من التقليدية الى العولمة المتخاتلة


خديجة صفوت
2011 / 9 / 3 - 21:22     

 
من التقليدية الى العولمة المتخاتلة
الاقتصاد السياسي للطرق الصوفية و الاحزاب السياسية الحديثة:
Sufi Orders & Modern Political Parties
الجـذور التاريخية و الايديولوجية لتسيس الطوائف الدينية: استعصاء الاجزاء الثقافية التقليدية على ما بعد  الحداثة الغربية المتكاذبةة: شمال السودان منذ وادى النيل الاسراتى نموذجا[1]
د. خديجة محمد صفوت
الطبعة الثانية[2]
اكسفورد 2010
إهـــــداء
 
إلى ذكرى صديقي وشقيق روحي أخي عبد العزيز صفوت وإلى روح صديقي طه حسين الكيد و الى أستاذي وصديقي الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم. فقد كان ثلاثتهم صوفي بطريقته منسحب يترفع على المزاحمة والتدافع. ولعل واحدهما أواثنانهما قررا ترك هذه الحياة رغبة عن قبحها وتشوهها. و كان طه حسين ساعدني فى تصحيح النحو بالبحث اول ما اقدمت عليه وكان ذلك منذ سنين بعيدة. كان طه حسين الكيد من اعز اصدقائنا عزيز صفوت و انا. و كان ابوه و عمه التوامين صديقي والدي محمد صفوت ورفيقيه في حركة الاشقاء الداعية لوحدة وادي النيل[1]. وشجعني أستاذي وصديقي البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم (رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما اسدى للبحث و العلم من افضال) أثناء إجراء البحث وأهداني مجلدات الاستخبارات السودانية و هي تقارير حملة الفتح المصري الإنجليزي للسودان ومجموعات من مجلتي النهضة والفجر النادرين. و كان الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم وقتها مديراً لدار الوثائق المركزية وكانت عامرة وتفخر بارهاصات نهضة بحثية أيامها. وكنت كعهدي أتصل من هنا بالدكتور محمد إبراهيم أبو سليم دائما وفاءاً واقراراً بقدره وكانت اخرة مرة قبل وفاته بقليل ولم يكن مريضاً أو لم يخبرني هو بذلك- ازكر انه كان يهتف "أترين كيف نسينا الناس؟"[2] و لا أنسى. فماذا يبقى للسودان إن نسى السودان أفضل من أنتج فى أهم مراحل تطوره وازدهاره رجالاً أفذاذ مخلصين نبلاء ونساء نظائر للآخيرين أيضاً؟ فالسودان وياللأسى الذي لا سبيل إلى وصفه قد ينكص- إذ لم نتحسب بصدق وشجاعة- إلى عوالم حجرية باناسه و حضارته التى تعود الى اكثر م 200 الف عام قبل الميلاد. وقد لا يبقى من معظمنا سوى ما يثير الكآبة فى النفس و الحزن فى القلب على انقضاء زمان الترفع والكبرياء والعزة بالأمجاد القديمة.

وكان عزيز رحمه الله مثل ابى محبا للغة العربية يجيدها اجادة. و كان والدي رحمه الله يقول "من لا يجيد لغته لا يجيد لغة أخرى". وكان محباً للغة العربية وكان محباً للانجليزية أيضاً والليبرالية الانجلوساكسونية فقد كان من خريجي كلية غردون ومن أول دفعة لما سمى بنواب المآمير وأكثر من عانى من ظلم الاستعمار وما بعد الاستعمارأو ما سمي بالاستقلال. ولا أنسى- اكتساباً للفطنة ومراكمة ما أمكن- وليس مرارة والعياذ بالله هؤلاء الادميين الرائعين فى حياتى و اعدنى محظوظة موفقة مسعدة بمعرفتهم و الانتماء اليهم. فقد زودنى كل منهم بما لا انساه فضلا بلا منة. و كان ابى رحمه الله علمنى الكثير والكثير جداً ولا حدود لامتناني له. وما برحت أسقط بعض أقواله على أمور قد تبدو بعيدة أحياناً عن "المسقط" منه. وأسقط مقولة اجادة المرء-أة- للغته-لغتها-على التاريخ. فمن لا يعرف تاريخه وتاريخ الأمة العربية والإسلامية لا يدرك تاريخ الإنسانية الموضوعي قاطبة وليس تاريخ البشرية بمعني البشرية البيضاء دون سواها.

و أزعم ان براديجما ابى المذكورة اعلاه -إن صح التعبير- من حيث أن من لا يجيد لغته لا يجيد لغة أخرى- تعود إلى نفسها وإلا قصرت عن أن تكون قابلة للإثبات. فهـلثمة ما يجلو النظر-بأثــر رجعي In Retrospect-والبصيرة فيتعين النظر على رؤية اكثر وضوحاً وأشد قدرة على تفكيك تركيبية الأحداث اكثر من معرفة تاريخنا العظيم ؟ فلماذا عمش هكذا على البصيرة حتى تعذر النظر؟

عـــرفـــان:-

المهم يبقى من الأمانة الإقرار بأصحاب المادة الأولية والمراجع والمؤلفات والمؤلفين الذين أصدر عنهم البحث فى شكله الأول وفاءاً، وكان الاستاذ نوري ا لجراح قد قرأ المسودة الخيرة وقرأ و قرا النص الصديق الأستاذ سيد أحمد بلال والأستاذة هويدا حرمه تحريراً وتصويباً و كانت قرأة سيد احمد بلال لآخر مسودة من للنص قراءة ذكية لا تقدر بشيء فلهما امتناني فما احيلى الصداقات والوفاء فى زمان دفع بابلو نايرودا لان يهتف "كل هذا البؤس وأصدقاء بهذه القلة".

هذا وقد تعينت على تسجيل المصادر مؤلفة ومترجمة فى المتن والهامش قدر المستطاع إنسانياً و امتناناً وعرفانا لاصحابها ً، فى زمان بات الإفلاس الفكري والنظري يدفع بعضهم إلى اختلاس جهد غيره أو/و ادعاءه دون الإشارة الى صاحبه. وما أن يدعي أحدهم أو إحداهن بحثاً أو مقولة فعل كل ما من شأنه اخفاء كل اثر للمصدر الأصلي بكافة السبل وإلا افتضح. ولا ضمان على كل حال. على أن بحثاً يبقى غير قابل للتحقق بدون الرجوع إلى والتكامل مع غيره. فكل بحث أمين لا يستوى بغير اتصال قرابته بوعاء معرفي معطاء باسهام غيره[3]. وكنت اذكر دائءما للطلابى و كنت ادرس منهاهج البحث فى بضعة جامعات- و كما اذكرت فى مقدمة أعمال أخرى وأكرر أن تسجيل الأخذ عن والإقرار بعمل الآخرين في هوامش البحث أومتنه إغناءً للبحث وليس انتقاصاً له[4].

وفى ختام هذا العرفان ازعم انه حيث قد لا تتوفر محصلات البحث بطبيعته على تداعيات نظرية فائقة سوى أن بعضاً من الأسئلة التي يطرحها قد تولف بدايات منهجية أوبراديجمية بالأحرى. وقد تعينت بعض فرضيات البحث على محاولة إثبات أو/و طرح مزيد من الأسئلة عند حواف تلك الفرضيات.

هذا وقد حاولت ما أمكن وضع المرادفات الأجنبية قبال نظائرها العربية كما نحت بعض المفردات من حرقة منهجية. وقد يصيب المر-أة-ان أصاب ويخطئ وتبقى الأخطاء مسئوليتي الخاصة والله أعلم.



 
تقــديم
 كنت قد كتبت الاسطر التالية عشية افتعال أزمة دارفور بصورة علنية لجريدة القدس كون الازمة تعبير نموذجى عن ستار الدخان المنوالي على ما لا سبيل الى اتصاله بلا مغبة غير قابلة للاحتمال. وأزمة دارفور الى ذلك اتصال لمشروع تحقق شرط استلاب ثروات اقوام لا تستحق المثول فوق الارض التى تعيش عليها فتفريغها من السكان بجريرة لون جلدها. و ازمة دارفور الى ذلك تعبر عما ينتظر السودان مصيرا ماثلا و الكل يحدق فى الكارثة. ولعل بعض قسمات المقال ما تنفك تعبر عما قد يكون بانتظار السودان وغيره من الدول الافريقية والعربية والاسلامية باجندة الدمار الامريكى الشامل. فقد بقيت الشعوب المهزومة ب"الاكتشافات" و"الفتح" و"التنوير" وماتبرح بالاستباق الدفاعى والدمقرطة جبرا...الخ موضوع خطاب وأولويات سيناريو الدمار الشامل بوصف الا سبيل الى تصور أهلية تلك الشعوب للحياة اصلا. فليس يعقل ان تنافس تلك التراكمات العددية لمن لا وجوه لهم الاقوام الراقية على الموارد المتناقصة على نحو غير مسبوق. وفيما تبربرت حاجات تلك الشعوب لم يعد واردا ترك ثرواتها الطبيعية ولا حتى البشرية العظيميتن دون السطو عليها لحساب الاقوام الممتازة.
تنويعات على لحن قديم:-
قد يرى البعض ان هكذا مقدمة قد لا تتسق والطرق الصوفية سوى انى ازعم وارجو ان اتمكن من اثبات ان سفر تكوين خطاب الدمار الشامل كان قد بدأ باكرا بسيناريو اختراق الاسلام الرسمى و الشعبى فى كل مكان  باكرا و سابقا على عشية سقوط الخلافة العثمانية  لحساب الامبراطوريات الاوربية الغربية-البرجوازية الصناعية الوجيزة تباعا-منذ القرن الثامن عشر على الاقل وقياسا يتمثل سينايو مشابه عشية سقوط سلطنة الفونج بداية القرن التاسع عشر لحساب الاستعمار المتردد بسمسرة محمد على و أسرته خصما على الخلافة العثمانية. و أجادل ان الامبراطورية الانجلو امريكية وريثة الأولى ما تنفك تتعين على تسييس الاسلام فيما يشارف الثورات المضادة على الاسلام الشعبى و اليسار الذى كنا نعرفه مهما كانت عيوبه و على العمل الشعبى المباشر و على المقأومة فالثورة كأليات للتغيير وصولا الى ابلسة الاخيرات جميعا. ذلك ان الامركة-الكوننة-العولمة-الكوكلة-الدزننة-من ديزنى-المكدنة-من ماكدونالد و كلها تنويعات على أو-و قسمات متراتبة لمشروع القرن الامريكى الجديد-تتعين كغيرها من قبلها على استغلال[k1]  الدين الاسلامى وغيره فى كل مكان فيما يسمى بالاصلاح السياسى أوالاجتماعى. و يعيد مشروع القرن الامريكى الجديد هيكلة الاسلام و اختراق القرآن الكريم ب"تبسيطه" و الغاء بعض اياته كما يثابر المشروع المذكور على الالحاح على كتابة العربية بالاحرف اللاتنينية وغير ذلك من قسمات مشروع الشرق الأوسط الكبير.
و أزعم ان مشروع الشرق الأوسط الكبير لا يزيد سوى ان يعيد انتاج تنويعات باكرة منذ استسلام السلطة الفونجية لحملة الفتح التركى الأول حيث كان السلطان قد بات محض ترميز لهوان السلطنة. فقد سلم وزيره ابو ليكيلك السلطة نيابة عن السلطان لقوات الاحتلال و قد راحت الاخيرة تجتاح السودان تباعا على مر اعوام 1818و 1821 و 1822م فتواصل ممارسات لم تتوقف على مر الاف السنين. فقد كانت مروى والنوبة العليا وعلوة والمقرة والفونج قد باتت محض امتدادات لامبراطوريات الشمال باكرا ومنذ سقوط طيبة لحساب ممفيس فغدت النوبا وعلوة والمقرة من بعدها مصدر الذهب والعاج والعبيد و المحاجر التى بنيت بها شواهد الدلتا الحجرية. ولعله فيما كانت ثروات وادى النيل الجنوبى آلية ناجزة لبناء تلك الشواهد الحجرية العظيمة فى طيبة ومروى وشندى فانها ايضا كانت وبالا علي وادى النيل الجنوبى. وفى قياس على نفس اللحن فثروات السودان كارثة عليه اليوم. فبمقدار ما تجلس الشعوب الافريقية والعربية وغيرهما من الشعوب غير الغربية فوق ثروات طبيعية فى كل مكان بقدر ما تفقر تلك الشعوب حتى الموت جوعا فى كل مكان. ذلك ان تلك الشعوب مفقرة-نحن مفقرون-لكوننا اغنياء بالثرواة الطبيعية وغير الطبيعيةWe are impoverished because we are rich. .
- المبحث الأول : لا قانونية الحكم الثنائى ومسأومات العولمة على السودان باكرا:-
جأر هنرى كيسنجر منذ مائة عام و لم نصغ "ان كان الرب قد اخطأ باعطاء العرب والمسلمين النفط فنحن بصدد تصحيح ذلك الخطا." و جأر بوش الابن ما ان اعيد اكتشاف ابار النفط بعد خروج شيفرون- وخروج تاليسمان الكندية  من السودان جراء تهديد وابتزاز امريكا-ان "هذا نفطنا نحن" This is our oil. ومن المفيد تذكر ان التنويع الباكر للسطو الاستحواذى الشرس منذ المجتمعات الاسراتية الوادى نيلية و كان اسبق من سيناريو النفط تمأسس بدوره على سردية كتومة لا تعلن عن نفسها الا بقد ما تردد وعد الرب بان يوسع آل يافيث و يقيم فى خيام شام و يجعل الرب كنعان خدما له[6]. لذلك يضغط اللوبى المسيحي الصهيونى و بعض الجماعات اليهودية على الادارة علنا بتعريف ما يحدث فى دارفور بوصفه تطهير عرقى وقد ادمى التعاطف مع اهل دارفور قلوب اعضاء اللوبى المسيحي الصهيونى. فكأن امريكا المسيحيين الصهاينة باتت مؤسسة خيرية. وحيث يجأر الاخيرون بايقاع عقوبة حصار اقتصادى نفطى على السودان فان كنعنان تبقى تزويقا لكافة الغويم الاممين المشركين بالرأسمالية و بالحضارة الغربية و بحق ال يافيث الالهى فى نفط والذهب و الاخشاب واليورانيوم و مياه العالم قاطبة.
و بالمقابل لا يجد احد محررى الجارديان جوناثان جونز Jonathan Johns فى قلبه الاحتفال فى ملحق الجارديان بتاريخ 9-9-2004م ب"كنوز السودان" وقد عرضت بالمتحف البريطانى. فان اتصل الاجتماع السودانى منذ اكثر من  200 الف عام قبل الميلا و اكثر من 300 افل عام قبل سفر التكوين –الاصحاح القديم فان السودان سابق فى تاريخ البشرية على ما عداه بقرون طويلة. الا ان جوناثان جونز لا يذري ضمنا باهرامات مروى كونها "أصغر من اهرامات الجيزة" ولا من كونها "من الرمل  وحسب فى حين اهرامات الجيزة من الجرانيت". وأنما يتناسى عمدا أوجهلا أن "كنوز السودان هى الاصل" وان جرانيت اهرامات الجيزة من محاجر مروى. وليس تحذب جوناثان جونز سوى اتصال اجتزاء تاريخ البشرية غير الغربية أو/و بشرية كنعان لحساب ال يافيث تبسيطا فيما يشارف الضغينة. ذلك ان الغرب يستدعى كعهده شكا متأصلا يعيد ترتيب التحذبات الغربية ليس وحسب فيما يجمع بين نشوء حضارة بذلك الوصف ودموية احداث دارفور فى مجتمع واحد وانما ينفث ال يافيث على أصحاب تلك الحضارات جدارة الاخيرين بها أصلا.
