بيان إلى الشعب السوري من خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري في سورية ولبنان


خالد بكداش
2011 / 9 / 7 - 19:10     

في سبيل نظام جمهوري برلماني ديمقراطي! في سبيل حكومة وطنية ديمقراطية! « بيان إلى الشعب السوري من خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري في سورية ولبنان »
يجتاز الشعب السوري مرحلة عصيبة شاقة. فمنذ سنوات وسورية تعاني حالة غريبة من عدم الاستقرار والاضطراب. والحريات العامة تنتهك باستمرار، إن لم تكن مخنوقة تماماً. وبين الفترة والفترة، تسلط الأحكام العرفية على البلاد، فتمتلئ السجون بالرجال والنساء من العمال والفلاحين والطلاب والمثقفين وسائر المناضلين الوطنيين.
ويجد المستعمرون في هذه الحالة جواً ملائماً لتدخلاتهم ومؤامراتهم الرامية إلى نسف كيان سورية من أساسه أو دمجها في تكتلات استعمارية وأحلاف حربية وجعلها قاعدة عسكرية وإعادة الاحتلال الأجنبي إليها.
ويرافق ذلك تفاقم في وضع البلاد الاقتصادي. فدخل الأكثرية الساحقة من المواطنين في انخفاض مستمر. والبطالة في اتساع. وأجور العمال في هبوط. والجمود يسيطر على الأسواق. والإفلاسات تتوالى، والبؤس الأسود يخيم على القرى. ومحصولات الفلاحين في المواسم تباع بأسعار بخسة. وكثير من الفلاحين يطردون من أراضيهم. والضرائب المباشرة وغير المباشرة آخذة في الازدياد. وهناك فروع بأسرها من الإنتاج الوطني تعاني المصاعب والأزمات. وكثير من صغار أصحاب العمل والحرفيين تتدهور أحوالهم باستمرار. وأبواب المدارس تقفل في وجه الألوف من أبناء الشعب. والصحافة السورية في محنة شديدة لا تطاق.
هذه هي الحالة المؤلمة التي يقاسي كل الشعب السوري ويلاتها ويبحث عن طريق للخروج منها.
فأين الطريق وأين المخرج؟
ــ حكومات مالأت الاستعمار
وسهلت تغلغل الرأسمال الأجنبي! ...
في زمن الانتداب الفرنسي كان سبب البلاء واضحاً. فقد كانت كل حياتنا السياسية والاقتصادية خاضعة للتحكم الاستعماري المباشر والسيطرة الأجنبية السافرة.
وقد عرفت جميع القوى الوطنية أن توحد صفوفها في وجه المستعمرين، فاستطاعت إلغاء الانتداب وتحقيق جلاء جيوش الاستعمار عن البلاد. وقد تكلل نضال الشعب السوري المجيد بالانتصار بفضل اتحاده وبطولته، وبفضل تضامن الشعوب العربية وتأييد القوى الديمقراطية العالمية، وطليعتها وطن الاشتراكية، الاتحاد السوفياتي.
فلماذا لم تستطع سورية أن تقتطف ثمرات نصرها الوطني، لماذا لم تبلغ ما تنشده من استقرار الحكم ورسوخ الحريات الديمقراطية وازدهار الحياة الاقتصادية؟
لقد أصبح من الواضح الآن أن جميع الحكومات التي تعاقبت على البلاد هي حكومات تمثل مصالح أشد فئات الإقطاعية بغياً ورجعية ً، ومصالح أشد كبار المستثمرين جشعاً ونهماً. ورغم جميع التبديلات و «الانقلابات» التي تتالت حتى يومنا هذا، لم يتبدل أي شيء في جوهر الحكم في سورية.
إن جميع الحكومات التي تعاقبت على الحكم لم تعمل للخروج بالبلاد من فلك الدول الاستعمارية، بل سلكت سلوكاً قوامه ممالأة الاستعمار وإرضاؤه، وفسح المجال لتدخله السياسي وتغلغله الاقتصادي. فأبقت على شركات الاستعمار ورساميله السابقة، وفتحت أبواب البلاد لرساميل وشركات استعمارية جديدة.
