الفلسفة سياسة


هشام غصيب
2011 / 9 / 7 - 08:32     

إذا أراد المرء أن يفهم عالم اليوم وما يدور فيه من أحداث جسام، فعليه أن يقرأ ويفهم عقلية النخب الحاكمة في الغرب . لكن فهم هذه العقلية يستلزم الغوص في فكر النخبة الثقافية الغربية المسيطرة ،وبخاصة فكرها الفلسفي . إن مفتاح السياسات الغربية، الداخلية منها والخارجية ، يكمن في الفلسفة الغربية المسيطرة. ولا عجب في ذلك. فلا تخلو حضارة عظمى من هذا الرابط العضوي بين الفلسفة والسياسة. بل يبدو أن ديمومة الحضارة العظمى وعمق تأثيرها لا يكونان ممكنين من دون ذلك. ونرى ذلك واضحاٌ، لا في الحضارة الغربية الحديثة وحدها ، وإنما أيضاٌ في الحضارات العظمى الأخرى ،كالحضارة الإسلامية والحضارة الإغريقية. لذلك كله، فإن فهم عالمنا المعاصر، بما في ذلك وضعنا المريع في الوطن العربي، يستلزم ولوج عالم الفلسفة الغربية المسيطرة من أجل الكشف عن سرها السياسي في المقام الأول. إذ، وكما أسلفنا، فإن للفلسفة الغربية دوراٌ سياسيا أساسيا، بالإضافة إلى دورها المعرفي المرتبط بتطور العلم . ولربما كان هذا الدور المهم هو أساس الوهم الآيديولوجي السائد في الأوساط الثقافية الغربية بأن الثقافة الغربية هي برمتها تجسد للفلسفة الغربية، الأمر الذي يجعل هذه الأوساط تناقش أزمة الحضارة الغربية المعاصرة وكأنها أزمة أخلاقية أو فلسفية محض. وهو تصور مثالي ينفي مادية الثقافات، ومن ثم يعجز عن تفسير التاريخ والمجتمعات البشرية.



ومع أن الفلسفة التقليدية تنزع عادة إلى إخفاء طابعها السياسي (بل، روحها السياسية) بشتى الأحابيل الآيديولوجية، إلا أنها لا تفلح في ذلك تماماٌ. إذ سرعان ما تخونها أعصابها فتفصح عن سرها السياسي ، ولو في فقرة عابرة أو موقف عابر(تذكر موقف الفيلسوف الإيطالي جنتيله من موسوليني وموقف الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر من هتلر) .



وعلى سبيل المثال، ففي كتاب صدر مؤخراٌ لأستاذ الفلسفة السياسية في جامعة أكسفورد البريطانية، جون غري، بعنوان “مسار التنوير” ، يدخلنا مؤلفه في مسارب ومعارج فلسفية متشابكة من أجل التأكيد على فشل مشروع التنوير والحداثة، الذي يقوم على قيمتي العلم والحرية الفردية، وعلى التهافت الداخلي لهذا المشروع، ويحلق في فضاءات التنظير السياسي والتجريد الفلسفي (أرسطو، نيتشه ، هيدغر) . لكنه ، وبرغم كثافة الغطاء الآيديولوجي الذي يدثر به سره السياسي، إلا أنه سرعان ما يفصح عن الغاية السياسية لتحليله وتنظيره في فقرة عابرة في الفصل الأخير من كتابه المذكور. إذ نرى هذا التحليل المغرق في التجريد يقوده فجأة إلى الرأي بأن عالم المستقبل المنظور لن يكون عالماٌ ليبرالياٌ تسوده قيم الجناح الليبرالي من مشروع التنوير، وإنما سيكون عالماٌ تسوده الفوضى وتتخلله ما أسماه الانتفاضات المالثوسية (أي انتفاضات الجوع الناتجة عن الانفجار السكاني)، بالإضافة إلى الانتفاضات الأصولية والإثنية. ويخلص غري إلى القول بأن على الغرب أن يكون متأهبا لاستعمال القوى العسكرية وتسديد الضربات العسكرية المحسوبة هنا وهناك في ذلك العالم الكابوسي الفوضوي، حماية للغرب ومصالحه. في هذه الفقره التي تفلت على غفلة (ربما) من مؤلفها، يفصح خطاب غري الفلسفي عن سره (السياسي)، وعن كونه تأسيسا للسياسة العدوانية (الإبادية) الغربية تجاه أمم أطراف النظام الرأسمالي. إن الرؤية الفلسفية التي يعبر عنها جون غري في كتابه المذكور ليست أكثر من تأسيس وتسويغ للجريمة الجماعية وإبادة الشعوب غير الغربية. لقد اختزل دور الفلسفة الغربية اليوم إلى تسويغ الإبادة العرقية والممارسات الاستبدادية العنصرية، لا أكثر ولا أقل.



