حركة -احتلّوا-... منعطف أميركي

نعوم تشومسكي
2011 / 11 / 15 - 09:16     

إن إلقاء محاضرة في ذكرى "هاورد زِنّ" هو تجربة ممزوجة بالحزن والفرح في آن معاً، فأشعر بالأسى لرحيله وعدم مشاركته وبثّ الحماسة في حركة كانت ستشكل حلم حياته، بعدما مهَّد الطريق لها في الواقع. وإن تمكَّنَت الروابط والجمعيات التي تقام وتنشأ خلال هذه الأحداث اللافتة من الصمود خلال فترة طويلة وعسيرة، إذ أن النصر لا يتم تحقيقه سريعاً على الدوام، قد تشكل الاحتجاجات التي انطلقت تحت تسمية "احتلّوا" لحظة بالغة الأهمية في التاريخ الأميركي.

فلم أشهد شيئاً شبيهاً بحركة "احتلّوا" أكان من حيث النطاق أو الطابع، سواء في الولايات المتحدة أو حول العالم. وتسعى البؤر الميدانية للحركة إلى إقامة تجمّعات تعاونية قد تكون أساساً لأنواع المنظمات الدائمة الضرورية لتذليل العقبات التي تعترضها ومواجهة ردود الفعل العنيفة حيالها.


أما سبب تحوُّل احتجاجات "احتلّوا" إلى حركة لم يسبق لها مثيل، فيعزى على ما يبدو إلى أننا نعيش في حقبة لم يسبق لها مثيل أيضاً، ليس في الوقت الحاضر فحسب، إنما منذ تسعينيات القرن العشرين، التي شكلت نقطة تحوُّل بالنسبة للولايات المتحدة. فمنذ تأسيس أميركا، كانت مجتمعاً في طور النمو، ليس دائماً بأساليب جميلة جداً، ولكن من خلال تقدُّم عام في اتجاه مجالات التصنيع والثروات.

وحتى في أحلك الظروف، كانت التوقعات تشير إلى استمرار التقدُّم، وعمري يسمح لي بأن أتذكَّر فترة "الكساد الكبير". ففي منتصف الثلاثينيات، وعلى الرغم من أن الأحوال كانت أسوأ بكثير مما هي عليه الآن، كانت روح المواطن الأميركي مختلفة تماماً. لقد كانت حركة عمالية ناشطة تنظِّم نفسها – "اتحاد المنظمات الصناعية" وغيره – فيما كان العمال يخوضون إضرابات ميدانية متواصلة تكاد تسبق استيلاءهم على المصانع وإدارتها بأنفسهم. وتحت وطأة الضغوط الشعبية، تم إقرار قوانين "الاتفاق الجديد"، وكان الشعور السائد آنذاك أنه باستطاعتنا الخروج من الفترات العصيبة. أما الآن، فتسيطر مشاعر انعدام الأمل، واليأس أحياناً. إنها أمور مستجِدّة في تاريخنا، فخلال ثلاثينيات القرن الماضي، كان بإمكان الطبقة العاملة أن تتوقع عودة فرص العمل مجدداً. ولكن اليوم، إنْ كنتم تعملون في ميدان التصنيع، ومع وصول البطالة إلى مستويات "الكساد" عملياً، تعلمون أن هذه الوظائف قد تختفي إلى الأبد في حال استمرت السياسات المعتمدة حالياً.

لقد بدأ هذا التبدُّل في الآفاق الأميركية يتطوَّر منذ فترة السبعينيات. وفي تغيير واضح للاتجاه السابق، بدأت قرون عدة من سياسة التصنيع بالسير في منحى معاكس. ولا شك في أن أنشطة التصنيع استمرت، لكن خارج حدود البلاد، ملحقةً الضرر بالأيدي العاملة في الولايات المتحدة على الرغم من مردودها الجيد.

لقد اتجه الاقتصاد نحو هيمنة البُعد المالي، فاتّسع نطاق المؤسسات المالية اتساعاً هائلاً، وتسارعت حلقة مفرغة بين المال والسياسة، كما ازداد تركيز الثروات في القطاع المالي. وبات السياسيون الذين اصطدموا بارتفاع تكاليف حملاتهم الانتخابية، يلجأون أكثر من أي وقت مضى إلى جيوب الداعمين لهم الأثرياء. وكافأهم السياسيون الفائزون لاحقاً بسنّ قوانين مواتية لسوق "وول ستريت" وشركاته: تحرُّر من القوانين والأنظمة، وتعديلات ضريبية، والتخفيف من إجراءات حوكمة الشركات، أدت جميعها إلى تفاقم الحلقة المفرغة، فكان الانهيار محتماً لا مفرّ منه. وفي عام 2008، هرعت الحكومة مجدداً لإنقاذ شركات "وول ستريت"، التي كان يُفترض أنها أكبر من أن تُفلِس وعلى رأسها قادة أكبر من أن يُسجَنوا. واليوم، بالنسبة إلى عُشْر السكان الذين استفادوا طوال عقود من الجشع والخداع، أصبح كل شيء على ما يرام.

