إشكالية تعريف الأمة


حميد كشكولي
2011 / 11 / 13 - 19:53     

تحديد تعريف أو مفهوم معين للأمّة أو القومية أمر شائك في ظل سيادة المفاهيم البرجوازية وثقافة الغالب والمغلوب، و ضعف حضور القوى الاشتراكية الماركسية في ميادين الكفاح الطبقي، وعدم تمكنها في نشر ثقافتها.
التفكير في إيجاد تعريف للأمة نقلني إلى أيام زمان كنا نناقش نقاشات بيزنطية القضايا القومية التي ألهتنا عن قضية الطبقة العاملة والكادحين . وقد تذكرت حكاية أصبحت فيما بعد معروفة عند كثيرين وهي أن الرئيس العراقي الحالي في أربعينيات القرن الماضي فاجأ مسؤوله الحزبي بتقديم استقالته من الحزب الشيوعي العراقي وإعادة الأدبيات الحزبية إلى المسئول محتجا على عدم اعتبار الحزب للكرد أمّة. ومن الجدير بالذكر أن جلال طالباني تم قبوله مرشحا لنيل عضوية الحزب وكانت صلته مع القيادي الراحل أبو آسوس " فاتح رسول" .
كانت ثمة أجوبة جاهزة لأسئلة كثيرة في مقدمتها ، هل الكرد يشكلون أمّة؟ هل العرب أّمة؟
لقد كان لمصطلح الأمة عند العامة الكرد وقع مهم ، إذ لو قلت عن جماعة ما إنهم ليسوا بأمّة كان يعني أنهم ليسوا من خلق الله وأدنى من البشر.

إن دأب القوميين المؤدلجين بمختلف مللهم ونحلهم على اعتبار الأمة أو القومية أو الشعب ، ظاهرة موضوعية توجد رغم إرادة البشر ، وكذلك اعتبارها اليسار القومي بنية تحتية ، و فوق تاريخية، و فوق طبقية كان مستمرا على الدوام.


وكان دأب القوميين دوما يسارا ويمينا العمل على ترسيخ هذا المفهوم في أذهان قطاع واسع من الناس ، وقد نجحوا في مسعاهم هذا إلى حد كبير. فالأمة من أكثر المفاهيم إبهاما و إشكالية ومطاطية إلى درجة أنه بعد دراسات واسعة لم يمكن الوصول إلى نتيجة مقبولة واقعية متفقة عليها.
إن الأمة ( أو القومية) كما أأعلاه جزء عضوي من الحركة القومية، فمثلهما مثل العجين والطحين ، لا يمكن تصور وجود سياسي لأمة ما أو لطائفة معينة بدون حركة قومية سياسية و فكر قومي و إيديولوجية قومية. فاليهود في إسرائيل أصبحوا أّمة إثر الحركة القومية الصهيونية، رغم أصولهم المختلفة السابقة على قيام إسرائيل.
لقد أبدى أحد الكتاب السياسيين كعادته انزعاجه من تجاهل أقليات عراقية من حق " تقرير المصير" و كونها أمم مثل الأكراد.
أقول لهذا السياسي كما كتبت أعلاه إن الأإضافية،قومية تتشكل إثر حركة قومية بغض النظر عن طبيعة القوى والأحزاب السياسية التي تدعي تمثيل هذه الأمة. فهذه الأقليات لها الحق الطبيعي بممارسة شعائرها و التمتع بحقوقها الثقافية ، لكن الأهم لها و لجميع المواطنين التمتع بحق المواطنة المتساوية للجميع.

