خطر الفاشية.. والأزمة الرأسمالية


عصام مخول
2011 / 12 / 11 - 08:55     

في النقاش السياسي الدائر في إسرائيل تزداد التحذيرات من الفاشية يوما بعد يوم، وباتت أية محاولة لتحليل الحالة الإسرائيلية ، من دون اللجوء إلى مفهوم الفاشية ومحاذير التدهور السريع باتجاهها، تبدو منزوعة عن الواقع. وأخذنا نقرأ في الصحف الإسرائيلية الابرز عناوين رئيسية مفادها أن "الفاشية قد أصبحت هنا". ولقد حذر الماركسيون الذين حللوا ظاهرة الفاشية من إغراء الوقوع في أحد استنتاجين متسرعين على طرفي نقيض. الأول أننا محصنون، و"أن الفاشية لا يمكن ان تطال مجتمعنا" ، وفي هذه الحالة من "الطمأنينة" الخادعة وغير المبررة ، ليس ثمة حاجة للنضال ضد تطورها والتدهور باتجاهها . والاستنتاج الثاني يسم السياسات الرجعية والتحويل الرجعي للمؤسسات بأنه الفاشية بعينها، ويعتبر أن الأمر قد قضي، وما دامت الفاشية قد وصلت الحكم فلا طائل من النضال ضدها ولا قدرة على مواجهتها. ويتطلب ذلك الدقة في توصيف الحالة الإسرائيلية وفي قراءة اسياق الذي نشهد فيه التدهور الفاشي الخطير.
خاصة وأن تناول الخطر الفاشي في إسرائيل، لم يعد محصورا في تحليلات الشيوعيين وبعض القوى اليسارية القريبة منهم ، بل أصبح من نصيب العديد من القوى الليبرالية التي دأبت حتى الأمس القريب على رفض أي تلميح يربط بين الفاشية وإسرائيل ، باعتبار أن يهود أوروبا كانوا ضحايا الفاشية ، وان إسرائيل التي يحلو لها أن تعرض نفسها تاريخيا على أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط ، لا يمكن أن تكون عرضة للفاشية كغيرها من المجتمعات . قطاعات واسعة من المتعاملين مع السياسة في إسرائيل أخذت تقر ، بأن الفاشية تقرع أبواب المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، التنفيذية والتشريعية ،السياسية والأمنية والاجتماعية. وأن طلائع الفاشية تجاوزت عتبة البوابة الإسرائيلية. ولم يعد تحليل التدهور الفاشي في إسرائيل محصورا في متابعة الموقف من حقوق الشعب الفلسطيني وما جلبته أعوام الاحتلال الطويلة من انهيار أخلاقي وإنساني عنيف في إسرائيل ، ولم يعد يتمحور فقط حول اضطهاد الأقلية القومية العربية الفلسطينية في إسرائيل والتمييز العنصري ضدها ، وإخراجها خارج دائرة الحقوق وخارج دائرة الشرعية ، بل تجاوزه وبات تهديدا حقيقيا للمجتمع الإسرائيلي كله ، يطال علاقات العمل وحركات الاحتجاج ، واليسار وكل أشكال النضال الديمقراطي ويطال الخطاب الحقوقي والتنظيمات السياسية والاجتماعية التي تخرج عن السرب اليميني المتطرف والمنفلت.
إن الأزمة العميقة التي تعيشها الديمقراطية الإسرائيلية ، ليست نابعة فقط ،عن وجود قيادات فاشية بكثافة في المؤسسة التنفيذية والتشريعية والإيديولوجية الحاكمة في إسرائيل اليوم . الحقيقة هي أن وصول هذه القيادات الفاشية إلى الحكم بقيادة نتنياهو ، هو التعبيرعن الأزمة وانعكاس لها. إنها أزمة السياسات الرسمية الإسرائيلية العاجزة عن إعطاء الأجوبة على القضايا السياسية والاجتماعية الملتهبة. وتعمل المؤسسة الحاكمة على تصدير أزمتها إلى الطبقة العاملة والقطاعات الشعبية المهمشة داخل إسرائيل ، وإلى الأقلية القومية العربية ، وتدجين النقابات والقضاء على العمل المنظم ، وتعميق الاستفزاز الاحتلالي والتشريع العنصري وإخفاء الطابع الطبقي للفاشية.

