البداوة المقنعة


ابراهيم الحيدري
2011 / 10 / 14 - 17:21     

البداوة المقنعة ، هي التحضر الشكلي، أي السكن والعمل في المدينة، مع بقاء العقلية ريفية والقيم والاعراف والعصبيات بدوية والسلوك حسب العرف العشائري وتحول الولاء والانتماء من الدولة والوطن الى القبيلة والطائفة والمنطقة.
ان الهجرة من الريف الى المدن التي طالت اغلب دول المنطقة هي ليست مجرد انتقال جغرافي من مكان الى آخر، فالانتقال من المجتمع الريفي بقيمه وتقاليده وأعرافه وعصبياته الى المجتمع الحضري دون المرور بفترة انتقالية يتم فيها تفكيك تلك القيم والأعراف، هو عملية معقدة وتحتاج الى ظروف وشروط اجتماعية واقتصادية وثقافية تساعد على التأقلم والانسجام والتحضر وفي مقدمتها تحويل الولاء والانتماء من العشيرة الى الدولة والوطن ومن ثم الخضوع الى سلطة القانون والمجتمع المدني وليس الى القيم والاعراف القبلية، والذي ينعكس في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وبخاصة في العلاقات العائلية والتعليمية والمهنية ، التي تتأثر بدورها بطرائق التفكير والعمل والسلوك للريفيين النازحين الى المدن من جهة، وحدوث تغير وتبدل وتحول في نمط الحياة والسلوك والعلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تضطر النازحين الى الاندماج والتأقلم النسبي في حياة المدن، مثلما تضطرهم الى الاندماج القسري في العلاقات الرسمية وغير الرسمية والخضوع الطوعي لوسائل الضبط الاجتماعية الوضعية والعرفية من جهة اخرى، وتحولهم بعد حين الى مجرد افراد تمتلخهم المدن من جذورهم وثقافتهم لتلقي بهم في شوارع المدن المزدحمة والمعامل والاسواق والاعمال الخدمية والترفيهية. وسرعان ما تصطدم هذه الفئات المضطهدة مع الاحياء السكنية والفئات الاجتماعية المرفهة وتنتهز الفرص وتتدافع للدخول من أية ثغرة ممكنة الى الحياة المدينية ومن ثم تحاول التحكم فيها، من خلال ثقلها الكمي وليس النوعي، لتنخرط في الاخير في الحركات والاحزاب السياسية، أي كانت، فتصير في الاخير وقود هذه الحركات وضحيتها في آن.
وهناك حقيقة سوسيولوجية هي ان الريفي عندما ينتقل الى المدينة يحاول ان يظهر بمظهر حضري ولكن قيمه وسلوكه تبقى ريفية (بدوية). وهذه الازدواجية في شخصيته تنعكس على طرق التربية والتعليم والعمل والتفكير والسلوك، لان الهجرة من الريف الى المدن هي ليست مجرد انتقال جغرافي من مكان الى آخر، فلابد من فترة انتقالية وتأقلم وانسجام وتحضر واندماج وخضوع لدولة القانون والمجتمع المدني.
