إزاء الأسعار الزراعية العالمية كما رغبت في تنويع هيكلها الإنتاجي؟ والتجربة الناجحة للبلدان الصناعية الجديدة (وخاصة التنانين أو النمور الآسيوية الأربعة)، هل تصلح كمثال يُحتذى؟ وهل هناك إستراتيچيات أخرى من شأنها أن تقدم بديلا؟
ومع الفصلين الخامس والسادس نصل إلى فكرة من الأفكار الأساسية لهذا الكتاب: لا يكمن جوهر التخلف في المجادلات التقنية حول "الثورة الخضراء"، أو إحلال الواردات، أو الانتقال السكاني. إن ما هو جوهري يتمثل في الإجابات التي يقدمها كل بلد من بلدان العالم الثالث على سؤالين: ما هي القوى الاجتماعية التي تدفع النمو الاقتصادي؟ (موضوع الفصل الخامس) وما مدى اندماج كل بلد من هذه البلدان في الاقتصاد العالمي؟ (موضوع الفصل السادس).
ويرى المؤلفان الفرنسيان أن الطريقة التي يجيب بها كل بلد على هذين السؤالين معا تؤثر تأثيرا حاسما على مصير سكانه.
وفي مقدمة بعنوان له مغزاه العميق هو: الثالث المرفوع، والمقصود بذلك بطبيعة الحال هو العالم الثالث، يشير المؤلفان إلى انهيار الحقائق اليقينية مع نهاية الثمانينات مع سقوط نظام توازن القوي العالمي السائد منذ الحرب العالمية الثانية ومع الشك العميق في الإيمان السابق بالتقدم والعلم كدواء لأدواء البشر ومع الشك في وجود "نموذج للمجتمع" بخلاف الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل الذي لا يمكن تجاوزه للتنظيم الاجتماعي، كما يدّعي أنصار نظرية "نهاية التاريخ".
ثم يؤكد المؤلفان أن سياسات التنمية لا تفلت من هذه المجزرة للأفكار السائدة. 
والحساب الختامي مثير للذهول.
سكان الشمال (أو المركز أو البلدان المتقدمة) يمثلون 25٪ من سكان العالم ولكنهم يستهلكون 70٪ من الإنتاج العالمي للطاقة و75٪ من الإنتاج العالمي للمعادن. والبلدان التي يقطنها اﻟ 20% الأغنى من سكان العالم تتصرف في 83٪ من مجمل الإنتاج العالمي وعلى اﻟ 20% الأفقر أن يقنعوا ﺒ 1.4% من هذا الإنتاج. ونسبة اﻟ 83% هذه في 1989 كانت 70% قبل ذلك بعشرين سنة أما الخُمْس الأفقر الذين يحصلون الآن على 1.4% فكانوا يحصلون على 2.3% في 1960. وخلال الثلاثين سنة الماضية تضاعف فارق في الدخل بين الخمس الأغنى والخمس الأفقر من سكان العالم: فأصبح بنسبة واحد إلى 95 في 1989.
وفي الثمانينات كان العالم الثالث ينمو بسرعة أقل من البلدان الصناعية بل هناك مناطق بأسرها كفت عن النمو حيث تراجع نصيب الفرد من الناتج. وفي بداية التسعينات ظل الدخل الحقيقي للفرد راكدا في مجموع بلدان الجنوب (العالم الثالث)، بل بلغ هذا التراجع 6.4٪ في سنتين بالنسبة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وباختصار توقف اللحاق وتتسع الفجوة طوال السنوات العشر الأخيرة.
ويلخص المؤلفان النتيجة الاجتماعية الجوهرية لعقود طويلة من التنمية في العالم الثالث:
البلدان التي كانت متخلفة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم حققت للغالبية الساحقة من سكانها العيش في شروط لائقة من ناحية التغذية والصحة والتعليم، بلدان تعد على أصابع اليدين.
في آسيا: الصين الشعبية، وتايوان، وكوريا الجنوبية (كما يمكن إضافة هونج كونج ، وسنغافورة، وجزيرة موريشيوس).
في أمريكا اللاتينية: كوستاريكا، و( بصورة مشكوك فيها أكثر فأكثر) كوبا.
في أفريقيا: ولا بلد واحد.
ويتساءل المؤلفان عما هو مشترك في السياسات المتبعة في هذه البلدان المعدودة، والذي من شأنه تفسير نجاحها. ويخرجان بالاستنتاج الرئيسي للكتاب بكامله: " هناك سمتان على وجه الخصوص: هيكل اجتماعي وزراعي يقوم على المساواة نسبيا؛ حكومات فعالة ويقظة إزاء الاندماج في السوق العالمية. وحتى الياپان، آخر بلد يدخل نادي القوى الصناعية العظمى خلال هذا القرن، حققت ذلك وفقا لهذا النموذج".
 
مفهوم وواقع العالم الثالث
 
يبدأ المؤلفان الفصل الأول بالتمييز بين تيارين فكريين بخصوص مشكلات التنمية.
والتيار الأول: بنيوي، كينزي، ماركسي، عالم-ثالثي، ويصف الاقتصاد الرأسمالي العالمي باعتباره بنية هيراركية تتألف من مركز (خاصة الولايات المتحدة، أورپا الغربية، الياپان) ومحيط ( أفريقيا، أمريكا اللاتينية، آسيا باستثناء الصين والياپان).
والتيار الثاني: ليبرالي المنحى، ولا يرى علاقة تبعية أو هيراركية بين الشمال والجنوب، بل ينطلق من النظرة الخاصة باقتصاد عالمي موحد لا يملك فيه كل بلد، وفقا للنظرية التي صاغها (ديڤيد ريكاردو) في بداية القرن التاسع عشر، إلا أن يستغل "مزاياه النسبية" لكي يربح.
ورغم التباينات الضخمة بين بلدان العالم الثالث إلا أن هناك سمات مشتركة أكيدة تشكل الوحدة وسط هذا التنوع:
       *  نمو سريع للسكان.
   *  نسبة مرتفعة للسكان العاملين بالزراعة: في المتوسط 30٪ في الجنوب مقابل 7٪ في الشمال.
       *  نقص توظيف قسم ضخم من السكان العاملين، ويرجع إلى بقاء العلاقات العتيقة في الزراعة كما يرجع إلى الهجرة الجماعية الريفية الناشئة عن انهيارها. ويصبّ هذا في تضخم فوضوي للمدن وكذلك في " قطاع غير رسمي" مديني ضخم وكذلك أيضا في ضعف الحافز إلى التجديد التكنولوچي والاجتماعي.
      *  ضخامة التفاوتات الاجتماعية: اﻟ 10٪ الأكثر غنى من السكان العاملين يتلقون حوالي 25٪ من الدخل الإجمالي في البلدان المتقدمة، أما في البلدان النامية فإنهم يحتكرون 44٪ في ساحل العاج، و37٪ في الفليپين، و40٪ في المكسيك، و50٪ في البرازيل.
  *  ضعف القدرة على التجديد التكنولوچي: وبالتالي تصبح كل بلدان العالم الثالث تقريبا تابعة للشركات عبر القومية، ويتركز 97٪ من الإنفاق العالمي على تنمية الأبحاث في البلدان المتقدمة.
      *  تضخم الدولة.
فما منشأ هذا التخلف؟ وهل يرجع إلى أسباب داخلية أم خارجية؟.
يجيب المؤلفان كما يلي: " تجد علاقات التبعية منشأها في الوجود المتزامن، في سوق عالمية واحدة، لأمم تطورت داخلها علاقات الإنتاج الرأسمالية بصورة غير متساوية. وهكذا يمكن تعريف "التخلف" على أنه الصدام بين قانون المنافسة الذي ينظم السوق العالمية، ومجتمعات مجردة من التماسك الداخلي الوظيفي لهذا القانون". وبالتالي فإن جذور التخلف "لا هي داخلية ولا هي خارجية، بل هي داخلية وخارجية.. دوما ".
والحقيقة أن العالم الثالث ينقسم إلى ثلاثة عوالم ثالثة:
 1 ـ اقتصاد الاستنزاف قبل الصناعي الذي يسود بلدان أفريقيا جنوب الصحراء (باستثناءات) بالإضافة إلى بلدان أخرى مثل هايتي وبورما وبنجلاديش.
  2 ـ الاقتصاد الأولى التصديري، حيث الانتشار الحاسم كيفيا لعلاقات الإنتاج الرأسمالية في قطاعات مهمة وخاصة تصديرية، وتنتمي إليه بلدان پترولية مثل نيچيريا والجزائر والكونغو ومصر وإندونيسيا، ورغم أن السبعينات شهدت معدلات نمو مرتفعة أحيانا في هذه البلدان إلا أن تراجع الثمانينات كان عنيفا ( مثلا؛ تراجع معدل نمو الصناعة الإندونيسية من 11.9٪ سنويا بين 1965 و 1980 إلى 5٪ منذ ذلك الحين). وفي بلدان أخرى تنتمي إلى هذا الاقتصاد ( مثلا؛ بوليڤيا، المغرب، سوريا)  كان النمو أقل سرعة في السبعينات وبطيئا جدا وحتى سلبيا منذ الثمانينات.
    3 ـ البلدان الصناعية الجديدة أو البلدان شبه الصناعية، كما يفضل المؤلفان تسميتها: هناك في المحل الأول التنانين أو النمور الآسيوية الأربعة لكن أيضا المكسيك والبرازيل وإن كان هذان البلدان يتجهان إلى الهبوط في فئة البلدان الثقيلة الديون، كما يمكن إدراج الأرجنتين وتركيا وخاصة الهند في هذه الفئة .
وتتميز هذه البلدان بامتلاك برچوازية صناعية تقف على أقدامها وطبقة عاملة تشغل مكانا مركزيا في النضالات الاجتماعية والسياسية، وكذلك بنمو سوق داخلية حقيقية للمنتجات المصنعة لا ترتكز فقط على الطبقات السائدة بل كذلك على شرائح متوسطة مهمة.
ورغم هذا التنوع ورغم الواجهة الدعائية التي تمثلها النمور الأربعة، هناك ما يشكل وحدة هذه البلدان. فالأمر الجوهري هو أن "عمليات التصنيع الجارية في عدد من هذه البلدان هي واقع فعليّ غير أن الأمر يتعلق، باستثناءات قليلة نادرة، بتصنيع ناقص، ومشوه، وتابع، وهش، ولم يرتكز على نمو السوق الداخلية وإشباع الحاجات الشعبية".
والنتيجة المنطقية والتاريخية هي أن بلدان العالم الثالث، بوجه عام، دخلت مع بداية الثمانينات مرحلة جديدة، هي مرحلة التراجع الاجتماعي: أصبح على عدد من بلدان المحيط، التي ترزح تحت عبء الديون، أن توقف نموها وأن تخصص جانبا مهما من مواردها لدفع فوائد ديونها.
 
