لمحات من تاريخ انفصال الدولة السياسية عن المجتمع المدنى


محمود محمد ياسين
2011 / 12 / 23 - 19:58     

لمحات من تاريخ انفصال الدولة السياسية عن المجتمع المدنى
الحديث، الرائج حالياً خاصة فى البلدان المتخلفة التابعة، عن حل الدولة المدنية من شأنه طمس (إما عن قصد او جهل) الازدواجية بين الدولة السياسية والمجتمع المدنى فى العصر الحديث؛ وبالتالى صرف الانظار عن المهام السياسية المتعلقة بالتغيير الوطني الديمقراطي الذى يفرضه واقع تلك البلدان اذ ان الدعوة للدولة المدنية من شانها ان تقف عقبة فى طريق أى محاولة للتغيير عن طريق الديمقراطية الحقيقية. والدولة المدنية التى صار الجميع يتغنى بها لا تمثل شيئاً غير الدولة السياسية وليدة التفكير الصرف الذى ينظر لها كجسم سياسي يمتلك تاريخاً مستقلاً ولا يعتبر تطور نظرياتها كانعكاس فى الفكر للواقع بمتغيراته وامواجه المتلاطمة. على اساس هذه الخلفية يجىء هذا المقال كعرض لطبيعة التناقض بين الدولة السياسية والمجتمع المدني بقصد توضيح ان:
" الدولة وجدت أصلاً كي تكون سياسية تستمّد شرعيتها من أساس اجتماعي مدني. إذ لم يشهد تاريخ الدول, بالمعنى الحديث, من قبل دولة غير سياسية, سوى تلك الإمارات والممالك والإمبراطوريات الغابرة, التي كانت تمثل سلطة إقطاع عسكري أو سواه. ولهذا لم تكن تشكل دولاً بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة. ومن الخطأ, من وجهة نظر علوم السياسة والفكر, عدّها دولاً في الأصل والطبيعة. لاعتبارات عديدة, منها غياب فضاء سياسي عام ومشترك. واختزال السياسي فيما هو اجتماعي, وعدم التمييز بين المجالين............ ومن النافل الحديث عن الدولة السياسية بوصفها دولة مدنية, لأن الدولة لا تكون أصلاً ما لم تتأسس على مجتمع )مدني) فهذا التأسيس من مبررات وجودها وشرط له. ولا يمكن أن تكون هناك دولة سياسية حديثة من دون مجتمع مدني حي. وهذا التعريف للدولة بصفتها سياسية, وللمجتمع بصفته(مدنياً) له جذره الفكريّ العميق وتأسيسه النظريّ اللذين يحولان دون الخلط بينهما بأيّ اعتبار.............خلاصة القول, الحديث عن الدولة المدنية أشبه مايكون بالثرثرة الفارغة عن الماء (السائل) على أنه سائل. ففيه من اللغو والتضليل والخلط ما يثير الارتياب العميق." سربست نبي – " في مفهوم( الدولة المدنية !!!)"
_________________
تأسست الدولة القومية فى القرن الثامن عشر بعد صراع طويل قادته البرجوازية فى أوربا ضد الاقطاع فى أوربا ابتداء من القرن العاشر الميلادى. وكان الصراع تعبيراً عن رغبة البرجوازية فى اطلاق يد علاقات الانتاج الجديدة لتنمية قوى الانتاج المحبوسة فى اصفاد علاقات الارض الاقطاعية البالية. ولن يتم ذلك الا باحراز الطبقة الصاعدة للسيادة السياسية ومضاهاتها بنمط انتاجها السلعى النامى فى احشاء النظام الاقطاعى. وجدير بالذكر ان الرأسمالية تميزت بالنمو حول ضيعات ودوقيات البنية الاقطاعية نتيجة لعوامل عدة، منها تراكم الثروات من وراء اكتشاف الاراضى الجديدة، وانتعاش التجارة، وازدياد مصادر الاموال التى وفرتها المضاربات وصفقات الربا، وتطور العلوم الطبيعية، وانتشار المخترعات العلمية.