واذا اختفت او ضعفت بعض المظاهر الخارجية للقيم والعلاقات العشائرية فان القيم والاعراف والعصبيات المتولدة من مركب " التغالب" البدوي تبقى عميقة الجذور في السلوك الاجتماعي – الحضري، بفعل ترييف المدن، لتظهر بين آونة وأخرى في السلوك اليومي مغلفة في احيان كثيرة بغلاف من التحضر السطحي الذي سرعان ما ينكشف في الممارسات العملية، عندما تضعف الدولة وتتغلب القيم والعادات العشائرية على القيم الحضرية، وهو ما اطلق عليه محمد جابر الانصاري بظاهرة " البداوة المقنعة" التي رافقت ترييف المدن العربية. ومن أهم مظاهر البداوة المقنعة ما يلي :
اولا- اختلال ديمغرافي وخلخلة في القيم الحضرية
لقد ساعد النزوح الريفي الى المدن على احداث تبدلات اجتماعية واقتصادية وسياسية واخلاقية واختلال ديمغرافي (عدم توازن) بفعل ما يحمله النازحون من قيم واعراف وعصبيات من جهة، وتعطشهم لحياة المدينة وترفها وملذاتها المادية والمعنوية التي كانوا يحلمون بها من جهة اخرى، وكذلك اصطدامهم بمشاكل المدينة وعقباتها وصراعهم مع " مترفي " الاحياء الراقية التي دخلوها عنوة ليحدثوا في حياة المدينة خللا وفوضى اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية، وفي العلاقات الاجتماعية تفككا، وفي توزيع الادوار والمكانات الاجتماعية تدميرا، خصوصا في حالة غياب أمن اجتماعي واستقرار سياسي وتخطيط تنموي علمي وعدم وجود مؤسسات مدنية قوية، مما شجع على احياء المتخلف من قيم المدينة والريف ليرفد بها عصبيات قبلية ومذهبية وطائفية ، وهو ما سبب تآكلا تدريجيا في دور المدينة وتدمير بنيتها الحضرية والثقافية واستقرارها الاجتماعي وضعف دور الطبقة الوسطى التي حملت على اكتافها الحداثة والتقدم الاجتناعي.
لقد اصبحت القيم والاعراف والعصبيات العشائرية تحاصر المدن اليوم من جميع جوانبها وتتداخل مع قيمها وثقافتها وتضغط بكثافة عصبياتها على البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمدن عن طريق العشائر والعوائل والطوائف والاحزاب وتهجم بكثافتها الكمية وليس النوعية وتخترق المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وتنتهز اية فرصة للتسلق الى قممها وتتحول الى قوة ضاربة "تضعف الدولة " التي لم تكتمل وتنضج، وكذلك مؤسساتها المدنية الوليدة مستخدمة بذلك احدث الوسائل والأدوات التي تساعدها على تثبيت ارجلها وترفع شعارات براقة للدفاع عن الامة والوحدة والوطن لإضفاء الشرعية والقداسة على اعمالها وتبريرها وحماية ذاتها وتحويلها الى "مشيخات" و"طوائف" و "عوائل " و"ميليشيات، مثلما تحولت الدولة الى " دواوين" ، مستخدمة في ذلك احدث الوسائل التكنولوجية التي تساعدها على تثبيت ارجلها في السلطة وترفع شعارات اسلامية وقومية ووطنية براقة لإضفاء الشرعية على سلطتها وتبريرها وحماية ذاتها. ومما يزيد في هذه "الردة الحضارية" تشجيع بعض الحكومات لها في اعادة انتاج القيم والاعراف والعصبيات العشائرية، التي اخذت بالتفكك والانحلال وترسيخها من جديد، بعد ان عجزت عن تأسيس دولة القانون والمجتمع المدني وتوفير هامش من الحرية واحترام الرأي والرأي الآخر.
ومن المعروف ان المهاجرون من الريف العراقي يجلبون معهم قيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وعصبياتهم الى المدن والمحلات والطوائف، وهو ما ادى الى حدوث خلخلة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ونكوص تدريجي في الوعي الاجتماعي المدني، وذلك لان اهل الريف اكثر احتفاظا بقيم البداوة وعاداتها وعصبياتها من أهل المدن، وأهل المدن المحاذية للبادية اكثر تأثرا بها من أهل المدن البعيدة عنها. كما ان معظم هؤلاء يتميزون بالمروءة والشهامة والكرم، ولكنهم يحملون، في ذات الوقت، مساوئ البداوة كالتغالب والعصبية والفخر والثأر وغيرها.
ان انحسار دور المدينة كحاضنة لمؤسسات المجتمع المدني والقيم الحضرية واحترام حقوق الانسان يسهل سيطرة القيم البدوية كالعصبية القبلية والغزو والتغالب (انصر اخاك ظالما او مظلوما، جيب نقش واخذ عوافي، السبع اللي يعبي بالسكلة رقي..الخ ) ويسبب صراعا اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا وتراجعا في المستوى الحضاري.