وهكذا بقيت السيطرة المطلقة على نقدنا وعلى معظم مرافقنا الاقتصادية وأعمالنا التجارية في يد بنك سورية ولبنان الذي يهيمن عليه الرأسمال الأجنبي الفرنسي الإنكليزي، وأخذ يتسرب إليه الرأسمال الأمريكي. وبقيت الشركات الاستعمارية القديمة الأخرى، كشركة سكة الحديد وحصر التبغ وبعض شركات الكهرباء والبنك الجزائري والبنك العقاري التونسي الجزائري، وكلها يسيطر عليها الرأسمال الفرنسي، ثم البنك العربي الذي يسيطر عليه الرأسمال الإنكليزي، وشركة البترول الإنكليزية (آي. بي. سي.)، إن كل هذه الشركات والبنوك الاستعمارية ظلت قائمة تنهب ثروة البلاد وتستثمر الشعب. ولم يكن الإعلان عن «تأميم» بعض هذه الشركات سوى نوع من التضليل النادر المثال.
وفوق هذا كله، دخلت إلى سورية أيضاً رساميل وشركات استعمارية جديدة. فمدت شركة البترول الأمريكية (التابلاين) ظلها الأسود فوق سورية. وشق أراضي البلاد خط بترولي جديد تابع لشركة آي. بي. سي. الإنكليزية. وأعطيّ مشروع مرفأ اللاذقية إلى شركة يوغسلافية يكمن وراءها الرأسمال الأمريكي والمشاريع الحربية الأمريكية. وتغلغلت في البلاد بنوك أجنبية جديدة مثل «الكريدي ليونه» والكونتوار الفرنسي. وتأسست شركات تجارية أجنبية جديدة مثل شركة التصدير والتوريد الأمريكية، والشركة الأفريقية لحلج القطن وشراء الصوف ذات الرأسمال الإنكليزي. وأمعنت شركة إمبريال الإنكليزية الأمريكية المحتكرة لتصدير التبغ الفاخر في بغيها على مزارعي التبغ في اللاذقية، ووسعت شركة استخراج الإسفلت مشاريع لمنح امتيازات للرأسمال الأمريكي بإنشاء معامل لصنع البيرة وللنسيج وغيرها.
ولم تتخذ الحكومات المتعاقبة موقفاً حازماً من مشاريع المستعمرين الحربية. وإذا كانت سورية لم ترتبط حتى الآن بأية معاهدة ولم تدخل أي حلف عسكري استعماري، ولم تقبل بالنقطة الرابعة الأمريكية، فالفضل الأول في ذلك هو لمقاومة الشعب السوري بجميع فئاته الوطنية، رجالاً ونساءً، من العمال والفلاحين والطلاب إلى التجار والصناعيين الوطنيين وجماهير الجنود والضباط الشرفاء الوطنيين.
وفي جميع أدوار القضية الفلسطينية تعاونت هذه الحكومات مع الاستعمار ونفذت مشيئته، رغم أن جميع الأحداث قد برهنت أن حل قضية فلسطين حلاً نهائياً مرتبط كل الارتباط بالقضاء على الاستعمار في الشرق الأدنى والأوسط.
وإرضاءً للاستعمار، عملت جميع هذه الحكومات على حصر صلاتنا التجارية والاقتصادية مع بعض الدول الاستعمارية، مما عاد ويعود بأكبر الويلات على اقتصادنا الوطني، بينما أن جميع رجال الاقتصاد والتجار والصناعيين الوطنيين يرون أن من مصلحة سورية إقامة علاقات اقتصادية وتجارية على أساس التكافؤ والمنفعة المتبادلة مع جميع الأقطار بصرف النظر عن أنظمتها الداخلية، مما يؤدي إلى إيجاد أسواق فسيحة أمام الإنتاج الزراعي والصناعي السوري مثل أسواق الاتحاد السوفياتي والديمقراطيات الشعبية في أوروبا والصين الشعبية، ويسهل التجهيز التكنيكي للصناعة الوطنية السورية.
ــ حكومات قامت على الكره لكل حرية ديمقراطية ولكل إصلاح زراعي، وعلى التنكر لمصلحة الإنتاج الوطني ...