السكان: نعمة أم نقمة ؟
 
يمكن القول إن العالم يشهد اليوم مشكلتين سكانيتين لكل منهما خصائصها وأخطارها النوعية. وفي هذا العالم المنقسم إلى عالم البلدان الغنية أو المتقدمة أو المركز أو الشمال وعالم البلدان النامية أو المتخلفة أو المحيط أو الجنوب ( أيْ العالم الثالث)، نجد لكل عالم منهما المشكلة السكانية الخاصة به. وباختصار: ركود سكاني في الشمال، وانفجار سكاني في الجنوب.
وقد شهد التاريخ منذ بدايته في كل مكان وإلى اليوم نوعين من الركود السكاني أو تباطؤ النمو السكاني. فمنذ بداية التاريخ وحتى بداية العهد الرأسمالى ساد ركود سكاني كان محصلة الالتقاء بين معدل مواليد مرتفع ومعدل وفيات مرتفع. وفي المجتمع الرأسمالي الناضج كما في الشمال اليوم ( أو منذ عقود طويلة ) يسود ركود سكاني هو محصلة الالتقاء بين معدل مواليد منخفض ومعدل وفيات منخفض.
وبين هذين الركودين المختلفين نوعيا تمتد فترة، قد تصل إلى قرون، تتميز منطقيا وتاريخيا بانخفاض معدل الوفيات بفضل بعض التطورات الصحية والطبية في البداية، ثم بفضل المزيد من التطور الاقتصادي والاجتماعي والصحي اللاحق. أما معدل المواليد فإنه يبقى على ارتفاعه على مر القرون إلى أن يبدأ الانخفاض التدريجي بفضل تطورات اقتصادية واجتماعية وعلمية وطبية بذاتها.
وبقدر ما يبقى معدل المواليد مرتفعا مع استمرار انخفاض معدل الوفيات، ومحصلتهما ارتفاع معدل النمو السكاني ونشوء هيكل عمري جديد يتميز بارتفاع نسبة الشباب والأطفال، نكون أمام ظاهرة لا مفر منها: ظاهرة الانفجار السكاني.
أما التطور المنطقي اللاحق: استمرار انخفاض معدل المواليد مع استمرار انخفاض معدل الوفيات، بفضل تطورات تحديثية تاريخية، فإنه يتوقف على حدوث واكتمال ونضج هذه التطورات الأخيرة. وإذا كان هذا التطور قد حدث بالفعل في البلدان المتقدمة مؤديا إلى الركود السكاني الراهن في الشمال، فإن حدوثه واستمراره ونضجه واكتماله النهائي في الجنوب أشياء تتوقف في نهاية المطاف على استمرار أو انقطاع التطورات التاريخية في الجنوب. وإذا كانت بعض مناطق الجنوب قد صارت من الآن أورپية من الناحية الديموجرافية (الصين بالذات) فإن الانفجار السكاني هو الواقع الفعلي إلى الآن، وإلى مستقبل طويل، في أغلب المناطق الأكثر نموذجية في تمثيل العالم الثالث.
وإذا كانت مشكلة الركود السكاني في الشمال تنطوي على مشاكل اقتصادية ضخمة وثيقة الصلة بالشيخوخة الديموجرافية في المدى القريب والمتوسط، وعلى مشاكل تتعلق بالبقاء ذاته في المدى البعيد، فإن مشكلة الانفجار السكاني تواجه العالم الثالث بمشاكل تتعلق بالاقتصاد وبالبقاء في المدى المباشر والقريب والمتوسط، إلى حد أن أفريقيا مرشحة لتدخل الضوابط المالتوسية وللتحول إلى قارة قليلة السكان نتيجة للمجاعات والحروب الأهلية.
ويرى المؤلفان أن الطريقة العقلانية تتمثل، بعيدا عن المالتوسية القديمة والجديدة، في إدراك وتقييم مدى واتجاهات العمليات الديموجرافية وتقدير آثارها الاقتصادية والاجتماعية واستخلاص نتائجها على الاقتصاد العالمي.
 
البشر والأرض والجوع
 
في أمريكا اللاتينية يعاني 14٪ من السكان الجوع رغم الكثافة السكانية المنخفضة والأراضي الواسعة القابلة للزراعة. وباستثناء المكسيك وكوبا، حيث جرت إصلاحات زراعية عميقة، يبرز دور التركيز العقاري وراء هذا الوضع (1.3٪ من الملاك يملكون 71.6٪ من الأراضي الزراعية).
وفي آسيا نجاح أكيد ولكنه جزئي من خلال زراعة كثيفة في العمل ومقتصدة في رأس المال ومن خلال ثورة الأصناف الجديدة من الحبوب الغذائية ومكافحة الطفيليات وتحسين أساليب الري واستخدام الأسمدة.
أما أفريقيا فتمثل كارثة حقيقية حيث يعاني أكثر من 300 مليون أفريقي من أصل 650 مليون سوء التغذية (الفاو). ويتواصل تفاقم انعدام الأمن الغذائي، كما أنه يمكن أن ينقلب إلى مجاعة في حالة الحرب الأهلية، كما كان الحال في الصومال.
فهل تشكل معونة التغذية أو معونة التنمية حلا؟
في الواقع، يرتفع باستمرار المبلغ الإجمالي المخصص لمعونة التنمية: من 14 مليار دولار في 1975، إلى 27 مليار في 1980، إلى 51 مليارا في 1988. فإلى أين تذهب هذه الأموال؟ الواقع أن المعونة الدائمة تهم حكومات البلدان المانحة والمستفيدة أكثر مما تلبي مصالح السكان المعنيين بل هي ضارة بهم.
فالمعونة الغذائية الدائمة تنافس المحاصيل المحلية وتنافس العادات الاستهلاكية لصالح الأغذية المستوردة من الغرب (وخاصة القمح)، وتقلص أسواق تصريف الزراع المحليين بسبب رخص المواد الغذائية المستوردة، ويؤدي هذا إلى هبوط الأسعار الزراعية الداخلية الأمر الذي يؤدي إلى تقليص الإنتاج المحلي وبالتالي تزايد المعونة والواردات.
 