نزوع البرجوازية لتأسيس الدولة القومية المستقرة حرَّكته ضرورة ازالة القيود والحواجز (التى فرضتها الاقطاعية) على انتقال الافراد الحر من منطقة لاخرى (توفير العمل المأجور)‘ وتوسيع نطاق الاسواق، ودفع الانتاج السلعى بالانتاج الكبير والوفورات الى يحققها (economies of scale) . وكتعبير لشكل الملكية الخاصة المعتمدة فى وجودها وتطورها على العمل المأجور، ظهرت الدولة كدولة سياسية، بل و لأول مرة فى التارخ برزت السياسة نفسها بمفهومها الحديث؛ ففى النظام الاقطاعى كان المنتجين يملكون وسائل انتاجهم اذ كان الاقطاعى يمنح الفلاحين جزءً صغيرا من اراضيه مقابل استحواذه على قدر معين من انتاجهم اضافةً الى استخدامهم فى حراثة باقى الاراضى الخاصة به. وهكذا لم يكن الاستغلال مستتراً ولم تكن الدولة الاقطاعية منفصلة عن المجتمع اذ ان الادارة والملكية، على مستوى كافة التراتيبية الاقطاعية، كانتا متطابقتين. ولكن مع نموء الانتاج الرأسمالى وضرورة توفير العمل الماجور بتجريد المنتجين من وسائل الانتاج ومن ثم اخضاعهم لهذا النظام تم فصل المجتمع المدنى الذى يشمل حياة الناس الانتاجية وهى اسلوبهم فى انتاج الحياة المادية ضمن مستوى معين لتطور قوى الانتاج وطابع ملكيتها (علاقات الانتاج)، عن الدولة. وهكذا اصبحت الدولة جسما ادارياً خاصاً وأخذت شكلاً وهمياً بتصويرها من قبل البرجوازية كأداة مستقلة، تخدم كل المجتمع، لها وجودها التاريخى الخاص الذى لا علاقة له بطابع الملكية الخاصة. وهكذا أصبحت الازدواجية بين الدولة والمجتمع المدنى مجردة بعد ان كانت حقيقية.
برزت اهمية ان تكون الدولة القومية السياسية دولة علمانية من ان علاقات الانتاج الجديدة، لتحقيق دورها التاريخى فى تطوير القوى المنتجة (الرأسمالية)، لا بد لها من ان تقوم على اساس التشريع المدنى عوضاً عن التشريع الدينى، والديمقراطية السياسية والحريات الخاصة بالتنقل والتعاقد الحر والعمل والمزاحمة بديلاً عن السيطرة اللاهوتية الداعمة لاستبداد النبلاء. صار شعار الدولة " دعه يعمل، دعه يمر"، وأصبحت حرية التجارة والمنافسة المبدا الذى يعلو على كل الحريات:
" فحينما كان العالم القديم يتهاوى انتصر الدين المسيحي على الأديان القديمة، وحينما غُلبت الأفكار المسيحية على أمرها، في القرن الثامن عشر أمام الافكار العقلانية للتنوير، كان المجتمع الإقطاعي يلفظ أنفاسه الأخيرة في صراعه مع البرجوازية، الثوريّة آنذاكٍ. ولم تكن أفكار حرية المعتقد والحرية الدينية إلاّ تعبيرا عن نظام المزاحمة الحرة في مجال المعرفة..........والبرجوازية حيث ظفرت بالسلطة دمرت كل العلاقات الإقطاعية، والابوية، والساكنه. و بلا رحمة و إربا إربا مزقت العلاقات التي كانت تربط الإنسان بسادته الطبيعيين ، ولم تُـبق على أية رابطة بين الإنسان والإنسان سوى رابطة المصلحة البحتة، والإلزام القاسي بـ الدفع نقدا . واغرقت النشوة الروحية للورع الديني، والحماسة الفروسية، والعاطفة الساذجة، في بحر بارد من الحسابات الانانية. وحولت قيمة الانسان لقيمة تبادلية، واحلت محل الحريات المتعددة المثبته والمنصوص عليها فى المواثيق حرية واحدة هى حرية التجارة غير المتكافئة والظالمة. وباِيجاز فان الإستغلال المُغلَّف بأوهام دينية وسياسية استُبدل باستغلال مباح وغاشم ومباشر. فالبرجوازية جرّدت كل المهن التي كان يُنظر إليها حتى ذلك الحين بمنظار الهيبة والخشوع، من هالتها. فحوّلت الطبيب ورجل القانون والكاهن والشاعر والعالم، إلى أجراء في منظومتها ..." ماركس/انجلز- بيان الحزب الشيوعي.
ابتداع مصطلح المجتمع المدنى املته رغبة مؤسسى نظرية الدولة فى عهد الانوار، ابتداء من القرن السابع عشر، فى تعبيد الطريق امام الراسمالية لكى تحل محل الاقطاعية. لهذا جاءت فكرة المجتمع المدنى لاستخدامها كنقيض لفكر الإكليروس الذى يكرس حكم الإقطاعين باضفاء القدسية عليه وانه لا يحاسبهم على سياساتهم الا الله. فبالنسبة لمنظرى الانوار الدولة لا تقوم الا على اساس مجتمع مدنى يصبح المواطنون فيه، عن طريق عقد اجتماعى بينهم، مصدر السلطة؛ وهذا هو كل المقصود بدلالة كلمة مدنى فى المصطلح لا اكثر ولا اقل.
