التبعية ، الوجه الجديد للإستعمار


محمد بودواهي
2011 / 11 / 8 - 20:08     

ليست التبعية إلا مجموعة علاقات سياسية اقتصادية عسكرية وثقافية تشكلت تاريخيا بعد الانتهاء من الاستعمارات الغربية المباشرة ، تعبرعن تقسيم العمل على الصعيد الدولي بالشكل الدي توظّف بموجبها موارد مجتمع أو مجتمعات معينة لخدمة مصالح مجتمع أو مجتمعات آخرى ، وتمثل العلاقات التي تنشأ بين مركز النظام الرأسمالي العالمي المتطور ومجتمعات العالم الثالث المتخلفة ، بهدف الحفاظ على الأنظمة القائمة ، وبسط النفوذ على أوسع مساحة ممكنة من العالم ، مع الاحتفاظ على المرونة اللازمة اتجاه الظغوط والمقاومة التي تظهر من حين لآخر من طرف حركات التحرر الوطني ومن طرف قوى عالمية صاعدة تنشد الاستقلالية والانعتاق .
فمن خلال عدد من المؤسسات المالية ذات النفوذ العالمي (مثل البنك العالمي ، صندوق النقد الدولي) أو من خلال الشركات المتعددة الجنسية ، وبتنسيق مع الحكومات والطبقات السائدة العميلة في المحيط تمارس الهيمنة على الدول التابعة ، مما يسبب في تعطيل الإرادة الوطنية لهده الأخيرة وفقدانها السيطرة على شروط إعادة تكوين ذاتها أو تجددها، لأن رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، لا يتم انطلاقاً من الحاجات الفعلية للدول التابعة، وإنما انطلاقاً من حاجات النمو الرأسمالي في دول المركز، وليس من خلال الاعتماد على الموارد المحلية وتعبئتها إلى أقصى طاقة ممكنة، وإنما من خلال تكريس الاعتماد على المعونات والتقنيات الأجنبية ، ليس من أجل بناء قدرة اقتصادية ذاتية تضمن الانطلاق على طريق التقنية المستقلة ، وإنما بهدف المحافظة على الدور المتدني للدولة التابعة في تقسيم العمل الدولي ، واستمرار الطبيعة «الذيلية» لاقتصاديات تلك الدول في إطار الاقتصاد الرأسمالي العالمي ، وهكذا تبقى البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية للدول التابعة بنية متخلفة ، تتسع فيها الهوة بين هيكل الإنتاج وهيكل الاستهلاك، ومفتقرة إلى عناصر التجدد الذاتي.
تتمثل العلاقات الاستغلالية في التبعية على تسخير موارد البلدان التابعة لخدمة الدول الرأسمالية الكبرى وشركاتها المتعددة الجنسيات ، وحرمانها من بلورة نظام سياسي اقتصادي اجتماعي قادر على تلبية الحاجات الفعلية لمواطنيها ، واستنزاف مواردها الاقتصادية كالغاز والبترول والفوسفاط والثروات المعدنية والطبيعية الأخرى ، والحيلولة دون قيام هيكل إنتاج متكامل داخليا وهو ما يعمل على إعادة إنتاج النظام الرأسمالي بشكل موسع ، فيؤدي بها إلى تدهور ميزانها التجاري بارتفاع الواردات وتناقص الصادرات وفرض الفوائد المرهقة على الديون الخارجية واستنزاف العنصر البشري عبر هجرة الأدمغة والعقول وكدلك هجرة السواعد .
تتصف اقتصاديات الدول التابعة بأنها خارجية التوجه ، فصادراتها ووارداتها منخفضة مقارنةً بإجمالي الصادرات والواردات العالمية. وهذا عائد إلى ترابط قطاعات الاقتصاد التابع مع قطاعات الاقتصاد في البلدان الرأسمالية بدرجة أشد من ترابطها بعضها مع بعض ، و بتركيز التصدير على النفط والمواد الخام في الدرجة الأولى ، مما يجعل تغطية الاستثمار رهناً بعائدات التصدير والاستيراد ، خاصةً في حالات ركود الرأسمالية وانتعاشها.
فالتبعية الغذائية مثلا تؤدي إلى تعاظم المخاطر التي يمكن أن تنتج عن الاعتماد المتزايد على الدول الرأسمالية المتقدمة في الحصول على حاجتها من السلع الغذائية الأساسية كالحبوب والقمح ، مقابل تخصصه في المنتجات الزراعية وتصديرها، وهو ما يسبب في إمكانية تعرض العالم التابع لاستخدام سلاح التجويع ضده ، كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب حظر النفط العربي عام 1973.
وتعد المعونات العسكرية التي تقدمها الدول الإمبريالية ، وخاصة منها الولايات المتحدة ، عاملا مهما في تشكيل علاقات التبعية . فهي شبيهة بالمعونات الاقتصادية تقدمها هده الدول في شكل قروض لشراء الأسلحة وبالشروط التي تفرضها من حيث التدريب وأهداف الاستخدام ومن حيث استمرار العلاقات الوطيدة مع الدول المصدرة للسلاح لضمان وصول قطع الغيار . وتعد علاقات التبعية في مجال الصناعة الحربية أكثر تخندقا من أي حقل صناعي آخر . فهي تفرض على البلدان النامية الاعتماد بشكل كلي على تكنولوجية المركبات الصناعية العسكرية ، وزيادة الإنفاق على التسلح وكل ما يرتبط به من وسائل الاتصال وإنشاء الطرق التي تقام لأسباب عسكرية ....
وتعد علاقات التبعية في مجال الصناعة الحربية أكثر تخندقاً من أي حقل صناعي آخر، لأن عمر الأسلحة الحديثة قصير للغاية بسبب التطور التكنولوجي السريع الذي يفرض على البلدان النامية الاعتماد بشكل كلي على تكنولوجية «المركبات الصناعية العسكرية» لإنتاج أنظمة أكثر تطوراً.

