أبعاد الأزمة المصرية... بعد انتصار الثورة!


محمد صوان
2011 / 9 / 7 - 23:20     

تعود الأزمة السياسية الراهنة في مصر إلى عوامل وعناصر عديدة لها جذور في الواقع السياسي قبل وأثناء وبعد ثورة 25 كانون الثاني، ونجاحها في خلع رأس النظام ورموزه. كانت هذه العوامل والعناصر بادية للعيان، بيد أن نجاح الثورة في الإطاحة برمز النظام ورأسه قد خلق حالة من النشوة والابتهاج بالانتصار، ربما قللت من الانتباه إلى مخاطر وجود هذه العوامل وتطورها في المدى المنظور، وانعكاس محصلة ذلك على مسار الثورة وأهدافها الآجلة والعاجلة.
في مقدمة هذه العوامل والعناصر التي أفضت إلى الأزمة الراهنة افتقاد الشفافية والوضوح، إزاء العديد من الأهداف الثورية، وغياب جدول زمني واضح وعلني لتحقيقها وتحديد الآليات التي تكفل التطبيق، وعدم إحاطة كل القوى والأحزاب السياسية الفاعلة في المشهد الذي أعقب انتصار الثورة معرفة وعلماً بها من ناحية، وضعف، إن لم يكن غياب، الحوار والتواصل بين المجلس العسكري وبين قوى الثورة وممثليها الفعليين، من ناحية أخرى.
وربما لزم المجلس العسكري الصمت إزاء مهمات نوعية في مواقف مختلفة، كانت تستدعي الحوار والتواصل والشرح. وبدا للكثيرين من قوى الثورة والمواطنين أن هذا الصمت غير مفهوم، وأن الغموض الذي يغلف العديد من القضايا المصيرية ليس محموداً بالضرورة، وأن نمط التواصل القائم بين المجلس العسكري وبين القوى الثورية والأحزاب السياسية التي لعبت دوراً محورياً في صناعة الثورة وانتصارها أشبه بنمط الاتصال السابق على اندلاع الثورة بكل ما يعنيه ذلك من إحباط وخيبة أمل!
لاحظت قوى الثورة والمواطنون على حد سواء، أن الأسلوب الذي تُتخذ به القرارات الوطنية لم يختلف كثيراً عن أساليب النظام السابق، فهي قرارات أحادية واستعلائية تُتخذ من جانب واحد، وليست محصلة تفاعل وحوار ونقاش وتفاهم، كما كان يمكن توقعه بعد انتصار الثورة. فأغفلت تلك القرارات الفاعل السياسي الجديد الذي اقتحم المشهد السياسي والاجتماعي إبان الثورة ألا وهو جموع الشباب والأغلبية التي خرجت من غياهب الصمت لتشارك في تقرير مصيرها وتقرير البرامج والسياسات التي ترتضيها وتحقق مصالحها ومصالح الشعب والوطن في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وقد تجلت آلية اتخاذ القرارات في الإبقاء على عدد من رموز النظام السابق في مواقعهم، وفي تعيين وزراء ومحافظين ومديرين ينتمون إلى النظام السابق وسياساته.
تتفهم قوى الثورة والمواطنون تباطؤ المجلس العسكري في آلية اتخاذ القرارات على ضوء الطبيعة الخاصة للمؤسسة العسكرية وخصائص عملية اتخاذ القرار فيها، والتي من بينها الدراسة والتمحيص والتأني. بيد أن هذا التباطؤ امتد ليشمل قضايا عاجلة لا تحتمل إهدار الوقت والزمن كمحاكمة من سفك دماء المدنيين الأبرياء ورموز النظام السابق المتهمين بالفساد وإهدار المال العام، بل وتبرئة بعضهم، وفي هذه اللحظة تحديداً ظهر الفارق جلياً بين الزمن الروتيني العادي والزمن الثوري الضروري.
لاحظ بعض المتابعين من الباحثين الاستراتيجيين غياب تعبير (ثورة 25 كانون الثاني) في خطاب المجلس العسكري وقراراته، الأمر الذي يعني تكريس بيروقراطية النظام السابق ورفضه الإقرار بالثورة والاعتراف بها والحؤول دون دخولها إلى السجل الرسمي للدولة المصرية.
