موجز عن تاريخ الأممية


محمد بودواهي
2011 / 11 / 11 - 07:54     

أخذ مقهوم الأممية في الأيديولوجية الاشتراكية معنى يدل على رفض النزعة العرقية والتعصب القومي ووحدة البروليتارية العالمية . وقد ولدت فكرتها الأولى في مرحلة نمو الرأسمالية في بلدان أوربة الغربية وبعد تنامي نزعتها، إذ اشتد نضال الحركة العمالية في مواجهة البرجوازية وحكوماتها، و تكونت نواتها في اجتماع دعا إليه مجموعة من العمال الإنكليز والفرنسيين بلندن . وقد اشترك في هذا الاجتماع كارل ماركس وانتخب عضواً في المجلس العام، ثم عضواً في اللجنة الدائمة المنبثقة عنه.
لقد كانت الأممية الأولى منذ نشأتها تضم عناصر متباينة في اتجاهاتها الأيديولوجية ، و كان الصدام بين الماركسيين وأنصار برودون ولاسال وباكونين حول مواضيع مختلفة كإبعاد العمال عن السياسة التي اقترحها برودون ، ومسألة الدولة التي طالب باكونين بإلغائها ، وبشأن مسألة إلغاء الإرث ، وبشأن طريقة العمل وتنظيم الأممية ...

يرى المؤرخون الماركسيون أنلقد حققت الأممية الأولى ما طمح إليه ماركس وهو إيصال فكره إلى جماهير العمال في البلدان الرأسمالية ، و نتج عن مؤتمراتها، وصراع تياراتها الأيديولوجية قيام أحزاب اشتراكية جماهيرية، بعضها ذو اتجاه ماركسي، وبعضها ذو طابع يساري فوضوي متطرف.
و تشكلت الأممية الثانية في مرحلة انتقال الرأسمالية من مرحلة ما قبل الاحتكار إلى الاستعمار. وفي هذه المرحلة نفسها تزايد نشاط الحركة العمالية العالمية ، وتألفت عدة أحزاب عمالية، واشتراكية ديموقراطية في ألمانية وفرنسة والنمسة. وعقد الماركسيون في باريس في 14 غشت 1889 مؤتمراً أعلنوا فيه تحديد يوم العمل بثماني ساعات، وجعل الأول من مايو عيداً عالمياً.

لقد كان الشاغل الأساسي في مؤتمرات الأممية الثانية المتتالية في بروكسل و زوريخ و لندن هو «تحديد الاتجاه العام للأممية الثانية، وللأحزاب الاشتراكية المرتبطة بها». وفي مؤتمر زوريخ أعطيت أهمية للعمل السياسي. في هذا المؤتمر قدم بليخانوف تقريراً حول الحرب وضرورة مناهضتها، وناضل الماركسيون لإنشاء أممية ماركسية شيوعية، ولكنهم أخفقوا في مؤتمر لندن في حمل المؤتمر على تبني ديكتاتورية البروليتاريا.


اتسمت مؤتمرات الأممية الثانية بالصراع الأيديولوجي بين ثلاثة تيارات: تيار «يميني» تزعمه إدوارد برنشتاين من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني واسكندر ميلران من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الفرنسي، وتيار «وسط» تزعمه كارل كاوتسكي من الحزب الديمقراطي الروسي، وتيار «ماركسي» تزعمه أوغست بيبل وكارل لييبكنخت، وروزا لوكسمبورغ من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني، ولينين من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الروسي.
انقسمت الأممية الثانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية، وفي 1919 أسس لينين الأممية الثالثة من الأحزاب الماركسية - الشيوعية وفي العام نفسه أسس بعض ممثلي الأحزاب الديمقراطية - الاشتراكية الذين كانوا أعضاءً في الأممية الثانية «أممية بِرن» ولكن بعض أحزاب هذه الأممية انفصل عنها، وأسس في 1921 «أممية فيينة». وفي 1923 توحدت أممية بِرن، وأممية فيينة تحت اسم «الأممية الاشتراكية الشمالية». وأيد بعض قادة أحزاب هذه الأممية السياسة الأنكلو - أمريكية في المماطلة من أجل الوقوف في وجه الفاشية. لكن قواعد هذه الأحزاب أسهمت في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الشيوعيين في النضال ضد الفاشية.
تعتبر الأممية الثالثة صيغة مركزية لتنظيم عمل الأحزاب الشيوعية وتنسيق مواقفها وسياساتها في العالم، وقد ولدت إبان الصراع الأيديولوجي بين التيارات الشيوعية في الأممية الثانية، وتهيأت الظروف لتأسيسها بعد نجاح ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسية وبعد حدوث عدة انتفاضات وثورات عمالية في العالم بين عامي 1918 - 1919م وإنشاء عدة أحزاب شيوعية في أوربة وأمريكة اللاتينية. في هذا الظرف تم بقيادة لينين في 1919م عقد اجتماع ضم ثمانية أحزاب شيوعية ومنظمات ماركسية، ودعا هذا الاجتماع بقية الأحزاب الشيوعية إلى الاشتراك في المؤتمر التأسيسي الأول.
لم يظهر في مؤتمرات هذه الأممية صراعات أيديولوجية واضحة فقد سيطر فكر لينين في المؤتمرات الأربعة الأولى، التي عقدت على التوالي في الأعوام 1919 و1920 و1921 و1922م وأهم القضايا التي تناولتها على الترتيب هي: تبني ديكتاتورية البروليتارية وإقامة أحزاب بلشفية على غرار الحزب البلشفي السوفييتي. والنضال ضد بقايا الديمقراطية الاشتراكية في الأحزاب الشيوعية، ثم دراسة مشاكل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ونجاحاتها. وفي المؤتمرات اللاحقة (الخامس والسادس والسابع) التي عقدت على التوالي في صيف 1924 و1928 و1935، سيطرت الستالينية بزعامة ستالين وتبنت هذه المؤتمرات النضال من أجل بَلْشَفة الأحزاب الشيوعية، والنضال ضد الفاشية والتروتسكية والديموقراطية الاشتراكية. يضاف إلى ذلك أنه في المؤتمر السادس اتخذ قرارٌ بدعم الثورة الصينية، وفي المؤتمر السابع حين لاح في الأفق شبح الحرب العالمية الثانية، دعا المؤتمر إلى ضرورة التفاهم مع الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية للنضال ضد الفاشية.