الجوهر الطبقي للفاشية
لجأت البرجوازية إلى الفاشية تاريخيا ، مع اشتداد أزمتها ، باعتبار الفاشية سبيل خلاصها الوحيد. وباعتبار الحل الفاشي هو آخر الحلول التي تلجأ إليها البرجوازية الكبيرة للتغلب على أزماتها بعد أن تكون قد استنفذت إشكالا عديدة للسلطة ، وبعد أن أصبح واضحا أنه لم يعد بإمكان الأساليب الديمقراطية البرجوازية القديمة استعباد الجماهير ووضعها في خدمة راس المال من خلال الحكم البرلماني.
فالامبريالية في محاولتها إلقاء عبء الأزمة على أكتاف العاملين وحقوقهم ومدخراتهم ، كما يحدث اليوم في التعامل مع أزمة انهيار البنوك وميزان العجز والديون في دول المركز الرأسمالي، في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وسقوط الحكومات كما شهدنا في اليونان وايطاليا واسبانيا وتعمق الأزمة في البرتغال وفرنسا وغيرها ، تثبت أن الامبريالية المأزومة مؤهلة لان تلجأ إلى الفاشية ،لتكون أداتها لفرض أعباء إنقاذ نظامها الرأسمالي المأزوم على العاملين والفئات الشعبية المفقرة، ولتكون أداتها لكسر المقاومة الاجتماعية امتدادا من حركة "احتلال وول ستريت " إلى المظاهرات الملايينية في كل العواصم الأوروبية ، وصولا إلى حركة الاحتجاج التي لا يزال جمرها مشتعلا في إسرائيل والى الإشكال التي اتخذتها المقاومة الاجتماعية لدى الشعوب العربية.
و تلجأ البرجوازية الكبيرة إلى الفاشية أيضا، في محاولتها القضاء على قوة الطبقة العاملة المنظمة ، ونضالاتها الطبقية والنقابية ، وفي قمع كل تحرك ثوري داخلي واحتجاج شعبي واسع يهدد قواعد اللعبة البرجوازية ويطالب بإسقاط النظام الطبقي القائم.
لقد فضحت الأزمة العميقة الي تعيشها الرأسمالية العالمية ، أن الامبريالية ليست تماما المدافع عن الديمقراطية العالمية وإنما مصدر الخطر عليها وعلى شعوب العالم وحرياتها.
إن هذا يعني أن الفاشية ليست مسألة أخلاقية أو مزاجية نابعة عن نزوات فردية ، وليست بونابارتية مرتبطة بنزعات هذا القائد أو ذاك ، وإنما هي ظاهرة اجتماعية لها هوية طبقية واضحة المعالم والأهداف.
في استعراضه لنشوء الفاشية في ايطاليا عام 1919 وصف بالميرو تولياتي ، القائد الشيوعي الايطالي الأبرز في قيادة المواجهة مع الفاشية في مهدها ايطاليا ، كيف استنجدت البرجوازية الايطالية ب"الحزب الفاشي الجديد" الذي أسسه صحفي اشتراكي مغامر يدعى بينيتو موسوليني، لإفشال الإضرابات التي عمت البلاد بأسرها، ولإفشال عمليات احتلال المصانع من قبل العمال المضربين ، وبداية تسيير بعضها بدون الرأسماليين. إن المنظمات الفاشية منذ فترة تولياتي وحتى اليوم لم تنتزع الحكم من البرجوازية الكبيرة في أية حالة ، وإنما وصلت إلى الحكم دائما بتواطؤ البرجوازية الكبيرة أو بدعمها، بدءا في ايطاليا وألمانيا واليابان ، في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين ، ومرورا بتشيلي والأرجنتين وإسبانيا والبرتغال واليونان في سنوات السبعين وحتى اليوم .
ويخلص تولياتي إلى أن "ظاهرة الإرهاب والرجعية تتحول إلى فاشية ، عندما تصبح في خدمة البرجوازية الكبيرة وبخاصة عندما تكون مستندة إلى رأس المال المالي، والى حركة جماهيرية نسبيا ذات طابع برجوازي صغير." .
وحدد الكومنتيرن تعريف الفاشية على أنها : " الديكتاتورية الإرهابية السافرة للقوى الأكثر رجعية والأكثر شوفينية والأكثر امبريالية ، لرأس المال المالي". ويأتي التأكيد على كونها "الديكتاتورية السافرة" ليشير الى ان هذه الديكتاتورية تكون قائمة بشكل مستور وغير سافر في ظل البرجوازية ، ما دامت أوضاعها تسمح لها بتحقيق أهدافها وهيمنتها من خلال ممارسة اللعبة الديمقراطية البرجوازية. أما عندما تصل الاحتكارات ، أي القوى القائدة للبرجوازية إلى التمركز الأقصى ، تصبح الأشكال القديمة للحكم عائقا أمام تطورها. وهكذا ترتد البرجوازية ضد ما كانت هي قد أوجدته، لأن ما كان في السابق عنصر تقدم بالنسبة لها ، أضحى اليوم عقبة أمام الحفاظ على المجتمع الرأسمالي ومصالح الطبقة المهيمنة. وحيث يتهدد البرجوازية خطر اندلاع الثورة البروليتارية والشعبية لزعزعة النظام الطبقي القائم، تقيم الفاشية حكمها السياسي المطلق بدون حدود. وتحاول توسيع قاعدتها ومزج الديكتاتورية الإرهابية السافرة مع تزوير فظ للنظام البرلماني.