ثانيا- الاحياء الشعبية مصدر قلق وتأزم سياسي
من الطبيعي ان لا تستطيع المدن استيعاب هذه الاعداد الكبيرة من النازحين. وبالتدريج تتحول هذه الاحياء الشعبية الى مصدر قلق سياسي وتأزم اجتماعي مستمر وتفرز مشاكل عدة بينها وبين الحكومة من جهة، ومع الاحياء الاخرى من جهة ثانية، وسرعان ما يتحولون الى مجرد ارقام تبحث عن عمل في شوارع المدن المزدحمة والمعامل والاسواق والاعمال الخدمية والترفيهية وتصطدم مع الاحياء السكنية والفئات الاجتماعية المرفهة وتنتهز الفرص وتتدافع للدخول من أية ثغرة ممكنة الى الحياة المدينية ومن ثم تحاول التحكم فيها، من خلال ثقلها الكمي وليس النوعي، لتنخرط في الاخير في الحركات والاحزاب السياسية، أي كانت، فتصير في الاخير وقود هذه الحركات وضحيتها في آن.
وحين تزداد حدة التوترات والاختلافات الاجتماعية والسياسية يصبح النازحون اكثر وعيا بواقعهم ويأخذون بكسر الحصار المفروض عليهم ويبدأون بانتهاز الفرص المناسبة للدخول في حياة اهل المدن ووظائفهم وخدماتهم ووسائل ترويحهم ثم ينخرطون في الحركات الاجتماعية والدينية والاحزاب السياسية ليحدثوا في حياة المدينة خللا وفوضى. وعندما تتغلل القيم والسلوكات البدوية في الحياة المدينية بدخول بعض متخلفي الريف وشقاوات المدن الى الحركات الدينية والاحزاب السياسية والحركات الثورية المتطرفة وصعودهم الى الخطوط الامامية فانهم يهجمون بكثافتهم الكمية وليس النوعية ويخترقون المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وينتهزون أية فرصة للتسلق الى قممها وتتحول الى"مشيخات" و"طوائف" و "عوائل " و"ميليشيات، مثلما تتحول مؤسسات الدولة الى " دواوين" و "حسينيات" وترفع شعارات اسلامية وقومية ووطنية براقة لإضفاء الشرعية على سلطتها وتبريرها . وما ارتداد عدد من الحركات السياسية والتنظيمات الدينية والاجتماعية الى جذورها العشائرية إلا مؤشرا على عودتها الى قيمها وعصبياتها الكامنة، ومن الملاحظ اليوم ان اغلب افراد الحكومة من الموظفين والجيش والشرطة والامن واعضاء البرلمان من أصول ريفية الذين ما يزالون يحملون في اعماقهم قيم البدواة والتغالب والعصبية. وهم ، في ذات الوقت، سبب من اسباب ضعف قيم التحضر والاستقامة والتسامح وعدم وجود هامش من الحرية والتعددية واحترام حقوق الانسان وعدم الوعي بها وصعوبة ممارستها في الواقع الاجتماعي.
ثالثا- الدخول الى الحداثة من الابواب الخلفية
كان الدخول الى الحداثة وما يزال من الابواب الخلفية وذلك بسبب انحسار الثقافة الحضرية القائمة على الاستقرار والتسامح والتقدم الاجتماعي. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك. فانت تشاهد في بغداد اليوم من يستخدم السيارة والكومبيوتر والانترنت والموبايل بدون قيمها العلمية والتقنية، فهم ينتقون منها ما يتلائم مع اذواقهم ومصالحهم ثم يلعنون الحداثة والحضارة الغربية ومكتشفاتها. كما تظهر قيم بدوية اخرى محورة كما في سياقة السيارة بالبجاما مثلا، وفي تراجع طراز البناء الجديد في بغداد واستخدام الالوان الغامقة لصبغ واجهات البنايات وانتشار الديوانيات والعزائم والوير في المقاهي وانحدارالاذواق في بناء دار او فتح محل تجاري اوذبح كبش وتلطيخ الباب بدم الذبيحة،وفي نفس الوقت انحسار الاهتمام بالاداب والفنون والمسرح والسينما وغلبة الشعر الشعبي الرديء عبى غيره.
