الماركس والعولمة


عذري مازغ
2011 / 11 / 11 - 22:56     

يكون النقد نقدا علميا،إجابيا أو سلبيا لموضوعة ما حين يتناول الناقد موضوعته هذه بالإلمام الكامل، وحين ينعدم هذا الإلمام بها فخير للنقد ان لا يكون، وإلا فهو نقد باطل، لكن حين يكون الأمر تسلية امريكية في مجال الفكر فعلى الناقد حينها أن يعلنها تسلية دون مراوغة كأن يضفي عليها طابعا رنانا من مثل "تاريخ الفلسفة السياسية"، حيث يبدو التاريخ هذا رصدا من فوق بريئا من موقع الرؤيا التي منها يرى(موقع من خارج المواقع)، يتوخى الموضوعية فيما هو غارق حتى الثمالة في وحل الإيديولوجيا، ينسى هذا الفكر أن التاريخ بهالته الصافية هذه كما تبدوا للعيان من الوهلة الأولى، من خلال العنوان، هو تاريخ ينتج ويكتب من موقع ما، وليس تاريخا بريئا من رؤية الرصد التي هي بالضرورة تحتل موقعا هاما في الحقل الإيديولوجي، لكن للتسلية الأمريكية المفعمة بضخ القوة أكثر مما يلزم، تبدو مرحة بكل هالتها البهلوانية، فكر وديع يلامس الحقائق بقوة الأثر، او بقوة الفرجة الرائعة، تاريخ مفعم بكل الإشفاق الذي اختزنته الإنسانية، يحتقر الماضي بلمسة الإشفاق وينتصر له من حيث يبني انتصارا لحاضره، حاضر مليء بكل الفجائية العجائبية، حاضر محتفل بالتقدم العلمي، بالثورة الهائلة، الأخاذة بكل انبهار: "الرأسمالية تجدد نفسها"، طائر ينبعث من رماده، لكنه أيضا تاريخ يعيد إنتاج تجاربه الماضوية بشكل تفاوتي، لأول مرة تتحقق الأسطورة وليس لغزا منا هذا القول، بل إن الرأسمالية بالفعل تنبعث من نفاياتها وهذا تؤكده كل الدراسات المنبهرة لهول التقنية العلمية: " لقد أصبح العلم حاليا قوة منتجة" وقبلا كان ماذا؟كان ترفا في المعرفة في أحسن تقدير عند هؤلائي البهلوانيين، لقد استغربت لكثير من الدراسات الإقتصادية، وهي حقا كتابات إنشائية أكثر منها دراسات، كتابات تؤرخ لحركة الواقع من موقع الوصف الإنشائي اكثر منها دراسات تقارب حركة التاريخ، دراسات تروم إلى الحفاظ على المولود الجديد، تحلبه وتدفؤه ليبقى مولودا ورعا لا يشيخ، للرأسمالية سلبيات كسلبيات الوليد، يتغوط بدون إنذار، يمرح ويحبو بشكل قد يتسبب في متاعب صحية، لكن وهذا كنه الدراسات الرأسمالية، هو وليد لا يشيخ، يتجدد دائما وينموا في شكل استعادة لشكله المرح، لقد أزاحت التقنية الهائلة للبرمجة والمعلوميات كل تجاعيد الشيخوخة: صناعة مكثفة، تكلفة أقل، طاقة أقل أيضا، وتمدد أوسع، تدول خارق وتمركز للربح، لا مجال هنا للتناقض، تتحمل البلدان التابعة كل تخلفها، بدرجة أقل بعض الماركسيين العرب أيضا لهم هذه الخاصية التحليلية: "انتهى التاريخ وفقط بقي أن تتوضح الأمور" وفي أحسن الحالات تضللا: “ارتفع التاريخ إلى لا تاريخ"، " خرج التاريخ عن سكته بتعبير فؤاد النمري لأنه لم يفي بحتمية الثورة بقيادة البروليتاريا" اليراقة الزرقاء التي تملك وعيا مدجنا، لقد كانت الطبقة العاملة عند لينين حالة ثورية، قفزة نوعية، ولسوء الحظ لم تكن هذه الطبقة واعية