المهم اختصارا ولمصلحة الجدل يزعم هذا البحث ان السياسات الاستعمارية قد لا تزيد كثيرا عن تنويع على بعضها بعضا بمدلسات مجددة من وراء خطاب معمش يتعين بمثابرة تدعو للاعجاب على تدليس مفردات ذلك الخطاب وما ننفك نحن ننخدع فى كل مرة. وتعيد العولمة انتاج ابعاد سيناريو الاستعمار الكلاسيكى فى جنوب افريقيا وتحأوله فى البلقان وقد وقف على رأس دول مهزومة حاكم عام برتبة شرف عضوية مشبوهة تسنده جماعات مشبوهة فى البوسنة و الكوسوفو كما تعيد العولمة انتاج السيناريو فى افغانستان والعراق وتيمور الشرقية وقد استنسخت كائنات مشابه مثل النعجة دوللى. ولا بأس من ان تشيخ تلك الكائنات سراعا فهى قابلة للاستغناء عنها ما ان تقوم بدفعة من العمل القذر بلا احتشام أوحذر. و يجأر رئيس حركة تحرير تيمور الشرقية-و قد حصل على جائزة نوبيل للادب فى 2003-بان على امريكا التأكد من انهاء مهمتها فى العراق.
ليس هذا وقت اعادة ترتيب التحزبات :-
حيث راح السودان يتصدر منذ نهاية 2005م و حتى بداية 2006م  فجأةة  أوليات الخطاب العربى بليل لم يكن السودان مهيأ لذلك الاهتمام الا بقدر ما استهدف السودان باستسهال الكلام و ارساله على عواهنه جراء ابتزال و لؤم قاموس التحريض و التآمر. فان لم يكن السودان يحظى يوما باهتمام فهو المجتمع الافريقى العربى الذى كان-قبل نشوء النعرات العرقية و القومية الضيقة وتخطيط الحدود ورفع المتاريس فى وصد التواصل والابداعات الفردية والجمعية كان السودان وما يبرح يؤلف سرة افريقيا وملتقى الحضارات وأصلها معا. الا ان السودان ما ينفك ينكص مثله مثل القارة الافريقية الى العصر الحجرى. فقد باتت تلك القارة تثير فى نفس من يسمع اسمها كل المخأوف وتشيع التطير والظنون لما الم بها وباهلها من بؤس منقطع النظير. وربما تحولت القارة مع جشع العالم الأول وطمعه فى ثرواتها بركة لطعام الاسماك كما كان عبد الوهاب البياتى رحمه الله يتنبأ بحس شاعر عراقى مغلول وقد يتحول السودان بدوره الى ملاعب للجولف Golf أو الرجبى Rugby.
فان كان ثمة حسنة فى دارفور فقد راح العالم يهتم بالسودان. وقد يدفع ذلك السودانيون الى التوقف عن التحديق فى الكارثة فيواجهون ما هو آت لامحالة. فقد لا يبقى من السودان لادعياء سيادة السودان خصما على من عداهم سوى تلك الرقعة التى يحتلونها فيزيقيا مثلما يحدث تباعا فى العراق وما يترى فى غيرها. فكأن اؤلئك النفر الصلف و قد احتكر تاريخ و جغرافية السودان يتعين على نبوءة تحقق نفسها Self-fulfilling prophesy. و كنت كتبت فى الفجر منذ اكثر من 8 سنوات مقال بعنوان التحديق فى الكارثة زعمت فيه ان السودان مقبل على التمزق تحت شعار حق تقرير المصير وان الديمقراطيين لا يجدون فى قلبهم الاعتراف بمغبة ذلك الحق فالوقوف امام بعض تداعياته الماثلة حتى لا يتهموا فى شرفهم الديمقراطى.
ويفاجئ الاهتمام العالمى السودان فيعرى امعاء تاريخ السودان الحديث ودواخل بعض شرائح السودان السلطوية والمعارضة معا ومجاميع ادعياء سيادة السودان وامتلاكه ممن راح يتحدث باسمه وقد فبرك التاريخ على الملأ. و بالمقابل لم يعد الاخيرون يملكون دفع الغاشى والماشى عن التطفل على محتويات امعاءهم وفيما لم تهضم بعد معظم الشرائح والمجاميع المدعية وما تبرح تجتر وقد قضمت وتسغبت بحق وبغير حق اكثر مما تملك مضغه To bite more than they could chew. وحيث تتراخى الحكومة فى الرقابة على الصحافة المحلية و العالمية وقد تفككت البيروقراطية و لو قليلا امام أعين الكاميرات الجاهرة تحدق فى السودان لأول مرة منذ سنين طويلة يتدافع صحافيون متخصصون ومخرجى افلام وثائقية نحو تسجيل اثار مروى الجديدة وغيرها مثلما فعلوا عشية "حملة حرية العراق".
فقد انتجت تقارير و افلام وثائقية بليل حول الشواهد الحجرية البابلية والاشورية والسومرية لمدن العراق التاريخية الثمانية بليل. وسجلت كاميراتهم حجم ومواد بناء أكبر مسجد باعلى مئذنة فى العالم وتوقفت تلك العيون المتلصصة داخل قصور بلغ حاصل جمع مساحة بعضها مساحة العاصمة الامريكية الادارية وواشنطن دى سى ترمقها بحسد وضغينة فيما تستبق تأبينها بوصفها مستهدفة للقصف القادم لا محالة. وقياساً راحت تلك الافلام والعدسات تسجل بنهم فى اسابيع ما لم يسجل فى حقب. ولقد باتت كتابة السردية السودانية مهمة عاجلة قبل فوات الأوان. ذلك ان العد التنازلى قد بدأ. ولعل أولى الامر سياسيين ومثقفين ومفكرين وادعياء يستغقر ويتوب وينيب باسم ومن اجل السودان والسودانيين كافة. و لعلهم يتقون الله فى غيرهم و قد طال العهد بجشع اقليات ما تنفك تركض منذ "الاستقلال" وربما منذ الاستعمار وراء مصالح انتهازية ذاتية ضيقة خصما على الاغلبيات المتضورة اقتصاديا وسياسيا بل حتى للماء والهواء النقيين رغم وربما بسبب ثروات السودان الخرافية. ذلك ان الطوفان-الآتى لا محالة- لن يعفى الا من عصم بالوطنية والموضوعية التاريخية. ولم تبقى تلك الهضبة التاريخية العظيمة التى نقف فوقها جميعا بالمعلومات المتدفعة على قارعة الطريق سبيلا بعد الى اعادة ترتيب التحزبات ولا ظلال أركان أوزوايا يتوارى خلفها المنتفعون والظلاميون الظلمة.
وفيما يلى احاول استدعاء ما كانت الامبراطورية البريطانية ان تصدر عنه فى تجربتها في السودان مما لم يمسه معظمنا كثيرا فى استبصار تلك التجربة المروعة بكل من بداياتها الدامية و زيولها اللامتناهية حتى اليوم. و اجادل عن تداعيات التجربة الهندية تركت اثرا يحتاج الى كثير من التأمل فى حال السودان ابان الحكم الثنائي خاصة.  و ازعم ان ثمة قياسات سودانية مع شبه القارة الهندية من ترحل عاصمة الامبراطوية او-و المملكة و من بدونه  العقائد و تسامحها معا مما احاول تفصيل بعضه تباعا. فكيف الفت تداعيات التطورات و التحورات الاقتصادية الاجتماعية التى حاقت بشبه القارة الهندية على بريطانيا ثم على المناخ الذى ساهم فى تيسير عمليات استيعاب السودان فى منظومة الاستعمار المتردد فالكلاسيكي و تباعا؟ 
الباب  الاول المبحث الثاني:
الفـصـل الثانى: تنويعات على لحن الاجتياح والهزيمة
اثرت الهند بصورة مباشرة وغير مباشرة على السودان منذ بدئ التاريخ. الا ان تأثير الهند على وادى النيل بقى غير متعرف عليه او منكور وربما كان مخفيا جراء كسل بعض المؤرخين عن نفض التراب عن تعالق وادى النيل باكرا وشبه القارة الهندية. وتجاوزا للثوب السودانى التقليدي ومراسيم الزواج والفركة القرمصيص وام صفيحة والحناء والبخور والجرتيق وبخ اللبن والحلى مثل الزمام والفدوة والحفلة الخ فللهند اثر بعيد فى وادى النيل مما مابرحت اثاره الزراعية على الاقل باقية من الساقية و المحراث و الجاموس البقرى. على ان اثر الهند الحديثة نسبيا فى السودان ترك بصمته على كل من الممارسات الاستعمارية وفيما الهمته افكار غاندى للمثقفين السودانيين كغيرهم من مثقفى العالم الثالث. وقد اخذ الاخيرون عن غاندى فكرة تنظيم مؤتمر الخريجين كما اخذ معظمهم الكثير من فلسفة غاندى والتنظيم فى مواجهة الاستعمار كالعصيان المدنى وارتداء ملابس من نسيج الدمور الخشن...الخ.
وقد تعاصرت سلطنة سنار عشية انقضاء ايام عزها الاول وممالك المغول فى شبه الجزيرة الهندية فى أوج مجد الاخيرة حتى بداية القرن الثامن عشر. كما يمكن عقد قياس بين ما حل بالسلطنة السنارية وبالامبراطورية المغولية فى شبه القارة الهندية وما حولها. وكانت مملكة المغول النبلاء قد امتدت من البنجاب الى فارس ومن لاهور الى دلهى وشملت كنوزا معمارية وغيرها من تاج محل الى كوهينور التى باتت جوهرة التاج الامبراطورى البريطانى. وكان تيمور لنك مؤسس امبراطورية المغول فى شبه القارة الهندية قضى وقد سقط من فوق درج مكتبة ليلا فورثه أبنه أكبر فى سن 13 عاما. وقد حكم أكبر اخر الملوك المغول النبلاء بمساعدة ولى عهد الا انه ترك بصمته فوق الامبراطورية فقد كان رماحا وكان لديه حاشية تتناسب طرديا مع سلالته وقدراته وكان بارون حرب وقد احاط نفسه مثلما فعل سلطان الفونج بجند مقاتلين جيدين. وكان أكبر -وهو من أحفاد جينكيز خان-أول من لقب بسلطان فصار اول السلاطين ولقب بالميرزا وكان يقضى معظم عمره يبحث عن مملكة الى ان أستقر فى كابول ثم هزم شمال الهند فى بداية القرن السادس عشر. وكان نسبه الى جينكيز خان كونه وريث شرعى يلهمه كتابة سيرته الذاتية التى راح يسجلها فى تركيا يتأمل فيها-ولم يفارقه الحنين لوسط اسيا حيث جذوره الاولى- معنى أن تكون اميرا مترحلا. فقد كان أكبر يترحل مثل المغول بعاصمته من كل مكان الى كل مكان داخل الامبراطورية فتترحل عاصمة  الامبراطورية معه اينما سار.
وكان أكبر يهزم ابان ترحله ويعيد هزيمة الولايات. وكانت عدة ممالك قد كونت فى ايران وفى وسط اسيا فى اوزبكستان وغيرها وكانت تلك الممالك مراكز قوى تتمدد وتتقلص مثلما كانت ممالك الفونج الصغيرة تفعل مما دفع أكبر الى التنافس معهم جنوبا وشرقا فهزم جزءا من الهند وحكمه لمدة 50 عاما قبل ان يهزم وينفى منها وجيزا الى ايران ثم الى كابول. الا أنه عاد الى الهند مرة اخرى. وكان أكبر خطاطا يحمل مخطوطاته معه اينما ذهب لانه لم يكن له بخاطره البدوى مستقر دائم. وكانت ثروته تأتى من الارض والعوائد على الارض من نقد ومحاصيل زيادة على النهب والسلب وكلما استقر الامن و تزايدت الارض المزروعة كلما تزايد مداخيل الخزينة الامبراطورية. وكانت الاخيرة تحكم بقبضة قوية وبدقة وبسجلات وايصالات. وكان الشيخ ابو الفضل بمثابة امير الخزانة. ورغم ان أكبر كان اميا ومصاب بمرض الثأثة الا انه كان كاريزمى ومن صلب شاعر عظيم وقد احاط أكبر نفسه بشخصيات مثل الشيخ ابو الفضل الذى يسر له فلسفه للحكم وادارة الدولة وقدم اخرون لاكبر فلسفات مالية معتبرة لم تكن اوربا تعرف لها مثيل.
وقد أفاد أكبر من فتح العالم الجديد بشراء الذهب والفضة عن طريق الدول الغربية والاحجار الكريمة من جاوا وكانت الاخيرة مركز الاحجار الكريمة. وكانت الامبراطورية مرتبطة بجنوب شرقى اسيا مثل سوماطرا. والغى اكبر الجباية و الجزية–او الدقنية Poll Tax-على غير المسلمين-و انشأ عقيدة جديدة أسماها الدين الالهى وفصل الدين عن الدولة. وقد ترجم الفلسفة والعلوم وحكمة السلطة الى الفارسية و كانت لغة القصر. و كان ابناء اكبر يطلق عليهم الجهانجية وكانوا يمرحون فى القصور الملكية بحلل غاية فى الابهة وكأنهم ممثلين. الا ان اكثر ما يذكر لاكبر هو اخر 20 عاما من حكمة اى منذ نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع عشر حيث بات تحت تأثير طائفة ايرانية تسمى النخبوية وهى طائفة علمانية دون ان يترك الاسلام. وكان الوزبر ابو الفضل وشقيقه فيزى يرون ان أكبر هو الرجل المثالى ويأتيه الحق فى السلطة من الله و ان حكمه و سلالته محميان بالرعاية الالهية. ولما لم يكن ثمة قانون او تقليد احقية الابن الاكبر فباتت الوراثة للغالب وقد قتل شارجهان اخيه ليرث الملك. و تقول سجلات Chronicles السلاطين حتى القرن الثامن عشر ان كل من يحمل دم جينكيز خان وتامبولين اى تيمور لنك له الحق فى وراثة الملك من الثروة ومن بين تصنيف الثروة المغولية ما يأت تحت المخطوطات السلطانية الملكية الامبراطورية التى تسجل سير ملوك المغول بتفاصيل التفاصيل من القصور و الاعمال الفنية مثل عرش الطاووس الى الجسور والاضرحة مثل تاج محل الخ. فلم تكن السجلات للتاريخ وحسب وانما للمباهات ازاء الخصوم ولترك انطباع امام السفراء فالملك يستعرض نفسه وسلطته وثروته بوصف كل ذلك دلائل على قوته.
