المذهب الماركسي اللينيني أعلى مراحل الدياليكتيك الماركسي


امال الحسين
2011 / 11 / 5 - 01:45     

المذهب الماركسي اللينيني أعلى مراحل الدياليكتيك الماركسي


إذا كانت الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية فإن المذهب الماركسي اللينيني أعلى مراحل الدياليكتيك الماركسي باعتباره نتاج الثورة الإشتراكية/عشية الإمبريالية ، و لا يمكن تجاوز المذهب الماركسي اللينيني إلا بتجاوز المرحلة الإنتقالية بين الإمبريالية و الشيوعية أي الإشتراكية و بالتالي تجاوز الدولة "نتاج و مظهر استعصاء التناقضات الطبقية" ، لهذا أكد لينين على أهمية بناء دولة ديكتاتورية البروليتاريا في علاقتها بالثورة و الديمقراطية الثورية والديمقراطية البروليتارية نقيض الديمقراطية البورجوازية.

محتــــــوى الكتــــــــاب

الفصل الأول : الدياليكتيك الماركسي على المستوى المعرفي

1 ـ دياليكتيك الجوهر في علاقته بالظواهر بين المادة و النظرية

2 ـ نقد اللاعرفانية باعتبارها فلسفة التحريفية الإنتهازية

3 ـ اللاعرفانية في علاقتها بالتحريفية الإنتهازية الحديثة

4 ـ المذهب الماركسي اللينيني باعتباره جوهر الدياليكتيك الماركسي

الفصل الثاني : الدياليكتيك الماركسي على المستوى التنظيمي ـ في العلاقة بين الحزب و الحرب ـ

1 ـ في التناقض بين الإصلاحية و الثورة

2 ـ في العلاقة بين الحزب و الحرب و انتصار الثورة الديمقراطية البروليتاريا

3 ـ بناء الحزب الثوري في علاقته بالنضال الثوري


الفصل الثالث : الدياليكتيك الماركسي على المستوى السياسي

1 ـ الدولة و الثورة في علاقتهما بالديمقراطية البورجوازية و الديمقراطية البروليتارية

2 ـ التحالف بين العمال و الفلاحين في علاقته بالبناء الإشتراكية

3 ـ في التناقض بين الثورتين الديمقراطية البورجوازية و الديمقراطية البروليتارية

4 ـ الوضع العام العالمي من منظور المذهب الماركسي اللينيني

الفصل الرابع : الدياليكتيك الماركسي على المستوى الإقتصادي

1 ـ في التناقض بين القانونين الإقتصاديين الرأسمالي و الإشتراكي

2 ـ في العلاقة بين المزاحة و الإحتكارية في عصر الإمبريالية

3 ـ أسس الإقتصاد السياسي في عصر الإمبريالية

4 ـ في التناقض بين الإقتصاد الرأسمالي و الإقتصاد الإشتراكي


تقديـــــــم


تعتبر أعمال لينين رائدة في مجال الدياليكتيك الماركسي على المستوى المعرفي باعتبارها نتاج النظرية المادية للمعرفة ، التي وضع ماركس و إنجلس أسسها خلال أزيد من نصف قرن من النضال ضد بقايا الأفكار المثالية الكانطية في محاكمتهما لهيكل و فويرباخ ، إلا أن جهودهما من أجل ترسيخ المذهب الماركسي لم تسلم من هجوم التحريفيين الإنتهازيين الذين يريدون إعادة الفكر الفاسفي المادي إلى الخلف ، لتكريس مثالية بركلي التي قادها كل من ماخ و أفيناريوس ضد الدياليكتيك الماركسي المادي ، في محاولة لبعث فلسفة بركلي المثالية و تسخيرها لدحض المذهب الماركسي ، و حاول الماخيون الروس الهجوم على آراء بليخانوف باعتباره الماركسي الروسي الذي تشبث بالدياليكتيك الماركسي .
و يشكل تطور الدياليكتيك الماركسي على المستوى المعرفي صلب النظرية الماركسية اللينينية التي اكتشفها لينين عبر محاكمته لآراء الماخيين و المذهب النقدي التجريبي ، و لعبت أعمال لينين دورا هاما في ترسيخ المذهب الماركسي عبر إعادة صياغة النظرية الفلسفية للدياليكتيك المادي على مستوى المعرفة التي ترتكز إلى جوهر الدياليكتيك الماركسي ، و بذلك تكون الماركسية اللينينية هي جوهر المذهب الماركسي و سلاح المادية في صراعها مع المثالية الذاتية و السوليبسيسم .
و عمل لينين على وضع أسس المعرفة الماركسية اللينينية من خلال المقاربة بين فلسفة المذهب النقدي التجريبي و الفلسفة المادية بتطبيقه للدياليكتيك الماركسي على أعمال الماخيين ، من أجل بيان العرفانية الرجعية الملازمة لآراء النقاد التجريبيين الذين اتخاذوا مصطلحات مختلفة سموها جديدة لحجب الأسس المثالية لمذهبهم ، في محاولة منهم للتمييز بين أخطاء المثالية و اللاعرفانية في خلطهم بين المذهب النقدي التجريبي و الماركسية من أجل ضرب أسس المذهب الماركسي.
و المذهب الماركسي اللينيني يبرز التنافض الأساسي بين الفلسفة المادية الماركسية و المذهب النقدي التجريبي و يبرز مكانة النقاد التجريبيين باعتبارهم أساتذة في مدارس فلسفية صغيرة ، و المذهب النقدي التجريبي ما هو إلا مدرسة صغيرة من بين المدارس الصغيرة الأخرى في العصر الحديث ، و أوضح لينين كيف أن زعماء هذه المدرسة الصغيرة (أفيناريوس و ماخ) انطلقا من الفلسفة الكانطية محاولان الوصول إلى المادية لتعصف بهما آراؤهما المتضارب في منحى المثالية الذاتية و السوليبسيسم إلى البركلية مرورا بالهيومية.
و في نقده للماخية يؤكد لينين على الصلة بينها و بين مدارس العلوم الطبيعية التي يتموقع فيها أغلب الطبيعيين إلى جانب المادية و خاصة الفيزيائيين ، لكن فقط الأقلية منهم انزلقت بهم أفكارهم حول النسبية إلى المثالية الذاتية ، نتيجة جهلهم للدياليكتيك الماركسي و انبهارهم أمام تقدم العلوم الطبيعية التي استطاعت دحض النظريات الكلاسيكية .
و تعتبر أزمة العلوم الفيزيائية في بداية القرن 20 أهم الأسباب التي جعلت الفيزيائيين يقعون في تناقضات مع المادية لكون أفكارهم تسيطر عليها المثالية ، و الصراع بين المادية و المثالية منذ فلسفة سقراط و أفلاطون المثالية وفلسفة ديمقريدس و أبيقور المادية يعتبر صراعا حزبيا ، و عرف امتداداته عبر تاريخ الفلسفة وصولا إلى التناقض بين فلسفة هيكل و فيورباخ المثالية و فلسفة ماركس و إنجلس المادية ، هذا الصراع الذي وضع له لينين حدا بصياغة الدياليكتيك الماركسي على مستوى المعرفة بإبراز الواجهة السياسية لهذا الصراع ، إذ يتم توظيفها الفلسفة المثالية من طرف البورجوازية ضد البروليتاريا مما جعل لينين يتصدى لها بصياغة نظرية و تكتيك ديكتاتورية البروليتاريا بوضعه أسس الحزب الثوري.
و اعتبر لينين أن المذهب النقدي التجريبي يخدم الطبقة البورجوازية في نضالها ضد المادية و خاصة المادية التاريخية و صاغ النظرية الماركسية اللينينية عبر تطوير الدياليكتيك الماركسي على جميع المستويات المعرفية :

ـ على المستوى الفلسفي بدحض المذهب النقدي التجريبي و تنوير الطريق للعلماء الطبيعيين التقدميين الذين أحرزوا نتائج هامة على مستوى الإكتشافات العلمية ببلورتهم مفهوم الدياليكتيك الماركسي على مستوى التجارب العلمية.
ـ على المستوى التنظيمي ببلورة أسس الحزب الثوري في علاقة الحزب بالحرب و بلورة مفهوم الحركة الثورة في ظل الصراع الطبقي.
ـ على المستوى السياسي من خلال بلورة الثورة الديمقراطية البروليتارية في علاقتها بإنجاز الثورة الاشتراكية و البناء الإشتراكي.
ـ على المستوى الاقتصادي باكتشاف الأسس النظرية لسيطرة الرأسمال المالي في ظل الرأسمالية الإمبريالية و بروز الدولة الإحتكارية الإمبريالية.

و بذلك تكون الماركسية اللينينية هي النظرية المادية لعصر الرأسمالية الإمبريالية و الثورات الإشتراكية ، ولا غرابة أن نجد من يدعون الماركسية يتنكرون للماركسية اللينينية ، من أجل بث التشويش في أذهان المناضلين بالترويج لسقوط الماركسية اللينينية بسقوط جدار برلين و زوال مفهوم الصراع الطبقي و إنجاز الثورة ، و في ادعاءاتهم هذه جهل لكون المذهب الماركسي اللينيني جوهر الدياليكتيك الماركسي ، و مهمة دحض آرائهم التحريفية الإنتهازية موكولة للماركسيين اللينينيين اليوم عبر ضبط النظرية الماركسية اللينينية في علاقتها بالممارسة العملية في جميع المستويات المعرفية.
إن ما تعرفه الحركة الماركسية اللينينة المغربية من دينامية يجعل أهمية تقديم هذه الدراسة بين أيدي القراء ملحة ، و هدفها الأساسي المساهمة النظرية في بلورة الدياليكتيك الماركسي في أوساط الماركسيين اللينينيين خاصة منهم الشباب ، من أجل التسلح بسلاح االمادية التاريخية التي تتعرض لهجوم البورجوازية و التحريفية الانتهازية بواسطة الأحزاب الديمقراطية البورجوازية الصغيرة خدمة للرأسمالية الإمبرسيالية ضد مصالح البروليتاريا ، و لكون مناضلي هذه الأحزاب يعملون على لجم النضالات الجماهيرية و الحركات الاحتجاجية المتنامية لوقف زحف الجماهير نحو التغيير ، فإن العمل على بلورة مفهوم النضال الجماهيري في علاقته بالنضال الأيديولوجي و السياسي أمر ضروري لبلورة مفهوم التغيير في أوساط الجماهير الشعبية بقيادة البروليتاريا ، عبر انخراط الجماهير العمالية الواعية في النضال الطبقي لتقرير مصيرها انطلاقا من تجربتها الخاصة لتطوير وعيها الحسي مرورا بالوعي السياسي وصولا إلى الوعي الطبقي الآلية الوحيد الحاسمة في التغيير .
و لن يتأتى ذلك بمعزل عن أهمية التنظيم الذي يجب أن تساهم طليعة الجماهير العمالية بنفسها و بتجربتها الخاصة في بنائه بقيادة البروليتاريا/الطليعة الثورية ، و يجب أن يشمل العمل الصراع الأيديولوجي ضد التحريفيين الإنتهازيين الجدد ببلورة الدياليكتيك الماركسي في أوساط الشباب على المستوى المعرفي في علاقته بالممارسة السياسية ، و بالتالي بلورته في أوساط الجماهير الشعبية عبر الممارسة العملية في النضالات اليومية الاقتصادية والاجتناعية و السياسية و الثقافية للرقي بالوعي السياسي نحو النضال الثوري ، عبر الممارسة الديمقراطية البروليتارية من أجل إنجاز الثورة الديمقراطية البروليتارية و البناء الإشتراكي في أفق بناء المجتمع الشيوعي الذي تنتفي فيه الفوارق الطبقية .
و بعد أزيد من نصف قرن من التحريفية الإنتهازية بالإتحاد السوفياتي نعيش اليوم مرحلة النضال الثوري عبر الإنتفاضات الشعبية المغاربية و العربية بعد جلاء الحقيقة عن دعاة اللاعرفانية ، و الحركة الماركسية اللينينية المغربية في حاجة إلى التنظيم في ظل هجوم البورجوازية الكومبرادورية و التحريفية الانتهازية على الماركسيين اللينينيين ، و أصبح الصراع الإيديولوجي و السياسي ذا أهمية من أجل تركيز أسس الماركسية اللينينية في أوساط الشبيبة ، و بلورتها في أوساط جماهير العمال و الفلاحين ببلورة مفهوم النضال الثوري لهذه الطبقات ، و تركيز المهام الثورية الديمقراطية البروليتارية .
وكان لا بد من فضح المنطلقات اللاعرفانية للأيديولوجية التحريفية الانتهازية و محاربة أفكار شيعها في صفوف النساء و الشبيبة و جماهير العمال و الفلاحين و البورجوازية الصغيرة ، و كان لا بد من تسليح الماركسيين اللينينيين بالدياليكتيك المادي الماركسي على المستوى المعرفي ، فاعتمدنا في هذا الكتاب الإسهاب في سرد أقوال لينين و ستالين و ماو في بعض فقراته ، الهدف منها توضيح مصادر أسس المذهب الماركسي اللينيني و الوقوف على دور أعمال لينين في تطوير الدياليكتيك الماركسي ، و تشكل أعمال لينين في هذا الكتاب الأساس النظري للمذهب الماركسي اللينيني كنتاج للثورة الإشتراكية في مواجهة الإمبريالية ، كما تشكل فيه كل من أعمال ستالين و ماو نتاج الممارسة العملية في تجربتين ثوريتين مختلفتين متناقضتين متكاملتين ، الثورة الديمقراطية البروليتارية بروسيا والثورة الديمقراطية البورجوازية بالصين ، فبدون الديمقراطية كاملة لا يمكن الحديث عن الثورة البروليتارية كما يقول لينين.



الفصل الأول

الدياليكتيك الماركسي على المستوى المعرفي


1 ـ دياليكتيك الجوهر في علاقته بالظواهر بين المادة و النظرية

في نهاية القرن 19 عاشت الفيزياء أزمة خانقة نتيجة الإكتشافات الجديدة في مجال العلوم الطبيعة المتسمة بصفة الثورة الفيزيائية التي دحضت استنتاجات الفيزياء الميكانيكية ، و أصبحت الماركسية محط انتقادات الفيزيائيين الجدد بعد انبهارهم بثورة الراديوم على الميكانيكا محاولين دحض أطروحات إنجلس حول المادية ، و ذلك بمقارنة الإكتشافات الحديثة في الفيزياء مع مضامين كتاب "ضد دوهرينغ" خاصة مقولته "لا حركة بدون مادة" و " الحركة هي شكل وجود المادة"، ساعين إلى الوصول إلى نفي المادة بقولهم ب"زوال المادة" مقابل "بقاء الطاقة" ، من أجل "التهكم على روح المادية الدياليكتيكية" كما يقول لينين (المادية و المذهب النقدي التجريبي، الفصل الخامس : الثورة الحديثة في علم الطبيعيات و المثالية الفلسفية ، ص 292). و عكس ادعاءات الفيزيائيين المعاصرين فقد أعطت الثورة الحديثة في الفيزياء لاستنتاجات إنجلس العلمية بعدا أدق و أصح لقوله :

"عند كل اكتشاف يشكل عهدا حتى في ميدان تاريخ الطبيعة ... ينبغي حتما على المادية أن تغيير شكلها"(لودفينغ فيورباخ ، ص 16 من الطبعة الألمانية).

مما سبق ، يتضح أن على الماركسية أن تغير شكلها و أن نعيد النظر في استنتاجات ماركس وإنجلس و لينين و ستالين ، لكن بأية صفة يمكن تطبيق مقولة إنجلس حول "تغيير الشكل".

ذلك ما أجاب عنه لينين في قوله :

"و نحن لا نلوم البتة الماخيين على إعادة النظر هذه . بل نلومهم على أسلوبهم التحريفي الصرف . و مفاده خيانة كنه المادية تحت ستار نقد شكلها".(نفس المرجع ص 293).


و محاولة البورجوازية دحض مقولة إنجلس الجبارة حول المادة ليس من باب تغيير الشكل إنما من أجل تحريفها و هذا ما يجب مقاومته ، و قد قام لينين بهذا العمل بتطبيقه للدياليكتيك الماركسي على مستوى المعرفة مدافعا عن أطروحة إنجلس القائلة :

"... الحركة غير ممكنة بدون المادة"(ضد دوهرينغ ، ص 50).

و أوضح لينين وجود مدارس مختلفة بين الفزيائيين المعاصرين و صلة مدرسة من هذه المدارس بانبعاث المثالية الفلسفية ، و بين كنه الخلافات بين المدارس المختلفة التي تكونت بعد الطفرة النوعية في مجال العلوم الطبيعية وخاصة الفيزياء.
لقد أعلن الفيزيائيون عن أزمة العلوم الفيزيائية و التي تجلت في دحض استنتاجات الفيزياء الكلاسيكية ، واتجه انتقاد الفلاسفة نحو الفيزياء في انتقادهم للعلوم الطبيعية محاولين ضبط مكامن هذه الأزمة و جوهرها ، و قبل ذلك كان الفيزيائيون يؤمنون بالتفسير الميكانيكي للطبيعة و نمت بينهم النزعة الميكانيكية لفهم العالم الموضوعي ، ولم يختلفوا إلا في أساليب التفسير الميكانيكي و أصبح لكل عالم ميوله الخاص بعد الإختلاف الحاصل حول جوهر تفسير المادة.
فيما قبل كانت الميكانيكا هي الأسلوب الأوحد الذي يمكن اتباعه للوصول إلى تحديد ميتافيزيقا المادة ، حتى أضحت تظريات الفيزياء الميكانيكية عبارة عن أنطولوجيا ، و هذه النظرة كانت ميكانيكية صرفة إذ يعتقد الوضعيون أنه يمكن الوصول إلى ميتافيزياء المادة باتباع خطوات الفيزياء الميكانيكية ، الشيء الذي يعتبر خvوجا عن التجربة التي يؤمنون بها و بالتالي ما فوق التجربة ، و يرى الفيزيائيون الوضعيون أن أزمة الفيزياء مؤقتة محاولين الإعتماد على روح الفيزياء المعاصرة لفهم العالم لكن بشكل ميتافيزيقي ، بإعطاء الأولوية للروح على العقل.

يقول آبل ري :

" الحركة الإيمانية و اللاعقلية في السنوات الأخيرة من القرن 19 " تسعى "إلى الإعتماد على الروح العام للفيزياء المعاصرة". كتاب : نظرية الفيزياء عند الفيزيائيين المعاصرين ، باريس 1907 .

إن الوضعيين يجهلون كنه المادية التي وضعها ماركس و إنجلس و التي اعتمدها لينين في دحضه لنظرياتهم الخاطئة حول المادة ، و هم يعتمدون خلاصات هيوم حول المعرفة و علاقاتها بالإحساسات و يقعون في ورطة المثالية الذاتية ، مما يجعلهم يعتبرون المادية عقيدة و خارجة عن حدود التجربة بالخلط بين المادية الميكانيكية والمادية الميتافيزيقية ، الشيء الذي يجعلهم لا يستطيعون بيان الفرق بين الحقيقة المطلقة و الحقيقة النسبية التي قال عنها لينين :

"يستطيع التفكير البشري بحكم طبيعته أن يعطينا و هو يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية.و كل درجة في تطور العلم تضيف ذرات جديدة إلى مجمل الحقيقة المطلقة هذا ، و لكن حدود حقيقة كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لأنها تتسع تارة و تضيق طورا من جراء نمو المعرفة اللاحق."نفس المرجع السابق، ص 151ـ152 .

و جوهر أزمة الفيزياء المعاصرة في نظر لينين هو أن الفيزياء الميكانيكية اعتبرت نظرياتها "معرفة فعلية للعالم المادي" ، أي أنها :"انعكاس للواقع الموضوعي" الذي أكدته نظرية "الشيء في ذاته" عند إنجلس باعتبار أفكارنا صور للمادة في أذهاننا ، و أن المادة موجودة دون إرادتنا و الأشياء التي نسخرها بفضل المعرفة أي "الشيء من أجلنا" موجودة قبل اكتشافها.
أما الفيزياء المعاصرة فقد حولت نظرة الفيزيائيين إلى العالم الموضوعي و برز تيار جديد "لا يرى في النظرية سوى رموز و علامات و إشارات لأجل النشاط العلمي ، أي أنه ينكر وجود الواقع الموضوعي ، المستقل عن وعينا و الذي يعكسه وعينا"، لينين ، نفس المرجع ص 298ـ299.

و هكذا يستخلص لينين أن الفيزياء الكلاسيكية قد تبنت نظرية عرفانية مادية بشكل عفوي إلا أن أزمة الفيزياء المعاصرة قد حولت هذه النظرية إلى مثالية لا عرفانية ، و هذا الإنقلاب في التفكير لدى الفيزيائيين المعاصرين نتيجة أزمة الفيزياء المعاصرة نتج عن عدم استيعابهم للدياليكتيك الماركسي ، وبالتالي سقوطهم في أخطاء علمية فادحة تجلت بالأساس في قولهم ب"المادة زالت" لجهلهم بالدياليكتيك الماركسي الذي طوره لينين على مستوى المعرفة.
لقد أحدثت أزمة الفيزياء الجديدة صراعا بين الفيزيائيين المعاصرين بين من يناصر الميكانيكية و المعارض لها ، و قسم آبل ري الإتجاهات المذهبية بين الفيزيائيين إلى ثلاث مدارس أساسية :

1 ـ المدرسة الطاقية أو المفاهيمية.
2 ـ المدرسة الميكانيكية أو الميكانيكية الجديدة.
3 ـ المدرسة الإنتقادية.

و يعترض لينين على هذا التقسيم حيث الإتجاه الثالث يعتبر وسطيا و يأتي بين الأول و الثاني باعتبارهما خطين أساسيين معارضين في العرفانية بحكم نظرة الوضعيين إلى أزمة الفيزياء ، مما يتعارض حقا مع كنه الأزمة التي نتجت عن تحطيم القوانين القديمة و المباديء الأساسية القديمة ، وبالتالي "نبد الواقع الموضوعي القائم خارج الوعي" ، و ذلك باستعاضة الفيزيائيين المعاصرين عن المادية بالمثالية و اللاعرفانية.
و كان لأزمة الفيزياء الجديدة أثر كبير في الخلط الذي وقع فيه الفيزيائيون المعاصرون بالقول ب "المادة تزول" ، إنطلاقا من استنتاجاتهم حول خلاصات الفيزياء الجديدة حول الصلة بين الذرة والكهرباء عبر حركة الإليكترونات ، مما أوقعهم في خطإ فادح و هو " الذرة تفقد ماديتها" كما قال ل. هولفيغ في كتابه "تطور العلوم"، والفيزيائي الإيطالي أوغست ريغي الذي قال عن النظرية الإليكترونية "هي نظرية الكهرباء أقل مما هي نظرية المادة، فإن النظام الجديد يحل الكهرباء محل المادة و حسب".
هذا الخلط بين المادة و الكهرباء ناتج حسب لينين عن عدم فهم "الصلة الفعلية بين المثالية الفلسفية و "المادة تزول" . حيث أن "المادة تزول" التي يتحدث عنه الفزيائيون المعاصرون " لا يمت بأي صلة إلى التمييز العرفاني بين المادية و المثالية". المادية و نقد المذهب التجريبي ـ ص 301.

إن التناقض بين المادية و المثالية تناقض جوهري و يتجلى في التعارض بين الإتجاهين المعارضين اللذان يحكمان أسس المعرفة بصفة عامة ، كما حدد إنجلس ذلك في كتاب "لودفيغ فورباخ" :

"المادية و المثالية هما الإتجاهان الفلسفيان الأساسيان ... إن المسألة الأساسية الكبرى في كل فلسفة و لا سيما في الفلسفة الحديثة ... هي مسألة علاقة الفكر بالوجود ، علاقة الروح بالطبيعة".

و لكون معارفنا في علاقة جدلية باتجاهاتنا الفلسفية فإن مصدر معرفتنا يتحدد حسب هذا الإتجاه أو ذاك ، حسب النظرة المادية أو المثالية للأشياء ، و القول ب "المادة تزول" يعني حصر عالم الطبيعة في الكهرباء و الأثير ، و استخلص لينين من ذلك أن القول ب"المادة تزول" يقود إلى القول أن الكهرباء تقوم مقام المادة أي حصر المادة في الكهرباء ، و بالتالي تزول "خواص المادة" التي تم اعتبارها فيما قبل مطلقة "الحركة غير ممكنة بدون مادة" كما قال إنجلس ، بينما المادة حسب المادية الفلسفية موجودة خارج وعينا و هي الواقع الموضوعي ، العالم الفيزيائي الموجود دون إرادتنا.
إن الثورة في مجال العلوم الطبيعية و خاصة الفيزياء أحدثت أزمة معرفية لدى الفيزيائيين المعاصرين لكونهم يتجاهلون أسس المادية الفلسفية ، فالإعتراف الذي حصل لديهم حول "جوهر الأشياء الذي لا يتغير" ليس إلا مادية ميتافيزيقية أي منافية للدياليكتيك حسب لينين الذي يقول :

" يجب أن نسأل : أتوجد الأليكترونات و الأثير و ما إلى ذلك خارج الوعي البشري بوصفها واقعية موضوعية ، أم لا ؟ عن هذا السؤال سيتعين على علماء الطبيعيات أن يجيبوا و هم يجيبون دوما بدون تردد : أجل ، كما يعترفون بلا تردد بوجود الطبيعة قبل الإنسان و قبل المادة العضوية". نفس المرجع ص 304.

و هذا الإقرار من طرف الفيزيائيين يحل المسألة لصالح المادية لكون المادة لا تعني في المادية الفلسفية غير "الواقع الموضوعي" الذي يوجد "خارج وعينا" ، و الذي يعتبر من الناحية العرفانية في المادية غير:

"الواقعية الموضوعية الموجودة بصورة مستقلة عن الوعي الإنساني و التي يعكسها هذا الوعي". كما قال لينين في نفس المرجع ص 304.

و في مجال العلم تقر المادية الدياليكتيكية بنسبية كل موضوعة علمية عن "بنيان المادة وخواصها" و على "إنعدام الحدود المطلقة في الطبيعة" ، و هي كذلك تقر بعدم استقرار المادة في حالة واحدة و هي في تحول دائم في حركة دائمة من حالة إلى حالة منافية معها .

و يستنتج لينين من ذلك ما يلي :

"مهما كان تحول الأثير العديم الوزن إلى مادة ذات وزن ، و العكس بالعكس ، عجيبا من وجهة نظر "العقل السليم" ، و مهما كان انعدام أية كتلة عند الإليكترون عدا الكتلة الكهرمغناطيسية "غريبا" ، و مهما كان اقتصار القوانين الميكانيكية للحركة على ميدان ظاهرات الطبيعة وحدها ، و خضوع هذه القوانين لقوانين أعمق هي قوانين الظاهرات الكهرمغناطيسية ، و إلخ ..، غير عادي ، ـ فإن كل هذا هو مجرد تأكيد آخر على صحة المادية الدياليكتيكية. فإن الفيزياء الجديدة قد انحرفت إلى المثالية ، و ذلك بصورة رئيسية للسبب التالي على وجه الدقة ، وهو أن الفيزيائيين لم يكونوا يعرفون الدياليكتيك". نفس المرجع ص 305.

و قد قادهم جهلهم هذا بالدياليكتيك الماركسي إلى إنكار "واقعية العالم الفيزيائي" و بالتالي إنكار "الخواص الثابتة للمادة" ، و بالتالي انزلقوا إلى إنكار وجود المادة بقولهم "المادة تزول" و هم بإصرارهم على نسبية معارفنا فقد انزلقوا إلى إنكار:

"الموضوع المستقل عن المعرفة ، و الذي تعكسه هذه المعرفة بصورة صادقة تقريبا ، بصورة صحيحة نسبيا، و هكذا دواليك ، و هلم جرأ إلى ما لا نهاية" ، لينين نفس المرجع.

لقد عاش الفزيائيون المعاصرون في التناقض بين قوانين الفيزياء الميكانيكية و استنتاجات الفيزياء الجديدة ، مما خلق لديهم أزمة معرفية حول كنه ما هو ثابت في الطبيعة و ما هو متحول لكونهم يجهلون الدياليكتيك الماركسي ، الذي يقر بثبوت شيء واحد فقط هو :"عكس الوعي البشري (حين يكون الوعي البشري موجودا) للعالم الخارجي الموجود و المتطور بصورة مستقلة عن الوعي البشري". لينين نفس المرجع.

و لا يوجد في نظر ماركس و إنجلس أي "ثابتية" أخرى ، أو أي "كنه" آخر ، أو أي "جوهر مطلق" آخر ، بالمعنى الذي يتصوره الفيزيائيون المعاصرون .

و يقول لينين :

" فإن "كنه" الأشياء أو "الجوهر" هما أيضا نسبيان ، و هما يعربان فقط عن تعميق المعرفة البشرية للمواضيع ، و لئن كان هذا التعميق لم يمض أمس إلى أبعد من الذرة ، و اليوم إلى أبعد من الإليكترون و الأثير ، فإن المادية الدياليكتيكية تلح على الطابع المؤقت ، النسبي التقريبي لجميع هذه المراحل من معرفة الطبيعة من قبل العلم المتطور المتقدم لدى الإنسان ".نفس المرجع ص 306.

إن الصراع القائم بين المتشبثين بخلاصات الفيزياء الكلاسيكية و غيرهم من المقتنعين بخلاصات الفيزياء الجديدة ، إنما هو صراع بين الميول إلى المادية بشكل عفوي و النزعة المثالية الذاتية الحديثة ، و كنه هذا الصراع ناتج عن جهل هؤلاء للمادية الفلسفية التي تقر بوجود المادة خارج وعينا عكس المادية الميتافيزيقية التي تقر بوجود المادة بشكل عفوي ، و الإقرار من طرف آبل ري بوجود الصنف الثالث من الفيزيائيين بين المدرسة المفاهيمية والمدرسة الميكانيكية الجديد ، إنما ينم عن جهله للصراع بين المادية و المثالية كشكلين من الميولات الفلسفية المتعارضة و لا ثالث لهما.


2 ـ نقد اللاعرفانية باعتبارها فلسفة التحريفية الإنتهازية


و في نهاية العقد الأول و بداية العقد الثاني من القرن 20 ، سعى بعض الأساتذة البورجوازيين إلى مناصرة الفلسفة الوضعية ضد المذهب الماركسي ، بتبنيهم ما يسمى "الفلسفة الوضعية الحديثة" أو "فلسفة العلوم الطبيعية الحديثة" ، التي يريدون اتخاذها وسيلة لدحض الديالكتيك المادي الماركسي ، بعد انبهارهم بما لحق العلوم الطبيعية من تطور هائل دون أن يستطيعوا فهمه وتفسيره و علاقته بالواقع الإجتماعي ، معتقدين أنه من السهل عليهم تجاوز المذهب الماركسي المادي على المستوى الطبيعي و الإجتماعي ، و في اجتهاداتهم هذه أصبحوا منحرفين بأفكارهم عن آراء ماركس و إنجلس في مجال المعرفة و الطبيعة و التاريخ ، و اعتبروا الماركسية عبارة عن "تصوف" و أنها أصبحت "شائخة" وذلك نتيجة انحرافهم نحو الميتافيزيقا التي لازمت الصراع بين قطبي الفلسفة المادية و المثالية.
و كان لابد للماركسيين في المجال المعرفي من دحض مثالية القرن 20 ، و كانت هذه المهمة ملقاة على عاتق لينين ، الذي قام بدحض مقولات هؤلاء المثاليين الجدد عن مفهوم المادة و على رأسهم أتباع إرنست ماخ ، الشيء الذي ساهم في تطوير الدياليكتيك الماركسي في مجال المعرفة ، عبر المقاربة بين فلسفة الماخيين في القرن 20 وفلسفة بركلي في القرن 18 و توجيه انتقادات صارخة لها ، و استنتج لينين أن الماخيين لم يقوموا إلا بإعادة إنتاج نفس أفكار بركلي المثالية ، في محاولتهم لدحض مقولة "الشيء في ذاته" أو "المادة" خارج التجريد ، خارج إدراكنا، واتهموا الماديين بأنهم متصوفون حين يقرون ب "شيء غيبي قائم خارج حدود التجربة و المعرفة".
و ذهب لينين أبعد من ذلك في نقده للماخيين ، و عمل على التحقق من آرائهم باعتبارها ليست آراء جديدة كما يدعون لكون أسسها ترجع إلى بداية القرن 18 ، عندما قاد جورج بركلي نفس الحملة العدائية ضد الماديين الذين لم يسميهم في كتاباته ، و أقروا أن المادية الفلسفية الحديثة لا تعترف بمفهوم "المادة" و "الجوهر" ، و يعتقد هؤلاء الأساتذة أن ماخ قام بإنجاز عظيم في مجال المادية الحديثة ، جاهلين أنهم يتفقون مع بركلي في قوله أن "المادة لا شيء و هي جوهر لا وجود له"، متنكرين لوجود الثنائية : الجوهر و المادة ، الأشياء و الأفكار ، محاولين دحض الفلسفة المادية الماركسية بالرجوع إلى الوراء و الأخذ بمقولة "الفكرة".
و قد سبق لإنجلس أن واجه المذهب المثالي و قسم الفلاسفة إلى اتجاهين كبيرين في مؤلفه "لودفينغ فريوباخ"، و قسمهم إلى فلاسفة ماديين و فلاسفة مثاليين و حدد الفرق الكبير بينهما ، لكون الماديين يعتبرون المادة هي الأصل عكس المثاليين الذين يعتبرون الروح هي الأصل و الطبيعة الفرع ، و بين هؤلاء و أولئك يوجد أنصار هيوم و كانط الذين ينكرون إمكانية معرفة العالم أو على الأقل معرفته معرفة تامة و سماهم "اللاعرفانيين" ، و في كتابه "المادية التاريخية" يتحدث عن "اللاعرفاني الكانطي الجديد" و يقصد إنجلس هنا هيوم.
لقد اهتم إنجلس كثيرا بالقضايا ذات الصلة بالعلوم و التاريخ و تكلم كثيرا عن فظاظة المفاهيم عند علماء الطبيعيات المعاصرين و اعتبرها متحجرة ، و نعت نظراتهم بالميتافيزيقية المنافية للدياليكتيك المادي حيث يخلطون بين النسبية و الدياليكتيك ، و أكد لينين نفس الملاحظات عند ماخ الذي حاول انطلاقا من "الأحاسيس" تكوين "العناصر الفيزيائية" ، و من "العناصر نفسها ينسج كلاما فارغا بعيدا عن الدياليكتيك المادي" كما قال لينين ، و قصد ماخ بذلك الدعاية للمثالية ضد المادية ، و اعتنق الكمونيون الذين يعتبرون من المثاليين المتطرفين آراءه إذ يجدون فيها لذتهم في معارضة المادية.
و أكد لينين أن قيام ماخ على استنتاج "الأحاسيس" من "حركة المادة" مناقض تماما لمادية ديدرو الذي دحض أقوال الماديين المبتذلين الذين يدعون أن "الدماغ يفرز الأفكار" كأي عضو من أعضاء الجسم الذي يفرز مادة معينة ، و تجاهل ماخ استنتاجات ماركس و إنجلس كما تجاهل استنتاجات هيكل و فويرباخ مثله في ذلك مثل باقي الأساتذة المدرسين للفلسفة الرسمية.

و حسب منظور ماخ عن عناصر العالم ، قال لينين :

" يتلخص اكتشاف عناصر العالم (حسب ماخ)من :

1 ـ إن كل موجود يعلن إحساسا.
2 ـ إن الإحساسات تسمى عناصر.
3 ـ إن العناصر تنقسم إلى فيزيائي و نفسي ، الأخير هو ما يتوقف على أعصاب الإنسان وعموما على العضوية البشرية ، الأول لا يتوقف.
4 ـ إن صلة العناصر الفيزيائية و صلة العناصر النفسية تعلنان غير موجودتين بصورة منفردة أحدهما عن الآخر ، فهما لا توجدان إلا معا.
5 ـ إنه لا يمكن التجرد عن هذه الصلة أو تلك إلا مؤقتا .
6 ـ إن النظرية "الجديدة" تعلن خالية من "أحادية الجانب".

و علق لينين على هذا المنظور :

"لا وجود هنا بالفعل لأحادية الجانب ، و لكنه يوجد خلط ما بعده خلط بين وجهات نظر فلسفيتين متضادة . فما دمت تنطلق من الإحساسات فقط . فإنك لن تصلح بكلمة "عنصر" "أحادية الجانب" مثاليتك". لينين المادية والمذهب النقدي التجريبي ، ص:53 .

و في مؤلفه "تحليل الأحاسيس" صدق بوغدانوف أقوال ماخ جاهلا أن ما أكد عليه مناقض تماما للحقيقة ، وأكد لينين أن مثالية بوغدانوف تظهر حقا في مؤلفه هذا ، و هو يقر بأن الإحساس هو الوحيد الذي يمكن اعتباره موجودا مما يتناقض مع وجود الجوهر ، و قوله بالأحاسيس مستقلة كالقول بوجود الأفكار بدون دماغ.
و نعت لينين فلسفة بوغدانوف بالنصف"مادية تاريخيا طبيعيا" ، حيث لا يعتبر الإحساس الصلة المباشرة للإدراك مع العالم الخارجي ، مع الواقع ، من خلال "تحويل طاقة التهييج الخارجي إلى واقع الوعي" ، و هو يضع بذلك الإحساس حاجزا و ليس صلة بالعالم الخارجي و يفصل بالتالي الوعي عن الواقع ، و هو يعيد ما قاله بركلي منذ زمن بعيد ، و نجد زعماء هذا التيار بإنجلترا كارل بيرسون الذي يقر بموافقته على آراء ماخ و بفرنسا نجد دوهيم وهينري بوانكاره الفرنسيين.
و يقول بوغدانوف أنه لا يعتبر نفسه ماخيا في الفلسفة إذ أخذ من ماخ فقط عملية فصل ما هو فيزيائي عما هو نفسي و تبعيتهما للتجربة ، و يقول لينين عن قوله هذا "أنه ينسى أنه أخذ منه جوهره الخاطيء" ، معتقدا أنه باستطاعته التخلص من منطلقاته المثالية الذاتية ، و كذلك هو حال كل نقاد المذهب التجريبي حيث لا يفهم بوغدانوف أنه يشترك مع الماخيين فيما هو أساسي.

و قام لينين بدحض المذهب النقدي التجريبي ذي الأسس المثالية الذاتية الذي حاول من خلاله الماخيون العصف باستنتاجات المذهب الماركسي نحو المثالية ، خاصة منها الديالكتيك المادي الذي يريدون أن يتجاوزوه معتمدين في ذلك على استغلال العلوم الطبيعية بشكل فج.
و قد حاول ماخ و أفيناريوس الخوض في مجال المعرفة على مستوى العلوم الطبيعية من أجل إسقاط إستنتاجات التجربة في هذا المجال على مستوى النفس ، و لكن عدم قدرتهما على فهم العلاقة بين الأحاسيس و الأشياء جعلهما يتخبطان في تناقضات المثالية الذاتية ، فجهلهما بأسس المادية الدياليكتيكية الماركسية على مستوى الحركة جعلهما لا يدركان الصلة بين المادة و الفكر ، و هم بذلك يجهلان مبدأ التناقض داخل الحركة التي وضع أسسه كل من ماركس و إنجلس و طوره لينين بإعطائه لمفهوم المادة بعدا أدق و أشمل حيث يقول :

"المادة مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي " . نفس المرجع

و قد استعمل هذا المفهوم خلال نضاله في مجال المعرفة ضد الماخيين و استطاع تطوير المذهب الماركسي ، من أجل معرفة العالم معرفة علمية ضد المثالية الذاتية و اللاعرفانية ، و أوضح كيف أن "الدياليكتيك هو نظرية المعرفة الماركسية" مما ساعده في استنتاجاته حول النفس التي اعتبرها ذات البعد المادي بقوله :

"إن الأحاسيس هي صورة ذاتية عن العالم الموضوعي ".نفس المرجع.

و استطاع لينين تطوير المذهب الماركسي في مجال المعرفة بتطوير الدياليكتيك الماركسي في حربه ضد الماخيين الذين يريدون إنهاء نظرياتهم المثالية بالماركسية ، و قام بدحض المذهب النقدي التجريبي الذي شوه عبره الوضعيين مفهوم "الواقعية" الذي أصبح مفهوما مبتذلا ، مما جعل لينين يتخذ مفهوم "المادة" الذي وضعه إنجلس للتعبير عن الواقع الموضوعي في مجابهته لأعداء الديليكتيك المادي الماركسي.
و طور لينين الدياليكتيك الماركسي على مستوى المعرفة ، في ظل أوضاع روسيا القيصرية التي يسود فيها الإستبداد بارتباطها بأوربا عصر الإمبريالية التي "تراجعت فيها الديمقراطية إلى الرجعية على طول الخط" كما يقول عن ذلك ، في جميع النواحي الإقتصادية و السياسية و المعرفية حيث انتشر في أوربا المذهب النقدي التجريبي بزعامة ماخ.
و كان عدد كبير من الإشتراكيين الديمقراطيين قد انبهروا بهذا المذهب الذي رأوا فيه آخر ما يمكن أن يتوصل إليه الفكر المادي بعد ماركس ، معتبرين أن الماخية هي التي ستقوم مقام الدياليكتيك المادي الماركسي و من ضمن هؤلاء المناشفة و بعض البلاشفة ، مما وضع أمام لينين هذه المهمة الصعبة التي تتجلى في الدفاع عن الفلسفة المادية الماركسية ، و قام ببلورة المنظور الدياليكتيكي المادي الماركسي في مجال المعرفة الذي يميز الماركسية اللينينية عن غيرها من المذاهب ليعطي للدياليكتيك المادي الماركسي نفسا جديدا.
لقد حاول الماخيون محاكمة أفكار بليخانوف حسب فهمهم لمسألة الطبيعة و الإنسان ، وطرحوا مسألة الزمن و المكان و السببية في علاقتها بقول بليخانوف :"وجود العالم قبل الإنسان" ، الذي استنتج عبره أن :

ـ فلسفة كانط لا تفيد في هذا الشأن.
ـ المثالية تقر بعدم إمكانية وجود الموضوع بدون ذات.
ـ تاريخ الأرض بين وجود الأرض قبل الذات بزمن طويل ، قبل وجود المواد العضوية التي تملك درجة معينة من الوعي.
ـ التاريخ إعترف بالمادة و الشيء في ذاته.

و أكد أن فلسفة كانط المتسمة باللاعرفانية لا تملك جوابا عن إشكالية الذات و الموضوع لأنها لا تتوافق والعلم المعاصر.

يقول بليخانوف عن موضوع الطبيعة و الإنسان :

" لا موضوع بدون الذات بنظر المثالية و أن الموضوع يوجد بنظر المادية بصورة مستقلة عن الذات ومعكوسا بقدر متفاوت من الصحة في إدراكنا".

و أكد لينين أنه لا يمكن لأي مادي أن يكذب قول بليخانوف هذا لأن :

ـ المادة و الطبيعية موجودتان قبل الإنسان.
ـ المثالية الذاتية هي منطلق المذهب النقدي التجريبي من خلال مقولة أن العالم هو عبارة عن أحاسيس.

و يتم لف مقولة الأحاسيس بمجموعة من الكلمات التي يستعملها أفيناريوس و ماخ ، من أجل التغطية عن تناقضاتهما مع العلوم الطبيعية ، و استطاع المذهب الماركسي اللينيني دحض هذا المذهب وجميع المذاهب التي تصب في بحر المثالية الذاتية و السوليبسيسم.
و في نقده للمذهب النقدي التجريبي يستخلص لينين أن هذا المذهب تلازمه على طول الخط المسائل العرفانية الرجعية التامة ، باستعمال جديد للكلمات الحاملة للأخطاء القديمة للمثالية واللاعرفانية ، و لا يمكن الحديث عن الجمع بين الماركسية و المذهب النقدي التجريبي ، و هذا المذهب لا يشكل إلا مدرسة صغيرة من بين المدارس الفلسفية الصغيرة في العصر الحديث ، حيث انطلاق رواده من كانط محاولين الوصول إلى المادية ليعصف بهم نحو اللاعرفانية الهيومية والبركلية ، و عملوا على تكريس مذهب الماخية الغارق في المثالية في وحدته مع الكمونية أشد إغراقا في الرجعية.

و يقول لينين أن الماخية مرتبطة ببعض العلماء الطبيعيين المنزلقين عبر نظرية النسبية إلى المثالية خاصة في العلوم الفيزيائية ، بعد الاكتشافات العلمية العظيمة التي حطمت النظريات القديمة الكلاسيكية و التي بينت نسبية معارفنا ، مما كرس انتشار المثالية الفيزيائية على غرار المثالية الفيزيولوجية في الماضي في أوساط العلماء الطبيعيين.
و عمل هؤلاء الأساذة البورجوازيون على تكريس صراع الأحزاب الفلسفية عبر السكولاستيك العرفاني للمذهب النقدي التجريبي ، لكون الفلسفة الحديثة حزبية كالفلسفة منذ ألفي سنة مضت حيث المادية و المثالية حزبان متصارعان على طول التاريخ ، هذا الصراع يعبر عن ميول الطبقات المتناقضة و عن أيديولوجيتها ، عبر "جوهر الأمر المستور" كما قال لينين ، و دور المذهب النقدي التجريبي دور طبقي يسعى إلى خدمة "الإيمانية" ضد "المادية" عامة و المادية التاريخية على الخصوص ، و المذهب النقدي التجريبي أيديولوجية التحريفية في العصر الحديث.
ففي المجال المعرفي العام يصف لينين التحريفية بأنها "النزعة الفكرية لاشتراكية ما قبل ماركس" ، حيث يسعى الأساتذة المدرسون إلى تمرير الفكر الكانطي عبر البرامج التعليمية الرسمية ، في محاولة لإحياء الفكر المثالي زاعمين أن المادية قد تم دحضها ، و هم في محاولاتهم لمهاجمة الديالكتيك الهيكلي يحتقرون الفلسفة المادية ، و هم لا يستطيعون فهم الديالكتيك الماركسي الذي حاولوا تعويضه بالفلسفة المثالية للقرون الوسطى ، و جعلوا "الدين ليس قضية الدول بل كذلك قضية الطبقة الثورية" كما قال لينين ، في محاولة فاشلة لإدخال التعديلات على المذهب الماركسي.

3 ـ اللاعرفانية في علاقتها بالتحريفية الإنتهازية الحديثة


تعتبر مرحلة ماركس مرحلة تطوير المفهوم المادي للتاريخ و التياليكتيك المادي عبر عمله على مراجعة فلسفة هيكل ، التي اعتبرها مهمة باكتشافها للصيرورة الجدلية لكنها بقيت حبيسة "الفكرة المطلقة" التي جعلتها ذات أبعاد مثالية ، مما تطلب جعل الجدلية مادية و ذلك بإخراجها من الفكرة إلى الواقع المملموس ، و أسس الدياليكتيك الماركسي بعد إزالة صفة المثالية من جدلية هيكل منتقدا مفهوم الدولة عند هيكل ، و اعتبر "إنسان" فويرباخ إنسانا مجردا لأنه لم يعمل إلا على تغيير "الفكرة المطلقة" ب"الإنسان" دون الخروج من دائرة المثالية.
لقد قاد ماركس الصراع ضد المناهضين للديالكتيك المادي من البرودونيين و اللاساليين الذين أثارهم المذهب الماركسي محاولين تحريفه ، و وضع أسس الثورة الإشتراكية باعتبار الصراع الطبقي هو المحدد لحركة التاريخ ، وقطع الصلة بالمثالية في صراعه ضد البورجوازية التي ترى في المثالية الملاد الآمن من أجل استغلال الطبقة العاملة ، حيث لم تستطع البورجوازية التخلص من أوهام المثالية.

و يقول ماركس عن الثورة الإشتراكية في القرن 19 :

"إنها لا تستطيع أن تبدأ بنفسها قبل أن تصفي نهائيا كل خرافة و وهم حيال الماضي ، إن الثورات السابقة كانت في حاجة إلى ذكريات التاريخ لكي تخفي عن نفسها محتواها"، برومير للويس بونابرت ، دار النشر الاجتماعية الأممية باريس 1927.

و عمل لينين على تطوير الدياليكتيك الماركسي على مستوى المعرفة ، من خلال الدفاع عن الفلسفة المادية الماركسية في ظل هجوم المثالية الذاتية على المذهب الماركسي ، و بلور الدياليكتيك المادي الماركسي في مجال المعرفة مما يميز اللينينية عن غيرها من المذاهب ، و ذلك بإعطائها للدياليكتيك المادي الماركسي بعد أشمل و أدق على جميع المستويات السياسية و الإقتصادية والتنظيمية و النضالية.

لقد وجه إنجلس لمنظور كانط حول "الشيء في ذاته" نقدا صارخا و نعت الكانطية باللاعرفانية ، فبعد أن صنف الفلاسفة إلى معسكرين اثنين أحدهما مادي و الثاني مثالي أكد على وجود فلاسفة متذبذبين ، و هم يتأرجحون بين هذا المعسكر و ذاك من منطلقات لاعرفانية في عجز تام عن تحديد الموقف الصريح من المادية و المثالية ، و لا يستطيعون تحديد العلاقة بين الفكر والواقع الموضوعي.