ويصطدم المرء اليوم وفي بغداد بالذات برقابات اجتماعية مختلفة يمارسها المجتمع على الافراد، بأسم الدين والعادات والتقاليد والاعراف العشائرية مما يحد ذلك من حرية الفرد الشخصية واراءه ومعتقداته.
ومن اشكال واساليب الغزو الثقافي البدوي المحورة انتشار العصابات والمافيات والحواسم، علاقات المحسوبية والمنسوبية، والبحث عن عشيرة للانتساب اليها واستخدام الفصل العشائري الذي أمتد الى الاطباء بدل الاحتكام الى القانون (مظاهرات اطباء الكاظمية ضد الفصل العشائري، كانون الثاني 2011).الى جانب تعميق الروح الطائفية التي قادت اليها المحاصصة السياسية ، التي هي عشائرية ،لان الطائفية هي الوجة الاخر للقبلية.ويلاحظ الباحث الاجتماعي ارتباط ظاهرة الفساد في المجتمع العراقي بازدياد مظاهر التدين الطقوسي ورفع الطقوس الى مستوى العقيدة والتقديس.
رابعا- استفحال القبلية والطائفية
ثمة تحد كبير يواجه بناء الدولة الحديثة وهيبتها اليوم حيث ينقسم المحتمع العراقى على ذاته الى قبائل وطوائف ومناطق حولت الصراعات والمنازعات والعصبيات العشائرية الى المدن والاحياء ومؤسسات الدولة والمجتمع.
فمنذ سقوط النظام السابق تم تشكيل 14 مجلساً عشائرياً وفامت سلطات الاحتلال بتأسيس مكتب ارتباط مع العشائر وتدشين مقر للاتحاد العشائري وبحضور الحاكم العام‮ ‬الأميركي‮ ‬جيم‮ ‬ستيل‮ ‬ومسؤولين‮ ‬عراقيين‮ .‬كما تم تأسيس صحوات العشائر. فبالرغم من اهميتها الآنية في استتباب الأمن، فمن الممكن استغلالها في الاوقات السياسية العصيبة وجعلها طابورا خامسا .الى جانب دورها في تقوية الاعراف والعلاقات والعصبيات القبلية التي تتعارض اساسا مع الديمقراطية. والحال ان قوات الاحتلال حاولت خلق توازنات جديدة : الصحوة القبلية مقابل الصحوات الطائفية، وميليشيات جديدة مقابل المليشيات القديمة . وفي 16 تشرين الثاني عام 2008 تم تأسيس "مجلس أمراء قبائل العراق" من العرب والكرد والتركمان والمسيحيين والصابئة والأيزيدية ليضمن التقاليد العشائرية والاعراف و"العصبيات" القبلية، وفق المصلحة الوطنية العليا و"الديمقراطية التوافقية". وقد وجد البيان التأسيسي التأييد من قبل الحكومة.واخيرا تم تعيين وزيرا للدولة لشؤون العشائر في وزارة المالكي الثانية.
ان هذه الوضعية غير الطبيعية تدفعنا الى سؤال هام يرتبط بمستقبل العراق هو:
كيف يمكن تحديث وتمدين ودمقرطة القوى التي تنحدر في اصولها من الريف بعد ان صعد البعض منهم الى قمم السلطتين التشريعية والتنفيذية وهيمنوا اليوم سياسيا واقتصاديا واعلاميا.؟! ان هذا دليل واضح على عدم قدرة الدولة على خلق المواطن الذي يكون ولاءه للوطن والمواطنة التي تجمع الكل في هوية وطنية واحدة تحقق الأمن والاستقرار والتعايش الاجتماعي السلمي.