الضرورة الحتمية لديكتاتورية البروليتاريا في النظام الاشتراكي


محمد بودواهي
2011 / 11 / 18 - 03:59     

إن المجتمعات البشرية مرت في أطوار وعصور تاريخية كان يحكم تطورها الاجتماعي جدلية التناقض الطبقي . ونجم عن صراع الطبقات خمسة أطوار، ابتداء بمرحلة المشاعية البدائية إلى مرحلة العبودية ، فمرحلة الإقطاع ، فالرأسمالية ، ووصولاً إلى مجتمع بلا طبقات ، هو المجتمع الاشتراكي فالشيوعي . وقد خَلص ماركس إلى هذه الاستنتاجات ، عندما درس حالة التطور التاريخي للمجتمعات الأوربية ، وأراد تطبيق قوانينها على حركة المجتمعات العالمية ، أياً كانت درجة تطورها الاجتماعي والاقتصادي وخصوصياتها الثقافية . ووفق هذا التصور لطبيعة المجتمعات الأوربية ، فإنه توَّقع أن تحدث الثورة الاشتراكية العمالية في أوربا ، وعلى وجه الخصوص في ألمانيا ، التي بلغت الرأسمالية فيها مرحلة متطورة ، وشارفت فيها الطبقة العاملة على النضج الثوري استعداداً لمرحلة الانتقال من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمعين الاشتراكي فالشيوعي .

حين توصل ماركس إلى استنتاجاته حول التطور الاجتماعي التاريخي نحو الاشتراكية ، كان يراقب مجتمعات البلدان الرأسمالية المتطورة صناعياً ، ويرصد حركة الصراع الطبقي فيها ونمو قوة البروليتارية الصناعية ، التي تقع على عاتقها قيادة مرحلة الانتقال عن طريق سلطتها الدكتاتورية في وجه دكتاتورية الرأسمالية ، التي تمتلك القوة الاقتصادية ، وتقبض على آلية العمل السياسي بنظامها الديمقراطي البرجوازي .

إلا أن الثورة الروسية فاجأت معظم ماركسيي الأحزاب الشيوعية في العالم آنذاك ، وقلبت التوقعات التي كانت تتجه باتجاه حدوث الثورة الاشتراكية في ألمانيا . وكان الواقع الروسي ، يثير أمام المقولات الماركسية مسائل جديدة غاية في التعقيد ، ناجمة عن درجة التطور الاجتماعي الروسي من جهة ، وطبيعة النظام الرأسمالي الذي لم يصل إلى مرحلة متقدمة من جهة أخرى . ووجود فئات واسعة من الفلاحين الفقراء والعمال الزراعيين الذين لهم مصلحة في الثورة الاشتراكية إضافة إلى العمال الصناعيين الذين يعدون القوى الأساسية للثورة الاشتراكية كما يرى ماركس .

وقد تولى لينين قيادة التجربة الروسية ، بكفاية وقدرة عالية ، نظرياً وعملياً ، واستطاع تطوير المقولات الماركسية وإخضاعها لاجتهادات تنبثق عن معطيات هذا الواقع ، وخاض بذلك معارك فكرية واسعة مع نظرائه من الماركسيين في داخل حزبه الشيوعي في روسية وخارجها .

وكان لينين يرى أن ديكتاتورية البروليتاريا في مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية أمراً ضرورياً ، وأنه لا يمكن التغلب على الرأسمالية واستئصالها من دون قمع مقاومة البرجوازيين الذين لا يمكن تجريدهم دفعة واحدة من ثرواتهم ، ومن فوائد تنظيمهم ومعرفتهم ، لأنهم سيحاولون حتماً إسقاط سلطة الكادحين الفقراء مدة طويلة نسبياً ، هدا إضافة إلى أن السلطة السوفييتية ، ليست سوى إطار تنظيمي لدكتاتورية البروليتارية ، أي دكتاتورية الطبقة الطليعية ، التي تشارك في حكم الدولة ، وتشرك معها عشرات الملايين من الشغيلة ، الذين يتعلمون من تجربتهم أن يروا في الطليعة المنظمة الواعية أي الحزب ، أفضل قائد لهم.

هذه الحتمية التي تسوغ العنف الذي تمارسه السلطة الثورية لدكتاتورية البروليتارية ، لم تكن الخيار الوحيد المقبول من الماركسيين جميعهم ، فقد كان بعض ماركسيي الأحزاب الشيوعية ، ولاسيما في ألمانيا ، يرون أن مرحلة الانتقال ودكتاتورية البروليتارية يمكن أن تتم بالخيار الديموقراطي السلمي في البرلمان ، في ظل النظام البرجوازي ، ولكن التجربة أثبتت إخفاق هذا الاتجاه ، فلم يستطع أي حزب شيوعي في أوربا أن يحقق هذا الخيار. وأخفق كاوتسكي الذي قاد هذا التوجه ، ونعته لينين بأنه يميني مرتد عن الماركسية.