و يقول إنجلس عنهم في كتابه "لودفيغ فورباخ و نهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية" :

"لكن هناك ، إلى جانب ذلك"(أي إلى جانب الماديين و إلى جانب المثاليين المنسجمين) "عدد من الفلاسفة الآخرين ممن يشكون في إمكانية معرفة العالم أو ، على الأقل ، معرفته معرفة كاملة ، وفي عداد هؤلاء ، نجد بين الفلاسفة الحديثين هيوم و كانط اللذين قاما بدور على جانب كبير من الأهمية في تطوير الفلسفة...".

و أكد إنجلس أن اللاعرفانية الكانطية تتجلى في كونها لا تعترف بإمكانية معرفة الواقع الموضوعي رغم التسليم بوجود "الشيء في ذاته" ، و ذلك لكونها لم تستطع التخلص من منطلقاتها المثالية الذاتية ، مما جعلها تقول بعجزنا عن معرفة المادة التي يعتبرها كانط غيبية ، بإنكاره لإمكانية معرفة الواقع الموضوعي بواسطة فكرنا ، هكذا قام كانط فقط بالتسليم بوجود "الشيء في ذاته" دون التوصل إلى تحديد أثره المادي و علاقته بالفكر.

و يطرح إنجلس مجموعة من التساؤلات التي عجزت الكانطية عن الإجابة عنها :

"... ما هي العلاقة بين أفكارنا عن العالم المحيط بنا ، و هذا العالم نفسه ؟ و هل يستطيع فكرنا أن يعرف العالم الواقعي ؟ و هل نستطيع في تصوراتنا و مفاهيمنا عن العالم الواقعي أن نكون انعكاسا صادقا عن الواقع ؟". نفس المرجع.

و حسب إنجلس فإن أكثرية الفلاسفة الكبار قد أجابوا عن هذه التساؤلات بالإيجاب ، لكن ليسوا جميعهم مؤكدين لإمكانية معرفة الواقع الموضوعي عن طريق فكرنا ، و ليس فقط اللاعرفانيين منهم بل كذلك "المثاليين الأشد انسجاما" كما يقول لينين ، و على رأسهم هيكل الذي يؤمن ب"الفكرة المطلقة" التي "وجدت في مكان ما منذ الأزل".
و جاء إرنس ماخ و أفيناريوس ليعيدا إحياء الفلسفة المثالية البركلية مرورا بلاعرفانية هيوم محاولين نقد اللاعرفانية الكانطية ، في جهل تام بمنطلقاتهما المثالية الذاتية التي جعلتهما يكرسان مبدأ اللاعرفانية الذي تتسم به فلسفة كانط.

يقول إرنست ماخ في كتابه "تحليل الإحساسات ، ص:292 " في نقده لمثالية كانط :

"بجزيل الشكر ، يجب أن أعترف أن مثاليته النقدية بالذات هي التي كانت نقطة الإنطلاق لكل تفكير النقاد . ولكني لم أستطع البقاء وفيا له . فبعد فترة وجيزة جدا عدت من جديد إلى نظرات بركلي ... توصلت إلى نظرات قريبة من نظرات هيوم ... و في الوقت الحاضر أيضا ، لا أزال أعتبر بركلي و هيوم مفكرين أكثر انسجاما من كانط".

و في هذا النص الصريح يؤكد ماخ أنه انطلق من كانط ليصل إلى بركلي عبر هيوم مدعيا أنه يطور الماركسية، و هو يطورها حقا لكن في اتجاه اللاعرفانية و المثالية في جهل تام بالدياليكتيك الماركس.

و يقول أفيناريوس عن تطهير فلسفة كانط من اللاعرفانية في كتابه "مقدمات "لنقد التجربة الخالصة":

"إن مسألة ما إذا كان يجب أن نستبعد من مضمون التجربة "مفاهيم العقل القبلية" بوصفها نافلة ، و نخلق بهذه الصورة و على الأغلب تجربة خالصة ، توضع هنا ، بقدر ما أعلم ، للمرة الأولى".

و حسب لينين فإن أفيناريوس الذي سبق له أن اعتقد أنه قام ب"تطهير الكانطية" من الإعتراف ب"الضرورة و السببية" و التسليم ب"الجوهر أي بالشيء في ذاته" ، يعتقد في هذا النص أنه طهر "التجربة" التي قام كانط ب"تطهيرها بشكل غير كاف" حتى تصبح "تجربة خالصة" و لأول مرة. وهو بذلك يجهل أن شولتسه نصير لاعرفانية هيوم و فيخته نصير بركلي قاما قبله بنقد تسليم كانط ب"القبلية أي الشيء في ذاته"، إلا أنهم جميعهم يجهلون أنهم لم يقوموا إلا بتطهير الكانطية من اللاعرفانية حتى تصبح فلسفة كانط لاعرفانية خالصة.

و يقول عنه لينين :

"و هكذا ، ضل أفيناريوس ضلالا شديدا حين توهم أنه يقوم "للمرة الأولى" "بتطهير التجربة" عند كانط من القبلية و من الشيء في ذاته . و حين توهم أنه يخلق بذلك اتجاها "جديدا" في الفلسفة. أما في الواقع ، فإنه واصل خطا قديما هو خط هيوم و بركلي و شولتسه ـ إينيزيدم و أي. غ. فيخته . لقد توهم أفيناريوس أنه "يطهر التجربة" على العموم ، أما في الواقع ، فإنه لم يفعل غير أنه طهر اللاعرفانية من الكانطية . فهو إذ ناضل ، لم يناضل ضد لاعرفانية كانط (اللاعرفانية هي إنكار للواقع الموضوعي ، المعطى لنا في الإحساس) ، بل ناضل في سبيل لاعرفانية أكثر طهارة". نفس المرجع.

و حسب لينين فإن كانط قد سلم ب"وجود الشيء في ذاته" لكن من منطلق الغيبية "حتى وإن كان مستحيلا على المعرفة و وهميا و غيبيا" كما يزعم كانط ، و هو يعترف بوجود "الضرورة والسببية" حتى و إن كانت "قبلية ، معطاة في التفكير ، و ليس في الواقع الموضوعي " كما يدعي.
و أكد لينين أن أفيناريوس قد ناضل ضد كانط من منطلق الإتجاه اليميني و ليس من الإتجاه اليساري ، فهو مثله في ذلك مثل الريبيين و المثاليين عكس الماديين المنسجمين أي الماركسيين ، ولم يستطع الوصول إلى ضبط منظور كانط الفلسفي اللاعرفاني ، الذي يتسم بمحاولة التوافق بين المادية والمثالية.

و قال لينين عن فلسفة كانط اللاعرفانية :

"أن السمة الأساسية التي تختص بها فلسفة كانط هي التوفيق بين المادية و المثالية ، والمساومة بين هذه وتلك، الجمع في نظام واحد بين اتجاهات فلسفية مختلفة ، متضادة ، فعندما يسلم كانط بأن تصوراتنا يطابقها شيء ما خارج عنا ، شيء ما في ذاته ، فإن كانط هنا مادي ، وعندما يعلن كانط أن هذا الشيء في ذاته مستحيل على المعرفة، متعال ، غيبي ، فإنه يبرز هنا كمثالي . و بما أن كانط يعترف بأن التجربة ، الإحساسات هي المصدر الوحيد لمعارفنا، فإنه يوجه فلسفته في خط المذهب الحسي ، و عبر المذهب الحسي ، و بشروط معينة ، في خط المادية . وبما أن كانط يعترف بقبلية المكان و الزمان و السببية إلخ..، فإنه يوجه فلسفته صوب المثالية". نفس المرجع.

إن التذبذب الحاصل في فكر كانط وضع الكانطية في موقف حرج بين الإتجاهين المادي والمثالي معا ، فتعرضت للنقد من طرف الفلاسفة الماديين و المثاليين على السواء ، نتيجة عدم قدرته على حسم اتجاهه الفلسفي حيث حاول الخلط بين فلسفتين متناقضتين متعارضتين ، عاشتا منذ بروز الفكر الفلسفي صراعا مرير حول سيادة تفكير أحد الإتجاهين و هما المادية و المثالية.
إن الفكر اللاعرفاني قد استمد أصوله من فلسفة بركلي المعادية للمادية مرورا بفلسفة هيوم اللاعرفانية وصولا إلى الكانطية ، و حاول ماخ و أفيناريوس ترسيخ هذا الفكر عبر نشر "المذهب النقدي التجريبي" المعادي للماركسية ، و سار أتباعهما من أساتذة التعليم الرسمي في القرن 20 على خطى هذا المذهب ضد المادية ، و حوله التحريفيون الإنتهازيون في القرن 21 إلى مرشدهم ضد الماركسية اللينينية ، عبر محاولة التوفيق بين الفكر البورجوازي و الماركسية في نضالهم ضد الماركسية اللينينية.

لقد رأينا كيف أن تذبذب كانط و عدم حسم اتجاهه الفلسفي (في اتجاه المادية أو المثالية) جعله يتعرض للنقد من اليمين و من اليسار ، من المثاليين المنسجمين و اللاعرفانيين/الهيوميون من جهة و الماديين الماركسيين من جهة ثانية ، و قام ماخ و أفيناريوس بمحاولة نقد ما في فلسفة كانط من مادية (الشيء في ذاته) لكن من منطلق اللاعرفانية ، و قام الماديون المنسجمون/الماركسيون بدحض ما في فلسفة كانط من مثالية بقولهم ب"وجود الشيء في ذاته مع إمكانية معرفته و علاقته بالظواهر".

وقال لينين عن الماديين في نقدهم لكانط :

"و أكدوا على إمكانية معرفة الشيء في ذاته و على كونه غير غيبي و على عدم وجود أي فرق بينه و بين الظاهرة ، و ضرورة استخلاص السببية ، و خلافها ، لا من قوانين الفكر القبلية ، بل من الواقع الموضوعي". المادية و المذهب النقدي التجريبي ص:228 .

فالماديون المنسجمون أي الماركسيون يقرون بإمكانية معرفة الشيء في ذاته و علاقته بالظاهرة بواسطة فكرنا ، عكس المثاليين و اللاعرفانيين العاجزيين عن تحديد العلاقة بين الفكر والواقع الموضوعي و اللذان حاربا مادية كانط.

و قال لينين عن اللاعرفانيين و المثاليين :

"فقد رأوا خطيئة كانط في تسليمه بالشيء في ذاته ، بوصفه تنازلا في صالح المادية أو"الواقعية" أو "الواقعية الساذجة"، علما بأن اللاعرفانيين نبذوا القبلية أيضا علاوة على الشيء في ذاته ، بينما طالب المثاليون بأن نستخرج بصورة منسجمة من الفكر الخالص ، لا قبلية أشكال التأمل فحسب ، بل أيضا العالم كله على العموم".نفس المرجع.

و كلا الإتجاهين (المثالي و اللاعرفاني) ينسجمان لكونهما يحاربان المادية في فكر كانط الذي عصف بالمثالية نحو المادية في نظرهما في قوله ب"الشيء في ذاته" و لو بشكله الغيبي.
و قام الماخيون/أتباع ماخ و أفيناريوس بارتكاب نفس أخطاء اللاعرفانية (الريبية) و المثالية وهم لا يعرفون أنهم يدحضون مادية كانط ، و يزعمون أنهم يطهرون الكانطية من انزلاقاتها نحو المثالية جاهلين أن الشيء في ذاته قائم خارج وعينا و أنه كما قال لينين :

"أنه غير غيبي و لا يختلف البتة مبدئيا عن الظاهرة ، و أنه يتحول إلى ظاهرة لدى كل خطوة من تطور الوعي الفردي للإنسان و من تطور الوعي الجماعي للبشرية". نفس المرجع.

و يعتقد الماخيون أن ما قام به الماديون الماركسيون اتجاه "الشيء في ذاته" إنما هو خلط بين المادية والكانطية ، و ذلك ناتج عن جهلهم التام بالدياليكتيك الماركسي الذي بدون معرفته لا يمكن محاكمة فلسفة كانط محاكمة مادية ، كما فعل الماديون المنسجمون/الماركسيون عند تناولهم ل"الشيء في ذاته" من وجهة يسارية محاولين تطهير الكانطية من معالم المثالية ، و بالتالي دحض ادعاءات أنصار المذهب النقدي التجريبي حول تطهير الماركسية وتطويرها ، و هم يجهلون أنهم انطلقوا من الكانطية مرورا بالهيومية ليصلوا إلى البركلية و أسسوا الفكر اللاعرفاني الحديث ، باعتباره أساس منطلقات التحريفية الإنتهازية الحديثة في نضالها ضد الماركسية اللينينية.
و لا بد لنا من التعرف على نقد الماديين لفلسفة كانط حتى نكون على علم بأسس منطلقات التحريفية الإنتهازية اليوم ، و حتى مادية ما قبل ماركس و إنجلس حظيت باهتمام كبير في هذا الشأن ، باعتبارها وجهت النقد للكانطية من وجهة نظر يسارية.
فقد لام فورباخ كانط على ما شاب فلسفته من مثالية و وصفها بأنها "المثالية على أساس التجربة" ، و قام بمحاكمة الكانطية باتخاذها الإحساسات أساس منطلقاتها لتحديد "الشيء في ذاته" الذي اعتبره كانط مجرد تصور وليس واقعا ، معتمدا في نقده على المقطع التالي :

يقول كانط :

"إذا اعتبرنا مواضيع إحساساتنا ظواهر بسيطة ، ـ و هكذا يجب اعتبارها ، ـ فإننا نعترف بذلك بأن الشيء في ذاته يقوم في أساس الظواهر ، رغم أننا لا نعرف كيفية بنيانه بحد ذاته ، بل نعرف فقط ظواهره أي ذلك الأسلوب الذي يؤثر به هذا المجهول في حواسنا . ومن هنا ينجم أن عقلنا ، لكونه يدرك وجود الظواهر ، يعترف كذلك بوجود الشيء في ذاته ، و عليه ، نستطيع أن نقول أن تصور جواهر تقوم في أساس الظواهر أي جواهر ليست سوى جواهر تصورية ، ليس مسموحا به وحسب ، بل ضروري أيضا".

و علق فورباخ عن قول كانط بما يلي :

"... و من هنا ينجم أن مواضيع الإحساسات ، مواضيع التجربة هي بالنسبة للعقل ظواهر فقط ، و ليست الحقيقة ... إن الجواهر التصورية ، لو ترون ، ليست مواضيع فعلية بالنسبة للعقل ! إن فلسفة كانط هي تناقض بين الذات و الموضوع ، بين الجوهر و الوجود ، بين التفكير و الكينونة . إن الجوهر هنا يخص العقل ، و الوجود يخص الحواس . إن الوجود بدون جوهر ... هو مجرد ظاهرة ، إنه أشياء حسية ، و الجوهر بدون الوجود إنما هو جواهر تصورية ، نومنات ... فيا لتناقض : فصل الحقيقة عن الواقع ، و الواقع عن الحقيقة".(Werke, II, S, 302-303).

و يقول لينين أن فورباخ لا يلوم كانط على تسليمه ب"الشيء في ذاته" بل لعدم تسليمه ب"فعليته أي بواقعيته الموضوعية" ، الذي اعتبره مجرد فكرة "جوهر تصوري" و ليس "جوهرا يملك وجودا" باعتباره موجودا فعلا في الواقع الموضوعي ، و هو يلومه على لكونه تراجع عن المادية في اتجاه اللاعرفانية و المثالية ، في اتجاه هيوم وبركلي ، و هو بذلك رجعي حسب فورباخ.
و قال لينين أن فورباخ دافع عن "المذهب الحس الموضوعي" أي عن المادية إلا أنه لم يستطع التخلص من نواقص منظوره المادي ، و عمل إنجلس و ماركس على تطهير المادية من شوائب المثالية و أسسا معا الدياليكتيك الماركسي ، الذي عمل لينين على تطويره على المستوى المعرفي عبر نقده للمذهب النقدي التجريبي ، الذي اعتمدته الماخية في حربها للمذهب الماركسي ، بدعوى شيخوخة أفكار ماركس و إنجلس و في حاجة إلى التطوير.

4 ـ المذهب الماركسي اللينيني باعتباره جوهر الدياليكتيك الماركسي


حاول الماخيون تطوير الماركسية لكن من منطلقات لاعرفانية حيث انطلاق ماخ وأفيناريوس من الكانطية مرورا بالهيومية و صولا إلى البركلية ، في محاولة منهما لوضع أسس المذهب النقدي التجريبي لمحاربة المذهب الماركسي.
لقد سبق لماركس و إنجلس أن قاما بنقد أفكار فورباخ المادية و بالتالي الفلسفة الألمانية الكلاسيكية ، و ذلك بإدخال "مقياس الواقع العملي في أساس النظرية المادية للمعرفة" كما سماها لينين.

يقول ماركس :

"إن اعتبار التفكير البشري يتطابق مع الحقيقة الملموسة (أي الموضوعية) في معزل عن الواقع العملي إنما هو سكولاستيك". ماركس ،"موضوعات عن فورباخ" 1845 .

يقول إنجلس :

"إن أفضل دحض للاعرفانية الكانطية و الهيومية ، و كذلك لشتى الشعوذات الفلسفية إنما هو الواقع العملي". إنجلس ،"لودفيغ فورباخ و نهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية" 1888 .

و أكد لينين على أهمية جدال لافارغ ضد الكانطيين و هو تلميذ إنجلس الذي انتقد كانط من اليسار انطلاقا من المشترك بين كانط و هيوم ، ليس فقط بانتقاده لمنظوره حول "الشيء في ذاته" بل كذلك على "النظرة المادية الناقصة إليه" لدى كانط ، و حاول البورجوازيون دحض مادية ماركس من منطلقات الكانطية و قال عنهم لافارغ :

"أنكروا الفلسفة الفولتيرية ، و من جديد صارت الكاثوليكية دارجة ، على الموضة ، وزخرفها شاتوبريان بالأصبغ الرومنطيقية ، و استورد سيباستيان مرسيه مثالية كانط لكي يقضي على مادية الموسوعيين التي كان روبسبيير قد أعدم دعاتها على المقصلة". بول لافارغ : "مادية ماركس و مثالية كانط"25/02/1900 بجريدة السوسياليست.

فخلال القرن 19 عمل البورجوازيون على محاولة دحض المذهب الماركسي بعد قيام الثورات البروليتارية بألمانيا ، و بروز التناقضات بين الرأسمال و العمل و انكشاف أكاذيب البورجوازية حول الحرية و الديمقراطية ، و لم تجد البورجوازية إلا فلسفة كانط للجوء إليها من أجل محاربة الماركسية وقال لافارغ عن ذلك :

"في أواخر القرن 19 الذي يسمى في التاريخ بقرن البورجوازية ، يحاول المثقفون أن يسحقوا مادية ماركس و إنجلس بواسطة فلسفة كانط . و قد بدأت هذه الحركة الرجعية في ألمانيا ـ ونحن لا نقول هذا لإهانة أصحابنا الإشتراكيين ـ التكامليين ـ الذين يودون أو ينسبون الشرف إلى مؤسس مدرستهم ، مالون ، أما في الواقع ، فإن مالون نفسه قد خرج من مدرسة هوخبرغ وبرنشتين و سائر تلامذة دوهرينغ الذين أخذوا يصلحون الماركسية في زوريخ".

لقد عملت البورجوازية بعد سيطرتها على السلطة السياسية و الإقتصادية و العسكرية على محاربة الماركسية باعتبارها مذهب البروليتاريا الثورية ، الذي بإمكانه كشف زيف ادعاءات الشعارات البورجوازية التي تم رفعها أثناء الثورة البورجوازية ، و التي سرعان ما انكشفت مع بروز الرأسمالية كنظام يسعى إلى الربح بشكل جشع عبر استغلال الطبقة العاملة ، مما دفع باحتداد التناقضات بين الرأسمال و العمل التي أسفرت عن قيام الثورات البروليتارية خلال القرن 19 ، التي ساهمت بشكل كبير في وضع أسس المذهب الماركسي ، عبر تطور الحركة العمالية الثورية التي أفرزت الفكر الماركسي خلال النصف الثاني من القرن 19 ، و الذي طوره لينين في العقديين الأولين من القرن 20 عبر نقده للرأسمالية الجديدة/الإمبريالية التي اعتبرها "أعلى مراحل تطور الرأسمالية" ، و برزت الماركسية اللينينية باعتبارها النظرية المادية لعصر الإمبريالية و الثورة البروليتارية.

لقد حقق لينين انتصارا باهرا على المذهب النقدي التجريبي الذي حاول عبره الماخيون الألمان و الروس دحض المادية الجدلية ، و أسس النظرية الماركسية اللينينية ببلورة المنظور الدياليكتيكي الماركسي في مجال المعرفة.
و حاول الماخيون دحض الماركسية عبر نقد المادية التاريخية لماركس سعيا إلى تفنيد استنتاجاته حول الإقتصاد السياسي ، التي باشر فيها نقد المنطلقات الأخلاقية في الإقتصاد السياسي عند ريكاردو ، و التي سماها "تطبيق الأخلاق على الإقتصاد السياسي" مما جعلها "غير صحيحة شكلا من الناحية الإقتصادية" ، و قال عنها إنجلس في مقدمة كتاب ماركس :"بؤس الفلسفة":

"لقد باشر ماركس دراسة الإشتراكية الفرنسية و الإقتصاد السياسي انطلاقا من العقيدة الإشتراكية ، و كان هدفه العرفاني إعطاء هذه العقيدة "تعليلا نظريا" لأجل "تأمين" قيمتها الإنطلاقية. و لقد وجد ماركس عند ريكاردو قانون القيمة ، و لكن ... استنتاجات الإشتراكيين الفرنسيين من ريكاردو لم يكن بوسعها أن ترضي ماركس لأجل "تأمين" قيمتها الإنطلاقية، الموضوعية في حالة التنوع الحياتي ، أي في حالة "عقيدة" ، لأن هذه الإستنتاجات قد دخلت كقسم في مضمون قيمتها الأولية ، بصورة "الأستياء من سرقة العمال" ، و إلخ... و قد نبذت الإستنتاجات بوصفها "غير صحيحة شكلا من الناحية الإقتصادية"، لأنها مجرد "تطبيق للأخلاق على الإقتصاد السياسي"." و لكن ما هو غير صحيح بالمعنى الإقتصادي الشكلي قد يكون صحيحا بالمعنى التاريخي العلمي . و إذا كان وعي الجماهير الأخلاقي يعلن واقعا اقتصاديا معينا غير عادل ، فإن هذا برهان على أن هذا الواقع نفسه قد ولى عهده ، و أنه ظهرت وقائع اقتصادية أخرى أصبح هذا الواقع يحكمها واقعا لا يطاق و لا يمكن إبقاؤه . و وراء الخطأ الإقتصادي الشكلي يمكن بالتالي أن يكمن المضمون الإقتصادي الحقيقي".

يقول لينين عن الماخيين و على رأسهم ف . بلي الذي تناول في كتابه "الميتافيزيقياء في الإقتصاد السياسي" ، ما جاء في القول السابق لإنجلس ، و من أجل دحض استنتاجات ماركس المادية التاريخية ، أنهم عملوا على :

ـ نعت ماركس ب"الميتافيزيقي" و غير ملم بالعرفانية و بالتالي فالماركسية "ميتافيزيقا" مثل علم الطبيعيات/الفيزيولوجيا.
ـ اعتبار الماركسية "الفرد" مقدارا لا شأن له.
ـ إعتبار نظريته "لابيولوجية" حيث لا تعرف و لا تريد أن تعرف أية "تنوعات حياتية".
ـ إعتبار نظريته حزبية.
ـ و سخروا من الحقيقة "الموضوعية".

و علق لينين على استنتاجات بلي بقوله :

"و إذا ما تبرأ أصحابنا الماخيون من بلي (و سيتبرأون منه على الأرجح) ، فإننا سنقول لهم : لا تلم المرآة إذا ... و إلخ. فإن بلي مرآة تعكس بصدق و أمان ميول المذهب النقدي التجريبي ، في حين أن تبرؤ ماخيينا يشهد فقط على نواياهم الطيبة ، و على سعيهم الإختياري السخيف للجمع بين ماركس و أفيناريوس".

لقد أسس لينين المذهب الماركسي اللينيني بعد تطويره للدياليكتيك الماركسي على مستوى المعرفة مما طور المادية الجدلية و التاريخية ، و تم نشره في أوساط العلماء الروس الذين حققوا بفضله إنجازات باهرة على مستوى البحث العلمي ، الشيء الذي أهل الإتحاد السوفييتي ليصبح قوة اقتصادية عالمية ، نتيجة تطور الصناعة و تصنيع الفلاحة وتطوير بلدان الإتحاد في ظل النظام والإقتصاد الإشتراكي.

يقول ستالين عن اللينينية :

" إن اللينينية هي ماركسية عصر الاستعمار والثورة البروليتارية. وبتعبير أدق اللينينية هي نظرية وتاكتيك الثورة البروليتارية بوجه عام، ونظرية وتاكتيك ديكتاتورية البروليتاريا بوجه خاص". كتاب أسس اللينينية.

و هي تطوير للماركسية على جميع المستويات الفلسفية و الإقتصادية و السياسية و التظيمية لهذا سماها ستالين "ماركسية عصر الإستعمار و الثورة البروليتارية" ، لكونها نتاج الحركة البروليتارية الثورية في مواجهة الإمبريالية في علاقتها بحركة التحرر الوطني العالمية بالبلدان المستعمرة ، وتعتبر تطويرا لماركسية ما قبل الثورات الإشتراكية ، تطوير في اتجاه البناء الإشتراكي و بناء المجتمعات الإشتراكية و عهد السوفيات .

يقول ستالين :

"ناضل ماركس وأنجلس في المرحلة السابقة للثورة (نعني الثورة البروليتارية) حين لم يكن الاستعمار قد تطور بعد، في مرحلة تهيئة البروليتاريين إلى الثورة، تلك المرحلة التي لم تكن الثورة البروليتارية فيها قد غدت بعدُ، ضرورة مباشرة عملية لا مناص منها. أما لينين، تلميذ ماركس وأنجلس، فقد ناضل في مرحلة الاستعمار المتطور، في مرحلة الثورة البروليتارية الآخذة في النمو، وفي وقت انتصرت فيه الثورة البروليتارية في قطر واحد فحطمت الديمقراطية البرجوازية، ودشنت عهد الديمقراطية البروليتارية، عهد السوفيات.هذا هو السبب في أن اللينينية هي تطور الماركسية إلى أمام."

فاللينينية تطوير للماركسية و ليست فكرا جامدا كما يدعي الماخيون الجدد في القرن 21 ، وقد عمل ستالين على تطبيقها و تطويرها في الإتحاد السوفييتي نظريا و ممارسة ، في ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا باعتبارها الممارسة العملية للينينية ، من خلال البناء الإشتراكي و تطوير قوانين الإقتصاد الإشتراكي و وضع الدستور الإشتراكي.
لقد عمل لينين على استكمال بناء نظرية الثورة الإشتراكية انطلاقا من دراسته للواقع الموضوعي للرأسمالية في عهد الإستعمار و في مرحلة متقدمة منه ، و ليس انطلاقا من أوضاع روسيا الخاصة حتى يمكن نعت اللينينية بالتطبيق العملي للماركسية بروسيا البلد الفقير كما يدعي التحريفيون الإنتهازيون اليوم ، و ساهم الصراع الأيديولوجي و السياسي الذي خاضه لينين ضد الماخيين الألمان والروس في ترسيخ أسس اللينينية.

و يقول ستالين :

"يقول بعضهم أن اللينينية هي تطبيق الماركسية على الظروف الخاصة بالوضع الروسي. إن في هذا التعريف جزءاً من الحقيقة، ولكنه بعيد عن أداء الحقيقة بكاملها. فقد طبق لينين الماركسية فعلاً على الواقع الروسي، وفعل ذلك ببراعة المعلم. ولكن لو أن اللينينية لم تكن غير مجرد تطبيق الماركسية على وضع روسيا الخاص، إذاً لكانت حادثاً قومياً محضاً وقومياً فقط، روسياً محضاً وروسياً فقط. بينما نحن نعلم أن اللينينية حادث أممي، له جذور في مجموع التطور الأممي، وليس حادثاً روسياً فقط. ولذا أرى أن عيب هذا التعريف هو أنه تعريف وحيد الجانب."

في المجال الإقتصادي سعى التحريفيون الإنتهازيون إلى التأثير على الجماهير بما كانوا يسمونه ب" المعطيات الجديدة في التطور الاقتصادي" ، زاعمين أن تمركز الإنتاج و إزاحة الإنتاج الكبير للإنتاج الصغير لا يظهر في الزراعة في الوقت الذي يجري ببطء في مجال التجارة و الصناعة ، واعتبروا أن الكارتيلات و التروستات تخفف من حدة أزمات الرأسمالية إلى حين زوال الأزمة تماما ، والتناحر داخل النظام الرأسمالي أخذ يقل مما يجعل نظرية الإفلاس خاطئة ، لذا وجب إدخال تعديلات على النظرية الماركسية وفق هذه المعطيات الجديدة بما في ذلك نظرية القيمة.
و واجه لينين البرينشتينيين بصرامة بدءا بالإقتصاد الذي يحاولون من خلاله تركيز الآراء البورجوازية لبوهم- بافيرك معتمدا على الوقائع و الأرقام التي تبين ضعف نظريتيهم ، حيث أن الإنتاج الضخم يتفوق على الإنتاج الصغير في جميع المستويات الزراعية و الصناعية و التجارية ، إلا أن الإنتاج البضاعي في الزراعة ضعيف بالنسبة للإنتاج الصناعي لذا لا يظهر التمركز في الزراعة بنفس الحدة كالصناعة.
فالتقدم العلمي المطرد يؤثر تأثيرا سلبيا على الإنتاج الصغير في المجتمعات الرأسمالية و كان على علم الإقتصاد الإشتراكي أن يوضح ذلك بالتحليل المادي ، و أوضح لينين أن الإنتاج الصغير لا محل له في النظام الرأسمالي ، و على الفلاح تبني النظرية البروليتارية الثورية عكس دعوة التحريفيين الإنتهازيين للفلاح بتبني وجهة نظر الملاك التي تعتبر نظرية بورجوازية.
إن ما دفع التحريفيين الإنتهازيين إلى محاولة تعديل المذهب الماركسي هو انبهارهم أمام ما حققته الصناعة من تقدم خلال السنوات الأخيرة من القرن 19 ، جازمين من أن الأزمات قد تجاوزتها الرأسمالية بذلك المستوى الطفيف من تطور وسائل الإنتاج غافلين أن وراء كل ازدهار للرأسمالية أزمة باعتبار الرأسمالية تلازمها الأزمات ، و توحيد إنتاج الكارتيلات و التروستات لم يزد إلا فوضى الإنتاج و تفاقم الأوضاع المزرية للبروليتاريا في ظل طغيان الرأسماليين ، و الرأسمالية في تطورها تسير نحو الإفلاس عبر مختلف الأزمات السياسية و الإقتصادية للوصول إلى الإنهيار التام ، ووضع الأسس العلمية للرأسمال المالي المهيمن على الرأسمالين التجاري و الصناعي في ظل الرأسمالية الإمبريالية التي سماها أعلى مراحل تطور الرأسمالية.
لقد شكل الاستعمار و الحرب في الأطروحة اللينينية عنصرين ملازمين للرأسمالية الإمبريالية ويتجلى ذلك في اعتماد دراسة لينين لعصر الإمبريالية على هذين العنصرين ، و ذلك لتحديد ملامح تطور الرأسمالية خلال العقدين الأولين من القرن 20 و الأزمات التي تلاحقها ، و التي شكلت فيها سيطرة الرأسمال المالي على التجارة العالمية عنصرا أساسيا في الاقتصاد ، و ذلك انطلاقا من الدياليكتيك الماركسي الذي يحدد تطور المجتمعات انطلاق من العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة الجديدة و علاقات الإنتاج القديمة و التي يشكل فيها الاقتصاد الأساس المادي للتطور.
و يعبر لينين أن أساس الصراع بين الإمبرياليات ليس دبلوماسيا و لكنه يرتكز إلى التنافس الاقتصادي الذي أفضى إلى الاحتكارات الكبرى و استعمار الدول الفقيرة ، و بالتالي بروز الاحتكار الاقتصادي الذي يرتكز إلى تصدير الرساميل و تقسيم العمل عالميا و أن الحرب الإمبريالية ما هي إلا نتيجة هذا الصراع ، و هكذا اكتشف أن الإمبريالية ما هي إلا أعلى مراحل تطور الرأسمالية التي لا يمكن لها أن تحقق هذا الكم الهائل من وسائل الإنتاج إلا باضطهاد الشعوب الفقيرة ، و اعتبر أن تطور وسائل الإنتاج في الدول الإمبريالية أدى إلى اضطهاد الشعوب الأخرى و تعتبر السكك الحديدية من بين هذه الوسائل التي سخرتها الإمبرياليات لاضطهاد الشعوب خاصة في ذلك العصر.

و يقول لينين:

" يبدو مد السكك الحديدية أمرا بسيطا وطبيعيا وديموقراطيا وثقافيا وتمدنيا، وهو يبدو كذلك في عيون الأساتذة البرجوازيين الذين تدفع لهم الأجور لكيما يجملوا وجه العبودية الرأسمالية، وفي عيون البرجوازيين الصغار التافهين الضيقي الأفق. أما في الواقع فإن الخيوط الرأسمالية التي تربط بألوف الشباك هذه المشاريع بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بوجه عام قد جعلت من مد السكك الحديدية أداة لاضطهاد مليار من الناس (أشباه المستعمرات إضافة إلى المستعمرات)، أي لاضطهاد أكثر من نصف سكان الأرض في البلدان التابعة، وعبيد الرأسمال الأجراء في البلدان «المتمدنة».كتاب: الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمال.

إن التطور الهائل لوسائل الإنتاج تسخره الرأسمالية الإمبريالية للظفر بمزيد من الاحتكارات عن طريق تصدير الرساميل و جلب المواد الخام من البلدان الفقيرة ، و الذي نتج عنه سيطرت المال على التجارة العالمية التي تعتبر فيها السكك الحديدية " حاصل جميع الفروع الرئيسية في الصناعة الرأسمالية" كما يقول لينين عن ذلك العصر، نظرا للدور الذي تقدمه للرأسمالية الإمبريالية عبر تسهيل الاتصال بين جميع فروع الصناعة الرأسمالية و تطور التجارة العالمية.
لقد ناضل لينين ضد تحريف المادية التاريخية لماركس من طرف الماخيين و على رأسهم بتسولدت الذي استعمل كلمة "الإستقرار" لتفسير علاقات الإنتاج ، في كتابه "مقدمة إلى فلسفة التجربة الخالصة" محاولا إرجاع كل ما يقوم به الناس أثناء الإنتاج إلى السعي وراء "الإستقرار" ، و يقول أن "التطور البشري ينطوي على هدفه" و هو يسير نحو "الحالة المستقرة الكاملة".



يقول لينين :
"إن الناس غير الملمين بالفلسفة لا يدركون كل سعة مباديء استقرار أو إقتصاد التفكير . وعلى هؤلاء يعرض بتسولدت "نظريت"ه بالتفصيل. "الشفقة هي تعبير عن حاجة طبيعية إلى حالة مستقرة" كما قال بتسولدت. كتاب المادية و المذهب النقدي التجربي.

و تناول لينين منظور بوغدانوف الذي يسميه تطوير الماركسية محاولا كشف العلاقة بين الوعي الإجتماعي و الوجود الإجتماعي ، في مقال له تحت عنوان "تطور الحياة في الطبيعة و في المجتمع" يقول فيها بوغدانوف عن ماركس :"العالم لاإجتماعي الأعطم ، أسس المادية التاريخية" ، متهكما عن خلاصات ماركس حول التطور الإجتماعي و علاقته بالأساس الإقتصادي ، و قال عنها:"الصياغة القديمة للأحادية التاريخية لم تعد ترضينا تماما مع أنها لا تزال صحيحة في أساسها".
و يرد بوغدانوف "الأشكال الإجتماعية" إلى "نوع التكييفات البيولوجية" و يرجع التطور إلى الوعي الإجتماعي و يقول أن "الوجود الإجتماعي و الوعي الإجتماعي ، بمعنى هاتين الكلمتين الدقيق ، متماثلان"، و هكذا طور الماركسية في نظره بتشويه استنتاجات ماركس التي تقول أن الوجود الإجتماعي هو الذي يحدد الوعي الإجتماعي ، و أن مصدر أفكارنا هو الصراع بين القوى المنتجة الجديدة و علاقات الإنتاج القديمة ، و ما أن يتغير الأساس الإقتصادي حتى تتغير البنية الفوقية أي أفكارنا.

و يقول لينين عن الماخيين الروس :

"إن مصيبة الماخيين الروس الذين يريدون "التوفيق" بين الماخية و الماركسية ، تتلخص على وجه الضبط في أنهم وثقوا بأساتذة الفلسفة الرجعيين فانزلقوا على منحدر . إن شتى محاولاتهم لتطوير ماركس و تكميله ترتكز على أساليب في غاية البساطة . لقد قرأوا اوستفالد ، و آمنوا باوستفالد ، وعرضوا اوستفالد ، و سموا هذا بالماركسية . قرأوا ماخ ، و آمنوا بماخ ، و عرضوا ماخ ، و سموا هذا بالماركسية ، قرأوا بوانكاره ، و آمنوا ببوانكاره ، وعرضوا بوانكاره ، و سموا هذا بالماركسية ! عندما يدور الكلام حول الفلسفة ، لا يمكن تصديق أية كلمة من أي من هؤلاء الأساتذة مع أنهم يستطيعوا تدبيج مؤلفات ذات قيمة كبيرة جدا في ميدان خاصة من الكيمياء والتاريخ و الفيزياء . لماذا ؟ لنفس السبب الذي يحمل على عدم تصديق أية كلمة من أي أستاذ الإقتصاد السياسي عندما يدور الكلام حول نظرية الإقتصاد السياسي العام ، مع أن يستطيع تدبيج مؤلفات ذات قيمة كبيرة جدا في ميدان الأبحاث العملية ، المختصة ، و ذلك لأن هذه النظرية ، شأنها شأن علم العرفان ، هي علم حزبي في المجتمع المعاصر . و ليس أساتذة علم الإقتصاد ، بوجه عام ، سوى خدم متعلمين لطبقة الرأسمالين ، وليس أساتذة الفلسفة سوى خدم متعلمين للاهوتيين". نفس المرجع.

و يسمي لينين هؤلاء الأساتذة خدم الرأسمالية ، و يوصي كل الماركسيين بمعرفة كيفية معاملة هؤلاء الخدم باستيعاب و معالجة مكتسباتهم ، و ذلك بالقطع مع كل ما تحتويه من "ميل رجعي" بتطبيق الخط الماركسي ضد جميع "خطوط القوى و الطبقات المعادية" ، ذلك ما لم يستطع الماخيون القيام به و ساروا وراء "الفلسفة الأستاذية الرجعية" .
و اعتبر لينين أن الماخيين بإنكارهم "الواقع الموضوعي المعطى لنا من خلال أحاسيسنا" إنما يغرقون في الإيمانية و ينزلقون إلى اللاعرفانية أو الذاتية ، لأن العالم مادة متحركة و يجب دراستها "إلى ما لا نهاية" إذ لا يمكن أن يكون ثمة شيء آخر خارج هذه المادة ، و العداء الرائج ضد المادية في أوربا "المتمدنة و الديمقراطية" و هو ما زال قائما حتى يومنا هذا يخفيه الأساتذة الرجعيون على الجماهير باعتبارهم خدما للرأسمالية.

و يقول لينين عن الماخية :

"أنظروا إلى موقف الماخية ، بوصفها تيارا فلسفيا ، من علم الطبيعيات ، مطلقة هذه التسمية على المادية الطبيعية التاريخية ، أي الإقتناع العفوي ، غير الواعي ، غير المتشكل ، للاواعي فلسفيا ، لدى الأغلبية الساحقة من علماء الطبيعيات بواقعية العالم الخارجي الموضوعية ، التي يعكسها وعينا . و هذا الواقع يلزم أصحابنا الماخيون الصمت حوله زيفا و نفاقا ، طامسين أو مشوشين الصلة التي لا تنفصم عراها بين المادية العفوية لدى علماء الطبيعيات و بين المادية الفلسفية بوصفها اتجاها معروفا من قديم الزمان و أكده ماركس و إنجلس مئات المرات". نفس المرجع.

و قد قارن لينين الأسس النظرية للمذهب النقدي التجريبي مع الدياليكتيك الماركسي و أجرى محاكمات فعلية للفلسفة الماخية ، و وقف على "المسائل العرفانية الرجعية التامة" التي تلازم هذا المذهب الذي استعمل كلمات سماها ب"الجديدة" ، و ارتكب عبرها الماخيون الأخطاء القديمة للمثالية واللاعرفانية حيث لا يمكن الجمع بينه و بين المذهب الماركسي ، كما سعوا للوصول إلى ذلك بطريقة لاعرفانية لجهلهم بالدياليكتيك الماركسي مدعين أنهم يطورون الماركسية.
و حدد لينين موقع المذهب النقدي التجريبي باعتباره مدرسة فلسفية صغيرة بين المدارس الفلسفية الأخرى في العهد المعاصر ، فانطلق ماخ و أفيناريوس من كانط في الإتجاه المعاكس للمادية نحو هيوم و بركلي في محاولة فاشلة لتطهير "التجربة" ، و لم يقعا غير تطهير اللاعرفانية من الكانطية و رسخا المنظور المثالي في الفلسفة الماخية في وحدة مع الكمونية الأشد إغراقا في الرجعية.
و أقر لينين أن الماخية في صلة وثيقة مع مدرسة في فرع من فروع العلوم الطبيعية الحديثة التي تضم مجموع علماء الطبيعة خاصة في الفيزياء ، الذين عجزوا أمام أزمة الفيزياء فانزلقوا عبر مفهوم النسبية نحو المثالية بحكم جهلهم بالدياليكتيك الماركسي ، و تشبثوا بالمثالية الفيزيائية شأنها شأن المثالية الفيزيولوجية فيما قبل.
و أكد لينين أن المذهب النقدي التجريبي يتسم بالسكولايستيك العرفاني الذي يحدد صراع الأحزاب في الفلسفة ، من خلال صراع الطبقات المتناقضة في المجتمعات المعاصرة عبر أيديولوجيتها المتناقضة ، و اعتبر الفلسفة الحديثة حزبية مثلها مثل الفلسفة منذ القدم باعتبار المادية نقيض المثالية وهما في صراع دائم إلى الأبد .

يقول لينين عن المثالية و اللاعرفانية :

"و ما المثالية غير شكل متفنن ، منعم للإيمانية التي تقف على كامل التأهب ، و تملك منظمات هائلة ، وتواصل التأثير أبدا و دائما في الجماهير ، مستغلة في صالحها أقل تاريخ في الفكر الفلسفي . و أن دور المذهب النقدي التجريبي ، دوره الموضوعي ، الطبقي ينحصر كليا في خدمة الإيمانية بخنوع و مذلة في نضالهم ضد المادية على العموم و ضد المادية التاريخية على الخصوص". نفس المرجع.

و استنتج لينين عبر نقده للمذهب النقدي التجريبي منظوره حول الدياليكتيك الماركسي الذي أعطاه بعدا أدق وأشمل ، بتحديد أسس "الحركة الذاتية" عبر:

ـ إن إزدواج ما هو واحد و معرفة جزأيه المتناقضين يشكلان جوهر الدياليكتيك.
ـ إن تماثل الأضداد هو إقرار بميول متناقضة ، متضادة ، ينفي بعضها بعضا في جميع ظاهرات الطبيعة والمجتمع و تفاعلاتها.
ـ إن إدراك "الحركة الذاتية" لتفاعلات العالم ، من حيث تطورها العفوي ، من حيث واقعها الحي ، ينبغي إدراكها من حيث هي وحدة من الأضداد ، و يعطينا التاريخ مفهومين أساسيين للتطور:
ـ إن التطور هو نضال الأضداد ، التطور بوصفه نقصانا و زيادة ، بوصفه تكرارا.(المفهوم الأول)
ـ إن التطور بوصفه وحدة الأضداد ( إزدواج ما هو واحد ، إلى ضدين ينفي أحدهما الآخر ، وعلاقات بين الضدين). (المفهوم الثاني)
ـ المفهوم الأول جامد ، عقيم ، جاف ، و المفهوم الثاني طافح بالنشاط و الحياة ، و هو يعطينا مفتاح "الحركة الذاتية" لكل ما هو موجود (القفزات ، الإنقطاع في الإستمرار ، تحول الشيء إلى ضده ، تدمير ما هو قديم ، ولادة ما هو جديد).
ـ إن وحدة الأضداد مشروطة ، مؤقتة ، نسبية ، و نضال الأضداد التي ينفي بعضها بعضا ، هو مطلق ، كما هو عليه التطور ، كما هو عليه الحركة.
و يقول لينين عن النسبية و المطلق :

"إن الذاتية (الريبية و السفسطائية ، إلخ) تختلف عن الدياليكتيك ، فيما تختلف عنه ، بما يلي:

ـ إن الفرق بين النسبي و المطلق هو أيضا نسبي بنظر الدياليكتيك (الموضوعي).
ـ بنظر الدياليكتيك الموضوعي يوجد مطلق في النسبي.
ـ بنظر الذاتية و السفسطائية ، فالنسبي ليس سوى نسبي ، و هو ضد المطلق." نفس المرجع.

و أكد لينين أن ماركس تناول في كتابه "رأس المال" أدق الجزئيات في الحركة داخل المجتمعات الرأسمالية ، أبسط الأشياء ، الأشياء العادية ، أكثرها شيوعا ، الأشياء الأساسية ، تبادل البضائع ، و قام بتحليلها و بين لنا "في هذه الظاهرة البسيطة جميع تناقضات المجتمع المعاصر" ، وكذلك يجب أن يكون الدياليكتيك بشكل عام في تناوله لجميع القضايا ، تناول أبسط الجمل العادية ، وأكثرها تواترا ، لكن المادية "الميتافيزيقية" تعجز عن تطبيق الدياليكتيك "على مجرى المعرفة وتطورها" كما قامت بذلك المادية التاريخية.

يقول لينين عن الدياليكتيك :

"الدياليكتيك ، بوصفه معرفة حية ، متعددة الجوانب (إذ أن الجوانب تتكاثر بلا انقطاع) ، مع ما لا حد له من الأشكال و الألوان ، بغية مجابهة الواقع ، بغية الإقتراب من الواقع (مع نهج فاسفي ينبثق من كل شكل و لون ليشكل كلا واحدا) ، ذلك هو محتوى فائق الغنى بالنسبة للمادية "الميتافيزيقية" ، التي مصيبتها الكبرى أنها غير أهل لتطبيق الدياليكتيك على Bildertheorie(نظرية الإنعكاس ) ، على مجرى المعرفة و تطورها". نفس المرجع.

و سار ستالين على نهج لينين في تناوله للدياليكتيك الماركسي و تطبيقه على طبيعة الحركة الذاتية في الحزب الشيوعي ، في التعاطي مع تناقضاته الداخلية ، في تطوره عبر تطبيق المادية التاريخية ، و من خلال دراسة و تحليل الإرث النظري الذي خلفه لينين ، و أعطى ستالين تعريفا أبعد للدياليكتيك في علاقته بالتطور التاريخي للحزب الماركسي اللينيني .

يقول ستالين :

"المادية الديالكتيكية هي النظرة العالمية للحزب الماركسي اللينيني. وهي تدعى مادية ديالكتيكية لأن نهجها للظواهر الطبيعية، أسلوبها في دراسة هذه الظواهر وتفهمها ديالكتيكي بينما تفسيرها للظواهر الطبيعية، فكرتها عن هذه الظواهر، نظريتها مادية. و المادية التاريخية هي امتداد مبادئ المادية الديالكتيكية على دراسة الحياة الاجتماعية، تطبيق مبادئ المادية الديالكتيكية على ظواهر الحياة الاجتماعية وعلى دراسة المجتمع وتاريخه". كراس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.

و أكد ستالين أقوال لينين حول الحركة الذاتية و علاقتها بالواقع الموضوعي ، في علاقتها بقوانين العالم الموضوعي ، بأحد أهم هذه القوانين أي التناقض في ظل الوحدة ، في علاقتها بالخاص والعام ، النسبي و المطلق ، الذاتي و الموضوعي.

يقول لينين :

"هكذا يجب أن تكون أيضا طريقة عرض الدياليكتيك بوجه عام ، سواء بدأ بأية جملة من أبسط الجمل المادية ، و أكثرها تواترا ، ففيها يوجد الدياليكتيك : فما هو خاص هو عام ، و هكذا تكون الأضداد (الخاص ضد العام) متماثلة : فالخاص غير موجود إلا في العلاقة التي تؤدي إلى العام . والعام غير موجود إلا في الخاص ، عبر الخاص . كل خاص له طابعه العام (بهذه الصورة أو تلك) ، و كل عام هو (جزء أو جانب أو جوهر) من الخاص . و كل عام لا يشمل جميع الأشياء الخاصة إلا على وجه التقريب . و كل خاص لا يشترك تمام الإشتراك في العام ، إلخ ... إلخ ... كل خاص يرتبط عبر آلاف الدرجات الإنتقالية بعناصر خاصة من طبيعة أخرى (أشياء ، ظاهرات ، تفاعلات) ، إلخ .. حتى هنا توجد عناصر و أجنة مفهوم الضرورة ، عناصر و أجنة العلاقة الموضوعية في الطبيعة إلخ ، فالعرضي و الضروري ، و الظاهرة و الجوهر ، موجودة حتى هنا ..."كتاب المادية و المذهب النقدي ا لتجريبي.

