من الفلسفة إلى الثورة


هشام غصيب
2011 / 9 / 18 - 13:44     


خطا الفيلسوف الألماني المادي، لودفيغ فويرباخ، خطوة مهمة على درب علمنة الفكر والوعي حين نقد دين العقل الهيغلي نقداً ماديا يعتمد النهج المادي أساساً له. والحال أن الفلسفة الغربية البرجوازية في مرحلة صعود البرجوازية الغربية ثمثلت في ثلاثة تيارات رئيسية: دين العقل (العقلانية المثالية)، والمادية (العقلانية المادية)، والتجريبية. ولم تكن هذه التيارات معزولة عن بعضها، وإنما قامت بينها تقاطعات متواصلة وتفاعلات تناحرية مريرة. وجاء فكر لودفيغ فويرباخ في سياق هذا الصراع المتواصل والمتكرر، وخصوصاً بين دين العقل والمادية. وبالطبع، فإن التيارات الثلاثة الرئيسية المذكورة جميعاً كانت مرتبطة بصورة جوهرية بنشوء الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا، وبتطورات هذه العلوم وازدهار الرياضيات. وبرغم روح التناحر التي سادت العلاقة بين هذه التيارات، إلا أن هذه التيارات كانت ضرورية لبعضها، وكانت تعمل على تعميق بعضها، وكان كل تيار يغذي كل تيار آخر بما كان ينقصه، ويوسع إطاره. لقد كان تناحراً صحيا بكل ما في الكلمة من معنى.

أما القاسم المشترك الأكبر بينها، فقد كانت العلمانية، أي عملية علمنة الفكر والوعي. إذ يمكن فهم مسيرة الفكر الغربي في مرحلة صعود البرجوازية على أنها مسيرة علمنة هذا الفكر. لكن الماديين أدركوا أن هذه المسيرة لا يمكن أن تكتمل بالمثالية. فالمثالية تعيد إنتاج الدين بصورة جديدة. وهي تفرض حدوداً على العلمنة تحول دون إكمال مسيرتها. لكنهم أدركوا أيضا أن المادية تبقى هزيلة ومهمشة ما لم تفلح في هضم الإنجازات والتبصرات التي أحرزتها المثالية. لذلك رأوا أن عليهم أن يوجهوا نقداً ماديا مفصلا للعقلانية المثالية (دين العقل) هو في الوقت ذاته نقد للمادية في شكلها القائم القاصر. بذلك كان الهدف استخلاص القلب العقلاني للمثالية من القشرة الصوفية، ثم هضمه ماديا من أجل تحويل الشكل القائم القاصر للمادية إلى شكل أرقى أكثر قدرة على استيعاب الواقع ونقده. وهذا ما انبرى إلى فعله الماديون في جماعة الهيغليين الشبان، وفي مقدمتهم فويرباخ وماركس وإنغلز. لقد وضع أولئك الماديون نصب أعينهم استكمال مسيرة علمنة الفكر بتحرير هذه المسيرة من قيود المثالية، وتطوير المادية بما يمكنها من أداء هذه المهمة وغيرها من المهمات التنموية والتقدمية الكبرى. وكما بينا في المقالة السابقة، فقد بدأ لودفيغ فويرباخ ذلك باعتبار دين العقل الهيغلي استمراراً للاغتراب الديني، أي اعتبره إسقاطاً اغترابيا للطبيعة البشرية، بحيث تبدو وكأنها عقل مطلق موضوعي خارج البشر، بل وكأن البشر مجرد ملحق لهذا الإسقاط، أو بالأحرى مجرد أدوات يحقق العقل المطلق ذاته بها وعبرها. ودعا فويرباخ إلى التغلب على هذا الاغتراب بإعادة العقل المطلق إلى حيث ينتمي فعلاً، إلى عقل الإنسان وقلبه. وظن فويرباخ أنه بالحب بين الأنا والآخر وبالتعاون بين الأفراد على أساس هذا الإدراك، يتغلب الإنسان على اغترابه التاريخي ويحقق مآربه التاريخية. واعتقد أيضا أنه، برد الاعتبار إلى النوع الإنساني واعتبار الإنسان كائنا طبيعيا حسيا يتميز بطبيعته اللانهائية الطابع المتمثلة بالعقل والإرادة وملكة حب الآخر، يكون قد أكمل مسيرة علمنة الفكر، التي ابتدأت مع بيكون وديكارت.