وهذا كله يؤكد ما سبق أن ذهب إليه كلاسيكيو الماركسية (ماركس ، لينين ، غرامشي ، ألتوسير) من أن الفلسفة هي أساساٌ سياسية . ونستذكر هنا ما قاله الفيلسوف الفرنسي الراحل (والمنسي اليوم) ، لوي ألتوسير ، في مقابلة أجريت معه عام 1968، من أن الفلسفة هي تدخل سياسي على الصعيد النظري. من ثم فهي الجسر الواصل بين العلم والوعي الاجتماعي. إنها الأساس النظري الدفين للممارسة الطبقية ، أي للسياسة.



ومن ذلك تنبع أهمية الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي ومجابهته جديا. إن مثل هذا الاشتباك ليس ترفاٌ فكريا، وليس شأنا أكاديميا محضاٌ، وإنما هو شأن عملي ملح نحتاج إلى إجرائه من أجل معرفة كيف نتصدى للخصم الغربي وإفشال مشروعاته العدوانية الإبادية. فإذا لم تتعلم شعوب الأطراف وعمال المراكز كيف يطورون وعيهم وينظمون أنفسهم على أساس معرفة عميقة لطبيعة البرجوازية الغربية المسيطرة وطبيعة أزمتها الحضارية الخانقة، فإن هذه البرجوازية ستستمر في غيها، وتتمادى في ممارساتها العدوانية الإبادية والاستهتار بمصائر الشعوب، وتواصل تصدير أزماتها للمجتمعات غير الغربية، وتخريب البيئة الأرضية.