ليست مهمة الشيوعيين ابتكار قضايا قومية إضافية ، ولكنهم يرون من واجبهم اتخاذ موقف من كل مشكلة تهم المجتمع ، وذلك بإيجاد حلول لها بما يخدم مصالح العمال والكادحين الذين يشكلون أكثرية المجتمع.
إن من ينظر إلى مجتمع اليوم يصبح وجها لوجه أمام البشر و المواطنين كواقع موضوعي و يرى بوضوح وخارج إرادته التقسيمات والفوارق الطبقية، وتوزيع الثروة و الملكية ونمط الإنتاج و الحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين.
وكذلك يمكنه تلمس الحدود السياسية والإدارية بين البلدان و التمييز و العلاقات الاجتماعية والصراع على المصالح و النفوذ. لكنه لا يرى أو يلمس الأمة المرء أن كظاهرة موضوعية خارج إرادة جماعات يعملون على إيجادها و لا يتوقفون عن ادعاء تمثيل ناس محسوبين عليها. بلكن لا تأمل وتفكير يدرك المرء أن ثمة جماعات من الناس لأسباب ودواعي غير واضحة مبهمة وبدون أدلة ينتسبون إلى أمة أو قوم معين.
لكن لا ريب في أن ثمة جماعات معينة تنسب نفسها إلى أمم، أو قوميات وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها ، و أمر واقع لا بد للقوى السياسية والاجتماعية و على رأسها الماركسيون والاشتراكيون التعامل معها .
انتشرت هذه الظاهرة وخاصة في القرن العشرين في أنحاء العالم، غالبا بسبب العاطفة و الشعور القومي وإيجاد دلائل موضوعية، والاحتماء من الأخطار و الغبن.

يمكن أن نطلق على القومية أو الأمة بأنها أتباع الإيديولوجية القومية المصدقين و القابلين بها أي إنهم أناس رضوا أن يكونوا جزء أو أعضاء لأمة معينة، بوعي أو بدون وعي.

إن من يؤمن بدين معين يعتبر بدون تردد واحدا من أتباعه، لكن الأمر ليس بهذه السهولة مع من يؤمن بإيديولوجية قومية غريبة عنه. مثلا إن غير ألماني يؤمن بفكرة الأمة الألمانية لا يحسب ألمانيا وعضوا في هذه الأمة .
فحسب الفكر القومي ينتمي الفرد إلى قومية ما بالولادة و يبقى عضوا فيها حتى بعد فوته طالما يعرفه و يتذكره ناس أحياء مع فارق أن القومية لا تزال إيديولوجية و أحيانا ديانة إلى جانب الدين الرسمي ، لها طقوسها العبادية والإيمانية.
وإن الإنسان يتجرد في الفكر القومي عن إنسانيته و العلاقات الموضوعية الاجتماعية الطبقية التي يعيش ضمنها، وينتقل إلى أجواء خيالية ومثالية ( أجواء قومية) ، إذ أن القومية لا ترى الفرد التابع إليها إنسانا كباقي البشر بل ابنا لها كما ترى الآخرين خارجها غرباء بل أقل قيمة من أعضائها الدائمين.
وبذلك نحن نواجه رؤية معكوسة للعالم أو بعبارة أدق نصبح أمام الإيديولوجية القومية.
ولذلك يمكن أن نعرف الأمة أو الشعب أو القومية بأنها أناس يعتبرون أنفسهم جزء من جماعة أو ملّة معينة، وإن أي فرد منهم لا يعتبر غيرهم خارج قوميتهم أو أمتهم أخوة لهم بل غرباء عنهم و يتعاملون معهم بتوجس أو حتى باستعلاء و عنصرية.


لم يدرس ماركس وانجلز القضايا القومية ، لكن مفكرين ماركسيين انبروا لها و أدلوا بدلوهم لمعالجتها. لينين بحث في حقوق الأقليات والأقوام المتعايشة ضمن الاتحاد السوفييتي ، و كان برنامجه أن تتطور هذه الأقليات و الشعوب باستقلال وتتكامل مع الأمة الروسية في مساواة تامة.