كان المؤتمر السابع الذي انعقد في موسكو عام 1935م آخر مؤتمر تعقده الأممية الشيوعية - أي الأممية الثالثة - وفي أيار 1943م صادقت هيئة رئاسة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية على قرار حل الأممية الشيوعية. وذلك لأن هذا الشكل التنظيمي للحركة الشيوعية الذي كان يستجيب لمقتضيات المرحلة الأولى لنهوض الحركة الشيوعية لم يعد يتطابق مع المرحلة الجديدة التي شهدت ظهور أحزاب شيوعية في أغلب بلدان العالم.
نجحت الأممية الثالثة في بلشفة الأحزاب الشيوعية على غرار الحزب الشيوعي السوفييتي، وأسهمت في إيجاد أحزاب شيوعية جديدة في بعض بلدان المعسكر الرأسمالي، لكنها بعد وفاة لينين رَسَّخت الستالينية في تكتيك الأحزاب الشيوعية واستراتيجيّتها.

الأممية الرابعة

بعد المؤتمر الخامس للأممية الثالثة بدأ الصراع يتجلى في الاتحاد السوفييتي بين ستالين من جهة، وتروتسكي وزينوفييف وبوخارين من جهة أخرى، بشأن مسألتين، الأولى هي: هل يمكن بناء الاشتراكية في بلدٍ واحد - هو الاتحاد السوفييتي - في ظل التطويق الرأسمالي؟ كان تروتسكي على عكس ستالين، يرى أن ذلك غير ممكن. أما المسألة الثانية فهي: الموقف من الثورة الصينية، ويتهم تروتسكي في الأدبيات الماركسية السوفييتية بأنه وقف من الثورة الصينية موقفاً انتهازياً. لكن ستالين كان يرى أن الثورة الصينية ثورة فلاحية وبرجوازية ولكنها ضد الاستغلال والاستعمار، ويمكن أن تتحول إلى ثورة بروليتارية جماهيرية بقيادة حزب شيوعي يجب على الماركسيين الصينيين إيجاده، ورأى أن موقف تروتسكي انتهازي يلحق الضرر بهذه الثورة، لهذا فصلت اللجنة التنفيذية للأممية الثالثة في 1926م كتلة «تروتسكي - زينوفييف» من صفوفها. ورد تروتسكي على ذلك بتشكيل الأممية الرابعة عام 1938م، ومقرها في باريس، وسميت «الأممية التروتسكية». رأى تروتسكي أن الخلاص غير ممكن إلا بالثورة الاشتراكية الأممية، بالثورة الدائمة، التي يجب أن تكون قومية وأممية، ولا يجوز بقاء الثورة ضمن إطارها القومي. والحزب هو منظم الثورة العالمية، والديكتاتورية هي ديكتاتورية الحزب. وقد وافق المؤتمرون على مقترحات تروتسكي، واتخذت هذه الأممية لها فروعاً في مختلف البلدان، إلا أنها بقيت من دون تأثير، وانقسمت على نفسها بعد اغتيال تروتسكي عام 1940م، ولا تزال لها فروع في بعض البلدان حتى اليوم.

إذا استثنينا الأممية الرابعة - التروتسكية - و«الأممية الاشتراكية» - أممية فيينة - جاز القول إنه لا يوجد حالياً - بالمعنى الذي سلف عن الأمميات - تنظيم للحركة العمالية العالمية، فبعد أن حلت الأممية الثالثة نفسها عام 1943، أخذت الأحزاب الشيوعية والمنظمات التقدمية على عاتقها قيادة الحركة العمالية. وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت بعض التنظيمات التي يمكن أن يضفى عليها طابع أممي (كاتحاد الطلاب العام العالمي، واتحاد المعلمين العام العالمي، واتحاد العمال العام العالمي).