وجميع الحكومات التي تعاقبت على الحكم في سورية، بمختلف الأحزاب التقليدية التي هيمنت عليها، تميزت بالكره العميق والعداء الشديد للحريات الديمقراطية ولأبسط النظم الديمقراطية البرجوازية نفسها. ففي جميع العهود كان الدستور منتهكاً والحريات مخنوقة، وحرية الفرد لا وجود لها. أما حرية الصحافة والاجتماعات والنقابات والجمعيات والأحزاب فقد كانت، في أحسن الحالات، خاضعة لقيود قاسية لا مثيل لها.
وتميزت جميع الحكومات المتعاقبة بالكره الشديد لكل إصلاح زراعي ولكل تدبير يرمي إلى إنقاذ الفلاح من الفقر والبؤس. فالتأخر العام الشامل في القرى، والسخرة والطرد من الأرض، والربا الفاحش وانعدام الإسعاف الصحي وفقدان المدارس، والاضطهاد والتفنن في النهب، ذلك كان وما يزال نصيب الفلاح السوري في جميع العهود. مع أن تحسين حالة الفلاحين الذين هم أكثرية الأمة هو أحسن السبل لتنشيط الإنتاج الوطني ورفع المستوى الاقتصادي العام في البلاد. أما «الإصلاح الزراعي» الذي طنطنوا به في عهود «الانقلابات» فقد تبيّن أنه مهزلة ومحاولة فاشلة لخداع الرأي العام.
وحقوق العمال، حتى المسلم بها في الأنظمة الديمقراطية البرجوازية نفسها، كانت دائماً ولا تزال عرضة للاضطهاد الشديد، بما في ذلك نفس الحقوق البسيطة التي تضمنتها بعض بنود قانون العمل السوري.
أما التطور المحدود الذي حققته بعض الصناعات الوطنية فقد جرى وسط ظروف عسيرة ومصاعب هائلة. والأخطار الشديدة محدقة دائماً بالصناعة الوطنية التي لا تسير خطوة إلى أمام، في جهة، حتى ترجع خطوات إلى وراء، في جهات أخرى. إن السياسة التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة حتى اليوم لم تساعد قط على إطلاق جميع إمكانيات سورية العظيمة في ميدان الإنتاج الوطني الصناعي والزراعي. فالإنتاج الوطني في سورية لا يلقى أبداً ما هو واجب وممكن من الحماية والتشجيع.
وجميع الحكومات المتعاقبة أفسحت المجال للدعايات الاستعمارية الأمريكية، دعايات التضليل السياسي والتفسيخ الخلقي، كالأفلام الأمريكية الخلاعية والكتب والمجلات الأمريكية المفسدة.
تلك هي الأوضاع المظلمة التي ما زالت تعانيها سورية منذ سنوات، سواء في العهود السابقة «الانقلابات»، أم في عهود «الانقلابات» نفسها. بل إن أشكال الحكم الديكتاتورية التي رافقت «الانقلابات» قد زادت في تفاقم الأوضاع التي يقاسيها الشعب السوري، وفي استفحال التطاحن والتكالب الاستعماري على سورية.
«الانقلابات» الثلاثة التي كابدتها سورية! ...
فقد جاء «الانقلاب» الأول الذي وقع في آذار /1949/، نتيجة للتطاحن الاستعماري الأمريكي الإنكليزي، فأقام حكماً ديكتاتورياً عسكرياً قمع بالعنف والإرهاب مقاومة الشعب العظيمة لاتفاقية التابلاين مع الاستعمار الأمريكي، وجرى تصديق هذه الاتفاقية بإرادة فردية ديكتاتورية، كما جرى تجديد الاتفاقية الاستعمارية مع بنك سورية ولبنان. وفي عهد هذا الانقلاب أريد وضع الجيش السوري تحت قيادة خبراء من الأتراك، كما صدرت مراسيم إرهابية فظيعة.
