الفيلسوف طوني نيغري: رسالة إلى صديق تونسي حول ثورة تونس


محمد الهلالي
2011 / 11 / 16 - 08:41     

1. من هو الفيلسوف طوني نيغري؟

يعتبر طوني نيغري فيلسوفا سياسيا شيوعيا وماركسيا إيطاليا يتميز بجدة نظرية وبحث عن تصور ماركسي لعصر العولمة. ولقد ازداد سنة 1933، وترجم نصوصا لهيجل، ويعتبر متخصصا في فلسفة ديكارت وكانط وسبينوزا وماركس. نحت مفهوما جديدا كبديل عن مفهوم الطبقة العاملة أو البروليتاريا وهو مفهوم أقترح ترجمته كما يلي: "حشود المستضعفين" (La Multitude )، ويقصد به جميع الأفراد الخاضعين لأشكال الرأسمال المُعولم الجديدة، فالإمبراطورية المعاصرة أدت إلى تشكل طبقة اجتماعية جديدة على أساس التمايزات التي لا تذوب فيما هو مشترك، وهذه الطبقة هي "حشود المستضعفين"، فالأمر يتعلق بكل أوجه ومكونات الإنتاج الاجتماعي المُعولم.
ويدافع طوني نيغري عن إجراء جديد في ظل العولمة وهو "الدخل المضمون" لكل فرد لا تربطه رابطة بالعمل، وذلك عبر إقامة أجر عالمي كحد أدنى" مضمون للجميع. وسيكون هذا "الأجر العالمي في حده الأدنى" قاعدة مادية للمواطنة على الصعيد العالمي.
من مؤلفات طوني نيغري: فكرة الشيوعية، سبينوزا ونحن،السلطة التأسيسية: دراسات في بدائل للعولمة، حشود المستضعفين: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية (بالاشتراك مع ميكائيل هاردت)...

2. رسالة طوني نيغري:

"عزيزي أ،
لم يكن من الممكن، قبل عشرين سنة من الآن، لما كنتَ لا تزال طالبا عندي في جامعة باريس 8، أن نتخيل أن الثورة التونسية سوف تتخذ هذا الطابع المميز لها، وسوف تثير مشاكل دستورية مماثلة لتلك المشاكل التي أثارتها انتفاضة اجتماعية وسياسية في أوروبا الوسطى. ففي ذلك العهد كنا نتدارس معا مسألة طرد الطبقة العاملة من مناجم الفوسفات بالجنوب التونسي، والتي كانت علامة على موجات كبيرة لهجرة داخلية وخارجية، وعلى السيرورة البطيئة للتحول الذي تحدثه في هذا البلد عمليات نقل صناعة النسيج الأوروبية إلى خارج أوروبا.
كان من الصعب عليك أن تبين لي الإمكانيات الإنتاجية لبلدك خارج صناعة النسيج وصناعة السياحة وخدمات الغاز والنفط (التي لم تحقق نوعا من الانتشار إلا في وقت جد متأخر). لقد تسارعت الأحداث بشكل رهيب. فقبل عشرين سنة، كنا بالكاد نتلعثم في الحديث عن موضوع العولمة، وها هي اليوم في درجة من القوة الفعلية مما حول تونس إلى إقليم أوروبي بل حولها إلى إقليم مُعَوْلَم. قبل عشرين سنة، كنا ندرك بالكاد تحول العمل من عمل صناعي إلى عمل غير مادي أي إلى عمل معرفي (ذهني أو فكري). وهاهي تونس اليوم تعرف غزارة في هذا النوع الأخير من قوة العمل. وإضافة إلى ذالك، نكتشف بعد عشرين سنة التحولات المرعبة التي فرضتها الليبرالية الجديدة، فرضتها على/وعبر تغيرات شكل السوق وطبيعة قوة العمل: نهاية نظام الأجر الكلاسيكي والتي أدت إلى ظهور بطالة جماهيرية قاتلة، وتعميم الهشاشة التي لا يمكن تحملها، حيث نجد 35 في المائة من الساكنة الشباب ينتمون لقوة العمل المعرفي، بينما لا يشتغل منهم إلا 10 في المائة. بالإضافة إلى ذلك، تعاقبت وتراكمت في تونس عمليات تخريب الثمار الأولى للرخاء، الفوارق الجهوية المتوحشة، النتائج الكارثية لعمليات الهجرة (سواء تلك التي تكللت بالنجاح أو التي تم إيقافها)، عرقلة الاستثمارات الخارجية إلخ... وأخيرا أكدت لنا العشرين سنة الأخيرة وجود ديكتاتورية مافْيَوية، ورشوة بلا حدود ونظام قمعي ومخادع وقاس (هو نظام مخادع لكونه كان يحصل على شرعيته ويرتكز على مخاوف الغرب من التهديد الإسلامي)، وهو قاس لأنه كان بدون قيد ولا شرط التعبير عن سيطرة طبقية، وعن استغلال وقمع منظمين من طرف متسلطين مرتشين ضد العمال والناس الشرفاء.
