الاقتصاد السياسي للأزمات الاقتصادية والطور الجديد من التوسع الراسمالي


لطفي حاتم
2011 / 9 / 25 - 15:02     

صدر للباحث الاقتصادي الدكتور صالح ياسر حسن كتاباً متميزاً موسوما ب ـ (الاقتصاد السياسي للازمات الاقتصادية في النسق الراسمالي العالمي محاولة في فهم الجذور) * حملت فصوله ومباحثه المتنوعة سفرا اقتصاديا تاريخيا يزود الباحثين وأساتذة الجامعات والطلاب فضلا عن السياسيين بثروة اقتصادية ومادة علمية تغنى معارفهم الفكرية .
ان سعة الكتاب وكثرة موضوعاته تشترط التكثيف في استعراض مضامين فصوله لذلك أحاول جهد الامكان تقديم لمحة عامة عن الكتاب عبر المحددات الآتية : ـ

أولا : ـ بنية الكتاب وفصوله

يتألف الكتاب من اثنا عشر فصلا تناول الباحث في الفصل الاول الإطار المفاهيمي للازمة الاقتصادية ومن الفصل الثاني الى الفصل الخامس تعرض الباحث الدكتور صالح ياسر الى التطور التاريخي للأزمات الاقتصادية محللا وقائعها وتجلياتها التاريخية الاجتماعية الملموسة. في الفصل السادس تناول الباحث ( بعض التجليات المعاصرة للازمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية وأزمة المديونية ) وبعد تحليل أثار المديونية على البلدان النامية انتقل الباحث في الفصل السابع الى تحليل ( الأزمة الغذائية العالمية ) باعتبارها أحد تجليات الأزمة الاقتصادية العالمية . وفي الفصول اللاحقة تعرض الباحث بالنقد والتحليل الى الأزمات الاقتصادية العالمية الراهنة حيث تناولها في الفصل الثامن منتقلا بعد ذلك الى تحليل الأزمة الراهنة وتداعياتها الفعلية على الاقتصاد الدولي أما في الفصل العاشر فتعرض الباحث الى ( مقاربات مختلفة للازمة العالمية الراهنة) متناولا دروس الأزمة الاقتصادية ، وعند انتقاله الى الفصل الحادي عشر استعرض الباحث صالح ياسر ( اتجاهات تفسير الأزمات الاقتصادية في الرأسمالية عبر تعدد المرجعيات وتنوع المقاربات ) . وفي الفصل الاخير تناول الباحث أبعاد اللوحة القاتمة للاقتصاد الرأسمالي المعولم .
لقد عزز الباحث نتائج دراسته بالأرقام والمعطيات الغنية والمتعددة المصادر حيث احتوى الكتاب على قائمة تضم أكثر من 50 جدولا .