ثم جاء الانقلاب الثاني في آب /1949/، نتيجة للتطاحن الاستعماري الأمريكي الإنكليزي أيضاً، فاستغل استياء الشعب وجماهير الجنود والضباط الشرفاء من تصرفات الديكتاتورية الأولى. وفي عهد هذا الانقلاب، صُدّقت اتفاقية مع شركة آي. بي. سي. الإنكليزية لمد خط بترولي جديد إلى بانياس. ورغم ما جرى في هذا العهد من انتخابات ودستور جديد وبرلمان جديد لم تلغ الحكومات التي تتالت في هذا العهد أي اتفاق استعماري أو أي مرسوم إرهابي، بما في ذلك المرسوم رقم /150/ عن الأحكام العرفية، الذي صدر في عهد «الانقلاب» الأول، ولا يزال سارياً حتى الآن. وظلت أزمة الحكم مستحكمة في هذا العهد، واستمر التناحر الاستعماري على مسرح البلاد، كما استمر التطاحن بين العسكريين والمدنيين في قلب جهاز الحكم، ورأت البلاد نفسها أمام ازدواج غريب في السلطات. وفي هذا العهد أيضاً، جرت القطيعة الاقتصادية مع لبنان الشقيق، فوجهت ضربة شديدة إلى الإنتاج السوري ولاسيما الإنتاج الزراعي، وكل ذلك تنفيذاً لمشيئة الاستعمار وبعض مؤسساته وخصوصاً بنك سورية ولبنان، وخدمة لمصالح نفر ضئيل من كبار المستوردين والمحتكرين.
ثم جاء «الانقلاب» الثالث في كانون الأول /1951/، فعمل على سحق النهوض الشعبي الجماهيري العظيم الذي عم سورية ضد مشروع «الدفاع المشترك» الأمريكي، وفي سبيل التضامن مع المغرب العربي والشعب المصري، وفي سبيل تأميم المرافق العامة التي يسيطر عليها الرأسمال الأجنبي الاستعماري، وفي مقدمتها بنك سورية ولبنان وشركتا الكهرباء وحصر التبغ. وفي هذا العهد، جرى تسليم مرفأ اللاذقية إلى الشركة اليوغسلافية. وأخذ رجال هذا «الانقلاب» يسمون تركيا «صديقة» وهي غاصبة لواء الاسكندرونة الذي سلمته إلى الاستعمار الأمريكي يقيم فيه القواعد العسكرية المصوبة ضد الشعوب العربية وحركتها الوطنية التحريرية وضد السلم العالمي.
وفي عهد هذا «الانقلاب» الثالث، حُلت الأحزاب وصدرت سلسلة من المراسيم الإرهابية ذات الصفة الفاشيستية الصريحة، فجرمت الصحافة كل أثر للحرية، وحُرّم على الطلاب القيام بأي نشاط سياسي وطني، وفـُرض على البلاد نظام الحزب الواحد، واتـُخذت تدابير لتقنين التعليم وتضييقه بشكل لم يسبق له مثيل، حتى في عهد الانتداب، وزيدت الضرائب وتضخمت النفقات المخصصة لأجهزة القمع على حساب ما يحتاجه الشعب من مدارس ومستشفيات وما تفتقر إليه البلاد بقراها ومدنها من مشاريع عمرانية حيوية. وقـُمعت بالرصاص وأشد وسائل العنف كل مظاهرة وطنية ضد الاستعمار والديكتاتورية، وامتلأت السجون والمعتقلات بالمئات من خيرة المناضلين الوطنيين، من العمال والفلاحين والطلاب ورجال الدين والنساء، واستعملت ضد أكثرية هؤلاء المواطنين الشرفاء أشد وسائل التعذيب الوحشي، تحت إشراف الخبراء النازيين واليوغسلافيين المتأمركين.
وفي ظل هذا الإرهاب السود الذي قاست سورية منه الأهوال في عهد «الانقلاب» الأول، وفي عهد «الانقلاب» الأخير، وحين خفتت الأصوات وغادر الساحة زعماء الأحزاب التقليدية، بقي الشيوعيون السوريون دائماً في الميدان يرفعون عالياً راية النضال الوطني والدفاع عن الحرية، دون أن يخشوا السجون والمعتقلات أو يفقدوا لحظة واحدة ثقتهم بشعبهم السوري العربي الأبيّ.
