يوسف مرة أخرى


اسحاق الشيخ يعقوب
2011 / 10 / 3 - 08:29     

عندما عدت من المنفى الى الوطن ... عام 1975 محمولاً على ورقة مرور ... كان يوسف يدور في ذهني ... ويوم أن رأيته أخذ بيدي الى البحر في صمت وهو يقول : ( لا طريق الى التحرير إلا طريق الكفاح الجذري ... )
أتفحصه بحراً .. وأتفحص البحر فيه .. فأراه بحراً .. وأرى البحر فيه ... فنحن أبناء بحر الجبيل دُبغت جلودنا بأملاحه .. وتشببنا على ( دَحِّ ) أمواجه ... أفتح أساريري في أسارير وجهه الملوحة بذرات أملاح البحر .. وأقول له .. أجل ان كفاحنا كفاح الجذرية بالفكر والقول الحسن وليس بالبندقية .. يقول جازماً الجذرية سلاحنا بجانب الفكر والقول الحسن ... أقلّب أفكاره في أفكاري ... أقول له البندقية الفكر ... أم الفكر البندقية ... بالفكر نمسك بالبندقية .. أم بالبندقية نُمسك الفكر .. يوسف يتشكل رأياً في رأي الآخر وينثني الى الصواب بلا تردد .. انه وهاب أواب الوطنية والديمقراطية .. يومها كانت " الماوية " تنطنط أسرع من " ميكي ماوس " في الأذهان ... وكان ايقاع " الكلاشنكوف " أكثر ايقاعاً ثقافياً في اذهان المثقفين من ايقاع الايدلوجية ... ينصت يوسف .. وانصت امام يوسف وتنطنط بنا امواج زرقة البحر بعيداً .. بعيداً عن ذات نفسي .. وذات نفس يوسف ... ونغرب في لجّة ( الماوية ) و ( السوفياتية ) .. بعيداً .. بعيداً عن لجة امواج الوطن ... كان الميل الثقافي انذاك ميلاً يسارياً منعش التطرف ... فالتطرف ينمو فكراً ... ويتحول الى مادة .. فهو في الاصل مادة ... " اين العيب في الرجوع الى الأصل ؟! الواقع السياسي واقع فكري .. وليس واقعاً مادياً " يبتسم ( يوسف ) منتصراً ويقول " بل واقع مادي .. وهو ما يتأسس عليه الواقع الفكري ... "
اصمت متلعثماً ... ويصمت يوسف متردداً ... الواقع السياسي الفكري مدار الواقع السياسي المادي .. أم الواقع المادي مدار الواقع الفكري .. من يُدير من ؟!ّ
السياسة تدير الاقتصاد .. ام الاقتصاد كمادة تُدير السياسة كفكر ... ولكوننا في واقع اقتصادي مادي متخلف .. تنعكس الافكار السياسية عندنا على ايقاع ذات الاقتصاد المادي المتخلف ... وكان شأننا شأن مجمل دول العالم الثالث الذي يتعثر حراكه السياسي الفكري المتخلف وفق حراكه الاقتصادي المادي المتخلف .. ان التخلف المادي من التخلف الفكري .. وان التخلف الفكري من التخلف المادي .. يصمت يوسف يتأمل تراقص نظراتي في نظراته ... وأصمت أتأمل تراقص نظراته في نظراتي ...
أنقل ( للعوامي ) وجهة رأي يوسف .. يتأملني في يوسف .. ويقول أتدري كنت احمل ذات افكار يوسف يوم ان خرجنا من السجن ...
ضيق السجن .. وعذاب السجن .. وقهر السجن .. ولعنة السجن .. تضع المناضلين ... أحياناً بين كما شتى العنف والتطرف في رفع البندقية في وجه العدو الطبقي ...
يأخذني ( نجيب ) بسيارته الى شاطئ " الهاف مون " أسرُّ فيه وجهة نظر يوسف .. نضيق بالممكن .. وفن الممكن .. وفي لا ممكن .. نخوض بقدمينا اطراف ( الهاف مون ) يُبللها ( بِدَّحِّ ) امواجه ونتلمّظ ذرات املاحها بأرواحنا .. وكأن امواج افكار يوسف تماوجنا على ايقاع هدير " الكلاشنكوف " المحمولة وهماً على أكتافنا !!
أكنا ميؤوسين .. أكان اليأس يأكل قلوبنا .. أكانت العبثية تطوح بأفكارنا الى عبثية لا احتمال الى عبثيتها ...
ننظر الى العالم من حولنا وكأننا عالم بلا عالم ... نمد أيدينا في غابة متوحشة من اليأس ... نتلمّس بارقة أمل ... أتنهد ملئ الرئة .. وأقول ما أضيق العيش لو لا فسحة الأمل ..
أكنا نعيش ضائقة عيش ... أم ضائقة حرية فكر ... وكان العيش وفيراً .. فنحن دولة يتسرب النفط من جميع جوانبها .. إلا جانباً واحداً .. جانب الوعي الفكري والوطني المغلق بالضبّة والمفتاح ... حتى باءت أطراف بعضنا بغلظة التطرف .. وأطرافاً أخرى بالهزيمة وانكسار الذات والغربة بعيداً .. بعيداً عن واحتنا التي بنيناها بآلامنا وتضحياتنا وتمزق ارواحنا من اجل وطن يعيش شمس الحرية والكرامة الانسانية بين شموس الدنيا ..
يوسف وثلّة طليعية من صحبه كانوا يمدون الوطن حرية فينا .. وكنا نفيض تضحيات وطن حر أبي معادي للإستعمار والظلام والرجعية .. تواق الى عالم وافر الخير والخيرات .. والرحمة والبركات في الحريات والعدل في الحقوق والمساواة .. عالم تسود فيه كلمة الإنسان حرة طليقة على الأرض وفي السماء !!
تلاشى البعض ... وانمحى البعض وتنكر البعض ... لمبادئ ( المعمّر ) و ( يوسف ) و ( العوامي ) و ( العبدلي ) و ( الزيد ) واستمر البعض في البعض من أجل البعض .. وحقيقة الوطن التي تتسرب من بين اصابع ايدينا نُمسك ببعضها وتسيل تبراً مضيئاً في عروق الوطن ...
سلاماً يوسف .. سلاماً رفاق يوسف الماضون على درب يوسف الى أن يتنفس صُبح وطن المستقبل .. وطن الخير والعدل والمحبة والإشتراكية والسلام !!