ثانياً : ـ المنهجية الفكرية الناظمة لفصول الكتاب : ـ

عند تعرضنا لمنهجية الكتاب ونتائجها الفكرية نرى ان الباحث اعتمد المنهج المادي التاريخي المرتكز على المنهجية الماركسية وبهذا يمكننا تأطير منهج الباحث من خلال الموضوعات الآتية : ـ
الموضوعة الأولى : ـ استعرض الباحث الدكتور صالح ياسر الجذور التاريخية للازمات الاقتصادية الناتجة عن طبيعة وتناقض نمط الإنتاج الرأسمالي مشيرا الى ان ألازمات الاقتصادية لم تكن نتاجا عرضيا لأسلوب الإنتاج الراسمالي بل هي ظاهرة حتمية ناتجة عن التناقض الرئيسي بين العمل الاجتماعي والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج .
الموضوعة الثانية : ــ تدرج الدكتور صالح ياسر من الإطار النظري المجرد الى معاينة الوقائع الملموسة مطبقا ذلك التدرج على المراحل التاريخية لحركة التطور الراسمالي وبهذا قدم الباحث تفسيراً علميا للأسباب الحقيقية الكامنة وراء الأزمات الاقتصادية الدورية بعد أن أقدم على تعريفها ، مصادر نشؤها ، إسلوب معالجتها وذلك ارتباطا بالمدارس الفكرية المتعددة وبهذا شكلت منهجية البحث المرتكزة على دراسة الأسباب المادية المولدة للأزمة ونتائجها الاقتصادية فضلا عن تأثيراتها الاجتماعية إطارا أكاديمياً حاول الكثير من الباحثين والكتاب تجاوزه في الظروف الراهنة .
الموضوعة الثالثة : ـ اعتمد الباحث في دراسته على الربط الجدلي بين أشكال الأزمات الاقتصادية وبين مراحلها التاريخية متتبعا نشؤها وتطورها من خلال مراحل تطور الحركة العامة للرأسمال المتمثلة بمرحلة الأزمة الاقتصادية في اطارها الوطني أولاً ، والأزمة الاقتصادية في طوري المنافسة والاحتكار ثانياً ، وأخرهما الأزمة الاقتصادية في مرحلتها المعولمة بعد سيادة إسلوب الإنتاج الرأسمالي كنهج وحيد للتطور الاقتصادي في ظروفنا التاريخية المعاصرة .
الموضوعة الرابعة : ـ اعتمد بحث الدكتور صالح ياسر على استعراض للمدارس النظرية الباحثة في الأزمات الاقتصادية وكيفية تناولها وتفسيرها للأزمات الاقتصادية فضلا عن طرق معالجتها كاشفا بذلك القصور المعرفي لكثرة من النظريات التي تتغافل الأسباب الحقيقية الكامنة في الطبيعة المتناقضة لأسلوب الإنتاج الرأسمالي مشدداً على رؤية كثرة من الكتاب الماركسيين .
الموضوعة الخامسة: ـ في ختام دراسته تعرض الباحث الى موضوعة الاقتصاد الدولي الجديد وكيفية بناءه فضلا عن معوقات تطوره .

ان الموضوعات الفكرية والاقتصادية المثارة في فصول الكتاب ومباحثه مثيرة للاهتمام الفكري والسياسي ولهذا لا يمكن للمهتم بالشأن الاقتصادي الاحاطة بها إلا عبر تناولها بدراسة مستفيضة تتوقف عند أبوابها ومباحثها بتفصيل اكبر .