_________________
جاء مفهوم العقد الاجتماعى لينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم بشكل مخالف لمبادئ النظام الاقطاعى ودراسة المسائل السياسية على اساس تصور عقلانى وعلمانى. كانت نظريات العقد الاجتماعى تعبيرا فكرياً عن الواقع الجديد، أخذت تتطور مع تتطوره ومع النظريات الفلسفية التى افرزها؛ فقد تأثرت المفاهيم الخاصة بتأسيس الدولة فى جانبها النظرى بالافكار المادية للتجريبية الانجليزية للقرن السابع عشر ومن بعدها المادية الفرنسية للقرن الثامن عشر بقدر ما كانت المادية نفسها نتاجا للواقع الاجتماعى/ الاقتصادى الجديد. ومنحت هذه النظريات البرجوازية الصاعدة الاساس الفكرى لوضع النظام السياسى الذى يمكنها من ارساء وتوطيد قواعد سلطتها.
تباينت نظريات العقد الاجتماعى فى المحتوى الا انها جميعا انطلقت من (الحق) - المبنى على التعاقد بين مكونات المجتمع لتحقيق العدل والانصاف وليس القدسية - سواء كانت تنازل المواطن، مقابل أمنه ورخائه، لصالح ما اسماه توماس هوبز ب(التنين: (Leviathan ويقصد به الديكتاتور، أو احترام الحقوق الفردية عند لوك, أو تسليم الفرد للرغبة الجماعية (general will) عند جان جاك روسو. التعاقد هو الوسيلة للانتقال من حالة العيش الطبيعية للانسان الى حالة المجتمع المدنى بعلاقاته الجديدة تحت ظل دولة الحق . منح التعاقد، الذى جاء تعبيراً لمنط الانتاج الراسمالى المتطور، الطبقة البرجوازية السيادة السياسية الكاملة وكشفت نظرياته عن طابعها الغير علمى واللاتاريخى لأنها بُنيت على عقلانية صورت الحق كحق أبدى ومطلق؛ كما انها فشلت فى ادراك الحدود الفاصلة بين الدولة السياسية والمجتمع المدنى.
جاء هيجل مشيراً الى ان الدولة ليس مجرد تعاقد لحماية مصالح الافراد المتبادلة , بل هى تجسيد لغاية أسمى, للحق وللعقل وللمنطق وللحرية. وعليه فقد رسم هيجل خطاً فاصلاً بين الدولة السياسية والمجتمع المدنى؛ و الدولة بالنسبة له أرفع من المجتمع المدنى. ويعتبر هيجل ( على حسب النظرية الديالكتيكية: تحول الشيء إلى شيء آخر) ان الدولة فى صورتها الموظفة لحماية المجتمع المدنى ما هى الا تمظهر للآخر وهو الدولة التى تحقق الفكرة الاخلاقية المطلقة الواعية بذاتها. فهيجل يرى ان الدولة التاريخية (فى شكلها الظاهر) لا مفر من ان تشوبها النقائص، فهو القائل فى كتابه ( مبادئ فلسفة الحق- فقرة 258-) :
" الدولة ليست عملا فنياً. فهى موجودة فى الحياة, فى مجال الجِماح والصدفة والخطأ."
وبالتالى فان الدولة التاريخية الموظفة لتنظيم المجتمع المدنى، بتنظيم العلاقات بين افراده، لاتتماهى مع مثل هيجل الأعلى للدولة كتطور للعقل حتى يصل مرحلة الوعى الذاتى بضرورة اتحاده مع الدولة لكى يعيش حياة روحية مطلقة بديلاً للعلاقات الآلية الهادفة لادارة شئون المجتمع. فهذه العلاقات اخضعها هيجل لسيطرة الدولة (أعلى مراحل تطور العقل) كحل نهائى للتناقض بين الدولة السياسسة والمجتمع المدنى.
تدارك الفيلسوف هيجل الخطأ الذى وقعت فيه فلسفة الانوار باعتبار المجتمع المدنى موازٍ للدولة عندما نفى مطابقة المجتمع المدنى للدولة. ولكن رغم رؤيته الصحيحة للتناقض بين الدولة والمجتمع المدنى، الا ان هيجل اعتبر الحل لهذه الازدواجية يكمن فى ابدية متحققة عبر الصحو المتدرج للعقل خلال التاريخ حتى يصل الى نفسه...... الى الروح المطلق التى تجسد الدولة المقدسة. وهكذا امتلك هيجل الريادة فى كشف حقيقة الانفصام بين الدولة السياسية والمجتمع المدنى، ولكن ككل فكرة رائعة لا تنتهى عنده الا بالاجهاض, نجده يقدم حلاً مثالياً لهذ التناقض الذى لم تؤد اليه الا تطورات الحياة الواقعية.
