تغير المسار نحو نظام اجتماعي جديد*/ تحول اجتماعي ايكولوجي .. يسار الحاضر و مشروع المستقبل


رشيد غويلب
2011 / 12 / 15 - 09:54     


ترجمة: رشيد غويلب

نحن نعيش مرحلة انتقالية تاريخية و مرحلة اضطرابات اجتماعية، يتمثل جوهرها في أكثر من قرنين من هيمنة و تطور ونمو و تقدم نموذج أوصل المجتمع الغربي إلى حدوده ووضعه على محك الاختبار. أدى هذا النموذج إلى تقدم اقتصادي و اجتماعي هائل، و ألآن يدمر ألأسس الايكولوجية للحياة البشرية و مقوماتها الطبيعية المشتركة ( الموارد، المناخ، المياه، الطبيعة و البحار) و يقوم بتفتيت و تدمير المقومات ألاجتماعية المشتركة ( العمل، المنتج العام، التأهيل، الصحة، الثقة و التماسك الاجتماعي)


تاريخيا هناك، وبالدقة منذ سبعينيات القرن العشرين، ضرورة لتغيير مسار جذري، تحول جذري، تحول يفهم على انه محرك لمرحلة انتقالية تمتلك ديناميكيتها الذاتية باتجاه نموذج لنظام اجتماعي جديد ومجتمع ونظام تنمية جديد.
لم يقدم مجتمع اشتراكية الدولة أجوبة مقنعة على التحديات الجديدة وأدى ذلك إلى فشله، في حين بحثت الرأسمالية عن ألأجوبة في الليبرالية الجديدة وفي هيمنة السوق التي قادت في النهاية إلى أعمق أزمة ثقة – ماليا و ايكولوجيا وسياسيا في ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد أعاد، الوضع الجديد، في ظل مرحلة الانتقال و التحول، الحياة إلى الجدل حول وضع المجتمع العالمي، و إمكانياته المستقبلية، و أدى إلى تفجير الاختلاف حول الكيفية التي يتشكل بها مجتمع المستقبل.
هناك بالأساس ثلاثة خطابات، مفاهيم، مشاريع مجتمعية، تمثل مصالح مختلفة، تقف في مواجهة بعضها البعض:
أولا: فهم التحول على انه استمرار لنظام النمو ونموذج التطور القائم على حركة السوق المالية المتطرفة، وهذا يعني الإبقاء على الليبرالية الجديدة التصالحية التي ظهرت في منتصف السبعينيات و لازالت سائدة إلى اليوم مع فسح المجال لتدخل حكومي جزئي، ضمن أمور أخرى لمراعاة الظروف الايكولوجية و متطلباتها.
ثانيا: فهم التحول على انه أصلاح رأسمالي يتشكل بموجبه نموذج تنمية ايكولوجي - رأسمالي أو ما يعرف بالاتفاق الأخضر الجديد " Green New Deal" .
ثالثا: فهم التحول على انه تحول اجتماعي – ايكولوجي و تضامني – تحرري.
لقد بدأ الصراع من اجل التغيير و التحول منذ فترة طويلة، و النهايات لا تزال مفتوحة ، و قد تردد حزب اليسار الألماني طويلا في استيعاب موضوعة إعادة البناء ألاجتماعي – الايكولوجي باعتبارها قضيته الخاصة، إلا إن البرنامج الجديد للحزب تناول الموضوعة على الأقل بقوة أكثر، ولكن من الضروري وضع مشروع مستقبلي مستقل لإعادة البناء الاجتماعي – الايكولوجي للمجتمع يغطي الأبعاد الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية على حد سواء، لأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بنوع و كيفية جديدين ذاتي أفق مستقبلي للاقتصاد و العمل و المشاركة و الحياة، فضلا عن أسلوب جديد للإنتاج و المعيشة.

لا تنتظروا التحول الكبير

التحول الجديد يتطلب في البداية الانتقال التدريجي من اقتصاد النمو الرأسمالي المدمر للطبيعة و المجتمع إلى مسار اخر متسارع لنموذج تنمية اقتصادي يستخدم الموارد بكفاءة ويحافظ على البيئة. و إعادة البناء هذه لا تعتبر فقط نوعا و نمطا جذريا للاقتصاد فحسب ، بل أيضا نمط للعمل و الحياة، لهذا فان إعادة البناء كمشروع يساري يجب أن يركز على العدالة الاجتماعية و التضامن و في ذات الوقت يحقق الديمقراطية بمضمون تحرري. و يجب أن لا يفهم على انه فرض أو تهديد، بل أمل مشروع للناس، ولهذا علينا أن نفهم سوية هذا التحول باعتباره مشروعا لإعادة بناء المجتمع على أسس اجتماعية- ايكولوجية و تضامنية – تحررية، وهذا يتطلب، بخلاف ما تتناوله مشاريع الاجتماعيين الليبراليين و كذلك الخضر، إعادة بناء جذرية للتراكم و قواعد التنظيم لنموذج التنمية و الاقتصاد القائمين، و لا يتحقق هذا التحول من خلال تطبيق خطة اختصاصيين، بل فقط كخطاب مشترك للبحث و التعلم، بالإضافة إلى تنظيم و تفعيل ذاتي، و ربما لهذا السبب يحتاج هذا النموذج من التحول الى رؤية واقعية لمجتمع متضامن يفهم على أساس الشراكة المتساوية للجميع في الرأي و الامتلاك، و جماعة اجتماعية- ايكولوجية متعددة و مفتوحة يمكن أن تصف هذا التحول بالمناسب.
لا شك إن تحولا كهذا سيواجه صعوبات تبدو مستعصية يمكن تصورها عبر عملية تاريخية طويلة على الصعيد الوطني و الأوربي و العالمي، وتتوفر إمكانياتها مبدئيا تاريخيا و آنيا، في المقام الأول ليس من خلال التنظير أو الحجة الجيدة، بل من خلال النمو عبر نضالات واستعدادات جماعات المصالح المجتمعية الكبيرة، وفي ظل ظروف عالمية مناسبة (Esping Anderseb, Vester)
ليس هناك ضمان لتحقيق هذا التحول، و لكن لا يمكن أن يدعي البديل (بعد الآن) انتظار التغيير الكبير، الذي سيجلب فجأة الحل العظيم، بل يتقرر المستقبل في الحاضر عبر عملية تمكين المواطنات و المواطنين (روزا لوكسمبورغ) ، من خلال الحركات و النضالات المتعددة، لتجديد الديمقراطية ولتعزيز المساواة و التضامن لغرض توسيع الحق في الحريات التي تجسدها تحالفات جديدة. إن بإمكان المرء أن يفترض بواقعية، إن مرحلة التطور القادمة لا تنطوي على نهاية الرأسمالية، بل تنطوي في أحسن الأحوال على مسار تطور ايكولوجي رأسمالي يمكن تعزيز التأثير فيه من خلال محتواه الاجتماعي و الديمقراطي.