تسألني عما يمكن فعله الآن وقد عم الوعي بالاستغلال، وثارت الرغبة في الحرية وانتصرت. لقد خلق التمرد قوى جديدة: كيف يمكن استعمالها؟ كيف يمكن جعلها تواجه أعداءها القدامى وأعداءها الجدد الذين سيظهرون قريبا بدون شك؟
لقد قلتَ لي في رسالتك: "أيها الأستاذ العزيز، هل تتذكر حينما كنا نسخر من الأنواريين (نسبة لعصر الأنوار) الذين كانوا يتبارون حول أفضل دستور لكورسيكا وبولونيا...؟ فلماذا لا نناقش محتويات دستور جديد لتونس، دون أن يعني هذا عدم وجود شخص يستطيع القيام بذلك هنا(شخص تشبع بالتأملات التي تتم في عزلة حول المؤامرة وبثقافة سياسية عامة تتداول بين الناس بالرغم من كل شيء أكثر من تداولها في إيطاليا بالتأكيد وبقلق الانتفاضة وبفرح النصر)، ولكن لأن الحديث عن تونس وعن الحقوق الجديدة التي يجب إقامتها والضمانات التي يجب تحديدها، يعني أيضا الحديث عن أوروبا، فمن يدري؟ قد تتحرر منطقة من مناطقها بدورها من المستبدين المسيطرين فيها حاليا!".
عزيزي الرفيق أ،
لم يقنعني كلامك، فهذه السخرية التي ترى أنها لم تعد ضرورية تظل بالنسبة لي لباسا ثمينا، أنا مقتنع أنه من غير الممكن أن تحل محل ما يفعله ويقترحه الفاعلون الأساسيون. ومن الصائب القول مع ذلك أن مشكلتك صارت منذ الآن مشكلة عامة، أي أن دستورا جديدا من أجل الحرية ليس فقط مشكلا تونسيا، ولكنه مشكل جميع الناس الأحرار. أحاول أن أصوغ بعض التأملات حتى أفتح نقاشا ومنتدى يمكن أن يشارك فيه الجميع. وكبداية أحب أن أركز على بعض النقط التي تبدو لي أكثر أهمية من غيرها لوصف ما يمكن أن يكون اليوم ديمقراطية حقيقية، أي هذه الديمقراطية "المطلقة"، كما نسميها، كأمنية قبل عشرين سنة من الآن.
1. إلى جانب السلطات القديمة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) والتي يجب تطهيرها وإقامتها بصرامة تحت مراقبة دائمة ومدعمة بالسلطة التشريعية، يجب إضافة على الأقل "وكالتين" للحكومة الديمقراطية، الوكالة الأولى ستعمل في قطاع "الإعلام" والوكالة الثانية ستعمل في قطاع "الأبناك" وفي مجال "المالية".
لا يمكن تخيل نظام ديمقراطي لا يتمكن من أن يفرض على الخبر والتواصل وبناء الرأي العام احترام الحقيقة والحرية ونقد/مصفاة "حشود المستضعفين". يجب الحفاظ على الأهمية القصوى التي حظيت بها المبادرات على الإنترنت إبان التمرد كإمكانية دائمة للفعل. ويجب انتزاع هذه الممارسات من حالة الاستثناء وترجمتها في ممارسة المراقبة الديمقراطية الدائمة. لكن هذا الأمر ليس كافيا: فعلى وسائل الإعلام السابقة أن تخضع لمراقبة اجتماعية ستحرر عملها في مواجهة العراقيل والحواجز التي يمكن أن تفرضها عليها السلطة التنفيذية والمصالح السياسية. ولكن لا توجد إلا طريقة واحدة لتأكيد هذا الشكل الديمقراطي وهي: يجب تحرير الحق في التعبير من سلطة المال. إن تعدد الخبر لا يمكن أن يمثّل طريقا للزيادة في قيمته وأهميته ولكن يجب أن يتم ضمانه عبر السيادة الشعبية من أجل مضاعفة النقاشات والمواجهة بين الآراء والقرارات. لا يجب أن يُضمن الحق في التعبير للفرد فقط، ولكن يجب أن يوجه هذا الحق أيضا للممارسة الجماعية، وذلك بالتخلص من كل ادعاء رأسمالي باستغلال هذا الحق وكل محاولة لإخضاعه. يجب أن يؤكد الحق في التعبير كقوة تأسيسية منفتحة على إضفاء الشرعية على المشترك.
