حول الإنتخابات الإسبانِيّة الأخيرة


السموأل راجي
2011 / 12 / 5 - 20:21     

في الإنتخابات التي وقعت يوم العشرين من نوفمبر/ تشرين الثّانِيّ 2011 ، جدّت إنزياحات إلى اليمين على مُستوى المُؤسّسات بدأ مُنذُ يوم 22 مايُو/ آيار. حصل الحزب الشّعبِيّ على أغلبِيّة مُطلَقَة بالتّوازِي مع تحكُّمُه في المجالس البلدِيّة ومناطق الحُكم الذّاتي بما يُتِيح لهُ القبض بيدٍ من حديد على مقالِيد السُّلطة في أوقاتٍ عصيبة تمُرّ بها البلاد.
أمّا الحِزب "الإشتراكِيّ" ، وبحُصُولِه على 110 مقعد ،فَقَد حقّق أسوأ نتيجة في تارِيخِه القريب ، كانت عُقُوبة يستحِقّها نظرًا لِسياستِه اللاّشعبِيّة الرّجعِيّة الفاتِحة للأبواب أمام اليمين كما فَعَل من قبل فيليب غونزاليس (Felipe González) وفريقه الحُكُومِيّ.

سلكت الدّيمُقراطِيّة-"الإجتِماعِيّة" اليمِينِيّة في المُناسبتَيْن نهجًا نيوليبرالِيًّا رجعِيًّا حامِلاً هجمات عنيفة على الحقّ في الشُّغل والحُقوق الإجتماعِيّة والسِّياسِيّة لغالبِيّة جماهير الشّغِيلة ومثّل "إصلاح" الدّستُور الملكِيّ آخر عنوان في هذا السِّيَاق. ووراء النّزعات الإنتصارِيّة لقادتِه ، لم يتمكّن اليسار المُوَحّد (Izquierda Unida) من الحُصُول على الأصوات المفقُودة من قِبَل الحزب الإشتراكِيّ (ذهب أكثر من 4 مليون صوت لإتّحاد التقدُّم والدّيمُقراطِيّة {Unión Progreso y Democracia} وهي قُوّة رجعِيّة غاية في الخُطُورة ذات خِطابٍ شعبَوِيّ) وحصل اليسار المُوحّد على نتيجة بمليون صوت أقلّ مِمّا حقّقه في آخر مُناسبة إنتخابِيّة.

تحوَّلَ الإمتناع عن التّصوِيت ،الذي بلغ 30% خِلال الخمس عشرة سنة الأخيرة ليصل 9.5 مليُون ناخِب، إلى تعبِيرة إنتخابِيّة ثانِية ، وفي ظِلّ غياب مرجعِيّة واضِحَة ومُحدَّدَة كان الإمتناع سلُوكًا عامًّا لناخِبِي اليسار مرَّةً أُخرى . ويُمكن الحديث عن إستِثنَاء في علاقة بإئتِلاف أمايور (Amaiur) حيث تنامى وتجذّر التّحالُف المُكوّن من بيلدو وأرالار (A ɾalar / Bildu) ليُمثّل أهمّ قُوّة إنتخابِيّة في بلاد الباسك ويحصد 7 مقاعد بمَا يُمكّنه من تشكيل كُتلة نِيَابِيّة ولا بُدّ من الإقرار في ذات السِّياق أنّ قُوى الباسك حافظت على الدّوام على موقف سِساسِيّ ثابت.
نتج نجاح تحالًف أمايور عن صلابة موقف عدم الرُّضُوخ لضُغُوط وتهديدات النِّظام ، غير أنّه لا يُمكن غَضّ الطّرف في اللّحظة الرّاهِنة عن مخاطر القومِيّة الإسبانِيّة الأضْيَق في تعزيزِها لسياسة الإنكار المنهَجِيّ لحُقُوق قِسم هامٍّ من المُواطنين الباسكِيِّين بِمَا يدعُو جِدّيًّا لليقظة.