و اعتبر ستالين أنه لا يمكن تناول الظواهر بمعزل عن الواقع الموضوعي ، و يمكن فهم هذه الظاهرة عندما نأخذها بذاتها ، فهي في ترابط مع غيرها من الظواهر المحيط بها ، مع الظروف المحيطة بها.

و يقول ستالين :

" على العكس من الميتافيزيقا، لا يعتبر الديالكتيك الطبيعة تراكما عرضيا من الأشياء، أوالظواهر، لا ترتبط أحداها بالأخرى، أو منعزلة ومستقلة إحداها عن الأخرى، بل يعتبرها كيانا كليا مرتبطا ارتباطا لا ينفصم ، تكون فيه الأشياء والظواهر مرتبطة ارتباطا عضويا وتعتمد إحداها على الأخرى وتقرر إحداها الأخرى. وعليه فإن الأسلوب الديالكتيكي يعتبر أنه لا يمكن فهم أية ظاهرة طبيعية إذا أخذت بذاتها، منعزلة عن الظواهر المحيطة بها، إلى حد أن أية ظاهرة في أي مجال من الطبيعة قد تصبح عديمة المعنى لنا إذا لم تدرس بالترابط مع الظروف المحيطة بها، بل بالانفصال عنها، و إنه على العكس من ذلك يمكن تفهم أية ظاهرة وتوضيحها إذا درست في ارتباطها الذي لا تنفصم عراه مع الظواهر المحيطة بها، كظاهرة تقررها الظروف والظواهر المحيطة بها."نفس المرجع.

و كما أن الظواهر غير مستقلة عن بعضها البعض ، فإنه لا بد من اعتبار حركتها و تغيرها وتطورها ، في نشوئها و زوالها بارتباطها مع تناقضاتها و علاقاتها ، و تناقض الأضداد في صراعها و نضالها من أجل نفي بعضها لبعض ، و تناول ستالين مفهوم التطور الذي أعطاه لينين بعدا أدق "التطور هو نضال الأضداد ... التطور بوصفه وحدة الأضداد" ، و هو ليس عملية بسيطة باعتباره يجري في ظل الحركة.

يقول ستالين :

" على العكس من الميتافيزيقا، لا يعتبر الديالكتيك عملية التطور على أنها عملية نمو بسيطة، حيث لا تتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية، بل على أنها تطور يجتاز من تحولات كمية تافهة غير محسوسة إلى تحولات أساسية مكشوفة، إلى تحولات كيفية، يعتبرها تطورا لا تحدث التغيرات الكيفيه فيه بصورة تدريجية، بل بصورة سريعة ومفاجئة، تتخذ شكل طفرة من حالة إلى حالة أخرى، لا تحدث بصورة عرضية بل نتيجة طبيعية لتراكم تغيرات كمية غير محسوسة وتدريجية. وعليه فإن الأسلوب الديالكتيكي يعتبر أن عملية التطور يجب تفهمها ليس كحركة في دائرة، ليس كتكرار بسيط لما كان قد حدث فعلا، بل كحركة إلى الأمام و إلى الأعلى، كتحول من حالة كيفية قديمة إلى حالة كيفية جديدة، كتطور من البسيط إلى المركب، من الأدنى إلى الأعلى." نفس المرجع.

و الدياليكتيك الماركسي هو نتاج الحركة المعرفية للمادية الجدلية و التاريخية في صراعهما مع المادية الميتافيزيقية ، في نظرتها الذاتية للوقائع التاريخية باعتبارها نتاج الفكر ، مستقلة عن الواقع الموضوعي ، باعتبار الظواهر مستقلة عن الجوهر ، عكس الدياليكتيك الماركسي الذي ينطلق من المادة باعتبارها الواقع الموضوعي للوصول إلى الفكر ، و أن قياس المعرفة لا يكمن إلا عبر العلاقة الجدلية بين الفكر و الواقع الموضوعي ، و معرفة قوانين التطور الطبيعي و الإجتماعي أمر ممكن التوصل إليه ، كما يمكن تطويع هذه القوانين و تسخيرها في سبيل تطور الأنظمة الإجتماعية.
يقول ستالين :

" ثم، إذا كان العالم قابلا للمعرفة وكانت معرفتنا لقوانين تطور الطبيعة معرفة موثوقة لها صحة الحقيقة الموضوعية، ينجم عن هذا أن الحياة الاجتماعية، تطور المجتمع، هو الأخر قابل للمعرفة وأن المعلومات العلمية بخصوص قوانين تطور المجتمع معلومات موثوقة لها صحة الحقائق الموضوعية. وعليه يمكن أن يصبح علم تاريخ المجتمع، رغم تعقد ظواهر الحياة الاجتماعية، علما دقيقا لنقل مثل علم الأحياء، علما قادرا على الاستفادة من قوانين تطور المجتمع للأغراض العملية. لذا على حزب البروليتاريا ألا يتبع في نشاطاته العملية الحوافز العرضية، بل يتبع قوانين تطور المجتمع وبالاستدلال العملي من هذه القوانين." نفس المرجع.

و المادية التاريخية تستند إلى العلاقة بين الوجود الإجتماعي و الوعي الإجتماعي ، بين الواقع الموضوعي والإدراك ، باعتبار أفكارنا و تصوراتنا انعكاسا للواقع الموضوعي عبر إحساساتنا ، التي يمكن أن تعكس الوجود الإجتماعي في وعينا بشكل يقترب من الحقيقة ، إذا كان هناك وجود للوعي ، و البحث عن الحقيقة لا يتم عبر الأفكار و التصورات السياسية و الأيديولوجية ، إنما يكون انطلاقا من الوجود الإجتماعي و معرفة هذا الوجود بواسطة الدياليكتيك.

يقول ستالين :

" وعليه، فان مصدر تكوين حياة المجتمع الروحية، أصل الآراء الاجتماعية، النظريات الاجتماعية، الآراء السياسية والمؤسسات السياسية يجب ألا نبحث عنها في الآراء أو النظريات أو وجهات نظر المؤسسات السياسية ذاتها، بل في ظروف الحياة المادية للمجتمع، في الوجود الاجتماعي الذي تشكل الآراء والنظريات ووجهات النظر الخ.. انعكاسا لها... وعليه، لكي لا يخطئ حزب البروليتاريا في سياسته، لكي لا يجد حزب البروليتاريا نفسه في وضع الحالم التائه، ألا يؤسس نشاطاته على "مبادئ العقل البشري" المجردة، بل على الظروف الحقيقية لحياة المجتمع المادية باعتبارها المقررة الحقيقية لتطور الحياة المادية للمجتمع."نفس المرجع.

و هذا لا يعني عدم أهمية الأفكار في التطور الإجتماعي ، فالعلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة لها أهمية قصوى في حركة المجتمع.

و يقول لينين : "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية". كتاب ما العمل ؟

و أكد ستالين أن مصادر الأفكار و النظريات الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية و الحقوقية والفلسفية والفنية و غيرها ، إنما يكمن في شروط الحياة المادية للمجتمع / شروط الوجود الإجتماعي. و تعتبر الأفكار والنظريات انعكاسا لشروط الحياة المادية للمجتمعات البشرية و هي تمارس بدورها تأثيرها على تطور شروط الحياة المادية للمجتمعات البشرية/الوجود الإجتماعي والقاعدة الإقتصادية للمجتمع.

يقول ماركس :

"إن النظرية تصبح قوة مادية عندما تتغلغل في الجماهير".نقد الفلسفة الهكلية.

و للنظرية دور فعال في تحريك التاريخ عبر الصراع الطبقي ، عندما تكون هذه النظرية في مستوى المهام المطروحة على قوى التغيير الإجتماعي ، و حينما يتم بلورتها نضاليا و تنظيميا في أوساط الجماهير.

يقول ستالين :

"إن الآراء والنظريات الجديدة لا تنشأ إلا بعد أن يكون تطور حياة المجتمع المادية قد وضع مهام جديدة أمام المجتمع. إلا أنها ما أن تنشأ إلا وتصبح أشد القوى التي تسهل تنفيذ المهام الجديدة التي خلقها تطور حياة المجتمع المادية، قوة تسهل تقدم المجتمع. هنا بالضبط تظهر نفسها الأهمية الهائلة لتنظيم وتحريك وتحويل الآراء والنظريات الجديدة ووجهات النظر الجديدة والمؤسسات السياسية الجديدة. إن الآراء والنظريات الجديدة تنشأ بالضبط لأنها ضرورية للمجتمع، لأن من المستحيل تنفيذ المهام الملحة لتطور حياة المجتمع المادية بدون نشاطها التنظيمي والتحريكي والتحويلي. ولدى نشوء الآراء الإجتماعية الجديدة عن المهام الجديدة التي يتطلبها تطور حياة المجتمع المادية، فإنها تشق طريقها وتصبح ملكا للجماهير، تحركهم وتنظمهم ضد قوى المجتمع المحتضرة، وبهذا تسهل إسقاط هذه القوى التي تعيق تطور حياة المجتمع المادية." نفس المرجع.

و على الحزب البروليتاري البحث عن القوة الرئيسية في تطور المجتمع ، ذلك ما يمكن أن يحدده عبر تحريكه للصراع الطبقي ، باعتبار هذا الأخير المحرك الأساسي للتاريخ ، و هو يكمن في التناقض بين القوى المنتجة و علاقات الإنتاج.

يقول ستالين :

"ولهذا فإن مفتاح دراسة قوانين تاريخ المجتمع يجب ألا نبحث عنه في أدمغة الناس، في نظرات و آراء المجتمع، بل في أسلوب الإنتاج الذي مارسه المجتمع في أية فترة تاريخية، علينا أن نبحث عنه في الحياة الاقتصادية للمجتمع. و لهذا فإن المهمة الرئيسة لعلم التاريخ هي دراسة وكشف قوانين الإنتاج، قوانين تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، قوانين تطور المجتمع الإقتصادي. ولهذا إذا أراد حزب البروليتاريا أن يكون حزبا حقيقيا، عليه فوق كل شيء أن يتوفر على معرفة قوانين تطور الإنتاج، قوانين تطور المجتمع الاقتصادي."نفس المرجع.

إن الأساس الإقتصادي ذو أهمية قصوى في التحولات المعرفية فكلما طرأ عليه تغيير إلا وتغيرت المعرفة التي تلازمه ، و لا يمكن البحث عن جذور حدث فكري معين و عن مصادره الإجتماعية بالاكتفاء بمستوى تطور القوى المنتجة ، بل يتم ذلك بالمعرفة الكاملة للنظام الإقتصادي للمجتمع ككل ، و ذلك بالبحث عن التوافق أو عدم التوافق بين القوى المنتجة و علاقات الإنتاج ، ويجب البحث عن مصادر الأفكار الجديدة في الصراع بين القوى المنتجة الجديدة و علاقات الإنتاج القديمة ولهذا :

ـ فالأفكار التقدمية مصدرها القوى المنتجة الجديدة في صراعها مع علاقات الإنتاج القديمة .
ـ التناقض بين علاقات الإنتاج في النظام الإقتصادي السائد و القوى المنتجة الجديدة هو مصدر النزاعات الإجتماعية و تنامي الصراع الطبقي و بالتالي مصدر الثورات الإجتماعية.

لقد عبد لينين الطريق للماركسيين اللينينين بتطويره للدياليكتيك الماركسي على مستوى المعرفة برفعه إلى مستوى أعلى ، و سار ستالين في نهجه بتطبيق خلاصاته حول الدياليكتيك الماركسي على مستوى تطوير الحزب الماركسي اللينيني و قيادته للثورة الإشتراكية ، و استفاد ماو من أعمال ستالين حول الدياليكتيك و أسس اللينينية ، وأكد على ضرورة إخراج مسألة الدياليكتيك الماركسي من إطاره الفلسفي ليصبح أداة للتحليل في متناول الجماهير الشعبية.

يقول ماو :

" برأيي يجب أن يبتعد الجدل عن حلقة الفلاسفة ليتجه نحو أوسع الجماهير الشعبية ." ماو ،
المنهج الجدلي لتثبيت وحدة الحزب. النسخة الإليكترونية ، ترجمة : أمين الخطابي.

و عمل ماو على تيسير الدياليكتيك الماركسي حتى يصبح في متناول الجماهير الشعبية التي لا تحمل ثقافة عالية ، محاولا ربط خلاصاته بالثقافات الشعبية الصينية التي يتداولها أوسع الجماهير الشعبية ، من أجل بلورة الدياليكتيك الماركسي في الحياة اليومية للطبقة العاملة و الفلاحين ، خاصة داخل الحزب الشيوعي الصيني الذي يجب أن ينفتح على أوسع الجماهير.

يقول ماو :

"من الضروري الدخول في حملة إعلامية واسعة النطاق حول مفهوم وحدة المتناقضات وحول الجدل."نفس المرجع.

لكن بعض الرفاق الماركسيين اللينينيين لا يدركون كنه أعمال ماو و علاقتها بالمستوى الأعلى للدياليكتيك الماركسي عند لينين ، و هو هذه الصيغة الجماهيرية لممارسة الدياليكتيك الماركسي التي يسعى إليها ماو ، و هؤلاء يريدون تحميل أعمال ماو أكثر مما هي عليه ، و بذلك يعملون على قلب الدياليكتيك الماركسي ، فهم لم يفهموا مقولته التالية حول الحزب التي استنتجها من أعمال لينين "في مسألة الدياليكتيك".

يقول ماو :

" الواحد ينقسم إلى اثنين إنها هنا ظاهرة كونية و هذا هو الديالكتيك." نفس المرجع.

إن مقولة ماو هذه هي من صلب خلاصات لينين حول الدياليكتيك الماركسي ، و قد سبق لماو أن استشهد بهذه الخلاصات في أعماله حول فهم العالم ، باعتبار الدياليكتيك الماركسي أداة لضبط قوانين الطبيعة و المجتمع.

يقول ماو :

" خلال تاريخ المعرفة البشريَّة كله كانت هُناك وجهتا نظر حول قوانين تطوُّر العالم، هما وجهة النَّظر الميتافيزيقيّة و وجهة النَّظر الدِّيالكتيكيّة اللَّتان تُشكلان نظرتين متضادتين إلى العالم. ويقول لينين: "إن وجهتي النَّظر الأساسيّتين (أو الممكنتين؟ أو المُشاهدتين تاريخياً؟) عن التطوُّر (الارتقاء) هما: التطوُّر كنقصان وازدياد، كتكرار؛ والتطوُّر كوحدة الضدَّين (انقسام الواحد إلى ضدَّين متعارضين تربط بينهما علاقة متبادلة)". إن ما يعنيه لينين هنا هو هاتان النَّظرتان المُختلفتان إلى العالم."ماو ، نظرات إلى العالم.

و كان هاجس ماو مثله في ذلك مثل ستالين ، هو الحركة داخل الحزب الماركسي اللينيني الذي يعتبر أداة لتنظيم البروليتاريا و حلفائها و بالتالي تنظيم الجماهير الشعبية و قيادة الثورة ، من خلال ضبط التناقضات داخل الحزب التي تلعب دورها في تطوير حركة الحزب في علاقاتها بالتناقضات في الواقع الموضوعي ، فتناقضات الحزب ما هي إلا نتاج صراع التناقضات الموضوعية في المجتمع ، لذا وجب على الحزب أن يطور أيديولوجيته وفق تطور التناقضات داخل المجتمع ، على اعتبار أن الوجود الإجتماعي هو الذي يحدد الوعي الإجتماعي كما قال ماركس.

يقول ماو :

"وينبغي النَّظر إلى كل اختلاف في مفاهيم الإنسان على أنه انعكاس لتناقض موضوعيّ. إن التَّناقضات الموضوعيّة تنعكس في التَّفكير الذاتي، فتشكل حركة التَّناقض في المفاهيم، وتدفع التَّفكير نحو التطوُّر، وتحل دون انقطاع المشاكل التي تقوم في فكر الإنسان. إن تضاد الأفكار المختلفة والصِّراع بينها في صفوف الحزب ينشأ على الدَّوام، وهو انعكاس داخل الحزب للتناقضات بين القديم والجديد في المجتمع. ولا شك أن حياة الحزب ستتوقف إذا خلا من التَّناقضات ومن الصِّراع الأيديولوجيّ من أجل حلّ هذه التَّناقضات."نفس المرجع السابق.

لقد حدد لينين صراع الأضداد في ظل الوحدة و دورها في تطور الحركة الذاتية في علاقاتها بالحركة الموضوعية ، و تجليات الدياليكتيك في الطبيعة و المجتمع تتضح في الأشياء البسيطة كما تتجلى في الأشياء المعقدة ، و مهمة الماركسيين اللينينيين هي تطبيق الدياليكتيك الماركسي على أوسع نطاق من البسيط إلى المعقد ، في الحياة الخاصة و العامة ، في ممارساتنا اليومية الشخصية والحزبية ، في الطبيعة و المجتمع ، لضبط أسس التطور داخل الحزب في علاقته بالمجتمع.

يقول ماو :

"ولقد أشار لينين أن ماركس قد قدَّم في كتابه "رأس المال" تحليلاً نموذجياً لحركة التَّناقض التي تجري خلال عمليَّة تطوُّر الأشياء من البداية حتى النِّهاية. وهذه هي الطَّريقة التي ينبغي أن تُطبَّق في دراسة عمليَّة تطوُّر كل شيء. ولقد طبقها لينين نفسه أيضاً بصورة صحيحة والتزم بها في جميع كتاباته. "إن أول ما حلله ماركس، في كتابه "رأس المال"، هو أبسط علاقة في المجتمع البرجوازيّ (السلعي)، علاقة اعتيادية أساسيّة مألوفة عادية أكثر من غيرها، علاقة تحدث مليارات المرات، ألا وهي تبادل السلع، وفي هذه الظاهرة البسيطة جداً (في هذه "الخلية" للمجتمع البرجوازيّ)، كشف التَّحليل جميع تناقضات (أو بذور جميع تناقضات) المجتمع الحديث. وإن العرض اللاحق يبين لنا تطوُّر (النمو والحركة على حدٍّ سواء) هذه التَّناقضات وهذا المجتمع في المجموع العام لأجزائه المختلفة، منذ بدايته حتى نهايته." يستطرد لينين قائلاً: "وهكذا ينبغي أن يكون طريقة العرض (والدِّراسة) للديالكتيك بصورة عامَّة." وينبغي للشيوعيين الصِّينيين أن يتقنوا هذه الطَّريقة، وعندئذ فقط يستطيعون تحليل تاريخ الثَّورة الصِّينية وظروفها الراهنة تحليلاً صحيحاً، وتحديد آفاقها في الوقت نفسه."نفس المرجع السابق.

لقد قسم لينين المراحل التاريخية لتطور المذهب الماركسي إلى ثلاثة مراحل أساسية منذ صدور البيان الشيوعي و هي :

1 ـ مرحلة الثورات الممتدة ما بين 1848 و 1871 ، و في بداية هذه المرحلة لم يكن مذهب ماركس سوى فرعا من فروع التيارات الإشتراكية ، و في أواخر هذه المرحلة مرحلة العواصف و الثورات ماتت إشتراكية ما قبل ماركس بميلاد الأممية الأولى 1864ـ1872 و الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني .

2 ـ المرحلة ذات الطابع "السلمي" الممتدة ما بين 1872 و 1905 و التي تشكلت فيها الأحزاب الإشتراكية ذات البعد البروليتاري و التنظيمات الموازية لها في كل مكان في الغرب ، حيث انتهى الغرب من الثورة البورجوازية و يتم تحضير الشرق لهذه الثورة ، و عرفت هذه المرحلة انتصارا ساحقا لمذهب ماركس مما دفع الليبرالية إلى أن تعلن حربها ضد مذهبه تحت أقنعة الإنتهازية الإشتراكية ، و اكتسبت أنصارها في صفوف البرلمانيين الإشتراكيين والموظفين و في الحركة العمالية و المثقفين .

3 ـ مرحلة الثورات الشرقية فبعد ثورة 1905 بروسيا قامت الثورة التركية فالإيرانية و الصينية قبل أن ينتهي الإنتهازيون من التشدق ب"السلام الإجتماعي" و "الديمقراطية" ، لتبدأ مرحلة العواصف و "تأثيرها بالإتجاه المعاكس" في أوربا .

و عمل على تطوير المذهب الماركسي من خلال دراسته لهذه المراحل التاريخية في علاقتها بتطور الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية و بزوغ عصر الثورات الإشتراكية.


الفصل الثاني

الدياليكتيك الماركسي على المستوى التنظيمي ـ في العلاقة بين الحزب و الحرب ـ


1 ـ في التناقض بين الإصلاحية و الثورة

عمل لينين على فضح مزاعم التحريفية الإنتهازية حول تفوق المفاهيم البورجوازية على التصورات الماركسية اللينينية ، و اتخذ التحريفيون الإنتهازيون هذه المفاهيم لشن حربهم ضد النضال الطبقي الذي حاولوا تعويضه بممارسة "الحرية السياسية" و "الديمقراطية" و "الإقتراع العام"... ونفوا صفة السيطرة الطبقية على الدولة، و جعلوا من البورجوازية و الإشتراكية الإصلاحية حلفاء ضد الرجعية ما دامت الديمقراطية تتيح المجال لإرادة الأغلبية حسب زعمهم ، وهم في دعايتهم لمفاهيم البورجوازية ينسون أن هذه المفاهيم معروفة منذ أمد طويل و لا يمكن للبرلمانية البورجوازية أن تقضي على الطبقات.

يقول لينين :

"إن المسأل الأساسية في انتقاد الإمبريالية هي مسائل ما إذا كان في الإمكان تغيير أسس الإمبريالية بالطرق الإصلاحية، ما إذا كان ينبغي السير إلى الأمام في اتجاه زيادة حدة التناقضات التي تنشأ عنها وتعمقها، أم إلى الوراء ، في اتجاه ثلم حدتها. ولما كانت خواص الإمبريالية السياسية هي الرجعية على طول الخط واشتداد الاضطهاد القومي بسبب ظلم الطغمة المالية وإزاحة المزاحمة الحرة، فإن الإمبريالية أخذت تواجهها المعارضة الديموقراطية البرجوازية الصغيرة في جميع البلدان الإمبريالية على وجه التقريب منذ بداية القرن العشرين. أمّا تخلي كاوتسكي وتيار الكاوتسكية العالمي الواسع عن الماركسية فيتلخص بالضبط في كون كاوتسكي لم يحاول ولم يستطع الصمود أمام هذه المعارضة الاصلاحية البرجوازية الصغيرة، الرجعية من حيث أساسها الإقتصادي، وليس هذا وحسب، بل، بالعكس، اندمج فيها عمليا."كتاب : الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية".

و التحريفيون الإنتهازيون يعتقدون أن الطبقات ستزول عندما يتمتع "المواطنون" ب"حق التصويت" وب"حق المشاركة في تسيير شؤون الدولة" ، و تاريخ الثورات الأوربية خلال النصف الأخير من القرن 19 والثورة الروسية في بداية القرن 20 يكذب أقوالهم هذه ، و أن "المساهمة في تنظيم جزء من الجماهير في ظل البرلمانات البورجوازية في الجمهوريات الديمقراطية البورجوازية لا يزيل الأزمات و الثورات السياسية في المجتمعات الرأسمالية" كما قال لينين.
و أكد لينين أن النزعة التحريفية ظاهرة عالمية تستقي جذورها الطبقية من المجتمع المعاصر الذي تسود فيه الرأسمالية بكونها نظاما تناحريا يحتوي على الطبقة الوسطى ، فإلى جانب الطبقة البروليتارية توجد مختلف فئات البورجوازية الصغرى خاصة صغار أرباب العمل التي تعتبر عماد الإنتاج الصغير الذي انبثقت منه الرأسمالية و لا زالت تنبثق منه إلى يومنا هذا ، و الرأسمالية تعمل على خلق فئات جديدة من البورجوازية الصغرى تعتمد عليها لتجديد نفسها و التي ينتظرها حتمنا العصف بها إلى صفوف البروليتاريا عندما تشتد أزمتها ، و هذه الفئات تكون قائمة في أطوار الثورة البروليتارية حيث لا يمكن تحويل غالبية السكان إلى بروليتاريا لكي تتحقق الثورة ، "إنما ورد على مستوى هذه الأفكار هو حصر الخلافات التكتيكية مع التحريفيين الإنتهازيين على مستوى الحركة العمالية من أجل تحديد التكتيك المناسب و التحالفات المناسبة" كما يقول لينين.

لهذا نادى لينين إلى التحالف بين البروليتاريا و الفلاحين الصغار و الفقراء من أجل إنجاز الثورة الديمقراطية البروليتارية.

لقد صاغ لينين نظرية الحزب الثوري ببلورة المفهوم الثوري للحزب في كتابه "ما العمل ؟" وأسس الحزب البلشفي الثوري الذي قاد الثورة الديمقراطية البروليتارية في أكتوبر 1917 ، و قاد نضالا مريرا ضد التحريفية الإنتهازية في الأممية الثانية وداخل الحزب الإشتراكي الديمقراطي الروسي ، و استفاد كثيرا من الثورة الأولى بروسيا في 1905 لترسيخ نظرية الحزب الثوري بعد انقسام الحزب الإشتراكي الديمقراطي الروسي إلى بلاشفة ومناشفة ، حيث تراجعت جميع الأحزاب عن النضال الثوري بعد هزيمة الثورة إلا الحزب البلشفي الذي صمد في وجه قمع القيصرية للمناضلين الثوريين ، في الوقت الذي ساد فيه التراجع عن المباديء الثورية داخل جميع الأحزاب.
لقد شكلت هذه الفترة لحظة الفصل بين الأزمة الفكرية للبورجوازية الصغيرة المثقفة التي تقودها التحريفية الإنتهازية و النضال الثوري البروليتاري بقيادة البلاشفة ، و ككل مرحلة ما بعد أزمة ثورة يعيش الفكر الذي ينبثق عن هذه الأزمة إنحطاطا صارخا إلا الفكر الثوري.

يقول لينين :

"و محل السياسة حل الانحطاط و التفسخ و الانشقاق و التشويش و الارتداد و الخلاعة ، واشتد الجنوح نحو المثالية الفلسفية ، و غدا التصوف ستارا للنزعات المعادية للثورة ، بيد أن الهزيمة الكبيرة بالذات تعطي في الوقت نفسه الأحزاب الثورية و الطبقة الثورية درسا واقعيا من أنفع الدروس ، درس الدياليكتيك التاريخي ، درس فهم النضال السياسي و الحذق في فن خوضه . إن الصديق وقت الضيق . و الجيوش المهزومة تتعلم دائما بهمة واجتهاد". كتاب : المادية و المذهب النقدي التجريبي.

لقد تعلم لينين دروسا عظيمة في فشل هذه الثورة و استخلص منها عبرا عظيمة من أجل البناء الحقيقي للحزب الثوري و رسخ أسسه النظرية ، و ذلك من خلال العلاقة الجدلية بين السرية والعلنية ، بين العمل الثوري للمحترفين الثوريين و العمل الجماهيري للمنظمات العمالية ، و كانت نتائج هذه الثورة من جهة أخرى عظيمة حيث أرغمت القيصرية على الاستعجال بالقضاء على جل مظاهر ما قبل الرأسمالية ، مما فرض البناء البورجوازي للدولة القيصرية الشيء الذي ساهم في إبراز الصراع الطبقي بشكل واضح ، و أول درس في الحرب مع البورجوازية استخلصه لينين هو كيف تعلمت البروليتاريا قبل الثورة كيفية الهجوم و تعلمت بعد فشل الثورة كيفية التراجع الصحيح.

يقول لينين :

" إنه يستحيل الانتصار بدون تعلم علم الهجوم الصحيح و التراجع الصحيح ." كتاب : ضد الجمود العقائدي والإنعزالية في الحركة العمالية.

و كان الحزب البولشفي هو الوحيد الذي استطاع الخروج من هزيمة الثورة قويا عكس الأحزاب التي تقودها التحريفية الإنتهازية ، و انتصر البلاشفة على المناشفة الذين استغلتهم القيصرية ضد الثورة منذ 1905 كعملاء البورجوازية داخل الحركة العمالية ، و كان انتصار البولشفية نتيجة تاكتيك استعمال فن العلاقة الجدلية بين السرية والعلنية و استطاع البلاشفة احتلال جميع المقاعد العمالية بالدوما الرجعية.
و استفاد لينين من حوادث "لينا" التي تم فيها إطلاق النار على العمال المضربين في مناجم الذهب ، التي نتج عنها التضامن العمالي مما أسفر عن المظاهرات في الشوارع و الإضرابات والاجتماعات المنظمة في جميع أنحاء روسيا.
و قاد لينين نضالا مريرا ضد التحريفيين الإنتهازيين داخل الأممية الثانية خاصة أثناء الحرب الأمبريالية الأولى التي كشفت زيف ادعاءاتهم التي يقودها كاوتسكي ، و ذلك بالدعاية للحرب باسم الدفاع عن الوطن في الوقت الذي يناضل فيه البرلمانيون البلاشفة بالدوما ضد الحرب مما دفع النظام القيصري إلى نفيهم إلى سيبيريا.
و ناضل لينين ضد المناشف الذين اتخذوا الكولاك/الملاكين العقاريين الكبار حلفاء البروليتاريا ضد الرأسماليين و دافع عن التحالف البروليتاري مع الفلاحين الصغار و الفقراء و البورجوازية الصغرى الثورية.
و كان للحزب البلشفي دور هام في بلورة مفهوم النضال الثوري بالحد بين النضال الإقتصادي و النضال السياسي ، بالحد بين المهام الثورية و النضال الجماهيري الذي يقوم به المناضلون الثوريون المحترفون.

يقول لينين :

" ينبغي لمنظمة الثوريين أن تضم بالدرجة الأولى وبصورة رئيسية أناسا يكون النشاط الثوري مهنتهم (ولذلك أتحدث عن منظمة الثوريين، وأنا أعني الثوريين-الاشتراكيين-الديموقراطيين). وحيال هذه الصفة المشتركة بين أعضاء مثل هذه المنظمة ينبغي أن يمحى بصورة تامة كل فرق بين العمال والمثقفين فضلا عن الفروق بين مهن هؤلاء وأولئك على اختلافها. ينبغي لهذه المنظمة بالضرورة أن لا تكون واسعة جدا، وأن تكون على أكثر ما يمكن من السرية". كتاب : ما العمل ؟.

و ركز لينين في كتابه "بم نبأ ؟ " بأهمية العمل في الوقت نفسه من جميع الجوانب لبناء المنظمة التي يحتاجها الماركسيون اللينينيون ، و لن يتم ذلك إلا ب"الإنفصال التام مع الإقتصاديين" و أن الممارسة الثورية تتطلب منظمة المحترفين الثوريين الذين تكون مهمتهم الأولى هي الممارسة السياسية في إطار منظمة ثورية ، و قد أجاب عن هذا السؤال في كتابه ما العمل ؟ الذي تناول فيه مسألة حرية النقد باعتبارها الأسلوب الأمثل في متناول قضايا الإشتراكية ـ الديمقراطية ، هذا الأسلوب الذي كثر الحديث عنه في أوساط المثقفين و المنابر السياسية و الجامعية والذي يتخذ شكل النقد البورجوازي للماركسية ، للسعي إلى بناء أحزاب ليست للثورة الإجتماعية و لكن أحزاب ديمقراطية للإصلاحات الإجتماعية :

يقول لينين :

" وقد أعلن برنشتين وأظهر ميليرإن بما يكفي من الوضوح فحوى الإتجاه "الجديد" الذي يأخذ من الماركسية "القديمة، الجامدة"، موقفا "نقديا". ينبغي للإشتراكية-الديموقراطية أن تتحول من حزب للثورة الإجتماعية إلى حزب ديموقراطي للإصلاحات الإجتماعية". كتاب : ما العمل ؟

و انتقد موقف برينتشتين هذا حول الحزب الثوري الذي يستهدف إلغاء دوره في الحركة الثورية من أجل الإشتراكية انطلاقا من نقده لموقفه من المادية التاريخية التي لا يرى فيها برينتشتين أساسا للنظرية الثورية ، مما جعله ينكر فكرة ديكتاتورية البروليتاريا و الصراع الطبقي و التنافض بين الليبرالية و الإشتراكية سعيا إلى إلغاء الثورة الديمقراطية البروليتاريا ، هذا الموقف من الحزب الثوري جعل برينتشتين يركز هجومه على الماركسية بخلق اتجاه معاد للدياليكتيك الماركسي.

و يقول لينين :

"هذا المطلب السياسي أحاطه برنشتين بمجموعة كبيرة من البراهين والاعتبارات "الجديدة" نسقها تنسيقا لا بأس به. فقد أنكر إمكانية دعم الاشتراكية علميا وإمكانية البرهان على ضرورتها وحتميتها من وجهة نظر المفهوم المادي للتاريخ؛ أنكر واقع تزايد البؤس والتحول إلى البروليتاريا وتفاقم التناقضات الرأسمالية؛ أعلن أن مفهوم "الهدف النهائي" ذاته باطل ورفض فكرة ديكتاتورية البروليتاريا رفضا قاطعا؛ أنكر التضاد المبدئي بين الليبرالية والاشتراكية؛ أنكر نظرية الصراع الطبقي وزعم أنها لا تنطبق على مجتمع ديموقراطي صرف يدار وفق مشيئة الأكثرية، الخ.. وهكذا فإن مطلب الإنعطاف الحاسم من الاشتراكية-الديموقراطية الثورية إلى الإصلاحية الإجتماعية البرجوازية قد رافقه انعطاف لا يقل حسما نحو النقد البرجوازي لجميع أفكار الماركسية الأساسية." نفس المرجع.

و هكذا فتح برينتشتين الباب للنقد البورجوازي في أوساط الماركسيين باسم "حرية النقد" التي لا تعني لدى التحريفية الإنتهازية إلا "حرية الإتجاه الإنتهازي" من أجل بناء أحزاب إصلاحية ، "حرية إدخال الأفكار البورجوازية على الماركسية" من أجل إدخال "العناصر البورجوازية" على الإشتراكية ، لتكريس استغلال الرأسمال للعمل ، حرية الصناعة التي تنشر حروب النهب و السلب و نهب الشغيلة باسم حرية العمل ، من أجل تحويل الحركة العمالية الثورية إلى "ذيل لليبرالية" و تركيز مفهوم الإقتصادية في صفوفها من طرف البرينتشتينيين ، في أفق دمج المثقفين الماركسيين مع الليبراليين في العمل السياسي البورجوازي الذي يحارب النقد الماركسي للرأسمالية .


2 ـ في العلاقة بين الحزب و الحرب و انتصار الثورة الديمقراطية البروليتارية

و كانت الحرب الإمبريالية ما بين 1914 و 1918 مناسبة هامة لإشعال الحرب بين البلاشفة والقيصرية من خلال مناهضة النواب البرلمانيين البلاشفة دخول روسيا الحرب الإمبريالية الأولى ، الذين رفضوا التصويت لصالح الاعتمادات الحربية و قاموا بالدعاية ضد الحرب في صفوف الجماهير، مما دفع القيصرية إلى اعتقالهم و محاكمتهم و نفيهم إلى سيبيريا في الوقت التي باركت فيه التحريفية الإنتهازية خوض هذه الحرب الإستعمارية.

يقول لينين :

" و لئن استطاعت البلشفية أن تنتصر في سنوات 1917 و 1920 ، فإن أحد الأسباب الأساسية لهذا الانتصار هو أن البلشفية كانت حتى منذ خاتمة 1914 تفضح دون رحمة خبث و دناءة و خسة الاشتراكيةـالشوفينية و"الكاوتسكية" التي تتفق و اللونغيتية في فرنسا ، و آراء حزب العمال المستقل والفابيين بإنجلترا ، و توراتي في إيطاليا والخ ... ، و أن الجماهير قد اقتنعت فيما بعد بتجربتها الخاصة أكثر فأكثر بصحة آراء البلاشفة ". كتاب : ضد الجمود العقائدي و الإنعزالية في الحركة العمالية.

كانت مرحلة التهييء للثورة البولشيفية تمتد منذ تأسيس الحزب البولشيفي إلى حين انتصار البلاشف على القيصرية و التحريفية الإنتهازية في 1917 ، و كان للحزب البلشفي دور هام في نجاح الثورة الديمقراطية البروليتارية و الذي أولاه لينين أهمية قصوى ، و ذلك بتعزيز ما سماه "المؤخرة" بنشر العمل السياسي بين الجماهير الشعبية ، حيث لم يقتصر فقط على إعطاء الأهمية للدعائية السياسية للحزب بل ساهم بشكل شخصي في الأنشطة السياسية عبر الخطب في اجتماعات العمال و الجنود الحمر و نشر المقالات في الصحف ، و كان يؤكد على أهمية "المؤخرة المتماسكة" و "التنظيم الانضباطي الواعي" باعتبارهما من أهم الشروط الأساسية لانتصار الثورة الديمقراطية البروليتارية.

و للحفاظ على مكاسب الثورة الديمقراطية البروليتارية كان لينين يلح على الأهمية القصوى لتدقيق قوانين وتوجهات السلطة السوفييتية بقيادة البروليتاريا ، و العمل على مكافحة المضاربين و المخربين والجواسيس الذين يعملون لصالح الجيش الأبيض في المؤخرة السوفييتية ، كل ذلك من أجل مواجهة رأسمالية قوية.

يقول لينين :

" إن أقل تصرف كيفي ، إن أقل مخالفة للنظام السوفييتي ، إنما هي ثغرة يستغلها أعداء الشغيلة فورا .إنما هي ذريعة لانتصارات يحرزها كولتشاك و دينيكين " . نفس المرجع.

و قاد الحزب البولشيفي الحرب ضد اللصوص الملاكين العقاريين و الرأسماليين و ذلك عبر بناء الجيش الأحمر من العمال و الفلاحين ، و كانت مجابهة قيادة الضباط القدماء الذين يتعاطفون مع الملاكين العقاريين والرأسماليين مهمة صعبة تعرضت للمهام الثورية بعد تسجيل الخيانات في صفوف هؤلاء الضباط القدماء.

و اعتبر لينين أن "نظام الطاعة" داخل الجيش الأحمر و الذي اعتنقه العمال و الفلاحون عن وعي هو السلاح الأساسي ضد أي مؤامرة تحاك ضد الثورة الديمقراطية البروليتارية.

لقد استفاد لينين كثيرا من الحرب الأهلية و جعلها مناسبة تاريخية لتعزيز مكانة الحزب البولشيفي ، حيث قررت اللجنة المركزية للحزب تمتين "الوحدة العسكرية بين الجمهوريات السوفييتية و بين الجمهورية الروسية الإتحادية" ، من أجل ترسيخ بناء الوحدة داخل الحزب خدمة للحرب الدفاعية عن الثورة الاشتراكية و الوطن الاشتراكي.

و عمل لينين على المتابعة اليومية لأطوار الحرب الأهلية في "جميع الجبهات" و في "المؤخرة" أي في أوساط الجماهير الشعبية ، و كان ل"التربية على الخصال و الأخلاق الشيوعية" لدى الجيش دور هام في الإنتصار على الأعداء الطبقيين ، و الذي تم بفضل البناء الحزبي المتين الذي مكنه من قيادة "حرب الدفاع عن المجتمع الاشتراكي".

و يقول لينين :

" و فقط لأن الحزب كان على حذر و يقظة ، لأن الحزب كان شديد التقيد بالطاعة والانضباط، و نفوذه يوحد جميع المؤسسات و جميع الإدارات ، لأن العشرات ، و المئات ، و الآلاف ، و في آخر الأمر الملايين من الناس هبوا كرجل واحد استجابة لشعار اللجنة المركزية ، فقط لأن تضحيات لم يسمع بمثلها من قبل بالذات ، لكل هذا فقط أمكن للأعجوبة أن تحدث". كتاب : ضد الجمود العقائدي والإنعزالية في الحركة العمالية.

و خاض لينين صراعا مريرا ضد التحريفيين الإنتهازيين حول كيفية الرد على الحرب الذين يزعمون أن "الإضراب و الثورة" هو الرد الصحيح ، و عملوا على نشر زعمهم هذا في أوساط الطبقة العاملة. و اعتبره لينين أن "الإضراب و الثورة" أمر مستحيل في الحرب ضد الإمبريالية التي تستهدف إسقاط الثورة الإشتراكية ، ذلك ما أثبتته نتائج الحرب الأهلية التي انتصرت فيها البلشفية ، لكون التنظيم العادي للطبقة العاملة يعجز عن الرد الحاسم على الحرب المضادة للثورة التي تتطلب الدفاع عن الوطن الاشتراكي ، و اعتبر أن "التنظيم السري طويل الأمد ضد الحرب" ضروري لقيادة الثوريين لهذه الحرب و الإنتصار فيها.
و قد سبق للنواب البرلمانيين البولشيفيين أن قاوموا بالدعاية و التحريض ضد الحرب الإمبريالية الأولى وكان مصيرهم الاعتقال و المحاكمة و النفي ، مما أكد عدم إمكانية مجابهة أعداء العمال و الفلاحين ب"الإضراب والثورة" في الحرب الأهلية ، الشيء الذي ركز مفهوم "الدفاع عن الوطن الاشتراكي" عبر بناء "القدرة الدفاعية" التي تطلبت سياسة "السلام الدولية" بالنضال ضد الحروب الإمبريالية.
و قام لينين بإرسال وفد إلى مؤتمر لاهاي "للدفاع عن النضال ضد الحرب" عبر فضح الرأسماليين الذين يدعون أنهم ضد الحرب ، مما فضح ادعاءات التحريفيين الإنتهازيين حول السلام في ظل الإمبريالية.

يقول لينين :

" إن صلح بريست-ليتوفسك الذي أملت شروطه ألمانيا الملكية، ومن بعده صلح فرساي الأكثر وحشية وحطة والذي أملت شروطه الجمهوريتان «الديموقراطيتان»، أمريكا وفرنسا، وكذلك إنجلترا «الحرة» قد قدما للبشرية خدمة نافعة جدا إذ فضحا الكتبة الخدم المأجورين للإمبريالية وكذلك البرجوازيين الصغار الرجعيين الذين، وإن كانوا يخلعون على أنفسهم ألقاب المسالمين والاشتراكيين، فإنهم يمتدحون «الولسونية» ويبرهنون على إمكان السلام والإصلاحات في ظل الإمبريالية. إن عشرات الملايين من الجثث والمشوهين الذين تركتهم الحرب التي أضرمت نيرانها لتعيين ما إذا كانت الزمرة الإنجليزية أو الألمانية من قطاع الطرق الماليين ينبغي أن تنال حصة الأسد من الغنيمة، ثم «معاهدتي الصلح» هاتين، تفتح بسرعة لم تعهد من قبل عيون الملايين وعشرات الملايين من الناس الذين ظلمتهم البرجوازية وسحقتهم وخدعتهم وضللتهم. وعلى صعيد الخراب العالمي التي لا يمكنها أن تنتهي إلى غير الثورة البروليتارية وظفرها، مهما كانت طويل وقاسية تقلبات الأحوال التي لا بد لهذه الأزمة أن يجتازها."كتاب الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.

إن الأحداث التاريخية التي تلت ثورة 1905 قد شكلت مقدمات إنجاز الثورة الثانية التي استولت فيها التحريفية الإنتهازية على السلطة ، مما أرغم لينين على الناضل من أجل استرجاع السلط بقيادة البروليتاريا في ظل دولة دكتاتورية البروليتارية في أكتوبر 1917 ، و حارب التحريفية الإنتهازية والإمبريالية معا دفاعا عن الثورة الإشتراكية و الوطن الإشتراكي في الحرب الأهلية.

و قد أوضح لينين المهام الملحة من أجل حماية الثورة حيث يقول :

"فنحن ، منذ 25 تشرين الأول /أكتوبر 1917 ، من أنصار الدفاع ، نحن ، منذ هذا اليوم ، نؤيد الدفاع عن الوطن ،. لأننا أثبتنا في الوقائع أننا قطعنا كل صلة مع الإمبريالية . فقد فسخنا و أذعنا اتفاقات مؤامرات المستعمرين القذرة و الدموية ، و أسقطنا بورجوازيتنا ، و منحنا الشعوب التي اضطهدناها نحن ، الحرية . و أعطينا الشعب الأرض و أقمنا الرقابة العمالية . إننا نؤيد الدفاع عن جمهورية روسيا الاشتراكية السوفييتية " . لينين ، في الدفاع عن الوطن الإشتراكي ـ دار التقدم موسكو.

هكذا بدأ الحزب البولشيفي تدخله بعد إنجاز مهمة الثورة الاشتراكية التي ليست فقط إلا لحظة تاريخية حققها التحول الكمي في القوى المنتجة بروسيا التي أعطت التحول الكيفي الذي أعطى فجر المجتمع الاشتراكي ، و لكن هذا الإنجاز العظيم ليس بالمهمة السهلة في ظل الحرب الإمبريالية التي يمكن أن تكون عائقا أساسيا أمام البناء الاشتراكي ، و ليس كما يقول عبد الله الحريف عن أن الحرب كانت عاملا من عوامل نجاح الثورة إذ يقول :" الإمبريالية لعبت دورا أساسيا في التطورات التي عرفها القرن العشرين ، الحرب العالمية الأولى أدت إلى الثورة الروسية ".

و الحرب كانت من بين عوائق نجاح الثورة الاشتراكية ، حيث اضطر لينين من باب الدفاع عن الوطن الاشتراكي إلى أن يضع جميع القوى و الموارد بالبلاد في خدمة هذا الغرض ، كما عمل على استنفار جميع المنظمات الثورية في جميع بقاع البلاد من منظمات السكك الحديدية و السوفييتات و المواصلات لحماية جميع احتياطات الحبوب و المأكولات و جميع الأموال التي تتهدد بالسقوط في يد العدو ، و تجنيد جمع العمال و الفلاحين في كتائب وكذا الطبقة البورجوازية الصغيرة القادرة على العمل رجالا و نساء ، كل هذا الاستنفار من أجل الدفاع عن الثورة الاشتراكية فكيف يمكن للحرب الإمبريالية أن تكون عونا لإنجاح الثورة الاشتراكية ؟

بالإضافة إلى ذلك هناك مهمة القضاء على الأعداء الداخليين من البورجوازية المحلية بتحالف مع الانتهازية التحريفية التي سخرت أقلامها ضد سياسية الدفاع عن الوطن الاشتراكي و الواقفة إلى جانب البورجوازية الألمانية والتي تسعى إلى استغلال هجوم الإمبريالية من أجل الاستيلاء على السلطة ، إنها حرب داخلية و خارجية و قد تنبأ لها لينين منذ فشل الثورة الأولى في 1905 و التي تم التأسيس لها منذ قرار تأسيس الحزب البولشفي في 1900 .

و تعد السنوات ما بين 1903 و 1905 سنوات إعداد الثورة و ذلك عبر الحركة التي تعرفها التيارات السياسية الثلاث الأساسية في روسيا ، و هي التيار البورجوازي الليبرالي و التيار الديمقراطي البورجوازي الصغير و التيار البروليتاري الثوري من خلال تصادم آرائهم و برامجهم في الواقع الاجتماعي ، هذه الحركة التي أعطت خلال سنوات 1905 و 1907 النضال الإضرابي و الاقتصادي الذي تحول إلى إضراب سياسي و بالتالي إلى انتفاضة شعبية ، و قد تحول النضال العفوي إلى الشكل السوفييتي للتنظيم الذي تقوده البروليتاريا هذه الحركة التي أعطت نتاج نضال سنوات 1917 و 1920 .

و يتحدث لينين عن سنوات الرجعية ما بين 1907 و 1910 بعد فشل الثورة الأولى التي انتصرت فيها القيصرية و قضت على جميع الأحزاب الثورية و المعارضة ، و اعتبرها مرحلة الرجعية لأنه تمت الرجعية في كل المجالات الفكرية و السياسية و النضالية .

و يقول عنها لينين : "و محل السياسة حل الانحطاط و التفسخ و الانشقاق و التشويش و الارتداد و الخلاعة ، و اشتد الجنوح نحو المثالية الفلسفية ، و غدا التصوف ستارا للنزعات المعادية للثورة ، بيد أن الهزيمة الكبيرة بالذات تعطي في الوقت نفسه الأحزاب الثورية و الطبقة الثورية درسا واقعيا من أنفع الدروس ، درس الدياليكتيك التاريخي ، درس فهم النضال السياسي و الحذق في فن خوضه . إن الصديق وقت الضيق . و الجيوش المهزومة تتعلم دائما بهمة و اجتهاد ". المادية و المذهب النقدي التجريبي ـ فلاديمير لينين دار التقدم موسكو 1981 .