وضع لينين، أسساً لمنظومة مترابطة ومتناسقة من المفهومات ، تنقل الطبقة العاملة من الديمقراطية البرجوازية ، إلى ديمقراطية جديدة ودلك بربط مرحلة الانتقال بشرطين لازمين وهما: دكتاتورية البروليتارية ، و الحزب . وأنه ليس ثمة أي تناقض بين الديمقراطية السوفييتية واللجوء إلى سلطة دكتاتورية البروليتارية . ففي مرحلة الانتقال تتطلب السلطة وحدة الإرادة المطلقة ، والخضوع لها. وهذا الإخضاع يقتضي الوعي والطاعة المثاليين . وتتحدد مهمة الحزب في أن يسير في طليعة الجماهير المكافحة ، من أجل قيادتها في الطريق الصحيح . وشدد لينين على ترسيخ صيغة المركزية الديموقراطية داخل المؤسسات العمالية والحزبية.

ولكن الممارسة الديمقراطية ، أفرزت سلبيات سبق لمنظري الفكر الاشتراكي أن حذروا منها ، وترسخت البيروقراطية في الأنظمة الاشتراكية التي تعاقبت بعد لينين ، فأفرغت الثورة الاشتراكية من مضمونها الشعبي والديمقراطي . وصادر الحزب ديمقراطية الطبقة العاملة ، وصادرت القيادات الحزبية الديمقراطية داخل الحزب . ونتج عن دلك نمو المركزية وتعاظمها على حساب تراجع الديمقراطية في المؤسسات الحزبية والعمالية ، و برز دور الأشخاص المتعطشين إلى السلطة .

ولقد سلَّط الانهيار الشامل للنظم الاشتراكية ـ ولاسيما في الاتحاد السوفييتي ودول أوربا الاشتراكية ـ الضوء مجدداً على جدوى مقولة دكتاتورية البروليتارية خياراً ثورياً للانتقال من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي . واستُخدِمت هذه المسألة ذريعة من قبل أولئك الذين قادوا عملية الانهيار، سواء منهم من قاد عملية إعادة البناء (البيريسترويكا)[ر] أم من أعقبهم من حكام .

فوصفت دكتاتورية البروليتارية ، بأنها السلطة التي حجبت الديمقراطية ، وقمعت حرية المواطن وشلت إرادة الحزب والطبقة العاملة وأفسحت المجال لهيمنة البيروقراطية التي صارت أداة بيد الزعيم السياسي الذي يمارس دكتاتورية فردية ، وقد عجزت البيروقراطية الحزبية عن تطوير النظام وآلياته لمواكبة التطورات الاقتصادية العالمية ، وتلبية المتطلبات الاجتماعية ، واحتياجات الفرد النفسية والمعنوية ، وتطلعاته إلى ممارسة حرية الرأي والتعبير في إطار نظامه السياسي .
كان من الطبيعي، أن يقف أعداء الفكر الماركسي ، من مفكري الرأسمالية والبرجوازية المعارضين لمقولة دكتاتورية البروليتارية ، وأن يعدوها بعيدة عن الديمقراطية ، وأن يعدّوا الأحزاب الماركسية أحزاباً دكتاتورية تمارس السلطة فيها جماعة من الشخصيات القيادية التي تقف فوق الحزب والطبقة والشعب ، وأن يروجوا بالمقابل لمقولة تناقض دكتاتورية البروليتارية مع الديمقراطية ، وأنها تعني نهاية الديمقراطية أياً كان نوعها . وأبدوا شكهم في ولاء الحزب لمصالح الطبقة العمالية ، ووجود هوَّة بين سياسة الحزب وإرادة الطبقة التي يصادرها الحزب .

ومن أوساط الماركسيين أنفسهم ظهرت آراء معارضة لرأي لينين ونهجه الثوري الجذري . إذ أنكر الماركسيون الإصلاحيون ضرورة التغيرات الجذرية في جميع ميادين حياة المجتمع ، وأخذوا بخيار تحول الرأسمالية التدريجي إلى الاشتراكية إبان المرحلة الانتقالية ، مع الحفاظ على جميع الخواص الأساسية للرأسمالية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ، واتباع نهج الليبرالية السياسية التي تجعل من الطبقة العاملة وحزبها شريكاً فقط ، وعلى قدم المساواة مع القوى الاجتماعية الأخرى ، وأخيراً إمكانية تعايش الإيديولوجيات الاشتراكية والبرجوازية في مرحلة الانتقال .

أما الماركسيون التروتسكيون ، فقد كان رأيهم يقوم على فرضية أنه مادام في العالم بلدان لم تتخلص من قيود الرأسمالية، فمن المستحيل بناء الاشتراكية أو الشيوعية في بلد واحد، أو عدة بلدان..

وقد كان لينين يرى في مجمل الآراء والاستنتاجات التي جاء بها الإصلاحيون واليساريون المتطرفون ، أفكاراً تناقض قوانين التاريخ الموضوعية ، وتنبئ عن عدم فهم جوهر مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية . وأنها تنطوي على رغبة في تعويق تطور البلدان الأخرى ، وعرقلة التطور الحتمي للتاريخ نفسه ، لأن دكتاتورية البروليتارية هي أداة رئيسية لحل جميع مهمات مرحلة الانتقا ، وبدونها من المستحيل بناء الاشتراكية.