الطريق الضيق إلى التصنيع
 
خلال قرابة ربع قرن بعد الحرب العالمية الثانية تضاعف نصيب الفرد من الإنتاج الصناعي: 3 أضعاف في أفريقيا، و 3.8 في آسيا، و 2.7 في أمريكا اللاتينية، و 3.2 في أورپا، وأكثر من 18 ضعفا في الياپان.  
وبرغم تباين مستويات الانطلاق والوصول، تجري عملية لحاق حقيقية فينمو نصيب العالم الثالث في الإنتاج العالمي كما في صادرات المنتجات المصنعة.
هكذا تغيرت صورة المحيط المتخصص في المواد الأولية (الزراعة والمناجم) والمركز الصناعي. ويتعلق الفارق الرئيسي بنسبة صناعات التجهيزات ومعدات النقل إلى الإنتاج الصناعي (40٪ في المركز مقابل 25٪ في المحيط)، وبالمقابل يكون للصناعات الزراعية الغذائية وصناعات السلع التقليدية أو الوسيطة وزن أكثر أهمية في المحيط.
ويتضح اتساع نطاق التصنيع في المحيط من واقع أنه حيثما يحدث التصنيع هناك ينتج عن ذلك تقارب في هيكل الإنتاج الصناعي بين المركز والمحيط. ولكن هيكل صادرات المنتجات المصنعة هو الذي يحدد بدقة ملامح عملية التصنيع. ورغم أن حصة هذه الصادرات تضاعفت من 26٪ إلى 53٪ بين 1965 و1989، إلا أن حصة السلع التجهيزية تطورت بسرعة أقل من المجموع، كما أن تطورها تركز في عدد قليل جدا من بلدان العالم الثالث. وفضلا عن ذلك، أدى نمو صادرات النسيج إلى ظهور تخصص للجنوب على أساس هذه المرحلة التصنيعية ذات المحتوى التكنولوچي الهزيل.
وقد وصلت بلدان الجنوب إلى هذه النتائج من خلال شروط موضوعية متباينة وإستراتيچيات اقتصادية مختلفة: الصناعات التصنيعية، إحلال الواردات، التصنيع بتنمية الصادرات.
ويقف المؤلفان عند النموذج الكوري (الجنوبي بالطبع) ويخرجان بدروس مهمة قد تصدم أولئك الذين يعولون عليه والذين لا يدركون جيدا أن النموذج الكوري يتميز بشروط وخصوصيات تاريخية واجتماعية لا تتفق مع تصوراتهم عنه أو بالأخص مع مصالحهم المباشرة: دور المعونة الخارجية الضخمة، دور الإصلاح الزراعي الجذري الذي فرضته قوات الاحتلال الأمريكية هناك لصد الخطر الشيوعي، الدور الكبير للرأسمالية المحلية. ويرفض المؤلفان أسطورة أن كوريا لم تكن سوى قاعدة تصدير لأمريكا والياپان والشركات المتعددة الجنسيات، ويؤكدان واقع أن تفاوت الدخول في كوريا الجنوبية أقل من بقية بلدان العالم الثالث باستثناء الصين أساسا، وواقع أن الاقتصاد الكوري كان اقتصادا مخططا إلى حد بعيد ولم يكن اقتصادا ليبراليا على الأقل خلال مرحلة النهوض والهجوم على السوق العالمية.
وبالتالي فإن الطريق الكوري ليس طريقا ملكيا يسهل لبلدان العالم الثالث أن تسلكه من خلال مجرد تطبيق تدابير ليبرالية، وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية وإيكولوچية.
وأخيرا فليس هناك نموذج عام للعالم الثالث كله اليوم. وإذا كانت بلدان النمط قبل الصناعي ـ حتى الپترولية منها بسبب هبوط أسعار البترول ـ تجد نفسها عاجزة أمام مهمة إعادة انتشار جهازها الإنتاجي صوب صناعات أخرى، وإذا كانت الاقتصادات الأولية التصديرية تتعرض لدفع قوي من جانب البنك الدولي إلى التخلي عن طموحاتها في التصنيع وإلى التركيز على مزاياها النسبية التقليدية، فإن البلدان شبه الصناعية تجد نفسها في مواجهة مشكلة خاصة بالتماسك الاجتماعي والسياسي (كوريا الجنوبية، البرازيل، المكسيك).
 
النماذج الاجتماعية
 
لا يشهد العالم الثالث انفجار سكانيا فقط بل يشهد كذلك انفجارا سرطانيا في نمو سكان المدن والمدن الضخمة (الميجاپولات) Mégapoles. وفي العقد الأخير كان نمو السكان بمعدل 2٪ ونمو سكان المدن بمعدل 6.9٪ سنويا. وفي 1965 كان 24٪ من سكان البلدان النامية من سكان المدن فأصبحوا 41٪ في 1988.
ولا تصبّ هذه الهجرة الريفية الضخمة في عملية تحديث حقيقية بل تقذف بها التكنولوچيات المستوردة في صناعات البلدان النامية إلى النمو الانفجاري للبطالة المدينية وتهديد الاستقرار الاجتماعي. كما يصبّ كل هذا في انخفاض الأجور (الذي يعني أيضا انخفاض الإنتاجية) وتدهور مستويات المعيشة والعمل العرضي الدائم والواسع النطاق وفيما يسمى بالقطاع غير الرسمي، الأمر الذي يؤدي إلى تحولات ضخمة في سوق العمل وفي تكوين الطبقات العاملة والشعبية.
وفي ظل سيطرة نخبة صغيرة، كثيرا ما تكون بيروقراطية حكومية أو عسكرية، على الاقتصاد، وفي ظل دولة كلية الوجود حيث ينبغي ألا تتدخل، وعاجزة حيث ينبغي أن تفعل، وفي ظل تركيز متعاظم للموارد والسلطة، لا تؤدي إستراتيچيات وسياسات التنمية إلى إزالة العراقيل من طريقها، بل إلى إعادة إنتاج المنطق الداخلي للتخلف.
 
اندماج الثمانينات
 
تبقى مسألة أساسية هي تلك المتعلقة باندماج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد العالمي. وفي بداية الثمانينات ساد تطلع متفائل إلى "تقسيم دولي جديد للعمل". والنتيجة في نهاية الثمانينات هي ظاهرة المديونية الثقيلة للبلدان المرشحة للتنمية التي يتمثل أحد مظاهرها في انقلاب صافي التحويل (القروض الجديدة مطروحا منها الفوائد والسداد) ليصبح إيجابيا لصالح البلدان الغربية، أيْ أن العالم الثالث، بما في ذلك أفريقيا، هو الذي "يساعد" اليوم البلدان الغنية، بما يؤدي إليه من تراجع كل تصنيع طموح أو تنمية حقيقية. ومن هذا الباب يدخل التكيف الهيكلي برعاية منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والمقصود: خفض قيمة العملة، إلغاء تدابير الحماية الجمركية، تقليص الدولة، أيْ تقليص الإنفاق العام والقطاع العام والدعم. غير أن إدراك واقع الاقتصاد العالمي باعتباره اقتصادا هيراركيا يؤدي إلى استنتاج لا مفر منه: التكيف الهيكلي لا يقدم إمكانية حقيقية للتنمية.  
وهكذا فرغم نجاح عدد ضيق من البلدان أو حتى أجزاء من بلدان، يتجه العالم الثالث بمجمله أكثر فأكثر إلى التهميش من وجهة نظر مساهمته في الاقتصاد العالمي الذي أصبح يتميز بشكل ثلاثي الأقطاب حيث تنظم كل قمة من قمم "الثالوث" مناطق خاصة بها. وتتجه الولايات المتحدة إلى إعادة فتح القارة الأمريكية، بينما يصبح العملاق الياپاني مركزا تنتظم حوله آسيا بصورة هيراركية، فيما تتجه أوروپا نحو المناطق ذات الأجور المنخفضة للجنوب والشرق.  
أما بقية الجنس البشرى، غالبيته في الواقع، فليست مدعوة إلى أن تلعب دورا فعالا، ومن وجهة النظر هذه يمكن حقا "إلغاء العالم الثالث" على حد تعبير مقال لمجلة "نيوزويك" بتاريخ 27 أبريل 1992.
 