لقد تعلم لينين دروسا عظيمة في فشل هذه الثورة و استخلص منها عبرا عظيمة من أجل البناء الحقيقي للحزب الثوري و وضع أسسه النظرية ، و ذلك من خلال العلاقة الجدلية بين السرية و العلنية ، بين العمل الثوري للمحترفين الثوريين و العمل الجماهيري للمنظمات العمالية ، و كانت نتائج هذه الثورة من جهة أخرى عظيمة حيث أرغمت القيصرية على الاستعجال بالقضاء على مظاهر ما قبل البورجوازية ، مما أدى إلى فرض البناء البورجوازي للدولة القيصرية الشيء الذي ساهم في إبراز الصراع الطبقي بشكل واضح ، و أول درس في الحرب مع البورجوازية استخلصه لينين هو كيف أن البروليتاريا تعلمت قبل الثورة كيفية الهجوم و عليها بعد فشل الثورة أن تتعلم كيفية التراجع الصحيح .

و يقول لينين :" إنه يستحيل الانتصار بدون تعلم علم الهجوم الصحيح و التراجع الصحيح " . لينين ، ضد الجمود العقائدي و الإنعزالية في الحركة العمالية ، دار التقدم موسكو.


و كان الحزب البولشفي هو الوحيد الذي استطاع الخروج من هزيمة الثورة قويا عكس التيارات السياسية الأخرى .
و اعتبر لينين سنوات 1910 و 1914 مرحلة النهوض خاصة بعد حوادث "لينا" التي تم فيها إطلاق النار على العمال المضربين في مناجم الذهب ، مما أدى إلى التضامن العمالي الذي أسفر عن المظاهرات في الشوارع و الإضرابات و الاجتماعات المنظمة في جميع أنحاء روسيا ، و انتصر البلاشفة على المناشفة الذين استغلتهم القيصرية ضد الثورة منذ 1905 كعملاء البورجوازية داخل الحركة العمالية ، و كان انتصار البولشفية نتيجة تاكتيك استعمال فن العلاقة الجدلية بين السرية و العلنية حيث استطاع البلاشفة احتلال جميع المقاعد العمالية بالدوما الرجعية .
مرحلة الحرب الإمبريالية بين 1914 و 1918 التي أشعلت الحرب بين البلاشفة و القيصرية من خلال مناهضة النواب البلاشفة دخول روسيا الحرب الإمبريالية ، و الذين رفضوا التصويت لصالح الاعتمادات الحربية و قاموا بالدعاية ضد الحرب في صفوف الجماهير مما دفع القيصرية باعتقالهم و محاكمتهم و نفيهم إلى سيبيريا .

و يقول لينين في هذا الصدد :" و لئن استطاعت البلشفية أن تنتصر في سنوات 1917 و 1920 ، فإن أحد الأسباب الأساسية لهذا الانتصار هو أن البلشفية كانت حتى منذ خاتمة 1914 تفضح دون رحمة خبث و دناءة و خسة الاشتراكيةـالشوفينية و"الكاوتسكية" التي تتفق و اللونغيتية في فرنسا ، و آراء حزب العمال المستقل و الفابيين بإنجلترا ، و توراتي في إيطاليا والخ ... ، و أن الجماهير قد اقتنعت فيما بعد بتجربتها الخاصة أكثر فأكثر بصحة آراء البلاشفة ". نفس المرجع.

هكذا كان تقييم اللينينية لمراحل التهييء للثورة البولشيفية منذ تأسيس الحزب البولشيفي إلى حين انتصار البلاشفة و وصولهم إلى السلطة بعد إسقاط القيصرية ، و دور الحزب البلشفي في إنجاح الثورة الاشتراكية الذي يوليه لينين أهمية قصوى و ذلك بتعزيز ما يسميه "المؤخرة" ببلورة العمل السياسي بين الجماهير الشعبية ، و لم يقم فقط بإعطاء الأهمية الدعائية و السياسية للحزب و لكن ساهم بشكل شخصي في الأنشطة السياسية عبر الخطب في اجتماعات العمال و الجنود الحمر و بنشر المقالات في الصحف ، و كان يؤكد على أهمية المؤخرة المتماسكة والتنظيم الانضباطي الواعي الذي يعتبره من أهم الشروط الأساسية لانتصار الثورة الاشتراكية ، و يلح على الأهمية القصوى الدقيقة للقوانين و توجهات السلطة السوفييتية و العمل على مكافحة المضاربين و المخربين و الجواسيس الذين يعملون لصالح الجيش الأبيض في المؤخرة السوفييتية ، كل ذلك من أجل مواجهة رأسمالية قوية .

و يقول لينين في هذا الصدد :" إن أقل تصرف كيفي ، إن أقل مخالفة للنظام السوفييتي ، إنما هي ثغرة يستغلها أعداء الشغيلة فورا .إنما هي ذريعة لانتصارات يحرزها كولتشاك و دينيكين " . نفس المرجع.

و كان على الحزب البولشيفي أن يقود الحرب ضد اللصوص الملاكين العقاريين و الرأسماليين و ذلك عبر بناء الجيش الأحمر من العمال و الفلاحين ، و المهمة الصعبة التي تلقاها لينين في ذلك هي مشكل قيادة الضباط القدماء الذين يتعاطفون مع الملاكين العقاريين و الرأسماليين و قد تم تسجيل الخيانات في صفوف هؤلاء الضباط القدماء ، و يعتبر لينين أن نظام الطاعة داخل الجيش الأحمر و الذي اعتنقه العمال و الفلاحون عن وعي هو السلاح الأساسي ضد أي مؤامرة تحاك ضد الثورة .

و كانت الحرب الأهلية ما بين 1918 و 1920 مناسبة لتعزيز مكانة الحزب البولشيفي و قررت اللجنة المركزية للحزب الوحدة العسكرية بين الجمهوريات السوفييتية و بين الجمهورية الروسية الإتحادية ، و ذلك من أجل بناء الوحدة في الحرب من أجل الانتصار في الحرب الدفاعية عن الثورة الاشتراكية و الوطن الاشتراكي ، و عمل لينين على المتابعة اليومية لأطوار الحرب الأهلية في جميع الجبهات و المؤخرة كذلك أي في أوساط الجماهير ، وكانت مهمة التربية على الخصال و الأخلاق الشيوعية لدى الجيش الأحمر أمرا أساسيا في انتصاره على الأعداء الطبقيين ، و لم يتم ذلك إلا بفضل البناء الحزبي الذي قاد حرب الدفاع عن المجتمع الاشتراكي .

و يقول لينين في هذا الصدد :

" و فقط لأن الحزب كان على حذر و يقظة ، لأن الحزب كان شديد التقيد بالطاعة و الانضباط ، و نفوذه يوحد جميع المؤسسات و جميع الإدارات ، لأن العشرات ، و المئات ، و الآلاف ، وفي آخر الأمر الملايين من الناس هبوا كرجل واحد استجابة لشعار اللجنة المركزية ، فقط لأن تضحيات لم يسمع بمثلها من قبل بالذات ، لكل هذا فقط أمكن للأعجوبة أن تحدث". نفس المرجع.

و خاض لينين صراعا ضد الإصلاحيين حول كيفية الرد على الحرب حيث يقول هؤلاء للطبقة العاملة أن الرد يجب أن يكون بالإضراب و الثورة ، و يعتبر لينين هذا الرد أمرا مستحيلا ، ذلك ما أثبتته نتائج الحرب الأهلية التي انتصرت فيها البلشفية ، و ذلك لكون التنظيم العادي للطبقة العاملة سيعجز حتما في الرد الحاسم على الحرب ، لأن الدفاع عن الوطن الاشتراكي أمر لا مفر منه من خلال تكوين تنظيم سري طويل الأمد ضد الحرب و الذي يقوده الثوريون ، و قد سبق أن قام النواب البولشيفيين داخل البرلمان و خارجه بالدعاية ضد الحرب و كان جزاؤهم الاعتقال و المحاكمة و النفي ، و لا يمكن مجابهة أعداء العمال و الفلاحين بالإضراب و الثورة خاصة بعد الحرب الأهلية التي أوضحت أهمية الدفاع عن الوطن الاشتراكي ، و من أجل بناء القدرة الدفاعية نهج لينين سياسة السلام الدولية بالنضال ضد الحروب الإمبريالية التي وضعها من بين المهام الأساسية للدولة السوفييتية ، و تم إرسال وفد إلى مؤتمر لاهاي للدفاع عن النضال ضد الحرب من خلال فضح الحاضرين الذين يدعون أنهم ضد الحرب .
لقد شكل الاستعمار و الحرب في الأطروحة اللينينية أمرين ملازمين للرأسمالية الإمبريالية و يتجلى ذلك في اعتماد دراسة لينين لعصر الإمبريالية على هذين العنصرين ، من أجل تحديد ملامح تطور الرأسمالية خلال العقدين الأولين من القرن 20 و التي تشكل فيها سيطرة الرأسمال المالي على التجارة العالمية عنصرا أساسيا في الاقتصاد ، و ذلك انطلاقا من الدياليكتيك الماركسي الذي يحدد تطور المجتمعات انطلاق من العلاقة جدلية الصراع بين القوى المنتجة و علاقات الإنتاج التي يشكل فيها الاقتصاد الأساس المادي للتطور .
و يعبر لينين أن أساس الصراع بين الإمبرياليات ليس دبلوماسيا و لكنه يرتكز إلى التنافس الاقتصادي الذي أفضى إلى الاحتكارات الكبرى و استعمار الدول الفقيرة ، و بالتالي بروز الاحتكار الاقتصادي الذي يرتكز إلى تصدير الرساميل و تقسيم العمل عالميا و أن الحرب الإمبريالية ما هي إلا نتيجة هذا الصراع ، و هكذا اكتشف أن الإمبريالية ما هي إلا أعلى مراحل تطور الرأسمالية التي لا يمكن لها أن تحقق هذا الكم الهائل من وسائل الإنتاج إلا باضطهاد الشعوب الفقيرة.


3 ـ بناء الحزب الثوري في علاقته بالنضال الثوري

عمل لينين على دحض ادعاءات زعماء الأمية الثانية و على رأسهم كاوتسكي ، الماركسي المرتد قائد الإنتهازيين الذي قام بتحريف مفهوم الثورة لتعويضها بالإصلاحية البرلمانية ، حين كانت أحزاب الأممية الثانية هي السائدة في خدمة الدعاية للبرلمانية ضد الثورة ، و اعتبر كاوتسكي الأحزاب أدوات للسلم ، و الأحزاب الإصلاحية في نظر لينين لا تصلح لخدمة البروليتاريا ، لكونها في خدمة البورجوازية ، و هي تقوم بالدعاية المفرطة للبرلمانية ، و أصبحت أجهزة انتخابية يشكل أعضاؤها كتلا داخل البرلمان ، مما يجعل هذه الأحزاب ذيلية لهذه الكتل عاجزة عن خدمة مصالح البروليتاريا.



يقول ستالين عن الأحزاب الإصلاحية :

"المنظمة السياسية الأساسية للبروليتاريا، في المرحلة التي ساد فيها انتهازيو الأممية الثانية، لم تكن الحزب بل الكتلة البرلمانية. فمن المعروف أن الحزب، في ذلك العهد، كان ذيلاً للكتلة البرلمانية وعنصراً معداً لخدمتها. وغني عن البيان، في أحوال كهذه، أن مجرد البحث في تهيئة البروليتاريا للثورة، لم يكن له مجال، مع وجود مثل هذا الحزب على رأسها."أسس اللينينية.

و في مرحلة المد الثوري التي شكل فيها القضاء على الإستعمار و السيطرة على الحكم من طرف البروليتاريا المهمتين الأساسيتين ، أصبح الحزب الماركسي اللينيني هو المنظمة الأساسية في الصراع الطبقي ، يعمل على تثقيف البروليتاريا و إعدادها للسيطرة على الحكم ، و أصبح من الضروري بناء حزب ثوري باستطاعته إنجاز المهمات الجديدة ، في ظل شروط جديدة ، في ظل تهييء البروليتاريا لخوض معركة الثورة ، من أجل بناء دولة ديكتاتورية البروليتاريا.
و حدد لينين مهام الحزب الماركسي اللينيني فيما يلي :

1 – الحزب من حيث هو فصيلة الطليعة من الطبقة العاملة.
2 – الحزب من حيث هو فصيلة منظمة من الطبقة العاملة.
3 – الحزب من حيث هو أعلى أشكال تنظيم البروليتاريا الطبقي.
4 – الحزب من حيث هو أداة ديكتاتورية البروليتاريا.
5 – الحزب من حيث هو وحدة في الإرادة لا تقبل وجود التكتلات الانقسامية.
6 – الحزب يقوى بتطهير نفسه من العناصر الانتهازية.

يقول لينين :

" نحن حزب الطبقة، ولذلك فالطبقة كلها على وجه التقريب (أما في وقت الحرب، أي في عهد الحرب الأهلية، فالطبقة كلها على الإطلاق) يجب أن تعمل تحت قيادة حزبنا وأن تتراص حوله أكثر ما يمكن. أما أن تصبح الطبقة كلها تقريباً، أو الطبقة بأسرها يوماً ما، وفي عهد الرأسمالية، في حالة تستطيع معها أن ترتفع حتى تبلغ درجة من الوعي والنشاط، مثل فصيلتها الطليعية، أي مثل حزبها الاشتراكي الديمقراطي، فإن التفكير في مثل ذلك هو ضرب من المانيلوفيه، وشكل من السير في ذيل الحركة. وأن المنظمة النقابية نفسها (وهي منظمة ابتدائية أكثر من الحزب، وأقرب تناولاً إلى أدراك الجماعات غير المتقدمة) لا تستطيع في عهد الرأسمالية أن تشمل الطبقة العاملة كلها تقريباً، أوالطبقة العاملة بأسرها تماماً. وليس هناك اشتراكي ديمقراطي واحد سليم التفكير، داخله الشك يوماً في ذلك. فنحن إنما نخدع أنفسنا ونغمض عيوننا عن أعظم مهماتنا وواجباتنا، بل إننا نضيق نطاق هذه المهمات والواجبات، إذا نسينا الفرق بين فصيلة الطليعة وبين كل الجماهير التي تلتف حولها، وإذا نسينا أن على فصيلة الطليعة واجباً دائماً هو رفع جماعات أوسع فأوسع إلى هذا المستوى المتقدم الراقي." (لينين خطوة إلى أمام، خطوتان إلى وراء ، المجلد 6، الصفحة 205 – 206).

و هذا الحزب هو الحزب الماركسي اللينيني و هو فصيلة الطليعة الثورية للبروليتاريا متسلح بالنظرية الثورية، ملم بقوانين الحركة الثورية ، يستطيع قيادة الطبقة العاملة ، لا يكون تابعا للحركة العفوية للجماهير ، بل يكون قادرا على الرفع من مستوى الجماهير لمعرفة مصالحها. و لا يمكن للحزب أن يقوم بهذا الدور إلا عندما يكون فصيلة الطليعة ، و أكثر من ذلك فصيلة من الطبقة ، جزءا من الطبقة ، باستطاعته توطيد العلاقة مع باقي الجماهير غير الحزبيين ، و أن تقبل الجماهير القيادة الحزبية.

يقول ستالين :

" وتضع هذه المرحلة(مرحلة المد الثوري) مهمات جديدة أمام البروليتاريا، هي : إعادة تنظيم كل عمل الحزب وفق أسلوب جديد، ثوري، لتثقيف العمال بروح النضال الثوري في سبيل الحكم، إعداد القوى الاحتياطية وحشدها؛ التحالف مع عمال الأقطار المجاورة؛ إقامة روابط متينة مع حركة التحرر في المستعمرات والبلدان التابعة، الخ.. الخ... ولا يستطيع أن يصرف الطبقة العاملة عن طريق الترادنيونية ، ويحولها إلى قوة سياسية مستقلة، سوى حزب ينظر إلى نفسه كفصيلة الطليعة للبروليتاريا، ويستطيع رفع الجماهير إلى المستوى الذي تدرك فيه المصالح الطبقية للبروليتاريا."نفس المرجع.

و لا بد للحزب الثوري من إستراتيجية منسجمة و تكتيك مدروسة في علاقتهما بالحركة الثورية ، و بالرجوع إلى أعمال ماركس و إنجلس قام لينين بكشف أهم ما أنجزته الماركسية في هذا المجال ، و التي تم طمسها من طرف انتهازية الأممية الثانية ، و طور مفهوم الحزب ، و دفع به إلى الأمام و صاغ المباديء الأساسية للحرب الثوري ، التي يجب اتباعها من أجل السيطرة على الحكم من طرف البروليتاريا ، و أسس بذلك علم قيادة نضال البروليتاريا الثوري.

يقول ستالين :

"الستراتيجية هي تحديد اتجاه الضربة الرئيسية للبروليتاريا على أساس مرحلة معينة من الثورة، ووضع برنامج مناسب لترتيب القوى الثورية (الاحتياطات الرئيسية والثانوية)، والنضال في سبيل تحقيق هذا البرنامج طوال تلك المرحلة المعينة ... إن الستراتيجية تهتم بالقوى الأساسية للثورة وباحتياطياتها. وهي تتغير كلما مرت الثورة من مرحلة إلى أخرى، مع بقائها هي دون تغيير، من حيث الأساس، طوال مرحلة معينة. و التكتيك هو تعيين خطة سلوك البروليتاريا خلال مرحلة قصيرة نسبياً، مرحلة مد الحركة أو جزرها، نهوض الثورة أو هبوطها، والنضال من أجل تطبيق هذه الخطة بابدال أشكال النضال والتنظيم القديمة بأشكال جديدة، والشعارات القديمة بشعارات جديدة، وبالتوفيق بين هذه الأشكال، الخ... فإذا كان هدف الاستراتيجية كسب الحرب، مثلاً، ضد القيصرية أوالبرجوازية، والقيام إلى النهاية بالنضال ضد القيصرية أو البرجوازية، فإن التكتيك يأخذ على عاتقه أهدافاً أقل شأناً، إذ أنه يسعى لا لكسب الحرب بمجموعها، بل كسب هذه أوتلك من المناوشات، هذه أو تلك من المعارك، يسعى لتحقيق هذه أو تلك من الحملات، هذه أو تلك من الأعمال الملائمة للوضع الواقعي الملموس خلال فترة معينة من نهوض الثورة أو هبوطها. أن التكتيك هو جزء من الستراتيجية، جزء خاضع لها، ووظيفته أن يخدمها."نفس المرجع.

و لا بد من القيادة الإستراتيجية التي تقود الثورة و ذلك ب:

ـ ضبط القوى الرئيسية و القوى الإحتياطية لإنجاح الثورة.
ـ تحديد نقط ضعف العدو عندما تكون الثورة قد نضجت.
ـ إختيار اللحظة المناسبة للثورة المسلحة.

و لتعميق بعد التناقض في التعاطي مع المهام الثورية في علاقتها بتطور الحزب البروليتاري ، تناول لينين مسألتي الإستراتيجية و التاكتيك كأسلوبي العمل في الحرب في علاقتهما بالإصلاحية والثورة ، في علاقتهما بدور الحزب في قيادة الثورة ، و صاغ أسس القيادة الثورية في ارتباطها بالشروط الأساسية لخوض معركة الثورة ، من خلال العلاقة بين القيادة الإستراتيجية و القيادة التاكتيكية في كل مرحلة من مراحل الثورة.

و حدد لينين شروط استخدام قوى الثورة إستراتيجياً كما يلي :

1 – ينبغي عدم اللعب أبداً بالثورة المسلحة، وعند البدء بها، ينبغي العلم بقوة ووضوح أن من الواجب السير بها إلى النهاية.
2 – من الضروري حشد قوى متفوقة كثيراً على قوى العدو، في المكان الحاسم وفي اللحظة الحاسمة، وإلا فإن العدو، وهو أحسن استعداداً وتنظيماً، يبيد الثائرين.
3 –حين تبدأ الثورة المسلحة ينبغي العمل بأعظم عزيمة وحزم، و الإنتقال من كل بد، وبصورة مطلقة، إلى الهجوم. الدفاع هو موت الثورة المسلحة .
4 – ينبغي السعي لأخذ العدو على حين غرة، واختيار اللحظة التي تكون فيها جيوشه مبعثرة.
5 – ينبغي الحصول على نجاحات، حتى ولو كانت صغيرة، كل يوم (ويمكن القول كل ساعة، إذا كانت القضية تتعلق بمدينة واحدة)، والاحتفاظ، مهما كان الثمن، بـ التفوق المعنوي.
(لينين: نصائح غائب ، المجلد 21 من المؤلفات الكاملة، ص 319 – 320، الطبعة الروسية).

و يمكن اعتبار اللحظة قد حانت للمعركة الحاسمة إذا :

1) كانت القوى الطبقية المعادية لنا قد غرقت بصورة كافية في الصعوبات، ومزق بعضها بعضاً إلى حد كاف، وأضعفت نفسها إلى درجة كافية، بنضال هو فوق طاقتها.
2) كانت جميع العناصر المتوسطة، المترددة، المتخاذلة، المترجرجة ـ أي البرجوازية الصغيرة، الديمقراطية البرجوازية الصغيرة، بوصفها مختلفة عن البرجوازية ـ قد انفضحت بصورة كافية أمام الشعب، واكتسبت الخزي والعار بإفلاسها العملي.
3) بدأت في صفوف البروليتاريا، وأخذت ترتفع بقوة، حالة فكرية جماهيرية لتأييد أشد الأعمال حزماً وعزماً وجرأة ثورية، ضد البرجوازية. عندها تكون الثورة قد نضجت.
وعندها، إذا أخذنا بعين الاعتبار جميع الشروط المذكورة أعلاه... وإذا اخترنا للحظة اختياراً صحيحاً. يكون انتصارنا مضموناً.
(لينين: مرض الطفولة، المجلد 25، المؤلفات الكاملة، ص 229، الطبعة الروسية).

و لا بد للحركة الثورية من القيادة التكتيكية التي تعتبر ضرورية لإنجاز مهما القيادة الستراتيجية ، و هي التي تعمل لا تيسير عمل البروليتاريا في كل مرحلة من مراحل الثورة ، من حيث هي أداة لضبط السير النضالي والتنظيمي للطبقة العاملة و ضبط أشكالها و مهماتها.

يقول ستالين :

" القيادة التكتيكية هي جزء من القيادة الستراتيجية، خاضع لمهماتها ومقتضياتها. إن مهمة القيادة التكتيكية هي هضم جميع أشكال نضال البروليتاريا وأشكال تنظيمها وتأمين استخدامها الصحيح للحصول، ضمن نسبة معينة بين القوى، على الحد الأقصى من النتائج، الضروري لتهيئة النجاح الستراتيجي."نفس المرجع.

و حدد عمل القيادة التكتيكية و مهامها في نقطتين أساسيتين :

ـ أولاً: أن توضع، في المقام الأول، أشكال النضال والتنظيم التي من شأنها، لكونها ملائمة أحسن من غيرها لشروط المد أو الجزر في الحركة، أن تسهل وتؤمن تسيير الجماهير نحو المواقف الثورية، تسيير الجماهير الغفيرة نحو جبهة الثورة، وتوزيعها على جبهة الثورة.(ستالين ، أسس اللينينية).

يقول لينين :

لا يمكن الظفر بواسطة الطليعة وحدها. فإلقاء الطليعة في المعركة الحاسمة، بينما الطبقة بأسرها، بينما الجماهير الغفيرة لم تتخذ موقف تأييد مباشر للطليعة، أو على الأقل موقف حياد مشوب بالعطف.. لا يكون حماقة فقط، بل جريمة. ولكي تصل الطبقة بأسرها، لكي تصل جماهير الشغيلة والمضطهدين الغفيرة، فعلاً إلى اتخاذ مثل هذا الموقف، لا تكفي الدعاية وحدها، ولا يكفي التحريض وحده. لا بد لذلك من التجربة السياسية الخاصة لهذه الجماهير. ذلك هو القانون الأساسي لجميع الثورات، قانون تؤكده اليوم بقوة وبروز رائعين، لا روسيا فقط، بل ألمانيا أيضاً. فليست فقط جماهير روسيا غير المتعلمة، والأمية غالباً، بل كذلك جماهير ألمانيا، المثقفة إلى حد رفيع، والتي ليس بينها أمي واحد، كان لا بد لها من أن تعاني بنفسها وعلى حسابها، كل ما في حكومة أشقياء الأممية الثانية، من جبن، وعجز، وتبلبل، وسفالة، وخنوع أمام البرجوازية. كان لا بد لها من أن تعاني حتمية ديكتاتورية طغاة الرجعية (من كورنيلوف في روسيا، وكاب وزمرته في ألمانيا)، من حيث هي المخرج الوحيد الآخر تجاه ديكتاتورية البروليتاريا، لكي تندار هذه الجماهير بحزم نحو الشيوعية (مرض الطفولة، المؤلفات الكاملة، المجلد 25، ص 228).

ـ ثانياً: في كل لحظة معينة، العثور في سلسلة التطورات، على الحلقة الخاصة التي يسمح الإمساك بها، بالتمكن من كل السلسلة وتهيئة الشروط للنجاح الستراتيجي. (ستالين ، أسس اللينينية).

يقول لينين:

"لا يكفي أن يكون المرء ثورياً ومناصراً للاشتراكية. أو شيوعياً بصورة عامة.. من الواجب أن نعرف، في كل لحظة معينة، العثور على تلك الحلقة الخاصة التي ينبغي الإمساك بها بكل قوة، للتمكن من كل السلسلة وتهيئة الانتقال إلى الحلقة التالية تهيئة متينة.. وهذه الحلقة، في الساعة الحالية، هي إنعاش التجارة الداخلية مع تنظيمها (قيادتها) بشكل صحيح من قبل الدولة. التجارة تلك هي الحلقة في سلسلة الحوادث التاريخية، في الأشكال الانتقالية لبنائنا الاشتراكي في عامي 1921 – 1922، التي يجب علينا الإمساك بها بكل قوانا ."(لينين: حول أهمية الذهب ، المؤلفات الكاملة، المجلد 27، ص 82).

و ميز لينين بين التكتيك الإصلاحي و التكتيك الثوري بحيث الأول يخدم مصالح الإنتهازية التي تسخر الإصلاحات خدمة لمصالحها الإنتهازية ، أما التكتيك الثوري فهو ليس ضد الإصلاحات و لكن شريطة أن تخدم مصلحة الثورة و الطبقة العاملة ، فالإنتهازية تضع الإصلاحية في المقام الأول ، تستعيض به عن الثورة ، تسخره ضد الثورة خدمة للبورجوازية ، و الحزب الماركسي اللينيني يضع الثورة في المقام الأول باعتبارها مسألة استراتيجية ، و التكتيك الثوري يضع الإصلاحية في خدمة الثورة.

يقول لينين:

" إن الماركسية وحدها، تحدد، بشكل دقيق وصحيح، العلاقة بين الإصلاحات والثورة. ولم يستطع ماركس أن يرى هذه العلاقة إلا من جانب واحد أي في الظروف السابقة لانتصار البروليتاريا إنتصاراً وطيداً إلى حد ما، ودائماً إلى حد ما، في بلد واحد على الأقل، ففي تلك الظروف، كانت هذه العلاقة الصحيحة ترتكز على المبدأ التالي وهو: إن الإصلاحات هي النتاج الثانوي لنضال البروليتاريا الطبقي الثوري. أما بعد انتصار البروليتاريا في بلد واحد على الأقل، فيبرز شيء جديد في العلاقة بين الإصلاحات والثورة. ومن حيث المبدأ، يبقى كل شيء كما كان سابقاً. ولكن يحدث تغيير في الشكل ما كان ماركس ليستطيع التنبؤ به، ولكن لا يمكن إدراك هذا التغيير إلا على أساس فلسفة الماركسية وسياستها. ... فهي (أي الإصلاحات – ملاحظة من ي. ستالين). بعد الانتصار (مع بقائها ذلك النتاج الثانوي نفسه من وجهة النظر العالمية) تؤلف فوق ذلك، بالنسبة للبلد الذي تم فيه الانتصار، هدنة لا بد منها، هدنة مشروعة عندما تصبح القوى، عقيب توتر شديد إلى الحد الأقصى، غير كافية، بصورة جلية، لتحقيق هذا الانعطاف أو ذاك، بالطريق الثوري. إن الانتصار يعطي ذخراً في القوى يسمح بالثبات حتى خلال تراجع اضطراري – الثبات سواء بمعناه المادي أو بمعناه المعنوي." (لينين: حول أهمية الذهب – المؤلفات الكاملة – المجلد 27، ص 84 – 85).

و عمل ماو على تطبيق خلاصات لينين حول الدياليكتيك الماركسي على مجريات الثورة الصينية ، خاصة في أحلك مراحلها و هي أثناء المعركة المسلحة ، مستفيدا من خلاصات لينين حول الحزب و الحرب ، و التي حدد فيها لينين شروط النجاح لكسب المعركة خاصة في أعلى مراحلها و هي المعركة المسلحة "شروط استخدام قوى الثورة إستراتيجياً" كما سماها لينين ، و طبق ماو هذه الشروط في العلاقة بين الحرب النظامية و حرب العصابات ، واستطاع كسب الثورة الصينية بقيادة الحزب الشيوعي الصيني لمعركة حرب التحرير الشعبية ، ضد الإمبريالية والإنتهازية ، مستعينا في ذلك بالعلاقة بين الإستراتيجية و التكتيك ، التي أعطاها ستالين بعدا أدق وأشمل في كتابه "أسس اللينينية".

يقول ماو :

" إن الحرب النظامية تلعب الدور الرئيسي في حرب المقاومة ضد اليابان ، أما حرب العصابات فهي تلعب فيها دورا مساعدا . و لقد توصلنا إلى فهم صحيح حول هذه المسألة . و ما دام الأمر كذلك فإننا لن نجابه في حرب العصابات إلا قضايا تكتيكية ، فلماذا نطرح إذن قضايا الاستراتيجية ؟ ". قضايا الاستراتيجية في حرب العصابات المناهضة لليابان-( مايو أيار 1938).

و تناول ماو ظروف الحرب في علاقاتها بالتناقضات الذاتية و الموضوعية ، في علاقاتها بالإستراتيجية والتكتيك ، مؤكدا على دور الحزب في قيادة معركة حرب التحرير الشعبية ، و وضع الأهداف الأساسية لحرب العصابات استراتيجيا و تكتيكيا ، في بلد شاسع جغرافيا و متخلف تكنولوجيا ضد دولة إمبريالية صغيرة جغرافيا ومتقدمة تكنولوجيا ، في علاقاتها بين المعركة في الداخل والخارج ، في علاقتها بين الحرب النظامية و حرب العصابات.

يقول ماو :

" إن القضايا الإستراتيجية في حرب العصابات المناهضة لليابان هي بطبيعتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالقضايا الإستراتيجية في حرب المقاومة ضد اليابان بمجموعها ، بسبب أن هناك نقاطا مشتركة كثيرة تجمع بينهما . و لكن حرب العصابات من جهة أخرى تختلف عن الحرب النظامية ولها خصائصها المميزة ، و بالتالي فإن قضاياها الإستراتيجية تتميز كذلك بكثير من الخصائص ، ولذلك لا يجوز لنا أبدا أن نطبق المبادئ الإستراتيجية العامة لحرب المقاومة ضد اليابان ، بدون تعديل، على حرب العصابات التي تتميز بخصائصها المحددة."نفس المرجع.

و انطلاقا من الدياليكتيك الماركسي في علاقته بين النظرية و الممارسة استنتج ماو الشروط الأساسية لحرب العصابات ، في علاقاتها بالشروط الإستراتيجية في الحرب التي صاغها لينين حول المعركة في ظروف الثورة ، في العلاقة بين الهجوم و التراجع ، في العلاقة بين الخطوط الداخلية والخارجية ، في العلاقة بين الحرب الإمبريالية وحرب التحرير الشعبية ، في العلاقة بين الثورة الإشتراكية و الثورة البورجوازية.

يقول ماو :

" ما هي السياسات أو المبادئ التي ينبغي تطبيقها في حرب العصابات حتى نستطيع بلوغ الغاية المنشودة التي هي المحافظة على قواتنا أو توسيعها و إفناء العدو ؟
إن السياسات الرئيسية تنحصر على العموم في النقاط التالية :
1ـ المبادرة و المرونة و التخطيط في القيام بالعمليات الهجومية في الحرب الدفاعية ، و في القيام بالعمليات السريعة في الحرب الطويلة الأمد ، و في خوض القتال في الخط الخارجي في نطاق عمليات الخط الداخلي .
2 ـ تنسيق عمليات حرب العصابات مع عمليات الحرب النظامية .
3 ـ إنشاء القواعد .
4 ـ الدفاع الاستراتيجي و الهجوم الاستراتيجي .
5 ـ تطوير حرب العصابات إلى حرب متحركة .
6 ـ إنشاء علاقة صحيحة بين القيادات .
إن هذه النقاط الست تشكل كل البرنامج الاستراتيجي لحرب العصابات المناهضة لليابان وتدلنا على السبيل الذي يجب أن نسلكه من أجل المحافظة على قوات العصابات و توسيعها و إفناء العدو و طرده و تنسيق عملياتها مع عمليات الحرب النظامية و كسب النصر النهائي."

لقد عمل ستالين و ماو على بلورة خلاصات الدياليكتيك الماركسي الأعلى على مستوى المعرفة لدى لينين ، في الواقع الموضوعي للثورتين السوفييتية و الصينية ، في الواقع الموضوعي للثورتين الديمقراطية البروليتارية والديمقراطية البورجوازية ، في الحرب ضد الإمبريالية و حرب التحرير الشعبية ، واستطاعا معا بلورة العلاقة بين النظرية الماركسية اللينينية الثورية و الممارسة العملية للماركسيين اللينينيين الثوريين في ظل القيادة التاريخية للحزب الماركسي اللينيني، من خلال تحقيق نتائج باهرة في حربيهما ضد الإمبريالية و الإنتهازية على مستوى أعلى و هو المعركة المسلحة ، وشكلت الثورتين السوفييتية والصينية تكاملا ، في ظل الوحدة بين التناقضات التي تشكل جوهر الدياليكتيك الماركسي، في ظل التناقض بين الحرب النظامية بالإتحاد السوفييتي و حرب العصابات بالصين ضد الإمبريالية والإنتهازية.


الفصل الثالث

الدياليكتيك الماركسي على المستوى السياسي


1 ـ الدولة و الثورة في علاقتهما بالديمقراطية البورجوازية و الديمقراطية البروليتارية

إذا كانت الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية فإن المذهب الماركسي اللينيني أعلى مراحل الدياليكتيك الماركسي باعتباره نتاج الثورة الإشتراكية/عشية الإمبريالية ، و لا يمكن تجاوز المذهب الماركسي اللينيني إلا بتجاوز المرحلة الإنتقالية بين الإمبريالية و الشيوعية أي الإشتراكية و بالتالي تجاوز الدولة "نتاج و مظهر استعصاء التناقضات الطبقية" ، لهذا أكد لينين على أهمية بناء دولة ديكتاتورية البروليتاريا في علاقتها بالثورة و الديمقراطية الثورية و الديمقراطية البروليتارية نقيض الديمقراطية البورجوازية ، فما هي العلاقة بين الديمقراطية البورجوازية والديمقراطية البروليتارية ؟

يقول لينين عن الدولة :

" فالدولة هي نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية. فإن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدر ما لا يمكن، موضوعيا، التوفيق بين التناقضات الطبقية. وبالعكس، يبرهن وجود الدولة أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها." كتاب : الدولة و الثورة .

و لا يتوانى المثقفون البورجوازيون الصغار عن تشويه هذا الإستنتاج الذي توصل إليه ماركس في نقده للدولة عند هيكل ، و هم يعتبرون أن الدولة تعمل على التوفيق بين الطبقات في ظل المجتمعات الرأسمالية معتمدين على هذا الإستنتاج المشوه للدعاية للديمقراطية البورجوازية و بناء الجمهوريات البورجوازية الديمقراطية ، و سار جميع الاشتراكيين-الثوريين و المناشفة على نهجهم بعد ثورة 1917 باعتبارهم ديمقراطيين بورجوازيين صغار يرددون "دور الدولة في التوفيق بين الطبقات المتناقضة" ، متجاهلين استنتاج ماركس على أن الدولة " هيئة لسيادة طبقة معينة لا يمكن التوفيق بينهما وبين نقيضها (الطبقة المضادة لها)".

و في نقده لكاوتسكي يقول لينين :

" ومن الجهة الأخرى التشويه «الكاوتسكي» للماركسية، وهو أحسن تقنيعا بكثير. فهو لا ينكر «نظريا» لا واقع أن الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية ولا واقع أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها. ولكن يُغفل ويُطمس الأمر التالي: إذا كانت الدولة نتاج استعصاء التناقضات الطبقية، وإذا كانت قوة فوق المجتمع و«تنفصل عن المجتمع أكثر فأكثر»، فمن الواضح أن تحرير الطبقة المظلومة لا يمكن ليس بدون ثورة عنيفة وحسب، بل أيضاً بدون القضاء على جهاز سلطة الدولة الذي أنشأته الطبقة السائدة والذي يتجسد فيه هذا «الانفصال». إن هذا الاستنتاج، البديهي من الناحية النظرية، قد وصل إليه ماركس بأتم الدقة". كتاب : الدولة و الثورة .

و أكد إنجلس أنه ، مع تطور المجتمعات البشرية ، نشأت الدولة ك"قوة" قاهرة فوق المجتمع الذي انبثقت منه، فبعد تجاوز مرحلة " التنظيم القديم على أساس القبائل أو العشائر" ، و الذي كان يعتمد على "منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها" ، أصبحت الدولة تعتمد على " تقسيم رعايا الدولة بموجب تقسيم الأراضي" وأسست الطبقات الظالمة "مؤسسات القسر" التي تعتمدها في قهر الطبقات المضطهدة و ظهرت "السلطة العامة في الدولة" وهي "لا تتألف فقط من رجال مسلحين، بل كذلك من ملاحق مادية، من السجون ومختلف مؤسسات القسر" كما يقول إنجلس.

لقد عمل إنجلس على توضيح دور الدولة باعتبارها أداة لقهر الطبقات المضطهدة من طرف الطبقات المسيطرة على السلطة السياسية و الإقتصادية و العسكرية ، فالدولة إذن أداة الإضطهاد الطبقي و ليست أداة للتوفيق بين الطبقات كما يدعي الديمقراطيون البورجوازيون الصغار ، فالدولة إذن في ظل الديمقراطية البورجوازية ما هي إلا أداة سيطرة الطبقة البورجوازية على البروليتاريا ، و لا يمكن إزالة هذا الإضطهاد إلا ببناء الديمقراطية البروليتارية أي الديمقراطية الثورية كما سماها لينين.

و قام لينين بتوضيح أهمية الديمقراطية البروليتارية بسيطرة البروليتاريا على السلطة بعد إنجاز الثورة البورجوازية الديمقراطية و الشروع في البناء الإشتراكي ، ذلك ما لم يدركه الديمقراطيون البورجوازيون الصغار الذين يعتقدون أن المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان ، و التي خلفتها قرون من "تقاليد القنانة" يمكن أن تحل ب"روح البورجوازية الديمقراطية".

يقول لينين :

"و لم تعد روسيا تعرف هذه السفالة ، هذه الشناعة ، هذه الدناءة ، و نعني بهذا انعدام الحقوق أم عدم المساواة في الحقوق بالنسبة للمرأة ، هذه البقية المنفرة المتبقية عن القنانة و القرون الوسطى، والمجددة في جميع بلدان الكرة الأرضية ، دون أي استثناء ، من جانب البورجوازية الجشعة والبورجوازية الصغيرة البليدة المذعورة. و كل هذا هو مضمون الثورة البورجوازية الديمقراطية . منذ مائة و خمسين سنة و مائتين وخمسين سنة ، وعد زعماء هذه الثورة (هذه الثورات ، إذا تناول الكلام كل نوع وطني من طراز عام واحد) التقدميون الشعوب بتحرير الإنسانية من امتيازات القرون الوسطى ، و عدم مساواة المرأة ، والأفضليات الممنوحة من جانب الدولة لهذا الدين أو ذاك (أو "لفكرة الدين" ، "للنزعة الدينية" بوجه عام) ، و عدم المساواة بين القوميات . وعدوا ، و لم يفوا بهذا الوعد . و لم يكن في مقدورهم أن يفوا به ، لأنه حال بينهم و بين الوفاء به "إحترام" ـ ـ ـ "الملكية الخاصة الكلية القداسة". إن دولة البروليتاريا لم تكن هذا "الإحترام" الملعون لهذه البقايا من القرون الوسطى ، الملعون ثلاثا ، و لهذه "الملكية الخاصة الكلية القداسة"." كتاب : مختارات الجزء الرابع ـ موضوع: لمناسبة الذكرى الرابعة لثورة أكتوبر.

و هكذا يتضح أن الديمقراطية في ظل الثورة البورجوازية الديمقراطية لا تسمح إلا باضطهاد الطبقة البورجوازية للبروليتاريا عكس ما يعتقده الديمقراطيون البورجوازيون الصغار الذين يحاولون تلميع وجه الديمقراطية البورجوازية ، و هم ينسون أن بقايا القرون الوسطى و أساسها "الملكية الخاصة القداسة" تحول دون إعطاء الشعارات البورجوازية المرفوعة خلال الثورات البورجوازية الديمقراطية مضمونها الإنساني ، في حقوق الإنسان ، و المساراة بالنسبة للمرأة . و الدولة الوطنية الديمقراطية لا يمكن أن تكون إلا شكلا من أشكال الإضطهاد الطبقي تسيطر فيه البورجوازية و تسود فيه الديمقراطية البورجوازية ، عكس سيادة الديمقراطية البروليتاريا في ظل ديكتاتورية البروليتاريا.

يقول لينين عن العلاقة بين الثورة البورجوازية الديمقراطية و الثورة البروليتارية الإشتراكية:

" و لكن توطيدا لمكتسبات الثورة البورجوازية الديمقراطية في صالح شعوب روسيا ، كان يتعين علينا أن نمضي إلى أبعد . و هذا ما فعلناه . فقد حللنا قضايا الثورة البورجوازية الديمقراطية عرضا ، خلال السير ، بوصفها "نتاجا ثانويا" لعملنا الرئيسي و الحقيقي ، لعملنا الثوري البروليتاري ، الإشتراكي . فالإصلاحات كما قلنا دائما ، نتاج ثانوي للنضال الطبقي الثوري . و الإصلاحات البورجوازية الديمقراطية ، كما قلنا و أثبتنا بأفعالنا ـ نتاج ثانوي للثورة البروليتاريا ، أي الإشتراكية . و نقول بالمناسبة أن جميع أضراب كاوتسكي و هلفردينغ و مارتوف وتشيرنوف وهيلكويت و لونغه وماكدونالد و توراتي و سائر أبطال الماركسية "الثانية و النصف" لم يستطيعوا إدراك هذه العلاقة بين الثورة البورجوازية الديمقراطية و الثورة البروليتارية الإشتراكية . إن الأولى تتحول إلى الثانية . والثانية تحل ، عرضا ، قضايا الأولى . و الثانية توطد عمل الأولى . و النضال ، النضال وحده ، هو الذي يقرر إلى أي حد تنجح الثانية في تجاوز الأولى." نفس المرجع.

هنا استطاع لينين توضيح العلاقة بين الثورة البورجوازية الديمقراطية و الثورة البروليتارية الإشتراكية بصورة فائقة ، باعتبار سيطرة البروليتاريا على السلطة أساسي في الإنتقال السلس من الأولى إلى الثانية ، و في إنجاز المهام الثورية الرئيسية ، و في تجاوز المهام الثورية الثانوية ، وفي القدرة على بلورة مفهوم الديمقراطية البروليتارية ، الديمقراطية الثورية ، الديمقراطية الإشتراكية ، في ظل ديكتاتورية البروليتارية ، في دولتها ، في اضطهادها للطبقة البورجوازية ، المهمة الرئيسية للثورة البروليتارية الإشتراكية.
و أكد لينين على أهمية العلاقة الجدلية بين الثورة البورجوازية الديمقراطية و الثورة البروليتارية الإشتراكية، على اعتبار أن مهام الأولى لا يمكن إنجازها كاملة إلا في ظل الثانية ، و أنه بدون ديمقراطية كاملة لا يمكن الحديث عن الديمقراطية البروليتارية.

يقول لينين :

"ليست الثورة الإشتراكية عملا واحدا ، و ليست معركة واحدة في جبهة واحدة ، إنما هي مرحلة كاملة من النزاعات الطبقية الحادة ، و سلسلة طويلة من المعارك في جميع الجبهات ، أي في جميع مسائل الإقتصاد و السياسة ، معارك لا تنتهي إلا بمصادرة ملكية البورجوازية . و من فادح الخطأ الإعتقاد أن النضال في سبيل الديمقراطية يمكن أن يصرف البروليتاريا عن الثورة الإشتراكية أو أن يكسف هذه الثورة أو يحجبها ، الخ ... بل الأمر على العكس . فكما أنه يستحيل انتصار الإشتراكية إذا لم تحقق الديمقراطية الكاملة ، كذلك لا تستطيع البروليتاريا أن تستعد للتغلب على البورجوازية إذا لم تشنه نضالا ثوريا شاملا دائما ، صادقا ، في سبيل الديمقراطية". كتاب مسائل السياسة القومية والأممية البروليتارية ـ الثورة الإشتراكية و النضال في سبيل الديمقراطية ، ص : 160.

فالثورة البورجوازية الديمقراطية عندما تقودها البروليتاريا تعطيها روح الديمقراطية البروليتارية ، الديمقراطية الإشتراكية ، الديمقراطية الثورية ، عكس قيادة البورجوازية للثورة التي تكرس روح الديمقراطية البورجوازية ، و قد استنتج لينين ذلك من تجربة الثورتين البورجوزيتين في 1905 و فبراير 1917 ، كمقدمة للثورة البروليتارية في أكتوبر 1917 .

يقول لينين :

" لقد كانت الثورة الروسية عام 1905 ثورة بورجوازية ديمقراطية ، تجسدت في سلسلة من المعارك خاضتها جميع الطبقات ، و جميع الفئات ، و جميع العناصر المستاءة ، و اشتركت فيها جماهير غارقة في أشد الأوهام وحشية و ساعية وراء أكثر الأهداف غموضا و غرابة ، و حفنات ضئيلة من المرتشين بالأموال اليابانبة ، ومضاربون ، و مغامرون ، إلخ .. فمن الناحية الموضوعية ، كانت حركة جماهيرية تسحق القيصرية و تمهد السبيل للديمقراطية ، و لهذا قادها العمال الواعون". نفس المرجع ، ص: 232/233 .

و رغم تعدد و تنوع الطبقات و الفئات التي تشارك في الثورة البورجوازية الديمقراطية فإن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة التي تستطيع ، إذا أدركت ذلك ، أن تقودها إلى مستوى الديمقراطية الكاملة ، الضرورية في البناء الإشتراكي ، و الأساسية في الثورة البروليتارية الإشتراكية ، فبدون ذلك تبقى الثورة البورجوازية الديمقراطية غارقة في الرجعية بحكم أوهام الديمقراطية البورجوازية الصغيرة.

يقول لينين :

"إن الثورة الإشتراكية في أوربا لا يمكن أن تكون سوى تفجر للنضال الجماهيري الذي يخوضه جميع المضطهدين و المستائين ، على اختلاف طبقاتهم و فئاتهم و ميولهم . و لذا كان من المؤكد أن تشترك في هذه الثورة بعض فئات البورجوازية الصغيرة و العمال المتأخرين ـ و بدون اشتراكهم هذا ، يستحيل كل نضال جماهيري ، وتستحيل أية ثورة . و من المؤكد أيضا أنهم سيحملون معهم إلى الحركة أوهامهم و أضاليلهم ، و تخيلاتهم الغريبة الرجعية ، و نواقصهم و أخطاءهم ، و لكنهم ، موضوعيا ، سيتصدون للرأسمال و يهاجمونه ، فإذا أدركت الطليعة الواعية للثورة ، و نعني بها البروليتاريا المتقدمة ، طبيعة هذا النضال الجماهيري بما فيه من تباين و تنافر و تنوع ، و تجزؤ ظاهري ، و عبرت عن حقيقته الموضوعية ، إستطاعت أن توحده و توجهه ، و تظفر بالسلطة ... وتحقق غير ذلك من التدابير الديكتاتورية التي تؤدي بمجملها إلى دك البورجوازية و إلى انتصار الإشتراكية ، مع العلم أن هذا الإنتصار لن "يتطهر" دفعة واحدة من الأدران البورجوازية الصغيرة." نفس المرجع ص: 233 .

و حدد لينين العلاقة بين الديمقراطية البورجوازية و الديمقراطية البروليتارية و كيف تنتقل الأولى إلى الثانية عبر سلطة البروليتاريا في ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا ، و أن الديمقراطية البورجوازية ما هي إلا مرحلة عابرة بين الثورة البورجوازية الديمقراطية و الثورة البروليتارية الإشتراكية ، و أن بقاء الأولى بعد الثورة ما هو إلا تكريس للدولة البورجوازية الديمقراطية التي تعج بأوهام البورجوازية الديمقراطية الصغيرة ، و أكد على ضرورة استكمال الديمقراطية كاملة بسيادة الديمقراطية البروليتارية.