وكان الغربيون يشيعون حسدا و ضعينة ان ثروة وجاه البلاطات الشرقية- من ملوك المغول الى العثمانيين- وكان الاخيرون يحكمون فى القرن السابع عشر ضعف رعايا الامبراطورية المغولية-لا تعبر سوى عن فساد و طغيان اباطرة المغول و العثمانيين على العامة فى مجتمع منقسم بين اغنياء و فقراء. وحيث راح المبشرون الكاثوليك و البروتستانت ينتشرون فى ارجاء الامبراطورية شأنهم شأن المغامرين والرحالة وشذاذا الآفاق والانغال راحوا يسيئون الى الامبراطورية والى المغول النبلاء. وكانت تقارير المبشرين والرحالة و غيرهم تصل اوربا مبالغة مشوهة-وقد راحت كل جماعة- وقد حمل كل منها أمتعة تحذباته- تعقد قياسات مختلقة بين ادعاءاتها والحياة فى شبه القارة تحت السلطة الاسراتية لملوك المغول. وفيما كانت كتابات الكاثوليك تدعى الاهتمام بالاحوال الدينية كان البروتستانت يدعون الاهتمام بالاحوال الاجتماعية والمظالم. ولم تلبث الامبراطورية ان راحت تتضعضع بعد اورينزيب فى 1707م وقد استغل الانجليز النظام المالى منذ نهاية القرن (18) فى تكريس توسع عسكرى غير مسبوق فى شبه القارة قضاءا على كل ما يدل على القارة بكاملها و خصما على خصوصياتها جميعا بخاصة كون اورنزيب كان قد بقى طويلا فى الجنوب وقد راح الافغان يتربصون به على نحو لم يتوقف وصولا الى نشوء الممالك الصغيرة خصما على الامبراطورية يتشجيع المغامرين الاوربيين.
الا انه حين نصب ديزرائيلى فيكتوريا امبراطورة على الهند كان يتعين على تقديمها للناس كونها بديلا لملوك شبه القارة الهندية النبلاء و اخر المغول. وكان الانجليز يلقبون ب"المغول البيض". الا ان توسع القراصنة والتوسع العسكرى الفيكتوري لم يملأ فراغا ثقافيا او فنيا ولا تعين على الانخراط الشخصى الذى عرف به المغول من الاهتمام بالاداب والفنون وجمع التحف واللوحات الفنية بالرعاية الملكية. ولم يلبث الراج Raj ان اجتاح ذلك كله فاقام امبراطورية مثلما فعل الاسبان فى امريكا الجنوبية حيث استيعاب المحكومين ثقافيا فاحلوا الانجليزية مكان الفارسية ضغينة على فارس و قد هزمت اسبارطا و روما. و كانت حروب الفرس و اليونان مهدت باكرا للاتراك-وقد تعرف الاتراك على انفسهم- و كانوا جزءا من الامبراطورية الفارسية بوصفهم ثقافة مميزة-هزيمة الامبراطورية الرومانية من بعد.
ومع ذلك فقد بقى معاصروا سقوط الامبراطورية المغولية والمحتفلون بالامبراطورية البريطانية يزعمون ان الاخيرة بدأت بالنقطة التى انتهت فيها الامبراطورية المغولية[7].
على انه من المفيد تذكر ان كل من الامبراطورية المغولية واطرافا من  فارس وشبه الجزيرة الهندية اثرت على اسلام الجزيرة العربية مما ذكرنا طرفا منه فى مكان اخر, كما اثرت على طبيعة الاسلام الشيعى والسنى بالتماس و بخاصة فيما اتصل بالطرق الصوفية فى المجتمعات السنية وصولا الى الاسلام السياسى مما ذكرنا ايضا فى مكان اخر. وأجادل ان التحولات الحالة فى الامبراطوريات الاسلامية بتنويعاتها الاسيوية والعربية كانت حرية بان تتبادل التأثير والتأثر فى زمان الازدهار بالتلاقح والتمازج والاستمداد المتسامح مرة وباستقطاب الناس فى مستوعبات مختنقة بنفسها وبما حواليها فى ازمنة الشدة وبداية نهاية تلك الكيانات الكبرى بصورة دامية احيانا. و لعل حاصل جمع تجليات زمان التسامح من ناحية وازمنة الشدة من ناحية قيمن بترك اثاره على تنويعات لاحقة من الاسلام بين كل من المدارس الشيعية و السنية. فما هو سفر تكوين بعض تلك التنويعات اللاحقة من الاسلام بطوائفه؟
العلاقة التناسبية بين الصوفية وبعض تنويعات الاسلام السياسى:-
مقدمة:
ازعم ان صوفية شبه القارة الهندية و فارس و اليونان تاثرت بصوفية و عبادات وادى النيل الاسراتى و العكس صحيح. فلصوفية  وادى النيل علاقة مباشرة و غير مباشرة بشبه القرة الهندية و فارس و اليونان. و كنت قد جادلت فى دراسة اخرى ان الصوفية اثرت فى معظم الفلاسفة اليونانيين رغم انكار الاخيرين لذلك بل و اعلان بعضهم مثل سقراط و ارسطو ذرايته بالصوفيين الينوانيين الكلاسكيين. فرغم ان سقراط كان يحتقر الصوفيين اليونانيين الكلاسيكيين الا ان سقراط فيما يبدو كان قد اخذ عن الصوفيين الاثينيين امثال هيبياس اوف اليس Hippias of Elis. و قياسا بقيت مفردة صوفى Sophist تعنى فى السياق الهيلينى الاثينى الرجل الحكيم. و ازعم ان  ارسطو تأثر كغيره من الفلاسفة اليونان بالصوفيين الكلاسيكيين امثال أناكساجوفيان Anaxagoran. الا انه كان ينتقد تعاليم الصوفيين من حيث أن الانسان يمكن ان يتعلم او بعلم نفسه الفضيلة Socrates also questioned the Sophistic doctrine that arete (that is, virtue) can be taught. . فقد كان يؤمن بان الفضيلة هبة من عند الالهة. وكان يعتقد فى خلود الروح على ان تكون روحا خلاقة بالفلسفة و الفضيلة و الفكر.
 و كان معظم الصوفيين الكلاسيكيين مترحلا كعهد الصوفيين ربما وكانت اصول بعض مدارسهم تصل بكل من مدارس شبه القارة الهندية الصوفية و مدارس فارس ووادى النيل الاسراتى حيث كان بعضهم يسافر ليتعلم على يدى احبار الاخيرين. و كان هيبياس اشهر الصوفيين فى اثينا-يقول بالرغبة فى الاستقلال الذاتى و الفردية المتأصلتان فى الانسان. و قال بعض الصوفيين ينبغى ان يعتمد الفرد على قدرته على الحكم انسانيا. فليس ثمة قوة عليا و لا رب فوق الجميع يفرض وجهة نظره او رأيه على الجميع و كأنهم كما قلنا سفر تكوين تفريد الفرد و عصر الانا. و كان الصوفيون الكلاسيكيون يتحدثون عن و يخاطبون و ينشرون مبادئهم و علمهم بين اؤلئك اللذين لم تتوفر لهم ثقة علية قوم اليونان من صفوة الاثينين فى انفسهم. و يثير الصوفيون الكلاسيكيون بهذا الوصف تساؤلات عديدة منها تعالق فكرهم بافكار اورتيس و من لف لفه من بعد من مفكرى ما يسمى "النهضة" و "التنوير" و الامبراطورية البريطانية مما يستحق التأمل طويلا.
و كان الصوفيون الكلاسيكيون اليونان عمليون راغبين عن اى من منطلقات الفلسفة المادية و نزوعها نحو التجريد و الاطلاق مما كان قد كرس الفكر الصفووى فى اثينا. فقد كان الصوفيون الكلاسيكيون يتعينون بالمقابل على نشر العلم بين الشباب اليوناني-بالضرورة -و توسيع مدارك الاخيرين الى ما وراء ما كان التعليم الالزامى ينشره بين الشباب. و كان التعليم الالزامى ينتهى فى سن الرابعة عشر. كما كان الصوفيون الكلاسيكيون حريصين على توسيع نطاق التعليم فلا يقتصر التعليم عندهم على صفوة صغيرة. الا انه ما انفك الصوفيون ان راحوا يناقشون و يحاضرون الناس فى الشك فقد ازعج ذلك الاثينيين و اثار خشيتهم على الديمقراطية مجددا. ترى كيف ان الديمقراطية اليونانية هشة و فاقدة الثقة بنفسها رغم ادعائها؟
و كان الصوفيون يحاورون فى معنى الاديان و الالهة و كان بعضهم يقول ان الالهة كائنات غير قابلة للتبيان و لا كنه لها و من ثم فلا يمكن ان تغدو موضوعا للمعرفة او للنقاش. و قد ترك الاخيران اثرا بين الاثينيين تمثل فى الميل الى الشك. و قد عبر ذلك عن نفسه فى تراجيديات يوروبيديس-و كان متأثرا بالصوفيين الكلاسيكيين-فراح يطرح اسئلة صعبة حول الالهة و الالوهية.  و كان الصوفيون يعتقدون فى ان الحقيقة فى نهاية الامر ذاتية و كان معظمهم يقول بعدم الاخذ بشئ قبل التأكد من صحته بالادلة. فليس ثمة قيمة ان يلغ الفرد فى ترف الاحكام القيمية و القياس على تجاربه هو الخاصة[8]. فكأن الصوفيين الكلاسيكيين كانوا الاباء الاوائل لكل من الامبريقية و رفض الاحكام القيمية. و مع ذلك فقد قال الصوفيون الكلاسيكيون–و كان معظهم واسع الاسفار و المعارف-باهمية ادارك ان شعوب اخرى كانت لها ثقافات و تقاليد تعمل بانسجام و تكامل. و قد  قالوا بان الحقيقة لدى فرد من ثم قد تختلف عن الحقيقة عند جاره. و مع ذلك فان تلك النسبية ينبغى الا تدعو الى الاستهانة برأى الاخر على انه فالصو[9]. و قد ردت تلك النسبية الصوفيين فى نظر اليونانيين الى الوقوع فى حظيرة او خندق سقراط و ارسطو مجددا فطردوا الصوفيين الكلاسيكيين. و حيث طرد اليونانيون بعض الصوفيين الكلاسيكين فقد كان الفلاسفة اليونانيون يكرهون الصوفيين و يحتقرون بعضهم. و لعل ذلك كان وراء طرد الصوففين من اثينيا. و و تظهر احبولة ديمقراطية اليونان فى طرد الصوفيين كبروتاجوراس Protagoras و اناكساجوراس Anaxaguras  من اثينا فى 432 قبل الميلاد. و مع ذلك فقد قد بقيت المؤسسة الصوفية التى لم يكن سقراط و ارسطو يستحبانها بعدهما. و رغم  ان تلك المؤسسة الصوفية اليونانية الكلاسيكية لم تلبث ان راحت تزوى جراء المدارس الفلسفية التى نشأت بتأثير ارسطو فى القرن الثالث(ق م) سوى ان الصوفية شبه القارة الهندية و فارس و منطقة الشرق الاوسط بقت تتنوع على نفسها ويتحور بعضها جراء تعالق بعضها بمؤسسة السلطة. فقد كانت بعض شرائح السلطة تتعين على تطويغ الطرق الصوفية لصالحها بان تكرس الميل نحو العزلة و الانصراف عن امور الدنيا بين العامة مما قيض ان يترك الناس السلطة و الجماعات الحاكمة و شأنها. و قد راحت الطرق الصوفية تنتشر فى المجتمعات العربية و الاسلامية عشية الانهيارات الكبرى لتلك المجتمعات و كان بعضها ينذر بذلك السقوط كما يلاحظ على عهد العباسيين و الايوبيين و ممالك الاندلس و سلطنة الفونج.
تعالق صوفية  شبه القارة الهندية و الطوائف الاسلامية 
 تنتشر الصوفية بمعنى الاعتزال و العكوف استغراقا فى  العبادة فى شبه الجزيرة الهندية التى كانت حرية بان تؤثر بصورة كبيرة على فارس والجزيرة العربية وغيرها من المجتمعات المحيطة بها رغم ان ذلك الاثر لم يقيض له الرصد و التحليل حتى اليوم بالقدر الكافى. وربما كان مفيدا اقتراح كون اسلام شبه الجزيرة الهندية حرى بان يتأثر بدوره باسلام الدول المحطية به مثل ايران و افعانستان و باكستان على الخصوص. و ربما دعى ذلك الاقتراح لافتراض ان صوفية شبه الجزيرة الهندية اقرب الى الطرق الصوفية الشيعية كما ان تأثير الهند على شيعة فارس قد يؤدى الى افتراض اخر. وربما كان الارجح ان ثمة افتراض اخر يشير الى تأثير و تأثر تلك المجتمعات ببعضها لقربها و اتصال حركة الناس بين حدودها من امبراطورية المغول. ولعل فكرة ان الصوفية تصدر عن استدعاء الفرد الروحية و تعتقه من ثم من ثقل مطلبات الدولة القائمة ومن الشواغل المادية معا حرى بان يرجع صدى العقائد الهندية مرة و يصدر عما يشاف العلمانية مرة اخرى.
ويقول البعض ان الصوفية الشيعية الايرانية تحض على ما يشارف العلمانية بتجاوز دولة الجمهورية الاسلامية وتشجع النزوع نحو التباعد عنها. ولعل مثل هذا القول ينطبق كما سنرى لا حقا على علاقة الفرد –فى مناخ النمط الشرقى على الحصول-بكافة الدول المركزية الخراجية على مر العصور حيث تباعد الجماعة و يباعد الفرد ما بين نفسه و الدولة باللياذ بدواخله استغناءا عن الدولة المركزية.
 ومن ذلك كيف يؤمن شيعة ايران فى تمثلات عقيدية تشارف نظيراتها فى شبه الجزيرة الهندية مثل الامام الطفل و الامام الذى اختفى و عمره 5 سنوات ليعود فتؤلف عودته تنويعة على تناسخ الارواح. ففى مقابل الزهد فى الجسد حتى الفناء فى الروح المتعبدة يستدعى بعض زعماء الشيعة الصوفية و غير الصوفية-سواء اصالة او براجماتية-الشهادة-الاستشهاد-مفتاحا للحرية و الجنة. كان الصبية يدفعون الى مقدمة الجيش ابان حرب الخليج الاولى فيتلقون انفجارات الالغام و فى يد كل منهم صورة الخمينى و قد اقنع ابائهم بان الشهادة فى سبيل ايران مفتاح كل طفل الى الجنة. و تكون الشهادة بالموت فى سبيل الوطن و بالتبتل و التقوى التى توصل صاحبها الى كل من محبة الوطن و الموت فى سبيله و الدعاء لخلاصه بايداع الرقى و التعاويذ فى ماء نافورة قرب مسجد مدينة كوم أو قوم. 