أخذ مفهوم الدولة فى النظرية الماركسية منحى آخر. فرغماً عن اقراره بقيمة فكرة هيجل المتمثلة فى الفصل بين الدولة والمجتمع المدنى, الا ان كارل ماركس راى ان الحل الذى قدمه هيجل لهذا التناقض يرتكز على استبدال اتجاهات تطور الواقع التاريخى بتحقق الدولة، الفارغة من اى محتوى اجتماعى وتاريخى، كقمة التجلى للحرية والعقل. كما ان هيجل لم يقدم تبريرا، أى كان، لِتَجسُد الفكرة المطلقة فى نهاية المطاف فى الواقع المعاش؛ فلا أحد يعلم أين هى الفكرة المطلقة وما هى كيفية انتقالها لواقع الناس الملموس! لكن بعد ان أعاد قراءة فكرة هيجل مادياً، قلب كارل ماركس مثالية هيجل المفرطة باشارته للطبيعة الصحيحة للتناقض المذكور واساسه المادى وأبان كيف خلعت البرجوازية تصوراً كاذباً على الدولة السياسية كراعية للمصلحة الجماعية، بينما هى أداة فى يدها لجعل العمل الماجور تحت سيطرتها ونشر وهم خلود علاقات الانتاج الراسمالية.
توصل ماركس الى ان نظام الملكية الخاصة هو المتسبب فى الفصل بين الدولة والمجتمع المدنى خلافا للنظم القبل-راسمالية حيث كان التنظيم الاجتماعى الانتاجى، كما ذكرنا سابقاً، متطابقا مع التنظيم السياسى فى شكل علاقة خاصة مباشرة بين السيد والتابع . فاساس الفصل نبع من حوجة البرجوازية الصاعدة الى النفوذ الضرورى لتأمين سيطرة راس المال على العلاقات الاقتصادية. وفى هذا الخصوص جعلت البرجوازية العلاقات الانتاجية (المجتمع المدنى ) تبقى خارج نطاق الدولة السياسية التى تتيح لها، عبر تصويرها كسلطة محايدة، المناورة السياسية تارة واللجو الى إلاجراءات الأمنية تارة اخرى لضمان استمرار نفوذها الاقتصادى. هذا بالطبع لا يعنى ان الدولة لا تلجأ فى ظروف معينة للتدخل فى توجيه الاقتصاد مباشرة كما فى حالات: تلك النشاطات الاقتصادية التى، رغما من أهميتها، الا انها لا تدر ربحاً وبالتالى غير جاذبة لراس المال؛ أوعند اشتداد التناقض بين راس المال والعمل الماجور مما يستدعى تدخل الدولة المكثف فى العمل الانتاجى للسيطرة على حركة العمال كما حدث فى حالة الانظمة الفاشية؛ أوعندما ينزع الربح الرأسمالى للهبوط (كقانون طبيعي للإنتاج الرأسمالي) مثلما حدث فى حالة شركة "جنرال موتورز" الامريكية التى ضخت فيها الادارة الامريكية فى 2009 اموالاً ضخمة لانقاذها بعد افلاسها؛ أو فى اوقات الحروب. وهذا يعنى ان طبيعة الفصل بين الدولة السياسية والمجتمع المدنى لم تنفها التغييرات التى طرأت على شكل الملكية الخاصة فى النظام الراسمالي منذ نشأته. ولابد من الاشارة هنا الى ان الدولة حال نشوئها لا تبقى سلبية، فهى تؤثر فى تكييف مسار الاحداث فى تفاعل دياكتيكى مع موكونات المجتمع.
وتجدر الاشارة هنا الى ان ماركس لم يستخدم مفهوم المجتمع المدنى بحددوه المبهمة ومعالمه الغائمة الا فى مؤلفاته المبكرة ولم يعد اليه لاحقا اذ انه لم يكن متسقاً مع نظريته الخاصة بان العامل الاساس وراء تشكيل المجتمعات ككل هو انتاج المنتجات المادية وان علاقات الانتاج تحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الافراد فى مجرى عملية الانتاج. كما ان نظرية ماركس حول الصراع الطبقى كمحرك للتاريخ تناقض نظرة مفكرى الانوار الذين اعتبروا الدولة والمجتمع المدنى كيان واحد وان تحقيق المجتمع لغاياته يتم بالتعاقد بين افراده. وهو اذ يتفق مع هيجل فى النظر لتشكل المجتمع المدنى كوجود مستقل بين العائلة والدولة وانه عبارة عن قوى اجتماعية متصارعة وفق مصالح اقتصادية متضاربة، الا انه اشار الى ان هذا الصراع يقود بالضرورة لسيطرة احدى الطبقات على سلطة الدولة واستخدامها لقهر واستغلال الطبقات الاخرى – وبالطبع هذا يتعارض مع ظهور الدولة المقدسة المتحلية بالاخلاق المطلقة التي تحقق للمجتمع استقراره و ترشد المنافسة والصراع داخله كما تصور هيجل.