2. لقد تحولت "الأبناك" و"المالية" إبان تطور الرأسمالية إلى سلطة مستقلة تراقبها النخب الصناعية والسياسية. ولقد انتهت هذه المراقبة في الليبرالية الجديدة، وأصبحت المالية مستقلة استقلالا تاما، أصبحت مؤسسة شرعية تتدخل في كل مكان من هذا النظام المُعولم. ففي تونس، كما قلتَ أنت ذلك، يتعلق الأمر في عملية الانتقال إلى الديمقراطية بتقدم لأشكال المراقبة الرأسمالية للحياة المدنية. يقدم الرأسمال المالي نفسه، وبشكل مسبق، بكيفية أكثر عدوانية. أما فيما يتعلق بالتواصل –وفي الوقت التي توجد فيه الرقابة في طور الاندثار النهائي- فإنه يتم تأسيس أشكال جديدة للمراقبة.
يتعلق الأمر إذن بإعاقة هذه السيرورة وتحويل الأبناك إلى مرفق عمومي، بالشكل الذي يخضع فيه تخصيص رؤوس الأموال وإعداد سياسات الاستثمار لقرار مشترك. يجب أن توضع أدوات المالية في خدمة "حشود المستضعفين". ومن الواضح أن هذا الأمر يتطلب بناء سلطات ديمقراطية للبرمجة المالية، تعمل في علاقة بالنشاط التشريعي والتنفيذي، أي سلطات نقدية منتزعة من الاستقلال المزيف والمخادع للبنك المركزي الذي كان يجعل منها وسيلة للرأسمال المعولم. إنه طريق صعب ينبغي قطعه.
وسوف نجد في مواجهتنا ليس فقط رجال الأبناك المحليين ولكن أيضا مصالح الرأسمال العالمية. ولكنه طريق يجب قطعه بإصرار كبير وبحذر في نفس الوقت. لأننا نضع بذلك اللبنة الأولى لانتفاضة عالمية ضد الليبرالية الجديدة والرأسمالية المالية، وهل وجدت انتفاضة بلغت من الوعي ما بلغته هذه الانتفاضة؟
لقد نبهت "نيويورك تايمز" منذ اندلاع الأحداث إلى خطورة الوضع حين كتبت أن "ثورة صغيرة" مثلما وقع في تونس بإمكانها أن تلهب ليس فقط بلدان المغرب الكبير، ولكن يمكنها أن تلهب العالم العربي كله. يجب إذن أن نستحضر –حين نفكر في هذا الحدث- أن أحد المستبدين يمكنه أن يقدم تنازلات (للشعب ولكن يمكن أن يقدم تنازلات بالخصوص للأبناك وللمقاولات العابرة للقارات) بسهولة أكثر مقارنة بقائد ديمقراطي ضعيف مثل ذلك الذي سيتوصل التونسيون إلى انتخابه في الأخير، وهذا هو التوقع الأمريكي. أما فرضيتنا كنتيجة لذلك، فهي التالية: ليس ممكنا اليوم تخيل ثورة ديمقراطية لا تحقق قبل كل شيء تأميما للأبناك واسترداد الريع وما يتبع ذلك من إقامة تدريجية لأوجه المشترك والعام. من خلال هذا الأمر يمكن أن تتشكل قوة "حشود المستضعفين". إن الهدف المخصص لهذه الوكالة المالية المسيرة ديمقراطيا هو ضمان رخاء وسعادة التونسيين ضد الهشاشة بإقرار دخل مضمون وبضمان إمكانية تعليم كامل ورعاية طبية تتلاءم مع حاجيات كل مواطن.
لا توجد اليوم حرية لا ترتكز على المشترك والعام، ليس صدفة إذا كانت الديكتاتورية قد خوصصت كل ما يمكن أن يكون في تونس مشتركا بين الناس، ويجب إذن استرداده.