 
 
 
 
ملحق 2
 
عرض لكتاب:
 
الأساطير والميثولوچيات السياسية[23]
تأليف: راؤول چيرارديه
                                   
 
 المؤلف هو راؤول چيرارديه Raoul Girardet أستاذ التاريخ المعاصر في  معهد الدراسات السياسية بپاريس وقد أصدر قبل هذا الكتاب العديد من  المؤلفات، منها "النزعة القومية الفرنسية 1871- 1914"، و"فكرة الاستعمار في  فرنسا 1871- 1962". والكتاب هو الأساطير والميثولوچيات السياسية Mythes et mythologies politiques، الذي يقدم بحثا من نوع جديد وفريد: الميثولوچيات السياسية بمجموعات أساطيرها في فرنسا خلال القرنين الأخيرين: التاسع عشر والعشرين.
 ويستعرض المؤلف "ثيمات"  thèmesوأساطير كتابه من خلال توثيق  "اقتباس" واسع النطاق من أعمال الأدباء والمؤرخين والفلاسفة الفرنسيين طوال القرنين.
 
من تاريخ الأفكار السياسية إلى عالم الخيال السياسي
 
تمهيدا لإيضاح  الفكرة الرئيسية لكتابه يسجل راؤول چيرارديه أن المؤلفات الكثيرة التي يجري تأليفها منذ أجيال عديدة في  إطار ما يسمى "بتاريخ الأفكار السياسية" تحصر استكشافها، باستثناءات قليلة وحديثة جدا، في "مجال الفكر المنظم، المصوغ صياغة عقلانية، والمتسلسل منطقيا، دون سواه" والمقصود بسواه هنا هو على وجه  التحديد: عالم الخيال l’imaginaire.
 ويرى المؤلف أن هذا النهج مفهوم ومشروع فهو "متوارث عن تلك الأولوية التي توليها الحضارة الغربية، منذ ثلاثة قرون تقريبا، لما هو عقلي: فقط في إطار المواجهة بين المذاهب، في إطار اشتباك أو تصادم ‘الأنساق الفكرية‘ يتم إدراك وفهم المناظرات الكبرى التي تجابهت فيها تاريخيا الرؤى المتعارضة لمصير الأمم". ولا يجادل المؤلف في مشروعية هذا النهج ولا يرغب بحال من الأحوال في إعادة النظر فيه فهو النهج السائد على كل حال في تاريخ الأدب، أو تاريخ الفن، أو تاريخ العلوم. ويتمثل الهدف الجوهري للكتاب في توسيع مجال ما يسمى بتاريخ الأفكار السياسية ليمتد فيشمل عالم الخيال، فالكتاب إذن محاولة لاستكشاف شكل بذاته من أشكال عالم الخيال هو في حالتنا عالم الخيال السياسي، بدلا من الحالة الراهنة التي يصفها المؤلف كما يلي: "الواقع أن كل ما يستعصى على الصياغات الجازمة، كل ما ينبع من الأعماق الخفية للقوى الحلمية، يظل مستبعدا في منطقة ظِلٍّ يندر حقا من يجرؤ على التوغل فيها. وقلما يؤخذ الحلم في الاعتبار إلا حينما يتم التعبير عنه في الشكل التقليدي الذي يُتفق على تسميته باليوتوپيا، أي نوع أدبي محدد تماما، له غايات تعليمية مؤكدة بوضوح، يخضع لترتيب صارم في العرض، ويسهل فهمه بالذكاء المنطقي وحده".
 ويشدد المؤلف على "التأثير التاريخي" للأفكار السياسية وخاصة "لعدد من المؤلفات السياسية العظيمة" مثل مؤلفات لوك، أو روسو، أو مونتسكيو، أو ماركس، فلولا هذه المؤلفات لما كانت مجتمعات أواخر القرن العشرين بصورتها الراهنة.
غير أن هذا لا يمكن أن يستبعد "التأثير التاريخي" لعالم الخيال السياسي، للأحلام الجمعية والمخاوف الجمعية، للأساطير والميثولوچيات السياسية. والواقع أن الاضطرابات السياسية خلال القرنين الأخيرين من التاريخ الأوروپي كانت مصحوبة بفوران ميثولوچي مذهل: فضح لمؤامرة شريرة ترمي إلى إخضاع الشعوب لسيطرة قوى غامضة ولعينة؛ تصورات عن عصر ذهبي مفقود يجدر بنا أن نستعيد نعيمه أو ثورة منقذة تتيح للبشرية أن تدخل الطور النهائي لتاريخها وتكفل أن يسود العدل إلى الأبد؛ تطلُّع إلى الزعيم المنقذ، مُصلح النظام أو القائد المظفر لعهد جديد من العظمة الجماعية، إلخ. إلخ. إلخ..
وهناك أيضا حقيقة أن بعض هذه "الثيمات" ماثلة "في خلفية بعض المذاهب العقائدية الكبرى للقرن الماضي، بما فيها تلك التي تستند بكل قوتها إلى دقتها في البرهنة وإلى الطابع ‘العلمي‘ بصفة جوهرية لفرضياتها"، غير أن الألفيات الثورية، ونزعات الحنين إلى الماضى، وعبادة الزعيم الملهم، والهواجس الشريرة، يمكن أن تتخذ الشكل المباشر للأسطورة: "وعندئذ تفرض الأسطورة نفسها بكل استقلالها، فتتشكل في نسق متماسك وكامل من المعتقدات. وفي هذه الأحوال، لا تعود الأسطورة تستند إلى أية شرعية أخرى سوى شرعية مجرد تأكيدها، ولا إلى أيّ منطق آخر سوى منطق انتشارها الحر".
ويأخذ الكتاب على عاتقه مهمة دراسة حالة فرنسا خلال القرنين المذكورين من حيث الأساطير السياسية انطلاقا من تصورات بذاتها عن ثيمات الأساطير السياسية وحلول بذاتها لإشكاليات هذه الأساطير. وهكذا تتبلور كموضوعات للبحث والتأمل أربع "كوكبات ميثولوچية" أيْ أربع مجموعات أبنية ميثولوچية تنتمي كل مجموعة منها إلى ثيمة محورية وتنتظم حول نواة مركزية، وهذه الكوكبات أو المجموعات الميثولوچية الأربع الكبرى هي: المؤامرة، المخلِّص، العصر الذهبي، الوحدة. 
 