لاشيء جديد إذن ، لا تسمح البانوراما المُؤسّساتِيّة ،كما ورد في تحليل ما بعد الإنتخابات البلدِيّة ومناطق الحُكم الذّاتِيّ، بِقِراءةٍ مُبكّرة ليكُون الإقتراع مُتحوّلاً نحو اليمين ويُواصِل اليسار في غالبِيّته مسار الإنقِسام ومهوُوس بإحترام قواعد اللّعبة الموضُوعة أيّام الفترة الإنتقالِيّة.
من الوارد الدّهشة أمام إنتِصارٍ ساحق لقوى رجعِيّة جمعت بين مُكوّؤنات تَحِنُّ للفرانكِيّة وسِياسِيّين مُرتَشِين في لحظاتٍ كهذه حيث تسعى الأوليغارشِيا لتوسيع هجماتِها على الطّبقات الشّعبِيّة ، لكن الحزب الشّعبِيّ (Partido Popular) لم ينجح عبر مُؤهِّلاَتِه إذ كانت خيانة الحُكُومة "الإشتراكِيّة"-الدّيمُقراطِيّة هي الدّافِع لجُمهُورٍ إنتخابِيٍّ عريضٍ للتّصويت العِقابِيّ بِما أتاح للقُوّة الوحِيدة الظّاهِرِيّة أن تكون أغلبِيَّةً ، وإنقلبت دعوة اليسار المُؤسّساتِيّ للتّصويت النَّشِط ،بِنِيّة ضمان مُساندة إنتخاباته، عليه .
ليست أخبارًا جيِّدة بلا شكّ خاصّة مع تنامِي رفض السّياسة والسّياسِيِّين وغياب توجيه للجماهير : حالةً من الحشوِيّة (actitud visceral) لا تُبشّر بالخير .

تعيش إسبانيا اليوم إستِتْبَاعات خيانة اليسار الخانِع الذي لم يكُفّ عن إلجام الحركات الإجتماعِيّة وفرض النّسيان والعُزُوف عن السّياسة لتمرير وتكريس نظام يُهدِّد الخروقات الدّيمُقراطِيّة المُفتعلة من خلاله تحوّل مُمثّليه في أهمّ المُؤسّسات لأنصارٍ للتّوافُقات النّاعمة وللبراغماتِيّة قصيرة النّظر مُديرين ظُهُورهم للإحتياجات وللاولوِيّات الخاصّة بالجماهير العريضة . كام تعيش البلاد إستتباعات قانون إنتخابِيّ لاديمُقراطِيّ صُمِّم على المقاس قصد ضمان التحكُّم في المُؤسّسات عبر القُوى الأكثر خُنُوعًا وقابِلِيّةً للإطار السّياسِيّ للملكِيّة.

تبدُو الأوليغارشِيا مُتردِّدةً في إتّخاذ إجراءات عنيفة بعُمق الأزمة لتفادي رمي القناع من طرف النّظام وللحيلُولة دون فتح حقبة من الصّراع الإجتماعِيّ تُؤدِّي لمُواجهاتٍ أشمل ، كما تخشى في ظِلّ إحتدادٍ للصّراع الطّبقِيّ إنتهاء المُعسكر الشّعبِيّ بتوحيد قُواه للردّ سِياسِيًّا في معركة رأس المال لا يزال فيها رابِحًا.
وراء النّبرة التّوفِيقِيّة لراخوي (Mariano Rajoy) في أوّل خطاباته الرّسمِيّة ، لا أحد ينتظِر هُدنةً في حِدّة الهجمات ، فلا تزال الأسواق وخدمها من يُعطِي الأُذُون ؛الواقع عنيد ، وسستراءى خلال الأشهر القادمة سياسة راخُوي في تعميق الخصخصة وتصفِية الحُقُوق الإجتماعِيّة والسّياسِيّة التي إلتزمها ثاباتيرو(José Zapatero ).