ولقد سيطرت مادية فويرباخ على عقول جلّ الهيغليين الشبان في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، وفي مقدمتهم كارل ماركس وفريدريش إنغلز. وقد عبر إنغلز عن ذلك بعد عقود في كتابه العظيم، “فويرباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية”، بالقول: “لقد أصبحنا (آنذاك) جميعاً فويرباخيين”.

ولكن، ما إن بدأ ماركس بتطبيق رؤية فويرباخ ومنظومته الفكرية على المجتمع والسياسة والاقتصاد السياسي حتى بدأ يتكشف له ثغرات هذه الرؤية، وجوانب قصورها، ومثاليتها الكامنة، وعجزها عن تفسير الواقع الفعلي للإنسان. بل ولاحظ ماركس أيضاً كم هي هزيلة بالنسبة إلى رؤية هيغل، برغم مادية رؤية فويرباخ ومثالية رؤية هيغل. وعبر ماركس عن ذلك في كتابه المشهور، “الآيديولوجيا الألمانية”، بالقول: “إن فويرباخ، بقدر ما هو مادي، فإنه لا يتعامل مع التاريخ، وبقدر ما يتدبر التاريخ، فإنه ليس مادياً”. ولكن، ماذا كانت بالضبط اعتراضات ماركس على فويرباخ؟

انصب نقد ماركس لفويرباخ على النقاط الآتية. لقد لاحظ ماركس أن فويرباخ أرجع إلى الإنسان القشرة اللاهوتية الدينية لنظام هيغل الفكري كما هي وعلى علاتها، من دون أن يخضعها أولا إلى نقد مادي تفصيلي محكم. فكل ما فعله فويرباخ هو أنه أنزل عقل هيغل المطلق من سمائه الأفلاطونية إلى عقل الإنسان وقلبه، من دون إحداث أي تغيير جوهري فيه. وظن فويرباخ بذلك أنه تغلب على الاغتراب اللاهوتي الذي مثله نظام هيغل الفكري. لكنها كانت غلبة زائفة ووهمية. فالتغلب على الاغتراب لا يتم بتغيير موقع النظام الفكري، وإنما بنقده بمنهج صارم محكم. لذلك أخفق فويرباخ في استيعاب تبصرات هيغل الكبرى وفي تملكها إنسانيا وماديا. وبصورة خاصة، فقد أخفق في استيعاب التصور الهيغلي الجدلي للتاريخ، ومن ثم أخفق في استيعاب التاريخ بوصفه سيرورة الخلق الذاتي للإنسان. فظل نظام فويرباخ نظاماً سكونيا غريبا عن التاريخ وبعيداً عنه، كما كان عليه الحال مع كانط وماديي القرن الثامن عشر. وقد رأى ماركس أن الاكتشاف الأكبر الذي حققه هيغل هو فكرة أن التاريخ سيرورة الخلق الذاتي للإنسان، ومن ثم رأى أن المهمة الكبرى في هذا المقام تتمثل في تحرير هذه الفكرة من القفص المثالي الذي احتجزها فيه هيغل، وترجمتها ماديا. لذلك، فإن إغفالها من قبل فويرباخ كان مثلباً جوهريا من مثالب فويرباخ ومنهجه المادي السكوني. وبالاقتران مع هذا الإغفال، أغفل فويرباخ فكرة الممارسة الإنتاجية والممارسة الثورية، وهي فكرة أساسية في هيغل، برغم صورتها المثالية في نظامه. فإنسان فويرباخ هو فرد معزول يتمتع بملكات العقل والإرادة والحب، لكنه عاجز عن الفعل الهادف. إنه كائن طبيعي تصنعه بيئته والأحداث الحسية الطبيعية، لكنه ليس كائنا تاريخيا قادراً على صنع بيئته وإعادة تنظيم عالمه، أي ليس فاعلية طبيعية عقلانية هادفة قادرة على الخلق. بذلك، ومن هذه الزاوية تحديداً، شكل فويرباخ، برغم ماديته، خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى المثالية الألمانية الكلاسيكية (كانط، فخته، هيغل). ذلك أن الأخيرة أدركت تماماً أن الذات البشرية هي قوة طبيعية وتاريخية عقلانية خلاّقة، وإن أدركت ذلك بطريقتها المثالية الاغترابية. أما فويرباخ، فقد عجز عن إدراك ذلك، حتى في صورته الهيغلية المثالية الاغترابية. بذلك يكون فويرباخ قد عجز عن إخضاع المثالية الألمانية للنقد المادي الصارم، بالإضافة إلى عجزه عن استيعاب مفهوم التاريخ، ومفهوم الإنسان بوصفه فاعلية عقلانية إنتاجية ثورية، ومفهوم الثورة الاجتماعية ضرورتها.

