تفكيك اللغز حول الموقف من سوريا!


عصام مخول
2011 / 10 / 18 - 09:14     

- الامبريالية المتخيّلة - وتفكيك اللغز حول الموقف من سوريا!


أحاول أن امسك بمفتاح اللغز القادر على تفسير طبيعة النقاش المتشنج في الموقف مما يحدث في سوريا. وأحاول أن أضع يدي على خط توزيع المياه السياسي والفكري الذي تتفرع عنه وتتفاوت عنده تحليلات هذه الحالة المعقدة، وأن أحدد القضية الأساسية التي من حولها تفترق المواقف وتتناقض . إن الإمساك بمفتاح هذا اللغز يصبح أكثر أهمية وأشد إلحاحا في ظل إرهاب فكري وغسل دماغ إعلامي غير مسبوق ، توجهه الولايات المتحدة الأمريكية وتردد صداه أدواتها التابعة في المنطقة ، السياسية منها والإعلامية، في محاولة منها لتجاوز "الربيع العربي" وتطويعه وتدجينه. وتعمد هذه الكتلة الرجعية بشكل منهجي إلى نزع الشرعية عن أي تفكير موضوعي حر، خارج الخطاب الأمريكي المعولم . وتعمد إلى تكفير أي تحليل يتم خارج اللغة والمفاهيم المضللة، التي فرضتها الهيمنة الامبريالية في العقدين الماضيين، والتي تهدف إلى الترويج لدى الشعوب العربية المحرومة حقا من حرياتها ، لديمقراطية سطحية مزيفة ومبتورة، محصورة في مستواها السياسي ، ولكنها على أهميتها تعيد بالضرورة إنتاج النظام الطبقي والسياسي والاقتصادي القائم، وتعيد إنتاج علاقات الفساد والاستبداد والاستغلال والتهميش . وتهدف في الوقت نفسه إلى الترويج لحرية مشوهة ومبتورة، محصورة في المستوى الاقتصادي ، والسوق "الحر"، و"حرية" حركة رأس المال من جهة ، بينما يتم حرمان الشعوب ومجتمعاتها من حرياتها وسيادتها سواء بسواء ، واحتجاز حرية الحركة المتاحة أمام قوة العمل ، وهدر حقوقها وكرامتها وإنسانيتها من الجهة الأخرى.
فالديمقراطية في المفهوم الامبريالي "الليبرالي" الجديد ، هي للسياسة، شريطة ألا تطال الاقتصاد وعلاقات العمل ومستوى معيشة الشعوب ، وشريطة أن تحافظ على آليات إعادة إنتاج حياة الذل والفقر والعوز لدى الأكثرية الساحقة من الناس ، وإعادة تركيز الارباح والثروات لدى شريحة رقيقة جدا من كبار الرأسماليين المتغوّلين . بينما "الحرية" في المفهوم الامبريالي الليبرالي الجديد ، هي حرية الاقتصاد وحرية السوق وحرية رأس المال، ولا تمت بصلة إلى حرية البشر ، شعوبا وأفرادا وعاملين وجمهور كادحين.
هذه هي الديمقراطية المشوهة وهذه هي الحرية المزوّرة، التي يروّج لها النظام العالمي الجديد، من خلال لغة جديدة ومفاهيم مبتورة يكرسها جيش من مراكز الأبحاث في الأكاديميا وخارجها ، وسيل من الكتاب والمسوّقين ووسائل الإعلام، والوكلاء المنتشرين في العديد من منظمات المجتمع المدني الممولة حتى العنق.
لقد كان واضحا منذ البداية لكل متابع موضوعي نزيه، أن النقاش حول ما يجري في سوريا لا يدور بين موقف يؤيد القمع الدموي للمظاهرات ، وآخر يؤيد الديمقراطية وحرية الشعب . ولا يدور بين موقف "دوغمائي بليد" ، يؤيد الحلول الأمنية الدامية التي لجأ إليها النظام السوري من دون تمييز، لمواجهة مظاهرات المعارضة ومن انسلّ بينها من أعداء الشعب وأعداء النظام ، وبين موقف إنساني يؤمن بالحريات السياسية والفكرية ، وينفتح على المشاعر الإنسانية الفياضة كما يحلو لبعضهم تصوير أنفسهم. إن النقاش دار ويدور على القضايا الحقيقية التي يصر بعضهم على تجاهلها والتنكر لوجودها وتهريبها من تحت الطاولة عن وعي وسبق إصرار.
النقاش الحقيقي حول ما يجري في سوريا وفي المنطقة، هو نقاش بين من يريد إن يتخذ موقفا مما يجري في سوريا ، على أساس موقفه من الامبريالية ومخططاتها الإستراتيجية في المنطقة وفي العالم، وبين أولئك الذين يطالبوننا بأن نأخذ موقفنا من الامبريالية، الحقيقية أو "المتخيلة"، على أساس موقفنا من النظام السوري ومن حلوله الأمنية الدامية في التعاطي مع القضايا السياسية والاجتماعية المشتعلة.