يقول لينين :

"إن النظام السوفييتي هو ، على وجه الدقة ، من التأكيدات أو الظاهرات الساطعة لهذا التحول ، تحول ثورة إلى أخرى . فإن النظام السوفييتي هو الحد الأقصى من الديمقراطية للعمال و الفلاحين ، وهو يعني في الوقت نفسه القطيعة مع الديمقراطية البورجوازية و ظهور طراز جديد من الديمقراطية في التاريخ العالمي ، عنيت الديمقراطية البروليتاريا أو ديكتاتورية البروليتاريا". كتاب : مختارات الجزء الرابع ـ موضوع : لمناسبة الذكرى الرابعة لثورة أكتوبر.

فبحكم إسهام تنوع و تعدد الطبقات و الفئات في الثورة البورجوازية الديمقراطية يصبح الديمقراطيون البورجوازيون الصغار الطبقة غير المستقرة على حال ، فرغم نداءاتهم و شعاراتهم ضد الرأسمال إلا أنهم متذبذبون في مواقفهم ، فهم يتفنون في ابتداع المصطلحات الفضفاضة لتبرير نزعاتهم البورجوازية الصغيرة ، خاصة في مسألة الدعاية "للمعادلة المفضلة" لدى البورجوازية "البورجوازية و الديمقراطية" ، أي البورجوازية مقرونة بالديمقراطية ، فلا ديمقراطية بدون بورجوازية ، كما فعل الإشتراكيون ـ الثوريون و المناشفة بعد ثورة أكتوبر ، الذين يقولون : " هناك بورجوازية ديمقراطية و هناك ديمقراطية بورجوازية " ، من أجل التستر على وضعهم المتأرجح بين البروليتاريا و البورجوازية.

يقول لينين :

" و هذه المعادلة غبر الصحيحة إحتاجها الإشتراكيون ـ الثوريون و المناشفة لكي يستروا واقعا لا مراء فيه ، هو وجود البورجوازية الصغيرة بين البورجوازية و البروليتاريا . و هذه البورجوازية الصغيرة ، بحكم وضعها الطبقي الإقتصادي ، تتأرجح بصورة لا ندحة عنها بين البورجوازية والبروليتاريا ." كتاب : الكارثة المحدقة و كيف نحاربها ص: 56 .

و يؤكد لينين على أهمية قيادة الثورة من طرف البروليتاريا في عصر الإمبرالية الذي تسود فيه الإحتكارات الكبرى ، و يتم فيه اضطهاد الطبقة البورجوازية للبروليتاريا ، و أكد على قيادة البروليتاريا للثورة الإشتراكية عكس ادعاءات الإشتراكيين ـ الثوريين و المناشفة الذين يقولون أن روسيا لم تنضج بعد من أجل الإشتراكية ، و ذلك لجهلهم معنى "الإستعمار" و "الإحتكارات" ودورهما في بناء الدول الإمبريالية ، و ذلك بحكم وضعهم البورجوازي الصغير.

يقول لينين :

" إما أن الرأسمالية في روسيا أيضا أمست احتكارية ، فهذا ما يشهد عليه بجلاء كاف "برودوغول" و"بروداميت" و سندكة السكر و ما أشبهه . و سندكة السكر هذه عينها تبين لنا بوضوح تحول الرأسمالية الإحتكارية إلى رأسمالية الدولة الإحتكارية .
و لكن ما هي الدولة ؟ إنها منظمة الطبقة السائدة ـ مثلا ، في المانيا ، منظمة اليونكر والرأسماليين، و لهذا ، فإن ما يسميه البليخانوفيون الألمان (شيدمان و لينتش و غيرهما) "بالإشتراكية الحربية" هو في الواقع رأسمالية الدولة الإحتكارية الحربية أو بتعبير أبسط و أوضح، سجن أشغال شاقة عسكري للعمال ، و حماية عسكرية لأرباح الرأسماليين". نفس المرجع.

و قد أوضح لينين أن روسيا ما هي إلا دولة إمبريالية تعيش أطوار عشية الثورة الإشتراكية ، وقد استكملت مرحلة الثورة البورجوازية الديمقراطية و هي في حاجة إلى ديمقراطية كاملة تقودها البروليتاريا عن طريق الديمقراطية البروليتارية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا ، "في ظل دولة ديمقراطية ثورية فعلا" ، التي تعني "خطوة أو خطوات نحو الإشتراكية".
و شدد على أهمية الديمقراطية الثورية في ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا التي تجعل احتكاريات الدولة في صالح الشعب كله.

يقول لينين :

" لأنه إذا غدت المؤسسة الرأسمالية الضخمة جدا احتكارا ، عنى هذا أنها تقدم الخدمات للشعب بأسره . و إذا غدت احتكار الدولة ، عنى هذا أن الدولة (أي المنظمة المسلحة للسكان ، العمال والفلاحين بالدرجة الأولى ، في ظل الديمقراطية الثورية) تدير المؤسسة كلها ـ في مصلحة من ؟
ـ إما في مصلحة الإقطاعيين و الرأسماليين ، و آنذاك لا يكون الحاصل أمامنا دولة ديمقراطية ثورية بل دولة دواوينية رجعية ، جمهورية استعمارية.
ـ و إما في مصلحة الديمقراطية الثورية ، و آنذاك يكون هذا على وجه الضبط خطوة نحو الإشتراكية". نفس المرجع.

هكذا حدد لينين بجلاء العلاقة الجدلية بين الديمقراطية البورجوازية و الديمقراطية البروليتارية أي الديمقراطية الإشتراكية و الديمقراطية الثورية ، العلاقة الجدلية بين الثورة البورجوازية الديمقراطية و الثورة البروليتارية الإشتراكية ، بقيادة البروليتاريا للثورة البورجوازية الديمقراطية ، من أجل استكمال أطوار الديمقراطية كاملة ، التي تستحيل (في ظل تحالف العمال و الفلاحين) إلى ثورة بروليتارية اشتراكية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا.

2 ـ التحالف بين العمال و الفلاحين في علاقته بالبناء الإشتراكية

يعتبر لينين الأساس الإقتصادي مهما في تحديد صفة علاقات الإنتاج ، فمهما يكن الأساس الإقتصادي متجها نحو الإشتراكية تحدث في القوى المنتجة ثورة تحولها إلى قوة قادرة على تحطيم علاقات الإنتاج الرأسمالية ، و لا يمكن للأساس الإقتصادي أن ينتقل من هيمنة الإقتصاد الرأسمالي إلى سيادة الإقتصاد الإشتراكي دفعة واحدة ، ذلك ما لم يفهمه المناشفة الجدد عندما يقولون بعدم إمكانية زوال الإقتصاد البضاعي في التجربة الإشتراكية بالإتحاد السوفييتي شأنهم في ذلك شأن المناشفة في عهد ستالين.

يقول ستالين :

"يذهب بعض الرفاق إلى أن الحزب قد حافظ خطأ على الإنتاج البضاعي بعدما استولى على الحكم وأمم وسائل الإنتاج في بلادنا. وهم يرون أنه كان على الحزب في ذلك الوقت أن يزيل الإنتاج البضاعي. وفي ذلك يستشهدون بإنجلز الذي يقول:
«مع تملك المجتمع لوسائل الإنتاج، يزال الإنتاج البضاعي، وتزال بالنتيجة سيطرة المنتوج». (راجع كتاب دوهرينغ).
إن هؤلاء الرفاق على خطأ جسيم.
فلنحلل صيغة انجلز. إن هذه الصيغة لا يمكن اعتبارها على درجة تامة من الوضوح والدقة، لأنها لا تبين ما إذا كان المقصود تملك المجتمع جميع وسائل الإنتاج أو قسماً منها فقط، أي أنها لا تبين ما إذا كانت جميع وسائل الإنتاج قد جعلت ملكاً للشعب أو قسم منها فقط، وإذن فإن صيغة انجلز هذه يمكن أن تفهم على وجهين.
وفي مقطع آخر من كتاب انتي دوهرينغ، يتكلم انجلز عن تملك «جميع وسائل الإنتاج»، عن تملك «وسائل الإنتاج بكليتها». ومعنى ذلك إذن أن انجلز لا يقصد في صيغته تأميم قسم من وسائل الإنتاج بل تأميم مجموع وسائل الإنتاج، أي جعل وسائل الإنتاج ملكاً للشعب لا في الصناعة فقط، بل في الزراعة أيضاً."كتاب : المسائل الإقتصادية للإشتراكية بالإتحاد السوفييتي.

لقد أكد لينين أن الإنتاج الزراعي يشكل عائقا أمام تحول القوى المنتجة في الإتحاد السوفييتي إلى قوى اشتراكية نظرا لصعوبة القضاء على الملكية الخاصة في الفلاحة دفعة واحدة بعد الثورة الإشتراكية ، لهذا حافظ على الشكل البضاعي في العلاقة بين الفلاحين الصغار و دولة ديكتاتورية البروليتاريا لكون تحالف العمال و الفلاحين ضروري في القضاء على تحالف الرأسماليين و الملاكين العقاريين الكبار ، و تأكيد ماركس على أهمية الطبقة العاملة في الثورة الإشتراكية بقيادة الطليعة البروليتارية يبرز دور الفلاحين في تعطيل هذه الثورة و قد وصفهم ماركس بالرجعية في بعض كتاباته شأنهم شأن البورجوازية الصغرى المثقفة.
فالعلاقة بين الصناعة و الفلاحة باعتبارهما مكونين أساسيين في بناء الإساس الإقتصادي في الرأسمالية علاقة دياليكتيكية يحكمها التناقض في ظل الوحدة ، و لا يمكن للصناعة السيطرة في الإقتصاد بشكل نهائي إلا عندما تقع في الفلاحة ثورة صناعية قادرة على نفي بقايا الإقطاع بصفة نهائية ، ذلك ما لا يمكن أن يقع إلا عندما تتحول وسائل الإنتاج إلى ملكية اجتماعية بصفة نهائية وفي ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا.

يقول ستالين :

"وينجم عن ذلك أن انجلز إنما يقصد الأقطار التي بلغت فيها الرأسمالية وتمركز الإنتاج درجة كافية من التطور، لا في الصناعة فقط بل في الزراعة أيضاً، بحيث يصبح ممكناً نزع ملكية جميع وسائل الإنتاج في البلاد وجعلها ملكاً للشعب. فانجلز يرى إذن أنه، إلى جانب جعل جميع وسائل الإنتاج اجتماعية في هذه الأقطار، من الملائم إزالة الإنتاج البضاعي. وهذا صحيح طبعاً. في آخر القرن الماضي، في الحقبة التي صدر فيها كتاب انتي دوهرينغ، كانت انكلترا البلد الوحيد الذي بلغ فيه تطور الرأسمالية وتمركز الإنتاج سواءً في الصناعة أم في الزراعة، درجة يمكن معها، في حالة استيلاء البروليتاريا على الحكم، جعل جميع وسائل الإنتاج في البلاد ملكاً للشعب، وإزالة الإنتاج البضاعي.
وإني أضرب هنا صفحاً عن أهمية التجارة الخارجية لانكلترا مع ما لها من قسط هائل في الاقتصاد الوطني البريطاني. وأعتقد أنه فقط، بعد دراسة المسألة، يمكن البت نهائياً بمصير الإنتاج البضاعي في انكلترا غداة استيلاء البروليتاريا على الحكم وتأميم جميع وسائل الإنتاج. ومع ذلك فإن مدى ما نشاهده في انكلترا من تطور الرأسمالية وتمركز الإنتاج الزراعي لم يبلغه أي بلد لا في نهاية القرن الماضي وحسب، بل اليوم أيضاً. أما في البلدان الأخرى، فرغم تطور الرأسمالية في الريف، لا يزال هناك طبقة كثيرة العدد إلى حد لا يستهان به من الملاكين المنتجين، الصغار والمتوسطين، الذين ينبغي تقرير مصيرهم في حالة وصول البروليتاريا إلى الحكم."نفس المرجع.

لقد اتخد المناشفة الجدد من قول ماركس بحتمية زوال الرأسمالية ذريعة لتغليط البروليتاريا والكذب عليها بقولهم بعدم جدوى الثورة الإشتراكية و ضرورة الإنتظار إلى حين بلوغ الرأسمالية مستوى التحول السلس إلى الإشتراكية ، و هؤلاء التحريفيون الإنتهازيون يريدون من الماركسيين اللينينين المساهمة في المؤامرة ضد الطبقة العاملة و الفلاحين الصغار و المتوسطين الذين يستغلهم الرأسماليون ، يريدون منهم الإنتظار إلى حين العصف بالفلاحين إلى صفوف البروليتاريا الزراعية عندما يستولي الملاكون العقارييون الكبار على جميع أراضيهم و يتم تمركز الإنتاج في الزراعة ، إنه بالفعل حلم التحريفيين الإنتهازيين الذين ينتظرون الفرصة للسيطرة على السلطة السياسية كما فعل المناشفة في فبراير 1917 . فكيف يمكن للماركسيين اللينينيين الإنتظار إلى حين سيطرة الطغمة المالية على الأساس الإقتصادي و هلاك الغالبية العظمى من الشعب من أجل تحقيق الإشتراكية الهلامية المسيطرة على عقول التحريفيين الإنتهازيين ؟
لقد أكد لينين أنه لا يمكن الإنتظار حتى يصبح غالبية السكان بروليتاريين لبناء دولة اشتراكية وأنه لا بد من ديكتاتورية البروليتاريا في دولتها كمرحلة انتقالية ، و لا يمكن أن يتم ذلك إلا بالقضاء على سلطة البورجوازية بالثورة الإشتراكية التي تقودها طليعة البروليتاريا ، و أكد لينين على ضرورة تحالف الطبقة العاملة و الفلاحين بعد الثورة الإشتراكية ضد تحالف الرأسماليين و الملاكين العقاريين الكبار.
و تتجلى مهمة دولة ديكتاتورية البروليتاريا في إدارة المسائل الإقتصادية بالدرجة الأولى ، المسائل الإقتصادية عكس ربط الإدارة بالنشاط السياسي فقط ، و ذلك نظرا لما تتطلبه المرحلة الإنتقالية من الرأسمالية إلى الشيوعية أي الإشتراكية بالإنتقال من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الإشتراكي ، و هكذا "تخضع المهام السياسية للمهام الإقتصادية" بعد معاناة الحرب الأهلية من أجل بعث القوى المنتجة الإشتراكية ، أي إعادة تنظيم الإقتصاد وفق المنهج الإشتراكي .
و قد حصر لينين هذه المهمة في نقطتين رئيسيتين :

ـ الحساب و الرقابة على إنتاج و توزيع المنتجات ، بأوسع و أعم و أشمل أشكال هذا الحساب وهذه الرقابة.
ـ زيادة إنتاجية العمل .

و يقول لينين عن تنفيذ هاتين المهمتين :

"و هاتان المهمتان لا يمكن أن تقوم بهما أي جماعة كانت أو أي دولة كانت تنتقل إلى الإشتراكية ، إلا إذا كانت الرأسمالية قد خلقت بدرجة كافية المقدمات الأساسية لهذا ، الإقتصادية منها والإجتماعية و الثقافية و السياسية . فبدون الإنتاج الآلي الكبير ، بدون شبكة متطورة إلى هذا الحد أو ذاك من السكك الحديدية و المواصلات البريدية والبرقية ، بدون شبكة متطورة إلى هذا الحد أو ذاك من مؤسسات التعليم العام ، لا يمكن بكل تأكيد ، لا تنفيذ المهمة الأولى و لا تنفيذ المهمة الأخرى ، بصورة ذائبة منظمة و على صعيد الشعب كله". كتاب : في الثقافة و الثورة الثقافية ، موضوع : المهام المباشرة أمام السلطة السوفييتية.

و هكذا يتطلب البناء الإشتراكي الإعتماد على المقدمات التي خلفها النظام القديم أي الرأسمالية ، و لئن كانت روسيا لم تتوفر بشكل كامل على مثل هذه المقدمات إلا أن ديكتاتورية البروليتاريا قادرة على الإستفادة من تجارب الدول المتقدمة بأوربا الغربية ، كما أنه لا يمكن بناء الإشتراكية بدون "عناصر ثقافة الرأسمالية الكبيرة" و على رأسها الإستفادة من "المثقفين الديمقراطيين البورجوازيين الصغار" ، الذين يشكلون الدعامة الأساسية للبناء الإشتراكي رغم إجبار دكتاتورية البروليتاريا على محاربة الديمقراطية البورجوازية الصغيرة نظرا لما تتطلبه سيادة الديمقراطية البروليتارية الإشتراكية.

يقول لينين :

" أما الآن فقد ظهرت إمكانية الإستفادة من هؤلاء المثقفين في صالح الإشتراكية ، هؤلاء المثقفين الذين ليسوا اشتراكيي الميل و لن يكونوا أبدا شيوعيي الميل ، و لكن الذين يحملهم الآن سير الأحداث و العلاقات الموضوعي على التزام موقف الحياد إزاءنا ، موقف الجار من الجار . و إننا لن نستند أبدا إلى المثقفين ، بل سنستند فقط إلى طليعة البروليتاريا التي تجر وراءها جميع البروليتاريين وجميع الفلاحين الفقراء . و لا يمكن أن يكون لحزب الشيوعيين سند آخر . و لكن الإستناد إلى طبقة تمثل الديكتاتورية شيء ، و السيادة على الطبقات شيء آخر". نفس المرجع ، موضوع : تقرير عن موقف البروليتاريا من الديمقراطية البورجوازية الصغيرة في اجتماع المناضلين الحزبيين في موسكو.

في بداية الثورة الإشتراكية بروسيا سلك لينين أسلوب المفاهمة مع الديمقراطية البورجوازية الصغيرة انطلاقا من امكانية الإستفادة منها على أساس تنفيذ قرارات ديكتاتورية البروليتاريا ، الطبقة السائدة بعد ثورة أكتوبر ، إلا أن شعار المفاهمة هذا لم يدم طويلا و اضطر لينين لتغييره بعدما عمد الديمقراطيون البورجوازيون الصغار إلى محاربة ديكتاتورية البروليتاريا خلال الحرب الأهلية ، فالبناء الإشتراكي تطلب في أول الأمر الإعتماد على مخلفات النظام البائد الرأسمالي الذي يشكل فيه المثقفون العنصر الأساس ، و الذين يجب التعامل معهم بحذر و صرامة تامتين من أجل الإستفادة من إمكانياتهم ومؤهلاتهم الثقافية ، هذه العناصر التي أفسدتها الرأسمالية و التي يجب استثمارها في تنفيذ الخطط التي ترسمها "البروليتاريا المدربة و المحولة إلى قوة كفاحية قادرة على تحطيم البورجوازظية" كما قال لينين.
و أكد لينين على أنه يتوجب على البروليتاريا أن تحسن اختيار المثقفين الجديرين بالإستفادة منهم و التعهد إليهم بمهام واضحة و معينة ، و مراقبتهم للتثبت من تنفيذها بكل دقة و معاملتهم حسب ما قال ماركس بصدد موظفي كومنة باريس :

"كل رب عمل بمفرده يعرف كيف يختار لنفسه المعاونين الصالحين ، المحاسبين الصالحين ، ويعرف ، عندما يخطئون ، كيف يصلح أخطاءهم ، و يعرف ، إذا لم ينفعوا ، كيف يستعيض عنهم بجدد ، صالحين". عن ماركس : "الحرب الأهلية في فرنسا".

و هكذا يوضح لينين أنه لا يمكن بناء الإشتراكية دون القدرة على استخدام إرث من الثقافة الرأسمالية و على رأسه المثقفون ، مما يتطلب معاملتهم ك"الجار مع الجار" مع إخضاعهم لرقابة صارمة أثناء تنفيذ مهامهم الموكولة إليهم من طرف البروليتاريا ، حيث أنه لا يمكن للبروليتاريا وحدها بحكم سلطة ديكتاتوريتها أن تقوم بجميع مهام دولة ديكتاتورية البروليتاريا ، و لأن الديمقراطيين البورجوازيين الصغار متذبذبين ، و سيظلون متذبذبين " طالما لم تنتصر الثورة الإشتراكية العالمية كليا " كما يقول لينين ، يحب مراقبتهم ، و لأن المهمة الرئيسية التي تواجه البروليتاريا هي مواجهة الإمبريالية ، فلا بد من استعمال كل هذه العناصر المتذبذبة التي تستغلها الإمبريالية لاستمالتها إلى صفوف البروليتاريا.

يقول لينين :

" ينبغي لنا أن نستخدم تلك العناصر من المتذبذبين الذين تدفعهم وحشية الإمبريالية نحونا . وهذا ما سنفعله . و أنتم تعرفون بروعة أنه لا يجوز في الحرب إهمال أي مساندة ، حتى و إن جاءت بصورة غير مباشرة . بل إن وضع الطبقات المتذبذبة ذاته يتسم في زمن الحرب بأهمية هائلة . و بقدر ما تتفاقم الحرب حدة ، يترتب علينا أن نكسب مزيدا من النفوذ على العناصر المتذبذبة التي تأتي إلينا . و من هنا ينجم أن التاكتيك الذي اتبعناه طيلة نصف سنة إنما يجب تعديله وفق المهام الجديدة حيال مختلف فئات الديمقراطية البورجوازية الصغيرة." نفس المرجع.

و قد طرحت أهمية استخدام المادة التي خلفها العالم الرأسمالي القديم في مستوى الجيش الأحمر حيث اعتماده على الضباط السابقين في الجيش القيصري ، هؤلاء الضباط الذين يتموقعون في قمة الجيش الأحمر جعل هذه المسألة تشكل هاجسا لدى بعض البلاشفة ، و تخوفهم من انقلابهم على الثورة ، و هم لا يعرفون أن تنظيم الجيش الأحمر لا يمكن أن يقوم به أناس جدد ، و أن الإستفادة من الأخصائيين من الضباط القدامى ضرورية في إعداد هذا الجيش بإعداد هؤلاء الضباط الأخصائيين البورجوازيين إعدادا علما .

يقول لينين :

"نحن لسنا طوباويين يظنون بأن قضية بناء روسيا الإشتراكية يمكن أن يقوم بها أناس جدد ، فنحن نستخدم المادة التي خلفها لنا العالم الرأسمالي القديم . و الناس القدماء نضعهم في ظروف جديدة ، و نحيطهم برقابة مناسبة ، ونخضهم لإشراف البروليتاريا اليقظ ، و نجبرهم على تنفيذ العمل اللازم لنا . هكذا فقط يمكن البناء . فإذا كنتم لا تستطيعون أن تبنوا بناية من المادة التي خلفها لنا العالم البورجوازي ، فإنكم لن تبنوا أبدا ، و أنتم لستم شيوعيين بل منمقي جمل فارغة . فلأجل البناء الإشتراكي لا بد لنا من أن نستعمل كليا العلم و التكنيك و على العموم كل ما خلفته لنا روسيا الرأسمالية . يقينا أننا سنواجه في هذا الطريق مصاعب جمة . و لا مناص من الأخطاء . و في كل مكان يوجد خونة و يوجد مخربون غدارون . هنا لا بد لنا من العنف في المقام الأول . و لكنه ينبغي لنا أن نلجأ بعد إلى العنف ، إلى نفوذ البروليتاريا المعنوي ، إلى التنظيم القوي و الإنضباط الشديد . و لا داعي إطلاقا إلى نبذ الأخصائيين المفيدين لنا". نفس المرجع.

و أكد لينين على أهمية الريف في بناء الثقافة البروليتارية مما جعل البلاشفة يولونها اهتماما خاصا في سياساتهم ، و ذلك بربط علاقات متينة بين البروليتاريين بالمدن مع الفلاحين الفقراء بالريف رغم وجود مصاعب في علاقات الإنتاج ، لكون الفلاحين يتمسكون بملكيتهم الخاصة للأرض و التحكم في إنتاجهم الفلاحي مما يضع عوائق جمة أمام البناء الإشتراكي ، الشيء الذي وضع أمام البروليتاريا مهمة إقناعهم بأن تجاوز مخلفات الحرب يتطلب التضحية من طرف الفلاحين من أجل البناء الإشتراكي ، و هنا تكمن أهمية الإقناع في التعامل مع الفلاحين لإقناعهم للسير في طريق البناء الإشتراكي بالتنازل عن الملكية الخاصة .

يقول لينين :

" كان يترتب علينا أن نقيم صلة بين بروليتاري المدن و فقراء الريف ، و هذا ما فعلناه . فالآن تقوم صلة في منتهى الوثوق بفضل آلاف الخيوط غير المرئية . و هنا ، كما في كل مكان ، نصطدم بمصاعب جمة ، لأن الفلاحين إعتادوا أن يشعروا بأنهم مالكون مستقلون . إنهم إعتادوا أن يبيعوا حبوبهم بحرية ، و كان كل فلاح يعتبر أن هذا حق له يستحيل انتزاعه منه . و الآن ينبغي القيام بعمل هائل من أجل لإقناعهم نهائيا بأنه لا يمكن التغلب على هذا الخراب الذي خلفته لنا الحرب إلا بتنظيم الإقتصاد تنظيما شيوعيا . و هنا لم يعد ينبغي اللجوء إلى العنف ، بل إلى الإقناع فقط ". نفس المرجع.

لقد أكد لينين على أن العنف وحد لا يمكن ان يحل مسألة بناء الإشتراكية في ضرورة استعمال المادة التي خلفتها الرأسمالية ، إنما كذلك التأثير المعنوي على الديمقراطيين البورجوازيين الصغار ، مما له أهمية قصوى في استثمار المثقفين و الأخصائيين البورجوازيين بالمدن و فقراء الفلاحين بالريف ، فبعد سحق الرأسمالية يجب على البروليتاريا الإستفادة من كل الثقافة التي خلفتها البورجوازية و بناء الإشتراكية منها ، و هذا العمل هو نصف المهمة التي يجب القيام بها ليس بالعنف فقط و لكن كذلك بالتأثير المعنوى أيضا.

يقول لينين :

" سيقولون : عوضا عن العنف ، يوصي لينين بالتأثير المعنوي ! و لكنه من الغباوة تصور أنه من الممكن بالعنف وحده حل مسألة تنظيم علم جديد و تكنيك جديد في مضمار بناء المجتمع الشيوعي ... إن استخدام كل جهاز المجتمع البورجوازي ، الرأسمالي ، إن هذه المهمة لا تتطلب العنف المظفر فحسب ، بل تتطلب ، علاوة على هذا ، التنظيم و الإنضباط و الإنضباط الرفاقي وسط الجماهير ، وتنظيم التأثير البروليتاري في جميع السكان الآخرين ، وخلق وضع جديد بين الجماهير يرى فيه الأخصائي البورجوازي أن لا مخرج له و أنه تستحيل العودة إلى المجتمع القديم ، و أنه لا يسعه أن يقوم بعمله إلا مع الشيوعيين الذين يقفون بقربه و يقودون الجماهير و يتمتعون بمطلق ثقة الجماهير ويعملون على أن لا تعود ثمار العلم و التكنيك البورجوازي ، ثمار تطور المدينة خلال آلاف السنين ، إلى حفنة من الأفراد يستغلونها لكي يبرزوا و يثروا ، بل أن تعود إلى جميع الشغيلة بلا استثناء." نفس المرجع.

إنه لا يمكن القضاء على الطبقية دفعة واحدة في فجر الثورة الإشتراكية لأنه لا يمكن أن ننتظر حتى يصبح كل الناس بروليتاريين لنقوم بالثورة ، و "الرأسمالية لا تكون رأسمالية إذا لم تكن البروليتاريا "الصرفة" محاطة بجمهرة من النماذج المتنوعة تنوعا خارقا" كما يقول لينين ، من أشباه البروليتاريا و الفلاحين الصغار و الحرفي الصغير وأصاحب الملكية الصغيرة و الفلاح المتوسط ... و"إذا لم تكن البروليتاريا نفسها منقسمة في داخلها إلى فئات أكثر تطورا و أقل تطورا" كما يقول لينين.
في ظل هذه الظروف يكون على البروليتاريا الواعية ، الطليعة الثورية ، أي الحزب البروليتاري اللجوء إلى "المناورة و التوافق و المساومات مع مختلف فئات البروليتاريين ، و مع مختلف أحزاب العمال و صغار أصحاب الملكية" ، و لن يتم ذلك إلا ب"معرفة كيفية تطبيق هذا التكتيك" انسجاما مع هدف الحزب في الرفع من مستوى الوعي لدى البروليتاريا و "مستوى ثوريتها وقدرتها على النضال و على الإنتصار" كما يقول لينين.
فهذا التاكتيك (المناورة و التوافق و المساومات) وفق هذه الشروط أمر لا مفر منه لأي حزب بروليتاري يسعى لبناء سلطة ديكتاتورية البروليتاريا ، شريطة أن تخدم هذه المساومة المصالح الطبقية للبروليتاريا ، و انتصار البلاشفة على المناشفة تطلب تطبيق هذا التاكتيك ، ليس فقط قبل ثورة أكتوبر بل كذلك بعدها ، بحكم تذبذب الديمقراطيين البورجوازيين الصغار.

يقول لينين :

" إن الديمقراطيين البورجوازيين الصغار (و المناشفة في عدادهم) يتأرجحون ، و لا مناص ، بين البورجوازية و البروليتاريا ، بين الديمقراطية البورجوازية و النظام السوفييتي ، بين الإصلاحية والثورية ، بين حب العمال و الخوف من الديكتاتورية البروليتارية و هلمجرا . يجب أن يكون التاكتيك الصحيح للشيوعيين الإستفادة من هذه التأرجحات و أن لا يكونوا مهملين لها أبدا . و هذه الإستفادة تستلزم التساهلات مع تلك العناصر التي تنعطف نحو البروليتاريا ، و ذلك عندما تنعطف ، و بمقدار ما تنعطف ، نحو البروليتاريا ، و تستلزم إلى جانب ذلك النضال ضد أولئك الذين ينعطفون نحو البورجوازية." كتاب : مختارات الجزء الرابع ، موضوع : لا مساومة أبدا ؟

لقد أثبتت الحرب الأهلية بعد ثورة أكتوبر أن الديمقراطية البورجوازية الصغيرة ما هي إلا أداة في أيدي الرأسماليين و الملاكين العقاريين ، و أن التحالف بين البروليتاريا و الفلاحين قد رسخ أسس النضال الطبقي بين هاتين الطبقتين ، و أن سبع سنوات من الحرب الإمبريالية و الأهلية قد علمت الفلاحين معنى النضال الطبقي إلى جانب البروليتاريا ، من أجل البناء الإشتراكي ، مما يضع على عاتق البروليتاريا وضع تدابير صحيحة لقيادة الفلاحين نحو البناء الإشتراكي ، الشيء الذي يضعها في المحك أمام اختياراتها السياسية إزاء الجماهير البورجوازية الصغيرة ، وخلال الحرب الأهلية تم وضع أسس العلاقات الصحيحة بين البروليتاريا و الفلاحين .

يقول لينين :

" إن حقبة 1917 ـ 1921 هي التي كونت أساس العلاقات الصحيحة بين البروليتاريا والفلاحين في روسيا السوفييتية ، حقبة أدى فيه غزو الرأسماليين و الملاكين العقاريين ، بمساندة كل البورجوازية العالمية و جميع أحزاب الديمقراطية البورجوازية الصغيرة (الإشتراكيين ـ الثوريين و المناشفة) إلى إنشاء و توطيد و بلورة التحالف الحربي بين البروليتاريا و الفلاحين دفاعا عن سلطة السوفييتات . إن الحرب الأهلية هي شكل من أشكال النضال الطبقي ، والحال ، بقدر ما تشتد حدة هذا النضال ، بقدر ما تحرق في نارها بمزيد من السرعة جميع الأوهام و الخرافات البورجوازية الصغيرة ، و يبين الواقع ذاته بمزيد من الوضوح حتى لآشد فئات الفلاحين تأخرا ، أن ديكتاتورية البروليتاريا هي وحدها التي تستطيع أن تأتيها بالخلاص ، و أن الإشتراكيين ـ الثوريين و المناشفة ليسوا في الواقع سوى خدم الملاكين العقاريين و الرأسماليين". نفس المرجع.

و قد ساهم التحالف في الحرب بين البروليتاريا و الفلاحين في الإنتقال من المهام السياسية إلى المهام الإقتصادية ، إلى العلاقات الإقتصادية الصحيحة بين البروليتاريا و الفلاحين ، إلى تحالف اقتصادي متين في اتجاه البناء الإشتراكي.

يقول لينين :

"إن التحالف الحربي بين البروليتاريا و الفلاحين قد كان ـ و لم يكن بوسعه ألا يكون ـ الشكل الأول للتحالف الوطيد بين هاتين الطبقتين و لكنه ما كان في مقدوره أن يبقى حتى بضعة أسابيع دون تحالف اقتصادي معين بينهما . فمن دولة العمال ، تلقى الفلاحون كل الأرض و الحماية ضد الملاك العقاري و ضد الكولاك ، و من الفلاحين تلقى العمال قرضا من المنتجات الغذائية ، بانتظار بعث الصناعة الضخمة." نفس المرجع.

لقد أصبحت مسألة تحالف البروليتاريا مع الفلاحين في منظور اللينينية مسألة أساسية في اختبار الحلفاء الحقيقيين ، ليس من باب المناورة و التوافق و المساومة ، و لكن من باب المبدئية لكون كل من يسعى إلى تحقيق الثورة البروليتاريا لا بد و أن يحدد حلفاء البروليتاريا أثناء هده الثورة ، عكس ما تقوم به الديمقراطية البورجوازية الصغيرة من تجاهل الفلاحين و دورهم في تحقيق البناء الإشتراكي ، و قد أكد التحالف الحربي أثناء الحرب الأهلية أهمية التحالف بين البروليتاريا و الفلاحين في سحق الرأسماليين و الملاكين العقاريين ، و بالتالي سحق الرأسمالية ، بعد الإنتقال من المهام السياسية إلى تنفيذ المهام الإقتصادية ، من التحالف الحربي إلى التحالف الإقتصادي.

يقول ستالين :

" هل الإمكانيات الثورية الكامنة لدى جماهير الفلاحين ، بفعل ظروف وجودهم الخاصة ، قد استنزفت أم لا ، وإذا كانت لم تستنزف ، فهل من أمل ، هل من أساس للاستفادة من هذه الإمكانيات في سبيل الثورة البروليتارية ، ولتحويل جماهير الفلاحين ، أي تحويل أكثريتهم المستثمَرة ، من احتياطي للبرجوازية كما كانوا في الثورات البرجوازية في الغرب ، وكما لا يزالون في الوقت الحاضر ، إلى احتياطي ، إلى حليف للبروليتاريا ؟ . إن اللينينية تجيب على هذا السؤال بالإيجاب ، أي أنها تعترف بوجود كفاءات ثورية في صفوف أكثرية الفلاحين ، وبإمكان الاستفادة من هذه الكفاءات لمصلحة دكتاتورية البروليتاريا . ويؤكد تاريخ الثورات الروسية الثلاث ، تأكيداً تاماً ، استنتاجات اللينينية في هذا الموضوع." كتاب : أسس اللينينية.

لقد اهتم لينين بدور الفلاحين في الثورة البروليتارية الإشتراكية باعتبارهم الحلفاء الأساسيين للبروليتاريا ، وتأكد من ذلك خلال الثورات الثلاث في روسيا في القرن 20 ، فمن تحالفهم في الثورة الديمقراطية البورجوازية إلى تحالفهم في الثورة الديمقراطية البروليتارية ، إلى البناء الإشتراكي ، فهذا التحالف خلال الثورة الديمقراطية البورجوازية قد أضعف البورجوازية بروسيا عكس الثورات الديمقراطية البورجوازية بالغرب الأوربي ، لكونها في روسيا تتسم بقيادة البروليتاريا التي حولتها إلى ثورة ديمقراطية بروليتارية ، ليس فقط على المستوى السياسي بل كذلك على المستوى الإقتصادي.
و كان ضروريا للخروج من الحرب الإمبريالية الأولى طرد الديمقراطية البورجوازية الصغيرة من الحكم عبر ثورة أكتوبر 1917 ، و الإنتقال مباشرة إلى الثورة الديمقراطية البروليتارية والشروع في البناء الإشتراكي ، ذلك ما استنفر كل القوى المعادية للثورة من بورجوازية عالمية و رأسماليين وملاكين عقاريين و اشتراكيين ـ ثوريين و مناشفة ضد تحالف البروليتاريا و الفلاحين ، مما أشعل نار الحرب الأهلية التي انتصر فيها البلاشفة ، و استخلص منها لينين الكثير حول التحالف الحربي بين البروليتاريا و الفلاحين ، الذي ساهم بشكل كبير في الإسراع بالتحالف الإقتصادي بين هاتين الطبقتين كشرط أساسي في بناء الإشتراكية بالإتحاد السوفييتي.

يقول ستالين :

"وإذن فكيف العمل إذا كانت جميع وسائل الإنتاج لم تكن اجتماعية، بل قسم منها فقط، وإذا كانت جميع الشروط الملائمة لاستيلاء البروليتاريا على الحكم متوفرة، ـ هل يجب أن تستولي البروليتاريا على الحكم، وهل يجب القضاء، بعد ذلك فوراً، على الإنتاج البضاعي؟ لا يمكن طبعاً أن يعد جواباً رأي بعض الماركسيين المزعومين الذين يرون أنه ينبغي، في هذه الأحوال، الامتناع عن الاستيلاء على الحكم، والانتظار حتى يتسع الوقت للرأسمالية لتخرب ملايين المنتجين الصغار والمتوسطين، وتحولهم إلى أجراء زراعيين، وتمركز وسائل الإنتاج في الزراعة، وأنه، بعد ذلك فقط، يمكن وضع مسألة استيلاء البروليتاريا على الحكم وجعل جميع وسائل الإنتاج اجتماعية. ومن المفهوم أن الماركسيين لا يمكنهم أن يقبلوا مثل هذا «الحل» إذا كانوا لا يريدون أن يلطخوا شرفهم بالخزي والعار.
كذلك لا يعتبر جواباً رأي الماركسيين المزعومين الآخرين الذين يظنون أنه ربما يجب الاستيلاء على الحكم واللجوء إلى نزع ملكية المنتجين الصغار والمتوسطين في الريف وجعل وسائل إنتاجهم اجتماعية. فالماركسيون لا يستطيعون أن يسيروا في هذه الطريق الخرقاء والمجرمة لأن هذه الطريق تحرم الثورة البروليتارية كل إمكانية للنصر، ونلقي بجماهير الفلاحين في معسكر أعداء البروليتاريا إلى أمد طويل."نفس المرجع.

3 ـ في التناقض بين الثورتين الديمقراطية البورجوازية و الديمقراطية البروليتارية

كثر الحديث عن دراسة الثورات في القرن 20 و التي اتسمت بالبعد الإشتراكي الذي وضع لينين أسسه النظرية و العملية بعد تحقيق الثورة الإشتراكية ببلد واحد و توسيع هذا المفهوم ليشمل عدة دول بعد الحرب الأهلية والحرب الإمبريالية الثانية ، واختلف الدارسون حول تناول الثورتين الروسية و الصينية ، الإختلاف الذي يطغى عليه التعصب الفكري و العقائدي لهؤلاء ، إلى حد تجاوز المنطلقات العلمية المادية التي تتطلبها الدراسة التاريخية لمثل هذين الحدثين العظيمين ليصل إلى حد التنافر الأيديولوجي و السياسي بين الفريقين ، اللذان يتبادلان التهم حول المنظور التاريخي لمنطلقاتهما المتناقضة التي احتلت مستوى أيديولوجيا و سياسيا يقود إلى الكلام عن التقليد والتحديث في الفكر والنظرية ، الذي لا ندري إلى أين سيصل بأصحابه و متى سيتم وضع حد لمثل هذه المجازفات الجدلية غير العلمية المادية.
فالتناقض بين الثورتين التي قادهما ستالين بالإتحاد السوفييتي و ماو بالصين، جعلت بعض هؤلاء يحددون انتماءاتهما الفكرية و النظرية بالصفتين المقرونتين باسم هذين القائدين ، ليتم الحديث عن الماركسية اللينينية ـ الستالينية و الماركسية الللينينية ـ الماوية ، محاولة منهم لتجاوز منطلقاتهما النظرية و العملية كحد فاصل بين البعد التاريخي للمفهوم إلى التركيز على الإنتماء الأيديولوجي والسياسي ، فينعت هذا الفريق الآخر بالتقليدية و التحريفية ويعتبر هذا نفسه أكثر تقدمية من الآخر ، كما يفعل بالأخص رفاقنا "الماويون المغاربة" انطلاقا من مقولة ماو :

" إذ أن تفكيرهم يعجز عن مجاراة تغيرات الظروف الموضوعية فأظهروا أنفسهم تاريخيا في صورة الانتهازية اليمينية. إن هؤلاء الناس لا يدركون أن صراع التناقضات قد دفع العملية الموضوعية إلى الأمام ، فبقيت معرفتهم في مرحلتها القديمة." كتاب : في التناقض.

و التقليدية بالنسبة إليهم مرادفة للإنتهازية مما يدفع بهم إلى أن يواجهوا كل من يخالفهم الرأي من الماركسيين اللينينيين و من منطلقاتهم الفكرية و النظرية اللاعرفانية.

و هكذا يتم اقتران التقليد/القديم بالإنتهازية كما جاء في قول ماو الذي يتخذه "الماويون" للتغطية على عدم القدرة على تجاوز منطلقاتهم اللاعرفانية التي يحددها موقع الثورة الصينية اللاتاريخي في أذهانهم ، فيعتبرون كل عمل ابتغى فهم الواقع الموضوعي للأوضاع السياسية و الإقتصادية الراهنة وآفاق الثورة الديمقراطية البروليتارية في علاقتها بالثورة الديمقراطية البورجوازية ، انطلاقا من المذهب الماركسي اللينيني عملا تقليديا ، غافلين كنه التقليد والتقليدية الذي يتجاوز البعد التاريخي للمفهومين ليصل إلى حد البنية الفكرية النمطية التي تريد إسقاط الإنتماء الأيديولوجي على أية قضية من القضايا السياسية و الإقتصادية الراهنة بشكل فج ، فالتقليد ليس فقط الرجوع إلى الوراء من أجل استنباط الحلول الواقعية الراهنة لهذه القضايا بل هو كذلك تجريد لفكر القائد و اعتباره حقيقة مطلقة يتم التشبث بها بشكل أعمى بمزج صفة القائد بالإنتماء الفكري و العقائدي .
فالمذهب الماركسي اللينيني باعتباره مرحلة متطورة عليا للماركسية ليست فقط صفة مقرونة بالمناضل الثوري لينين ، بل هي أكثر من ذلك نظرية حديثة حول عصر الإمبريالية و الثورة الإشتراكية ، فكيف لنا أن نضيف لها صفة ثانية و ثالثة و أكثر ؟ و من منطلقات أيديولوجية و سياسية و ننعتها بالستالينية و الماوية و الغيفارية وغيرها، و بالتالي نعت المتشبثين بالمفهوم العلمي المادي للماركسية اللينينية بالتقليد و الفكر التقليدي.
إن البعد التاريخي للمفهوم لا يتم من منطلقات أيديولوجية و سياسية متعصبة تجعل صاحبها يستخف بل يكن العداء إلى أي حد لغير المتفقين معه ، كما يفعل "الماويون المغاربة " اتجاه الماركسيين اللينينيين بل النظرة إلى المفهوم يجب أن تنطلق من النظرة الفلسفية المادية للدياليكتيك الماركسي و ليس من الأوهام الأيديولوجية الضيقة ، فما هي الدلالة التاريخية لمفهوم الماركسية اللينينية ؟
أولا ـ ارتباط ظهور مفهوم الماركسية اللينينية بحدث تاريخي عظيم طبع حياة الناس بل المجتمعات و العالم بأسره و هو إنجاز الثورة الإشتراكية ، هذا المفهوم الذي يعتبر التطوير التاريخي الممكن للماركسية على المستوى المعرفي و السياسي و الإقتصادي و التنظيمي و القابل للتطور على المستوى الممارسة العملية ، و أصبحت بذلك المفهوم الجديد للماركسية أي الماركسية اللينينية التي تعتبر حدثا تاريخيا تجاوز منطلقاته النظرية الفلسفية و العلمية ليصبح المنطلق الأساس لكل ممارسة ثورية تسمى بهذا المفهوم ، و تصبح هي بذاتها و لذاتها منطلقات التطور المستقبلي للبشرية .
ثانيا ـ تاريخ هذا المفهوم مقرون بالحدث النوعي بالقفزة النوعية التي تلازمه عبر التاريخ والتي طبعت العالم و هي الثورة الإشتراكية بالإتحاد السوفييتي ، النموذج الوحيد و الأوحد في العالم الذي استطاع طبع حياة الناس بعد الثورات البورجوازية بأوربا الغربية ، و أحدثت طفرة فلسفية و علمية لا يمكن تجاوزها بالنمطية الفكرية و التقليد بل بالعلمية المادية المعرفية المنطقية التاريخية ، التي لا يمكن أن تنطلق إلا من الماركسية اللينينية كنظرية الثورة الديمقراطية البروليتارية نقيض الثورة الديمقراطية البورجوازية ، باعتبار أن منطلقات الثورة الديمقراطية البورجوازية منبثقة من حضن نمط الإنتاج الإقطاعي و من فلسفة رفض هذا النمط من طرف البورجوازية و ليس من منطلقات المرحلة العليا للرأسمالية الحديثة التي تعتبر حضن منطلقات الثورة الإشتراكية و نقيضها الأساسي.

هذا الحد الفاصل بين الثورتين تم بشكل تاريخي لا انفصام فيه و هو وليد الحدث التاريخي للثورة الإشتراكية ، الذي لا يمكن تجاوزه بالرجوع إلى الخلف و الحديث عن تطوير الماركسية اللينينية من منطلقات الثورة الديمقراطية البورجوازية بالصين التي لم تستطع الإنتقال إلى المرحلة الثانية/الثورة الديمقراطية البروليتارية ، فما هي منطلقات الثورة الصينية ؟

أولا ـ هي التشبث بالنظرية الماركسية اللينينية التي أعطت نموذجا حيا للثورة الإشتراكية السوفييتية نقيض الرأسمالية الحديثة ذات البعد الإمبريالي الذي يميز المرحلة التاريخية التي أفرزت الماركسية اللينينة باعتبارها التكامل النظري لفلسفة و علم الماركسية ، و هي نقيض الثورة البورجوازية و النظرية الثورية البروليتارية التي لا جدال فيها بعدما تم تحقيق الثورة الإشتراكية بالإتحاد السوفييتي ، و طبع الحياة في العالم بطابعها و خلق تناقضات تاريخية بين الإمبريالية والإشتراكية يصعب تجاوزها أيديولوجيا و سياسيا . فمهما تم النضال الثوري عبر الثورة الديمقراطية البورجوازية لا يمكن أن يصل حد تجاوز منطلقات الثورة الديمقراطية البروليتارية التي تم تحقيقها عبر البناء الإشتراكي في بلد واحد ، الذي تم توسيعه جغرافيا في شكل اتحاد أكثر من 24 بلدا و مئات القوميات ، عاشت وتعايشت في نمط إنتاج واحد موحد تنتفي فيه الفوارق الطبقية و الإجتماعية بشكل كبير و أصبحت فيه القوى المنتجة ذات الصفة الإجتماعية الإشتراكية ، ذلك ما طبع الثورة الإشتراكية بالإتحاد السوفييتي و شرق أوربا .

ثانيا ـ لقد كان للبناء الإشتراكي الذي انطلق منذ نهاية الحرب الأهلية التي انتصر فيها تحالف العمال والفلاحين أثر كبير في ترسيخ أسس المفهوم الإشتراكي للثورة الذي أحرز انتصارات تلو انتصارات سياسيا واقتصاديا ، وصلت حد القفزة النوعية بعد توسيع مفهوم الثورة الإشتراكية في بلد واحد مع الإنتصار الباهر على الإمبريالية في الحرب الإمبريالية الثانية ، هذا الإنتصار الذي خلص الإنسانية من جرائم الفاشية و النازية و فتح الباب أمام توسيع مفهوم الثورة من الغرب إلى الشرق بعد تحقيق الثورة الديمقراطية البورجوازية بالصين ذات الجذور الديمقراطية البروليتارية ، بفضل تحقيق الثورة الديمقراطية البروليتارية بالإتحاد السوفييتي و شرق أوربا و التي قال عنها ماو :

" وقد بدأ تحقيق مثل هذا التغيير في جزء من الكرة الأرضية أي في الإتحاد السوفياتي. ولا يزال الشعب هناك يقوم بدفع عملية هذا التغيير إلى الأمام. أما الشعب الصيني وسائر شعوب العالم فهي بدورها تمر الآن، أو ستمر في المستقبل، بمثل هذه العملية." نفس المرجع.
و لم تستطع الثورة الصينية تجاوز إنجازاتها العظيمة في الإتحاد السوفييتي كما يعترف ماو بذلك ، لكونها سبقت الثورة الديمقراطية البورجوازية الصينية بكثير على جميع المستويات النظرية والعملية.