الأسطورة السياسية
 
 والأسطورة عند علماء الأنثروبولوچيا تتمثل في سرد يتعلق بالماضي ("في سالف العصر والأوان.."، "كان يا ما كان..")؛ "لكنه يحتفظ في الحاضر بقيمة تفسيرية بالغة الأهمية بقدر ما يوضح ويعلل بعض الانقلابات في مصير الإنسان أو في بعض أشكال التنظيم الاجتماعي". وينقل المؤلف عن ميرسيا إلياد قوله: "تروي الأسطورة تاريخا مقدسا، إنها تسرد واقعة جرت في الزمن السحيق القدم، زمن البدايات الخرافي. وبعبارة أخرى، تروي الأسطورة كيف جاء واقع ما إلى الوجود سواء أكان هذا الواقع كليا، الكون، أم مجرد جزء ليس إلا: جزيرة، نوع من النبات، سلوك إنساني، مؤسسة". وعند آخرين، يختلط مفهوم الأسطورة بمفهوم الخداع، ذلك أن الأسطورة ـ  باعتبارها وَهْما أو توهما أو تهويما ـ تُبَدِّل معطيات الملاحظة التجريبية وتتعارض مع قواعد الاستدلال المنطقي، وبهذا تقوم كحاجز بين حقيقة الوقائع ومقتضيات المعرفة. وعند آخرين غيرهم، هم قراء چورچ سوريل "تمثل الأسطورة نداء إلى الحركة، وحثًّا على العمل، وهي تبدو في نهاية المطاف حافزا لطاقات ذات قوة استثنائية".
وهذه الأبعاد الثلاثة لكل أسطورة بوجه عام نجدها ماثلة كذلك في كل أسطورة سياسية. "حقا إن الأسطورة السياسية تلفيق، أو تشويه أو تفسير للواقع يمكن الطعن فيه موضوعيا. غير أن من الصحيح أنها، كسرد خرافي، تؤدي أيضا وظيفة تفسيرية، فتقدم عددا من المفاتيح لفهم الحاضر، وتشكل شفرة رموز يمكن للفوضى المحيرة للوقائع والأحداث أن  تبدو متسقة من خلالها. كما أن من الصحيح كذلك أن هذا الدور التفسيري يتضاعف بدور تعبويّ: بفضل كل ما تقوم بتوصيله من دينامية نبوئية، تشغل الأسطورة مكانا رئيسيا بين أسباب الحملات الصليبية وكذلك بين أسباب الثورات".
 
بين سيولة ومنطق الخطاب الأسطوري
 
 والأسطورة، كالحلم، لا يمكن حصرها أو تحديدها أو حبسها داخل حدود صارمة، فذلك لا يؤدي إلا إلى تشويه الأسطورة وإفقارها وبترها وتجريدها من ثرائها وتعقيدها. كما أن من الجهل التام، كما يقول كلود ليڤي-ستروس أن نحاول أن نطبق على دراسة "الواقع الأسطوري" مبادئ "التحليل الديكارتي".
   وهذه السيولة الجوهرية للأسطورة بوجه عام هي أيضا سمة أكيدة للأسطورة السياسية التي تتميز ثيماتها بشبكة مرهفة وقوية من الصلات التكاملية: "فالحنين إلى الماضي إلى العصور الذهبية المنصرمة يصبّ عادة في الانتظار والتبشير النبوئي ببعث تلك العصور. وبالمقابل فمن النادر حقا ألا تقوم الحركات الخلاصية الثورية بإثراء رؤيتها للمستقبل بصُور أو إحالات مستقاة من الماضي. ومن جهة أخرى فسرعان ما يتم قطع الخطوة الفاصلة بين فضح المؤامرات الشريرة والتطلع إلى نداء المخلّص، إلى الزعيم المنقذ، ذلك الذي تنتظره مهمة تخليص الأمة من القوى الشريرة التي تريد بسط سيطرتها عليها".
 على أن الصلات بين ثيمات الأساطير السياسية لا تتمثل في صلات التكامل فحسب، فهناك في كثير من الأحيان صلات تناقض. وليس بين مستكشفي عالم الخيال من يفوته الإلحاح على هذا الجدل بين الأضداد، فالأسطورة مزدوجة كما توضح سلسلة من الأعمال الرائعة التي كرسها جاستون باشلار للتمثيلات السيكولوچية للعناصر الطبيعية الكبرى: "فالبيت حلم المأوى، والتلاقي، والأمان، يمكن أن يغدو صورة الزنزانة، ورمز الاضطهاد في السجن، ورمز الدفن، وحتى رمز القبر. و‘ثيمة‘ المغارة يمكن أن تكون مُحمَّلة بالرعب كما يمكن أن تكون مُحمَّلة بالروعة. والثعبان هو في آن واحد موضوع تقزُّز، ووعد خصوبة، وأداة إغواء. والجذر الذي يمتصّ عصارات الأرض ليحملها نحو السماء، لكنْ الذي ينمو إلى أسفل نحو مملكة الموتى تحت الأرض، يُفْهَم في آن واحد كقوة حياة وقوة ظلام".  
 والأسطورة السياسية لا تخرج عن هذه القاعدة، قاعدة انقلاب الأسطورة إلى العكس.
 وثيمة المؤامرة ذاتها لا تكون مصحوبة بالضرورة بالدلالات السلبية وحدها: صورة المكيدة الشيطانية تقابلها تلك الخاصة بالمؤامرة المقدسة. وإذا كان هناك ظلام يهدد فهناك أيضا ظلام يحمي وكثيرا ما يمارس "أبناء النور" نضالهم في الليل. والمكيدة وحدها هي القادرة على إحباط المكيدة. وهكذا فإن السرّ، والقناع، وقَسَم التكريس، وجماعة المؤتمَنين، والمساعي الخفية، وباختصار كل ما يشجبه الآخر ويفزع منه، ينقلب فجأة ويكتسب عند هذا الآخر جاذبية مظلمة وطاغية.
والقرين الخرافي الذي يصاحب دائما تقريبا وجود أو ذكرى البطل التاريخي شاهد على ظاهرة مماثلة. إن الإجلال أو اللعن يتغذيان على نفس الوقائع، وينموان انطلاقا من نفس الحبكة. وبين صورة ناپليون العظيم وصورة غول كورسيكا لا تعارُض سوى في زاوية الرؤية. وسواء أكان مكلَّلا بهالة المجد أم بسُحُب عاصفة مكفهرة فإننا نعثر في نهاية المطاف على نفس الوجه الواحد. إن غرابة الأصول، وسرعة الصعود، والإرادة  المسيطرة، وطبيعة الانتصارات، وضخامة الكوارث، إن  كل ما يساهم ـ في حالة ـ في صنع صورة العظمة، يشكل ـ في الحالة الأخرى ـ وصمة العار.
وفيما وراء سيولة الخطاب الأسطوري وازدواجه، هناك منطق للخطاب الأسطوري. فكما أن الصور التي تفرزها أحلامنا تخضع لقوانين بذاتها للتكرار والتداعي "يبدو أن الآليات التوليفية للخيال الجمعي لا تملك تحت تصرفها سوى عدد محدود نسبيا من الصيغ". هناك إذن، على حد تعبير كلود ليڤي-ستروس، "نحو" syntaxe للأسطورة، حيث تظهر عناصر بناء السرد الذي يتألف من سلسلة أو توليفة من الصور "مجمَّعة في مجموعات متماثلة، ومنتظمة في تداعيات ثابتة"... وهكذا فإن "ثيمة" المخلِّص، الزعيم مبعوث العناية الإلهية، ستظهر مرتبطة دائما برموز تطهيرية: البطل المنقذ هو الذي يُخلِّص، ويحطم القيود، ويصرع الغيلان، ويجبر القوى الشريرة على التقهقر. كما أنه مرتبط دوما بصُوَر مشرقة متألقة ـ الذهب، الشمس الصاعدة، بريق النظر؛ وبصُوَر عمودية ـ السيف، الصولجان، الشجرة المعمرة مائة سنة، الجبل المقدس. كذلك فإن "ثيمة" المؤامرة الشريرة ترد مُحالة إلى نسق رمزي خاص بالدنس: المتآمر يترعرع في الأماكن النتنة، ومثل الحيوانات النجسة، يزحف ويندسّ، وينفث السم والنجاسة...   
 