وفي عام 2005، رأى بنك "سيتي جروب"- الذي بالمناسبة استفاد مراراً من عمليات الإنقاذ المالية الحكومية- في أصحاب الثروات فرصة سانحة للنمو. فأصدر البنك نشرة معلومات للمستثمرين حضّتهم على إيداع أموالهم في ما يُسمى بمؤشر "البلوتونومي"، أي مؤشر اقتصاد الأقليات الثرية، الذي حدَّد أسهماً في شركات توفِّر خدماتها لسوق السلع الفاخرة.

وأوجز "سيتي جروب" فكرته بأن (العالم يُقسم إلى كتلتيْن، "البلوتونومي" والأكثرية المتبقية. الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا هي البلوتونوميات الرئيسية، أي الاقتصاديات التي يقودها الأثرياء).

أما بالنسبة إلى غير الأغنياء، فتُطلق عليهم أحياناً تسمية "البريكاريات"، أي البروليتاريا المتقلقلة، وهم أشخاص يعيشون حياة متزعزعة على هامش المجتمع. إلا أن هذا "الهامش" تحوَّل إلى أكثرية ساحقة من الشعب في الولايات المتحدة وخارجها. إذاً، هناك "البلوتونومي" و"البريكاريات"، 1 في المئة و99 في المئة من الشعب، من وجهة نظر حركة "احتلّوا"، بأرقام قد لا تكون فعلية، إنما تعكس المشهد الحقيقي والواقعي.

إن تغيير الاتجاه التاريخي الحاصل في ثقة الشعب حيال المستقبل هو انعكاس منحى قد لا يكون من رجعة فيه إلى الوراء، وقد تكون الاحتجاجات التي انطلقت بعنوان "احتلّوا" عاكسة لردود فعل شعبية هي الأهم والأولى التي قد تبدِّل الديناميكيات.

لقد تكلمت حتى الآن عن قضايا محلية، ولكنّ تطوريْن خطيريْن على الصعيد الدولي يحجبان أي شيء آخر، إذ إنه للمرة الأولى في تاريخ البشرية، ثمة مخاطر حقيقية تهدِّد استمرارية الجنس البشري.

فمنذ عام 1945، امتلكنا الأسلحة النووية، وعدم زوالنا لغاية الآن رغم وجودها هو بمثابة معجزة. إلا أن سياسات إدارة أوباما وحلفائها تشجِّع على التصعيد.

أما التهديد الآخر، فهو حتماً الكارثة البيئية. عملياً، تتخذ كل دولة في العالم أقلّه خطوات متعثرة في اتجاهها، فيما تتخذ الولايات المتحدة خطوات إلى الوراء. فيعلن نظام "بروباجندا" ترويجية يقرّ به مجتمع الأعمال بصراحة أن التبدُّل المناخي ليس سوى خدعة ليبرالية: لمَ نولي أهمية لهؤلاء العلماء؟ إنْ استمر هذا التصلُّب والعناد في أثرى دول العالم وأقواها، ستكون الكارثة وشيكة يتعذر تجنبها.

لا بدّ من البحث عن حلول بطريقة منضبطة ومستدامة وسريعاً. ولن يكون السير قدماً في التغيير مسألة يسيرة، بل سنواجه المشقَّات والإخفاقات لا محالة. ولكن ما لم تُواصل الحركات التي نشهدها في الولايات المتحدة، وفي أرجاء أخرى من العالم نموها لتصبح قوة أساسية في المجتمع والسياسة، لن تكون الفرص متاحة لمستقبل لائق.

لا يسعنا تحقيق مبادرات مهمة من دون قاعدة شعبية واسعة وناشطة. ومن الضروري امتداد حركة "احتلّوا" في البلاد لمساعدة الناس على فهم مغزاها، وما يستطيعون تحقيقه بأنفسهم وما ستكون عواقب عدم قيامهم بشيء.

أما تنظيم قاعدة مماثلة فيحتاج إلى عِلم وحركة ناشطة، والعِلم لا يعني تلقين الناس معتقدات جديدة، إنما التعلُّم منهم ومعهم.

قال "كارل ماركس" إن "المهمة لا تكمن في فهم العالم فحسب، إنما في تغييره أيضاً". وإن عدَّلنا بعض الشيء هذه المقولة، عليكم أن تتذكَّروا دوماً أنه في حال أردتم تغيير العالم، اسعوا أولاً إلى فهمه. ولا يعني ذلك الاستماع إلى خطاب أو قراءة كتاب، على الرغم من أنهما يفيدان أحياناً، بل تتعلمون من المشاركة، وتتعلمون من الآخرين. تتعلمون من الأشخاص الذين تحاولون تنظيمهم. وعلينا أن نكتسب جميعاً هذا الفهم والخبرة الضروريين لصياغة الأفكار وتطبيقها.

أما الوجه الأهم واللافت في حركة "احتلّوا" فهو إقامة الروابط والصلات التي نشهدها في كل مكان، والتي في حال صمودها وتوسيع نطاقها، قد تؤدي من خلالها الحركة إلى جهود فعالة مبذولة في سبيل إرساء مجتمع على مسار يتمتع بحسّ إنساني أكبر.