أصبح كتاب ستالين " الماركسية والمسألة القومية" المرجع المقدس لكل التيارات القومية يمينها ويسارها ومرشدهم في معالجة المسائل القومية التي تعاني منها بلدانهم.
فوفقا لستالين إن من مقومات أية أمة هي اللغة المشتركة ، و الأرض المشتركة، و الثقافة والتاريخ المشتركين . انه تعريف يتعذر تطبيقه على أغلب الأمم و الشعوب. ففي العصر الحديث نرى أمما لمشتركة،غة مشتركة ، وهناك أمم تتواجد على أراضي متفرقة.
وماذا عن أمة ليست لها أرض مشتركة ، ولا دولة موحدة و لا يعيشون في ظل نظام اقتصادي واحد ، سواء برغبتهم أو رغما عنهم؟ لكنهم يعتبرون أنفسهم أمة، مثل الكرد الذين لا يمكن أن نقول إن لهم لغة مشتركة واحدة ، واقتصاد مشترك، و تاريخ واحد.

فالمؤمنون بنظرية ستالين لا يعتبرون أية جماعة لا تتوفر فيهم هذه المقومات بمجملها أمة ، ما يوفر لهم نوعا من المبررات لبقاء الأقليات القومية تحت سيادة الأمم السائدة. وفي الحقيقة إن التعريف الستاليني للأمة جاء لصالح الأمم السائدة والحاكمة و لأجل استمرارها في التسويف و المماطلة في حل قضايا أقلياتها ( وهنا لا أعني بالأقلية عديدها بل الشعوب التي تشعر بالغبن القومي و الاضطهاد القومي والدونية ).
فالطرح الستاليني هو طرح قومي استعلائي روسي استعاره اليسار القومي و الشيوعيون التقليديون جملة وتفصيلا و لم يتبلور عندهم لحد اليوم بديل لحل القضية القومية سوى هذا المرجع .
إن ستالين و كل اليسار السوفييتي سعوا حثيثا إلى ربط اللغة المشتركة و الأرض المشتركة والاقتصاد المشترك والتاريخ المشترك معا معتقدين أن هذا الربط سوف يحل التناقضات الموجودة في تعريف الأمة ، وحسب رأيهم لا يكفي الشرط الواحد مثل اللغة أو الأرض أو الاقتصاد المشترك لا يكفي لوجود أمة ، إذ يجب أن تجتمع كل هذه المقومات لكي "يتشرف" جماعة ما بصفة الأمة، وإلا سوف يظلون نتوءات و زوائد متصلة بالأمة السائدة. وهذه هي نفس السياسة المتبعة من قبل الحكومات القومية و القوميين أتباع الأمة المحكومة باسمها لإضفاء الشرعية على الاستعلاء و الاضطهاد والتمييز القومي الممارس بحق الأقليات.

يتم تسويق هذا التعريف دوما و يتم إعادة إنتاجه طالما تتحكم الطبقات البرجوازية بالتاريخ وقضايا المجتمع ، و طالما الاشتراكيون مغيبون ، إذ أن للإيديولوجية القومية قدرة بحيث تضطر الناس التخلي عن احتياجاتهم الإنسانية و المادية و الفكرية لأجل ( القضية القومية المقدسة) والتي ليست هي إلا قضية الطبقة الرأسمالية. الطبقة الرأسمالية والشرائح البرجوازية كلها لن تكون جادة في حل القضايا القومية التي تجرع الجماهير المستغلة والمحرومة كأفيون إلى جانب الأديان و التقاليد الاجتماعية البالية، إذ تفقد الحدود الطبقية بريقها في الإيديولوجية القومية، وتختفي. فيتحول العدو الطبقي إلى صديق ، و الصديق يتحول إلى عدو بل أحيانا إلى قادة وأبطال قوميين.
هكذا ابتدع القوميون و خاصة اليسار القومي سلاحا أو درعا للحفاظ على وحدة الوطن والأمة و الاستبداد الحاكم وهو:
" امة واحدة ... دولة واحدة... علم واحد..." عبارة مقدسة مثلها مثل الشهادة والقداس.

بصورة عامة، هذه النظريات التي سعت إلى تشكيل أطر مادية لمقولة الأمة كانت كلها متأثرة بالإيديولوجية القومية وكانت دوما ولا تزال في خدمة النزعات القومية المختلفة.