بمهامها الكونية، كانت فقط تعمل لتعيش، هذه حقيقة غاية في البساطة ولا تكلف منا وعيا شاطرا، هي طبقة سجينة وعيها اليومي وليس لها ذلك البعد السياسي الذي للمثقف الإنتهازي من أشكال ستالين ورزمته، إن وعي العامل لا يتجاوز وعيه بحرفته وهو وعي مدجن كما أشرت، إنه وعي بأسطورته الحرفية فقط، وبعبارة بغيضة، ليس وعيا تاريخيا بل هو وعي مهني، وهذا ما ترك للطبقة الرأسمالية حيزا من التفكير السياسي في تجديد آليات صيرورتها التاريخية التي بدت مع وعي الإنبهار صيرورة تجدد: يجب ان تزيح ما يشكل تهديدا لبقائها، هذا اولا، يجب أن تربح اكثر وبأقل تكلفة وهذا ما يدفعها نحو التطور بغريزة البقاء وهذه أيضا غريزتها الوجودية، لكنها حقا تتطور وفقا لغريزة التاريخ رغم ذلك وهو تطور يحمل في طياته أسباب الشيخوخة والإضمحلال، بمعنى، وبلغة ماركسية، تحمل في طياتها أسباب انهيارها وهذا هو لب القانون التناقضي الماركسي نفي النفي الذي لم يستطع كتاب الإنشاء التاريخي المنبهرين للتقنية العلمية ملامسته، وهذا بالتحديد هو موضوع مقالتي.
من منا نحن البشر الرائعون، سادة الكون العجيب، من منا لا يجدد نفسه؟ الأطفال وحدهم هم من لايجددون انفسهم لأنهم مرحون بالطفولة الجميلة، ولكن وعلى الرغم من هذا التشبث الطفولي يعيشون طفولتهم بكل الشغب المريح، ويعرفون بالحدس التلقائي أنهم يكبرون، وهذا لعمري هو التجديد التلقائي، كل ثورة اجتماعية تبدأ مرحة وشغوفة بطفولتها المرحة، كل ثورة في طفولتها تبرر أخطاءها القاتلة وهذا حقها الطبيعي في الكينونة، لكن الذي ليس مقبولا على الإطلاق، هو ان يشيخ المرأ ويوشح تجاعيد الشيخوخة بقناع الطفولة، أن يكون طفلا رغم أنه هرم ينتظر موته، هذا بالتحديد ما لامسته في الكتابات الجديدة حول الرأسمالية، وحقيقة الأمر أني اندهشت اكثر حين تستثمر هذه الطاقات الخلاقة في استغلال كل الموارد الطبيعية لإنعاش هذا الشيخ المبجل، تثبت علوم الفيزياء الكوانتية وعلوم الكيمياء بالشكل الملموس حتى الآن ان كل الكيان الوجودي هو في آخر المطاف قوة طاقة مفعمة في كنه الأشياء، في المادة بشكل عام، فالسكون والحركة هي حالات نسبية فقط تخضع لعملية التحول من الكيف إلى الكم إلى الكيف وهلم جرا وليست حقائق مطلقة، وأن أشكال تموضعاتها هي ذاتها أشكال تحول الطاقة من وضع الكيف إلى وضع الكم، لقد سمحت هذه العملية من خلق معادن ليس لها وجود أصلا، لقد أثبتت العلوم الفيزيائية والكيميائية أن المادة ليست سوى هذا الوضع الساكن لتكمم الطاقة، فذرة من الذهب أو من الفضة، ليست سوى معادلة قارة لعناصر الجزيئات من الإلكترونات والبروتونات وما إلى ذلك في وضع خاص هو ذرة الذهب أو ذرة الفضة وأن الإضافة أو النقص من عدد هذه الجزيئات هو تحول كامل من وضع معلوم إلى آخر، هذه العملية تثبت ببساطة غنى الطبيعة بشكل يثبت قيم كل عناصرها الموضوعية وهذا ما ذهبت تستثمره الرأسمالية حين ينبعث طائر الفينيق من رماده، لكن هي تستثمره لصالح طبقة الرأسماليين فقط.