و ثمة صلة قوية بين الطائفة الشيعية و الصوفية و تنتشر الصوفية فى ايران مثلا كما لا تنتشر في مجتمع اخر. و هناك ملايين الشباب رجالا و نساء ممن يمثل خلودهم الى الافكار و النشاط الصوفى تعبير عن تركة صوفية ما تبرح باقية من حيث ان الصوفية تطرق بالفرد الى داخل الفرد فيملك الاخير من ثمة اعتاق نفسه من تطلبات السلطة القائمة بالنأى بنفسه عن الدولة و اعتباراتها. و يجد الصوفي فى العزلة سبيلا الى الانعتاق من وطأة الدولة و المجتمع معا. وليس ثمة غرابة فقد كان حكام بعض الدول الاسلامية مثل الايوبيين يغوون الناس بالتصوف و يدفعون لزعمائهم و يوقفون عليهم الاوقاف حتى يحض الاخيرون الناس على التصوف و الزهد و التقشف والعزلة و تجريد امور الدنيا و النزوع الى اللامادية بين الشباب. و كانت تلك الحركات فوقية تستدعى عقيدة تقول بترك الدولة و شأنها.
و قياسا كان الصوفيون الكلاسيكيون اليونان عمليون راغبين عن اى من منطلقات الفلسفة اللا مادية و نزوعها نحو التجريد و الاطلاق مما كان قد كرس الفكر الصفووى فى اثينا. فقد تعين الصوفيون الكلاسيكيون بالمقابل على نشر العلم بين الشباب-اليوناني-بالضرورة -و توسيع مدارك الاخيرين الى ما وراء ما كان التعليم الالزامى ينشره بين الشباب  الذىكان  ينتهى فى سن الرابعة عشر. كما كان الصوفيون الكلاسيكيون حريصين على توسيع نطاق التعليم فلا يقتصر التعليم عندهم على صفوة صغيرة. الا ان الصوفيين ما انفكوا ان راحوا يناقشون و يحاضرون فى الناس حول الشك مما ازعج الاثينيين و اثار خشيتهم على الديمقراطية مجددا.
و كان الصوفيون الكلاسيكيون يعتقدون فى ان الحقيقة فى نهاية الامر ذاتية و كان معظمهم يقول بعدم الاخذ بشئ قبل التأكد من صحته بالادلة. فليس ثمة قيمة ان يبالغ الفرد فى ترف الاحكام القيمية و القياس على تجاربه هو الخاصة. فكأن الصوفيين الكلاسيكيين كانوا الاباء الاوائل لكل من الامبريقية و رفض الاحكام القيمية. و مع ذلك فقد قال الصوفيون الكلاسيكيون–و كان معظهم واسع الاسفار و المعارف-باهمية ادارك ان شعوب اخرى كانت لها ثقافات و تقاليد تعمل بانسجام و تكامل. و قالوا بان الحقيقة لدى فرد من ثم قد تختلف عن الحقيقة عند جاره. و مع ذلك فان تلك النسبية ينبغى الا تدعو الى الاستهانة برأى الاخر على انه فالصو اى من معدن رخيص. و قد ردت تلك النسبية الصوفيين فى نظر اليونانيين الى الوقوع فى حظيرة او خندق سقراط و ارسطو مجددا فطردوا الصوفيين الكلاسيكيين.  ذلك ان الفلاسفة اليونانيين كانوا يكرهون الصوفيين و يحتقرون بعضهم. ترى كيف ان الديمقراطية اليونانية هشة و فاقدة الثقة بنفسها رغم ادعائها؟
و تظهر احبولة ديمقراطية اليونان فى طرد الصوفيين كبروتاجوراس Protagoras و اناكساجوراس Anaxaguras  من اثينا فى 432 قبل الميلاد. و كان الاول يحاور فى معنى الاديان و الالهة و كان يقول ان الالهة كائنات غير قابلة للتبيان و لا كنه لها و من ثم فلا يمكن ان تغدو موضوعا للمعرفة او للنقاش. و قد ترك الاخيران اثرا بين الاثينيين تمثل فى الميل الى الشك. و قد عبر ذلك عن نفسه فى تراجيديات يوروبيديس-و كان متأثرا بالصوفيين الكلاسيكيين-فراح يطرح اسئلة صعبة حول الالهة و الالوهية.
و كان الصوفيون الكلاسيكيون يتحدثون عن و يخاطبون و ينشرون مبادئهم و علمهم بين اؤلئك اللذين لم تتوفر لهم ثقة علية قوم اليونان من صفوة الاثينين فى انفسهم. و يثير الصوفيون الكلاسيكيون بهذا الوصف تساؤلات عديدة منها تعالق فكرهم و ما يسمى باوليجاركيات البندقية و حزب البندقية و فلاسفتها مثل جياماريا اورتيس و من لف لفهم من بعد من مفكرى ما يسمى "النهضة" و "التنوير" و الامبراطورية البريطانية مما يستحق التأمل طويلا.
 و يقول الصوفيون الايرانيون مثلا ولعلهم يتشاركون و صوفيو اليونان اصول قديمة من نشأة الصوفية يقولون ان الشهادة هى مفتاح كل فهم للحرية و من ثم للجنة.  و ينتشر هذا الهاجس بين شيعة ايران والمجتمعات المتاخمة للهند على الخصوص. و يتصل ذلك المفهوم بدوره بمفهوم الامام الخفى الذى اختفى فى سن الخامسة و الذى سوف يعود. و تنتشر الطرق الصوفية فى ايران على نحو ملحوظ و يشار الى كيف ان بمدينة قوم المقدسة مثلا الاف الطرق الصوفية حول المسجد الاكبر و كان اتساع انتشار الصوفية فى ايران مثلا بعد الحرب الايرانية العراقية التى يوقن الايرانيون انها فرضت عليهم تقصدا لتدمير ايران او النيل منها على الاقل. و كانت الحرب وراء تزائد قوة الحس القومى لدى الايرانيين كما دفع أية الله الخمينى الى تصدير الثورة الى الخارج فى مثال حزب الله اللبنانى فى ثمانينات القرن العشرين و فى مساندة حركة الانقاذ السودانية-يوليو 1989-فى اوائل ايامها بصورة معلنة حتى منتصف التسعينات على نحو لاحظه السودانيون. كما فى مساندة حركة تحرير فلسطين-حماس-رغم ان حماس و الانقاذ السودانى سنيان.
 تعالق و تناحر الصوفية و الاسلام السياسي:
يقول البعض ان الخطأ الذى يقع فيه الاسلام الصوفى كافة انه يتناسى ان حركة الاسلام السياسى صوفية فى اصلها. و العكس صحيح. وقد اضطر الاسلاميون السياسيون فى الجزيرة العربية على اخفاء البعد الصوفى لهم. و يختلف المفكرون و العلماء حتى اليوم حول اصل كلمة صوفى فهناك من يقول انها ترجع الى رداء العابد المتبتل كون بعضهم كان يرتدي الصوف ويقال ان حسن البصرى كان قد رآى رجلا من هؤلاء فاشار اليه بالصوف. وتعقد الصوفية فى افضل تعريفاتها بين الزهد و المحبة و المعرفة. والصوفية فى بعض التعريفات هى العلم الذى يتعين على صلاح القلوب والنفوس. وفى زمان يقدر عدد المنتسبين الى الطرق الصوفية فى العالمين العربى والاسلامى بما قد يفوق 20% من السكان فما احوج الصوفية الى ملئ الفراغ فى حياة الناس المعلومة بكل ما هو مادى وانقسامةا وتشطيرها وتفريدها للافراد فتشتيت كل ما هو الجماعى بينهم على كافة الاصعدة من الاسرة و الجيرة والحى إلى المجتمع والامة.
وتعنى الصوفية لدى العلماء الزهد. ورغم أن مفهوم الصوفية لم ترد فى القرآن بمعنى الزهد الا مرة واحدة فى قصة بيع يوسف وشراءه من قبل قول زاهدين فيما يحل بيوسف. على ان الصوفية بمعنى الزهد ذكرت ضمنا فى القرآن عدة مرات و كان البنى صلعم و الصحابة يثابرون على ذكر الزهد فى الحياة الدنيا ومتاعها الزائل كون ذلك من الايمان والتقوى. ولم تعبر الافكار الصوفية عن نفسها فى القرن الاول عبورا بمنتصف القرن الثانى الهجرى. ولم تلبث ظاهرة العكوف والانعزال من اجل التعبد ان ظهرت فى القرن الثانى والثالث الهجريين. وفى القرن الرابع ظهرت الطرق الصوفية وراح كل قطب او شيخ طريقة يتخذ له مريدين. وحيث كان القطب يروى عن النبى والصحابة والتابعين والسنة فقد بات اقطاب وشيوخ طرائق القرن الرابع وتباعا يروون عن فلسفاتهم هم وعما يعتقدون فى تفسير القرآن والسنة. و كان مريدى كل قطب او شيخ طريقة حريون بان يغدون اتباعا للقطب والطريقة فيما كانت الطرق تتنافس مما ادى الى تشرزم المسلمين وضياع وحدتهم. وقد شجع ذلك النشاط على:-
- الولاء للقطب او شيخ الطريقة وكأنه بديل عن الله سبحانه و تعالى.
- انتشار سلطة الشيخ على المريد والوساطة وليس فى الاسلام وساطة بين الفرد وربه.
- التحريف والبدع وكل ما هو دخيل على الاسلام.
وكان للحكام فى بعض الخلاقات الاسلامية دورا فى انتشار الطوائف شغلا للعامة بانفسهم فترك الحكام و شأنهم مثلما نرى الى اليوم فى كل مكان باساليب مختلقة ومن وراء دعاوى متغايرة. و كانت "طوائف متنازعة قد انتشرت بتشجيع مباشر من الحاكمية القائمة بصرف الناس عن شئون الدنيا وعن مواجهة الحكام الى شئون الآخر ة وانتظار الفرج الغيبى. وقد انتشرت تلك الحركات الغامضة لان الحكام لم ينفكوا- بتحريض واختراق مستشارين مشبوهين للسلطة القائمة-أن وجدوا فيها ظاهرة مثالية تأسر العقول و تصرف الناس عن شؤون الدنيا ومباذل الحكم و جور الحكام".[10]   
ويقول البعض ان تشوه الصوفية كان جراء ثقافات مجتمعات غريبة كان الاسلام قد حل  بها غب الفتوحات الكبرى. و كانت الاولى حرية بان تؤثر فى الثقافة الاسلامية. وكان لازدهار حركة ترجمة الفلسفة اليونانية بدوره اثر فى حقن الاسلام بافكار غريبة عليه. على ان ثمة ما هو اخطر فى تفسير هذه التداعيات مما يتصل بنشاط بعض طوائف اليهود فى بلاد المسلمين وما كان لدور الاخيرين بين حكامهم من اثر بعيد فى تاريخ الخلاقات المشرقية والمغربية والغربية جميعا من العباسية خاصة وربما منذ مقتل عثمان وحلول الخلافة الاموية حتى سقوط الاندلس و هزيمة الخلافة العثمانية. مثابرة بعض اليهود على بث "ما عندهم من أساطير" فى تفسير النص حتى بات "التفسير ... يتضخم طبقة بعد طبقة. و فى كل طبقة يتصل افرادها بكثير من مسلمة اليهود والنصارى والمجوس ... وهؤلاء كانت معلوماتهم يروونها عن التوراة والانجيل" حتى اصبح ادب الرواة المعدودة من الحديث يحتوى على ادب دينى يهودى وقد بات قسم كبير من الادب الدينى الاسلامى يعثر عليه فى هذه المصادر اليهودية"[11]. وكأنى بتلك الاحداث تنويعات باكرة على الافانجلية الانجلوامريكية المتطرفة وسعيها لمقاربة الاسلام باعادة تشكيله وتحريره من الآيات التى يدعى انها تحض على كراهية الغرب الى محأولات كتابة العربية بالاحرف الاقرنجية الخ. 
                  - قياسات الأديرة والخلأوى: العبادة و التجارة:-
ربما أمكن افتراض وجود تشابه بين بدأوة الصوفيين الأعرابية وبين حركات الرهبان الأوربيين بوصف الأخيرين بدورهم أعراب يترحلون فينتشرون وما ينفكون يستقرون خصما على المنتجين المستقرين على السلطة الوضعية المستقرة. وربما قيض انتشار الرهبنة في مواجهة وإبان عهود انحطاط المسيحية الغربية والكنيسة إلى ذلك قياسا بين كل من نشوء الرهبنة وحركات الرهبان المدنية في كل مكان في أوربا من ناحية وبين الطرق الصوفية الإسلامية المالكية التى يصدر بعضها عن المذهب الظاهرى  Formalist المتشدد فى الالتزام بالاصول من ناحية أخرى. فقد تقيض المقارنة فهم بعد من إبعاد الأخيرة وقد يفسر انتشارها إبان عصور انحطاط الثقافة الإسلامية وقد واجهت بدورها عهود فساد السلطة مع نهايات الخلاقات الإسلامية. و أزعم أنه بقدر ما تكون أوربا قد تأثرت بالعصر الذهبي للثقافة الإسلامية وقد جأورت الأندلس في أزهى عصوره على النحو الذي افصله في مكان آخر لا يستغرب أن تكون الثقافة الإسلامية في عصور انحطاطها قد تأثرت بدورها سواء بمعاصرة أو/و بحصار المسيحية الغربية. فقد استقر المجتمع الاندلسى على حدود دول أوربا الجنوب والشمال غربية على مر 800 عام. وكانت أوربا قد عاصرت الإسلام باكرا غب سقوط فيما خلا انقطاع جراء زحف تيمور لنك في 1402 لتعود فتتصل مجددا بعد 70 عاما حتى 1922 فسقط بقيام جمهورية اتاتورك العلمانية في 1938. ذلك أن الخلاقة العثمانية وصلت أوج ازدهارها على عهد سليمان الرائع في القرن السادس عشر وسيطرت على شرق البحر الأبيض ووسط أوربا فالبلقان فقد تتمدت في أوربا الوسطى مهدده غربها.
وكانت المسيحية الغربية إبان الأندلس قد اعتورها وهن عميق جراء جملة من العوامل الطبيعية والديمغرافية كالأوبئة الخلخلة السكانية إلى العوامل الاقتصادية كسقوط المحاصيل والسياسية كتنافس العروش الأوربية فيما بينها وفي نزاعها مع الكنيسة والخ. ولم تكن المسيحية الغربية قد تخلصت بعد من رواسب الوثنية والأساطير كما يؤكد أهم وأقدم مؤرخ مسيحي وهو بيدا Baeda ويسمى أيضا بيد المبجل Venerable Bede– 673- 735 . وكان بيد مؤرخ الانجلوساكسون وتلميذ القديس بينيديكت-628-689. وكان الأخير مؤسس الطائفة البنديكتية وتعتبر سفر تكوين مفهوم الرهبنة ونشوء الأديرة في عموم أوربا، وقد انتشرت الأديرة في منتصف القرن الثاني عشر واحتكرت الإيمان في منتصف القرن الخامس عشر. المهم كان بتيديكت فتلميذه بيد الفضل من كتب بشأن القضايا المثيرة للجدل في سفر الرؤيا وسجل بيد صورة الجنة المسيحية في القرن الثامن الميلادي بوصفها تجمعا لكافة الأيقونات المسيحية والوثنية وقد جلست في السماء بوصفها جماعة لا تخاف شيئا[12].