إضافة إلى ما تقدم، أوجدت في خريطة الطريق التي طرحها المجلس العسكري لانتقال السلطة حركة جدل واسعة وانقسامات كان من شأنها إحداث استقطابات بين معسكرين داخل قوى الثورة الأول مع هذه الخريطة الزمنية. والثاني له عدد من التحفظات عليها. إلى أن أفضى الحوار إلى حل وسط يتلَّخّص في مجموعة من المبادئ التي ينبغي أن يتضمنها الدستور الجديد الذي يفترض أن تقوم بإعداده جمعية تأسيسية من جميع القوى والتيارات السياسية والفعاليات القانونية والثقافية، وطرحه على الاستفتاء الشعبي. وبالتالي إجراء الانتخابات المحلية والتشريعية والرئاسية وفق جدول زمني يتفق عليه الجميع. والمهم في السياق الذي نحن بصدده، هو أن الانشغال بهذا الانقسام وتعزيز مواقع كل فريق فيه قد استهلك الجهد والوقت الذي كان ضرورياً لتأمل ومتابعة مسار الثورة وتحقيق أهدافها. ويمثل ذلك تغطية غير مقصودة للالتفاف على مطالب الشعب، وإبطاء وتيرة التغيير والتجديد والتطهير المطلوب، بل وربما تحجيم أهداف الثورة والوصول بها إلى برنامج الحد الأدنى.
لقد حفل مشهد ما بعد انتصار ثورة 25 كانون الثاني المصرية بالعديد من التناقضات والتجاذبات التي أفضت إلى ما نشاهده اليوم من أزمة سياسية، إذ يشهد معسكر الثورة انقسامات جلية بعد إنجاز الهدف المباشر الذي وحَّده وجمعه، أي إسقاط رأس النظام، بينما بقي النظام ذاته. ذلك أن النظام السياسي ليس حصيلة مجموعة من عناصره ورموزه المتنفذة فحسب، بل هو برامج وتوجهات وسياسات وقيم ومبادئ ومصالح تتجاوز العناصر والرموز.
لذلك بقيت أهداف الثورة ومطالبها عالقة في أهم مفاصلها وأكثرها حيوية على أبواب البيروقراطية المصرية الفاسدة، ونسختها التي تنتمي إلى النظام السابق، كما لو كانت هذه البيروقراطية تريد تأليب الشعب على الثورة وتشويه صورة الثوار عبر ترديد عبارات مثل (وقف العمل والإنتاج، وتعطيل مصالح الجمهور)، وبالتالي حمل الثوار على البقاء في الميادين العامة لتبرير عدم تنفيذ المطالب الشعبية بحجة (وقف العمل والإنتاج).
ونتيجة لذلك فإن أداء المجلس العسكري اتسم بالارتباك وافتقاد رؤية واضحة لطبيعة المرحلة الانتقالية التي تؤسس للنظام الديمقراطي الجديد. كما توزع اهتمام المجلس ما بين الإبقاء على النظام القديم وإخراج صورة جديدة منه، وهو الأمر الذي ترفضه تماماً قوى الثورة الفاعلة، التي لحسن الحظ لا تزال يقظة وحية وتريد للثورة أن تحقق أهدافها، لا أن تعود القهقرى أبداً.
لقد ردد البعض بعد انتصار الثورة باعتزاز، أن هذه الثورة ليس لها قائد واحد، بل كل من شارك فيها قائد بحد ذاته، ويعود ذلك إلى طبيعة التقنيات التي استخدمها الثوار، وهي تقنيات (الميديا الحديثة) التي تتيح للجميع المشاركة على قدم المساواة، ورأى آخرون أن هذه ميزة انفردت بها الثورة المصرية. ولكننا بعد مضي هذه الفترة الزمنية يمكننا مراجعة ذلك، فافتقاد الثورة للقيادة ليست ميزة مطلقة، إذ أفضى ذلك إلى الفصل بين الثوار وبين قيادات التحولات في المجتمع وإدارتها، وأوكلت هذه المهمة بشكل مؤقت للمجلس العسكري الذي قبلها طوعاً، والذي استحقها عبر مواقفه المتدرجة في حماية الثورة، وتبنّي أهدافها. بيد أن قيادة الثورة الواعدة عبر الثوار تتوفر لها ميزات نوعية تؤهلها لإنجاز مهام الثورة وأهدافها، فهي متحررة من التكلس والبيروقراطية والتراتبية، وتتمتع بطاقة الدفع الثوري لإنجاز المهمات والتحولات المنشودة في المجتمع، لأن هذه القيادة من خارج الهيكلية والمؤسسة البائدة، وذلك لا يقلل بحال من قيمة وهيبة المؤسسة العسكرية المصرية، خاصة أن تاريخها ينم عن التحامها بقضايا وهموم الوطن والشعب، بيد أنه من الضروري فتح صفحة جديدة مع الثوار، وتسريع إنجاز أهداف الثورة ومحاكمة الفاسدين وقتلة الثوار. فالديمقراطية والكرامة والعدالة وتوافر أركانها لا يرتبط بالضرورة بالبطء والتباطؤ، كما أن السرعة والتسرع في محاكمــــــــة هؤلاء لا ترتبط بالظلم أو تجاهل العدالة، ذلك أنه يمكن ضمان العدالة وممارسة الديمقراطية وتوافر أركانها في السياسات الناجزة والحاسمة!
محمد صوان