ثالثا ـ لقد انطلقت الثورة الديمقراطية البورجوازية الصينية نظريا من منطلقات الماركسية اللينينية التي وضع لينين أسسها و طورها ستالين في مرحلة البناء الإشتراكي في الإتحاد السوفييتي ، وشرق أوربا التي حررها من سيطرة الإمبريالية و منع الإمبرياليين من اجتياح الصين مما فتح آفاق انتصار الثورة الصينية التي واجهت الإقطاع المتعفن سياسيا و اقتصاديا ، إلا أن الثورة الصينية لم تستطع تجاوز مرحلة الثورة الديمقراطية البورجوازية رغم أنها حدث عظيم بعد الثورة الإشتراكية السوفييتية ، و بذلك لا يمكن أن تضيف إلى الماركسية اللينينية فلسفيا و معرفيا وسياسيا و اقتصاديا وتنظيميا ، لكون هاتين الثورتين متناقضتين في ظل الوحدة بينهما ، و التي تشكل فيه الثورة الديمقراطية البورجوازية بصفة عامة التناقض الثانوي المساعد على بلوغ مستوى الثورة الديمقراطية البروليتارية ، باعتبارها الحضن الذي انبثقت منه الثورة الإشتراكية ، و قد يصبح هذا التناقض أساسيا في كون تناقضات الثورة الديمقراطية البورجوازية الداخلية التي تحاول عرقلة تطور القوى المنتجة في اتجاه الديمقراطية البروليتارية ، كما هو الشأن في الصين التي لم تستطع تخطي مستوى التطور الديمقراطي البورجوازي ، بعد فقدانها للسند التاريخي للثورة الديمقراطية البروليتارية بروسيا ، بعد التراجع عن الخط و الإسترانيجية اللينينين بالإتحاد السوفييتي.

رابعا ـ تعتبر الثورة الديمقراطية البروليتارية وليدة الثورة الديمقراطية البورجوازية و نقيضها التاريخي باعتبارها المرحلة التاريخية المتقدمة في تطور المجتمعات من الرأسمالية إلى الشيوعية ، و هي باستطاعتها جر عربة كل ثورة ديمقراطية بورجوازية ناشئة التي من الممكن تطويرها بعد تحقيقها لتصل حد الثورة الديمقراطية البروليتارية ، إلا أن الثورة الديمقراطية البورجوازية الصينية لم تستطع تجاوز تناقضاتها الداخلية بحكم شروط الحياة المادية التي طبعت المجتمع الصيني ، و هي ذات صفة الإقطاع لتبقى رهينة منطلقاتها النظرية المتسمة بالماركسية اللينينية دون القدرة على تجاوزها إلى الممارسة العملية في البناء الإشتراكي الحقيقي ، الشيء الذي يمنعها من أن تضيف للثورة الديمقراطية البروليتاريا جديدا بقدر ما يمكن عرقلة تطور اتجاهها إلى الشيوعية ، التي يسعى البناء الإشتراكي السوفييتي الوصول إليه عند تحقيق الإشتراكية كاملة ، خاصة بعد اغتيال ستالين مهندس البناء الإشتراكي و صعود الإنتهازية التحريفية إلى السلطة و التراجع عن الخط و الإستراتيجية اللينينين ، مما خلق للثورة الصينية أعباء إضافية باعتبارها وليدة الثورة الديمقراطية البروليتارية بالإتحاد السوفييتي ، التي تراجعت فيها الثورة أو بالأحرى توقفت مما أثر على الثورة الديمقراطية البورجوازية الصينية التي تراوح مكانها .
و لا غرابة أن نجد الصين حاليا في مراحل متقدمة على روسيا في التطور نحو الإمبريالية لكون الثورة الديمقراطية الصينية ذات أسس بورجوازية ، حيث الأساس الإقتصادي الإقطاع حال دون تطورها رغم منطلقات النظرية الماركسية اللينينينة و ليس انطلاقا من مفاهيم البورجوازية التقليدية المعروفة في الثورات البورجوازية التي حدثت في أوربا .

خامسا ـ إن الثورة الديمقراطية البورجوازية التي قادتها الطبقة العاملة و الفلاحون بالصين ليست كمثيلاتها التي قادتها البورجوازية و سيطرت على السلطة في البلدان الأوربية ، إلا أن عرقلة تطور الثورة الديمقراطية البروليتارية بالإتحاد السوفييتي و ثقل الإرث التاريخي للإقطاع بالصين ، جعلا هذه الثورة الناشئة لم تكتمل لتصل حد الثورة الديمقراطية البروليتارية و البناء الإشتراكي كما هو الشأن في الإتحاد السوفييتي و شرق أوربا .

و نرى اليوم الصين مؤهلة لتصبح من أكبر الإمبريالية الحديثة لكون منطلقات البورجوزاية التي أرستها الثورة الصينية صلبت عود اقتصادها الرأسمالي الحديث الذي لا يمكن تجاوزه ، فالإنتهازية التحريفية بالصين حولت البلاد بسلاسة بعد موت ماو مباشرة إلى طريق الرأسمالية الحديثة المتسمة بالإمبريالية ، بينما في الإتحاد السوفييتي فرغم محاولات الإنتهازية التحريفية إلى تحويل القوى المنتجة الإشتراكية التي خلفتها الثورة الديمقراطية البروليتارية إلى قوى إنتاج رأسمالية لم تستطع إلا إعلان انهيار التجربة الإشتراكية بعد أكثر من ثلاثة عقود من الهدم ، بينما الصين لم يتم فيها الهدم بشكل مباشر بقدر ما تم التطور السلس نحو الإمبريالية من منطلقات الثورة الديمقراطية البورجوازية التي لم تكتمل أطوارها لتصل حد الديمقراطية البروليتارية .
إن تفكيك الإتحاد السوفييتي و شرق أوربا إلى دويلات أضعف موقع روسيا بين الإمبرياليات الشيء الذي لم يحدث في الصين و تم تعطيل القوى المنتجة الإشتراكية في روسيا بعد الإنتقال من الإشتراكية إلى الرأسمالية ، و هدم القوى المنتجة الإشتراكية لا يمكن حدوثه بالسهولة بمكان كما يتصوره أصحاب التعصب لتحديث الماركسية اللينينية عن طريق "الماوية"، الذين ينعتون كل من يتحدث عن هذه المرحلة من أجل بناء تصور متكامل لدى الماركسيين اللينينيين بالتقليد و التقليدية هذا الحكم الأعمى الذي لا تقبله النظرية الماركسية اللينينية.

سادسا ـ إن مخلفات الثورة الديمقراطية البروليتارية بالإتحاد السوفييتي و تداعياتها على النظام العالمي ستبقى تعرقل الإمبريالية مهما حاوت الإنتهازية التحريفية تحويل روسيا إلى إمبريالية إذ لن تستطع تجاوز القوى المنتجة الإشتراكية ، التي نمت في أحضان الثورة الديمقراطية البروليتارية و التي ستبقى تعرقل أي محاولة لتحول روسيا إلى دولة إمبريالية حديثة كالصين التي توفرت لها كل مؤهلات الإنتقال السلس إلى الرأسمالية الحديثة جاهزة بفضل الثورة الديمقراطية البورجوازية ، و كان للتكامل بين البناء البورجوازي بالإنتقال من الإقطاع إلى الرأسمال من منطلقات الديمقراطية البروليتارية أثر كبير في التحديث في الصين ، فكان النموذج الرأسمالي الحديث المقتبس من "هون كونك" خير معين في سلاسة الرأسمالية الحديثة في الصين ، و لم يتم إدماج هذا النمط في الصين إلا بعد القضاء على كل مظاهر الديمقراطية البروليتارية التي حاول ماو بناءها في الصين ، عكس الطفرة الإقتصادية التي حققتها دكتاتورية البروليتاريا في الإتحاد السيوفييتي ذات الأثر الكبير في النهوض الإجتماعي الإشتراكي بالإتحاد السوفييتي.
لقد تكاملت أسس المذهب الماركسي اللينيني خلال المرحلة المتقدمة من الإمبريالية التي تفاقمت فيها التناقضات الداخلية للرأسمالية الحديثة ، فصعدت الأنظمة الفاشية و النازية التي سيطرت على السلطة السياسية والإقتصادية و العسكرية في أوربا ، بعد نتائج الحرب الإمبريالية الأولى و انتصار الثورة الديمقراطية البروليتارية بالإتحاد السوفييتي ، و برزت الأزمة الإقتصادية العالمية نتيجة هزيمة الإمبريالية أمام الجيش الأحمر في الحرب الأهلية التي غذتها الإنتهازية التحريفية ، و انطلق البناء الإشتراكي بقيادة ستالين باكتشاف قوانين علم الإقتصاد الإشتراكي انطلاقا من الدياليكتيك الماركسي الذي تم عبره دحض النظرية القائلة بأنه يمكن وضع قوانين اقتصادية حديثة ، كما هو الشأن في علم الإقتصاد الليبرالي الذي يسعى إلى التخلص من تناقضاته الداخلية من أجل الإستمرار لتجاوز أزماته عبر استغلال البروليتاريا ، عكس الإتحاد السوفييتي الذي سعى إلى القضاء على جميع أشكال الإستغلال في المجتمع الإشتراكي ، انطلاقا من نفي الصفة الخاصة لوائل الإنتاج التي تعتبر التناقض الأساسي بين الرأسمال و العمل عبر هدم علاقات الإنتاج القديمة و اكتشاف قوانين جديدة لتيسير علاقات الإنتاج الإشتراكية ، لكن دون الوقوع في تطبيق أسلوب استغلال جديد ليعوض الأسلوب الرأسمالي القديم إنما الشروع في محو كل أشكل الإستغلال ، و لا يمكن لذلك أن يتم إلا بابتداع أشكال الإنتاج الإشتراكية تنطلق من أرض الواقع التي من خلالها يمكن اكتشاف هذه القوانين الجديدة مرحلة البناء الإشتراكي .
إن البناء الإشتراكي بالإتحاد السوفييتي هو النموذج الأمثل الوحيد المنبثق من دحض الرأسمالية الحديثة ، والذي وضع لينين أسسه النظرية و العملية عندما أدرك أن الإمبريالية آتية لا ريب في ذلك وستعصف بالعالم إلى الهلاك ، و قامت الثورة البولشيفية التي أحدثت تحولا عميقا في علاقات الإنتاج الرأسمالية باكتشاف علاقات الإنتاج الإشتراكية في روسيا و توسيعها بعد الإنتصار في الحرب الإمبريالية الثانية . و ما كانت الثورة الديمقراطية البروليتارية لتحدث طفرة علمية على مستوى الإقتصاد الإشتراكي لو لم يتم تطبيق قوانين التطور الإجتماعي وفق الدياليكتيك الماركسي الذي أقر أحد القوانين العام للتطور الإجتماعي وهو قانون " التوافق الضروري بين علاقات الإنتاج وبين صفة القوى المنتجة"، هذا القانون الذي اكتشفه ماركس بعد نقده للرأسمالية و حاول ستالين تطبيقه في المجتمع الإشتراكي بنفي قوانين الإقتصاد اللامتكافيء التي تحكم علاقات الإنتاج في المجتمعات الرأسمالي ، و حول بذلك وسائل الإنتاج من خاصة رأسمالية إلى اجتماعية اشتراكية بنفي التناقض الأساسي في الإقتصاد الرأسمالي الذي يتجلى في التناقض بين الصفة الخاصة لوسائل الإنتاج التي يتحكم فيها الرأسماليين و العمل الذي أصبح اجتماعيا يتم فيه استغلال البروليتاريا.
و لم يحدث ذلك فجأة واحدة بل واجهت الثورة الديمقراطية البروليتارية القوى الرجعية التي ترفض هذا التوافق الضروري في التقدم ، و التي أخذت تقاومه حيث ترى أن مصالحها مهددة بالزوال و أن طبقتها متجهة إلى الفناء و هي البورجوازية و الملاكين العقاريين بتحالف مع الإمبريالية ، و التي انهزمت في الحربين الأهلية والإمبريالية الثانية. و نتج عن التناقض بين القوى الإجتماعية الصاعد البروليتاريا و الفلاحين في صراعها مع القوى القديمة الرجعية البورجوازية و الملاكين العقارين التي تسعى إلى نفيها ، و احتدم الصراع الطبقي بين القوتين لكن هذه المرة في صالح العمل ضد الرأسمال عكس التناقض في المجتمعات الرأسمالية ، التي استحوذت فيها المزاحمة الحرة على علاقات الإنتاج الرأسمالية التي تسعى الديمقراطية البروليتارية إلى تحطيمها بتحطيم أسس المزاحمة الحرة ، انطلاقا من القضاء على فوضى الإنتاج بوضع أسس الإقتصاد الإشتراكي وفق البرامج الصحيحة من أجل الإنتاج الإجتماعي الإشتراكي .
و أكبر ما يمكن أن يعرقل هذه البرامج هو عدم ضبط العلاقة الجدلية بين النظر و العمل، فالواقع الإجتماعي للإتحاد السوفييتي بعد الحرب الأهلية ينم عن أزمة شاملة آلت إلى الجوع المطبق في صفوف البروليتاريا و الفلاحين، إلا أن الوضع السياسي بعد الإنتصار في الحرب الأهلية بفضل الجيش الأحمر المكون من تحالف البروليتاريا والفلاحين ، جعل المهام الإدارية تنتقل من المستوى السياسي إلى المستوى الإقتصادي في أرض الواقع من أجل البناء الإشتراكي ، لتكون دولة دكتاتورية الروليتاريا مجالا خصبا للحركة الإجتماعية الإشتراكية في جميع الجبهات لتحويل جميع وسائل الإنتاج إلى اجتماعية ، و التي لا يمكن تحويل دفعة واحدة في مجتمع يعرف تخلفا على مستوى الصناعة وتصنيع الفلاحة مما أحدث عرقلة أمام التطور الصناعي نتيجة التخلف الفلاحي الذي يعيق التطور الإشتراكي ، الذي لا يمكن أن تقع فيه الطفرة إلا عندما يصل الكم حدا هائلا يتطلب التحول النوعي بعد الوصول إلى تدمير الصفة الخاصة في الإنتاج الفلاحي بشكل كبير ، بعد تطوير وسائل الإنتاج الإجتماعية الإشتراكية التي أثرت على تطور القوى المنتجة بعد الطفرة الصناعية ، و المطروح على دكتاتورية البروليتاري التعامل مع هذا الوضع الجديد الذي أصبح معه الفلاحون الصغار و الفقراء يشكلون الدعامة الأساسي في البناء الإشتراكي بتحويلهم إلى طبقة عاملة ، ولم يتم ذلك إلا بعد التطور الصناعة الذي بلغ شأنا عظيما بفضل التقدم التكنولوجي الذي ساهم فيه العلماء السوفييت الذين طوروا نظرياتهم العلمية وفق الدياليكتيك الماركسي في مراحله العليا التي وضع لينين أسسها .

4 ـ الوضع العام العالمي من منظور المذهب الماركسي اللينيني

يدعي المناشفة الجدد في "قراءت"هم للوضع العام العالمي انيهار الرأسمالية مع انهيار الإشتراكية في آن واحد و ينطلقون لبناء أسس "نظريت"هم "الجديدة" التي تدعي تطوير الماركسية ، ويقولون أننا لسنا بحاجة إلى ماركس و لينين و هذا هو الإستنتاج النهائي ل"قراءت"هم ، و يدعون أن ذلك ما تسعى إليه الماركسية اللينينية (سقوط الرأسمالية و الإشتراكية)، إنه استنتاج تحريفي انتهازي لمقولة "حتمية زوال الرأسمالية" يتم إسقاطه على النظام العالمي الراهن و هو استنتاج مليء بالتناقضات الصارخة ، التي لا يمكن الوقوف عليها إلا بفهم الأساس الإقتصادي العالمي ككل و تحليله في ظل وحدة التناقضات بين الإحتكارية و المزاحمة الحرة ، في ظل التناقض بين الصناعة والفلاحة ، في ظل التناقض بين الدول الإمبريالية الإحتكارية و الدول الكومبرادورية التابعة لها ، في ظل التناقض بين الثورتين الديمقراطية البورجوازية و الديمقراطية البروليتارية.

لقد أكد لينين في تحليله للرأسمالية الحديثة/الإمبريالية أنه لا مجال فيها للمزاحمة الحرة بعد سيطرة الإحتكارية التي انبثقت من حضن المزاحمة الحرة بعد ولادة الإمبريالية ، و أن المشاريع الصغرى لصغار البورجوازية ما هي إلا صمام أمان الرأسمالية الإمبريالية في تعايشها مع المزاحمة الحرة من أجل تجديد نفسها للخروج من أزما تها المزمنة ، حيث لا يمكن القضاء على المزاحمة الحرة نهائيا في ظل الرأسمالية الإمبريالية لكون وجودها ضروريا لتنمية الرأسمال المالي المسيطر على الأساس الإقتصاد عالميا بسيطرة الإحتكاريين الماليين الإمبرياليين على السوق التجارية العالمية.
و كما لم يتم القضاء على الإقطاع نهائيا في ظل الثورات البورجوازية فإن الإنتاج البضاعي في الفلاحة يبقى مستمرا ما لم يتم القضاء عليه نهائيا في ظل الثورة الإشتراكية ، و المزاحة الحرة تعتمد عليها الإحتكارية لبسط سيطرتها على الدول الكومبرادورية التابعة للرأسمالية الإمبريالية لجعلها مجالا للإستثمارات الإحتكارية من أجل تمركز الإنتاج في الفلاحة و استغلال الديمقراطية البورجوازية الصغيرة ، والتناقض بين الإحتكارية و المزاحمة الحرة في ظل الوحدة كما هو الشأن في قوانين الحركة بصفة عامة أمر ضروري في استمرار الإمبريالية في التطور عبر سيطرة الرأسمال المالي على الإنتاج البضاعي ، ذلك ما يشكل عمق التناقض الأساسي للرأسمالية الإمبريالية مما يعطيها النفس الطويل في مواجهة أزماتها المالية التي تشكل فيها الأزمة الإقتصادية العالمية محطة من محطاتها التي تلازما على طول تطورها إلى حين تحقيق الثورة الإشتراكية العالمية.

يقول ستالين :

"كذلك لا يعتبر جواباً رأي الماركسيين المزعومين الآخرين الذين يظنون أنه ربما يجب الاستيلاء على الحكم واللجوء إلى نزع ملكية المنتجين الصغار والمتوسطين في الريف وجعل وسائل إنتاجهم اجتماعية. فالماركسيون لا يستطيعون أن يسيروا في هذه الطريق الخرقاء والمجرمة لأن هذه الطريق تحرم الثورة البروليتارية كل إمكانية للنصر، ونلقي بجماهير الفلاحين في معسكر أعداء البروليتاريا إلى أمد طويل.
وقد أجاب لينين على هذا السؤال في مؤلفاته عن «الضريبة العينية» وفي مؤلفه الشهير «البرنامج التعاوني».

ويمكن إيجاز جواب لينين بما يلي:

أ ـ عدم تفويت الظروف الملائمة للاستيلاء على الحكم؛ فعلى البروليتاريا أن تستولي على الحكم دون أن تنتظر حتى تكون الرأسمالية قد توصلت إلى خراب ملايين المنتجين الفرديين الصغار والمتوسطين.
ب ـ نزع ملكية وسائل الإنتاج في الصناعة وجعلها ملكاً للشعب.
ج ـ أما المنتجون الفرديون الصغار والمتوسطون فيجمعون بصورة تدريجية في تعاونيات إنتاجية، أي في مؤسسات زراعية ضخمة، هي الكولخوزات.
د ـ تطوير الصناعة، بجميع السائل، وإقامة الكولخوزات على أساس تكنيكي حديث، هو الأساس التكنيكي للإنتاج الكبير؛ وعدم نزع ملكية الكولخوزات، بل بالعكس، تزويدها، بشكل وافر، بأعلى طراز من التراكتورات وسائل الآلات.
هـ ـ لأجل تأمين التحالف الاقتصادي بين المدينة والأرياف، بين الصناعة والزراعة، يحافظ، إلى حين، على الإنتاج البضاعي (التبادل عن طريق البيع والشراء)، بوصفه الشكل الوحيد المقبول ـ لدى الفلاحين ـ للعلاقات الاقتصادية مع المدينة، وتطور التجارة السوفييتية على مداها، تجارة الدولة والتجارة التعاونية والكولخوزية على السواء، مع إزالة الرأسماليين، على أنواعهم، من ميدان التجارة.
إن تاريخ بنائنا الاشتراكي يدل على أن طريق التطور هذا، الذي رسمه لينين، قد ثبتت صحته تماماً.
ولا يمكن الشك في أن هذا الطريق هو الوحيد الممكن والمعقول لانتصار الاشتراكية في جميع الأقطار الرأسمالية التي فيها طبقة من المنتجين الصغار والمتوسطين، كثيرة العدد إلى حد ما.
يقولون أن الإنتاج البضاعي لا بد منه، مع ذلك، من أن يؤدي في جميع الظروف وسيؤدي حتماً إلى الرأسمالية. هذا غير صحيح. لا دائماً ولا في جميع الظروف! ولا يمكن اعتبار الإنتاج البضاعي والإنتاج الرأسمالي متماثلين. فهما شيئان مختلفان. إن الإنتاج الرأسمالي هو الشكل الأعلى للإنتاج البضاعي. ولا يؤدي الإنتاج البضاعي إلى الرأسمالية إلا إذا كانت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج موجودة؛ إلا إذا كانت قوة العمل تظهر في السوق كبضاعة يستطيع الرأسمالي أن يشتريها ويستغلها في عملية الإنتاج؛ إلا، بالتالي، إذا كان في البلاد نظام لاستثمار العمال الأجراء من قبل الرأسماليين. إن الإنتاج الرأسمالي يبدأ حيث تكون وسائل الإنتاج ممركزة بيد أفراد، ويكون العمال المحرومون من وسائل الإنتاج، مضطرين لبيع قوة عملهم كبضاعة. بدون ذلك، لا يوجد إنتاج رأسمالي."نفس المرجع.

لقد وضع لينين أسس الرأسمالية الإحتكارية نظريا من أجل مواجهتها عمليا عبر الثورة الإشتراكية باعتبار الإمبريالية عصر سيطرة الرأسمال المالي على السوق التجارية العالمية ، هذا البعد الجديد في الرأسمالية الحديثة الذي يميز الإقتصاد العالمي في ظل الإمبريالية و الذي يتخذ اليوم أشكالا رهيبة بعد سقوط التجربة الإشتراكية النقيض الأساس للإمبريالية ، من خلال تفاقم سيطرة الطغمة المالية على العالم بما في ذلك السيطرة على شعوب الدول الإمبريالية نفسها باعتبار الدولة الإحتكارية أداة لحماية مصالح الإحتكاريين الماليين الإمبرياليين.

و يقوم التحريفيون الإنتهازيون بإشاعة مقولة عيش الدول الإمبريالية في أزمات مثلها مثل الدول التابعة لها وعلى رأسها بريطانيا و أمريكا من خلال :

1 ـ إعتمادها في اقتصادها على القروض و الديون من المؤسسات المالية الإمبريالية العالمية وهي مدينة كباقي الدول.

و هذا الأمر يحمل نصف الحقيقة و ليس الحقيقة كاملة إذ ليست الدول الإمبريالية التي تتحكم فيها الطغمة المالية الإمبريالية هي التي تؤدي هذه الديون ، إنما الشعوب هي التي تؤديها على شكل "جزية على المجتمع ككل" كما قال لينين ، و الأزمة المالية الحالية التي انطلقت من العقار باعتباره مجالا حيويا للرأسمال المالي الذي يوفير شروط المضاربات المالية و الريع و قد تحدث لينين عن ذلك في نقده للإمبريالية ، و لم يرحم الإحتكاريون الماليون السكان المثقلون بالديون بأمريكا بعد طردهم من منازلهم التي امتلكوها بأداء أقساط الديون ، و أصبحت حياة شعوب الدول الإمبريالية مقيدة بالديون حتى الموت.
و الديون ليست إلا قيدا من بين العديد من القيود الإقتصادية التي حولت شعوب الدول الإمبريالية إلى شعوب استهلاكية ، عبر سن السياسة التبعية في أوساط شعوبها بنشر سياسة القروض الإستعمارية ، و استطاعت الإمبريالية تحويل هذه الشعوب إلى شعوب طيعة لسياساتها الإستعمارية و سكان مدافعين عن هذه السياسات ضد مصالح باقي شعوب العالم.
و لا غرابة أن تتنامى جميع أشكال العنصرية الإتنية و الدينية و تتفاقم في أوساط الدول الإمبريالية الإتجاهات النازية و الفاشية التي تكن العداء للشعوب الأخرى ، و رغم بروز بعض الحركات الديمقراطية البوةرجوةازية ضد الإمبريالية إلا أن أداءها ضعيف بحكم توجهاتها الديمقراطية البورجوازية الصغيرة و التحريفية الإنتهازية.

يقول لينين :

" إن الرأسمال المالي المتركز في أيد قليلة والذي يمارس الاحتكار فعلا يبتز أرباحا طائلة تتزايد باستمرار من تأسيس الشركات وإصدار الأوراق المالية ومنح القروض للدولة الخ.، موطدا بذلك سيطرة الطغمة المالية وفارضا على المجتمع بأكمله جزية لمصلحة المحتكرين. وهاكم مثلا من أمثلة لا تحصى، ذكره هيلفردينغ عن «تحكم» التروستات الأمريكية: في سنة 1887 أسس هافيميير تروستا للسكر عن طريق دمج 15 شركة صغيرة بلغ مجموع رأسمالها – 6.5 ملايين دولار. أمّا رأسمال التروست فقد تم «تمييعه بالماء» حسب التعبير الأمريكي وقدر بـ 50 مليون دولار. و«مضاعفة الرأسمال» هذه تأخذ بالحسبان الأرباح الاحتكارية المقبلة، كما أن تروست الفولاذ في أمريكا ذاتها يأخذ بالحسبان الأرباح الاحتكارية المقبلة إذ يشتري بصورة متزايدة الأراضي التي تحوي مصادر الحديد. وقد فرض تروست السكر في الواقع أسعاره الاحتكارية وحصل على مداخيل مكنته من أن يدفع لحملة الأسهم 10% ربحا مقابل رأسمال «مميع بالماء» 7 أضعاف، أي نحو 70% مقابل الرأسمال المدفوع فعلا عند تأسيس التروست! وفي 1909 سنة بلغ رأسمال التروست 90 مليون دولار. خلال 22 سنة تضاعف الرأسمال أكثر من 10 أضعاف."كتاب : الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.

2 ـ إستيراد الدول الإمبريالية للمواد الإستهلاكية و يضربون المثل بأمريكا قائدة الإمبريالية العالمية.

و هذا القول نصف صحيح ، لأنه لا يمكن أن ننسى أن الدول الإمبريالية حولت أغلبية شعوبها إلى شعوب استهلاكية و أن الرأسمال المالي غايته المثلى هي الربح السريع أينما تواجد و لا يستثني و لم يستثن أبدا أي شعب من الإستغلال ، و الطغة المالية هي التي تستورد المواد الإستهلاكية الأقل نفقة لتعيد بيعها بأغلى الأثمان ، حيث الأسعار مرتفعة بالدول الإمبريالية و نفقة انتاجها مرتفعة وتحدث لينين عن ذلك في نقده للإمبريالية.

و هؤلاء التحريفيون الإنتهازيون الذين يدعون هذه الإدعاءات نصف الصحيحة لم يقولوا لنا ماذا تصدر هذه الدول الإحتكارية الإمبريالية ؟ و هل سبق لها يوما أن استوردت الطاقة النووية أو الأسلحة المتطورة أو الطائرات أو السفن أو حتى السيارات و الحافلات من الدول الكومبرادورية التابعة لها ؟

إن الدول الإمبريالية دول احتكارية صناعية بفضل تطور الكارتيلات و التروستات و السنديكات التي يتحكم فيها الإحتكاريون الماليون الإمبرياليون الذين يتحكمون في تصدير الأموال للدول التابعة ، عبر الشركات الإمبريالية العابرة للقارات التي حطمت الحدود الجغرافية بين الدول من أجل بسط أشكال استعمارية الجديدة ، و أصبحت تتحكم في الإنتاج الصناعي بجميع أشكاله ، من صناعة ثقيلة إلى صناعات خفيفة استهلاكية في كل مكان من بقاع العالم وفي ظروف استغلال أقسى للطبقة العاملة لم تعرفها البروليتاريا من قبل ، ظروف أشبه بالعبودية و الإقطاع في ظل ضعف الحركة العمالية الثورية العالمية و التراجع عن المكتسبات التاريخية للبروليتاريا في ظل التجربة الإشتراكية.

يقول لينين :

" إن جسامة عائدات إصدار الأوراق المالية، بوصفه احدى عمليات الرأسمال المالي الرئيسية، تلعب دورا هاما للغاية في تطوير وتوطيد الطغمة المالية. وتقول المجلة الألمانية «البنك»: «لا يوجد في داخل البلاد مشروع يعطي، ولو على وجه التقريب، مثل هذه الأرباح العالية التي تعطيها الوساطة في إصدار القروض الأجنبية»"نفس المرجع.

و لا غرابة أن نرى اليوم العاملات و العمال الوافدين من دول شرق أوربا يتم استغلالهم بالمعامل و المزارع الأوربية بأبخس الأثمان من أجل امتصاص غضب الحركة العمالية الثورية بهذه الدول بعد سقوط التجربة الإشتراكية.
و لا غرابة أن تنتشر السوق السوداء في أسواق الشغل الأوربية باستغلال جحافل العاملات والعمال بدون حقوق و استغلال العاطلين عن العمل من الأوربيين بتعويضات البطالة كل ستة أشهر في السنة.
و لا غرابة أن نجد المشاريع الصناعية التي تهدد البيئة بالتلوث تنتشر بدول شرق أوربية وهي في ملكية الإحتكاريين الماليين الإمبرياليين ، الذين يستغلون قوة عمل الطبقة العاملة بأجور أقل من مراكز الشركات الإمبريالية العابرة للقارات لإنتاج بضائع إستهلاكية رخيصة تباع في أسواق الدول الإمبريالية بأغلى الأسعار.

3ـ الطبقة العاملة في تقلص متزايد خاصة في بريطانيا.

و هذا الإدعاء يشكل نصف الحقيق ، في أعرق الدول الإمبريالية التي قال عنها إنجلس في أعز سيطرتها في دراسة له للطبقات و عن البروليتاريا التي تبرجزت " أمر منطقي من أمة تستثمر العالم كله ".

نعم هذا الإدعاء نصف صحيح ، إن البروليتاريا في تناقص شديد في الدول الإمبريالية الكبرى التي تسيطر على العالم بتصدير الرأسمال المالي على شكل قروض للدول الكومبرادورية التابعة لها ، من أجل دعم سياساتها التبعية التي تهدف جعل هذه الدول دولا استهلاكية و مجالا حيويا لاستغلال الطبقة العاملة الرخيصة و الخامات والمنتوجات الفلاحية .
هذا الإدعاء الذي يتم الترويج له في صفوف الحركة العمالية الثورية العالمية من طرف التحريفية الإنتهازية لضرب أسس النضال العمالي الثوري ، بالترويج بأن عدد البروليتاريين في انحدار متزايد في الدول الإمبريالية و لا وجود لهم أصلا في الدول التابعة ، و هم في ادعاءاتهم يريدون الوصول إلى أن دور البروليتاريا التاريخي الذي أكد عليه لينين في أسس الثورة الإشتراكية قد تم تجاوزه و لا محل له في التاريخ اليوم.
وهم يتجاهلون أن العالم اليوم يعيش عصر أقصى الإحتكارات الكبرى نقيض المزاحمة الحرة ، مما حول الدول الإمبريالية إلى مراكز للإحتكارية التي تعتمد على سيطرة الرأسمال المالي عبر المضاربات و الريع و تقليص دور المزاحمة الحرة التي تعتمد على الإنتاج البضاعي.

ففي الوقت الذي بلغ فيه البناء الإشتراكي بالإتحاد السوفييتي أوجه في 1929 حلت أزمة اقتصادية عالمية لم تستطع ضرب الإقتصاد الإشتراكي ، و في ظل هذه الأزمة الرأسمالية نادى الإقتصاديون البورجوازيون بما يسمى بسياسة " التكافل الإجتماعي" من أجل تجاوز ما لحق الإقتصاد الإمبريالي من دمار نتيجة بروز الإقتصاد الإشتراكي، و النظام الرأسمالي باعتباره نظاما تناحريا سعى إلى تخطي أزمته على حساب استغلال الطبقة العاملة بإثقال كاهلها بعبء "تكافل العمال لإنقاذ الإمبرياليين من الإفلاس".
و لم تخرج الإمبريالية من أزماتها على حساب البروليتاريا إلا و دخلت في صراع حول إعادة تقسيم العمل الذي أدى إلى الحرب الإمبريالية الثانية.
لقد عاش الإقتصاد الرأسمالي أزمات هيكلية منذ بروز الإقتصاد الإشتراكي مما حدا بالإمبرياليين إلى محاولة تخطي أزماتهم ما بعد الحرب الإمبريالية الثانية بمزيد من استغلال الطبقة العاملة ، و كان للسيطرة الإمبريالية على السوق التجارية العالمية و التقدم التكنولوجي و الحروب اللصوصية في آسيا و أفريقيا و اشتغال الإتحاد السوفييتي بإعادة بناء ما دمرته الحرب و إدماج دول شرق أوربا في الإقتصاد الإشتراكي دور هام في تخطي الإمبريالية مرحليا لأزمتها ، إلا أنها واجهت مشكل السوق التجارية العالمية التي انقسمت إلى رأسمالية و اشتراكية.

يقول ستالين :

" إن أهم نتيجة اقتصادية للحرب العالمية الثانية، ولعواقبها على الاقتصاد، كانت تفكك السوق العالمية الوحيدة الشاملة. وهذا ما أدى إلى تفاقم جديد في أزمة النظام الرأسمالي العالمي العامة. ولقد تولدت الحرب العالمية الثانية نفسها من هذه الأزمة ـ وكانت كل من الكتلتين الرأسماليتين اللتين ينهش بعضهما بعضاً أثناء الحرب تأمل في أن تتمكن من قهر خصمها وبسط سيطرتها على العالم. وبهذه الوسيلة، كانتا تسعيان إلى إيجاد مخرج من الأزمة. فإن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تأمل أن تتغلب على أخطر مزاحميها، ألمانيا واليابان، وأن تستولي على الأسواق الأجنبية، وعلى المصادر العالمية للمواد الأولية، وأن تبسط سيطرتها على العالم.
على أن الحرب لم تحقق آمال الولايات المتحدة. صحيح أن ألمانيا واليابان قد وضعتا خارج المعركة، بوصفهما مزاحمتين للدول الرأسمالية الرئيسية الثلاث: الولايات المتحدة وانكلترا وفرنسا. ولكن شهدنا، من جهة أخرى، إن الصين وبلدان الديمقراطية الشعبية في أوروبا قد انفصلت عن النظام الرأسمالي، وشكلت مع الاتحاد السوفييتي معسكراً اشتراكياً واحداً جباراً، مجابهاً لمعسكر الرأسمالية. وكانت النتيجة الاقتصادية لوجود المعسكرين المتجابهين أن السوق الوحيدة، العالمية، قد تفككت، الأمر الذي أدى الآن إلى وجود سوقين عالميتين متقابلتين، تجابه إحداهما الأخرى أيضاَ." كتاب : المسائل الإقتصادية الإشتراكية بالإتحاد السوفييتي.

و لم يستطع الإقتصاد الرأسمالي الإمبريالي الخروج من نفق الأزمة إلا بعدما تأكدت الإمبريالية من أن سقوط المنتظم الإشتراكي مسألة وقت فقط ، و التأكد من أن الثورة الصينية لا يمكن تجاوزها لمرحلة البناء البورجوازي التي مرت بسلاسة من المزاحة إلى الإحتكارية في ظل الإشتراكية الإمبريالية بعد سيطرة التحريفية الإنتهازية على السلطة في 1976 .

و برز اقتصاد ما يسمى ب " الليبرالية المحدثة " كشكل من أشكال الإقتصاد الرأسمالي من أجل تجاوز أزمة الرأسمالية الإمبريالية عبر :

ـ مزيد من استغلال الطبقة العاملة بإثقال كاهلها بتكاليف التأمين الصحي و الإجتماعي والضرائب على الدخول الذي يتحمله أجر العمال.
ـ مزيد من حرية الإنتاج الرأسمالي الإمبريالي بتخفيض الضرائب عن دخول أصحاب المشاريع الرأسمالية وذوي الثروات من الإمبرياليين.

و نتج عن ربع قرن من هذه السياسة الإمبريالية التي يهدف وراءها الإمبرياليون إلى الخروج من الأزمة الإقتصادية الرأسمالية للسيطرة على السوق التجارة العالمية ما يلي :

ـ تدمير دخول الطبقة العاملة نتيجة ارتفاع مستوى العبء الضريبي على حساب أجر العمال.
ـ تضاعف دخول أصحاب المشاريع و الثروات نتيجة انخفاض العبء الضريبي على حساب خزائن الدول.

فمنذ 1975 تم سن سياسة ما يسمى ب " الليبرالية المحدثة " المعتمدة على انخفاض نسبة الضرائب عن دخول أرباب الشركات و أصحاب الثروات إلى النصف تقريبا في حين أن الضرائب عن الأجور قد تضاعفت أربع مرات ، و ساهم تحرر التجارة العالمية في هروب الشركات من أداء الضرائب بالهروب إلى الخارج بحثا عن دول توفر لها إمكانيات التخفيض الممكن من الضرائب التي بلغت حد إلغائها بفعل المنافسة بين الدول خاصة بعد تفكيك المنتظم الإشتراكي.


و يقول لينين:" يبدو مد السكك الحديدية أمرا بسيطا وطبيعيا وديموقراطيا وثقافيا وتمدنيا، وهو يبدو كذلك في عيون الأساتذة البرجوازيين الذين تدفع لهم الأجور لكيما يجملوا وجه العبودية الرأسمالية، وفي عيون البرجوازيين الصغار التافهين الضيقي الأفق. أما في الواقع فإن الخيوط الرأسمالية التي تربط بألوف الشباك هذه المشاريع بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بوجه عام قد جعلت من مد السكك الحديدية أداة لاضطهاد مليار من الناس (أشباه المستعمرات إضافة إلى المستعمرات)، أي لاضطهاد أكثر من نصف سكان الأرض في البلدان التابعة، وعبيد الرأسمال الأجراء في البلدان «المتمدنة». الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية - فلاديمير لينين .

من هنا نستنتج أن التطور الهائل لوسائل الإنتاج تسخرها الرأسمالية الإمبريالية لمزيد من الاحتكارات عن طريق تصدير الرساميل و جلب المواد الخام من البلدان الفقيرة ، و الذي نتج عنه سيطرت الرأسمال المالي على التجارة العالمية التي تعتبر فيها السكك الحديدية " حاصل جميع الفروع الرئيسية في الصناعة الرأسمالية" كما يقول لينين ، نظرا للدور الذي تقدمه للرأسمالية الإمبريالية عبر تسهيل الاتصال بين جميع فروع الصناعة الرأسمالية وتطور التجارة العالمية و الحضارة البورجوازية ، هذه الوسيلة من وسائل الإنتاج التي تعتبر حاصل الرأسمالية الاحتكارية على المستوى العالمي و التي تعتمد علية الرأسمالية العالمية في بسط سيطرتها.

الفصل الرابع

الدياليكتيك الماركسي على المستوى الإقتصادي


1 ـ في التناقض بين القانونين الإقتصاديين الرأسمالي و الإشتراكي


بعد الثورات البورجوازية برز منظور الإقتصاد السياسي في إنجلترا الذي حاول تحليل الوضع الإقتصادي الجديد في عصر الرأسمالية كما برزت الأفكار الإشتراكية بفرنسا كنقيض للرأسمالية ، إلا أن الإقتصاد السياسي الإنجليزي و الإشتراكية الفرنسية لم يتطورا ليصلا إلى حد النقد العلمي للنظام الرأسمالي إلا بعد بروز نقد الفلسفة الألمانية للوضع العالمي الجديد ، و برزت الماركسية التي تنهال من هذه المصادر الثلاثة و أنتجت النقد العلمي للرأسمالية أو ما يسمى بالإشتراكية العلمية التي سميت بالماركسية من طرف إنجلس و التي طورها لينين في أطروحته حول الإمبريالية ، و برز الصراع الطبقي بين البروليتاريا و البورجوازية على أسس علمية و تم تتويجه بانتصار الثورة الإشتراكية بروسيا في 1917 بقيادة لينين و واصل ستالين البناء الإشتراكي في بلد واحد و توسيع هذا البناء ليشمل دول شرق أوربا بعد الإنتصار في الحرب الإمبريالية الثانية .
تعتبر الثورة الإشتراكية نقيض الثورة البورجوازية و التي انهالت من صلب التناقض الأساسي في الرأسمالية الحديثة بحكم شروط الحياة المادية التي نتجت عنها في مراحلها العليا و هي الرأسمالية الإمبريالية ، و الثورة الإشتراكية نقيض الرأسمالية الإمبريالية التي تعتمد في استغلال البروليتاريا على الإحتكارات الكبرى عبر سيطرة الرأسمال المالي على الرأسمال الصناعي ، و بالتالي تعتبر الإحتكارات الكبرى التي تميزها نقيض المزاحمة الحرة التي تميز الرأسمالية القديمة و اللتان ( أي الإحتكارات و المزاحمة ) تتعايشان معا جنبا إلى جنب في المرحلة الإمبريالية ، مما أبرز دور القيمة الزائدة في حدها الأقصى عبر القارات عن طريق سيطرت التروستات والكارتيلات و السنديكات في السوق التجارية العالمية بتجاوز استغلال البروليتاريا إلى استغلال الشعوب بأكملها .
عكس ما يدعين المناشفة الجدد أصحاب المنهج البورجوازي الجديد ، يعتبر المذهب الماركسي اللينيني المذهب الحاسم في تناول القضايا السياسية و الإقتصادية في عصر الإمبريالية ، الذي وضع لينين أسسه النظرية والعملية بالدفع بالثورة الإشتراكية إلى الأمام ، عندما تأكد من خطورة الإمبريالية على مصالح البروليتاريا و على الشعوب المضطهدة ، معتبرا أن مهمة إدارة دولة دكتاتورية البروليتاريا تتجاوز القضايا السياسية إلى القضايا الإقتصادية ، ساعيا إلى الإنتقال من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الإشتراكي ، على اعتبار أن المهام السياسية تخضع للمهام الإقتصادية من أجل بعث القوى المنتجة الإشتراكية ، مما يتطلب إعادة تنظيم الإقتصاد عبر :

ـ الحساب و الرقابة على إنتاج و توزيع المنتجات .
ـ زيادة إنتاجية العمل .

و بعد انتصار العمال و الفلاحين في الحرب الأهلية و سيطرت البروليتاريا على الدولة بروسيا ، كان لا بد من استثمار المقدمات الأساسية للنظام الرأسمالي ، الذي تسعى ديكتاتورية البروليتاريا إلى هدمه ، في روسيا البلد الذي لا تتوفر فيه جميع هذه المقدمات على جميع المستويات سياسيا واجتماعيا واقتصاديا و ثقافيا.
و لتحقيق هاتين المهمتين الأساسيتين في إدارة دولة السوفييتات ، لا بد من سيطرة البروليتاريا على السلطة حتى تصبح الطبقة العاملة طبقة سائدة ، و لتخطي النقص في المقدمات الرأسمالية من أجل البناء الإشتراكي ، لا بد من الإستفادة من تجارب الدول الإمبريالية نفسها كما هو الشأن بالنسبة لألمانيا التي طبقت "فريضة العمل الإلزامي" ، و لكون ألمانيا دولة إمبريالية فإن "فريضة العمل الإلزامي" فيها عبارة عن سجن للأشغال الشاقة للطبقة العاملة ، الذي يؤدي إلى نظام جديد لقمع هذه الطبقة ، الشيء الذي أدى إلى بروز النازية و سيطرتها على السلطة.
واستفاد لينين من هذا الإصلاح الذي تم في ألمانيا ما بعد الحرب الإمبريالية الأولى ، من أجل خدمة مصالح البروليتاريا بروسيا ما بعد الحرب الأهلية ، لكن باختلاف جوهري هو البعد الإشتراكي ل " فريضة العمل الإلزامي" الذي يلزم الشعب جميعه.
و لم يتم القضاء نهائيا على قانون القيمة في التجربة الإشتراكية بالإتحاد السوفييتي ، إلا أنه تم الحد من تأثير مفعوله على الإنتاج الإشتراكي ، و ذلك بفضل الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج عبر القضاء على :
ـ المزاحمة.
ـ فوضى الإنتاج.
ـ الأزمات.
ـ الحد من سيطرة الإنتاج البضاعي.

و كان مطروحا على الإقتصاد الإشتراكي القضاء على الإنتاج البضاعي في الفلاحة ، لكن بالتدريج عبر أسس الثورة الإشتراكية التي وضعها لينين و هي :

ـ عدم تفويت الظروف الملائمة للاستيلاء على الحكم؛ فعلى البروليتاريا أن تستولي على الحكم دون أن تنتظر حتى تكون الرأسمالية قد توصلت إلى خراب ملايين المنتجين الفرديين الصغار والمتوسطين.
ـ نزع ملكية وسائل الإنتاج في الصناعة وجعلها ملكاً للشعب.
ـ تجميع المنتجون الفرديون الصغار والمتوسطون بصورة تدريجية في تعاونيات إنتاجية، أي في مؤسسات زراعية ضخمة، هي الكولخوزات.
ـ تطوير الصناعة، بجميع الوسائل، وإقامة الكولخوزات على أساس تكنيكي حديث، هو الأساس التكنيكي للإنتاج الكبير.
ـ عدم نزع ملكية الكولخوزات، و تزويدها، بشكل وافر، بأعلى طراز من التراكتورات وسائر الآلات.
ـ لأجل تأمين التحالف الاقتصادي بين المدينة والأرياف، بين الصناعة والزراعة، يحافظ، إلى حين، على الإنتاج البضاعي (التبادل عن طريق البيع والشراء)، بوصفه الشكل الوحيد المقبول ـ لدى الفلاحين ـ للعلاقات الاقتصادية مع المدينة، وتطور التجارة السوفييتية على مداها، تجارة الدولة والتجارة التعاونية والكولخوزية على السواء، مع إزالة الرأسماليين، على أنواعهم، من ميدان التجارة.

يقول ستالين عن التناقض بين الإنتاج البضاعي و الرأسمالية :

"... يقولون أن الإنتاج البضاعي لا بد منه، مع ذلك، من أن يؤدي في جميع الظروف وسيؤدي حتماً إلى الرأسمالية. هذا غير صحيح. لا دائماً ولا في جميع الظروف! ولا يمكن اعتبار الإنتاج البضاعي والإنتاج الرأسمالي متماثلين. فهما شيئان مختلفان. إن الإنتاج الرأسمالي هو الشكل الأعلى للإنتاج البضاعي. ولا يؤدي الإنتاج البضاعي إلى الرأسمالية إلا إذا كانت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج موجودة؛ إلا إذا كانت قوة العمل تظهر في السوق كبضاعة يستطيع الرأسمالي أن يشتريها ويستغلها في عملية الإنتاج؛ إلا، بالتالي، إذا كان في البلاد نظام لاستثمار العمال الأجراء من قبل الرأسماليين. إن الإنتاج الرأسمالي يبدأ حيث تكون وسائل الإنتاج ممركزة بيد أفراد، ويكون العمال المحرومون من وسائل الإنتاج، مضطرين لبيع قوة عملهم كبضاعة. بدون ذلك، لا يوجد إنتاج رأسمالي."كتاب "القضايا الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفييتي"

فالتناقض بين المذهب الماركسي و المذهب البورجوازي يحتم وضع قانون الإقتصاد الإشتراكي الذي ينهال من صلب هذا التناقض من خلال التناقض بين :

ـ القانون الأساسي للإقتصاد الرأسمالي الذي يرتكز على الحد الأقصى للقيمة الزائدة عبر التحكم في وسائل الإنتاج من طرف البورجوازية ، وسائل الإنتاج ذات الصفة الخاصة.
ـ القانون الأساسي للإقتصاد الإشتراكي الذي يرتكز على توفير الحد الأقصى من حاجات المجتمع المادية والثقافية، عبر التحكم في وسائل الإنتاج من طرف البروليتاريا ، وسائل الإنتاج ذات الصفة الإجتماعية.

2 ـ في العلاقة بين المزاحة و الإحتكارية في عصر الإمبريالية

لقد عمل لينين على وضع أسس النظام العالمي في عصر الإمبريالية باعتبارها الأساس الإقتصادي للفكر السائد آنذاك في أوساط التحريفية الإنتهازية ، و عمل على فضح ادعاءاتها حول "الرأسمالية الجديدة التي تتجه إلى الإشتراكية لإسعاد البشرية" كما يدعي الكاوتسكيين و أتباعهم الذين يعملون على خداع البروليتاريا ، عبر أقوالهم المغلوطة التي تهدف إلى تيسير استغلال البروليتاريا من طرف الرأسماليين ، و كانت الدعاية لمساندة الحرب الإمبريالية الأولى باعتبارها "حربا بروليتارية" حسب زعمهم ، محطة تاريخية حاسمة لفضح أذناب الأممية الثانية الذين ساهموا في تشرذم الحركة العمالية العالمية. و سار المناشفة في دربهم و أيدوا قيام الحرب للحيلولة دون إنجاز الثورة اٌشتراكية ، و أكدت وقائع الحرب الأهلية واقع الطفيلية و التعفن التي تتسم بها الرأسمالية الإمبريالية ، باعتبارها أرضية خصبة لانتشار الفكر التحريفي الإنتهازي ، عبر ترويج المنظور البورجوازي للوقائع والأحداث التاريخية خاصة في عصر الإمبريالية التي تسيطر فيها حفنة من الدول الغنية على باقي شعوب العالم ، و هي تهدف إلى مزيد من استغلال البروليتاريا و لا تتوانى في تقديم رشاوى لزعماء الحركة العمالية عبر العالم الذين يتحولون إلى أروستوقراطية عمالية تخدع البروليتاريا و تبيع مصالحها.
و كما أن الرأسمالية في حاجة إلى البورجوازية الصغيرة اقتصاديا خاصة منها أرباب الأعمال الصغيرة من أجل تخطي أزماتها و تجديد نفسها ، فهي بحاجة إلى البورجوازية الصغيرة سياسيا خاصة المثقفين و الأريستوقراطية العمالية لتمرير سياساتها الطبقية.

