الثورات السلمية لن تحقق اهدافها ومطالبها ٢


حسقيل قوجمان
2011 / 10 / 16 - 13:03     

قد يبدو هذا العنوان استفزازيا او مستهينا باهمية هذه الثورات السلمية التي شاهدها العالم وفرضت نفسها على بلدانها وعلى سائر بلدان العالم التي تعاني من نفس ما عانته هذه البلدان من ظلم وعسف وسرقات. ليس في هذا العنوان اية استهانة بهذه الثورات التي قدمت فيها الشعوب اعظم البطولات حين خرجت وكشفت عن صدورها امام بنادق السلطات ومدافعها وبلطجيتها وغازاتها المسيلة للدموع وخراطيم المياه وحتى الغازات السامة واطلاق النيران الحية.
اهم ما اثبتته هذه الثورات السلمية هو ان الشعوب هي التي تستطيع تغيير المجتمع وليست الاحزاب المنفصلة عن الشعوب. اثبتت ان الاحزاب التي وضعت البرامج البراقة واصدرت صحائفها واطلقت فضائياتها لا تستطيع ان تغير التاريخ بقواها المجردة وان الشعوب وحدها هي التي تستطيع ذلك. يبرز دور الاحزاب في اندماجها بجماهير الشعب وتأثيرها وقيادتها وتوعيتها وتنظيمها للجماهير الشعبية ولا دور لها ما لم تفعل ذلك، وان الشعوب هي القوة التي تستطيع التغيير وليست الاحزاب منفردة.
اذن لماذا لن تستطيع هذه الثورات السلمية ان تحقق اهدافها المعلنة؟ شرح ذلك نجده واضحا وجليا في ادبيات معلمي الماركسية ماركس انجلز لينين ستالين. انهم لم يتحدثوا عن ثورات سلمية بل تحدثوا فقط عن ثورات عنفية. هل كان معلمو الطبقة العاملة محبين للعنف، وللحروب الاهلية وللتضحيات الهائلة من قبل الثوار؟ معلمو الطبقة العاملة ابعد من ان يفكروا بهذه الطريقة. انهم فكروا في انقاذ البشرية من الاضطهاد والاستغلال والحروب الاهلية وغير الاهلية وخلق نظام اجتماعي خال من كل هذه المساوئ يبني ويطور مجتمعه في سلام تنعم فيه الشعوب كلها بحياة سلمية مثمرة لا استغلال فيها ولا مستغلون. لماذا اذن لم يتحدثوا عن ثورات سلمية بل تحدثوا فقط عن ثورات عنفية؟ فعلوا ذلك لانهم درسوا المجتمع كما هو على حقيقته وتوصلوا الى ان الطبقات الحاكمة المسيطرة على جميع البلدان والمستولية على ثروات كافة المجتمعات والمستغلة لجميع هذه الشعوب والمالكة لكل وسائل القمع والابادة لا يمكن ان تتخلى طوعا بطريقة سلمية عن كل هذا لفائدة الانسانية ولرفاهها. ان فائدة الانسانية ورفاهها لا قيمة له لدى هذه القوى الظالمة التي لا تتوانى عن ابادة شعبها احتفاظا بسلطاتها.
نعود الان الى ثورة الشعب المصري السلمية العظيمة التي ادهشت ليس الشعوب الاخرى وحسب بل ادهشت كافة السلطات الدكتاتورية المحيطة بمن فيها السلطات المصرية. كان من المفروض منطقيا ان يقوم الجيش المصري الذي ربي وثقف وسلح على اساس حماية النظام القائم بقمع الثورة وان يقتل من يقتل ويعتقل من يعتقل وان يملأ السجون بابطال الثورة لكي ينقذ نظامه من هؤلاء الثوار "الارهابيين" الذين يتجاوزون على سلطاتهم. ولكن خاب امل مبارك والقيادات العسكرية الموالية له في اجبار الجيش على قتل اخوانهم واطفالهم وابائهم لصالح هذه الزمرة الحاكمة فاجبرت السلطات على تغيير تكتيكها ومحاولة قمع الثورة بوسائل اخرى.
