آلية التبعية ... والاستعمار الدكي ... وضرورة الخلاص ....


محمد بودواهي
2011 / 12 / 11 - 16:09     

إن مصطلح التبعية من المصطلحات السياسية ذات الطبيعة المطاطية، لتميزها بتعدد تعاريفها وبإختلاف استعمالاتها . لكن من التوصيفات المهمة لمصطلح التبعية
نجد مصطلح التبعية للغرب أي تبعية المجتمعات المتخلفة بقواعدها السياسية الاقتصادية والثقافية إلى المنظومة الرأسمالية العالمية المتمثلة في دول المركز..

وهناك تعريفين للتبعية .. بناء على نظرة كل فريق ..
فأحد الفرقاء ينظر اليها على أنها علاقة بين اقتصادين احدهما يتوسع على حساب الاخر ، و يكون تطور الثاني تابعا لتطور الاقتصاد الاول ، فيتوقف تطور التابع على توسع الاخر ( الاقتصاد المسيطر ) .. بينما يرى فريق اخر أن العلاقة بين الاقتصادين المتخلف و الرأسمالي .. لاترجع فقط الى علاقات الاستغلال و القهر الخارجية ..بل انها تنبع من توافق مصالح الطبقات الحاكمة و بين حلفائها الغربيين ..

فمفهوم التبعية إنطلاقا من هدا التوصيف هو عبارة عن علاقة تنطلق من التابع إلى المتبوع ، عبر عملية إلحاق قصري بوسائل سياسية وإقصادية وعسكرية ، وغزو ثقافي وفكري لتعميم نظام الانتاج الرأسمالي ، وتسويغ للهيمنة التي تمارسها دولة عظمى أو مجموعة دول أحرزت تقدما في مجالات الاقتصاد والتيكنولوجيا والتعليم فتستخدمها لتحقيق أهداف مادية واستراتيجية ، بما تفرظه على أمم وشعوب أخرى أقل تقدما من إجراءات تلزمها بها وتجبرها على تنفيدها كي يمكنها البقاء والإستمرار.

وقد تطورت نظريات التبعية لمواجهة المزاعم المتفائلة لنظرية التحديث التى تقول أن بمقدور دول العالم الثالث أن تلحق بركب الدول المتقدمة. إذ يؤكد أصحاب نظرية التبعية أن للمجتمعات الغربية مصلحة فى الحفاظ على وضعها المتميز بالنسبة للدول النامية، وأن لديها الإمكانيات المالية والتكنولوجية لتحقيق ذلك . وقد كان " منظرو النمو الاقتصادى والتحديث أنصاراً متحمسين لطريق التطور الرأسمالى، وأعادوا بشكل سخيف تكرار آراء الارتقائيين الدين أدعوا وزعموا أنه بالقدر الكافى من الاستثمار والتشجيع ستقترب كل البلدان فى النهاية من بعضها البعض وستصبح مشابهة للدول الرأسمالية الصناعية للغرب ، وسيكون بوسع مواطنيها الاستمتاع بالأنماط الغربية من الاستهلاك الضخم. وأدرك منظرو التبعية من أمريكا اللاتينية إدراكاً لا لبس فيه أن هذا التقارب لم يحدث ولن يحدث بين البلدان الرأسمالية المتطورة للعالم الأول
وبلدان العالم الثالث المتخلفة التابعة اقتصادياً . ويؤكد هؤلاء أن البحث التاريخى أظهر أن التخلف المعاصر هو إلى حد بعيد النتاج التاريخى للعلاقات الاقتصادية وغير الاقتصادية فى الماضى والحاضر بين البلدان التابعة المتخلفة وحواضر البلدان المتطورة اليوم. فضلاً عن أن هذه العلاقات هى جزء جوهرى من بنية وتطور النظام الرأسمالى.