والنقطة الجوهرية هنا هي أن تصور فويرباخ للطبيعة الإنسانية كان تصوراً مثاليا هزيلاً، برغم ماديته، ومادية نظرته إلى الحواس والطبيعة. بل يمكن القول إن تصوره للإنسان ظل لاهوتيا في كثير من جوانبه. بذلك، فإن مسيرة علمنة الفكر لم تكتمل في فويرباخ، برغم رغبته في تحقيق ذلك وسعيه الحثيث إلى ذلك. لذلك، كان على ماركس نقد هيغل وفوريباخ كليهما نقداً ماديا محكماً يبني تصوراً ماديا ثوريا للإنسان على أنقاض نظاميهما. وهذا ما فعله ماركس في كتاباته المبكرة الرئيسية:
(1) نقد نظرية هيغل في الدولة (1843)
(2) حول المسألة اليهودية (1843)
(3) إسهام في نقد فلسفة الحق عند هيغل (1843/1844)
(4) مخطوطات باريس الفلسفية والاقتصادية (1844)
(5) أطروحات حول فويرباخ (1845)
(6) العائلة المقدسة (1845)
(7) الآيديولوجيا الألمانية (1846).

وبهذا النقد المادي المحكم لهيغل وفويرباخ، أفلح ماركس بالفعل في إكمال مسيرة علمنة الفكر، التي ابتدأت مع بيكون وديكارت، وفي إرساء دعائم فهم الإنسان نفسه علميا وثوريا، وأخذ زمام المبادرة في تقرير مصيرة بنفسه. أجل! لقد اكتمل مشروع التنوير واكتملت مسيرة علمنة الفكر بماركس وإنغلز، بالمادية الجدلية، التي جاءت حلاً للتناقضات الرئيسية بين التيارات الرئيسية الثلاثة لفكر البرجوازية الثورية في مرحلة صعودها: دين العقل، والمادية، والتجريبية. لقد حاولت كل من هذه التيارات بطريقتها الخاصة تحقيق علمنة الفكر، واستيعاب العقلانية العلمية والثورة الفكرية التي أحدثها صعود العلم وهيمنته اجتماعيا. وتقاطعت هذه التيارات وتصارعت وتبادلت الأدوار وتداخلت معاً عدة مرات، لكنها ظلت قاصرة عن تحقيق مهماتها التاريخية الكبرى ما ظلت مكبلة بوعي البرجوازية الغربية الصاعدة. ولم تفلح في تحقيق هذه المهمات وتندمج جدليا معاً في مادية جدلية متطورة وفعالة، إلا بعد أن حطمت قيود الوعي البرجوازي وتخطتها إلى رحاب نوع آخر من الوعي، الوعي الكامن للبروليتاريا الصاعدة، حفارة قبر البرجوازية.

لقد سعت البرجوازية الغربية منذ نشوئها إلى بناء بديل فكري علماني لفكر الإقطاع الديني الطابع. وكان مغزى مسيرة علمنة الفكر هو سعي البرجوازية الصاعدة إلى التحرر من سطوة الأرستقراطية الإقطاعية وبناء وعي مستقل لها تجابه بها مسؤولياتها التاريخية الكبرى. لكن تكوينها الطبقي وضع حدوداً صارمة لما أحرزته من ثورة فكرية كبيرة. ومثلما عجزت الثورة الفرنسية الكبرى البرجوازية الجوهر عن تخطي حدودها البرجوازية، فارتدت خائبة على نفسها من دون أن تحقق أيا من مثلها العليا، فإن فلسفة البرجوازية الغربية الصاعدة وصلت هي الأخرى حدودها البرجوازية في هيغل وفويرباخ، وعجزت هي الأخرى عن تخطيها وإكمال ما سعت إلى تحقيقه، فارتدت هي الأخرى خائبة، تاركة شرف إكمال مسيرتها إلى البروليتاريا الثورية الصاعدة ممثلة في كارل ماركس وفريدريش إنغلز، الوريث الحقيقي لأعظم ما حققته البرجوازية في مرحلة صعودها التاريخي.

ولكن، كيف بالضبط نقد ماركس هيغل وفويرباخ؟ وكيف مثل فكره ذروة مشروع التنوير؟ هذا ما سنجيب عنه في مقالات قادمة.