تعمل الشركات متعددة الجنسية في أنشطتها وفق عقود الخدمات في مجال التعدين والبترول ، والاستشارات الهندسية والترخيصات ، وعقود الإدارة ....وتطبق استراتيجية شاملة للسيطرة الاقتصادية على الدول النامية وخاصة في المنطقة العربية، وتعتمد هذه الاستراتيجية على دمج الدول التابعة ضمن إطار السوق العالمية ، وتعميق تبعيتها للبلدان الرأسمالية في إطار تقسيم العمل الدولي ، في الوقت الذي تسعى فيه إلى فرض طريق التنمية الرأسمالية على البلدان العربية من خلال تعزيز علاقات التجارة الخارجية بتصدير الخامات واستيراد المنتجات المصنعة كوسيلة لفرض التبعية الخارجية ، وسن سياسة احتواء القطاع العام وربطه بالاقتصاد الرأسمالي العالمي ، وتوسيع دور الشركات متعددة الاستيطان في تنفيد مختلف المشاريع التنموية المزعومة ، والعمل على تدمير الفوائض المالية التي حققتها الدول العربية النفطية ، بالإضافة إلى زرع التكنولوجية الأجنبية وترسيخها في محاولة فرض أشكال التبعية التكنولوجية الجديدة والاعتماد على السوق الرأسمالية اقتصاديا وتقنيا وهو ما يؤدي إلى تسهيل هجرة العقول من أوطانها .... وتعتمد في دلك على استخدام وسائل الإعلام والتسويق والاستثمار المباشر في قطاعات السياحة والصناعات التحويلية ... واستخدام المساعدات والقروض والمؤسسات الاقتصادية الدولية لتوجيه السياسات الاقتصادية وتحديث الهياكل والبنيات الاساسية ، واستخدام السيطرة الإعلامية والمؤسساتية لإحداث تغيرات أساسية في الثقافات والتوجهات والقيم ونشر الثقافة الرأسمالية الاستهلاكية .....
فعندما اضطرت الاستعمارات التقليدية من مغادرة الأوطان التي احتلتها بالخروج من الأبواب الواسعة ، إلا أنها دخلتها مرة أخرى من النوافد المفتوحة . فنظرا للخيانة التي دبرتها القيادات المتآمرة بانصياعها لشروط قوى الاستعمار استطاع هدا الأخير أن يحافظ على الكثير من الامتيازات من خلال سياسة التبعية التي نهجتها الاستقلالات الشكلية اتجاه الاستعمار الجديد . إنه الوجه الجديد للإستعمار .