يبدو ان السلطات المصرية وقبلها السلطات التونسية تصرفوا بدهاء منقطع النظير. ازاحوا او اقنعوا راس النظام بالتنحي لكي يؤدي ذلك الى تهدئة ثورة الجماهير ثم يشنوا هجومهم بابشع مما كان سابقا. اكبر برهان على ذلك هو ان الثورة حتى بعد مرور ثمانية اشهر ما زالت تطالب بالغاء حالة الطوارئ او ازاحة الفئات الفاسدة والمجرمة من السلطة او تحقيق شعار بسيط كتحديد الحد الادنى من الاجور فلم تحقق ذلك. وبعد ثمانية اشهر من الثورة ما تزال محاكمة راس النظام تجري ببطء شديد ريثما تتسنى فرصة تحريره وتبرئته من كل الجرائم التي ارتكبت خلال ثلاثين عاما والالتفاف على الثورة وتحطيمها. ويلاحظ ان المجلس العسكري يتنازل صوريا عن اشياء لا تمس النظام بسوء بعد كل مليونية لغرض تهدئة هذه الجماهير الشعبية الثائرة وابعادها عن ساحات التحرير.
ليس هذا موضوع المقال اذ ان الثوار مدركون لهذا الاتجاه، اتجاه الالتفاف على الثورة، ومصرون على مواصلة الثورة حتى تحقيق مطالبها واهدافها. وموضوع هذا المقال يناقش ما تستطيع هذه الثورة السلمية ان تحققه لدى انتصارها انتصارا نهائيا وما لا تستطيع تحقيقة رغم هذا الانتصار.
نبدأ اولا بالشعار الرئيس "الشعب يريد اسقاط النظام". ما الذي حققته الثورة من هذا الشعار حتى الان؟ حققت ازاحة مبارك وتغيير عدة وزارات كانت شخصياتها من شخصيات نظام مبارك وحققت بعض تنازلات فيما يتعلق بقانون الانتخابات ولم تحقق اي مطلب من المطالب التي تهم الشعب المصري مثل الغاء قانون الطوارئ او سن دستور جديد او حتى تحديد الحد الادنى للاجور او الحد الاقصى للاجور. فمقاومة الثورة شديدة، سلمية تارة وعنفية تارة اخرى، سرية تارة وعلنية تارة اخرى. ولكن هذا المقال مبني على اساس ان الثورة تنتصر انتصارا كاملا وتتغلب على جميع العراقيل والصعوبات التي تجابهها. فما الذي تحققه نتيجة انتصار كهذا؟ نفترض انها تحقق انتخابات حرة نزيهة شفافية تكون فيها اغلبية للثوار وليس للاحزاب التي حشرت انفسها على الثورة واخذت تتحدث باسمها، وتشكلت نتيجة لذلك حكومة تهتم بمصالح جماهير الشعب وتحقق اهدافا مهمة مثل حرية التنظيم الحزبي والنقابي والتظاهر ومساواة المرأة بالرجل في الاجور والحقوق ومجانية التعليم على كل درجاته وضمان الخدمات الصحية المجانية وغير ذلك من الشعارات الشعبية. هل هذا يعني ان الثورة اسقطت النظام؟ هل تحقق شعار اسقاط النظام؟
اذا اعتبرنا النظام هو مبارك والزمرة التي احاطت به وشاركته في نهب وظلم الشعب المصري فان تحقيق هذه الاهداف يمكن اعتباره اسقاطا للنظام. ولكن هل النظام هو هذه الفئة من الاشخاص؟ النظام الحقيقي هو نظام طبقي، نظام تكون فيه الطبقة الراسمالية بكاملها هي الطبقة الحاكمة. ان النجاحات المذكورة اعلاه لم تزح هذه الطبقة بل حافظت على نظام الطبقة الحاكمة الراسمالية وليس المسؤولون مهما كانت درجاتهم سوى ادوات لتحقيق مصالح الطبقة. قد تضطر الطبقة الى تقديم بعض اكباش الفداء ولكنها لن تتخلى عن سلطتها سلميا. وكل ما تستطيع الثورة تحقيقه في حالة نجاحها التام هو اصلاح النظام اصلاحا جزئيا وليس اسقاطه. فالنظام الراسمالي يبقى نظاما يعيش على استغلال الطبقة العاملة والكادحين ويبقى جزءا من النظام الراسمالي العالمي والارتباط بالسوق العالمية بكل مشاكلها من العولمة والخصخصة وتشجيع الاستثمار الاجنبي والاقتراض من البنك الدولي مع كل شروطه المجحفة ولكنه قد يكون اقل خضوعا لسيطرة القطب الواحد من سابقه. ان اسقاط النظام هو تغيير النظام الراسمالي الى نظام لا راسمالي وهو ما لم يظهر في شعارات الثورة السلمية.