ويمكن إيجاز أهم افتراضات نظرية التبعية فى تأكيد أتباعها أن التخلف والتقدم وجهان لعملة واحدة بدأت مع نشأة النظام الرأسمالى. ويقولون فى ذلك أن التخلف لم يكن حالة متأصلة فى اقتصاديات دول العالم الثالث قل اخضاعه للنفوذ والسيطرة الأوروبية ، بل إنه نشأ فى نفس اللحظة التاريخية التى ظهر فيها التقدم فى مراكز العالم الرأسمالى. فتخلف العالم الثالث ما هو إلا نتاج مباشر للتنمية فى المركز الرأسمالى . وكدا استنزاف فائض الدول المتخلفة وتصديره إلى المراكز الرأسمالية، فقد شهد تاريخ العالم النهب الاستعمارى الذى مارسته الدول الكبرى على الدول الصغرى .و يتفقون على مقولة عدم التوازن بين العواصم المركزية والمحيطات الهامشية والتى تقوم على افتراض مؤداه أن نشأة النظام الرأسمالى وتوسعه فى العالم خلق الشروط الضرورية للتخلف فى الأجزاء الأخرى من العالم الفقير.ويؤكدون في الأخيرعلى علاقات تحالف المصالح بين القوى الرأسمالية المسيطرة من الخارج ، والقوى الداخلية المتحكمة فى داخل دول العالم الثالث . بل إن استراتيجية المركز تقوم على خلق فئات حاكمة تابعة أو خادمة تتوقف شرعيتها فى الحكم على خدمة الاقتصاد الأم وتصبح هذه الفئات مدعمة للتبعية وميسرة للتغلغل الرأسمالى داخل هذه الدول ، ومسرعة بالاندماج الكامل فى السوق الرأسمالى العالمى.

إذن فالتبعية هي ظاهرة ملموسة وواقع سياسي واقتصادي مفروض ومعاش ، والحديث عنها يجعلنا ننطلق من فرضية أساسية مفادها أن النظام العالمي الجديد يتميز
بتركيبة تنقسم إلى صنفين من البنا الاجتماعية : الصنف الأول تمثله الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى وتسمى بدول المركز أو ما يعرف في المفهوم الشائع بدول الشمال و التي لا تمثل إلا 20 في المائة من مجموع سكان العالم،أما الصنف الثاني فيتمثل في التشكيلات الاجتماعية المتخلفة والتي تسمى بدول الهامش أو ما يعرف في المفهوم التقليدي بدول الجنوب و التي تشكل الحصة الكبرى من مجموع سكان العالم ب 80 في المائة . وهذا التقسيم الطبقي ما هو إلا نتيجة للإستعمار الكلاسيكي الذي خلف مجتمعات متأخرة خاضعة لمنظومة كونية تشكل حياتها وتحدد مساراتها السياسية والاقتصادية والثقافية .

و تتجلى ظاهرة التبعية الإقتصادية بجلاء خصوصا على مستوى العلاقات التجارية لدول الهامش ، حيث نجد الأرقام الإحصائية والنسب المأوية واضحة وفاضحة في هذا الجانب . فعلى المستوى التيكنولوجي تستورد هذه الدول جل مستلزماتها من الصناعات الثقيلة والخفيفة والمتوسطة من دول المركز بنسبة تزيد عن 70 في المائة من إستعمالاتها.. وعلى المستوى الغذائي تصل نسبة المواد الغذائية القادمة من المركز إلى الجنوب إلى 60 في المائة حتى تتمكن من هذه الأخيرة من تحقيق حاجاتها و أمنها الغذائي. كما أن مساهمة التجارة الخارجية في الناتج المحلي لهذه البلدان تفوق 80 في المائة وهو رقم جد مهول.. أما على المستوى المالي فإن المديونية الإجمالية لدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط على سبيل المثال لا الحصرـ كنموذج لدول الجنوب ـ تبلغ اليوم حوالي 380مليار دولار وهي بذلك تساوي إجمالي الدخل السنوي لهده البلدان مجتمعة..

ويجب التذكير بأن المديونية الخارجية كانت دائما هي السبيل الناجم عن التحكم المطلق للرأسمالية على الصعيد العالمي، ويعتبر هذا التحكم المطلق هو التعبير الاقتصادي و السياسي على بلوغ مرحلة العولمة الليبرالية .