يقول لينين :

" وإذا لم يدرك المرء الجذور الاقتصادية لهذه الظاهرة. إذا لم يقدر أهميتها السياسية والاجتماعية حق قدرها لا يستطيع أن يخطو خطوة في ميدان حل المهام العملية التي تواجه الحركة الشيوعية والثورة الاجتماعية المقبلة."كتاب :الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.

و كما أكد ماركس على أن الأساس الإقتصادي هو الذي يحدد نوعية البنية الفوقية أي الأفكار والثقافة السائدة في المجتمعات الرأسمالية ، سعى لينين إلى تحديد الأساس الإقتصادي للممارسة التحريفية الإنتهازية في تلك المرحلة التاريخية من تطور الرأسمالية إلى الإمبريالية خاصة منها أذناب الأمية الثانية. و حدد لينين أسس البنية السياسية والإقتصادية للرأسمالية الإمبريالية التي تعتبر نتاج النمو الهائل لوسائل الإنتاج ، عبر التطور الصناعي خلال القرن 19 و طفرة العلوم الطبيعية خاصة الفيزياء ، مما ساهم في تحول الرأسمالية إلى المرحلة الإمبريالية بعد تخطي حدود المزاحمة بين الرأسماليين في السوق التجارية العالمية.

يقول لينين :

" إن نمو الصناعة الهائل والسرعة الكبرى في سير تمركز الإنتاج في مشاريع تتضخم باستمرار هما خاصة من أخص خصائص الرأسمالية. وتعطي الإحصاءات الصناعية الحديثة عن هذا السير أكمل المعلومات وأضبطها."نفس المرجع.

و عكس ما كانت البورجوازية و معها التحريفية الإنتهازية الكاوتسكية تدعيه حول "الأعمال الصغرى الحرة" و "المنافسة الحرة" التي تجلب الرخاء و الديمقراطية للبروليتاريا ، فإن تطور الرأسمالية إلى مرحلة عليا يؤكد صحة النظرية الماركسية اللينينية ، مما أكد صحة القول بأن المشاريع الرأسمالية الصغرى لا مجال لها في عصر الإمبريالية سوى دورها في امتصاص أزمة الرأسمالية.

يقول لينين :

"إن الملكية الخاصة القائمة على عمل صغار أصحاب الأعمال، والمزاحمة الحرة، والديموقراطية – إن جميع هذه الشعارات التي يخدع بها الرأسماليون وصحافتهم العمال والفلاحين قد اندرجت بعيدا في طيات الماضي. لقد آلت الرأسمالية إلى نظام عالمي لاضطهاد الأكثرية الكبرى من سكان الأرض استعماريا وخنقها ماليا من قبل حفنة من البلدان «المتقدمة». ويجري اقتسام هذه «الغنيمة» بين ضاريين أو ثلاث ضوار أقوياء في النطاق العالمي، مسلحين من الرأس حتى أخمص القدمين (أمريكا وانجلترا واليابان) يجرون الأرض كلها إلى حربـهم من أجل اقتسام غنيمتـهم."نفس المرجع.

و يتم الترويج اليوم لما يسمى "تحرير التجارة العالمية من القيود الجمركية" و "إنشاء المناطق التجارية الحرة " ، و سخرت الرأسمالية الإمبريالية لذلك "منظمة التجارة العالمية" لفرض القيود على الدولة التي ترفض الإندماج في هذه المنظمة الإستعمارية ، لقد حاولت التحريفية الإنتهازية ، فيما قبل كما تفعل اليوم ، طمس حقيقة الرأسمالية الإمبريالية التي برزت نتيجة المزاحمة الحرة و التمركز في الإنتاج كما أكد ماركس على ذلك.

يقول لينين :

" حاول العلم الرسمي أن يقتل عن طريق مؤامرة الصمت مؤلف ماركس الذي برهن بتحليله النظري والتاريخي للرأسمالية على أن المزاحمة الحرة تولد تمركز الإنتاج وعلى أن هذا التمركز يفضي، عند درجة معينة من تطوره، إلى الاحتكار."نفس المرجع.

و اليوم يسعى المناشفة الجدد إلى دحض الماركسية باسم تطويرها مدعين أننا لسنا بحاجة إلى أعمال ماركس، محاولين دحض الدياليكتيك الماركسي خدمة للمذهب البورجوازي باتهامهم ماركس بأنه لا يملك تصورا واضحا حول الثورة الإشتراكية ، مدعين أنه يقول بأنها ستقوم في العالم دفعة واحدة ، بذلك يعتبرون الماركسية عبارة عن أوهام المادية الميتافيزيقية التي لطالما حاربها ماركس في حربه ضد الهكليين.
و هم يعتبرون أن عدم قدرة ماركس على وضع تصور واضح للمجتمعات الإشتراكية هو ما دفعه إلى تأسيس الأممية الأولى في 1864 ، انطلاقا من عالمية الإشتراكية في مقابل عالمية الرأسمالية ، و هذا الخطأ هو الذي دفعه إلى حل الأممية الأولى ليسقط رفيقه إنجلس في نفس الخطأ، و ذلك بتأسيس الأممية الثانية من أحزاب إشتراكية ونقابات التي ما تزال قائمة إلى اليوم ، إنه بالفعل تحليل منبثق من اللاعرفانية التي تتسم بها أفكارهم ، و هم ينطلقون من ماركس محاولين تجاوز الدياليكتيك الماركسي ليسقطوا في الهيونية و الكانطية ، و هم يحاولون تجاوز مقولة "يا عمال العالم اتحدوا !" بتناولها بشكل تبسيطي لتبخيس المذهب الماركسي ، هذا الشعار الذي اتخذه ماركس أساسا لمواجهة إتحاد الرأسماليين من أجل إسقاط الرأسمالية و بناء المجتمعات الإشتراكية.
و في محاولتهم لتجاوز الماركسية اللينينية يدعون أننا لسنا بحاجة إلى لينين متهمينه أنه لم يعر إهتماما لدور البورجوازية الصغيرة ، ذلك ما عرض مشروعه الإشتراكي للدمار بعد سيطرة هذه الطبقة على السلطة و انهيار الإتحاد السوفييتي ، هذا الإدعاء البئيس دفعهم إلى السقوط في أخطاء فادحة ، بعد القول بأن روسيا في بداية الثورة الإشتراكية تعرف طبقتين رئيسيتين هما العمال والفلاحون لكن مع مرحلة البناء الإشتراكي ظهرت طبقة ثالثة و هي "البورجوازية الوضعية" ، هذا التقسيم الطبقي الغريب عن المذهب الماركسي الذي وضع ماركس و إنجلس أسسه ، و التي دفع به لينين إلى الأمام بتطويره للدياليكتيك الماركسي بعد دحضه لأقوال الماخيين.
إن منهجهم اللاعرفاني هو الذي دفع بهم إلى مثل هذه الإدعاءات المغلوطة معتقدين أنهم يطورون الماركسية، و هم يدعون أن الإشتراكية هي التي أفرزت هذا التقسيم الطبقي الجديد مما أدى إلى تفكيك الإتحاد السوفييتي .
و لتفسيرهم للصراع الطبقي يقولون بأن "العلاقة بين أداة الإنتاج و المنتج علاقة تناقض" التي تنبثق منها المعرفة المسيطرة على العمل ، عكس ما يقوله ماركس عن المعرفة التي تنبثق من داخل الصراع بين القوى المنتجة الجديدة (أدوات الإنتاج و العمال المنتجون) و علاقات الإنتاج الرأسمالية ، هكذا بكل بساطة يحاولون تجاوز المفاهيم الماركسية بوضع كلمات بسيطة في محاولة لتجاوز الدياليكتيك الماركسي بأقوالهم المليئة بالتناقضات ، مما دفعهم إلى محاولة تجاوز الفهم الماركسي اللينيني للنظام العالمي المتسم بالصفة الإمبريالية ، و هنا يقعون في معضلة البؤس الفكري الذي يقول بانهيار الرأسمالية و الإشتراكية معا.
و في مقولتهم هذه يقعون في أخطاء الماخيين الذين يقولون "المادة تزول" و هنا يكمن صلب منهجهم اللاعرفاني ، الذي يريد صياغة "النظرية الثالثة" للعالم و هي لا رأسمالية و لا إشتراكية و إنما شيء ما بينهما ، ليكتمل لديهم البناء الفكري المادي الميتافيزيقي الذي ينطلق من المثالية الذاتية ، فهم يدعون أنهم ماركسيون ويحاولون التوافق بين المادية و المثالية مدعين أن الماركسية اللينينية تجاوزها العصر ، واهمين أنهم قد تجاوزوا ماركس وإنجلس و لينين و ستالين و ماو و أن الماركسية اللينينية غير قادرة على إعطاء الأجوبة الصحيحة للتناقض الأساسي بين الإمبريالية و الإشتراكية.
و أنهوا بناء صرح مشروعهم الفكري البورجوازي الصغير المفعم بالتحريفية الإنتهازية المنشفية بتبرير كل الكوارث التاريخية التي لحقت بالبروليتاريا في الربع الأخير من القرن 20 بالمشروع الإمبريالي للإقتصاد الإستهلاكي ، و هم يتحدثون عن الرأسمال في محاولة لتفسير أزماته المزمة عبر إخفاقات العملة الأمريكية معتبرين أن أساس الأزمات الإقتصادية ما هي إلا أزمات الدولار ، مدعين أن نهج الإقتصاد الإستهلاكي بدول العالم الثالث وسيطرة "البورجوازية الوضعية" بالدول الإمبريالية هو الذي ألحق الكارثة بالعالم ، و هم عاجزون عن فهم تناقضات النظام الرأسمالي الإمبريالي بعدم قدرتهم عن تجاوز تناقضات منهجهم اللاعرفاني ، و التي لا تخرج عن نطاق المدارس البورجوازية الصغيرة التي تسعى لوضع البورجوازية الصغيرة شبه المثقفة في صرح الترف الفكري البورجوازي.

3 ـ أسس الإقتصاد السياسي في عصر الإمبريالية

و عكس ما يدعيه المناشفة الجدد اليوم عن النظرية الماركسية حول الإشتراكية فإن ماركس وإنجلس بصياغتهما أسس المذهب الماركسي عبر صياغة البيان الشيوعي اعتمادا على الدياليكتيك المادي، قد تجاوزا الطبيعة المثالية للمادية الكلاسيكية و ما واكبها من التأملية و صاغا أسس الصراع الطبقي باعتباره المحرك الأساسي للتاريخ. و اكتشف ماركس ديكتاتورية البروليتاريا كشكل طبيعي للدولة الإشتراكية التي عمقها بدراسته لثورة كومنة باريس ، و أضاف مزيدا من التدقيق لمفهوم الدولة الإشتراكية عبر نقده لبرنامج حزب العمال الإشتراكي الألماني في أطروحته "نقد برنامج غوتا" على ضوء مضمون "البيان الشيوعي " .
ففي مؤتمر غوتا الذي انعقد من 22 إلى 27 ماي 1875 تم توحيد حزب العمال الاشتراكي-الديموقراطي برئاسة بيبل وليبكنخت واتحاد العمال الألمان العام برئاسة لاسال ، و اتخذ الحزب الموحد اسم حزب العمال الإشتراكي الألماني ، و انتقد ماركس لاسال في منظوره إلى :

ـ علاقة العمل بالمجتمع لكون العمل مصدر الثروة و الثقافة ، شريطة أن يكون عملا اجتماعيا حيث لا يوجد مجتمع دون عمل.
ـ علاقة العمل باحتكار الملاكين العقاريين للأرض في ألمانيا لكون احتكار الملكية العقارية أساس الإحتكار الرأسمالي.
ـ علاقة دخل العمل بالتوزيع العادل للثروات.
ـ التمايز بين العلاقات الإقتصادية و العلاقات الحقوقية حيث أن هذه الأخيرة تنبثق عن الأولى.
ـ علاقة الدولة بالمجتمع.

لقد عمل لاسال على مهاجمة الرأسماليين دون الملاكين العقاريين الذين اعتبرهم حلفاء ، حيث لم يدرك إمكانية تمركز الإنتاج في الفلاحة الذي يؤدي إلى الإحتكار باعتبار الأرض من بين وسائل الإنتاج الرأسمالية.
و أكد ماركس أن لاسال زور محتوى البيان الشيوعي في "برنامج غوتا" لكونه انضم إلى التحالف مع الإقطاعيين ضد البورجوازيين ، مشددا على بعض المصطلحات التي اقتبسها لاسال من عصبة السلام و الحرية البورجوازية ك"تآخي الشعوب العالمية" مقابل التآخي العالمي بين الطبقة العاملة في مختلف البلدان.
و انتقد ماركس مفهوم "قانون الأجور" عند لاسال إذ في الوقت الذي يلغي فيه الدور الثوري للطبقة العاملة يسعى إلى إيجاد دور للدولة في بناء المجتمع ، و ذلك بابتداع ما يسميه "المسألة الإجتماعية" عن طريق "مساعدة الدولة" تحت رقابة"الشعب الشغيل بواسطة حكم الشعب" .
و في تناوله للدولة ينتقد ماركس موقف حزب العمال الإشتراكي الألماني في قوله ب"الدولة الحرة" في ظل النظام الإقطاعي للإمبراطورية الألمانية ، حيث اعتبر لاسال أن الدولة لا تنبثق عن المجتمع بل هي مستقلة عنه كواقع له "الأسس الروحية و الأخلاقية و الحرة" ، و يتحدث عن "الدولة الحالية" و "المجتمع الحالي" في الوقت الذي ينسى فيه أن ما يسميه "المجتمع الحالي" هو مجتمع رأسمالي ، و"الدولة الحالية" في الإمبراطورية الألمانية ليست كما هي في سويسرا وإنجلترا أو الولايات المتحدة الأمريكية.
واعتبر ماركس كل مطالب حزب العمال الإشتراكي الألماني عبارة عن ترداد لمفاهيم بورجوازية لحزب الشعب و عصبة السلام و الحرية .

إذا كان الصراع الطبقي هو الذي يحدد مجرى التاريخ كما يقر بذلك الدياليكتيك الماركسي ، فإن تطور الرأسمالية من المزاحمة إلى الإحتكارية قد غير أشكال هذا الصراع بين الرأسمال و العمل مما حول مجرى التاريخ في عصر الإمبريالية ، إلا أن التناقض الأساسي في الصراع الطبقي لم يتغير والذي يتجلى في وجود العمل المأجور الذي يحدد وجود الرأسمال و يكرس التناقض بين العمل والرأسمال ، و يعمل على تكريس الصفة الخاصة لوسائل الإنتاج الضرورية في تنمية الرأسمال وتركيزه في أيدي أقلية من البورجوازيين و تنامي استغلالهم لقوة عمل الطبقة العاملة ، و الصراع الطبقي يكمن في علاقة التناقض بين القوى المنتجة الجديدة و علاقات الإنتاج القديمة الشيء الذي يحول شكل البنية الفوقية.

يقول ماركس :
"إن العلاقات الاجتماعية التي يُنتج الأفراد بموجبه، أي علاقات الإنتاج الاجتماعية، تتغير وتتحول مع تغير وسائل الإنتاج المادية وتطوره، مع تغير القوى المنتِجة وتطورها. وعلاقات الإنتاج تشكل بمجموعها ما يسمى العلاقات الاجتماعية، المجتمع، تشكل مجتمعا في مرحلة معينة من التطور التاريخي، مجتمعا مميزا، معينا. فإن المجتمع القديم، والمجتمع الإقطاعي، والمجتمع البرجوازي هي مجموعات من علاقات الإنتاج، كل مجموعة منها تُميِّـز في الوقت نفسه مرحلة خاصة من مراحل تطور الإنسانية التاريخي. " كتاب: العمل المأجور و الرأسمال.
فالعمل المأجور يعتبر سند الرأسمال في تطوره و تنميته فبدونه لا يمكن وجود الرأسمال رغم إمكانية تقليص أعداد العمال عند كل تطور يلحق وسائل الإنتاج ، لأن الآلة وحدها لا يمكن أن تقوم بجميع الأعمال التي يتطلبها الإنتاج إلا أنها قادرة على تقليص أعداد كثيرة من العمال بشكل رهيب والزج بالأعداد الغفيرة منهم في الشارع ، و كل ما تطورت وسائل الإنتاج يبقى العمل بسيطا لا يتطلب إلا العدد القليل من العمال ذوي مهارات أقل من أجل الإنتاج الهائل، و يتم كل يوم طرد أعداد هائلة من العمال و العصف بهم في صفوف العاطلين خاصة خلال الأزمات التي تلازم الرأسمالية ، و يصبح الرأسماليون أكثر شراسة من ذي قبل كما يقول ماركس :
" ولكن الرأسمال لا يعيش من العمل وحسب. فهو كالسيد البربري من مالكي الأرقاء يجتذب إلى قبره جثث أرقائه، وهم جماهير العمال الذين يهلكون خلال الأزمات. وهكذا نرى أنه، حين ينمو الرأسمال بسرعة، تنمو المزاحمة بين العمال بصورة أسرع بما لا حد له، أي أنه بقدر ما يسرع الرأسمال في نموه، بقدر ما تنخفض بمقادير أكبر نسبيا أبواب الرزق، وسائل معيشة الطبقة العاملة؛ ومع ذلك فإن نمو الرأسمال بسرعة هو الشرط الأنسب للعمل المأجور".نفس المرجع.
إن وسائل الإنتاج تلعب دورا هاما في تطور القوى المنتجة كما تعمل على تدمير الطبقة العاملة في ظل المزاحمة و التمركز اللذان يفرضان تقسيم العمل ، و مع التطور الهائل لوسائل الإنتاج ينمو الرأسمال المرهون بوجود العمل المأجور بأقل أجر مما يؤدي إلى تعطيل قوة عمل عدد أكبر من المأجورين ، إن التناقض الأساسي بين الرأسمال و العمل يتجلى في تكديس الجزء الكبير من قوة العمل المنتزعة من الطبقة العاملة من طرف الرأسماليين الذين يكدسونها على شكل قيمة مكدسة في البنوك ، ويتم توظيفها من جديد بعد أن أصبحت رأسمالا مستقلا لاستغلال القيمة الحية التي تتحول إلى بضاعة بشراء قوة عمل العمال لكن بأقل سعر ممكن و في ظل شروط أكثر عدوانية ، الشيء الذي ساهم في تطور الرأسمالية من المزاحمة إلى الإحتكارية.
فرغم الإنتقال من مرحلة المزاحمة إلى مرحلة الإحتكارية بعد سيطرة الرأسمال المالي على السوق التجارية العالمية ، فإن الأجر ما زال قائما رغم سيطرة المضاربات المالية على المشاريع الإنتاجية نتيجة التطور الهائل الذي عرفته وسائل الإنتاج ، التي لا تتطلب إلا القيام بعمل بسيط لا يتطلب الجهد العضلي ، و تعاظمت وسائل الإنتاج التي استطاعت توفير الإنتاج الهائل بأقل تكلفة وبأقل عدد ممكن من العمال ، مما جعل الرأسماليين يتحاشون المشاريع الإنتاجية في عصر الإحتكارات الكبرى ، و هنا انتهت أطروحة ماركس في الإقتصاد السياسي لتحل محلها أطروحة لينين حول "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية".
يقول لينين :
" إن تطور الرأسمالية قد بلغت حدا تقوض فيه الإنتاج البضاعي فعلا وإن كان ما زال «سائدا» كالسابق وما زال يعتبر أساسا للاقتصاد كله، وتصبح فيه الأرباح الرئيسية من نصيب «عباقرة» التلاعبات المالية. وتقوم هذه التلاعبات والإحتيالات على أساس اكتساب الإنتاج للصفة الاجتماعية، ولكن تقدم البشرية الهائل التي توصلت بعملها إلى حد اكتساب الإنتاج للصفة الاجتماعية يصبح مفيدا… للمضاربين. وسنرى فيما يأتي كيف أن نقاد الإمبريالية الرأسمالية من صغار البرجوازيين الرجعيين يحملون «على هذا الأساس» بالعودة إلى الوراء، إلى المزاحمة «الحرة»، «السلمية»، «الشريفة» ."كتاب: الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.
ففي مرحلة الإحتكارات الكبرى أصبح اتحاد الرأسماليين و اتحاد شركاتهم أمران ضروريان في الإستغلال في ظل الرأسمالية الإمبريالية ، و سيطرت التروستات و الكرتيلات على السوق العالمية إلى حد لم تبق دولة لم يتم السيطرة عليها في مرحلة الإستعمار القديم لتفرض شروطها على الشعوب المستعمرة ، و تم إعادة تقسيم العمل في ظل شروط أسوء قريبة من الرق و العبودية ، و لم يكن للمزاحمين مجال في السوق التجارية العالمية حيث تشكل المشاريع الضخمة السمة الأساسية للرأسمالية الإمبريالية. ففي الإحتكارات الكبرى "يتخذ الإنتاج صبغة اجتماعية" بفضل المشاريع الكبرى التي أحدثتها الكارتيلات باستعمال وسائل إنتاج جد متطورة ، و جاء في تقرير اللجنة الحكومية الأمريكية عن التروستات:
" إن تفوقها على المزاحمين يستند إلى ضخامة حجم مشاريعها و إلى تجهيزها التكنيكي الممتاز. فتروست التبغ قد بذل كل جهوده منذ تأسيسه ليحل العمل الآلي محل العمل اليدوي في نطاق واسع وفي جميع الميادين. " نفس المرجع.
عكس ما يقوله الرأسماليون عن الكارتيلات و أهميتها في تطور الرأسمالية بالقضاء على أزماتها ، ففي الرأسمالية الإمبريالية يتم تعميق الأزمات المالية التي تحدث رجة هائلة في النظام السياسي و الإقتصادي العالمي ، حيث يزداد التناقض الأساسي في التعمق بين ملكية وسائل الإنتاج الخاصة و العمل الذي يكتسي صبغة اجتماعية ، ويتعاظم التناقض بين الرأسمال و العمل في ظل شروط الإستغلال المكثف للطبقة العاملة من طرف الرأسماليين.
يقول لينين :
"أمّا قضاء الكارتيلات على الأزمات فهو قصة اختلقها الاقتصاديون البرجوازيون الذين يسعون وراء طلي الرأسمالية بالمساحيق مهما كلف الأمر. بالعكس، إن الاحتكار، عندما ينشأ في بعض الفروع الصناعية، يشدد ويزيد الفوضى التي تلازم الإنتاج الرأسمالي بأكمله. فعدم التناسب بين تطور الزراعة والصناعة، الأمر المميز للرأسمالية بوجه عام، يزداد لدرجة أكبر. إذ أن الوضع الممتاز الذي تجد فيه نفسها الصناعة الأكثر تنظيما في الكارتيلات، ما يسمى بالصناعة الثقيلة، ولاسيما صناعة الفحم والحديد، يفضي، في الفروع الصناعية الأخرى، إلى «انعدام المنهاجية لدرجة أشد» كما يعترف ييدلس الذي وضع كتابا من أحسن الكتب عن «العلاقات بين البنوك الألمانية الكبرى والصناعة."
و حدد لينين تاريخ انتقال الرأسمالية إلى المرحلة الإمبريالية فيما يلي :
1) سنوات العقد السابع والثامن من القرن الماضي هي قمة، ذروة تطور المزاحمة الحرة. لم تكن الاحتكارات غير أجنة بالكاد تلاحظ.
2) بعد أزمة سنة 1873 جاءت مرحلة نادرة ولم تكن وطيدة بعد. إنها ما تزال ظاهرة عرضية.
3) نهضة أواخر القرن التاسع عشر وأزمة سنوات 1900-1903: تصبح الكارتيلات أساسا من أسس الحياة الاقتصادية بأكلها. تحولت الرأسمالية إلى إمبريالية.
كما حدد الوسائل التي يتخذها الإحتكاريون لفرض التنظيم في هذه الإتحادات على المزاحمين والخضوع لها و هي :
1) الحرمان من المواد الخام («…طريقة من أهم طرق الإجبار على الانضمام إلى الكارتيل»).
2) الحرمان من الأيدي العاملة عن طريق «الائتلافات» (أي العقود بين الرأسماليين ونقابات العمال بشأن عدم قبول هذه الأخيرة العمل إلاّ في المشاريع المنظمة إلى الكارتيلات).
3) الحرمان من وسائط النقل.
4) الحرمان من أسواق التصريف.
5) عقود مع الشارين بشأن عدم إقامة العلاقات التجارية إلاّ مع الكارتيلات وحدها.
6) تخفيض الأسعار بصورة منظمة (ليفلس «الدخلاء»، أي المشاريع غير الخاضعة للاحتكاريين؛ تنفق الملايين للبيع بأقل من التكاليف خلال زمن معين: فقد حدثت فترات خفضت فيها الأسعار في صناعة البنزين من 40 إلى 22 ماركا، أي نحو النصف!
7) الحرمان من التسليف.
8) إعلان المقاطعة.
و ما تطور الرأسمالية من المزاحمة إلى الاحتكارية إلا نتيجة اضطهاد الدول الرأسمالية للشعوب المضطهدة هذا الاضطهاد الذي تلازمه جدلية الحرب و الاستعمار ، و التي ترتكز على تطور وسائل الإنتاج و تأثيرها على القوى المنتجة مما يساهم في بسط السيطرة الاقتصادية و العسكرية على الشعوب المضطهدة.
و لا يمكن معرفة مميزات الرأسمالية الإمبريالية اليوم إلا عبر هذا التناقضات الملازمة لها من خلال العلاقة بين الحرب و الإستعمار ، و لا يمكن للتطور الهائل لوسائل الإنتاج أن يحقق الديمقراطية في ظل الرأسمالية الإمبريالية كما يدعي التحريفيون الإنتهازيون ، حيث يتم تسخير هذه الوسائل من أجل اضطهاد الشعوب.

ففي المجال الإقتصادي سعى التحريفيون الإنتهازيون إلى التأثير على الجماهير بما يسمونه ب" المعطيات الجديدة في التطور الاقتصادي" ، زاعمين أن تمركز الإنتاج و إزاحة الإنتاج الكبير للإنتاج الصغير لا يظهر في الزراعة في الوقت الذي يجري ببطء في مجال التجارة و الصناعة ، و اعتبروا أن الكارتيلات و التروستات تخفف من حدة أزمات الرأسمالية إلى حين زوال الأزمة تماما ، و أن التناحر داخل النظام الرأسمالي أخذ يقل مما جعل نظرية الإفلاس خاطئة ، لذا وجب إدخال تعديلات على النظرية الماركسية وفق هذه المعطيات الجديدة بما في ذلك نظرية القيمة.
و واجه لينين البرينشتينيين بصرامة بنقد الإقتصاد السياسي الذي يحاولون من خلاله تركيز الآراء البورجوازية لبوهم-بافيرك ، و أوضح أن الإنتاج الضخم يتفوق على الإنتاج الصغير في جميع المستويات الزراعية والصناعية و التجارية ، إلا أن الإنتاج البضاعي في الزراعة ضعيف بالنسبة للإنتاج الصناعي لذا لا يظهر التمركز في الزراعة بنفس الحدة كالصناعة ، و أوضح كيف أن التقدم العلمي المطرد يؤثر تأثيرا سلبيا على الإنتاج الصغير في المجتمعات الرأسمالية ، و أن الإنتاج الصغير لا محل له في عصر الرأسمالية الإمبريالية ، و على الفلاح تبني النظرية البروليتارية الثورية عكس دعوة التحريفيين الإنتهازيين للفلاح بتبني وجهة نظر الملاك التي تعتبر نظرية بورجوازية.
و أوضح لينين أن تطور الرأسمالية و انتقالها إلى مرحلة الإحتكارات الكبرى جعل بضاعة العامل/قوة العمل تتعرض لاستغلال مكثف من طرف الرأسماليين ، خاصة بعد تطور وسائل الإنتاج التي تم إنتاجها نتيجة سرقة قوة عمله التي تكدست على شكل رأسمال ، و برز الرأسمال المالي المستقل عن الرأسمال الصناعي المسيطر عليه بفضل تحكمه في السوق التجارية العالمية في عصر الإمبريالية عندما تعاظمت الإحتكارات.

و يقول لينين عن الرأسمالية :

" من خواص الرأسمالية بوجه عام فصل ملكية الرأسمال عن توظيف الرأسمال في الإنتاج، فصل الرأسمال النقدي عن الرأسمال الصناعي أو المنتج، فصل صاحب الدخل الذي يعيش فقط من عائد الرأسمال النقدي عن رب العمل وجميع المشتركين مباشرة في التصرف بالرأسمال. والإمبريالية أو سيطرة الرأسمال المالي هي مرحلة الرأسمالية العليا التي يبلغ فيها هذا الفصل مقاييس هائلة. وهيمنة الرأسمال المالي على بقية أشكال الرأسمال تعني سيطرة صاحب الدخل و الطغمة المالية، تعني بروز عدد ضئيل من الدول التي تملك «البأس» المالي بين سائر الدول الأخرى. ويمكننا أن نتبين مدى نطاق هذا السير من أرقام إحصاءات الإصدار، أي اصدار مختلف أنواع الأوراق المالية."نفس المرجع.

فالرأسمالية في تطورها عملت على تعميق استغلال الرأسمال للعمل عبر تكديس ما سرقه الرأسماليون من قوة عمل العامل على شكل نقد في البنوك ، و تم فصل الرأسمال عن الإنتاج حتى يكون تحت تصرف الرأسماليين لتوظيفه متى و كيفما و أينما شاءوا ، و أصبح الرأسمالي يتحكم في مصير الأموال الطائل التي وفرتها البروليتاريا بفضل جهودها تحت استغلال البورجوازية ، و ساهمت الإحتكارات الكبرى في بروز الرأسمال المالي الذي يملكه قلة من الرأسماليين في الدول الرأسمالية الغنية ، الذين يسيطرون على أغلب احتياطي النقد العالمي و يتصرفون فيه ، مما عمق سيطرة هذه الدول الإمبريالية على باقي دول العالم و بدت الأرقام المعبرة عن الأرصدة البنكية تسيطر على عقول الرأسماليين و تملي علهم شتى أشكال أساليب الإستغلال ، و تعاظم استغلال الرأسمال للعمل ليتجاوز استغلال جماهير العمال بالمصانع و المعامل إلى استغلال الشعوب عبر السيطرة على ثرواتها والتحكم في السياسات الإقتصادية لدولها عبر الإستعمار القديم ، و التي ركزت عبره سياسات التبعية للرأسمالية الإمبريالية خلال مرحلة الإستعمار الجديد عبر القروض التي بواسطتها يتم فرض سياسات تبعية على هذه الدول لتنمية الرأسمال المالي.

و يقول لينين :

" إن الرأسمال المالي المتركز في أيد قليلة والذي يمارس الاحتكار فعلا يبتز أرباحا طائلة تتزايد باستمرار من تأسيس الشركات وإصدار الأوراق المالية ومنح القروض للدولة الخ.، موطدا بذلك سيطرة الطغمة المالية وفارضا على المجتمع بأكمله جزية لمصلحة المحتكرين."نفس المرجع.

إن ما دفع التحريفيين الإنتهازيين إلى محاولة تعديل المذهب الماركسي هو عجزهم عن فهم ما حققته الصناعة من تقدم خلال السنوات الأخيرة من القرن 19 ، جازمين أن الأزمات قد تجاوزتها الرأسمالية بذلك المستوى الطفيف من تطور وسائل الإنتاج ، غافلين أن وراء كل ازدهار للرأسمالية أزمة باعتبار الأزمات ملازمة للرأسمالية لكونها نظاما تناحريا ، و أوضح لينين أن توحيد إنتاج الكارتيلات و التروستات لم يزد إلا فوضى الإنتاج و تفاقم الأوضاع المزرية للبروليتاريا في ظل طغيان الرأسماليين ، و الرأسمالية في تطورها تسير نحو الإفلاس عبر مختلف الأزمات السياسية والإقتصادية التي تلازمها حتى تصل إلى الإنهيار التام .
إن تطوير النظرية الماركسية اللينينية لا يمكن أن يتم خارج المنطلقات الأساسية للدياليكتيك لماركسي الذي تعتبر الماركسية اللينينية جوهره ، و التي لا يمكن تجاوزها بالرجوع إلى الخلف و استنباط النظرية من مرحلة المزاحمة ، فما هي إذن الخصائص التي تميز الإمبريالية اليوم عن خصائص الإمبريالية في عصر لينين ؟
لقد انطلق لينين لتحديد الوضع العالمي من الاحتكارية و سيطرة الرأسمال المالي في عصر الإمبريالية ، وذلك بتطبيق الدياليكتيك الماركس باعتبار وسائل الإنتاج أساسية في تطوير الرأسمالية وأكد أن السكك الحديدية والكهرباء لعبت دورا هاما في بسط السيطرة الإستعمارية باعتبارها في أوائل القرن 20 الإستعمار من الأركان الأساسية للسيطرة الإمبريالية.
لقد أوضح لينين أن الوضع العام العالمي في مرحلة الرأسمالية الإمبريالية مرتبط باتحادات الرأسماليين الإحتكاريين على الصعيد العالمي باقتسام العالم اقتصاديا ، في علاقته باتحادات السياسيين باقتسام العالم إقليميا على صعيد "الصراع من أجل الرقاع الإقتصادية" من أجل المستعمرات ، و العالم قد تحول في بداية القرن 20 إلى عهد جديد بعد تخطي الرأسمالية لأزمة 1900 عهد "سياسة استعمارية عالمية" المرتبط ب"أحدث درجة في تطور الرأسمالية" بسيطرة الرأسمال المالي على السياسة و الإقتصاد ، و هذا العهد متميز على العهود القديمة باقتسام العالم على نطاق واسع الذي شدد الصراع من أجل المستعمرات مما جعل السياسة المتبعة في هذا العهد تختلف اختلافا جذريا عن السابق.

يقول لينين :
" إن الخاصية الأساسية في الرأسمالية الحديثة هي سيطرة الاتحادات الاحتكارية التي يؤسسها كبار أصحاب الأعمال. وهذه الإحتكارات هي أوطد ما تكون حين تتفرد بوضع يدها على جميع مصادر الخامات ... لا يقصر الرأسمال المالي اهتمامه على مصادر الخامات المكتشفة وحدها، بل يهتم كذلك بمصادر الخامات المحتملة، لأن التكنيك يتقدم في أيامنا بسرعة لا يتصورها العقل؛ والأراضي غير الصالحة اليوم قد تغدو صالحة غدا إذا أوجدت لذلك طرائق جديدة."نفس المرجع.
إن سياسية الرأسمال المالي الإستعمارية وضعت أمام أعينها إستراتيجية استغلال الموارد الطبيعية بالمستعمرات على المدى البعيد عبر تصدير الرأسمال ، من أجل القضاء على المزاحمة ب"الطرق الإحتكارية" وتأمين الطلب و توطيد "العلاقات اللازمة" و غيرها عبر الصراع بين الإمبرياليين من أجل تقسيم العالم سياسيا واقتصاديا مما نتج عنه " جملة من أشكال انتقالية من تبعية الدول".
يقول لينين :
". فما يميز هذا العهد ليس فقط الفريقان الأساسيات من البلدان: المالكة للمستعمرات والمستعمرات، بل كذلك مختلف أشكال البلدان التابعة، المستقلة رسميا من الناحية السياسية والواقعة عمليا في شباك التبعية المالية والدبلوماسية. و قد سبق لنا أن أشرنا إلى شكل من هذه الأشكال – البلدان شبه المستعمرة. والأرجنتين مثلا هي نموذج شكل آخر."نفس المرجع.
و حدد لينين دور سياسة الرأسمال المالي في التبعية السياسية و الإقتصادية في عصر الرأسمالية الإمبريالية عبر "البناء الفوقي غير الإقتصادي القائم" لتركيز الإستيلاء على المستعمرات ، و لم تبلغ الرأسمالية الحديث هذا الشأن إلا عندما توفرت شروط الإنتقال من درجة إلى درجة عليا وقد علمنا الدياليكتيك الماركسي كيف يتم نفي النفي مع حلول تناقضات جديدة ، و هنا يمكن ملاحظة مستوى هذا القانون الذي يحكم الحركة في التناقض بين "المزاحمة الحرة" و "الإحتكارات الكبرى".
يقول لينين :
" عندما تكونت وظهرت على طوال الجبهة كلها سمات مرحلة انتقالية من الرأسمالية إلى نظام اقتصادي اجتماعي أعلى. والأمر الأساسي في هذا السير هو من الناحية الإقتصادية حلول الاحتكارات الرأسمالية محل المزاحمة الحرة الرأسمالية. فالمزاحمة الحرة هي أخص خصائص الرأسمالية والإنتاج البضاعي بوجه عام؛ والاحتكار هو نقيض المزاحمة الحرة المباشرة، ولكن هذه الأخيرة أخذت تتحول أمام عيوننا إلى احتكار، منشئة الإنتاج الضخم ومزيحة الإنتاج الصغير، مُحِلَّة الأضخم محل الضخم، دافعة تمركز الإنتاج والرأسمال إلى درجة نشأت وتنشأ عنها الاحتكارات: الكارتيلات والسينديكات والتروستات والرأسمال المندمج فيها لنحو عشرة من البنوك التي تتصرف بالمليارات. وفي الوقت نفسه لا تزيل الاحتكارات المزاحمة الحرة التي نشأت عنها، بل تعيش فوقها وإلى جانبها، مولدة لهذا السبب جملة من التناقضات والاحتكارات والنزاعات في منتهى الشدة والقوة. فالاحتكار هو انتقال من الرأسمالية إلى نظام أعلى."نفس المرجع.
و سيادة الإحتكارية لا يعني إزالة المزاحمة الحرة بشكل تام بل هناك تعايش بينهما في ظل التناقض الذي يميز الحركة و هنا تكمن قوة الرأسمالية الإمبريالية ، خاصة أثناء الأزمات التي تلازمها حيث أن الإحتكارية تستعين بالمزاحمة الحرة عبر المشاريع الصغرى في ظل المزاحمة الحرة التي تنعش الإحتكارية أثناء الأزمات ، فأرباب الأعمال الصغير هم صمام أمان أزمات الإحتكارات الكبرى التي تزج بهم إلى الإفلاس و تعصف بهم إلى صفوف البروليتاريا و الذين تؤدون ثمن جميع الأزمات.
لقد أوضح لينين أن الرأسمالية الإمبريالية تتميز بالتراكم الهائل للرأسمال المالي في بضعة دول تستحوذ على الأوراق المالية و تتحكم في حركتها في السوق التجارية العالمية ، و تعمل على تصدير الرأسمال إلى المستعمرات مما يشدد العزلة لفئة أصحاب المداخيل عن الإنتاج ، "الذين يعيشون من "قص الكوبونات" المعزولين تماما عن الإشتراك في أي مشروع".
يقول لينين عن تعريف الإمبريالية :
" ولكن التعاريف الموجزة للغاية وإن كانت ملائمة لأنها تلخص الأمر الرئيسي، لا تكفي مع ذلك ما دامت ثمة حاجة لتستخلص منها سمات في منتهى الأهمية تصف الظاهرة التي ينبغي تعريفها. ولذلك، ودون أن ننسى أن جميع التعاريف بوجه عام هي ذات طابع شرطي نسبي وأنها لا تستطيع أبدا أن تشمل جميع وجوه علاقات ظاهرة في حالة تطورها الكامل، ينبغي إعطاء الإمبريالية تعريفا يشمل علاماتها الخمس الأساسية التالية:
1) تمركز الإنتاج والرأسمال تمركزا بلغ في تطوره حدا من العلو أدى إلى نشوء الاحتكارات التي تلعب الدور الفاصل في الحياة الاقتصادية.
2) إندماج الرأسمال البنكي والرأسمال الصناعي ونشوء الطغمة المالية على أساس «الرأسمال المالي» هذا.
3) تصدير الرأسمال، خلافا لتصدير البضائع، يكتسب أهمية في منتهى الخطورة.
4) تشكيل اتحادات رأسماليين احتكارية عالمية تقتسم العالم.
5) انتهى تقاسم الأرض إقليميا فيما بين كبريات الدول الرأسمالية.
فالإمبريالية هي الرأسمالية في مرحلة من التطور تكونت فيها سيطرة الاحتكارات والرأسمال المالي واكتسب تصدير الرأسمال أهمية كبرى وابتدأ تقاسم العالم بين التروستات العالمية وانتهى تقاسم الأرض كلها إقليميا بين كبريات البلدان الرأسمالية."كتاب :"الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية".
و لعرقلة النضال الثوري البروليتاري الذي تقوده الحركة العمالية الثورية العالمية ضد استغلال الرأسماليين ، عملت الرأسمالية الإمبريالية على اختراق صفوف الطبقة العاملة من أجل تقوية التحريفية الإنتهازية بينهم للحد من حركتهم الثورية ، ففي انجلترا منذ القرن 19 تتبع ماركس وإنجلس أحوال الحركة العمالية ، و كتب إنجلس إلى ماركس في 7 أكتوبر سنة 1858 يقول :
" في الواقع تتبرجز البروليتاريا الإنجليزية أكثر فأكثر، ويبدو أن هذه الأمة الأكثر برجوازية بين الأمم تريد أن تكون لديها في نهاية الأمر إلى جانب البرجوازية الأرستقراطية برجوازية وبروليتاريا برجوازية. وبديهي أن هذا، بمعنى معين، أمر منطقي من أمة تستثمر العالم كله."نفس الرجع.
و عن حزب العمال البريطاني كتب إنجلس إلى كاوتسكي مؤرخة في 12 من سبتمبر سنة 1882يقول :
"تسألني عن رأي العمال الإنجليز في سياسة حيازة المستعمرات؟ لا يختلف رأيهم عن رأيهم في السياسة بوجه عام. هنا لا وجود لحزب العمال، كل ما يوجد هنا هما حزب المحافظين وحزب الراديكاليين-الليبراليين، أمّا العمال فيتمتعون معهم مطمئنين بوضع إنجلترا الاحتكاري إزاء المستعمرات وبوضعها الإحتكاري في السوق العالمية."نفس المرجع.
لقد عملت الرأسمالية الإمبريالية على إرشاء قادة الحركة العمالية العالمية كما تعمل اليوم من أجل منع البروليتاريا من التنظيم لعرقلة مواجهتهم للإحتكارية ، و تسخر التحريفية الإنتهازية لضرب الحركة العمالية الثورية العالمية ، و حارب ماركس وإنجلس في عصرهما التحريفيين الإنتهازيين كما حاربهم لينين وستالين في مرحلة البناء الإشتراكي.
لقد عمل لينين على دحض مقولة "ما فوق الإمبريالية" التي يروجها التحريفيون الإنتهازيون ضد الحركة العمالية العالمية الثورية لعرقلة نضالها الثوري ضد الإمبرياليين ، و حدد الوضع العام العالمي الذي ميز نشوء الإمبريالية في علاقتها بالتحريفية الإنتهازية :
" و الصفة المميزة للوضع الراهن هي وجود ظروف اقتصادية وسياسية لا بد وأن تزيد من منافاة الانتهازية للمصالح العامة والجذرية للحركة العمالية فقد :
1 ـ نمت الامبريالية من جنين إلى نظام سائد.
2 ـ شغلت الاحتكارات الرأسمالية المكان الأول في الاقتصاد الوطني والسياسة.
3 ـ تم حتى النهاية اقتسام العالم .
لا يمكن الآن أن تكون للانتهازية الغلبة التامة خلال عقود عديدة من السنين ضمن حركة العمال في بلد من البلدان، كما تغلبت الانتهازية في إنجلترا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكنها في عدد من البلدان قد نضجت بصورة تامة و أفرطت في النضوج وتعفنت إذ اندمجت بصورة كاملة بوصفها الاشتراكية-الشوفينية في السياسة البرجوازية."نفس المرجع.
و قاوم لينين التحريفية الإنتهازية التي سعت إلى عرقلة البناء الإشتراكي بالدعاية إلى "ما فوق الإمبريالية" ، من أجل صرف أنظار الحركة العمالية العالمية الثورية عن التناقضات الأساسية بينها وبين الإمبريالية ، و كانت الأممية الثانية العمود الفقري لهذه الحركة المضادة بزعامة كاوتسكي.
يقول لينين:
" ولكن إذا تناول الكلام الظروف « الاقتصادية الصرفة» لمرحلة الرأسمال المالي باعتبارها مرحلة محددة تاريخيا تقع في أوائل القرن العشرين، فإن أحسن رد على الصيغ المجردة الميتة بصدد «ما فوق الإمبريالية» تلك الصيغ التي لا تستهدف إلاّ أمرا رجعيا للغاية( إلهاء الأنظار عن عمق التناقضات القائمة) هو معارضتها بالواقع الاقتصادي الملموس في الإقتصاد العالمي الراهن. إن أقاويل كاوتسكي عما فوق الإمبريالية، هذه الأقاويل الخالية من كل معنى، تشجع، فيما تشجع، الفكرة المغلوطة في عمقها والتي تصب الماء في طاحونة مداحي الإمبريالية، الفكرة القائلة بأن سيطرة الرأسمال المالي تخفف التفاوت والتناقضات في داخل الاقتصاد العالمي في حين أنها تشددها في الواقع."نفس المرجع.
لقد حدد لينين معالم الوضع العام العالمي وفق الدياليكتيك الماركسي في ظل سيطرة الرأسمال المالي التي تميز عصر الإمبريالية بوجه عام باعتبارها "أعلى مراحل الرأسمالية" ، و انتقد أسسها والتناقضات التي تلازمها سياسيا و اقتصاديا مبرزا دور التحريفية الإنتهازية في تلميع وجه الإمبريالية بالدعاية إلى "ما فوق الإمبريالية" و"النضال السلمي للبروليتاريا" و غير ذلك من المساحيق التي تزين بها وجهها ، متجاهلة التناقضات الأساسية للرأسمالية الإمبريالية لضرب النضال الثوري البروليتاري ونشر الفكر البورجوازي في صفوف الطبقة العاملة.
يقول لينين :
" إن المقادير الهائلة من الرأسمال المالي المتمركز في عدد ضئيل من الأيدي والذي ينشىء شبكة في منتهى الكثافة والسعة من العلاقات والصلات، هذه الشبكة التي تخضع له جمهورا من الرأسماليين وأصحاب الأعمال المتوسطين والصغار، بل وحتى الصغار جدا، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى النضال العنيف ضد فرق الماليين من الأمم والدول الأخرى من أجل اقتسام العالم ومن أجل السيطرة على البلدان الأخرى – كل ذلك يسبب انتقال جميع الطبقات المالكة أفواجا إلى جانب الإمبريالية. الكلف «العام» بمستقبل الإمبريالية والدفاع عنها بجنون و طليها بما أمكن من المساحيق هي الصفة المميزة للزمن. وتتغلغل الإيديولوجية الإمبريالية كذلك في طبقة العمال، إذ ليس هناك سور صيني يفصلها عن الطبقات الأخرى. فإذا كان زعماء الحزب الحالي المسمى «الإشتراكي-الديموقراطي» الألماني قد نالوا بحق لقب «الاشتراكيين-الإمبرياليين»، أي الاشتراكيين قولا والإمبرياليين فعلا، فقد أشار هوبسون منذ سنة 1902 إلى وجود « الإمبرياليين الفابيين» في إنجلترا المنتسبين إلى «الجمعية الفابية» الإنتهازية."نفس المرجع.
و حدد مكانة الإمبريالية في التاريخ التي تميزها صفة "الإحتكارية" التي نشأت في حضن "المزاحمة الحرة" في القرن 19 ، معتبرا الإمبريالية مرحلة انتقال من "الرأسمالية إلى نظام اجتماعي أعلى"، و حدد أنواع الاحتكارات الرئيسية الأربعة :
1 ـ نشأ الإحتكار عن تمركز الإنتاج البالغ درجة عالية جدا في تطوره. وهذا هو اتحادات الرأسماليين الاحتكارية، الكارتيلات و السنديكات والتروستات.
2 ـ ساقت الاحتكارات إلى تسريع الاستيلاء على أهم مصادر الخامات، ولاسيما خامات الصناعات الرئيسية في المجتمع الرأسمالي والتي بلغ فيها تنظيم الكارتيلات حده الأقصى كصناعات الفحم الحجري وصهر الحديد.
3 ـ نشأ الاحتكار عن البنوك. و قد تحولت البنوك من مؤسسات وسيطة متواضعة إلى محتكر للرأسمال المالي.
4 ـ نشأ الإحتكار عن سياسة حيازة المستعمرات فالرأسمال المالي قد أضاف إلى بواعث السياسة الاستعمارية –إلى البواعث «القديمة» العديدة – الصراع من أجل مصادر الخامات، من أجل تصدير الرساميل، من أجل «مناطق النفوذ» – أي مناطق الصفقات الرابحة والامتيازات والأرباح الاحتكارية وهلم جرا – وأخيرا من أجل الأقاليم الاقتصادية بوجه عام.نفس المرجع.
و انتقد لينين أقوال كاوتسكي التحريفية الإنتهازية التي تتفق و أقوال هوبسون عن امكانية السلام في ظل الرأسمالية ، و أن "الإمبريالية الوسطية" و "الإمبريالية العليا" تقود العالم نحو السلام ، و هو يريد أن يكون ماركسيا متجاهلا دور الحرب و الإستعمار في تعزيز مكانة الإحتكارية باعتبارها السمة الأساسية للإمبريالية ، فبعد تعاظم الإحتكارية و سيطرة الرأسمال المالي إقتصاديا تعاظم الإستعمار والحرب في ظل الرأسمالية الإمبريالية سياسيا.
يقول لينين :
" لقد أطلق كاوتسكي اسم الإمبريالية العليا أو ما فوق الإمبريالية على ما أسماه هوبسون قبله بثلاثة عشر سنة بالإمبريالية الوسطية أو ما بين الإمبريالية. وباستثناء ابتداع كلمة جديدة عويصة عن طريق استبدال حرف لاتيني بآخر، يتلخص تقدم الفكرة «العلمية» عند كاوتسكي في مجرد محاولته أن يظهر بمظهر الماركسية ما وصفه هوبسون بأنه، في الجوهر، من نفاق القساوسة الإنجليز. فبعد الحرب الإنجليزية البويرية كان من الطبيعي تماما أن توجه هذه الفئة الفائقة الاحترام جل جهودها إلى تعزية صغار البرجوازيين والعمال الإنجليز الذين قتل عدد كبير منهم في المعارك التي دارت في جنوب إفريقيا ودفعوا الضرائب الباهظة لضمان أرباح أكبر للماليين الإنجليز. وهل ثمة تعزية أفضل من أن يقال أن الإمبريالية ليست رديئة لهذا الحد وأنها قريبة من أن تصبح إمبريالية وسطية (أو إمبريالية عليا) يمكنها أن تضمن السلام الدائم؟ ومهما كانت حسنة نوايا القساوسة الإنجليز أو نوايا كاوتسكي المعسول فإن المغزى الموضوعي، أي الإجتماعي الحقيقي، «لنظريته» هو واحد لا غير: منتهى الرجعية في تعزية الجماهير بآمال عن إمكان سلام دائم في ظل الرأسمالية عن طريق تحويل الأنظار عن تناقضات العصر الحادة وقضاياه الشائكة وتوجيه الأنظار إلى آمال خُلب عن اقتراب «إمبريالية عليا» جديدة موهومة. إن نظرية كاوتسكي «الماركسية» لا تتضمن شيئا على الإطلاق اللهم إلاّ خداع الجماهير."نفس المرجع
إن أية قراءة للوضع العام العالمي الحالي لا يمكن أن تتجاوز منطلقات المذهب الماركسي اللينيني بالرجوع إلى الخلف للبحث عن الأسس النظرية لمرحلة المزاحمة الحرة التي وضع ماركس و إنجلس أسسها النظرية ، إن التاريخ يسير إلى الأمام و لا يمكن للدياليكتيك الماركسي أن يقبل أية هفوة نظرية رجعية إلى وراء ذلك ما أكده الصراع الأيديولوجي و السياسي بين الماركسية اللينينية والتحريفية الإنتهازية و التي بلغت حدتها في عصرنا هذا ، عصر تعمقت فيه تناقضات الرأسمالية الإمبريالية التي وصلت فيها الإحتكارية أشدها باشتداد التناقضات الإقتصادية بينها وبين المزاحمة الحرة على نطاق العالم بأسره ، و ما نتج عنها من تناقضات سياسية بين الحركة العمالية العالمية الثورية و"الإشتراكية الإمبريالية".
إن الاستعمار و الحرب ملازمان للرأسمالية الإمبريالية و لا يمكن لأي تطور هائل لوسائل الإنتاج أن يحقق "الديمقراطية" في ظل الرأسمالية الإمبريالية كما يدعي التحريفيون الإنتهازيون ، لكون الإحتكارية تسخر هذه الوسائل لاضطهاد الشعوب هذا ما نراه اليوم في الحرب الإمبريالية الثالثة التي بدأت منذ الحرب الأولى على العراق سنة 1991 بعد تأكيد سقوط المنتظم الإشتراكي ، وتقودها الإمبريالية الأمريكية الحرب ضد جميع الشعوب بما فيها شعوب الدول الإمبريالية التي تؤدي ثمن الحرب غاليا رغما عنها.
و يتم تسخير وسائل الإنتاج من طرف الإحتكارية لبسط السيطرة الإستعمارية على شعوب العالم ، و تعتبر السكك الحديدية في بداية الرأسمالية الحديثة/الإمبريالية وسيلة أساسية لهذه الغاية ، للوصول إلى جميع بقاع العالم التي لم يتم استثمارها من قبل.