لم تكن المسيحية الإنجليزية مسيحية صريحة يقوم عليها رهبان يقرأون الإنجيل بل بقيت صور الحرب وشرب المنتصرين من دماء المهزومين ولعب الكرة بجمائم الأعداء تتجأور في الأديرة مع صورة الحكماء الثلاث يحملون المر والمسك والبخور للمسيح الطفل في المزود. ولم تنفطم المسيحية الانجلو ساكسونية مثلا من البربرية وأكل لحوم البشر فقد ذبحت قوات الصليبية الثالثة 3 آلاف من الأسرى المسلمين نساء وأطفال ورجال سقطوا سبايا لريتشارد قلب الأسد إبان اقتحام قلعة عكا واكل بعضهم لحم المسلمين شواءا. و كان فرسان الصليبية من جند الأديرة ينتمون إلى طائفة مسيحية و يشار إليهم ب"البررة" أوالمحسنين Hospitallers ويتفرغ أعضاء تلك الطائفة لقتال الكفرة وأعداء الكنيسة ويطلق عليهم Crack de Chevaliers ويسمون أيضا فرسان الكهنة، ويتفرغ الاخيرون للعبادة. ويلاحظ كيف قد يتمثل فرسان سفر الرؤيا في تنويعة على الجند البررة أوالخيرين ويقومون بغوث النصارى ومطاردة خصوم المسيحية. المهم أقام أعضاء طائفة الجند البررة المذكورين أعلاه في ممالك الفرنج بعد الصليبية الثانية.
وكان الصليبيون يعتقدون أن أكل لحم المسلمين حلال بل ثواب في الله والجنة . ولم تكن تلك القوات انفطمت بعد من البربرية فقد كانت من أكلة لحوم البشر وقد سلقت القوات أسرى المسلمين وشوت الأطفال على الخازوق. فقد بقيت المسيحية الغربية تستدعى دموية العداء من الوثنية ولم تمنع النصرانية العصف العنيف بالغرماء والعامة والكفرة والوثنيين فيما راحت الطوائف المسيحية تواجه بعضها. وكان الإنجليز يصدرون عن ارث دموي عنيف اتصل بحروب الطوائف الدينية و بالتشدد الديني الأوربى وقد اتصل على مدى 1000 عام. وكان اتصال عبادة آلهة الفايكينج والانجلز Angles والساكسون الوثنية أهم الصعوبات التي واجهت المبشرين المسيحيين في الجزر البريطانية مثلا. ولم يكن من الحكمة بل كان من الخطر تدمير الآلهة الوثنية أو حتى التعرض لها.
كان العامة وبعض ملوك الانجلو ساكسون يحجون حتى القرن الثاني عشر إلى الأضرحة والمحاريب الوثنية ويصلون لروح قاتل صول حتى ينصرهم على خصومهم ويقدمون النذور ويتبرعون بسخاء للآلهة الوثنية فيما أكسب أبطال الانجلو ساكسون الوثنيين روحية مسيحية. وعندما حلت المسيحية أضحت بعض الآلهة الوثنية الرب المسيحي وبقيت أسماء الأسبوع وعيد الفصح وغيرها تتصل بالعبادات الوثنية. ولم يدمر المسيحيون المعابد والأضرحة الوثنية بل بنيت الكنائس المسيحية الغربية كنظيراتها فوق المعابد الوثنية مثلما أقيمت الكنائس فوق المعابد الفرعونية في وأدى النيل والمساجد فوق الكنائس من بعد وبقى الناس يشيرون للمسجد بالكنيس كما في مروى شمال السودان مثلا[13]. وكان المسيحيون الانجلو ساكسون يأخذون عن أسلافهم الفايكينج ملامح آلهة الأخيرين الوثنية وشعائرها التي تتصل بالبحر وبالسفن التي تمخر بالفرد بحارا من الدنيا إلى الآخرة وملامح الجنة وقد بقيت صورة جنة المسيحيين الإنجليز لوقت طويل تصدر عن فتشارف جنة الوثنيين وتقاربها. وكان القس جريجورى رأى صبية إنجليز شقر زرق العيون يباعون رقيقا في أسواق روما فرق قلبه لحالهم وراح يبتاع اؤلئك الصبية وينصرهم واسماهم "الملائكة" إلى أن نذر نفسه لرسالة التبشير في قومهم. فأرسل البابا جريجورى مبشرين ورومان إلى انجلترا فيما سمي بحملة التبشير الجريجوري.
 لكن القس انجايل Engail -وقد ووجه بصعوبة تنصير الإنجليز-لم يلبث أن كتب لبلاط شارلمان مؤسس المسيحية الغربية في 779 مشيرا إلى أن "القسس ينفقون الوقت في الحفلات الجنسية بعد الصلاة وقراءة الإنجيل". وقد بقيت مسيحية الجزر البريطانية تصدر عن رواسب وثنية فتعصى الفاتيكان أحيانا وصولا إلى خروج هنرى الثامن على البابا في القرن السادس عشر وقد اخترع الأخير له طائفة تخصه تيسيرا لزيجاته المتعددة والعصف بخصومه الكاثوليك ولتبرير تجأوزات العرش للكاثوليكية والاستيلاء على ثرواتها بحرمان كل من المقر المحلى والبابوية من النذر والأوقاف والحجاج. وما أن انتشرت الأديرة حتى أنشأت جماعات الرهبان مزارات وأضرحة في انجلترا مثلا في 1447 و راحت تحض الناس على الحج. وكان الحج قد انتشر في أوربا فبات مصدر ثروة عظيمة، وكلما أشيعت الأساطير حول سر طريح باتع كلما اقبل الناس. وكانت الأديرة تتبارى في اجتذاب الحجاج وتختلق مواسما وقد جعلت الحج من شروط الإيمان والتقوى. وكانت بعض المزارات تدعى ملكية بقايا الصلصال المتبقي بعد أن صنع الرب الخليقة وكان بعضها يعرض "محبوكا" Knitting غير مكتمل زعموا انه من صنع يد العذراء.
على انه ما إن بات الرهبان على ثراء فاحش وأخلاق اشد فحشا حتى راح الناس العاديين يناصبونهم العداء ويتهدونهم ويثورون على الكنسية، و كانت تتواطأ مع الرهبان، فلم تنفك الأديرة أن تحولت قلاعا يحتمي بها الرهبان من عامة الناس المؤمنين. و كان مقام البابا-و قد راح الأخير ينافس العروش على السلطة والثروة- قد بات بدوره حصنا منيعا يعيش خلفه رجال الرب وخزانات تفيض بالذهب والفضة وأنواع الثروات التي لا مثيل لها. وكانت الأديرة قد تمثلت في كل من ثقافة الرهبنة التي لم تنشأ حتى القرن الخامس الميلادي وفي تعاليم القديس بينيديكت Benedict. فقد بدأ بنيديكيت الراهب الايطالى628-689 الرهبنة في مواجهة فساد البابوية وكانت الأخيرة تتنافس مع السلطة الوضعية فتهافتت على الثروة والسلطة. و قد اختار بنديكت الحياة بعيدا في كهف في الجبال. وعندما صار له أتباع كثر راح بنديكيت ينظمهم في مجتمعات صغيرة، وعلمهم آداب الرهبنة من الصمت مما يرجع إليه نشوء لغة الإشارة تجأوزا للصمت المطبق أثناء الطعام الخ. وقد انتشرت تنظيمات الرهبان ولغة الإشارة وغدت للأخيرة تعاليم مكتوبة في كل مكان وغير ذلك من تقاليد الرهبنة في كل أوربا. وكان بنيديكت قد حض الرهبان على الابتعاد عن العالم المادى وتعليم الناس الصلاة والتعبد تقربا للرب فنيل الثواب. على انه ما إن بات التعبد ضامنا للتقرب من الرب ونيل الثواب حتى ارتفعت شعبية الرهبان.
وحيث لم يكن للبعض كالفرسان وكبار التجار المترحلين وقتا للتعبد أو كان يملك مالا راح الاخيرون يستأجرون الرهبان للصلاة نيابة عنهم. ولم يلبث استئجار الرهبان للصلاة نيابة عن الفرسان وامثالهم ان انتشر وبات رمزا للوجاهة. فقد راح الاثرياء يقبلون على شراء الثواب فتصدقوا على الرهبان وراحوا ينخرطون في الانفاق على الاديرة وبناء الاضرحة تقربا من السماء واستثمارا في الاديرة حتى يضمن الرهبان لهم الجنة والرزق معا. ولما كان الرهبان يمنحون ويمنعون الثواب فقد احتكروا السماء والارض معا فباتوا بمثابة الأولياء الصالحين لا يتعينون على ابواب السماء وحسب بل يوزعون الحظوظ والسعد وحصص الثواب الدنيوى من الصيد الوفير إلى التجارة وغيرهما. كانت الفكرة الأولى للرهبنة قامت على حياة التبتل والتقشف والتفرغ للعبادة اكتفاءا بصدقات المحسنين الا ان الرهبنة ما انفكت ان راحت تستدعى مفاهيم عبرانية تعود إلى مفهوم الفقر والتعبد والصدقة. لقد وجدت ظاهرة الصدقة من اجل الخير والثواب في المسيحية والاسلام الا ان تلك الظاهرة لا توجد في اليهودية. فليس هناك ظاهرة للصدقة أو الفقراء في التقاليد اليهودية مثلما في الاسلام والمسيحية والبوذية حيث يتسول الصوفي أو الراهب أو الزعيم الروحى من الناس طعامه.
 بل تعتبر ظاهرة الفقر ماسة بالكرامة اليهودية ويفعل اليهودي كل ما من شأنه ان يرفعه من وهدة الفقر ويغدو الثراء ترتيبا لمنتهى الكرامة. ويعترض اليهود على التسول تفرغا للعبادة إذ يعتبرونه بمثابة اهدار لطاقة العابد وانفاقا لوقت العابد في غير العبادة. والواقع ان الصوفي يضمن رزقه من العامة برحابة صدر بل بحماس يعبر عن التكافل. وتعتقد بعض الاديان في العطاء فيمنح العاطى اكثر مما يعطى الآخذ بكثير. ولا يقبل اليهود فكرة الاعتماد على غيرهم في زرقهم وطعامهم بل يفضلون ان يتفرغوا بالاستغناء عن غيرهم للعبادة والتوجه إلى الله. ولا يرى اليهود في المادة أو الاستحواذ والملكية دنس ولا يترفعون عنها مقارنة مع ميل الصوفيين في العبادات الأخرى للترفع عن المادى تطلبا للروحى. ويقوم الحاخاميون باعمال موازية حتى لا يعتمدون على غيرهم. ويوجد تقليد في الشريعة الحاخامية يدعو لتكريس الذات كمستقلة قدر الامكان. ويعطى اليهودى الطعام للجائع فتلك صدقة لوقتها موقوتة لا تتجأوز اليوم سوى انهم لا يعطون ما قد يؤدى إلى اثراء المتسول مثل اعطاء الملابس. والكلمة العبرية للصدقة "صدقة" ومعناها العدالة الاجتماعية. وهناك مثال يهودي يقول إذا صادفت متسولين أحدهما غنيا والآخر فقيرا فأعطى الغنى أكثر لأن الأول يعاني من الاحساس بعدم الكرامة فقد تعود على الكرامة في حين ان المتسول الفقير لا يعرف الكرامة و لا يفتقدها[14]. وتقول اليهودية بعدم ترك اليهودى يفتقر بل يعتبر اليهودى مسئولية الجماعة بحيث ينبغى اغناءه حتى يتصدق على غيره. المهم اثرى الرهبان حتى ابتاعت بعض الاديرة مدنا واقامت مدنا وقلاعا واستفلح الرهبان كروما وقد أوقف عليهم الاثرياء من الأراضى والضياع ما لا يدانيه اقطاع. على ان احتكار الاديرة والرهبان للثروة و السلطة الدينية كان حريا بأن يثير حفيظة الفلاحين والعبيد وبعض اعضاء الشرائح "الوسيطة" بل بعض الاثرياء. فقد ادرك العامة ورجال الأعمال ان الرهبان- وقد باتوا هم أنفسهم رجال أعمال- يرهبون المؤمنين والكفار جميعا.
وكانت حركات رهبانية متشددة ظهرت باكرا في 1132 و قد اتسعت حركة هؤلاء الرهبان في كل أوربا. و كان رهبان بعينهم قد جاؤوا من كليرمونت  Clairmont  فنشروا تعاليم الصلاة وتعينوا على تشجيع طابع معمارى اخذت عنه كافة الأديرة لم ينفكوا ان اثروا فى كل شيء. و كان الرهبان المذكورون يقومون على مشاريع منظمة حيث كان رجال الدين محنكين في أمور الدنيا والمال والأعمال كما فى امور الاخرة. فقد تعين الرهبان على اختراعات تكنولوجية سبقوا بها الثورة الصناعية من صهر الحديد والصناعات "الثقيلة إلى توفير الماء الجاري بالصنبور في الأديرة الخ. وباتت الأديرة أكثر بهاءا وفنا وأجمل معمارا من أى وقت مضى فيما أثرى الرهبان على نحو غير مسبوق فتخلوا عن حياة التقشف والعزوبية والتبتل. بل بادر بعضهم أو تورط في تجارة الرقيق الأبيض[15]. ولم يلبث الفلاحون "الأحرار" والعامة "الأشرار" Villains والعبيد أن راحوا ينتظمون للهجوم على الأديرة والكاتدرائيات في عموم أوربا ومنها مثلا كاتدرائية كانتيربرى. و قد قطع ثوار تابعون للملك هنرى الثانى رأس توماس بيكيتThomas a Becket -118-70- باسم الملك وكان بيكيت رجل دولة و مفكر و بات وزير مالية هنرى الثانى فى 1162 ثم رئيس أساقفة كانتيربرى.
و لم يخلو الامر نهب دور العبادة من الاديرة و الكنائس الكاتيدرائيات و سلب كنوزها من ان لآخر. ولم تنته سلطة الأديرة الكاثوليكية والأساقفة إلا بعد أن انفصلت بريطانيا على عهد هنري الثامن عن البابوية في روما واعتناق العرش الانجليزي البروتسانتية فبات الملك من يومها رأس الكنيسة. و كأن هنرى الثامن سيس البرتستانية بغاية تقنين مشاريعه الخاصة. فما ان بات تفسير الشريعة المسيحية الغربية بيد الملك حتى راح الاخير يسوغ افعاله من تطليق و الزواج ممن يريد و تجريم خصومه و القضاء عليهم وصولا الى اعلان الحروب و فرض الضرائب على الامراء الاقطاعيين و العامة والاقنان جميعا بلا حساب.
وتجدر الإشارة بإيجاز إلى أن بعض المتصوفة كان قياسا من ملاك العبيد كما سنرى ويتهمهم البعض بتجارة الرقيق بخاصة في النساء وقد امتهن معظمهم التجارة واحتكر حراسة الآبار التي تقع على طريق قوافل السلطة الوضعية وادعى لنفسه إدارة العدالة وارهب السلاطين الخراجيين المركزيين حتى أوقف الاخيرون عليهم الأوقاف صدقة فبات بعض المتصوفة تباعا أكثر سلطة وثروة من السلطان وملوك الأقاليم الصغار. وباشر معظم المتصوفة في السودان التجارة واحتكروا إدارة العدالة.... الخ ولم يلبثوا أن استلبوا ملوك الفونج المتأخرين كغيرهم من ملوك وأمارات السواحل الأفريقية الشرقية والغربية من السنغال وموريتانيا إلى الموزامبيق. ويقول أوفاهى إن حكام الفونج كانوا غالبا ما يحأولون استباق غلواء تطلب الصوفيين بتنصيب الأخيرين حكاما على أراضى الوقف التي انتزعوها ابتزازا من الحكام الوضعيين إلا أن ملوك الفونج نادرا ما نجحوا في مغالبة الصوفيين. و تقف حكاية صغيرون مع احد ملوك الفونج نموذجا نمطيا لغير صغيرون من الصوفيين. فقد جأر الملك سلطان-ولم يجد سبيلا إلى مغالبة صغيرون " فيما خلا موقعا لم يحتله الصوفيون أومسيل لا يمتلكونه لا اطمح في أكثر من مثوى أخير وحسب. أعطوه كل الأرض التي يطلب وارسموا له حدودها"[16].