لا مجال لإختراقات الوهم ، فالقادة الإجتماعيّين/ اللّيبرالِيّين سيُقدِّمُون خدماتهم لتعزيز سياسة الدّولة إذا ما تطلّب الأمر ، ولا تُوجد فُرُوقات جوهرِيّة في مُعسكر الرّجعِيّة ، فمثلما توحّدُوا أيّام الإصلاح الدُّستُورِيّ ، سيتوحّدُون لفرض أجندة البورجوازِيّة الإمبريالِيّة المُحدّدة الفِعلِيّة للأجندة السّياسِيّة.
لقد اعلن كايو لارا (Cayo Lara) بعد قبُوله بنتائج الإنتخابات أنّ كُتلته النّيابِيّة ستكون المثتحدّث الرّسمِيّ في البرلمان بإسم النّضالات الميدانِيّة وهُو ما يأمله ويثِقُ فيه الحزب ، ولا يتسنّى لليسار المُوحّد (Izquierda Unida) أن يسعى للهيمنة على عُمُوم اليسار وعليه ألاّ يرفُض العمل المُوحّد مع بقِيّة الفصائل على قاعدة برنامجٍ مُشترك كما لا يُمكن ان يُواصل في القول أنّ المُعيق الأساسِيّ الذي واجهه اليسار في هذه الإنتخابات هو القانون الإنتخابِيّ الذي حَجَّمَهُ أمام بقِيّة القُوى.

صحيحٌ انّ تعاسة القانون الإنتخابِيّ تضُرّ عظيم الضّرر بقُوى اليسار ، لكنّ إبتعاد العميق للشّرائح الإجتماعِيّة عن اليسار واقعٌ يتطلّبُ البحث عن أسبابه خارج دائرة هذا القانُون : يقتقر لوجهة نظر خاصّة،مُستقِلّة ومُباشرة في مُواجهة النّظام الملكِيّ الذي يُمثّل القبُول به شرط التّواجُد في المُؤسّسات. لا بُدّ لليسار أن يستخلص درس التقدُّم في الوحدة المُرتكزة على رفضٍ واضحٍ ومُحدّد للنّظام وإختيار إطارٍ سياسِيٍّ يتمثّل في الجُمهُورِيّة . إنّ المُواصلة في النّضال مُتفرّقين أو عبر التّقوقُع مع بعض القادة الإجتماعيّين/ الليبرالِيّين ،المُساندين للمَلَكِيّة والمُستعدِّين للتّضحِية بمواقفهم السّياسِيّة الخاصّة كما أكّده ثاباتيرو في خطابه حول نتائج الإنتخابات، سيكُون سلُوكًا إنتحارِيًّا.

لقد تكوّنت قائمات الجمهوريّون (Republicanos) للإنخراط في مسار وحدة اليسار ، ويتعلّق الأمر بفيدرالِيّة يُنادِي بها الحزب وعبرها تقدّم في ثمانية دوائر رغم العراقيل ونجح في الإمتداد لعدّة مناطق . في جلستها الأولى المُنعقدة بتاريخ الأوّل من أكتوبر / تشرين الأوّل 2011، أكّدت القائمات على أنّ هدفهم ليس إنتخابِيًّا وأنّ آمالهم في الحُصُول على مقاعد محدودة للغاية ، لكن النتيجة المُشجّعة كانت في الشّرُوع في تأسيس مُنظّمة بإمكانها الدّعوة لجلسةٍ عامّةٍ تحضرها النّواتات الجديدة.

ستكون الأشهر المُقبلة صعبة ، إذ ينخرط الإتّحاد الأوروبّي لرأس المال والحرب في تصفية كُلّ مظاهر السّيادة الوطنِيّة للأقطار الأعضاء،ويفرض الإنصياع الكامل لإملاءات أوليغارشيا المركز ، ركّز في إيطاليا حُكُومة "تكنوقراط" خادمة لرأس المال الكبير ، وفي اليونان "حكومة وحدة وطنِيّة" يُشارك فيها الليبرالِيُّون "الإجتماعِيُّون" وهُم يمين "الدّيمُقراطِيّة الجديدة" لأقصى اليمين . في إسبانِيا حيث لا تزال الازمة بعيدة عن مساس الأعماق ، يُهدّد إنتصار اليمين تشرذُم اليسار وإستياء غالبيّة المُجتمع بخلق وضعِيّة إنفجار.
تشهد البلاد دخول حقبةٍ حيث تُساوي فيها الأيّام سنوات من التّغيير المُستمِرّ ، ولن يدوم المشهد السّياسِيّ المُنبثق عن إنتخابات 20 نوفمبر/ تشرين الثّانِيّ طويلاً.

21 نوفمبر/تشرين الثّاني 2011
أمانة اللّجنة المركزيّة للحزب الشّيُوعِيّ الإسبانِيّ (الماركسِيّ اللّينينيّ) (PCE (m-l