مشاريع رائدة على الصعيد المحلي

يجب أن يحظى التحول الاجتماعي- الايكولوجي بقبول السكان، و من خلال أمثلة عملية و ملموسة، ويحتاج إلى نماذج لمشاريع رائدة على الصعيد المحلي و الإقليمي، و كلا النهجين يتطوران اليوم من خلال مناطق و قرى الطاقة المستقلة و اللامركزية و التعاونيات وأشكال الاقتصاد و العمل التضامني وأشكال المشاركة الديمقراطية كالطاولات المستديرة و الاستفتاء الشعبي و الميزانيات التشاركية (الشعبية)، وحق مشاركة العاملين في إدارة المصانع، و هنا تحدث تغيرات جزئية و هشة لهيكلية الملكية و التحالفات في المواقف و في الشخصية الثقافية. أي أن التحول ليس هو فكرة فقط، و أنما ممارسة ملموسة، أي تحول من (الأسفل) ، لكنه لا يمكن أن يكون ناجحا دون تغير وتحول من (الأعلى)، و كذلك ليس بدون تغيرات أساسية في السياسة و في اتجاه المسار.
لقد كانت التحولات الاجتماعية متناقضة دوما و مصحوبة بصراعات سياسية واجتماعية حادة حول الهيمنة و السلطة و الملكية، وفي المجتمعات ذات المفاضلات السياسية و الثقافية يمكن ويجب إن تكون مسألة التعامل مع مسار التطور اللاحق مرتبطة بإجماع ديمقراطي واسع وأرضية ديمقراطية.
يمكن أن نوجز الموضوع بالسؤال التالي: لماذا ينبغي أن يكون هذا التحول مشروعا هاما لليسار؟
أولا: لا يمكن اليوم الفصل بين قضية الايكولوجيا و القضايا الاجتماعية و العكس صحيح، فالغالبية العظمى لا تستطيع تحقيق مصالحها الحياتية بعد الآن بواسطة منطق النمو الرأسمالي و المنافسة الفردية، بل فقط من خلال النضال المشترك من اجل مسار تنمية مستدامة و تضامنية، و هذا يتطلب في الوقت ذاته التوزيع من الأعلى نحو الأسفل و دعم المناطق المتضررة في العالم، و يتطلب سياسة تفسح المجال أمام أوسع مشاركة للمواطنين و مزيدا من المساواة و التضامن، وجميع هذه القضايا هي قضايا يسارية.
ثانيا: إن إعادة البناء الاجتماعية – الايكولوجية التضامنية هي عنصر أساس في سياسة السلام المستدام، لان حل السؤال الاجتماعي – الايكولوجي سيساهم بشكل حاسم في منع حقبة مدمرة لحروب وشيكة على الموارد ( مولر ستراسر).
ثالثا: مثل هذا التحول سيشرك أوساطا اجتماعية جديدة، و سينشأ ويوسع شبكة جهات فاعلة على الصعيد الوطني و العالمي، ويتطلب ويمكـّن من التعلم وعملية التغير الاجتماعي في إطار البحث المشترك.
إن التحول الجديد و الكبير يتطلب في نهاية المطاف التخلي عن مجتمع سوق رأس المال المالي و الدخول في مرحلة انتقالية نحو مجتمع مستقر متضامن. ينبغي على القوى السياسية اليسارية أن تعي إن التحول الاجتماعي – الايكولوجي التضامني التحرري هو في المقام الأول قضيتها و مشروعها الذي سيفتح لها فرصا كبيرة، لتكون قوة سياسية خلاقة تساهم بشكل حاسم في تشكل عصر جديد.


* مقالة لرولف رايسش بروفسور العلوم السياسية و الاجتماعية عمل إلى عام 1978 أستاذا في جامعة كارل ماركس في لايبزك و بعد ذلك عمل حتى عام 1989 في أكاديمية العلوم الاجتماعية في برلين الشرقية. ساهم عام 1987 بشكل رئيس في وضع ورقة الحوار بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي في غرب ألمانيا و الحزب الاشتراكي الألماني الموحد الذي حكم ألمانيا الديمقراطية السابقة.أسس في عام 1990 معهد برلين المستقل للبحث في العلوم الاجتماعية وكان رئيسه لسنوات عديدة.