لقد سخر الغرب الرأسمالي الخطاب الليبرالي في حقبة الحرب الباردة وتراث التنوير الإنسانوي في مجابهة أعظم تجلٍّ وتجسيد لمشروع التنوير، أعني الماركسية والشيوعية. فكان أن توهم الكثيرون، وتوهمت البرجوازية الغربية نفسها، أن الخطاب الليبرالي الإنسانوي هو رسالة الغرب الأبدية الكامنة في جوهر خصوصيته الثقافية(أمة غربية واحدة ذات رسالة خالدة) . وساد الوهم أن الحرب الباردة في جوهرها صراع بين جناحي مشروع التنوير، بين الماركسية والليبرالية الإنسانوية الغربية، أي بين الأنموذج السوفييتي الاشتراكي والأنموذج الغربي الليبرالي. ووصل هذا الوهم أوجه عند تفكك المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي، الذي فسره الكثيرون بأنه انتصار لليبرالية الإنسانونية الغربية على الشيوعية السوفييتية. ولعل أوضح تعبير عن هذا الوهم آنذاك كان مقولة إن الليبرالية الغربية هي نهاية التاريخ، والتي أطلقها فرانسيس فوكوياما. وبالطبع فقد كان هذا الاعتقاد وهما، لأن الذي انتصر حقا لم يكن الليبرالية الإنسانوية الغربية، وإنما هو البرجوازية الغربية. والذي انتكس حقا، ولا أقول انهزم، لم يكن الماركسيه السوفييتية أو غيرها من الماركسيات، وإنما شعوب الأطراف وعمال المراكز والأطراف. إذ يبدو أن الليبرالية المحدثة بخطابها المتفائل، الذي يؤكد فكرة عقلانية السوق وقيم الديموقراطية البرجوازية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، كانت مجرد سلاح مؤقت شرعته البرجوازية الغربية في وجه المنظومة الاشتراكية بديلاً للاشتراكية وما انطوت عليه من مكاسب وحقوق كبيرة للكادحين وشعوب الأطراف.وكان هذا السلاح مجرد طعم لجرّ الطبقات والأمم الكادحة بعيداً عن الاشتراكية وقوى التقدم. فما إن تم للبرجوازية الغربية ما ابتغته، حتى بدأت تشكك في قيمة الليبرالية الإنسانوية وتؤكد أهمية صراع الحضارات وخصوصياتها الجوهرية، خصوصاً في ضوء الإخفاق المريع للرأسمالية في البلدان التي كانت تشكل المنظومة الاشتراكية. إن البرجوازية الغربية ما عادت اليوم في حاجة إلى الخطاب الليبرالي ولا إلى تقديم التنازلات للطبقات والأمم الكادحة. لذلك أخذت تتنكر بصورة فاضحة للقيم الليبرالية التقليدية، وتميل بصورة واضحة صوب الفاشية بمسميات جديدة. فهي لم تعد تكتفي بذم الماركسية وإعلان موتها، وإنما أخذت أيضا تعلن إفلاس الليبرالية الإنسانوية، وتتفلت لتعلن براءتها منها، وتحملها وزر فشلها وفشل الرأسمالية. بل وذهبت إلى أبعد من ذلك بإدانة الحداثة وعقيدة التنوير وجذورهما الإغريقية والمسيحية. فهي تريد أن تجتث التراث الديموقراطي التقدمي من جذوره، وأن تنسف الماركسية والليبرالية من أساسهما المشترك، الذي سبق أن بنته هي نفسها في فترة شبابها وصعودها. ونراها تسخر لهذا الغرض أعتى الأدوات الفكرية التي أنتجتها الحضارة الغربية الحديثة، وأرفع الأساليب المنطقية التي أفرزتها الفلسفة الغربية. ههنا نرى العقل يحطم نفسه، تماماً كما حصل مع الغزالي في الحضارة الإسلامية. لقد أفلت زمام الأمور من بين أيدي البرجوازية الغربية. إنها امبراطورية الفوضى التي تحدث ويتحدث عنها سمير أمين. ولم يبق أمام البرجوازية الغربية في سعيها اليائس إلى ضبط الأمور سوى القوة المجردة الخالية من المسوغات والمبررات. لم يبق لديها سوى منطق القوى والاستبداد والإبادة العنصري. إنها بالفعل لإمبريالية خرفة، كما ينعتها اليسار الغربي، وإنها بالفعل لفلسفة خرفة، تلك التي تسخرها البرجوازية الغربية لتحطيم العقل وقيم الحرية والعدالة.

ويقودنا هذا التحليل مرة أخرى إلى ضرورة الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي الحديث والمعاصر، حتى يتسنى لنا أن نفهم العقلية الغربية المتأزمة، عقلية البرجوازية الغربية، التي تحكم عالم اليوم وتؤجج نيرانه. فالفلسفة، كما أسلفنا، سياسية في جوهرها. إنها روح السياسة. ومن ذلك ينبع ذلك الاهتمام الغربي المحموم بها، وينبع إصرار القوى الرجعية في الأطراف على منعها أو إضعافها أو تصفيتها. أما نحن، الذين لا نعتبر هيمنة الإمبريالية الغربية قدراً محتوماً، وندعو إلى مجابهتها بجدية، لا على طريقة ابن لادن وأصوليي الجزائر، وإنما على طريقة لينين و ماو وهوتشي من وتشي غيفارا، فندرك جيداً أن لا مفرّ من هذا الاشتباك الفكري الذي يعرّض كل ثوابت الوعي السائد للاهتزاز، وربما الانهيار، والذي يغوص في عمق أعماق التجريد والتنظير من أجل الغوص في عمق أعماق العياني في سياق تغييره. فما هو البديل لماركس ولينين، الذي تطرحه البرجوازية الغربية أمامنا اليوم ؟ ماذا تبقى لديها لتقدمه لنا غير نيتشه وهيدغر وصولاً إلى الطالبان ونتنياهو‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!