وهكذا، بالنسبة لماركس فان حل التناقض لا يمكن ان يتم منطقياً كما اعتقد هيجل بل يكمن فى تحقيق هدف الاشتراكية باقامة سلطة العمال التى تستبدل الملكية الخاصة بالملكية العامة لوسائل الإنتاج. والميزة، التى اشار لها ماركس، التى تجعل الطبقة العاملة من بين جميع طبقات المجتمع الاقدر على حل تناقض الدولة السياسية والمجتمع– هى أنها:
" ذات خاصية كلية لان الآلام التى تعانيها عامة، دائرة لا تطالب باى حق خاص لان الاذى الذى تعانيه ليس خاصاً بل عاماً؛ دائرة لا تطالب بأى مركز تاريخى بل بوضع انسانى............دائرة لا يمكنها ان تحرر نفسها الا اذا تحررت من دوائر المجتمع الاخرى، وبالتالى تحرير تلك الدوائر فى نفس الوقت؛ وبكلمة واحدة، طبقة يتجسد فيها ضياع كامل للانسانية وبالتالى لا تستطيع تخليص نفسها الا باسترداد الانسانية الكلية." كارل ماركس- نقد فلسفة الحق لهيجل.
وبأيلولة السلطة للاغلبية (أصحاب العمل الماجور) يُستخدم التخطيط كمنهج يمهد لوضع حد للعمل كسلعة والمنتجات كقيم تبادلية ومن ثم تطبيق القانون الاساسى للاشتراكية وهو مقابلة احتياجات الناس المادية والثقافية ضمن اقتصاد معافى من كل شرور الرأسمالية؛ وهكذا بادارة الناس لامور حياتهم بشكل كامل يكون المجتمع المدنى قد نُقل لحيز العمل السياسى:
" الثورة - الاطاحة بالحكم الحالى وتفكيك النظام القديم - عملية سياسية. وبدون ثورة لا يمكن تحقيق الاشتراكية التى تحتاج لهذه العملية السياسية................ولكن عندما يبدا العمل التنظيمى لانجاز اهدافها تطرح الاشتراكية قناعها السياسيى جانباً" كارل ماركس- ملاحظات نقدية على مقال ( ملك بروسيا والاصلاح الديمقراطى.)
وفى موقع آخر يطور ماركس هذه الفكرة شارحاً لها فى اطار رؤيته لسلطة الدولة فى المرحلة العليا للاشتراكية:
" الطبقة العاملة، فى مجرى تطورها ، سوف تستبدل المجتمع المدنى برابطة لا مكان فيها للطبقات وتناقضاتها العدائية، وبالتالى لن تكون هناك سلطة سياسية بالمعنى المعروف اذ ان السلطة السياسية ما هى الا التعبير عن العداء الطبقى ...........لا تقولوا ان الحركة الاجتماعية سوف تلغى الحركة السياسية. لاتوجد حركة سياسية بدون ان تكون اجتماعية فى نفس الوقت. لكن فقط فى النظام الذى لا توجد فيه طبقات وصراع الطبقات تكف التطورات الاجتماعية عن ان تكون ثورات سياسية." كارل ماركس – بؤس الفلسفة.
فى مؤلفاته التى تطرق فيها لنظرية الدولة، ابرز ماركس صفتين اساسيتين للدولة السياسية البرجوازية. أولاً، زيف النيابية االليبرالية التمثيلية:
" فصل الدولة عن المجتمع المدنى ياخذ شكل انقطاع النواب عن الناخبين. فالمجتمع، ببساطة، يختار ممثلين من أفراده ليكونوا عباره عن تحققه السياسي. هناك تناقضان: (1) شكلى. ممثلى المجتمع المدنى دائرة غير مرتبطة بالناخبين باى تفويض. لديهم تفويض شكلى ينتهى بمجرد ان يصبح حقيقة وعندها يتوقف النواب ان يكونوا مفوضين. فالمفترض ان يكونوا نواباً ولكنهم غير ذلك. (2) مادى. ففيما يخص المصلحة، هنا نجد العكس. فهم لديهم تفويض كممثلين للمصلحة العامة، لكنهم فى الواقع يمثلون مصلحة خاصة." كارل ماركس– "نقد نظرية هيجل حول الدولة".