وقد يبدوا الأمر مبررا لدرجة قصوى في وضع المبجحين ب"رأسمالية تجدد نفسها" فهم يتكلمون عن المزايا في تشجيع البحث ودور الدولة في الأمر وطبعا يتكلمون عن الدولة الرأسمالية كما لو كانت جسما مستقلا بذاته، وهذا وضع مبهم للغاية يبشر بالأهمية القصوى للرأسمال في ابتداع اشكال التنمية وينسى دافع ضرائب هذه الأبحاث التي هي من جيوب العموم، تبدو الدولة في هذه الكتابات إلها قائما بذاته وليست أداة استغلال.
يكون العلم قوة عمل منتجة بفضل هذه البحوث، بفضل "الأتوماتيةالرائعة"( يحيل هذا المفهوم إلى وضع ملائكي) حيث الأشياء تنبعث من ذاتها من حيث هي تزيح العمل العضلي كما هي أيضا تزيح العمل الذهني (وهذا موضوع شائك وقابل للنقاش، لقد أوحت بعض الباكتيريا من الإستفادة من الطاقة الشمسية، لكن، بطريقة فهم آلية استفادتها من تلك الطاقة صنع الإنسان ألواحا شمسية بدون باكتيريا)، بخرافة منطقية يعاد الإعتبار للعقل البشري سيد الكون، لكنه في الحقيقة النظامية، في ضوء العقل الرأسمالي هو عقل خاص، مملوك، لكن في العقل المبجح المنبهر لهذه التقنيات، لا يبدوا الأمر كارثيا، بل يبدو حقا هيجليا (الحق المحض)، به الرأسمالية سارية نحو المجد الابدي، مالعمل حين يبقى الناس بدون عمل؟ تبدو الحرب هي الحل؟ لذلك تم التبجح أيضا بالحرب في الفلسفة السياسية، هي بقدر حاجتها للقتل هي مبدعة أيضا في التنمية!
لماركس فضيلة في كشف حقيقة لا ينساها إلا العقل المنبهر: يخلق الناس أدوات إنتاجهم للسيطرة على الطبيعة، في الرأسمالية تخلق الآلات لأجل المردودية ولأجل اكتساح الأسواق، لأجل الربح، بينما الحقيقة كان على الإختراعات المتمكنة من السيطرة هذه ان تقلل من تعب الكادحين، في الحقيقة النقابية التي أهملت بفعل تداعيات السوق الرأسمالية، كان مطلب تقليص ساعات العمل مقابل نفس الأجر في اليومي مطلبا زهيدا على كل حال ولم يلبى في بعض الدول المارقة إلا لتداعيات السلم الإجتماعي، لقد كان حقا مطلب ماركس هو أن يتحرر الإنسان من الملكية ومن العمل، الآلة توفر الإنتاج، تنقص ساعات عمل العمال، ومعناه أنها توفر الحاجات بأقل تكلفة، ليس بمعنى أنها تزيح العامل (هذا لو كنا فعلا في مجتمع إنساني لا رأسمالي) لكن الحقيقة الرأسمالية عند ماركس، هي ان الآلة تشكل قوة إنتاجية مناهضة للعامل وليست مكملة، وبالتحديد هي في تطورها الآني تشكل ازمة منفصمة في الذاكرة الإنسانية، كونها تزيح الناس من العمل، يتمركز الربح عند مالكيها وتبقى الشعوب تثغوا من سمألتها.
في خطاب الإنبهار، تغدوا الراسمالية تجدد أزمتها، في الثورة الصناعية كانت البروليتاريا هي النقيض، كانت البروليتاريا سجينة وضعها العملي: مثقلة بساعات العمل، ومثقلة أيضا بأنا الهم المهني، اليوم صارت عاطلة مثقلة بالبحث عن العمل، وحيث اللاجدوى هي اساس التجدد الرأسمالي، فهو يقتل نقيضا مثخنا بساعات العمل ليتقابل مع نقيض متفرغ لهيمنتها، فالناس مطالبون بتغيير الوضع، الآن المعطلون هم النقيض، طبقة واعية لمهمتها التاريخية، طبقة مثقفة، طبقة تعرف وضعها جيدا، مهنتها هي التفكير في البديل وليس كمهنة العمال، وطريقها هو التحرر من البطالة، هذه هي ثورة الشباب العالمي الآن، بدت حركتها في الدول الأكثر تجسدا للأنا السلطوية وستنتهي حيث الديموقراطية وعاء فارغ، وعاء تتغير فيه الوجوه لكنه يبقى فيه، في الحكم الرأسمالي، يبقى الحاكم الحقيقي الذي هو أو هي المؤسسات البنكية والمالية.