يقول لينين :

" إن توزيع خطوط السكك الحديدية وتفاوته وتفاوت تطورها هو حاصل الرأسمالية الاحتكارية الحديثة على النطاق العالمي. وهذا الحاصل يظهر في الحروب الإمبريالية هي أمر محتوم تماما على هذا الأساس الاقتصادي، طالما بقيت وسائل الإنتاج ملكا خاصا."كتاب :الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية".

إن أهم مميزات الرأسمالية الإمبريالية هو صفتا الحرب و الاستعمار الملازمتان للإحتكارية نقيض المزاحمة الحرة التي ميزت عصر ماركس و إنجلس من أجل تقسيم العمل عالميا ، و كانت إنجلترا قائدة الإمبريالية في عصر لينين بعد سيطرتها على أغلب المستعمرات في العالم و استثمار خيراتها.

يقول لينين :

" إن مرحلة اشتداد الاستيلاء على المستعمرات اشتدادا هائلا هي بالنسبة لإنجلترا سنوات 1860-1880 واشتدادا ملحوظا جدا في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر, ومرحلة الاشتداد الهائل بالنسبة لفرنسا وألمانيا هي العقدين الأخيرين بالضبط. وقد رأينا فيما تقدم أن رأسمالية ما قبل عهد الاحتكار، رأسمالية سيادة المزاحمة الحرة قد بلغت أوج تطورها في مرحلة سنوات 1860-1880. وها نحن نرى الآن أنه بعد هذه المرحلة بالضبط تبتدئ «النهضة» الكبرى في الاستيلاء على المستعمرات ويحتدم للغاية وطيس الصراع من أجل اقتسام أراضي العالم. ولا مجال للشك إذن في أن انتقال الرأسمالية إلى درجة الرأسمالية الاحتكارية، إلى الرأسمال المالي، مرتبط باحتدام الصراع من أجل اقتسام العالم."نفس المرجع.

و إذا كانت إنجلترا في عهد لينين هي قائدة الإمبريالية فإن أمريكا تعتبر قائدتها منذ نهاية الحرب الإمبريالية الثانية و ما تلاها من الحروب اللصوصية ، التي كانت الحرب على العراق بداية مرحلة استعمارية جديدة بعد سقوط المنتظم الإشتراكي التي نتجت أشكال استعمارية جديدة.
و إذا كانت السكك الحديدية و تسخير الطاقة الكهربائية لها هي وسيلة الإنتاج التي اعتمدتها الإمبريالية في عصر لينين للسيطرة على الشعوب المضطهدة ، فإن وسائل الإنتاج التي تعتمدها الإمبريالية اليوم في بسط سيطرتها السياسية و الاقتصادية و العسكرية هي الأسطولين الجوي والبحري و تسخير الطاقة النووية لذلك.
أما علوم الإعلاميات فما هي إلا تطور هائل في مجال العلوم الطبيعية خدمة لتطوير وسائل الإنتاج المعتمة في السيطرة الإمبريالية على الشعوب ، التي تعتمد على الملاحة الجوية و البحرية وتسخير الطاقة النووية كما اعتمدت السكك الحديدية على الكهرباء في عصر لينين ، أما إمكانيات الاستفادة من الإعلاميات من طرف الشعوب من أجل تطوير "الديمقراطية" كما يقول التحريفيون الإنتهازيون فما هو إلا ضرب من الخيال ، و هذا الإدعاء لا يخرج من نطاق محاولة تحييد النضال الثوري للطبقة العاملة في الصراع ضد الإمبريالية لتلميع وجهها كما فعلت التحريفية الإنتهازية في عصر لينين.

يقول لينين :

" وهذا التيار الفكري هو، من ناحية، نتاج فساد وتقيح الأممية الثانية وهو، من الناحية الأخرى، نتاج محتوم لإيديولوجية صغار البرجوازيين الذين يبقيهم وضع حياتهم بأكمله في أسر الأوهام البرجوازية و الديموقراطية."نفس المرجع.

لقد وضع لينين أسس تناقضات الرأسمالية الإمبريالية في نظريته حول الرأسمالية الحديثة التي عرفت تحولا خطيرا بعد أزمة 1900ـ1903 كما وضع أسس مواجهتها ، فواجه التحريفية الإنتهازية خلال الحرب الإمبريالية الأولى في مقاومته لتأييدها للحرب و بعد انتصار ثورة أكتوبر واجهها خلال الحرب الأهلية ، التي استكمل عبرها أسس البناء الإشتراكي باعتباره الأساس الإقتصادي للنظرية البروليتارية الثورية/الماركسية اللينينية.

يقول لينين :

" إن الحركة البروليتارية الثورية بوجه عام والشيوعية بوجه خاص، هذه الحركة المتنامية في جميع أنحاء العالم، لا غنى لها عن تحليل وفضح الأخطاء النظرية التي تقترفها «الكاوتسكية». وهذا لا ندحة عنه لاسيما وأن النزعة المسالمة و«الديموقراطية» بوجه عام اللتين لا تدعيان بالماركسية إطلاقا، ولكنهما، شأن كاوتسكي وشركائه سواء بسواء، تطمسان عمق تناقضات الامبريالية وحتمية الأزمة الثورية التي تنشأ عنها، هما تياران ما زالا منتشرين لأقصى حد في العالم كله. والنضال ضد هذين التيارين هو أمر إلزامي لحزب البروليتاريا الذي يتوجب عليه أن ينتزع من البرجوازية صغار أصحاب الأعمال والملايين من الشغيلة المخدوعين بها والذين تحيط بهم لهذا الحد أو ذاك ظروف حياة البرجوازية الصغيرة."نفس المرجع.

لم تتحقق الثورة الإشتراكية بالإتحاد السوفييتي إلا بفعل احتداد الصراع داخليا ضد الكاوتسكية والمنشفية وخارجيا ضد الرأسمالية الإمبريالية ، في صراع الماركسية اللينينية ضد الحرب والإستعمار من أجل انعتاق الشعوب بالمستعمرات كشرط أساسي لاستكمال البناء الإشتراكي عالميا ضد التبعية الإمبريالية ، و من أجل التخلص من الطفيلية و التعفن الملازمتان للإمبريالية التي تعمل على ضرب وحدة الطبقة العاملة عالميا بخلق أروستقراطية بروليتارية بالدول الإمبريالية ضد البروليتاريا في المستعمرات.

يقول لينين :

" إن هيلفردينغ، «الماركسي» سابقا وزميل كاوتسكي اليوم وأحد الممثلين الرئيسيين للسياسة البرجوازية الإصلاحية في «الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني المستقل»، قد خطا، كما سبق وأشرنا في متن هذا الكتاب، خطوة إلى الوراء في هذه المسألة بالمقارنة مع المسالم والإصلاحي الإنجليزي المكشوف هوبسون. فالانقسام العالمي لحركة العمال بأكملها قد تكشف الآن على أتمه (الأمميتان الثانية والثالثة). وقد تكشف كذلك واقع النضال المسلح والحرب الأهلية بين الاتجاهين: المناشفة و«الاشتراكيون-الثوريون» في روسيا يؤيدون كولتشاك ودينيكين ضد البلاشفة؛ وأنصار شيدمان ونوسكه وشركائه في ألمانيا هم مع البرجوازية ضد السبارتاكيين، والشيء نفسه في فنلندة وبولونيا والمجر الخ.. فما هو، إذن، الأساس الاقتصادي لهذه الظاهرة التاريخية العالمية؟
إنه يتلخص بالضبط في الطفيلية والتعفن الملازمين للرأسمالية في أعلى مراحلها التاريخية، أي في مرحلة الإمبريالية. فالرأسمالية، كما برهن في الكتاب الحالي، قد أبرزت الآن حفنة (أقل من عشر سكان الأرض، وفي أبعد حالة «للتسامح» والمغالات في التقدير، أقل من الخمس) من الدول في منتهى الغنى والقوى تنهب العالم كله بمجرد (قص الكوبونات). إن تصدير الرأسمال يعطي دخلا يتراوح بين 8 و10 مليارات فرنك في السنة حسب أسعار ما قبل الحرب وحسب إحصاءات البرجوازية لما قبل الحرب. والآن أكثر جدا بطبيعة الحال."نفس المرجع.

4 ـ في التناقض بين الإقتصاد الرأسمالي و الإقتصاد الإشتراكي

و عكس ما يدعيه المناشفة الجدد أصحاب المذهب البورجوازي الحديث يعتبر المذهب الماركسي اللينيني المذهب الحاسم في تناول القضايا السياسية و الإقتصادية في عصر الإمبريالية ، الذي وضع لينين أسسه النظرية والعملية بالدفع بالثورة الإشتراكية إلى الأمام عندما تأكد من خطورة الإمبريالية على الإنسانية معتبرا أن مهمة إدارة دولة دكتاتورية البروليتاريا تتجاوز القضايا السياسية إلى القضايا الإقتصادية ، سعيا إلى الإنتقال من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الإشتراكي على اعتبار أن المهام السياسية تخضع للمهام الإقتصادية من أجل بعث القوى المنتجة الإشتراكية ، مما يتطلب إعادة تنظيم الإقتصاد أولا عبر "الحساب و الرقابة على إنتاج و توزيع المنتجات" وثانيا ب"زيادة إنتاجية العمل" بعد انتصار تحالف البروليتاريا و الفلاحين في الحرب الأهلية .

يقول ستالين عن أهمية التحالف بين العمال و الفلاحين في البناء الإشتراكي :

" إن القانون الاقتصادي، قانون التوافق الضروري بين علاقات الإنتاج وصفة القوى المنتجة، يشق لنفسه الطريق في البلدان الرأسمالية منذ وقت بعيد. و إذا كان لم يتم بعد فتح طريقه، ولم ينطلق على مداه، فذلك لأنه يلاقي أعنف مقاومة من قوى المجتمع الصائرة إلى الزوال. وهنا تواجهنا ميزة خاصة أخرى للقوانين الاقتصادية. فخلافاً لقوانين الطبيعة، حيث نرى أن اكتشاف وتطبيق قانون جديد يجريان بلا عائق تقريباً، نجد في الميدان الاقتصادي أن اكتشاف وتطبيق قانون جديد يمس مصالح قوى المجتمع الصائرة إلى الزوال يلاقيان من هذه القوى أعنف مقاومة. فلا بد إذن من قوة، قوة اجتماعية في وسعها التغلب على هذه المقاومة. وقد وجدت هذه القوة في بلادنا بشكل تحالف الطبقة العاملة والفلاحين الذين يؤلفون معاً أكثرية المجتمع العظمى. وهذه القوة لم توجد بعد في البلدان الأخرى، في البلدان الرأسمالية." كتاب : القضايا الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفييتي.

خلال البناء الإشتراكي بعد ثورة أكتوبر ، لم يتم القضاء نهائيا على قانون القيمة ، إلا أنه تم الحد من تأثير مفعوله على الإنتاج الإشتراكي ، و ذلك بفضل الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج مما قضى على المزاحمة و فوضى الإنتاج و الأزمات و الحد من سيطرة الإنتاج البضاعي ، و المطروح على الإقتصاد الإشتراكي هو القضاء على الإنتاج البضاعي في الفلاحة و لكن بالتدريج عبر أسس الثورة الإشتراكية التي وضعها لينين و هي :

ـ عدم تفويت الظروف الملائمة للاستيلاء على الحكم ؛ فعلى البروليتاريا أن تستولي على الحكم دون أن تنتظر حتى تكون الرأسمالية قد توصلت إلى خراب ملايين المنتجين الفرديين الصغار والمتوسطين.
ـ نزع ملكية وسائل الإنتاج في الصناعة وجعلها ملكاً للشعب.
ـ أما المنتجون الفرديون الصغار والمتوسطون فيجمعون بصورة تدريجية في تعاونيات إنتاجية، أي في مؤسسات زراعية ضخمة، هي الكولخوزات.
ـ تطوير الصناعة، بجميع الوسائل، وإقامة الكولخوزات على أساس تكنيكي حديث، هو الأساس التكنيكي للإنتاج الكبير؛ وعدم نزع ملكية الكولخوزات، بل بالعكس، تزويدها، بشكل وافر، بأعلى طراز من التراكتورات وسائر الآلات.
ـ لأجل تأمين التحالف الاقتصادي بين المدينة والأرياف، بين الصناعة والزراعة، يحافظ، إلى حين، على الإنتاج البضاعي (التبادل عن طريق البيع والشراء)، بوصفه الشكل الوحيد المقبول ـ لدى الفلاحين ـ للعلاقات الاقتصادية مع المدينة، وتطور التجارة السوفييتية على مداها، تجارة الدولة والتجارة التعاونية والكولخوزية على السواء، مع إزالة الرأسماليين، على أنواعهم، من ميدان التجارة.

يقول ستالين :

" وإذن فكيف العمل إذا كانت جميع وسائل الإنتاج لم تكن اجتماعية، بل قسم منها فقط، وإذا كانت جميع الشروط الملائمة لاستيلاء البروليتاريا على الحكم متوفرة، ـ هل يجب أن تستولي البروليتاريا على الحكم، وهل يجب القضاء، بعد ذلك فوراً، على الإنتاج البضاعي؟ لا يمكن طبعاً أن يعد جواباً رأي بعض الماركسيين المزعومين الذين يرون أنه ينبغي، في هذه الأحوال، الامتناع عن الاستيلاء على الحكم، والانتظار حتى يتسع الوقت للرأسمالية لتخرب ملايين المنتجين الصغار والمتوسطين، وتحولهم إلى أجراء زراعيين، وتمركز وسائل الإنتاج في الزراعة، وأنه، بعد ذلك فقط، يمكن وضع مسألة استيلاء البروليتاريا على الحكم وجعل جميع وسائل الإنتاج اجتماعية. ومن المفهوم أن الماركسيين لا يمكنهم أن يقبلوا مثل هذا «الحل» إذا كانوا لا يريدون أن يلطخوا شرفهم بالخزي والعار. كذلك لا يعتبر جواباً رأي الماركسيين المزعومين الآخرين الذين يظنون أنه ربما يجب الاستيلاء على الحكم واللجوء إلى نزع ملكية المنتجين الصغار والمتوسطين في الريف وجعل وسائل إنتاجهم اجتماعية. فالماركسيون لا يستطيعون أن يسيروا في هذه الطريق الخرقاء والمجرمة لأن هذه الطريق تحرم الثورة البروليتارية كل إمكانية للنصر، ونلقي بجماهير الفلاحين في معسكر أعداء البروليتاريا إلى أمد طويل." نفس المرجع.

ففي مرحلة البناء الإشتراكي برزت أهمية قانون الإقتصاد الإشتراكي الذي يتجلى في توفير أقصى الحاجات المادية و الثقافية للشعب كله الذي اكتشفه ستالين من أجل القضاء على جميع الفوارق الطبقية ، مما يجعل جميع القوانين المتفرعة عن القيمة الزائدة المنبثقة من النظام الرأسمالي كالعمل المأجور و الإنتاج البضاعي و غيرهما تنتفي مع بروز القانون الأساسي للإقتصاد الإشتراكي .
فالتناقض بين المذهب الماركسي اللينيني و المذهب البورجوازي يحتم وضع قانون الإقتصاد الإشتراكي الذي ينهال من صلب هذا التناقض من خلال التناقض بين :

ـ القانون الأساسي للإقتصاد الرأسمالي الذي يرتكز على الحد الأقصى للقيمة الزائدة و القانون الأساسي الإقتصاد الإشتراكي الذي يرتكز على توفير الحد الأقصى من حاجات المجتمع المادية و الثقافية.

يقول ستالين :

" أعتقد أنه ينبغي ترك بعض المفاهيم الأخرى، التي تقتبس من كتاب الرأسمال، حيث يعكف ماركس على تحليل الرأسمالية، والتي تلصق، بصورة مصطنعة، بعلاقاتنا الاشتراكية. وأعني، فيما أعنيه من هذه المفاهيم، ما يتناول العمل «الضروري»، والعمل «الزائد»، والمنتوج «الضروري»، والمنتوج «الزائد»، والزمن «الضروري»، والزمن «الزائد». فقد حلل ماركس الرأسمالية لكي يبين منشأ استثمار الطبقة العاملة، أي القيمة الزائدة، ولكي يزوّد الطبقة العاملة، المحرومة من وسائل الإنتاج، بسلاح روحي لقلب الرأسمالية. وبديهي أن ماركس يستعمل هنا مبادئ أولية (مفهومات) تنطبق انطباقاً تماماً على العلاقات الرأسمالية. ولكن يبدو أكثر من غريب أن تستخدم الآن هذه المفهومات، حين لم تعد الطبقة العاملة محرومة من السلطة ووسائل الإنتاج، بل باتت، بالعكس، تقبض بيدها على السلطة، وتملك وسائل الإنتاج . فالكلام عن قوة العمل كبضاعة، وعن عمل العمال «الأجور» ذو وقع بعيد عن المعقول في نظامنا: كأن الطبقة العاملة، التي تملك وسائل الإنتاج، تستأجر نفسها بنفسها، وتبيع لنفسها قوة عملها. وليس الكلام اليوم عن العمل «الضروري» والعمل «الزائد» بأقل غرابة: كأن عمل العمال المقدم للمجتمع، في ظروفنا، لأجل توسيع الإنتاج، وتطوير التعليم، والصحة العامة، وتنظيم الدفاع الوطني، الخ، ليس ضرورياً للطبقة العاملة، وهي في الحكم اليوم، كضرورة العمل المبذول لسد الحاجات الشخصية للعامل وعائلته." نفس المرجع.

إن الرأسمال الصناعي أحدث تناقضا هائلا بين القوى المنتجة الجديدة التي تشكل فيها البروليتاريا عنصرها الأساسي و علاقات الإنتاج البورجوازية ، بعد تحويل الإنتاج البضاعي الذي كان أعرق تاريخيا من النظام الرأسمالية إلى وسيلة لاستغلال الطبقة العاملة بعد تحويل قوة عمل العمال إلى بضاعة يتم بيعها و شراؤها ، مع العلم أن الإنتاج البضاعي هيأ المجال للرأسمالية في مرحلة سيطرة الرأسمال التجاري في عهد الإقطاع ، بعد تداول فائض الإنتاج الزراعي و الحرفي في السوق التجارية العالمية بتبادل البضائع بالنقد ، و لم يكن الإنتاج البضاعي من نتائج ظهور النظام الرأسمالي إلا أنه طور هذا الإنتاج في عصر الثورة الصناعية و طبعه بروح فوضى الإنتاج ، عكس ما يقع في النظام الإشتراكي من ضبط للإنتاج البضاعي و توجيهه توجيها يساير حاجات المجتمع المادية و الثقافية.

يقول ستالين :

" وفي هذا الاتجاه نفسه، يؤثر في الاقتصاد الوطني قانون التطور المتناسق (المتناسب)، الذي حل محل قانون المزاحمة وفوضى الإنتاج.وفي هذا الاتجاه نفسه، تؤثر برامجنا السنوية وبرامج السنوات الخمس، وبصورة عامة، كل سياستنا الاقتصادية التي تستند إلى مقتضيات قانون التطور المتناسق للاقتصاد الوطني.كل هذه الوقائع بمجموعها تجعل دائرة مفعول قانون القيمة عندنا محدودة جداً، وتجعل قانون القيمة غير قادر، في نظامنا، على القيام بدور ضابط في الإنتاج. ذلك ما يفسر، من جهة أخرى، هذا الواقع «المدهش»، وهو أن قانون القيمة لا يؤدي عندنا إلى أزمات فيض الإنتاج، بالرغم من نهوض إنتاجنا الاشتراكي نهوضاً مستمراً هائل الانطلاق، في حين أن قانون القيمة نفسه، الذي له دائرة عمل واسعة، في النظام الرأسمالي، يؤدي إلى أزمات فيض الإنتاج بصورة دورية، بالرغم من ضعف معدلات نمو الإنتاج في البلدان الرأسمالية." نفس المرجع.

و بعد سيطرة الرأسمال الصناعي على الرأسمال التجاري ظهر التناقض الأساسي بين الرأسمال و العمل نتيجة تبضيع قوة عمل البروليتاريا من طرف الرأسماليين من أجل مزيد من الربح ، و بالتالي تكديس قوة العمل المسلوبة من الطبقة العاملة على شكل رأسمال صناعي بتكثيف استغلالها ، ليصبح هذا العمل المكدس أي الرأسمال أداة للسيطرة على العمل الحي أي العمال مما زاد في تضاعف الثروات في أيدي البورجوازية على شكل رأسمال ، فالرأسمال إذن نتاج تكديس قوة عمل العمال المستغلين بالمعامل و المصانع بعد جعلها بضاعة ينم التحكم في أسعارها من طرف الرأسماليين في سوق العمل، و نتج عن هذا الإستغلال المكثف بروز أهمية القيمة الزائدة أي الربح المتزايد في النظام الرأسمالي طبقا لجشع الرأسماليين ، و هذه القيمة الزائدة الناتجة عن نزع جزء كبير من قوة العمل أصبحت القانون الأساسي للإقتصاد الرأسمالي في مرحلة المزاحمة الحرة بين الرأسماليين ، و في ظل تطور أدوات الإنتاج تم خلق المزاحمة بين العمال لعرض قوة عملهم للبيع بعد تدني الأجور و تزاد العمال المطرودين من العمل ، و هكذا يكون العمل الحي /العمال وسيلة للحفاظ على العمل المكدس/الرأسمال الذي تمت سرقته من قوة عمل الطبقة العاملة عبر زمن طويل من الإستغلال المكثف في المعامل و المصانع ، الشيء الذي مكن الرأسمال من الإستمرار في استغلال العمل من أجل التنمية و التطور مع تطور أدوات الإنتاج و أساليب الإستغلال ، و هكذا أصبح شرط وجود الرأسمال مقرون بشرط وجود العمل المأجور و لا يمكن للرأسمالية أن تستمر في التنمية و التطور إلا بوجود القيمة الزائدة التي تعتبر القانون الأساسي للإقتصاد الرأسمالي ، عكس نمط الإنتاج الإشتراكي الذي يضع في المقام الأول الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وفق قانون الإنتاج المتكافيء و لا تكون فيه لقانون القيمة مكانة.

يقول ستالين :

" يقولون أن قانون القيمة هو قانون ثابت، إلزامي في جميع مراحل التطور التاريخي، وأن قانون القيمة، إذا فقد قوته كضابط لعلاقات التبادل في الطور الثاني من المجتمع الشيوعي، فإنه في هذه المرحلة من التطور، سيحتفظ بقوته كضابط للعلاقات بين مختلف فروع الإنتاج، كضابط لتوزيع العمل بين فروع الإنتاج. إن هذا خطأ مطلق. فالقيمة، ومثلها قانون القيمة، مفهوم تاريخي، مرتبط بوجود الإنتاج البضاعي. فمع زوال الإنتاج البضاعي، ستزول القيمة أيضاً بأشكالها، وقانون القيمة. إن كمية العمل التي تصرف على صنع المنتجات، في الطور الثاني من المجتمع الشيوعي، لن تقاس حينئذ بسبل ملتوية، بواسطة القيمة وأشكالها، كما هي الحال في الإنتاج البضاعي، بل ستقاس مباشرة وفوراً بكمية الوقت، بعدد السعات التي تصرف على صنع المنتجات. أما توزيع العمل بين فروع الإنتاج، فلن يتم ضبطه عن طريق قانون القيمة الذي يكون قد فقد قوته حينذاك، بل سيضبطه نمو حاجات المجتمع من المنتجات. ذلك سيكون مجتمعاً يضبط فيه الإنتاج عن طريق حاجات المجتمع، وسيكون فيه لإحصاء حاجات المجتمع أهمية من الدرجة الأولى للهيئات التي تقوم بإعداد البرامج. ومن الخطأ التام أيضاً التأكيد بأن قانون القيمة، في نظامنا الاقتصادي الحالي، خلال المرحلة الأولى من تطور المجتمع الشيوعي، يضبط، على ما يزعم، «نِسَب» توزيع العمل بين مختلف فروع الإنتاج. فإذا كان هذا صحيحاً، فلماذا لا تطوّر صناعتنا الخفيفة إلى أقصى حد، باعتبارها أكثر الصناعات ريعية، تفضيلاً لها على الصناعة الثقيلة التي هي، في الغالب، أقل ريعية، وأحياناً لا ريع لها البتة؟" نفس المرجع.

و وجود القيمة الزائدة في الإقتصاد الرأسمالي لم يكن إلا نتيجة عدم قدرة البورجوازية بعد صعودها إلى الحكم على نفي التناقض الأساسي بين ملكية وسائل الإنتاج الخاصة التي أصبحت رأسمالية و العمل الذي يتسم بالصفة الإجتماعية ، مما فند جميع ادعاءات البورجوازية حول قدرتها على إسعاد البشرية بعد نجاح الثورات البورجوازية بأوربا ، و نتج عن تطور الرأسمالية في مرحلة المزاحمة الحرة إبراز دور القيمة الزائدة/الربح يشكل جشع كحافز بين الرأسماليين من أجل مزيد من الإستغلال المكثف للطبقة العاملة ، و مع بروز فائض الإنتاج نتيجة فوضى الإنتاج و المزاحمة الحرة و الأزمات الناتجة عن ذلك تنامى تكثيف استغلال الرأسمال للعمل و برز الإستعمار للسيطرة على السوق التجارية العالمية ، مما نتج عنه بروز مرحلة الإحتكارات الكبرى التي يسعى فيها الرأسماليون إلى توفير أقصى ما يمكن من القيمة الزائدة/الربح ليس فقط انطلاقا من استغلال الطبقة العاملة في بلد واحد بل و في جميع بلدان العالم باستغلال الشعوب و ثرواتها ، و ظهرت الإمبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية الحديثة إلى الوجود لتمارس استغلالها على شعوب العالم و خاصة البروليتاريا و الفلاحين بعد التمركز الحاصل في الصناعة و الفلاحة على السواء ، مما أدى إلى التمركز في البنوك التي لعبت دورا هاما في انتقال الرأسمالية إلى المرحلة الإمبريالية بظهور الرأسمال المالي و سيطرته على السوق التجارية العالمية ، عكس نمط الإنتاج الإشتراكي الذي أزال الفوارق بين المدن و البوادي ، بين البروليتاريا و الفلاحين.

يقول ستالين

" ومن المؤكد أنه، مع إلغاء الرأسمالية ونظام الاستثمار، ومع تقوية النظام الاشتراكي في لبلادنا، كان لا بدّ أن يزول التضاد بين المدينة والريف، بين الصناعة والزراعة. وهذا ما جرى. فإن المساعدة الفعلية التي أسديت إلى فلاحينا من قبل المدين الاشتراكية، من قبل طبقتنا العاملة، للقضاء على كبار الملاكين العقاريين والكولاك، قد وطدت الأساس لقيام تحالف الطبقة العاملة والفلاحين، كما أن إمداد الفلاحين وكولخوزاتهم إمداداً مستمراً، منتظماً، بأعلى طراز من التراكتورات والآلات، قد أدى إلى تحويل تحالف الطبقة العاملة والفلاحين إلى صداقة بين الفريقين. لا شك في أن العمال والفلاحين الكولخوزيين يؤلفون، مع ذلك، طبقتين تخالف إحداهما عن الأخرى، بنتيجة وضع كل منهما. على أن هذا الاختلاف لا يضعف صداقتهما بوجه من الوجه. بالعكس، إن مصالحهما تقوم على أساس واحد، أساس توطيد النظام الاشتراكي وانتصار الشيوعية. فليس من العجيب إذن أن لا يبقى أي أثر للحذر القديم من جانب الريف نحو المدينة، ومن باب أولى، لكره الريف للمدينة. كل ذلك معناه أن نظامنا الاشتراكي الحاضر قد قضى نهائياً على التربة المؤاتية للتضاد بين المدينة والريف، بين الصناعة والزراعة." نفس المرجع.

لقد قامت الثورة الإشتراكية بالإتحاد السوفييتي من أجل القضاء على الرأسمالية الإمبريالية و برزت أهمية الإقتصاد الإشتراكي و ذلك ببروز أهمية القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج كأساس الصراع ضد الرأسمالية الإمبريالية ، و بالتالي بروز أهمية القضاء على القيمة الزائدة التي تعتبر أساس القانون الإقتصادي الرأسمالي خاصة في أقصاها العليا ، و برزت أهمية قانون الإقتصاد الإشتراكي و الذي يتجلى في توفير أقصى الحاجات المادية والثقافية للشعب كله ، هكذا اكتشف ستالين هذا القانون الأساسي الذي يحكم النظام الإشتراكي و الذي من خلاله تم القضاء على جميع الفوارق الطبقية ، مما جعل جميع القانون المتفرعة عن القيمة الزائدة في النظام الإقتصادي الرأسمالي كالعمل المأجور و الإنتاج البضاعي و غيرهما تنتفي مع بروز القانون الأساسي للإقتصاد الإشتراكي ، ولكن لم يتم القضاء نهائيا على قانون القيمة في النظام الإشتراكي في الإتحاد السوفييتي إلا أن تم الحد من تأثير مفعوله على الإنتاج الإشتراكي ، و ذلك عبر دور الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج التي قضت على المزاحمة و فوضى الإنتاج و الأزمات و الحد من سيطرة الإنتاج البضاعي ، و طرح على الإقتصاد الإشتراكي القضاء على الإنتاج البضاعي في الفلاحة و لكن بالتدريج عبر أسس الثورة الإشتراكية التي ترتكز على التحالف بين البروليتاريا والفلاحين.
و بالتالي تم وضع البرامج السنوية و السنوات الخمس التي وضع ستالين أسسها بالقضاء على الإقتصاد اللامتكافيء الذي يميز الرأسمالية على أساس :

ـ أن تعكس البرمجة بصورة صحيحة مقتضيات قانون تطور الاقتصاد الوطني المتناسق.
ـ أن تأخذ بعين الاعتبار، من جميع النواحي، مقتضيات قانون الاشتراكية الاقتصادي الأساسي.

فالتناقض بين الثورة الإشتراكية و البورجوازية يحتم وضع قانون الإقتصاد الإشتراكي الذي ينهال من صلب هذا التناقض :

ـ القانون الأساسي للإقتصاد الرأسمالي يرتكز على الحد الأقصى للقيمة الزائدة.
ـ القانون الأساسي الإقتصاد الإشتراكي يرتكز على توفير الحد الأقصى من حاجات المجتمع المادية و الثقافية.

أما جميع القوانين الفرعية للقانون الأساسي للإقتصاد الرأسمالي كالمزاحمة و فوضى الإنتاج و العمل المأجور و الريع و المضاربات و غيرها فستزول في ظل هذا القانون الذي اكتشفه ستالين في دولة دكتاتورية البروليتاريا بعد الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.

خـلاصـــــــــــــة


تعيش الرأسمالية الإمبريالية اليوم أعمق أزماتها المزمنة باعتبارها نظاما تناحريا يلازمه الصراع بين العمل و الرأسمال ، و أبرزت الأزمة المالية الحالية تجليات انهيار الرأسمال المالي المسيطر على السوق التجارية العالمية ، مما دفع الدول الإمبريالية إلى الإسراع لإنعاش الرأسمال المالي حماية لمصالح الطغمة المالية الإمبريالية على حساب قوة عمل الطبقة العاملة ، عبر تدفق الأموال المسروقة من عرق و دم البروليتاريا في شرايين الشركات الإمبريالية العابرة للقارات ، في ظل ضرب المكتسبات التاريخية للحركة العمالية الثورية العالمية من خلال :

ـ ضرب العمل القار بطرد العاملات و العمال و الزج بهم في صفوف جيوش المعطلين و رفع سن التقاعد.
ـ تهب أموال صناديق التقاعد و الضمان الإجتماعي و التأمين.
ـ التملص من الخدمات الإجتماعية (التعلية،الصحة،السكن...) و تحميل تبعات ذلك للطبقات الشعبية.
ـ إثقال كاهل الشعوب بالديون و سن سياسات التقشف.
ـ تسريع وتيرة خوصصة المؤسسات الوطنية المالية و الصناعية و الفلاحية.

أمام هذه السياسات الإقتصادية الطبقية بالدول الإمبريالية هبت جحافل العاملات و العمال للإحتجاج في شوارع المدن الأوربية (اليونان،فرنسا...) ، متصدية لسياسة الإستغلال الطبقية المفروضة على الطبقات الشعبية التي تهدف إلى نهب المال و الملك العام لصالح الرأسمال المالي ، الذي وصل مرحلة الإنتهيار التام مما يؤكد المقولة اللينينية المأثورة : "الإمبريالية عشية الثورة الإشتراكية".
في ظل هذه الأزمة الخانقة للرأسمال المالي تسارعت الأحزاب الإشتراكيةـ الإجتماعية بالدول الإمبريالية لاحتواء الحركة العمالية ، من أجل استغلال احتجاجات الطبقة العاملة في الصراع حول السلطة ضد الأحزاب الليبرالية للفوز بتسيير و تدبير الأزمة المالية الحالية ، و قد عبرت البروليتاريا في فرنسا عن قدرتها على تحريك الشارع بعد دخول الحركة الطلابية و التلاميذية في الخط دفاعا عن مستقبل الطبقة العاملة ، مما يعيد ملحمة 1968 باختلاف واحد وهو قيادة البروليتاريا للحركة الإحتجاجية الشيء الذي يؤكد أطروحة النظرية الماركسية حول قيادة الطليعة العمالية الثورية للثورة الإشتراكية.
غير أن هذه الإحتجاجات و التظاهرات العمالية لم ترق إلى مستوى الإضرابات الجماهيرية رغم أنها أعطت للرأسمال المالي ضربات قاسية مما عمق أزمته الحالية ، مما جعل البورجوازية والإنتهازية تتصارعان من أجل الظفر بنتائج الحركة العمالية الحالية و استثمارها لصالحها ، في ظل فقدان البروليتاريا لحزبها الثوري الذي يجب أن يقود الحركة من أجل إسقاط الرأسمالية الإمبريالية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا ، و الحركة العمالية بفرنسا وحدها يبقى عاجزة عن تخطي حدود ثورة 1871 التي أثبتت صحة أهمية استقلالية الطبقة العاملة في ظل حزبها الثوري.
في ظل هذه الأوضاع العالمية تعمل الأنظمة الرجعية التابعة للإمبريالية على تطبيق نفس السياسات الإقتصادية الطبقية المملاة عليها من طرف المؤسسات المالية الإمبريالية ، من أجل ضخ المال في شرايين الرأسمال المالي باعتبار الثروات البشرية و الطبيعية البلدان التابعة الدعامة الخلفية للرأسمالية الإمبريالية ، و هي صمام أمان الإحتكارية الإمبريالية في علاقتها بالمزاحة والمشاريع الصغرى بالبلدان التابعة للإمبريالية ، عبر تطبيق سياسات اقتصادية طبقية تكرس هيمنة الكومبرادور و الملاكين العقاريين الكبار على السلطة السياسية من خلال :

ـ تصفية المؤسسات الوطنية المالية و الصناعية و الفلاحية و تفويتها للكومبرادور والملاكين العقاريين الكبار.
ـ طرد العاملات و العمال و ضرب مكتسب العمل القار و الزج بهم في صفوف المعطلين.
ـ السيطرة على أراضي الفلاحين الفقراء و تحويلهم إلى طبقة عاملة زراعية يتم استغلال في ظروف شبيهة بالإقطاع.
ـ سن قوانين رجعية تضرب المكتسبات التاريخية للطبقة العاملة و الشغيلة بالوظيفة العمومية.
ـ قمع الحركة الإحتجاجية للعمال و الفلاحين و المعطلين و الطلبة.

أمام هذه الأوضاع تبقى الأحزاب الإصلاحية المسيطرة على النقابات المعرقل الأساسي لنضالات الحركة العمالية (خريبكة،جرادة،شتوكة أيت بها،أولاد تايمة...) و احتجاجات الطبقات الشعبية (الدار البيضاء،الريف،الجنوب...) ، و تبقى التحريفية الإنتهازية تلعب دورها التاريخي في عرقلة المد الثوري للحركة العمالية من أجل المساومة مع النظام القائم ، سعيا للوصول إلى السلطة لتسيير و تدبير أزمة الكومبرادور و الملاكين العقاريين الكبار في ظل أزمة الحركة النقابية ، التي تهيمن عليها القيادات البورجوازية النقابية التي قدمت عبر تاريخها الأليم تنازلات تلو تنازلات في 1996 و 2003 و 2009 ، و لم ترق احتجاجات العمال و الفلاحين و المعطلين و الطلبة إلى مستوى الإضرابات الجماهيرية التي يمكن أن تتجاوز البيروقراطية الحزبية و النقابية ، و سرعان ما يتم قمعها و اجتثاثها في عزلة عن بعضها البعض مما يسهل إخمادها و استمرار السياسات الإقتصادية الطبقية ، و ذلك لكونها تفتقد للحزب البروليتاري الثوري بقيادة الطليعة البروليتارية الثورية.

و كانت الحركة الجماهيرية الشعبية بتونس الحركة الوحيد التي استطاعت الإستمرار و الصمود في وجه قمع النظام البوليسي الديكتاتوري للجماهير الشعبية المنتفضة ، و لم تلتحق الأحزاب الإصلاحية و النقابة الوحيدة بالثورة الشعبية المظفرة إلا بعدما تجاوزت الحد المؤشر لنجاحها بعد تجاوزها للأسبوع الأول ، و تحولت الحركة الإجتماعية الإحتجاجية التونسية إلى مستوى الإضرابات الجماهيرية و تجاوزت مستوى المطالب الإقتصادية إلى إعلان المطالب السياسية بعد المطالبة بسقوط الديكتاتور و محاكمة اللصوص المسيطرين على السلطة ، و توعد الديكتاتور الجماهير الشعبية بمزيد من إراقة الدماء دون أن يتمكن من إخماد الثورة بعد ما حصلت القفزة النوعية في الحركة الجماهيرية الشعبية ، التي أفرزت الوعي الطبقي الجمعي لديها مما جعلها تقف صامدة في وجه جميع أشكال القمع و المناورة التي مارسها النظام البوليسي الديكتاتوري المدعوم من طرف النظام الإمبريالي بفرنسا بتعاون مع الأنظمة الرجعية العربية و على رأسها النظام الديكتاتوري الليبي ، و لم تبلغ الثورة التونسية المظفرة حد الأسبوع الرابع لإسقاط النظام الديكتاتوري القائم إلا بالصمود في وجه الإمبريالية العالمية و الرجعية العربية التي ساندت الديكتاتور بعدما تأكدت من سقوطه في الأسبوع الأول للثورة ، وتسارعت الأحزاب الإصلاحية البورجوازية للظفر بنتائج الثورة المظفرة بعد هروب الديكتاتور الذي وفر له النظام الإمبريالي بفرنسا بتعاون مع النظامين الرجعيين بليبيا و السعودية الحماية لمغادرة تونس.
لقد حطمت الثورة الشعبية التونسية المظفرة كل الإدعاءات المغلوطة حول أهمية الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية التي تحاول التحريفية الإنتهازية زرعها في صفوف الطبقة العاملة ، عبر نشر المفاهيم البورجوازية حول "نهاية التاريخ" بنشر مقولاتها التضليلية و التعتيمية حول تهاية عصر البروليتاريا و الصراع الطبقي و أهميتهما في التغيير الثوري ، و سجلت الجماهير الشعبية بتونس بعرقها و دم شهدائها صفحات لن تمحى دروسها التاريخية العظيمة التي أبرزت بالملموس النموذج الثوري المظفر للجماهير الشعبية أمام طغيان الأنظمة الرجعية بالدول التابعة ، و أكدت أن الوعي الجمعي للجماهير الشعبية عندما يكتمل في الشارع يصبح قوة مادية لا تقهر تسمد صلابتها من دروس التاريخ و تخلق مناعتها ضد الإنهزامية عبر استنباط شعاراتها الثورية من سلب وحي الثورة الأولى ضد الإستعمار القديم في مواجهة الإستعمار الجديد، و كانت الأبيات المأثورة للشاعر العظيم الشابي خير تعبير عن الوعي الجمعي الطبقي لدى الجماهير الشعبية بالرجوع إلى رصيدها المفاهيمي من صلب ثقافتها المنبثق من تجربتها الخاصة المأثورة ضد الإستعمار الإمبريالي.

إن العلاقة الجدلية بين الثورة الإشتراكية بالدول الإمبريالية و الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية بالدول التابعة للإمبريالية ، تقود إلى أهمية العلاقة الجدلية بين الحركة العمالية بالدول الإمبرالية و نظيرتها بالدول التابعة في بناء التحالف العمالي العالمي ضد تحالف الإمبرياليين والكومبرادور و الملاكين العقاريين الكبار ، و يبقى الشعار الماركسي المأثور "يا عمال العالم اتحدوا" ذا أهمية كبرى من أجل تحقيق الثورة الإشتراكية عبر :

ـ الإنتفاضات الشعبية بقيادة البروليتاريا بالدول الإمبريالية لتحقيق الثورة الإشتراكية و بناء المجتمعات الإشتراكية بها في ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا.
ـ الإنتفاضات الشعبية بقيادة البروليتاريا بالدول التابعة للإمبريالية لتحقيق الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية و الشروع في البناء الإشتراكي في ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا.

إن ظفر البروليتاريا بالسلطة بالدول الإمبريالية رهين بظفر البروليتاريا بالسلطة بالدول التابعة للإمبريالية ، و ذلك لأهمية وقف تدفق خيرات البلدان الفقيرة في شرايين الرأسمال المالي الشيء الذي يعمق الأزمة المالية الحالية و يعجل بإسقاط الرأسمالية لإمبريالية.

إن نجاح الثورات المغاربية و العربية لن يتحقق إلا بسيطرة الطبقة العاملة على السلطة السياسية و الإقتصادية و الشروع في البناء الإشتراكي ، و تهافت الأحزاب الإصلاحية على السلطة بعد سقوط الديكتاتورة عبر ما يسمى ب"حكومات الوحدة الوطنية" و "المجالس الوطنية" ليس إلا مناورة الإصلاحية الحزبية و النقابية لجني ثمار الثورات الشعبية المظفرة ، و تبقى التحريفية الإنتهازية الداعم الأساسي للديمقراطية البورجوازية الصغيرة بعدما عملت على عزل الطبقة العاملة عن مهامها التاريخية في قيادة الثورات البروليتارية ، بعدما هبت الجماهير الشعبية بعفوية ضد الأنظمة البوليسية الديكتاتورية و استطاعت إسقاط الديكتاتوريات و تحقيق معجزة الثورة في القرن 21 ، و يبقى على عاتق الماركسيين اللينينيين الإستعداد التام لمواجهة تحريف الثورات عن مسارها الحقيقي الذي سعت إليه الجماهير الشعبية بعرقها و دم شهدائها و الذي يتجلى في تحقيق الثورات الديمقراطية البروليتارية.

المراجع المعتمدة :

1 ـ كتاب: العمل المأجور و الرأسمال.
2 ـ المادية و المذهب النقدي التجريبي ـ فلاديمير لينين دار التقدم موسكو 1981 .
3 ـ لينين ، في الدفاع عن الوطن الإشتراكي ـ دار التقدم موسكو.
4 ـ لينين ، ضد الجمود العقائدي و الإنعزالية في الحركة العمالية ، دار التقدم موسكو.
5 ـ الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية - فلاديمير لينين .
6 ـ لينين ، في الثقافة و الثورة الثقافية ، دار التقدم موسكو.
7 ـ ما العمل ؟ المائل الملحة لحركتنا . فلاديمير لينين.
8 ـ لينين ، مختارات المجلد الرابع.
9 ـ لينين ، الدولة و الثورة.
10 ـ ستالين ، المسائل الإقتصادية للإشتراكية بالإتحاد السوفييتي.
11 ـ ستالين ، أسس اللينينية.
12 ـ ستالين ، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.
13 ـ ماو تسي تونغ ، في التناقض.
14 ـ ماو تسي تونغ ، نظرات إلى العالم.
15 ـ ماو تسي تونغ ، المنهج الجدلي لتثبيت وحدة الحزب.