ثانياً، طبيعة فصل السلطات السياسية فى الدولة. فالفصل بين السلطات فى الدولة البرجوازية شكلى، وهنالك دائماً جسورا من التوافق ممتدة بين السلطات؛ ومهما بلغت السلطات المكونة للدولة من استقلالية فهى فى النهاية تعمل فى تنسيق وارادة واحدة للحفاظ على طبيعة الدولة الاساسية المتمثلة فى حماية نظام سيطرة راس المال على قوة عمل الأجراء. وبعكس النزعة فى الدولة الرأسمالية لتحويل الدولة لاجسام بيروقراطية ضخمة يلفها الغموض، أشار ماركس الى ان الدولة الديمقراطية حقاً يجب ان تكون السلطات فيها موحدة واجراءاتها مبسطة وقرارتها حاسمة؛ ويقول فى تعليقه على مادة فصل السلطات فى الدستور الفرنسى التى تنص على ان "فصل السلطات هو الشرط الاساس للحكومة الحرة" :
" نجد هنا التفكير الدستورى القديم الاخرق. ان الشرط لحكومة حرة ليس تقسيم السلطة بل توحيدها. جهاز الدولة لا يمكن ان يكون بسيطاً, فدائما ما تكون مهمة الاوغاد هى ان يجعلوه معقداً وغامضاً." ماركس– دستور الجمهورية الفرنسية (1848).
_________________
منذ القرن التاسع عشر بدأت عولمة الرأسمالية بغزو الدول القومية الاوربية الاسواق الخارجية وهذا يرجع لطبيعة الانتاج الرأسمالى الذى يختلف عن ما كان يحدث فى الانظمة قبل الرأسمالية حيث كان النشاط الاقتصادى محصوراً فى كيانات اجتماعية واقليمية ضيقة يتحدد فيها الانتاج كل مرة بنفس الشكل والمقادير. لكن فى الراسمالية صار الانتاج المتسم بالمحدودية مستحيلاً. ففى الراسمالية العرض يسبق الطلب (الاستهلاك ينمو فى اثر الانتاج) لان وسائل الانتاج لا يمكن ان يتدنى مستوى تشغيل طاقاتها تحت مستوى أدنى معلوم والا تعرضت المؤسسات الانتاجية للخسارة البينة. وبنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ونتيجة لتدنى ارباح القطاعات الصناعية فى الدول الراسمالية لمستويات ضعيفة – أملتها ظروف موضوعية تتمثل في تعرض هذه القطاعات لتكلفة انتاج عالية فرضها إستعمال الماكينات والمعدات ونظم الإنتاج المتطورة، والتكنلوجيا الحديثة، ونظم الادارة الحديثة – وُلد راس المال المالى (الاحتكارى) باندماج رأس المال الصناعى بالمصرفى فى تلك الدول وبدأت مرحلة جديدة من عولمة الرأسمالية أخذت شكل تصدير رؤوس الاموال للدول المتخلفة. فالاستثمار فى الدول المتخلفة يضمن تحقيق الارباح العالية لشح راس المال، وانخفاض اسعار الآراضى، ولوجود العمالة والمواد الخام الرخيصتين. وهكذا تحولت الدول القومية الاوربية لدول إمبريالية أدى الصراع فيما بينها الى الحربين العالميتين الأولى لاقتسام العالم والثانية لاعادة اقتسامه. والحرب العالمية الثانية حدثت فى اعقاب الازمة الراسمالية فى الفترة بين الحربين التى قادت لصعود الأنظمة الفاشية والنازية في أوروبا. وهكذا صارت اقتصاديات دول الشمال الرأسمالية تعتمد في إزدهارها علي المستعمرات وشبه المستعمرات التي توفر الأرباح الفاحشة الضرورية لتعويض تناقص الربح الذي، كما ذكرنا، املته الظروف الإقتصادية الموضوعية السائدة في البلدان الصناعية. وفى السنوات الاخيرة المتزامنة مع ظهور منافسين جدد فى حلبة الصراع الامبريالى على اقتسام العالم (او بالاحرى تعزيز مناطق النفوذ وإعادة توزيعها) واشتداد الازمة فى الدول الراسمالية تصاعدت، من ناحية، وتيرة التدخل والعدوان الامبريالى على الدول الفقيرة والتوسع فى تصدير رؤس الاموال لها (دفع العولمة لمستوى أعلى) لتتحقيق مزيد من النهب الطفيلى لمواردها. ومن ناحية أخرى، عمدت الدول الراسمالية فى داخل بلدانها الى تفعيل سياسات التقشف (austerity measures) التى تشمل تخفيض الأجور او تجميدها، وتقليص الانفاق على الخدمات العامة والإعانات المالية المختلفة.