إن صمود الشعب السوري العنيد في وجه الإرهاب الديكتاتوري وفي وجه المؤامرات الاستعمارية، ونضالات العمال والفلاحين والطلاب والنساء، ذلك ما أرغم القائمين على الحكم على التراجع والتسليم بأن الشعب السوري لا يمكن أن يُحكم مدة طويلة بالعنف والإرهاب، فحاولوا إلباس حكمهم جلباباً من «الديمقراطية»، فكان «الاستفتاء»، و «الدستور» الجديد، و «النظام الرئاسي»، وكانت «الانتخابات»! ولكنهم لم يتحملوا هذه «الديمقراطية»، التي أعلنوها بأنفسهم، سوى أربعة أشهر، عادوا بعدها من جديد إلى اللجوء للأحكام العرفية وإتباع أساليب الإرهاب الديكتاتورية السابقة، فقوبلت بالعنف الشديد مظاهرات الطلاب ضد الدعاية الأمريكية ومكاتب المعلومات الأمريكية، وصدرت أحكام إرهابية قاسية على الفلاحين لهتافهم للسلم والاستقلال الوطني، وامُتهنت كرامة المحامين والمثقفين ورجال التعليم، كما جرت من جديد اعتقالات كيفية على نطاق واسع بين مختلف فئات الشعب. وقد تبيّن أن «النظام الرئاسي» عاجز عن تأمين حكم ديمقراطي وضمان الحريات الديمقراطية وتحقيق الاستقرار المنشود.
ــ دوام هذه الأوضاع والأزمات يهدد سورية بكارثة قومية رهيبة! ...
إن استمرار هذه الأوضاع والأزمات التي تكابدها سورية منذ سنوات سيؤدي بوطننا إلى كارثة قومية رهيبة، إلى كارثة عامة شاملة. ولا ريب أبداً في أن جميع الساسة الذين توالوا على الحكم مسؤولون عن ذلك. فهم الذين أدوا ببلادنا إلى هذه الأوضاع وعملوا على استمرارها. فإن كل وطني حاول تبديل هذه الأوضاع، والسير على سياسة فيها أبسط بادرة وطنية أو ديمقراطية، وأن كان نائباً أو وزيراً، نبذ وحورب. فقد ألقى أحد الوزراء تصريحاً فضح فيه محاولات الاستعمار الأمريكي ضد سورية والشعوب العربية، ودعا إلى علاقات صداقة وصلات اقتصادية مع جميع الدول بصرف النظر عن نظامها الداخلي، فكاد أن يعتبر مرتداً، وكان نصيبه النبذ، بوحي مباشر من الاستعمار، حتى أن قادة الحزب الذي ينتمي إليه تنكروا له وأزاحوه.
إنها حالة لا تطاق. ولا يستفيد من استمرارها سوى المستعمرين لتنشيط تدخلاتهم ومؤامراتهم وتغلغل رساميلهم، وسوى حفنة ضئيلة من الإقطاعيين المغرقين في الرجعية وعملاء الرأسمال الأجنبي، وكبار المحتكرين وبعض المغامرين الذين لا يجدون مجالاً لتحقيق مطامحهم في الحكم إلا عن طريق الديكتاتوريات والاضطرابات.
أما الأكثرية الساحقة من الأمة: العمال والفلاحون وصغار المنتجين والحرفيون وجميع ذوي المصلحة في تطور الإنتاج الوطني الصناعي والزراعي والمثقفون والطلاب والنساء فقد أصابهم ويصيبهم أذى هذه الأوضاع وهم جميعاً يريدون الخلاص منها.
ومن الواضح أن المخرج النهائي من هذه الحالة المؤلمة، والحل الحاسم لجميع المشاكل التي تنتاب سورية هو التحرر الوطني والديمقراطي التام بالقضاء على كل سيطرة سياسية للاستعمار، وبتحرير مرافق البلاد الاقتصادية والمالية من ربقة الرساميل الأجنبية الاستعمارية ومصادرة هذه الرساميل وتأميمها، وبإجراء إصلاح زراعي جذري يقضي على بقايا الإقطاعية في الريف السوري، ويعطي الأرض والمياه للفلاحين، وبإطلاق طاقة الإنتاج الوطني، الزراعي والصناعي، على مدى واسع، وبتحقيق مطالب العمال في ثماني ساعات عمل في اليوم، وبتحسين أجورهم ورفع مستواهم وتأمين الضمانات الاجتماعية لهم، وبإقامة حكم وطني ديمقراطي شعبي قوامه الاستقلال الوطني الصحيح الكامل والسلم والديمقراطية.
ــ طريق الخلاص العاجل: نظام جمهوري برلماني ديمقراطي .. وحكومة وطنية ديمقراطية!...