تلكم كانت الطريقة التي تجأوزت بها سلطة الصوفيين سلطة ملوك الفونج, "فرغم أن الاخيرين كانوا قد تأسلموا بلا تحفظ واستدعوا دور حامى الإسلام الأورثوذكسى ورغم أنهم تعينوا على الانكباب على دراسة الشريعة الإسلامية سبيلا إلى حق مشروع في إدارة العدالة إلا أن كل ذلك لم يحمهم من غلواء مزاحمة الصوفيين" الأجانب ولم يكونوا قد حطوا على ارض الفونج سوى لسنوات. ومع حلول "عام 1780 باتت السلطة على الشاطئ الشمالي للنيل بين الدبة والقرير على الأقل في أيدي عدد من الطرق الصوفية والطوائف الدينية"[17]. وكانت الطرق الصوفية انتشرت في السودان مثلا وقويت في بداية القرن السادس عشر حتى تمت أسلمة سلطنة الفونج رسميا في 1504 وقد تسأوق ذلك التاريخ وسقوط غرناطة باحتكار إدارة العدالة وبتنظيم مليشيات حراسة الآبار على طريق قوافل التجارة "العالمية"-بمعنى تجارة السلطان المركزية بوصفها عابرة للحدود القبلية والإماراتية الخ-مما أعالجه في بحث آخر. المهم كانت مغبة ذلك جميعا على الممالك الإسلامية بتنويعاتها الأصلية من الخلافات الرشيدية إلى الأندلس وممالك الفونج المؤسلمة على نحو فطير Pristine  وغيره من المجتمعات التي تأسلمت متأخرة حرية بان تكاد تكتسح أطراف النمط القائم و قد اخترقه نمط إنتاج "جديد".
وازعم أن من المعروف، المسكوت عنه ، أن بعض أعراب الأندلس دخلوا السودان واستقروا به نهاية القرن الخامس عشر وعشية أسلمة السودان الفونجى في 1504 . وقد تأسلم بعضهم في الأندلس أو في شمال أفريقيا وتأسلم بعض أعراب السودان اليهود إبان المهدية وقد بقي بعضهم منغلقا على نفسه حتى المهدية وربما وصولا إلى الحكم الثنائي. وازعم أن بعض الأفراد والجماعات المذكورة جاءت بنمط إنتاجها التقليدي كالتجارة-العالمية بالوصف أعلاه-والربا. وقد استقر الربا في تنويعة مسودنة باسم نظام الشيل في الحضر بحض الحكام على الصرف البذخى بالاستدانة والائتمان من المرابين الكبار فيما ورط المنتجين الصغار في المديونية الريفية حتى اليوم. فقد كرس الاستعمار بوصفه نمط لا إنتاج أعرابي الشيل والدقنية وحق الأربعاء وحق الفاس والنفير ولم يغير حتى أسمائها. و تسمى الدقنية ضريبة الرؤوس احيانا الا ان الاخير هى على رؤوس الماشية. اما الدقنية Poll Tax فهى ضريبة على كل بالغ نمت لحيته و كان الانجلوساكسون يفرضون ضريبة على كل من نمى شعر عانته ذكرا او انثى وكان جباة الضرائب يتحققون من ذلك بانفسهم بمصابيع فى الليل او على ضوء النهار. هذا و قد كرس الاستعمار الخراج وإن غير اسمه أولم يغيره  فخلق مجاميع محلية تمأسست على تلك التنويعات السابقة على الطبقات السباقة على الرأسمالية في السودان وبارك مشاريعها ويسرها لها بلا تحفظ. ولا غرابة فالاستعمار يخلق اشباه مشوهة عليه في كل مكان.
وازعم أن أوربا الغربية كانت كمجاميع سلطة وأفراد قد تعينت إعادة إنتاج تنويعات من البدأوة الأعرابية بوصفها سبيلا إلى الثروة والسلطة. ولم يكن غريبا أن تتمأسس بعض المجاميع السلطوية السودانية على الربا-الشيل-بالوصف أعلاه-فتؤلف تشكيلة اعرفها بالتشكيلة اللا اقتصادية. وكنت قد بحثت فيها في الجزء الأول لما أسميته قاموس الاستحواذ وارتهان البدائل بتنويعاتها. وازعم أن نمط الإنتاج الاستعماري تمثل في تنويعة على ما أسميه نمط الإنتاج البدوي الأعرابي. وترتيبا تمثل الاستعماريون والمبشرون والمغامرون والإداريون بوصفهم تنويعة على البدو الأعراب الذين يستلبون المستقرين مرة ويقفون خارجهم مرة أخرى. وقد أعاد الأخصائيون والمستشارون وقيادات لمنظمات غير الحكومية وأعضاء نظائر الأخيرة المسماة المنظمات المستقلة شبه الحكومية "الكوانجو"-وجمعها كوانجوز QUANGOs Quasi-governmental organisations . فقد كانت طوائف الاخيرين حرية بان تقف خارج التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية وتراكم خارج نمط الإنتاج وعلى نحو يفوق الأخير وخصما عليه.
 وأجادل أن ذلك الخصم صير المجتمعات المستلبة محض فائض العمل الحي اى فائض إنتاج بدأوة أفراد ومجتمعات ومجاميع أعرابية بعينها. وقد تمثلت تلك البدأوة الأعرابية باكرا منذ ما سمي بالحروب الصليبية. فقد أقامت أوربا دوقيات مسيحية في الشام باسم حماية الأماكن المقدسة والعذراء من تدنيس الأقوام البربرية الوثنية المتوحشة. وكانت تلك البدأوة الأعرابية اتصلت عبورا بما يسمى ب "الاكتشافات الجغرافية الكبرى" وب "حق الفتح" والتوسع الأفقي. وقد عبر التوسع الرأسي ل "الاكتشافات الجغرافية الكبرى" عن نفسه في الشركات متعددة الجنسيات عابرة الحدود القومية وسياسات صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. ولم يتحرج البنك الدولي-ويتمثل بوصفه-تنويعة على الأخيرة في استلاب الفائض في شكله الخراجي. ذلك أن البنك الدولي يوكل الدولة-المصرية مثلا-في استلاب الخراج على مشاريع المياه التي يمولها ويستدعى دور الدولة الخراجية في استلاب فائض إنتاج العمل الحى اى انتاج المنتجين السودانيين في شكل خدمة الديون الخارجية. المهم ازعم فورا ولمصلحة الجدل على الأقل أن اخترقت التجارة العالمية بالوصف أعلاه وبنظام الربا-الشيل-نمط الإنتاج السوداني وكرست العلاقة الطردية بين البدو الأعراب على الخصوص وبين القتال واستلاب الفائض. وقد عرف الاخيرون بعلاقتهم بكل من القتال أوالحض على الاقتتال واستلاب الفائض منافسة مع الحكام الخراجيين المركزين الطائفيين-الثيولوجيين أو/و"الوضعيين".


المبحث الثالث
الفصل: الاول
صراع المعتقدات و الأديان و الآلهة المستقرة
ما بين الضريح والسبر- أوالكجور:
ما تنفك الحرب دائرة بين عقائد و ديانات المستقرين و نظائرها المتصلة بالبدو و بخاصة بالاعراب اللذين يرفضون الاستقرار أو-و يتذرعون بالمقام المؤقت على لاجتياح المستقرين وحكامهم والهتهم. فقد اتصل الصراع بين المعتقدات والأديان والآلهة المستقرة. ولم يكن ذلك الصراع- وكان قد بدأ باكرا في تاريخ الشرية ربما منذ قابيل وهابيل- بين معتقدات وأديان مجتمع وآخر وحسب. بل كان الصراع المذكور و ما يبرح داخل المجتمع الواحد. ذلك ان صراع المعتقدات و الاديان و ما بات يسمى بالخطاب و الاجندة و الايديولوجية الخ بقى و ما يبرح واجهة الدفاع عن مصالح جماعات ازاء اخرى فتنافس تلك الجماعات على كل من السلطة والثروة. و كانت القيم الدينية باكرا تمثل كافة القيم الأخرى سواء ميثولوجية أو وضعية وتصدر الأخيرة عن الأولى فتسوغ نفسها وتبررها ثم ما تنفك تسقط تبريراتها على ترشيد مفاهيم الملكية والحيازة وعلاقات الملكية والحيازة وعلاقات العمل و تصويغ اعادة توزيع الفائض انتقائيا الخ مثلما ما ينفك الاثرياء يسوغون تخفيض الضرائب عليهم بوصفهم صناع الثروة التى من شأنها ان تطال الجميع فيما اعرفه أو اترجمه للعربية تحت تعريف التنقيط الاقتصادى أواللا اقتصادى Trickling down. المهم حيث يتمحور القانون بدوره فوق تلك المنظومة من المفاهيم تعود الاخيرة تصدر عن طاقم القوانين وهكذا.
وتيسر الميثولوجيا ومثابرة الالحاح على تاريخ الحكام والالهية تكريس كل من منظومة المفاهيم و طواقم القوانين أوالشرائح و قد اتصلت بالحاكم ممثلين لكل من الاسلاف و الالهة المستقرة تعيينا. و كانت قيم الملكية وعلاقات الإنتاج والملكية تصدر عن القيم الدينية وتستند إليها فيما تصوغ القيم الدينية تلك القيم والعلاقات وتبررها. وكانت الأديان والآلهة المحلية تتنافس مع الأديان والآلهة المركزية وتتحين الفرص لاحتلال مكانها في دائرة قيام وسقوط الدولة المركزية التي تتمأسس على الآلهة المركزية و تمثلها. ومهما كان من أمر ذلك الصراع فان تشكيلة القيم المركزية والمحلية لم تخرج عن مسئولية الآلهة سواء محلية أومركزية عن الفرد والجماعة إزاء الطبيعة والغزاة. وفيما كانت الآلهة تسوغ علاقات الملكية والإنتاج فتغدو القيم الدينية أيديولوجية تبريرا للفوارق وعمليات استلاب فائض إنتاج العمل الحي ان انتاج المنتجين وخراجهم إلا أن الحاكم المحلى والمركزي ورعاياه وحتى عبيده يتصلون جميعا بعلاقات أوقرابات دم أو/و غالبا مفبركة مما يعود فيصب في واجب الحاكم في إعادة توزيع بعض الفائض في أوقات الشدة إبان الفيضانات والتحاريق وشح المطر والتضخم فيضن للحاكم سعرا عادلا للذرة في السوق الخ.
وكان الحكام في وادي النيل مثلا مسئولين إلهيا عن إعادة التوزيع من المطامير وصوامع الغلال الملكية-والشونات-في أوقات الشدة. وكانت مسئولية الحاكم إزاء المحكومين-بوصفها تعاهد الحاكم للمحكومين فيما يشارف تنويعة من "العقد الاجتماعي" الممثلج أوالاسطورى بين الحاكم والمحكومين-تفترض تنازل المحكومون بتراتباتهم الاجتماعية جميعا عن جزء من فائض أو/و خالص عملهم وإنتاجهم خراجا للحكام المحليين اللذين يتقاسمون الخراج بدورهم مع الحاكم المركزي. ويغدو الحكام بهذا الوصف مسئولين بالمقابل عن ضمان سعر عادل للذرة في السوق وعن وفاء دورات الفيضان والحصاد في مواسمه وإغاثة المحكومين إبان المجاعات وسقوط  المحاصيل الخ. ولعل ذلك تعريف مختصر لواحد من تداعيات ما يسمى بالاستبداد الشرقي ويقف الأخير تذويقا لعجز شعوب النمط الاسيوى أو الشرقي عن النشوء.
الفصل:الثانى
التصوف والعبادات المحلية/التقليدية والمجاميع الفائقة
 أوما وراء أوما بعد المحلية
 
كانت المجاميع الحضرية غالبا ما تتعدى مجاميع الحواف أوالمناظق الداخلية من السكان المحليين. وكانت الأولى حرية بان تتحكم فى الاخيرة كون الدولة المركزية فالقومية نتاج متأخر. و كانت التشكيلات المحلية قد الفت بالمقابل وقياسا تمثلات محلية للعبادات الاصلية أى ما يشار إليه بالتقليدي تمييزا له عن التنويع العصري. و يتسم التنويع التقليدي للعبادات وتنظيماتها المحلية بخصوصية ثقافية قد توفر ادركا أبعد وأعمق لتلك العبادات وتنظيماتها. وسنبدأ بالأشكال المحلية /التقليدية قبل أن نتعرض فيما بعد للدولة القومية والعبادات القومية وما بعد القومية وبالتالي للتنظيمات التي تدعى أنها قومية أوما بعد قومية بوصفها تمثلات لعبادات أوأيديولوجيات حديثة بما في ذلك فكرة القومية. وكان السودان عرف السودان أشكال تنظيمية تقليدية ذات خصوصية ثقافية درجت علي توظيفها الجماعات المختلفة ثقافيا وعرقيا وسياسيا في تنظيم شئون حياتها اليومية والروحية والسياسية. وقد بقيت تلك الأشكال في تنوعاتها على مر مراحل تطور أوما يعتقد انه مراحل تطور تحمل تلك الخصوصية المحلية.