انتهت الدول الراسمالية لكيانات تمثل مصالح الراسمالية المالية (الاحتكاربة) خاضعة بالكامل لسلطتها السياسية. لهذا تفاقم اقصاء شعوب البلدان الراسمالية من المشاركة السياسية فى ظل الديمقراطية الليبرالية، التى كانت منذ مولدها قبل حوالى قرن من الزمان شكلية تتعارض مع مصالح اغلبية الشعب. وهكذا أصبح جهاز الدولة (السياسية) فى البلدان الرأسمالية جهازاً بيروقراطياً متضخماً ازدادت الشقة بينه وبين مكونات المجتمع بما فيها بعض الشرائح الراسمالية (احدى صوره فى امريكا التناقض بين وول ستريت wall street الممثل لسلطة راس المال المالى ومين ستريت main street الذي يرمز للنشاط الغير مالى.)
صار جهاز الدولة الرأسمالية الغربية تحت القبضة الحديدية لأوليغاركية مالية (financial oligarchy) طفيلية، خادماً ذليلاً لها مؤتمراً بامرها. وهكذا، رغما عن ديمقراطيتها الشكلية، أصبحت الدولة - باداراتها البيروقراطية الضخمة، وجيوشها, وشبكات أجهزتها الامنية، ومراكز بحوثها- تنيناً له رهبة تفوق سطوته، كل ما فكر فيه توماس هوبز.
_________________
حدث تطور كبير على صعيد الدولة وعلاقتها بالمجتمع فى 1917 بقيام النظام الاشتراكى فى روسيا فى أعقاب الحرب العالمية الاولى، وبتأسيس جمهورية الصين الشعبية فى 1949 التى سنخصص مقالاً منفصلاً للتطورات الدستورية بها باعتبار الدروس المستخلصة منها كدولة استهدفت ثورتها التحرر من الاستعباد الامبريالي وتصفية بقايا الاقطاعية و تحقيق نظام ديمقراطى على حطام جهاز الدولة القديم- وهى نفس الاهداف التى يسعى اليها حالياً حوالى 70% من سكان الارض.
المجتمع الاشتراكى (الاشتراكية بالمعنى العلمى) يحتم على العمال اقامة سلطة تختلف كلياً عن السلطة التى حققتها البرجوازية فى الدول الرأسمالية. فسلطة العمال محكومة بالتلاشى فى مرحلة اعلى، ولكن طالما هى سلطة بالمعنى الاصلى للكلمة فالضرورة تحتم عليها التدرج، كضرورة، فى اتجاه بلوغ غاياتها.
لهذا اخذت الدولة فى روسيا عند تأسيسها شكل (ديكتاتورية البروليتاريا)، واقتضت الضرورة التى فرضها واقع البلاد المتخلف نسبياً ان يدخل العمال فى تحالف مع فقراء وصغار المزراعيين. وقد تمثل هدف الدولة الاستراتيجى فى تحقيق الاشتراكية بازالة نظام الانتاج السلعى (الغاء القيمة التبادلية) عبر برامج مرحلية اقتضت فى اوائل سنوات النظام الركون للانتاج الراسمالى فى بعض القطاعات الانتاجية (خاصة الزراعى). فقد وضعت الدولة السوفيتية، فى ذلك الوقت (السياسة الاقتصادية الجديدة–النيب–) بهدف تنمية قوى الانتاج المتخلفة الموروثة من النظام القديم والتى فاقم من ترديها العدوان والحصار الذى فرضته الدول الاستعمارية على الدولة الوليدة. كذلك استبدلت اللجان العمالية المكونة بعد قيام الثورة لادارة المصانع بسياسة المدير الواحد لتعزيز سياسة النيب. وكان شكل الحكم صمام أمان لحماية النظام الاشتراكى، الذى يسيطر على الصناعات الكبيرة ووسائل النقل، من تغول الانتاج الراسمالي المُجاز كحل مؤقت لحين ترقية القوى المنتجة؛ فالدولة السوفيتية لم تاخذ بنظام فصل السلطات بل حصرت كل السلطات فى مجلس السوفييت الاعلى الذى يمثل قمة الهرم لمجالس السوفييت على مستوى الاحياء, والمناطق والقرى،الخ . ولضمان المشاركة المباشرة لقطاعات واسعة من الجماهير في ادارة شئون الدولة، لم تكن مدة الخدمة فى الجهاز التشريعى مستديمة حيث يتم تغيير ممثلى الشعب بشكل مستمر. كما ان التمثيل النيابى لم يكن على اساس دوائر محددة بل كان النواب يمثلون كل الشعب وكانت ادوار انعقاد الهيئات التشريعية لا تتعدى فترات قصيرة خلال السنة. وفى فترة عدم انعقاد الهيئة التشريعية القومية تحول سلطاتها لمجلس رئاسى جماعى صغير هو المجلس الرئاسى (Presidium) .