ولكن لا ريب أنه، حتى قبل الوصول إلى هذه المرحلة العليا في السير نحو التحرر الوطني والديمقراطي التام، تستطيع سورية، في الوقت الحاضر، أن تحقق حلاً عاجلاً يؤمن للشعب السوري ما ينشده من استقرار ويضع حداً للمؤامرات الاستعمارية، وينقذ البلاد من الأزمات والأوضاع الشاذة التي تتالت عليها وأنهكتها.
إن سورية هي الآن بحاجة إلى نظام جمهوري برلماني ديمقراطي، يؤمن انتخابات نيابية حرة ويضمن تمثيل الشعب تمثيلاً ديمقراطياً صحيحاً، ويطلق الحريات الديمقراطية التي تمكن الشعب من توحيد قواه العظيمة للوقوف في وجه الأخطار الاستعمارية المحدقة بوطنه، وللخروج من الحالة الاقتصادية الوخيمة التي تتفاقم يوماً بعد يوم.
وجميع الظروف ناضجة والمجال متسع، أكثر من أي وقت مضى، لتوحيد جميع القوى السليمة في الأمة، على اختلاف اتجاهاتها وآرائها، في جبهة وطنية شاملة تناضل في سبيل نظام جمهوري برلماني ديمقراطي، وحكومة وطنية ديمقراطية، تنقذ سورية من هذه الأوضاع وتعمل لإحباط مشاريع الاستعمار الحربية الأمريكية والإنكليزية على السواء، وتطلق الحريات الديمقراطية وتلغي المراسيم الإرهابية، وتشجع وتحمي الإنتاج الوطني الصناعي والزراعي، وتقف في وجه تغلغل الرساميل الاستعمارية وتعمل لتحقيق الوحدة الاقتصادية مع لبنان الشقيق، وتقيم علاقات تجارية واقتصادية، على أساس التكافؤ والمنفعة المتبادلة، مع جميع الأقطار بصرف النظر عن أنظمتها الداخلية، وتعمل لتحسين حالة الفلاحين والعمال، وتتضامن مع الشعوب العربية في النضال لأجل الاستقلال والجلاء، وتساهم في العمل لأجل الانفراج الدولي وتوطيد السلم العالمي.
إن الشعب السوري لم يهادن الاستعمار قط. ومواقع الاستعمار في سورية أضعف من مواقعه في أي بلد آخر من بلدان الشرق العربي. ولهذا يشن المستعمرون هجوماً شديداً عليها من كل جانب لتوطيد مواقعهم فيها وتوسيعها. فالأمريكيون يريدون مشروع الدفاع المشترك أو معاهدات ثنائية، كما يريدون تنفيذ مشروع جونستون المتعلق بمياه الأردن. والإنكليز يريدون مشاريع «اتحادية» «فيدرالية»، كالمشروع الذي نادى به فاضل الجمالي، رئيس وزراء العراق. والفرنسيون ينظرون إلى سورية كمركز تقليدي من مراكزهم الاستعمارية ويضاعفون مؤامراتهم لبقاء الأوضاع الحالية التي يستفيدون منها إلى حد بعيد.
وهناك التطاحن البترولي الضاري بين الشركات الاحتكارية الأمريكية والإنكليزية، وقد كان هذا التطاحن دائماً العنصر الأساسي في مؤامرات المستعمرين على سورية وفي تدخلاتهم.
إن كل ذلك يتطلب من جميع الوطنيين والديمقراطيين يقظة كبرى حيال ما يجري على مسرح البلاد. فإذا كانت الديكتاتوريات تحاول أن تبرر أعمالها الإرهابية بحجة الأخطار الاستعمارية التي تهدد سورية، فهناك أيضاً بعض الساسة الذين يتسترون بمكافحة الديكتاتورية لخدمة بعض المشاريع الاستعمارية المعروفة.
ولمواجهة جميع هذه الأخطار، ولإحباط جميع هذه المؤامرات، وللخروج من الحالة الاقتصادية المنذرة بأوخم العواقب ولتحقيق ما ينشده الشعب السوري من استقرار في الحكم وحريات ديمقراطية، يجب ويمكن تحقيق الاتحاد الوطني في سبيل إقامة نظام جمهوري ديمقراطي برلماني، تنبثق منه الحكومة الوطنية الديمقراطية التي تفرض مصلحة سورية الوطنية العليا قيامها في الوقت الحاضر.