ميثولوچيا المؤامرة
 
والمؤامرات الأسطورية التي استحوذت على عالم الخيال الجمعي الفرنسي خلال القرنين الأخيرين هي: المؤامرة اليهودية، المؤامرة اليسوعية، المؤامرة الماسونية.
والهدف النهائي لكل مؤامرة من هذه المؤامرات لا يقلّ عن السيطرة على العالم.
فاستنادا إلى "خطة منهجية" تهدف المؤامرة اليهودية إلى "غزو واستعباد الكرة الأرضية"... و"سيدور الصراع على المستوى الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، والديني. وستُستخدم كل الإستراتيچيات، تلك الخاصة بالمضاربة المالية وكذلك تلك الخاصة بالاستيلاء على السلطة الحكومية أو بالسيطرة على وسائل التعليم والإعلام".
أما الرهبانية اليسوعية ذات السلطة الهائلة والتي  تعمل على بسط هيمنتها على العالم فقد أقامت شبكة هائلة من المراكز السرية للجاسوسية والتخريب في مواقع لا حصر لها على الكرة الأرضية.
وهدف المؤامرة الماسونية "هو "التعجيل بدمار النظام الملكي والمسيحي القديم، والإعداد لقيام السيادة العالمية للحرية والمساواة" من خلال "خطة منظمة ومنهجية للتدمير" يستغرق تحقيقها عشرين سنة، وكان الأب بارويل ـ أحد أبرز مروجي هذه الأسطورة ـ يرى منذ 1797 أن "منشأ ومسار الثورة الفرنسية يمكن إرجاعهما من الناحية الجوهرية إلى مساعي الماسونية، وهي الوارثة لتراث طويل من الضغائن إزاء الملكية والكنيسة".
وهناك بطبيعة الحال أسس تاريخية موضوعية أكيدة لأساطير المؤامرة والتآمر مهما قامت هذه الأخيرة بتحريفها وتشويهها كما تفعل كل أسطورة. فلا أحد يجهل دور الماسونية خاصة في تاريخ الجمهورية الثالثة (1870- 1940) كمجموعة ضغط سياسي وأداة للسيطرة  الأيديولوچية. وتستند ثيمة المؤامرة اليسوعية إلى قيام بعض القساوسة والنبلاء، منذ عهد الإمبراطورية الأولى، بتأسيس مختلف الجمعيات السرية وغير السرية التي نذرت نفسها لقضية الثورة المضادة. وهناك، فيما يتعلق بالمؤامرة اليهودية، ردود الأفعال التي أثارها، خلال القرن 19، لدى بعض أقسام الرأي العام الفرنسي، التحرير المفاجئ للطوائف اليهودية وازدياد أعداد ممثليهم في قطاعات مهمة في الحياة الاقتصادية أو الفكرية أو المدنية.
وبدون هذا الاستعداد العام لتلقِّي أساطير المؤامرة، بفضل وجود شفرة رموز محفورة سلفا في معايير عالم الخيال في صفوف قطاعات واسعة من الرأي العام، ما كان بوسع مروِّجي هذه الأساطير أو مستغليها لأهدافهم أن يجدوا فرصة للتأثير الفعال للرسالة المراد نقلها. "وهكذا فحتى أولئك الذين يريدون التلاعب بعالم الخيال مرغمون على الخضوع لمقتضياته. إن الأسطورة توجد بصورة مستقلة عن مستغليها المحتملين؛ إنها تفرض نفسها عليهم أكثر كثيرا مما يساهمون هم في تشكيلها".
 
ميثولوچيا المخلِّص (المنقذ)
أو مبعوث العناية الإلهية
 
 
على مدى قرابة قرنين من الزمان يُدوِّي في تاريخ فرنسا بلا انقطاع  صوت الاستغاثة بالمخلِّص. ومن ناپليون بوناپرت إلى پيتان وديجول، مرورا ببولانچيه أو پوانكاريه أو دوميرج، تتشكل كوكبة بذاتها من الصُور حول شخصية موهوبة. إن المسألة تتعلق هنا إذن "بالظهور المفاجئ لمخلّص على رأس السلطة، لبطل يستأثر بكل حرارة الأمل الجمعي".
ويستقصي راؤول چيرارديه أربعة نماذج لهؤلاء المنقذين أو المخلصين، وهي نماذج قد تتطابق أو تتراكب غير أنها قابلة أيضا للعزل والفصل والتعريف المستقل.
فنموذج سينسيناتوس (وهو روماني اشتهر بالبساطة والزهد، تولى منصب الحاكم المطلق مرتين ثم عاد في نهاية المطاف إلى محراثه) هو نموذج رجل الدولة الذي تتمثل مهمته في الطمأنة والحماية والإصلاح والاستقرار، وينعكس هذا النموذج الأصلي في نماذجه الجديدة الفرنسية في السيرة الأسطورية لكل من دوميرج 1934 وپيتان 1940.
ونموذج الإسكندر هو نموذج القائد الشاب، المغامر الجسور، المتقد الحماس، المندفع إلى المجد، والذي يشق طريقه عبر التاريخ بسرعة برق خاطف. وصورة ناپليون الشاب ضمن الأسطورة الناپليونية هي التجسيد الحديث لهذا النموذج الأصلي الذي ينتمي إليه أيضا "الرأس الذهبي" بطل القصيدة الدرامية الطويلة بهذا العنوان لپول كلوديل.
والنموذج الأصلي الذي يمثله صولون المشرِّع هو نموذج ناپليون باعتباره المشرِّع المؤسِّس لنظام جديد من المؤسسات، والماريشال پيتان، المؤسِّس "لنظام جديد"، والچنرال ديجول في 1958 "وهو يرسي مبادئ وقواعد جمهورية جديدة" (الجمهورية الخامسة).
أما نموذج موسى، النموذج الأصلي للنبي، المبشِّر بأزمنة قادمة، المدفوع بدافع مقدس، القائد لشعبه على دروب المستقبل، فهو نموذج ناپليون السيرة الناپليونية في سانت هيلانه وهو يعلن من هناك "تحرير الشعوب والقوميات"، وهو نموذج الچنرال ديجول، على الأقلّ كما يراه أندريه مالرو بعد وفاته.
 
ميثولوچيا العصر الذهبي
 
تُحيل أساطير العصر الذهبي دوما إلى "أيام زمان" وهي أزمنة عاشها الناس فعلا قبل أن يحلموا بها، فهي باقية في ذاكرة الجماعة المعنية وكذلك في الذاكرة الفردية. غير أن هناك ماضيا يتعلق بما يُعرف بذاكرة التاريخ. والماضي الذي تشير إليه "أيام زمان" هذه لم يُعرف قط بصفة مباشرة، غير أن ظهوره خارج الزمن المنقضي يمنحه قوة إضافية على قوته كنموذج وقوته كنموذج أصلي.
وفي مواجهة صورة حاضر يسود الإحساس بأنه لحظة انحطاط، يقف المطلق المتمثل في ماض من الكمال والضياء. وتتبلور حول تصوُّر "أيام زمان" كل الاندفاعات، كل قوى الحلم، وتتحول إلى أسطورة.
فنحن إذن إزاء صُور لماض تحوَّل إلى أسطورة، ورؤًى لحاضر أو مستقبل وفقا لما كان، أو لما يُفترض أنه كان، في الماضي. ولن يكون سوى تاريخ مبتور للغاية للأيديولوچيات الفرنسية ذلك الذي يحجب وجود هذه الصور، أو ينسى وفرة هذه التصورات، أو يهمل سلطانها على الأرواح والقلوب.
ويشير چيرارديه إلى ذلك التأرجح الدائم الأليم الذي يميز ميثولوچيات العصر الذهبي جميعا "بين العجز عن إعادة تشكيل ما كان وبين قوة الرجاء الذي تحتفظ به الذكرى على الدوام".
ومن هنا تلك النداءات التي لا تُحصى ـ الدائمة في مجرى الحياة السياسية الفرنسية والقادمة من كافة الآفاق الأيديولوچية ـ إلى الصبّ من جديد في الماضي، إلى العودة إلى الزمن المتسامي للبدايات.
والحقيقة أنه في المجتمعات المسماة بالحديثة، حيث يسيطر إيقاع التغيير الذي يزداد سرعة بلا انقطاع، لا مناص من هذا الارتعاش الانفعالي، ذي الطابع الجمالي والعاطفي في وقت واحد، والذي يتشبث بالبقايا والأنقاض المستعادة من ماض ما يزال قريبا للغاية. ونجد ثيمة "العودة إلى العصور الوسطى" ماثلة، خاصة في فترة ما بين الحربين، في خلفية كافة الأبحاث التي تطمح إلى تحديد نمط للمجتمع يرفض في وقت واحد مبادئ الفردية الليبرالية ومبادئ الدولة الاستبدادية الشمولية.
 
