الاشتراكية هي المستقبل


ماري ناصيف
2011 / 12 / 21 - 13:09     

اللقاء الثالث عشر للأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية
(أثينا - اليونان، 9-11 كانون الأول 2011)

كلمة د. ماري ناصيف – الدبس
نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني
مسؤولة العلاقات الخارجية

قرّرت الشعوب في أغلبية بلدان العالم وقارّاته أن وقت المواجهة مع الإمبريالية قد حان، بعد ما حاول منظرو الرأسمالية إقناعها على مدى أكثر من عقدين، بالترهيب تارة وبالترغيب طوراً، أن التاريخ انتهى عند النظام الرأسمالي، وأن الإشتراكية ليست سوى "يوتوبيا" غير قابلة للتحقق...
كسرت شعوب العالم قضبان السجون الكبيرة المحاطة بأسوار الإرهاب والقمع والخوف، وخرجت تهتف للتغيير، فغصت بها الميادين والساحات والشوارع، من أثينا وباريس وروما ومدريد ولشبونه، لتنتقل بعد ذلك الى تونس وميدان التحرير في القاهرة (الذي هو، اليوم، واجهة العرب ومرآتهم) ولتتوزع، مجدداً، داخل قلب الرأسمالية النابض، من "وول ستريت" النيويوركي الى كاتدرائية سانت- بول اللندنية...
الملايين، الآتية من مشارب طبقية وفكرية وثقافية وإيديولوجية مختلفة تنزل، يومياً، الى الشوارع وتطالب، كل على طريقته، بإنهاء استثمار الإنسان للإنسان. إلا أن العنصر الطاغي على كل هذه التحركات يكمن في كون الطبقة العاملة تتقدم الصفوف في أغلبية تلك التحركات بمؤازرة فقراء الريف ( خاصة في بلداننا النامية) وأبناء "الطبقة الوسطى" التي خفتَ بريقها منذ أواخر القرن العشرين وفقدت الكثير من وزنها بعد انفجار الأزمة العامة للرأسمالية في أواخر 2007.
إننا نعيش، اليوم، زمناً جديداً أو، بالأحرى، متجدداً، يذكرنا، في بعض جوانبه، بالنصف الأول من القرن العشرين. هو زمن الإنتفاضات والثورات التي عادت لتنطلق من المصانع والحقول ومؤسسات الإنتاج والتعليم ولتلاقي، في وسط الطريق، كل أشكال مقاومة الشعوب لمحتليها، بدءاً بالمقاومة المسلحة التي شكّلت فلسطين ولبنان والعراق الوجه المنير لها.
إنه، أيضاً، زمن الإنتصارات التي تلوح في القبضات العارية المرفوعة في وجه آلات الدمار والتي يسمع هديرها عالياً في الصرخة الموحّدة والمدوّية التي تلف العالم بكل مكوّناته: " الشعب يريد إسقاط النظام الرأسمالي".
إنه، أخيراً، زمن كل الذين وُضعوا على هامش المجتمع الانساني، من جياع القرن الأفريقي الى العاطلين عن العمل، وأغلبيتهم الساحقة من الشباب الوافدين حديثاً الى مواقع الإنتاج، الى النساء اللواتي لا زلن يعانين العنف والتمييز على كافة المستويات وفي كافة المجالات.
هذه الرؤية ليست مبنية فقط على ما كنا نسميه " التفاؤل التاريخي" بأن الرأسمالية ساقطة لا محال. كما ان الصورة التي نرسمها لا نريد لها أن تكون خارج الواقع الذي نعيش. فكلنا يعلم جيداً أن الإمبريالية لن تستسلم بسهولة، أو دون قتال؛ بل إنها ستلجأ الى خلق الفتن والحروب الإستباقية ورمي الأزمات في وجه البروليتاريا والشعوب المضطهدة التي تريد التحرر... بمعنى آخر استكمال سياسة "الفوضى الخلاّقة" وتسعيرها وكذلك تسعير موجات العداء ضد الشيوعية، بما يوجه الأنظار الى غير المكان الذي يجب أن تتوجه إليه.
والوضع العربي، يؤشر لمثل هذا التوجه.
فبعد نجاح ثورة عمال وفقراء تونس في إسقاط النظام التبعي والديكتاتوري، وبعد سقوط "فرعون مصر"، سارعت الإمبريالية، بقيادة الإدارة الأميركية، الى محاولة استعادة زمام الأمور والسعي لمنع هاتين الثورتين من استكمال مسيرتهما باتجاه إنجاز التغيير.