رغماً عن شكل الحكم الذى منح جماهير العمال وفقراء وصغار المزراعيين سلطات سياسية واسعة، الا ان وجود الانتاج الراسمالى (الملكية الخاصة) فى الدولة الاشتراكية حتم تركيز السلطة السياسية لادارة الصراع بفعالية ضد القوى الراسمالية الموجودة فى قلب العملية الانتاجية الى ان تتعزز الاشتراكية وتصبح السيادة الكاملة للعمال.
حقق الاتحاد السوفيتى السابق انجازاً كبيرًاً فى ثلاثينيات القرن العشرين فى مجال القضاء على نظام الانتاج السلعى، بتحويل جل وسائل الانتاج لملكية الدولة الاشتراكية وتحقيق جماعية الزراعة (فى شكل تعاون زراعى اشتراكى) مما قرّب الدولة السوفيتية كجسم سياسى اكثر واكثر من التطابق مع العلاقات الاشتراكية السائدة على مستوى البنية الإنتاجية. فلم تعد الحيازة على الانتاج (appropriation of production) فى يد الملكية الخاصة لتحويله لسلع (قيم تبادلية) من اجل الربح، بل آلت للمنتجين تشرف الدولة الاشتراكية على ادارة توزيعه عليهم وفق المبدا الاشتراكى من كل بقدر طاقته، ولكل بحسب عمله .
بعد الانقلاب الذى قاده نيكيتا خروتشوف فى 1953 الذى ابعد الاتحاد السوفيتى عن مساره الاشتراكى، تحول الحزب الشيوعى فى 1961 من حزب العمال لحزب "كل الشعب" والدولة السوفيتية "لدولة كل الشعب". وهكذا انتفت الطبيعة الطبقية للدولة والحزب، وكان ذلك بمثابة الاعلان الرسمى للابتعاد عن كل ما يمت بصلة للاشتراكية والانتصار الشامل للراسمالية على انقاض النظام السوفيتى الاشتراكى. وهكذا تم تعبيد الطريق لاعادة الدولة السياسية والتى استمدت موضوعيتها من اعاة نظام الانتاج السلعى. فقد كان الانتاج السلعى ضمن النظام الاشتراكى، للاسباب المذكورة أعلاه، الوسط الذى نمت وتكاثرت فيه الراسمالية وأهم مظاهره التخلى عن التخطيط المركزى واطلاق يد الوحدات الانتاجية فى التحكم بصورة كاملة فى منتجاتها وممارسة البيع والشراء والمنافسة فيما بينها باستقلالية تامة - وبهذا تحولت كل المنتجات وكذلك العمالة الى سلع وتحولت الملكية الاشتراكية فى البداية الى ملكية راسمالية–الدولة لتتخذ فى فترة لاحقة, بالجوء للخصخصة, شكل الملكية الخاصة. فقد استغرق التحول لشكل الحكم الليبرالى فترة طويلة منذ عهد خروتشوف وحتى انهيار الاتحاد السوفيتى فى،1991 وخلال هذه الفترة ظلت الازدواجية بين الدولة والمجتمع فى الاتحاد السوفيتى تتطور فى شكل دولة لحماية الملكية الراسمالية لا تتطابق مصالحها مع مصالح العمال، وتعددت التوصيفات من مرحلة لأخرى من دولة كل الشعب الى دولة تتم فيها ادارة الاقتصاد الاشتراكى بصورة منطقية ومعقولة (rational)الى دولة تسودها القيم الانسانية، والحرية ،الخ. ولم تكن هذه الشعارات الا نسخة من المسلمات (dogmata) القديمة والجامده والمبتذلة لاضفاء صفة القدسية على الدولة المنقلبة على الاشتراكية. وعلى هدى التفكير الدستورى القديم الاخرق حُل مجلس السوفييت الأعلى فى 1993 واعيدت الحياة الى الشكل البرلمانى القيصرى القديم الدوما . وبعد ان آلت السلطة لفلاديمير بوتين في عام 1999 تعزز نطاق الدولة (السياسية والعلمانية ان شئت) فى روسيا وصارت تمثل مصالح طغمة من دهاقنة المال تجاوزت فى تحكمها وسيطرتها على المجتمع كل الحدود.
_________________