ميثولوجيا الوحدة
 
ومع العصر الحديث، مع اتجاه الروح الاجتماعية إلى الانفجار إلى شظايا، وتآكل التضامنات السابقة، وتدهور الأشكال القديمة للحياة الجماعية، تتسع الهوة بلا انقطاع بين مختلف المجموعات الاجتماعية، وتنغلق كل مجموعة منها على نفسها، وعلى مصالحها، وعلى آرائها المسبقة، وعلى أساليب حياتها وفكرها، وتأتي التغيرات التي تقلب أوضاع الأشكال التقليدية للعمل البشري، في اتجاه قدوم حضارة تقنية جديدة لا يكون فيها الشغيل سوى مجرد ترس منعزل. وإلى جانب ذلك هناك "الفجوة المتزايدة العمق، والقائمة منذ قدوم عصر التنوير، بين ما يتعلق بنسق المعرفة العلمية وما يتعلق بعالم صبوات الإيمان"، ويسود "شعور قوي بالتوجس إزاء المجابهة المحتومة بين نسقيْن محدديْن ومتعارضيْن من القيم سرعان ما يتجسدان في كنيستيْن، كنيسة العلماء وكنيسة الكهنة، تدّعي كل منهما العصمة المطلقة".
ويغدو الشغل الشاغل هو ذلك المتعلق بوحدة ينبغي استعادتها، وبتوازن ينبغي إحياؤه، على صعيد الأخلاق الفردية وكذلك على صعيد الوعي الجمعي، في قلب الإنسان وكذلك على مستوى مؤسسات الدولة. ويظلّ في نهاية المطاف نفس الوسواس الخاص بفجوة ينبغي ردمها، بانقسام ينبغي تفاديه، بتناقض ينبغي التغلب عليه.
ورغم أن صيحة بوسويه: "الحياة هي الوحدة، الموت أكيد خارج الوحدة" لا ترتفع وحدها فوق الساحة بل تردّ عليها صيحة بنچامان كونستان: "التنوع هو الحياة، التماثل هو الموت"، فإن التمزق القائم يظلّ يدفع الرأي العام والمفكرين، من چان چاك روسو إلى سان سيمون وأوجوست كونت وميشيليه وغيرهم، نحو ثيمة الوحدة التي تتبلور حولها ميثولوچيا كاملة تتشعب ثيماتها وتتعدد أساطيرها. وتبرز ثيمات المشاركة والمائدة والأعياد الثورية والاحتفالات الاتحادية والحماس الجماعي والجبرية الجغرافية التي تشكل الأمة الفرنسية والتي ترفع تأكيد الوحدة الفرنسية إلى مستوى ضرورة الرمز الهندسي ولازمنيته. وتتبلور مجموعتان من القوى المتناقضة: قوى الخير وهي قوى التلاقي والتجمع والتلاحم، وقوى الشر وهي قوى التبعثر والتفرق والتفكك.
على أن هذا البحث المفعم بالحماس المشترك، بكل تلك القوة وبكل ذلك الشمول، انتهى إلى التوالد المتعارض للعقائد، وقوانين الإيمان، والكنائس. وانقلب حلم الاتحاد ضد نفسه. وربما من هنا هذه الكثافة في البحث عنه، وهذا الإصرار المؤثر على نداءاته.
 
العرب والأساطير السياسية
 
بعد أن استعرضنا بإيجاز شديد الخطوط الرئيسية لكتاب الأساطير والميثولوجيات السياسية يحقّ لنا أن نتساءل عن مغزى قراءة مثل هذا الكتاب بالنسبة لنا: هل هناك مغزى يخصُّنا نحن العرب فيما وراء القيمة التي لا جدال فيها لمعرفة حاضر أو تاريخ فرنسا؟ وبعبارة أخرى: هل هناك وجود لأساطير سياسية تناظر الأساطير السياسية الفرنسية في ثقافتنا الراهنة، بكل ما يعنيه وجودها المحتمل من أبعاد التحريف والتفسير والتعبئة كما سبق أن رأينا؟.
وبطبيعة الحال، ليس هنا مجال مثل هذه المناقشة. ولهذا سنكتفي بالإشارة إلى رأي كاتب فرنسي آخر، وهو المستعرب ريشار چاكمون. ففي مقدمته لترجمته الفرنسية لمجموعة من مقالات الدكتور فؤاد زكريا، بعنوان: "علمانية أم إسلامية ـ العرب في ساعة الاختيار"، يشير الأستاذ چاكمون إلى النزوع إلى الانطواء على النفس ورفض الآخر لدى ثقافة عربية-إسلامية عاجزة عن تجاوز الميثولوچيا السياسية الأصلية للعصر الذهبي، والمؤامرة، والوحدة، والمخلّص "المنقذ"، ويُحيل في الهامش إلى كتاب راؤول چيرارديه الذي أتينا على عرضه منذ قليل، مُوحيا بذلك بانطباق مبدأ ونظرية الأساطير والميثولوچيات السياسية، بنفس ثيماتها ومجموعاتها الأربع الكبرى، فيما يتعلق بثقافة عربية-إسلامية راهنة، وهو انطباق ينبغي بحث مداه واستقصاء خصوصياته.
 
 
 
 
 
 
 
 
للمؤلف
 
تأليف:
 
* نشر العديد من المقالات في مجالات النقد الأدبي واللغة والسياسة وله الكتب التالية:
 
ـ معجم تصريف الأفعال العربية، (بالاشتراك مع حسن بيومي وأحمد الشافعي) دار الياس   العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1989.
ـ النموذج الثوري في شعر عبد الوهاب البياتي، (بالاشتراك في عمل جماعي) بغداد، 1972.
 
* نشر (باسم قلم مستعار) العديد من المقالات والكتب في مجالات الاقتصاد والسياسة والفكر، ومن كتبه باسم القلم المذكور:
 
ـ الإقطاع والرأسمالية الزراعية في مصر ـ من عهد محمد علي إلى عهد عبد الناصر [الاسم الأصلي للكتاب: تطور الرأسمالية الزراعية في مصر قبل 1952]، دار ابن خلدون، بيروت، 1979.
ـ حول أسلوب الإنتاج الآسيوي، سلسلة دليل المناضل في النظرية، دار ابن خلدون، بيروت، 1978.
 
يصدر له قريبا:
ـ من أجل نحو عربي جديد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
ـ الازدواج اللغوي في العالم العربي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
 
ترجمة:
 
 *  نشر في الصحف والمجلات المصرية والعربية عشرات المواد المترجمة في مجالات الأدب والنقد الأدبي والفكر والسياسة، وله الكتب المترجمة التالية:
 
أدب:
 
ـ ماشادو ده أسيس: السراية الخضراء ( روايـة قصيرة )، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1991.
ـ ماشادو ده أسيس: دون كازمورّو ( رواية )، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1991.
ـ خ. ل. بورخيس: مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا (قصص، مقالات، أشعار، حكاية رمزية)، دار شرقيات، القاهرة، 2000.
ـ مجموعة من الكتاب البرازيليين: قصص برازيلية (بالاشتراك مع سحر توفيق)، إبداعات عالمية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2000.
 
 
نقد أدبي:
 
ـ يوري كارياكين: دوستويڤسكي ـ إعادة قراءة، كومبيونشر للدراسات والإعلام والنشر والتوزيع، بيروت، 1991.
ـ پول ب. ديكسون: الأسطورة والحداثة : حول رواية دون كازمورّو ، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998.
ـ مجموعة من الكتاب: عوالم بورخيس الخيالية، آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1999.
ـ بياتريث سارلو: بورخيس: كاتب على الحافة، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004.
                  