احد مطالب الثورة الرئيسية هو "العدل الاجتماعي". فما هو العدل الاجتماعي؟ العدل الاجتماعي مصطلح ككل المصطلحات الاجتماعية الاخرى مفهوم يتحدد معناه وتتحدد طبيعته من طبيعة النظام القائم. فالعدل الاجتماعي في نظام راسمالي هو عدل ينسجم مع مصالح النظام الراسمالي. لنأخذ على سبيل المثال اهم مظهر من مظاهر العدل الاجتماعي في مجتمعاتنا القائمة المسمى "قانون حقوق الانسان". فاي عدل اجتماعي يمثله قانون حقوق الانسان؟ المادة المقدسة في هذا القانون هي صيانة الملكية الخاصة. وهذه المادة تبدو في ظاهرها مادة تحمي جميع افراد المجتمع. فهي تصون ملكية المليارديريين وتصون ملكية العامل العاطل الذي لا يجد ما يكفي لاعالة اطفاله. بهذه المناسبة اتذكر قول برنارد شو بان كل بريطاني حر في ان ينام تحت الجسر. ففي الساحة الموجودة تحت جسر تشارينغ كروس في لندن كان ينام جميع المحرومين من مأوى. ينامون فيها ملتحفين قطع الكارتون ويقدم لهم الصليب الاحمر الشاي كل مساء. وقد تحولت هذه الساحة الى موقع سياحي يزوره السواح ليلا كما يزورون قصر باكينغهام نهارا. فهل هذا هو العدل الاجتماعي الذي تريده الثورة؟ ان الثورة السلمية لا تحقق اكثر من هذا العدل الاجتماعي ولن تحقق عدلا اجتماعيا حقيقيا يؤدي الى تحقيق الفوائد الحقيقية لكافة المواطنين.
هل تستطيع الثورة السلمية القضاء على البطالة مثلا؟ البطالة هي ظاهرة ملازمة للنظام الراسمالي وناشئة عنه. واكبر برهان على ذلك وجود ملايين العاطلين في كافة البلدان الراسمالية المتطورة الغنية. النظام الراسمالي قائم على تحويل النقود المستخدمة في الراسمال الى نقود اكبر. فالراسمال يبدأ بالنقود وينتهي بالنقود بصرف النظر عن العملية البينية بين توظيف الراسمال وتحقيق الراسمال. فكل الراسماليين والشركات الراسمالية بدون استثناء تنهي سنتها المالية بحساب الارباح والخسائر معبرا عنه بالنقود. وليس بين الشركات الراسمالية شركة واحدة في العالم تبحث في نهاية سنتها المالية عن الفوائد التي قدمتها الى المجتمع. فلا فرق بان يكون انتاج الاسلحة الكيمياوية او ملابس الاطفال الوسيلة التي ادت الى الارباح في حساب الارباح والخسائر السنوية انما المهم هو ايهما اكثر ربحا. وليس هناك راسمالي واحد في العالم يستخدم عمالا اكثر من العمال اللازمين لتسيير انتاجه من اجل تقليل البطالة بين العمال. فالراسمالي لا يستخدم الا العدد الضروري لتسيير اعماله لان استخدام اكثر من هذا العدد يقلل ارباحه. لذلك نرى ان البطالة بعشرات ملايينها مستمرة بصورة دائمية في جميع بلدان النظام الراسمالي العالمي. وان الثورة السلمية يمكن ان تقلل عدد العاطلين بانشاء مشاريع جديدة بانتاج محلي ولكنها لن تقضي على البطالة.
لنأخذ على سبيل المثال ما كشفه الدكتور العماري في برنامج ناس بوك من وجود نهر جار تحت الصحراء الغربية يأتي من ليبيا يمكن تحويل الصحراء بالكشف عنه واستثماره الى جنة تؤوي عشرات الملايين وتنتج ثمارا واسعة من القمح والسمك وبنجر السكر وغير ذلك. انها حقا مشاريع هائلة وعظيمة الفائدة لو استخدمت في مصلحة سكانها وجميع سكان مصر. ولكن المشكلة هي من الذي يقوم بهذه المشاريع وما هي اهدافه من تنفيذها. هل منتجو القمح مثلا يمتلكون القمح الذي ينتجونه مما يؤدي الى رفاههم ورفاه المجتمع كله ام يكون القمح الذي ينتجونه ملكا لمالك اخر ولا يستطيعون الحصول على القمح الذي انتجوه لعدم وجود النقود الكافية لديهم لشرائه؟ هذا هو الفرق بين اسقاط النظام ومجرد اصلاحه.
يطول الحديث عما تستطيع الثورة السلمية تحقيقه وما لا تستطيع تحقيقه ولكن التاريخ لم يعرف طبقة حاكمة تنازلت عن سلطاتها سلميا حبا بفائدة المجتمع وتطوره ورفاهه.