تبدو بعض الكتابات حول ماركس مدهشة للغاية، قراءة تفكيكية، تحليل جينيولوجي، وبالجملة هي قراءات مفزعة للغاية من منطلق رؤيتها الجينيولوجية الخرافية، فمثلا أستشف في القراءة الجينيولوجية في تفكيك فكر ماركس أن نكتشف مثلا موضوعة ساذجة لماركس، رؤية فلسفية على نمط امراة نيتشة، امراة متبجحة بنمط إغرائي هو في الحقيقة نمط لشهية ذاتية، تحليل جينيولوجي لماركس هو تحليل لموضوعاته مقارنة بموضوعات أخرى أكثر نصوعا من حيث علميتها، والحقيقة المرة أننا لم نجد حتى الآن في كتابات مؤدلجي "تاريخ الفلسفة السياسية" جرأة قيمة في تفكيك ماركس انطلاقا من موضوعاته، بقدر مانجد هذه القراءات المغرضة المنتصرة لاقتصاد مفلس تماما يجد مادة ترميمه في نهج طريقة ترميمه على الطريقة التقليدية تماما والتي هي إعلان الحروب في الحالات الأشد توترا في الإقتصاد: حالات الركود والأزمة الإقتصادية.
في "الإيديولوجية الألمانية" يعتبر ماركس أن التمرحل التاريخي ليس حالة ذهنية بقدر ماهو حالة تاريخية، ومعنى هذا أن نضج التحول في مرحلة ما يجد أساسه في نضج الشروط التاريخية وليس إرادة ذاتية، لقد كانت الطبقة العاملة مؤهلة تاريخيا بفضل تجمعها في إطار كمونات أو في إطار المدن الصناعية، وكان تجمعها هذا ينذر بتفجرها في لحظة ما مما أدى بالتفكير الرأسمالي إلى خلخلة هذا الوضع، وتفتيت كيان هذه التجمعات عن طريق تحويل الصناعات خارج تمركزها، لقد ساهمت عمليا الكثير من العوامل التي تدخل في صميم تبرير كتاب الإنبهار العولمي في تفكيك الوضع المنذر لتفجر ثورة العمال، بالبحث عن طرق إنتاجية أقل تكلفة وأكثر إراحة لعملية الربح، لقد عمدت إلى التكنولوجية الرقمية والبرمجة أخيرا، لكنها في البداية عمدت إلى مكننة الإنتاج وتعويض العمال بالآلة، ثم تصدير العمل الصناعي إلى حيث اليد العاملة والمواد الأولية رخيصة في تعويض القوة العضلية للعمال والتخلص من النفايات المهولة، ثم وجدت حلا آخر بتحويل العمل العضلي إلى عمل ذهني مع تعويض عمل الإنسان بعمل الروبو أو الإنسان الآلي، وحقيقة الأمر أن ثورة المعلوميات والبرمجة ساعدت في اختفاء المصانع العملاقة وظهرت المصانع المبرمجة المكروسكوبية لتعيد وضعا سابقا في التاريخ هو تماما مماثل لوضع الحرفيين زمن الثورة البرجوازية. لقد خلق هذا الوضع الجديد وضعا نقيضا أيضا على غرار الثورة الصناعية: وجود طبقة عاملة نقيضة في الثورة الصناعية هي الطبقة العاملة، وجود وضع نقيض آخر هو وضع الطبقة المعطلة نتيجة تدفق السلع بفضل التقنية الرقمية التي لاتعتمد على عضلات العمال والمصحوب بخلق طبقة من نوع مريح ظاهريا هي طبقة الخدمات التي تسود مجتمعات المركز الرأسمالي.