عزيزي أ،
يرتكز مستقبل جيلكم وأطفالكم على المشترك وعلى التدبير الجماعي، بكل تأكيد فحالة الإفلاس التي ورثتموها لن تمحي بجرة قلم، فبمجرد ما ينقشع ضباب التمرد ستكون هناك أولويات يجب التركيز عليها والتقرير بشأنها. ولكن تدابير حكومة تأسيسية مهمة بالنسبة للمشترك. لا تتركوا المشترك للإسلاميين (بما أن هذا هو همك يا رفيق). فتحت غطاء دعاية خاطئة للمشترك يبسطون منذ الآن نشاطهم.
3. النقطة الثالثة تتعلق بشكل الحكومة. وكما قلتَ أنت نفسك، كانت الثورة التونسية ثورة اجتماعية، فلقد ولدت من رحم المجتمع الذي يعمل بأسره. لقد فهم بن علي جيدا أنه كان لا يجب على وجه الخصوص السماح للثورة الاجتماعية بالتعبير عن نفسها سياسيا، وكل سياسي كان يعرف أن بطالة الشباب كانت قنبلة موقوتة قابلة للانفجار. لماذا؟ فالشباب الذين يعتبرون قوة العمل المعرفية هم اليوم الطبقة العاملة الحقيقية للعهد ما بعد الصناعي. وبما أنها قوة عمل معرفية فإن هؤلاء الشباب ليسوا عاجزين، بل على العكس من ذلك، يملكون الوسائل التي تمكنهم من تجاوز الإحباط الذي وقف عائقا أمام الطبقات الأكثر فقرا والأكثر سنا من السكان. إن ثقافة العجز قد تم التغلب عليها بصلابة في شوارع تونس العاصمة.
ولكن على هؤلاء الشباب أن يحافظوا على انفتاح السيرورة الثورية، وذلك بتحويل التمرد إلى حكومة تأسيسية. لا يمكن أن نترك بيم أيدي النخب السابقة (سواء كانت اشتراكية أو ديمقراطية أو إسلامية) بتغيير دستور البلاد، ومن جهة أخرى ليس التونسيون في حاجة كبيرة اليوم لدستور جديد بقدر ما هم بحاجة لعملية تأسيسية موسعة لتشمل البلد بأسره ولتشمل أيضا القوات المسلحة والقضاء والجامعات. يجب ممارسة السلطة التشريعية والحكامة الضرورية لكي يسير الشبابُ والمجموعات الثورية البلادَ مباشرة، ويجب أن تنظم هذه لمجموعات والشباب في جميع الأمكنة التي يمكن القيام فيها بذلك وبشكل مستعجل. ولكن لا يمكن القيام بذلك إلا بتجنب –وعلى مدى أطول مدة ممكنة- تثبيت أشكال التمثيل السياسي القارة. (في المشاريع الخاصة بالدستور الديمقراطي لعصر الأنوار، الذي أثرناه سابقا، لا تقل المدة الزمنية عن عشر سنوات). فمرونة السلطة المعولمة وأبناكها ومؤسساتها المركزية هي مرونة كبيرة: فهؤلاء السادة لن يجدوا أية صعوبة لإيجاد (وإرشاء) اشتراكي أو إسلامي لجعل الأمور تميل لصالحهم. لقد تبين نضج ومهارة التمرد، ويجب أن يكون التمرد ماهرا وحذقا تجاه السلطة المعولمة وامتداداتها الممثلة لها في حوض البحر الأبيض المتوسط، والتي هي في طور مركزة جهودها لتوجيهها ضد الخطر الأقصى للتمرد التونسي وامتداده في بلدان المغرب الكبير. لنتذكر هذا الأمر لتالي (أليس هذا هو ما شغلك بالضبط يا أيها الرفيق؟). إذا لم نشكل لجان عمل تأسيسية، فإن الإسلاميين، سواء كانوا متطرفين أو معتدلين، هم الذين سيدخلون السياسية إلى المساجد. لذلك بقدر ما تكون هناك سياسة ديمقراطية وتأسيسية بقدرة ما تكون هناك من علمانية.
ملاحظة إضافية: أعيد قراءة هذه الرسالة قبل إرسالها لك، اليوم هو 28 فبراير، مصر تحترق.
المرجع: موقع "Multitude"، ترجمه عن الإيطالية ألن هوبي.