دراستي للكتاب جاءت بسبب متابعتي لأعمال الباحث الجاد الدكتور ياسر صالح وبهذا المعنى لست مختصا في الحقول الاقتصادية ورغم ذلك أحاول جهد الامكان تقديم بعض الموضوعات الفكرية التي أزعم إنها ضرورية لوضع هذا البحث العلمي في إطاره المعاصر وفق الرؤى الآتية : ـ
ــ تترابط الأزمة الاقتصادية المعاصرة وانهيار خيار التطور الاشتراكي وما نتج عن ذلك من سيادة عالمية لأسلوب الإنتاج الرأسمالي واعتباره خيارا وحيداً لتطور الاقتصاد العالمي الأمر الذي يشترط غياب أنساق اقتصادية غير رأسمالية .
ـــ وحدة الاقتصاد العالمي المرتكزة على أسلوب الإنتاج الراسمالي وتشابك مستوياته الوطنية / الإقليمية / الدولية أدت الى تراجع مفهوم التنمية الوطنية المتمحورة على الذات الامر الذي يعني ضرورة البحث عن منطلقات نظرية جديدة تقدم للدول النامية طرقا جديدة تقلل من مخاطر الأزمات الاقتصادية المتواصلة على هذه البلدان وشعوبها.
ـــ سيادة الليبرالية الجديدة باعتبارها أيدلوجية رأس المال المعولم لم تجد لها حيزا كبيرا في الكتاب رغم إشارة الباحث إليها في أكثر من موقع لهذا كان بودي ان يخوض الباحث في طبيعة هذه الأيديولوجية ما دام الحديث يجري عن الأزمة الاقتصادية في طورها المعولم لهذا أحاول جهد الامكان تأشير بعض التجليات السياسية التي أفرزتها الليبرالية الجديدة على الاقتصاد العالمي عبر موضوعات محددة منها: ـ
1 : ـ ترابط الأزمة الاقتصادية العالمية مع سياسة دولية هادفة الى إعادة تقسيم العالم اقتصاديا بين التكتلات الاقتصادية الدولية .وبهذا المعنى يجري إحياء لسياسة التدخلات العسكرية لغرض إعادة بناء الدول الوطنية ونظمها السياسية وصولا الى مشاركة المتدخلين في الثروات الوطنية . **
2 : ـ انطلاقاً من قانون الاستقطاب الناظم للطور المعولم من التوسع الرأسمالي تسعى (المراكز الرأسمالية) الى استبدال مفاعيل تبعية البلدان النامية التي ميزت الأطوار السابقة من التطور الراسمالي الى مرحلة جديدة جوهرها الاندماج بصيغة الإلحاق المتجاوبة وطبيعة التكتلات الاقتصادية .
3 : ـ ان استبدال مفاعيل التبعية الاقتصادية بصيغة الإلحاق المتجاوب ومصالح الشركات الاحتكارية يرتكز على فك الترابط بين الدولة وثرواتها الوطنية وما يشترطه ذلك من إلغاء دورها ــ الدولة ــ في الحياة الاقتصادية وتعطيل مسؤوليتها الضامنة للتوازنات الاجتماعية .
4 : ـ ميل الاقتصاد العالمي نحو الاندماج وبناء التكتلات الدولية أنتج نمطا جديدا من النزاعات الدولية تتجلى في تناقضات السياسة الدولية .
5 : ـ رغم الجانب التخصصي للكتاب واستكمالا لوصف الأزمة الاقتصادية كان من الضروري التعرض لنتائج الأزمة الاقتصادية المعولمة على العلاقات الاجتماعية وطبيعة القوى الاجتماعية الفاعلة عالميا وهنا أشير بكثافة الى العناوين الآتية : ـ
أ: ـ تعيد الأزمات الاقتصادية في طورها المعولم اصطفاف القوى الاجتماعية المتحكمة في الاقتصاد العالمي وخاصة شرائح البرجوازية العالمية حيث يشتد النزاع بين البرجوازية المالية المتصدرة للمشهد الاقتصادي ومثيلاتها ،الصناعية ، التجارية ، العقارية وما يفرزه ذلك من تبلور سياسيات وطنية / دولية تسعى الى تحجيم شبكة الضمانات الاجتماعية في الدول المتقدمة ناهيك عن اعتماد سياسات التدخل المباشر في شؤون الدول الوطنية.
ب : ـ تفضي الأزمات الاقتصادية المعلومة الى تهميش مواقع الدول الوطنية عبر إفقارها وإعادة تموضعها في الاقتصاد العالمي ناهيك عن تحجيم دورها في العلاقات الدولية .
ج : ـ تؤدي الأزمات الاقتصادية المعولمة الى تفكيك القوى المنتجة في كثرة من البلدان المتطورة منها والنامية وما يجره ذلك من تحجيم دورها في الحياة السياسية .
د : ـ تنتج الأزمات الاقتصادية المعولمة احتجاجات جماهيرية أممية مناهضة للطور المعولم من التوسع الراسمالي تتسم بالعفوية والعنف .


ان الملاحظات المثارة تحاول اغناء النتائج الأساسية التي توصل إليها الباحث مشيراً الى ان كتاب(الاقتصاد السياسي للازمات الاقتصادية في النسق الراسمالي العالمي محاولة في الفهم الجذور) الذي أنتجه الباحث الدكتور صالح ياسر يشكل مادة علمية أكاديمية تخدم مسار التطور اللاحق لكل القوى الاجتماعية الديمقراطية الراغبة في بناء عالم جديد تسوده العدالة الإنسانية .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : ــ الكتاب من إصدار دار الرواد المزدهرة في بغداد لسنة 2011 ويقع في 566 صفحة وقد اعتمد الباحث في كتابه على عشرات المصادر وباللغات العربية والإنكليزية والبولونية .
** ان استثمار الاحتجاجات الشعبية المندلعة في البلدان العربية من قبل الدول الكبرى وتدخلها المباشر يرمي الى إعادة بناء الأنظمة السياسية بعيدا عن تطلعات شعوبها في الديمقراطية والتنمية الوطنية .