سياسة واقتصاد وفكر وفلسفة:
 
ـ وثائق محكمة الشعوب الدائمة للرابطة الدولية لحقوق وتحرر الشعوب ـ جلسة بشأن أرتريا ميلانو، إيطاليا، 24-26 مايو 1980: قضية أرتريا، طبعة پاريس، 1985.
ـ سيرچ لاتوش: تغريب العالم: دراسة حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 1992.
ـ توما كوترو وميشيل إسّون: مصير العالم الثالث، دار العالم الثالث(بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 1995.
ـ راؤول چيرارديه: الأساطير والميثولوچيات السياسية، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع(بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 1995. 
ـ كريس هارمان: العاصفة تهب ( حول انهيار النموذج السوڤييتى )، دار النهر، القاهرة، 1995.
ـ فيل سليتر: مدرسة فرانكفورت : نشأتها ومغزاها ـ وجهة نظر ماركسية، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط 1، 2000، ط 2، 2004. 
ـ فيديريكو مايور و چيروم بانديه: عالم جديد (بالاشتراك مع علي كلفت)، دار النهار للنشر، بيروت، 2002.
ـ إينياسيو رامونيه: حروب القرن الحادي والعشرين : مخاوف وأخطار جديدة،  دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)،  القاهرة.
 
 
معاجم:
 
ـ الياس–هاراب القاموس التجاري إنجليزي-عربي، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1996.
ـ چيرار سوسان و چورچ لابيكا: معجم الماركسية النقدي (بالاشتراك في ترجمة جماعية)، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس، و دار الفارابي، بيروت (بالتعاون مع منظمة اليونسكو)، 2003.
 
يصدر له قريبا:
 
ـ إيڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ماالمجتمع؟ (بالاشتراك في ترجمة جماعية) المجلس الأعلى للثقافة (بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة.
ـ إيڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ماالثقافة؟ (بالاشتراك في ترجمة جماعية) المجلس الأعلى للثقافة (بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة.
 


[1]  نُشر هذا المقال، الذي انتهت كتابته في 9 نوڤمبر 1992، في مجلة القاهرة، العدد 141 أغسطس 1994، كما نُشر كمقدمة للطبعة العربية من كتاب كريس هارمان: العاصفة تهب ـ حول انهيار النموذج السوڤييتي، ترجمة: خليل كلفت، دار النهر للنشر والتوزيع، القاهرة، 1995.
 [2]   جرى تدخل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة بغطاء من الأمم المتحدة، ووصف بأنه تدخل إنساني لإنقاذ الصومال من المجاعة والحرب الأهلية، على أن مثل هذا التدخل مشكوك فيه من أكثر من ناحية:
1  غموض الأهداف الإستراتيچية الأمريكية.
2  لا يمكن تصور تدخلات مماثلة في أماكن أخرى من العالم الثالث في حالة تزامن المجاعات والحروب الأهلية على نطاق واسع.
3  الشمال الإمپريالي قد يملك تلطيف هذه المجاعات فى المدى القريب غير أنه لا يملك قطعا (ولا يريد أصلا) إيقاف هذه الشعوب على أقدامها بحيث تنتقل إلى نظام اجتماعي اقتصادي حديث ومتطور يمكنه وحده منع مثل هذه الكوارث. وقد عبرت حتى صحافتنا "القومية" عن مثل هذه الشكوك والمخاوف والتحفظات (ملاحظة في 10 ديسمبر 1992).
 
[3]   نُشر كتذييل لكتاب كريس هارمان: العاصفة تهب ـ حول انهيار النموذج السوڤييتي، دار النهر للنشر والتوزيع، القاهرة، 1995؛ ترجمة: خليل كلفت.
[4]  ألقي هذا الحديث في الندوة الدولية الموازية لبيينالي القاهرة الدولي السادس 1996-1997، ونشر في الكتاب الصادر عن الندوة، ونشر أيضا في القدس اللندنية.
[5]  ألقي هذا الحديث في المؤتمر الثالث للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة.
[6]  مقال مكتوب بعد بدء الحرب على العراق (2003) بأسبوعين ولم يُنشر من قبل.
[7]  نُشر هذا المقال في مجلة القاهرة (العدد 142 سپتمبر 1994) كتقديم للفصل الثاني "السكان نعمة أم نقمة" من كتاب: مصير العالم الثالث تأليف توما كوترو وميشيل إسُّون (ترجمة: خليل كلفت).
[8]  نُشر هذا المقال في مجلة القاهرة العدد 139 يونيو 1994 كتقديم لملف بعنوان التاريخ يتغير من جنوب أفريقيا يشتمل على أربعة مقالات (ترجمة خليل كلفت) عن التطورات في جمهورية جنوب أفريقيا؛ وهذه المقالات هي: مقال لورنس هاريس عن تأمين الفصل العنصري للسلطة الاقتصادية في جنوب أفريقيا، ومقال كريستين عبد الكريم ديلان عن المهمة الضخمة التي تنتظر السلطة الجديدة والتي تتمثل في متطلبات الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي في المناطق غير البيضاء (وهذان المقالات مترجمان عن لوموند ديپلوماتيك عدد أبريل 1994)، ومقال أليكس كالينيكوس عن خلفيات التبدل في موقف الحزب الحاكم في جنوب أفريقيا، ومقال تشارلي كيمبر عن خلفيات قبول المؤتمر الوطني الأفريقي لمثل هذه التسوية (وهذان المقالان مترجمان عن المجلة البريطانية سوشياليست ريڤيو، الشهرية البريطانية، عدد أبريل 1994)
.
[9]  نُشر هذا المقال في مجلة الآداب البيروتية، لبنان، العدد فبراير 2003، غير أن المقال وارد هنا كما كتبته وليس كما نشر في المصدر المذكور.   
[10]  نُشر هذا المقال في مجلة "المحيط الثقافي" القاهرية عدد فبراير 2003.
[11]  ألقي هذا الحديث في مؤتمر الأدب العربي والعالمية ـ المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة (4-7 ديسمبر 1999) ونُشر في كتاب سلسلة أبحاث المؤتمرات/6 الصادر عن المجلس، القاهرة، 2001. 
[12]  أو حتى 80 أو 120 أو 160 ألف سنة
[13] Collin Renfrew, Archaeology & Language: The Puzzle of Indo-European Origines, Jonathan Cape Ltd, London, 1988, pp 274-276.   
 
[14]    جراسيليانو راموس: حيوات جافة (رواية)، ترجمة: صالح علماني، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1991.
 
[16]   Modern Latin American Fiction: A Survey, Edited by John King, Faber and Faber, London, 1987, p 32.
[17]  مؤلف جماعي: أدب أمريكا اللاتينية ـ قضايا ومشكلات (القسم الثاني)، ترجمة: أحمد حسان عبد الواحد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت،1988، ص 213.
 
[18]  Jorge Luis Borges: Labyrinths, Selected Stories & Other Writings, New Directions Publishing Corporation, First published in 1964, pp 177-182.
[19]    راجع الألفاظ المعنية في معجم ألفاظ القرآن الكريم، الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الجزء الأول، 1989، الجزء الثاني، 1990.
       
 
[20]  ألقي هذا الحديث في مؤتمر المشروع الثقافي للويس عوض ـ المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة (29 سپتمبر إلى 1 أكتوبر 2001) ونُشر في سلسلة أبحاث المؤتمرات/11 (2001).
[21]  50 أو 100 أو 150 ألف سنة!
[22] عرض خليل كلفت لكتاب: Thomas Coutrot et Michel Husson, Les destins du Tiers Monde, analyse, bilan et perspectives, Éditions Nathan, 1993.  بمجلة العربي الكويتية العدد 440 يوليو (تموز) 1995؛ وقد صدر الكتاب المذكور بالعربية: توما كوترو و ميشيل إسُّون: مصير العالم الثالث، ترجمة: خليل كلفت، دار العالم الثالث، القاهرة، 1995؛ والعـرض منشور هنا كما كتبته وليس كما نُشر في المجلة.  
 
[23]  عرض خليل كلفت لكتاب: Raoul Girardet, Mythes et mythologies politiques, Éditions du Seuil,1986   بمجلة العربي الكويتية  العدد 423 فبراير 1994؛ وقد صدر الكتاب المذكور فيما بعد بالعربية: راؤول چيرارديه: الأساطير والميثولوچيات السياسية، ترجمة: خليل كلفت، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1995؛ والعرض منشور هنا كما كتبته وليس كما نُشر في المجلة.