ولم يقيض لها أن تعيش شروطا لتطويرها أوتبديلها بغيرها بصورة نهائية. وتتصل تلك الأشكال التنظيمية التقليدية السابقة على الطبقات وعلى الرأسمالية واتصلت في حياة الأفراد والجماعات حتى عندما ارتقت تلك الأشكال التنظيمية إلى أشكال متقدمة على الأشكال التقليدية بقرون قد تصل آلافا فبقى من الأشكال التقليدية رواسب شديدة العناد وشبه راسخة على نحو متفأوت نسبيا حسب شروط معينة هي بدورها خاضعة لان تفتر أوتقوى . ويتم التدرج في الزمان والمكان بالطبع. وباعتبار لمقولة الزمان فان تلك الأشكال قد تظهر بصورة واضحة أوتخفت على نحو يظن به أنها قد اختفت تماما. أما في المكان فان تلك الأشكال غالبا ما تحتفظ بأسسها وشروط بقائها كلما ابتعدنا عن المناطق المتطورة نسبيا وأمعنا في الإيغال إلى المناطق النائية في القرى والبوادي . والسودان بلد شاسع ومتعدد الثقافات والأعراق. وهو إلى ذلك ملتقى الثقافات وملتقى طرق تمتد إليه من الجنوب عبر القارة الأفريقية و بخاصة قلبها الذي كان يشار إليه بأفريقيا السوداء.وهو الذي يطل شرقا على البحر الأحمر ويمتد غربا فضاءات شاسعة أصبح يشار إليها بالصحراء الكبرى ويشارف شمالا البحر الأبيض فيكاد يلامس شطوطه عن طريق مصر وشمال أفريقيا. وكانت مصر وشمال أفريقيا نوافذ مشرعة دائما على السودان منذ عهد الاسرات إلا ما خلا سنين العزلة أواقتلاع بلاد النوبة عن أصولها الطيبية-ممالك طيبة-بوصف الأخيرة سفر تكوين الحضارة الفرعونية ومرتكزها وعماد استمرارها على مر آلاف السنين. ويقصد بالحضارة الفرعونية الحضارة الوادي نيلية بكامها. ومع ذلك يتم تجاهل طيبة الجنوبية الأقدم والأعرق لصالح منفيس الشمالية. وبنفس المنطق تجمل النوبة- الأصل التاريخي الموضوعي لطيبة-مع مصر أوتجتزأ فيها لأسباب متمركزة ثقافيا من قبل دارسي مصر أوالمصريولوجيين Egyptologists. فان اجتزاء النوبا في مصر يشير إلى اجتزاء مصر في تقريرية مدرسوية "تبيض" مصر الفرعونية بدورها الأسرة 31 ففي البطالمة. ذلك ان تجاهل وجود هذه الحضارة العريقة بصورة فاضحة ليس واردا. فلكي يتيسر ذكر الحضارة النيلية دون المساس بالتمركز الثقافي وتكريس النظرية العنصرية - الألمانية- للمركز الآحادي للثقافة فان طيبة ومن ثم النوبا تصبحان أما مدمجتين ومختزلتين في المصريات أوجملة اعتراضية في تاريخ تلك الحضارة .
ومع ذلك لم تفت الغزوات والفتوحات وأشكال "الاستعمار" السابق على الطبقات وعلى الرأسمالية مثل الإمبراطوريات الأفريقية / مصر والبطالمة والرومان وصولا إلى الإمبراطورية الإسلامية من قوة دور بلاد النوبا في الحضارة الفرعونية. بل كانت بلاد النوبا عاصما لتلك الحضارة بوصفها البعد الداخلي المستعصي غالبا على الاجتياح فاختراق الحضارة الفرعونية فتشويهها أو/و تبديلها بل تتعين النوبا على دحر كل ادعاء للحضارة الوادي نيلية منذ الهكسوس إلى البطالمة مثلا.
وقد أدخلت التطورات أو الأحداث الممثلة في الغزو والاحتلال والتبادل غير المتكافئ باكرا وقبل التجارة الصامتة كثيرا على السودان عناصر ثقافية جديدة أو جدد السودان على النوبا عناصر ثقافية محلية أو احتلت عناصر ثقافية وافدة مكان عناصر أخرى. إلا انه من الممكن افتراض أن توليفة من كل من العناصر الوافدة وعناصر مقيمة كانت حرية بان تنشئ كلا جديدا. ذلك أنني افترض أن كل ما كان قد تم استمداده Borrowed أوما كان قابلا للاستيعاب داخل الكل الثقافي- وقد أعيد تشكيله وتشكله "تأقلم" وصار جزءا لا يتجزأ من الثقافة المحلية أوأن تفصيلة منه ألحقت بجزء فعدلت الجزء وهكذا . ويلاحظ ذلك أكثر ما يلاحظ في الكم الهائل من تنوعات أجزاء ثقافية كانت قد استمددت Borrowed أوتم اختراعها محليا بوحي من تيارات عابرة أو وافدة الفت الكل الثقافي السوداني عظيم الغنى والتنوع. فمن الأجزاء الثقافية السودانية ما قد ترجع جذوره إلى شبه القارة الهندية ومنها ما يمكن رده إلى مصر وشمال أفريقيا ومنها ما هو أفريقي محلى تماما مع بعض التعديلات التي تتم في الزمان والمكان. وعلى الرغم من أن كثير من الظواهر أوالأجزاء الثقافية السودانية التي تجزرت في الثقافة السودانية بدون التفات إلى مصادرها أو دراسة أصولها فهناك ما لا يمكن إنكاره من الأثر الثقافي الهندي من اللباس القومي للنساء والرجال ومن شعائر وطقوس الأعراس وبخاصة حلى ولباس العروس وعطورها وخضابها.
ومنها ما هو متصل بصورة تدعو للدهشة لو أن مقارنة قد عقدت – بين السودان وجنوب الجزيرة العربية وبخاصة اليمن حيث يلاحظ ترادف اسماء مدن المنطقة الشمالية السودانية و اسماء مدن فى عمان مثلا.
ففى شرق السودان اسرا و اسماء حضرمية و اسماء مدن حضرمية وكذلك اسر ذات اصول اثيوبية و اسماء اثيوبية. و لا تخفى صلة الاسماء المنتشرة بين الشاطئ الشرقى و الغربى والوسط الافريقى فى اسماء مدن مثل الدر و قرة و قرى ووادى حلفايين و وادى حلفا[18]. كما ان هناك اسماء قبائل من غرب الجريرة العربية و جنوب اليمن و سلطنة عمان. و تتقارب اسماء المدن العمانية حتى تكاد تكون ذات اصل واحد مثل عبرأى و عبرى و اسماء قبائل سودانية تتشابه و اسماء قبائل يمنية و عمانية مثل الجعليين و الجعلان وأولاد على و بنى دارو. و يقال ان اصل قبيلة العبابدة يعود الى اليمن الخ ومعظم تلك القبائل من شرق الربع الخالى. و لا يتلقى السودان اثارا من الثقافات التى حوله و انما تعبر تلك الاجزاء الثافية السودان بعد ان تكون قد تكييف بالثقافات السودانية و لم تنفك ان حملت معها تلك الاجزاء الجديدة مرة اخرى الى باقى القارة. و هناك اثار ثقافية فارسية و هندية فى السودان الشرقى و الأوسط و الغربى الى الاثار الوافدة من الجزيرة العربية بالوصف اعلاه ل فى السودان و قد عبر ذلك الاثر القارة عن طريق الساحل الشرقى فالغربى للبحر الاحمر الى شمال وسط السودان فجنوب الجزائر و موريتانيا والصحراء الغربية-الساقية الحمراء و العين. و تتشابه فصائل الطيور والحشرات و الشجر على ضفتى البحر الاحمر عند جنوب اليمن من تعز الى عدن و الشاطئ الافريقى الغربى للبحر عند شرق اثيوبيا و شرق السودان الأوسط[19].
ومن المفيد تذكر ان البحر الاحمر انفلق بهذه السعة حديثا نسبيا ويقال انه كان اخدودا ضيقا و حسب. و مع ذلك بقى البحر الاحمر معبرا مائيا سهل على الناس عبوره حتى اليوم اذ يقطعونه من شواطئ الجزيرة العربية عند حتوب   السعودية على الخصوص الى شواطئ افريقيا الغربية كالسودان و القرن فى مراكب بسيطة بقيت على بدأوة صنعها و حجمها و تسمى الطوف. و لم ينقطع التبادل و التجارة السوداء بين الشاطئين يوما عن طريق تلك المراكب البدائية. و يقول غانم القرشى عن ابو محمد عبد الله الطيب بن ابى مخرمة ان الاخير قال ان أوبحر القلزم أو"البحر الاحمر كان برا واحدا حتى عدن ووراء جبل سقطرى الى ان جاء ذو القرنين فى طريقه الى الدنثا فحفر فيه خليجا من البحر فجرى فيه البحر الى ان وقف على جبل باب المندب فبقيت عدن فى البحر وهو مستدير حولها"[20].
وهكذا. ولعله مما تفيد الإشارة إليه أن السودان واحد من التجارب التاريخية الثقافية التي تنتفي بها نظرية واحدية الأصل الثقافي لانتشار الظواهر. على أن أهم ما يستلفت النظر هو أن تلك الأجزاء الثقافية انصهرت بعامل مرور الزمان ورغم وربما بسبب تباعد أماكن متفرقة في أجزاء السودان بقيت على درجة من الثبات والاتساق والرسوخ والاستمرار حتى ليبدو وكأنها ذات أصل محلى.
وقياسا فان ما يبدو من رسوخ واستمرار تلك الأجزاء أوالظواهر الثقافية يجعل الملاحظ لتلك الظواهر. بل يجعل الدارسين والباحثين لتلك الظواهر أوالأجزاء الثقافية يكادون يجمعون على محليتها بدرجات من التحفظ لا تقدم ولا تؤخر كثيرا أوقليلا في المحصلة النهائية للنتائج البحثية.
لذلك قليلا ما يتم تأمل ما قد يبدو مستمددا Borrowed من الخارج وما هو محلى تماما أن وجدت ظواهر اجتماعية بهذا الوصف وإلا كنا بصدد الثقافات الخالصة والأعراق الخالصة مما يقود إلى النظريات الثقافية الفاشية. هذا ولأسباب تتصل بضمور البحث وبتخشب أطراف نظرياته ومناهجه وعدم أصالتها-بمعنى عدم نضوجها بحيث تصدر عن الاحتياجات المحلية للنظر والمنهج، لذلك فتلك الظواهر أو الأجزاء الثقافية بقيت غير مدروسة بصورة منهجية موضوعية بعيدة عن الاستمداد النظري المنهجي المفهوماتى اللا متحفظ ولا يشمل ذلك القصور السوداني وحده وإنما يشمل المؤسسات الأكاديمية في كافة الأوطان العربية والمؤسسات الأكاديمية في المجتمعات المسماة بالمجتمعات النامية بصورة عامة.
 هذا وكان النظر والمنهج والطاقم المفهوماتى الانجلوساكسونى قد أصدر وما برح يصدر عن نظائره الأم مما تنتجه المؤسسة الأكاديمية الانجلوسكسونية ليس وحسب بوصفه "علما" وإنما لأنه منتهى العلم والمعرفة. وسوف نسهب بعض الشيء فيما بعد في مناقشة هذا الواقع الضار بالنتائج الموضوعية "العلمية". كما أتعرض لمفهوم العلم الغربي نفسه عموما وما إذا كان العلم هو قمة ما تصل إليه المؤسسة الأكاديمية الأوربية الغربية منفردة بالنظر والمنهج والطاقم المفهوماتى في غياب غيرها وفي تغييب غيرها بقصد أو بصلافة أو بمحض ادعاء احتكار المعرفة والعلم الخ؟ فقد غدا العلم الغربي منفردا ومتفردا بقول "الحقيقة" والواقع الذي يخص أوربا والغرب ويخص غير أوربا وغير الغرب ولا منازع أوحتى مشارك بدرجة من الندية منذ عصر التنوير وحتى المرحلة الانتقالية وقد تسارعت أحداثها المسماة بما بعد الحداثة. فلما كان النظر والمنهج والطاقم المفهوماتى الأوربي الغربي لا يعلى عليه ولا يتشارك وغيره ولا يسمح لغيره بالنظر أوبالمنهجة أو بتعريف المفهومات ناهيك عن نحتها أصلا. فان العالم قد أصبح مصاغا من خلال وعبر ذلك النظر وبتلك المناهج وبطاقم المفهومات الأوربي الغربي للأوربي الغربي ولغير الأوربي الغربي مما اضر كثdرا وبصورة عميقة بتاريخ وبمعنى وحتى وبمسار ومآل التاريخ والثقافات غير الأوربية الغربية وفي داخلها الأشكال التنظيمية الاقتصادية والاجتماعية التي تتمأسس فوقها الأشكال التنظيمية الثقافية.
عناد الأشكال التنظيمية الثقافية والابنية التحتية اللا متغيرة:-
يمكن طرح السؤال مباشرة. لماذا تعاند الأشكال التنظيمية الثقافية أحيانا وتستعصي على الاستجابة لدواعي التغيير في أي اتجاه كان, وكيف يتأت والتطور ملحاح ولو عبر جملة موجات الغزو والهجرة السكانية والثقافية-كيف يتأتى أن تبقى البنية التحتية تعاند التغيير أوالتطور أوالارتقاء؟ قبل أن تتم محأولة التطرق للإجابة ربما كان من المفيد الإشارة إلى أن عناد تلك الظواهر المذكورة ليس عناد متأت عن مشكلة أو إشكالية متأصلة في طبيعتها ولا هي راجعة إلى خصوصية محلية. ولكي تحسم هذه النقطة مباشرة يلفت النظر إلى أن المجتمع السوداني في تطوراته المختلفة منذ الفترة الاسراتية وحتى عشية الاستقلال لم يكن وحدة ثقافية موحدة إلا في فترات متباعدة ونتيجة لعوامل قد تتشابه منها الغزو الخارجي ومنها اشتماله في كيانات أوسع منه، وكان ذلك يتم أما بالتعامل انتقائيا وتشطيريا مع بعض أجزائه وتجاهل بعضها أو" بملاعبة" أجزاء وقهر أجزاء أوبمسأومة أجزاء خصما على أخرى وهكذا.
ويتضح من دراسة متصلة وملاحظة معاصرة لظاهرة الأشكال التنظيمية العبادية في السودان أمران على الأقل:
1- أن تلك الأشكال تكاد تتسم بنوع من الانتظام uniformity مع كونها شائعة بصورة جامعة في كافة الجماعات الثقافية العرقية في كافة المجموعات الثقافات السودانية. بمعنى أنها تنتشر على نحو لا يتغير على الرغم من تنوع وتعدد المجالات والمجاميع والمستويات أودرجات تطور التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التي تنشا بها و بينها
2- أن تلك الأشكال التنظيمية متشابهة في وظيفية كياناتها وفي غاياتها وأساليب تعبيرها عن تلك الغايات.
فإذا صح القول بان تلك الوظيفية راجعة لأهمية تلك الأشكال التنظيمية في تلك الكيانات الاجتماعية الثقافية أوالعرقية أوالتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية فانه يكون واردا القول أيضا بان تلك الأشكال الثقافية هي بدورها محورية في أهميتها لتلك الكيانات.
المسافات والانتماء الروحي الصوفي السابق على الإسلام و اللاحق له:-
تعرف هذه الدراسة الصوفية بالانتماء الفلسفي الروحي لعبادة ما مما كان قد اتصل وما برح يتصل بنهر النيل والمجتمعات التي تعيش وكانت قد عاشت على ضفاف النيل وما يبدو اليوم منها وحواليها من قفار شاسعة. وبذلك تكون الصوفية السودانية سابقة على الإسلام بما لها من تمثلات مستمدة من غيرها في وادي النيل من العبادات النيلية ومن علاقة الأفراد والجماعات والسلطة نفسها بذلك النهر الذي تمحورت حوله الحياة .وأن عمرت المجتمعات المحيطة بمجرى النيل بظواهر قبلية بدوية من الرحل إلا أن البداوة على حواف الوادي هي نفسها لها تاريخها المتصل بالماء الذي كان يغمر الأرض حتى ما اضحى الآن يسمى بالصحراء الكبرى وبالنيل وبالمستقرين على ضفافه. وللبداوة المجأورة لنهر النيل من ثم خواصها المميزة لها مما سنعرض له فيما بعد. وتقف الصوفية والطرق الصوفية السودانية من وجهة نظر هذه الدراسة كواحدة من أهم الظاهرات الاجتماعية-الاقتصادية السياسة الروحية-وإن بقيت للصوفية وللطرق الصوفية السودانية بعد كل شيء خواص تدل عليها هي الأخرى-وقد بقيت منذ نشأت الطرق الصوفية بالمفهوم الشائع-في القرنين السابع والثامن عشر اشد الظواهر الاجتماعية السودانية عنادا في تاريخ السودان.