وجاء كاتب صريح أو ربما متسرع وغير حريص فأفشى السر وبقّ الحصوة : فصب غضبه على أولئك الذين يلجأون في تحليلهم إلى بدعة التخويف من مؤامرة تقوم بها "إمبريالية متخيلة"، ليس لها وجود في عالمه الجديد ، متهما بأنهم "يبرطعون نضالات ضد إمبريالية لم تعد قائمة أصلا" ، ومؤكدا أن "الأزمة السورية لم تولد مع مجيء الربيع العربي ولا بسبب من امبريالية مفترضة". ( مرزوق حلبي - الحوار المتمدن 26.9.2011 ) .
على هذا يدور النقاش الحقيقي إذًا . وعلى هذا يدور الصدام، حتى مع أولئك الذين يمتنعون عن الاعتراف جهارا بما اعترف به مرزوق حلبي وتنكر لوجوده. على المحك موقفان لا يمكن الجسر بينهما، موقف يعتبر الإمبريالية "متخيلة" ومفترضة لا وجود لها وكل "استحضار" لها مفتعل وتبريري، وآخر يشير بقلق حقيقي إلى امبريالية حقيقية ومأزومة حتى في مراكزها الأساسية ، أشد خطرا اليوم، من أي وقت مضى ، متحفزة لافتراس الأوطان والشعوب في المنطقة، وهتك سيادتها وحرياتها في إطار "مشروع شرق أوسط كبير، تعتبر القوى المتنفذة في الإدارة الأمريكية أن الوقت مؤاتٍ لإخراجه من جوارير البنتاغون وملفات قيادة حلف "الناتو"، (التي نقلت مقرها مؤخرا إلى مدينة أزمير التركية)، إلى حيز التنفيذ، قبل أن يبرعم "الربيع العربي" وتعقد أزاهيره ثمار التحرر والتغيير الحقيقي والديمقراطي المعادي للامبريالية ولأنظمة التبعية والاستبداد .
وإذا كان أصحاب "مشروع الشرق الأوسط الكبير" ، قد اعترفوا على مدار السنين، ومنذ تورطهم في وحل العراق ، وعلى لسان الرئيس جورج بوش الابن، بأن "مشروعهم الاستراتيجي في المنطقة لن ينجح، وحربهم لن تحقق أهدافها من دون إسقاط أنظمة الحكم وسياساتها في كل من سوريا وإيران" (خطاب الرئيس بوش في الذكرى الأولى لاحتلال العراق). فلماذا يأخذ علينا أصحاب مقولة "الامبريالية المتخيلة" أننا نحمل على محمل الجد مخططات الإدارات الأمريكية وتهديداتها ومخاطرها أكثر مما نحمل تبريراتهم الغريبة ؟!.
لقد اعتمد هذا النقاش على كل ما في قاموس النظام العالمي الجديد من وسائل التبرير والتضليل، باسم "الديمقراطية" و"الحرية "، فصار العدوان الامبريالي السافر على الشعوب وتفكيك الدول وإعادة تركيبها على مقاس المطامع الامبريالية ، جزءا من قواعد اللعبة المقبولة ، وصار تنصيب الحكومات الموالية ، وتشكيل "المجالس الوطنية الانتقالية" من جهة ، ونزع الشرعية عن الحكام وإصدار الأوامر لهم بالتنحي، بمجرد فرمان يصدر عن البيت الأبيض أو عن قصر الاليزيه، مطلبا "ديمقراطيا" و"تحرريا" مشروعا من الجهة الأخرى.
إن هذه الامبريالية الحقيقية التي نشير إليها ونحذر من مشاريعها الاستراتيجية المنفلتة، في ظل الربيع العربي وخوفا من هذا الربيع ، لن تكتفي بما تحيكه من مؤامرات لاقتناص ثمار الثورة الشعبية الرائدة في كل من مصر وتونس وإعادة إنتاج نظام الاستبداد والتبعية بحلة جديدة ، معتمدة على بناء كتلة لتحالف رأس المال والعسكر والإخوان المسلمين تحت المظلة الامريكية ، ولن تكتفي بحماية أنظمة التبعية والقمع والعمالة من غضب شعوبها في اليمن والبحرين والسعودية وغيرها من الإمارات ، ولن تقنع بـ"ثورة الناتو" في ليبيا ، ولن يكفيها رأس النظام السوري ورأس سوريا الوطن والدولة والشعب ولا أشلاء العراق الممزق الدامي ، فما تبتغي هذه الامبريالية أكبر من النظام وأكبر من سوريا وأكبر من الشرق الاوسط الكبير . فإن لها حسابات في الهيمنة الكونية الكبرى التي يشكل حلمها في إسقاط سوريا حلقة مفصلية فيها.