فهذا الرقم الفاحش من المديونية العربية سيبقى كرقم سجين على صدرها، لأنها ستبقى حبيسة الرأسمال الأجنبي ورهينة لمناهج ونظم إقتصادها ،تفرضها عليها بعض المنظمات التي وجدت خصيصا لخدمة ظاهرة التبعية ولتنميط النظام الرأسمالي على سائر بقاع العالم في ظل ما أصبح يصطلح عليه بالنظام العالمي الجديد، و نجد من بين أبرز هذه المنظمات و المؤسسات الإستعمارية ( البنك الدولي ، صندوق النقد الدولي ، الجاط ، منظمة التجارة العالمية...)

إن آليات التبعية وصلت إلى حد شراء رؤساء الدول والملوك, برواتب ثابتة, أو بمكافآت مالية وعينية غير دورية, أو بالاثنين معا, واستخدمت الولايات المتحدة خارج أمريكا اللاتينية أسلوب القواعد العسكرية مباشرة. دون اللجوء إلى مرحلة الاحتلال العسكرى . فبدون ضمان للولاء السياسى لا يمكن المغامرة فى الإنفاق الاقتصادى, وضخ الاستثمارات, والسير فى طريق الهيمنة الاقتصادية, لأن كل ذلك سيعد مغامرة غير محسوبة العواقب, ويكون كل هذا الضخ المالى معرضا للضياع.

وحاصل القول في هذا الجانب هو أن التبعية الإقتصادية وما لها من إنعكاسات على إقتصادات دول الهامش من خراب في هياكلها وفي نظم تسييرها وفي إستقلالية قراراتها الإقتصادية، و كذا في إنعكاساتها على مستوى معيشة الشعوب، تلك ماهي إلا شكل من أشكال التبعية الممنهجة للغرب الرأسمالي الذي لا تنحصر أطماعه في بسط يده على إقتصاد العالم فقط بل يتعدى ذلك إلى الإختراق والتعدي على ثقافات وحضارات الشعوب وأيضا حتى إستقلالها السياسي..

وفي هدا الإطار شهدت البلدان التابعة، واغلبيتها كانت من دول العالم الثالث، الكثير من الأحداث السياسية المعبرة عن مناهضة شعوبها للتبعية السياسية.

ولانجاز هذا الاستقلال السياسي لجأت الشعوب إلى تكوين احزاب وتجمعات سياسية تدعو إلى التحرر من السيطرة الاجنبية، فضلاً عن عمل شخصيات مستقلة في نفس هذا الاتجاه التحرري.

تبدو ظاهريا نجاحات حركات التحرر في التخلص من معاهدات التبعية السياسية إلا أن الكثير من بلدان العالم الثالث لا زالت ترتبط بمعاهدات واحلاف تقيد سيادتها الوطنية وتسمح للدول القوية بالتدخل في شؤونها الداخلية والخارجية، وهذا ما يدعو هذه الحركات إلى إدامة النضال من اجل اكمال الاستقلال السياسي لبلدانها.
ولأن التبعيتين الثقافية والاقتصادية من العوامل المساعدة على فقدان الاستقلال السياسي فان من الواجبات الملحة على حركات التحرر في الوقت الراهن يبرز واجب النضال ضد التبعيتين الثقافية والاقتصادية.

إلا أن من حكم المؤكد أنه عندما تفشل كل آليات التبعية الجديدة فى تحقيق أهدافها ثبت أن الولايات المتحدة الاستعمارية ستكون مستعدة للعودة من جديد إلى أسلوب الاحتلال العسكرى التقليديالمباشر ، وهذا حدث بالسيطرة العسكرية على كل دول الخليج ثم باحتلال أفغانستان والعراق . وهى حالة لا يمكن مواجهتها إلا بالمقاومة الشعبية المسلحة من أجل تحرير الأرض والإرادة أولا ثم العودة إلى بناء الاقتصاد المستقل والسير فى طريق التنمية الوطنية المستقلة .