فاستفادت، أولاً، من الجرائم التي ارتكبها النظام الليبي، بقيادة القذافي، ومن التحركات التي انطلقت في ليبيا بفعل الثورة التونسية المجاورة، لتغزو هذا البلد، بعد تدميره، ولتوصل الى الحكم مزيجاً من فلول النظام البائد والقوى الإسلامية، كون مثل هكذا مزيج يمكن أن يؤمّن لها مسألتين أساسيتين ضمن خطتها للسيطرة على أفريقيا: وضع اليد على البترول المكتشف والتنقيب عن منابع جديدة له في الصحراء الليبية، إضافة الى إحقاق إنتصار جديد، بعد ذلك الذي سجلته في تقسيم السودان، على طريق تنفيذ المخطط الأميركي الهادف الى إعادة تنظيم أوضاع القارة الأفريقية، بدءاً من شمالها وبالإستناد الى "القيادة العسكرية الإفريقية " (أفريكوم).
واستفادت، ثانياً، من سيطرتها على النظام الرسمي العربي ومجلس التعاون الخليجي وأمواله لتحركهما باتجاهات مختلفة، نذكر منها: منع اليمن من السقوط في أيدي الثوار، وتوجيه تونس ومصر باتجاه التحالف بين القوى الإسلامية وقيادة القوات المسلحة، وضرب تحرك البحرين، وتفجير الصراعات المذهبية في أكثر من بلد عربي، بدءاً بالعراق، حيث تحاول خلق أقاليم طائفية، وسوريا، حيث تستفيد هنا ايضاً من أخطاء النظام للدفع باتجاه حرب أهلية بالتعاون مع النظامين الأردني والتركي.
وهنا، لا بد من التوقف عند المهمة الجديدة الموكلة الى تركيا كرأس حربة في المنطقة العربية والشرق – أوسطية إذ أن الإمبريالية تسعى لتحريكها باتجاهات مختلفة إنقاذاً لمشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الهادف الى السيطرة على البترول والغاز (على الأرض وفي المثلث البحري الممتد بين قطاع غزة الفلسطيني ولبنان وقبرص) والمياه والممرات المائية والمواقع الإستراتيجية في العالم العربي.
لقد أشارت الدراسة التي وضعتها لجنة العلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي اللبناني الى خطورة هذا الدور، بالاستناد الى الكتاب الذي وضعه شيمون بيريز في العام 1993 وتحدّث فيه عن هذا الدور العسكري لتركيا، وكذلك إلى كتاب وزير خارجية تركيا داوود أوغلو، المستند بدوره الى التوجه الذي سبق لبريجنسكي أن وضعه حول موقع منطقة أوراسيا المحوري وضرورة السيطرة على هذا الموقع. واذا كان بعض العرب قد هلل للموقف التركي من المجزرة التي ارتكبها الكيان الاسرائيلي بالمشاركين في "أسطول الحرية" باعتباره ينقل تركيا الى موقع المواجهة مع المشروع الأميركي- الإسرائيلي، فإن ما نشهده اليوم من تحرك تركيا في كل الاتجاهات، من ليبيا والمغرب إلى طول الحدود مع سوريا والى اجتماعات الجامعة العربية، يؤكد على التالي:
إن نقل مركز قيادة حلف شمال الأطلسي إلى أزمير إنما يهدف إلى تشديد الخناق على منطقتنا، والامتداد الى تخوم روسيا لمحاصرتها، واعادة تنظيم الأمور في باكستان. ذلك أن الامبريالية الأميركية لا تزال تعتمد سياسة الاستناد الى العسكر كصمام أمان لمصالحها؛ واذا ما عادت فأضافت الى العسكر الاسلام السياسي بمسمياته المختلفة المروج لها اليوم بـ "الاسلام المعتدل" الذي يخفي خلفه قوى كان لها دورها في ضرب الاتحاد السوفياتي السابق انطلاقا من أفغانستان (التي أصبح لها قاعدتها العسكرية الأميركية)، فإن ذلك يؤشر الى أنها لن تسلم سلاحها بسهولة... خاصة اذا ما أخذنا بعين الاعتبار عدم حصولها على الاتفاقية الأمنية التي تسعى لها في العراق وكذلك عدم نجاح المحاولات التي قامت بها القيادة العسكرية المصرية بهدف إنهاء ثورة الشعب المصري التي وصلت منذ شهرين تقريباً الى حدود اعادة النظر باتفاقية كمب دايفيد، ودون أن ننسى التقدم الذي حققته قضية الشعب الفلسطيني، ليس فقط في منظمة الأونيسكو، بل وخاصة في اتساع التأييد العالمي لحق هذا الشعب في العودة الى أرضه واقامة دولته وعاصمتها القدس.