جبهة شعبية مناهضة للفاشية

إن تصاعد المقاومة الاجتماعية اليوم ، المتزامن مع تعمق الأزمة الرأسمالية العالمية والمحلية ، سيزيد من حدّة الهجمة الفاشية ويكثفها. ولا نستطيع التغاضي عن الخطوات التي تتخذها البرجوازية قبيل صعود الفاشية. والمعدة لقمع الحريات الديمقراطية ، وتزوير صلاحيات البرلمان وتضييقها ، ومقاومة الحركة الثورية بشدة. ان هذه الخطوات لا تعني صعود الفاشية بالضرورة ، بل إنها مقدمات وتراجعات إمام صعود الفاشية. ومن لا يتصدى لهذه المقدمات فانه غير قادر على منع انتصار الفاشية ، بل يساعد على انتصارها . إن الحالة الإسرائيلية التي نواجهها تراوح في هذه المرحلة مما يجعل الخروج لمواجهتها أكثر إلحاحا.
لقد دوى في سماء هذه البلاد منذ سنين طويلة ، شعار "الفاشية لن تمر "، وأصبح هذا الشعار أكثر صلة اليوم في ظل أزمة الحكم في إسرائيل وأزمة الرأسمالية الخانقة. وعلينا أن نعي ، أن مرور الفاشية أو عدم مرورها ليس مرتبطا بالقوى الفاشية بقدر ما هو مرهون بما تقوم به ، أو لا تقوم ، القوى المناهضة للفاشية. فالجماهير لن تتحرك في يوم مشرق مبتعدة عن الفاشية بصورة عفوية، وكأنه أمر بديهي لتنتقل إلى جانبنا. بل يجب أن نبحث عن هذه الجماهير ونقوم بتنظيم انتقالها إلى جانبنا. لتصبح مهمتنا القادمة بناء الجبهة الشعبية اليهودية العربية الواسعة، المناهضة للفاشية في إسرائيل.