إن الكثرة العظمى من زعماء الأحزاب التقليدية التي توالى ممثلوها على الحكم في سورية، قد تخلوا عن راية الاستقلال الوطني ورموها جانباً، وتنكروا للحريات الديمقراطية، ولم يبق سوى قوة واحدة تستطيع رفع راية الاستقلال الوطني والحريات الديمقراطية، وهي الجبهة الوطنية التي ينبغي أن تتوحد فيها صفوف العمال والفلاحين وجميع المنتجين ورجال الاقتصاد الوطنيين من صناعيين وتجار ومزارعين، والمثقفين والنساء والطلاب وكل من يهمه مستقبل وطنه ومصير شعبه. ولا ريب أن جماهير الجنود وجميع الضباط الوطنيين الشرفاء يؤيدون مثل هذه الجبهة.
ــ جميع الظروف العالمية والداخلية متوافرة لإحباط مشاريع الاستعمار وتحقيق حكم جمهوري وطني ديمقراطي ...
إن جميع الظروف الدولية والداخلية تبرر الإيمان التام بإمكان النجاح في تحقيق هذا الاتحاد الوطني. ففي سورية ومصر ولبنان والعراق والمغرب العربي تتعاظم موجة النضال ضد الاستعمار وفي سبيل الاستقلال الوطني والسلم والديمقراطية. وقد كان مؤتمر الدفاع عن حقوق شعوب الشرق الأدنى والأوسط، الذي عقد في بيروت، في كانون الأول الماضي، واشترك فيه مندوبون عن سورية ولبنان ومصر والعراق وإيران والأردن والعربية السعودية وحضرموت برهاناً بليغاً على إمكان الاتحاد بين جميع القوى الوطنية والديمقراطية، وتعبيراً رائعاً عن عزم الشعوب العربية على توطيد تضامنها في النضال من أجل السلم والاستقلال الوطني.
إن معسكر الاستعمار والحرب الذي يشدد ضغطه على سورية من جميع الجهات ليس من القوة كما يحاول أن يصوره أذنابه ودعاته. فالتناحر الداخلي يمزقه، ويزيده ضعفاً وتفككاً يوماً بعد يوم. وتلقى المشاريع الأمريكية الحربية والعدوانية مقاومة متعاظمة في آسيا وأوروبا. حتى أن دولاً بأسرها كبرى أو صغرى في العالم الرأسمالي نفسه، كالهند الكبيرة وبورما الصغيرة تقف في وجه المستعمرين وترفض الانجرار وراء مغامراتهم الحربية. وتزداد حركة السلم قوة وشمولاً مما أرغم الدول الاستعمارية على قبول المفاوضات في سبيل الانفراج الدولي.
إن القوى الرجعية في سورية، سواء في ذلك عملاء الرأسمال الأجنبي والمغامرون وأصحاب الديكتاتوريات أم رجال الإقطاع والساسة المرتبطون بالاستعمار ومشاريعه، والوصوليون الذين يبنون آمالهم على تدخل الاستعمار، ليسوا من القوة بحيث يستطيعون الوقوف في وجه القوى الوطنية الديمقراطية حين تتحد وتوطد العزم على النضال لتحقيق ما تفرضه مصلحة سورية من نظام جمهوري برلماني ديمقراطي، وحكومة وطنية ديمقراطية.
إن في سورية الآن جميع الإمكانيات اللازمة بما في ذلك الرجال الصالحون لتحقيق مثل هذه الحكومة الوطنية الديمقراطية. ولا ريب أن جميع الوطنيين المخلصين، على اختلاف آرائهم واتجاهاتهم ومراكزهم الاجتماعية، سيؤيدون هذه الحكومة. والشيوعيون السوريون هم في طليعة الوطنيين الذين يعملون لقيام مثل هذه الحكومة، وهم مستعدون لتأييدها دون أن يشترطوا لذلك اشتراكهم فيها أو أي شرط آخر سوى أن تعمل هذه الحكومة على تحقيق الأهداف الوطنية والديمقراطية التي ينشدها الشعب.
إن الطريق الوحيد أمام سورية تحو الخلاص والاستقرار هو طريق الاتحاد الوطني في سبيل نظام جمهوري برلماني ديمقراطي وحكومة وطنية ديمقراطية!.
خالد بكداش
الأمين العام للحزب الشيوعي في سورية ولبنان
شباط /1954/
بقلم: خالد بكداش