هذا كله يقودنا الى استشراف ان مستقبل المنطقة يمكن أن يكون أكثر جذرية مما كانت عليه الانقلابات العسكرية التي أتت، في أواسط القرن الماضي، في مواجهة الاستسلام الرسمي العربي للنكبة الفلسطينية. وسيؤثر هذا التغيير في حال حصوله بدون شك على الامساك بثروات المنطقة ومقدراتها وعلى اعادة النظر جذريا، بالتالي، بمسألتي التبعية للامبريالية والتنمية في العالم العربي.
من هذا المنطلق نرى في "اللقاء اليساري العربي" الذي أطلقناه منذ عام ونيف، أي قبل انطلاقة ثورة تونس بثلاثة أشهر، بداية تلمس شكل من أشكال البحث عن كيفية انضاج الظروف الذاتية للتغيير، وبالتحديد قوى التغيير عبر الجبهات التي لا بد للقوى الثورية الجذرية أن تسعى الى اقامتها. إلا أننا في الوقت نفسه ندرك العراقيل المتواجدة على الطريق، بدءاً بالمشاكل الكامنة بين القوى ذات المصلحة في التغيير في كل بلد عربي على حدة، ووصولا الى وضع برنامج التغيير العام وتحديد الأدوات التي تحمله. فنحن في الحزب الشيوعي اللبناني قد أكدنا مراراً منذ المؤتمر الثالث (1972) على العلاقة الجدلية بين الظروف الذاتية للتغيير والظروف الاقليمية له. كما أكدنا على دور العامل الاقليمي (العربي خصوصاً)عام 1975 في انحسار مشروع الحركة الوطنية الذي كان مسيطراً على أغلبية لبنان والذي لقي الدعم والتأييد من أغلبية الشعب اللبناني آنذاك. كما ندرك، أيضاً وأيضاً، أهمية النضال لكسر "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، إن من خلال كسر حلقته المذهبية أم من خلال احراز تقدم ملموس باتجاه انتصار القضية الفلسطينية التي نعتبرها القضية المركزية للنضال العربي التحرري والرافعة الالزامية لانتصار التغيير في منطقتنا.
إن هذين الدورين، القطري والاقليمي، الذي يجب على قوى التغيير أن تضطلع بهما من خلال الجمع دوما بين القضيتين الوطنية والاجتماعية، اللتين تشكلان وجهي القضية الطبقية للأحزاب والقوى الشيوعية والعمالية، لا يكتملان إلا من ضمن تحركات مماثلة في كل أنحاء الكرة الأرضية. من هنا نقترح العودة الى دراسة العنوان الكبير الذي كنا نطرحه في السابق حول تكامل بين الحركة العمالية العالمية وحركات التحرر في العالم (ومن ضمنها اليوم الحركات المناهضة للعولمة الرأسمالية). فلا نكتفي فقط بما سبق أن قررناه في اللقاء الثاني عشر في تيسوانا من ايلاء الاهتمام للمنظمات العالمية (في مجالات العمل النقابي والشبابي والنسائي، اضافة الى مجلس السلم العالمي)، بل نعمد الى البحث عن كيفية الاسهام في تأطير ما يجري في العالم من تحركات ذات أبعاد مختلفة، تحركات منظمة أوعفوية، وذلك بهدف تجذيرها وتحصينها، والعمل على تطوير النضال الايديولوجي الى جانب أشكال النضال الأخرى.
إن الشعار المرفوع اليوم "الاشتراكية هي المستقبل" لا يمكن له أن يأخذ مداه الايديولوجي ومداه السياسي بدون ايجاد أشكال متطورة من التنسيق التي تؤدي الى ما يمكن تسميته بـ "التفاعل المتسلسل"- réaction en chaine - تكون نتيجتها وضع حد نهائي للامبريالية وأزماتها وصفتها العدوانية.