وربما كان من الأوفق القول بان الانتماء الروحي وإن كان ذلك الانتماء يمتزج بصورة شبه عضوية بنوع ودرجة من البراجماتيه تزيد أوتقل حسب الظروف الفردية والجمعية مما سنعرض له فيما بعد فإن الانتماء الروحي الصوفي يكاد يكون سمه مميزة للفرد السوداني منذ قرون تسبق دخول الإسلام المالكي المحافظ على التقاليد والمراسيم الرسمية والمتشدد Formalist إلى السودان . و قد يصح القول بان الطبيعة القبلية للفرد تدفعه إلى الانتماء الروحي مما يكرس الانتماء القبلي دون أن يلغيه. فلقد كانت أهمية العبادات النيلية وقوة أثرها على حياة الفرد اليومية المادية وفي الحياة الأخرى ظاهرة شديدة التغلغل في المجتمع بتراتباته الاثنية والجغرافية الإقليمية. وما برحت لتلك العبادات رواسبها وتمثلاتها المتصلة بالنيل وبالماء وبالطبيعة طوطميا واحيائيا. وربما كان من المفيد افتراض أن تلك العبادات كانت منذ نشوء المجتمع بصورته المعروفة ولو تبسيطا قد تأسست فوق كل شيء وبعده على تنظيم وعلاقات الملكية والإنتاج والنظم الاقتصادية الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية جميعا فى تعالقها بالعبادات.
ولما كان مزاج تلك النظم الاجتماعية مما لا يمكن فصم عناصره بعضها عن بعض و بخاصة فيما يسمى بالمجتمعات الهيدرلوجية فان تلك النظم الاجتماعية-الاقتصادية – السياسية الروحية في أكثر تظاهراتها تعبيرا عن الشعور الجمعي بالتهديد حينا وبالأمان حينا آخر تميل إلى التمحور-ضمنا أو علنا-حول النظام الايكلوجى من مطر ونهر وحدود واسعة سعة إقليم يكاد بصحراواته وأدغاله الشاسعة يقارب مساحة شبه القارة الهندية مساحة. ومن دليل ذلك  تمثل الظاهرات الفذة شديدة  الميل نحو الانتماء الروحي بحيث نجد أن الفرد السوداني في محأولاته فهم و التعامل مع بيئته بكل عناصرها أميل نحو الفكر الفلسفي في قبول تذبذبها العنيف أحيانا وترددها في العطاء وفي سخائها أحيانا أخرى.
ومن الأمور الفذة الأخرى في السودان أن الفرد قد ينتمي إلى حزب سياسي في أقصى اليسار ولا يمنعه ذلك من صداقة آخر في الطرف الآخر من ألوان طيف السياسة الحزبية. وتجد في الأسرة الواحدة كافة الانتماءات السياسية في المدن على الخصوص وبين ما يسمى بالمثقفين أو الانتلجنسيا أوالقوى الحديثة. وفي تقديري أن المسميات المتعددة لتلك الفئة والتي لا تستقر على تعريف أن وجد لها تعريف متعارف عليه– يرجع يرجع إلى أن تلك المسميات كانت قد أعطيت لتلك الفئة من قبل الإدارة البريطانية في السودان وبقى يحلو لتلك الفئة أن تسمى نفسها بحكومة السودان.
اثر المسافات على كيمياء حكومة السودان:
بالنظر إلى كيمياء حكومة السودان نفسها فأنها لم تخضع للدراسة ولا تم تحليلها موضوعيا من وجهة نظر العوامل التي تدخلت في تشكيلاتها ولا في العوامل التي أثرت عليها في مجتمع شاسع كالسودان تؤلف مديرياته حجما ما قد يربو على حجم بريطانيا وفرنسا مجتمعيتين. هذا و ينبغي تذكر أن المساحة كعامل مؤثر على مفهوم السلطة كانت قد أدت بالعزلة العميقة بين المديريات والمركز-نتيجة لضعف الصلة العميقة بين المديريات والمركز - نتيجة لضعف أوانعدام سبل المواصلات وانقطاعها موسميا إبان فصول المطر  الخ. وكان ذلك حريا بان يستدعى في أفضل الأحوال التنافس بين أعضائها مما ترتب عليه انقطاع الصلة بين الأقاليم ومدرائها، وبين الحاكم العام، لفترات طويلة وغيرها مما اخذ تباعا يتضح من دراسات لاحقة لتلك الفئة من حكام السودان.
وكان الإنجليز قد حكموا السودان سواء بالوكالة عن الخديوي في مصر أوأصالة عن أنفسهم طوال أكثر من نصف قرن ما بين نهاية الحكم المصري–التركية الأولى عام 1821 حيث احتكر الأجانب من الألبان والبوسنيين واليونان والإنجليز إدارة الولاية المصرية لان مصر نفسها كانت إما خاضعة كولاية عثمانية للباب العالى أو للحماية الأجنبية بالتماس بعد أن أخذت الخلافة العثمانية تخضع للتشطير والتقسيم منذ اتفاقية لندن 1832 عبورا بحرب القرم في الربع الأخير من القرن الماضي فمعاهدة برلين 1878 [21]. و عليه فالمفهومات التي درج الإنجليز على نحتها أحيانا كثيرة بنوع من المرونة وبقليل من الموضوعية العلمية بوصفهم ساسة وحكام حينا ولأنهم لم يكونوا على تلك الدرجة العالية من التخصص العلمي المنهجي الأكاديمي حينا آخر بقيت تعبر عن نفسها فى اسقاطات ذاتية.
و كان الإنجليز بما فيهم السوسيولوجيين والانثروبولوجيين والمكتشفين والمؤرخين إداريين من الدرجة الأولى تم انتقائهم لهذا السبب وحده. لقد تعلم الاخيرون في الشعوب المهزومة و تدربوا على تسويغ "علوم" لم تكن قيضت لهم من قبل مثل دراسة القبائل النيلية كالنوير كما بات بعضهم مؤرخا لاثنيات ريفية أورعوية كالشكرية أو للإسلام الأفريقي مثل هولت بمجرد كونه كان مديرا لمديرية ولم ينفك أن راح يطرح نفسه بوصفه مرجعا بل مؤسسة مثل كرومر وسيمز وربرتسون وغيرهم. ولعل ولع الإداريين الإنجليز بكل من القبائل وسيرها دفع بعضهم للانخراط في التوفر على البحث في القبائل وتسجيل سيرها وبالطرق الصوفية. ومن المعروف ان بعض الإداريين كانوا من المؤرخين مثل ماكمايكل Mc Michael هولت Holt وغيره أومن الانثروبولجيين المشهورين مثل ايفانز بريتسارد Evans Prichard والزوجين ريفرز Rivers سليجمان وسليجمان.
ولم يكن الأكاديميون منهم كالسيوسيولوجيبن و كالانثروبولوجيين معنيون بالفئات المسماة حديثة من متعلمي المدن ذوى التدريب الغربي ولو في الدرجات الوسطى من تعليمهم وتدريبهم. وكان الإداريون الإنجليز إلى ذلك مختصمين بالضرورة مع الفئات التي كانت مفضلة أوكان الإنجليز يدعون وبخاصة في أواخر أيامهم أنهم كانوا قد دربوها"لحكم" السودان. وكان الإنجليز إلى ذلك ورغم أن فئة المتعلمين السودانيين كانت قد دربت-إن كانت بالفعل قد دربت أصلا-على حكم السودان على طريقة الإنجليز يبادلون هؤلاء الشك ويتطيرون من التغييرات التي طرأت عليهم بتأثير فتات الثقافة الإنجليزية وبتأثير التيارات الآتية من الشمال من مصر على الخصوص و من الاتحاد السوفيتي والحركة الاشتراكية العالمية ومن ألمانيا وايطاليا الفاشية جميعا. لقد كان الإنجليز يدعون لأنفسهم حقا تاريخيا شبه ميثولوجى مثله كمثل الحق التقليدي لتشكيلات السلطة التقليدية للأمراء والشيوخ القبليين والصوفيين. ويمكن اعتبار الإنجليز بهذا الوصف منافسين لكل من الزعماء التقليدين والزعامات العصرية الناشئة-بمعنى المتعلمين تعليما غربيا[22].
وحيث كان النموذج الاستعماري-الرأسمالي بالضرورة-وقتها النموذج الوحيد المسموح به لحصار الاشتراكية-فقد استعير ذلك النموذج لحكم السودان في البرلمان ونسق الخدمة المدنية كفكرة. وقد راح الإنجليز متأخرين يشكلون بليل عشية الاستقلال السياسي أشباه من مؤسسات "ام الديمقراطيات". ولم يلبث معظم السودانيين أن استعاروا ذلك النموذج بحماس فلم يكن ثمة بديل بعد حتى ظهور الحركة الاشتراكية والأحزاب الشيوعية العربية ومنها الحزب الشيوعي السوداني. و كان الإنجليز والسودانيون المتعلمون مع ذلك يختلفون حول العديد من المسائل المتعلقة بالسلطة. وعليه فانه من المبالغة التبسيط في استعارة المفهومات التي كان الإنجليز يسقطونها-غربيا- في وصف حكومة السودان من ناحية. ومن ناحية أخرى فانه من المبالغة في التبسيط استعارة المفهومات التي كان الإنجليز يستخدمونها في وصف العناصر الحديثة من المدربين والمتعلمين تعليما حديثا. ومن ناحية ثالثة لم يكن محتوى التعليم الاستعماري المقترح ليؤهل الفرد بالنتيجة لأكثر من التدرب على إجادة الأعمال في المراتب الدنيا من السلطة أو الإدارة في مستويات الخدمة المدنية الدنيا أو الوسطى على أفضل تقدير. لذلك فان تصور أن عمليه تعليم وتدريب هؤلاء الأفراد كانت من العمق والقوة بحيث تؤدى بالفرد المتعلم أوالمدرب عصريا إلى الانسلاخ شبه الكامل عن جذور التنشئة الاجتماعية التقليدية. يحتاج إلى تأمل خاصة أن التعليم الأولى كان "أهليا" بمعنى تعليم الخلأوي، وكان قرآنيا وقد فشلت السياسيات الاستعمارية المثابرة في إعادة هيكلة الخلأوي وفي مسخ ملامح الأخيرة مرة واحدة ولم تفلح تلك السياسات في تعجيز الأهالي عن التعليم الأهلي وتعليم الخلأوي أوفي الحد من انتشارها. بل أصبحت الخلأوي-كبديل قهري للطرق الصوفية التي كان الإنجليز قد توفروا على القضاء عليها في السودان مثلها ربما مثل التعليم القرآني في الجزائر والهند وغيرهما-أسلوب مقأومة للإنجليز. وقد تخرج عن الخلأوى والطرق الصوفية زعماء شعبيون وأبطال قوميون إذ اتصلت المقأومة حتى عام 1921 في شكل انتفاضات وثورات محلية مثل ثورة الشيخ السحينى وغيرها[23]. هذا وما كان واردا ان يوفر الإنجليز بديلا للخلأوى وكل ما توفروا عليه هو التضييق على شخص" الفقيه" القائم على الخلوة. فلم يكن واردا أن يسعى الإنجليز إلى نشر التعليم في السودان بحيث يتم استغناء الأهالي في الأقاليم النائية على الخصوص وبين القبائل المترحلة والمستقرة معا عن التعليم الأهلي أو تعليم الخلأوى المنتشرة في السودان انتشار المؤسسات التقليدية عميقة الجذور والمستقرة وظيفيا في نسيج المجتمعات المحلية.
وقد نشأ ولع الإنجليز بالقبائل الرحل بالذات نتيجة للاستعمار الإنجليزي لأيرلندا كما ذكرنا فى مكان اخر.  وقد ظلت الاخيرة تقض مضجع بريطانيا منذ إن كانت محض جزيرة معزولة حتى نشؤ بريطانيا الإمبراطورية العظمى وإلى يومنا هذا[24]. لم يكن الايرلنديين قبائل رحل تمتاز بالقدرة القتالية العالية وحسب وإنما كان الإنجليز يدركون أن بعض قبائل أو فصائل  الأعراب و بخاصة تلك التى اتعرف عليها بوصفها اعراب استثنائة "اشد كفرا" بمعتقدات واديان المستقرين. فقد كان الانجلوساكسون أنفسهم بدو بحار فاحتكوا بسكان الجزر البريطانية المستقرين و كرسوا آلهتهم هم الوثنية باكرا و حتى عندما دخلت المسيحية الجزر البريطانية راح الانجلوساكسون يعملون على اختراق المسيحية بالأديان الوثتية مما فصلته في مكان آخر. وقد حدا ذلك جميعا بالإنجليز أن يكرسوا طاقة ملحوظة في محأولة استيعاب القبائل الكلتية فى مستعمرات داخلية Internal Colonies مثل ايرلندا وويلز على لاخصوص. و هى نفس القبائل التى يتزايد سكانها في المناطق النائية والوعرة مما يفاقم غموض حياة سكانها ويؤجج الرغبة لدى المستعمر لإخضاعها مرة واحدة وإلى الأبد.  و قد زين المستعمر ولعه ذلك بالقبائل و الطرق الصوفية فى استدعاء الاسلام و ادعاء ان المستعمرون مسلمين تكاذبا تماما كما يحاول كل من بلير و اوباما التخاتل على المسلمين.و لم تزد تلك التزويفات سوى ان همشت على الاتسعمار بوصفه مشروع اقتضادى بامتياز  يتخفى وراء ايدلويولجيات متساررة.
هل الأديان تزويق للاقتصاد؟ حصار المحلي التقليدي والنظرة الكونية المطلقة تتمثل الحركات الاثنية والدينية حول قضايا الثقافة والهوية وانتشار الأشكال المختلفة والمتعددة للدين السياسي - الإسلام السياسي، اللاهوت الثوري الخ في أنها أبعاد مستترة للصراع حول الموارد وانعكاس للضغط على الموارد. فندرة الموارد المذهلة وكانت تبدو غير متناهية باتت غير قابلة للتفسير سوى بالميتافيزيقا. وتحتكر الأنظمة الاقتصادية المهيمنة والثقافات المسيطرة -الطبقات الحاكمة- حقوقاً غالبة وسيطرة شبه مطلقة نتيجة للتكنولوجيا المتقدمة جداً على الموارد والطاقة والثروة في العالم-حيث يستهلك 4% من سكان العالم أكثر من 30% من موارده ويملكون حوالي 60% من ثروته-خصما على الأغلبية الباقية، ويملك الأول بالتالي القوة. وتتركز الثروة في أيد تقل باستمرار فتتركز السلطة بدورها في أيد تقل باستمرار. ومع تزايد قصر المسافات والاتصال السريع والمنتشر فان العالم يمكن إدراكه اليوم كنظام مغلق عن طريق المعلومات المتوفرة للكل حول كوكب الأرض. إن خفقان أجنحة فراشة في الأمازون يكون له آثاره على الطقس في بريطانيا وان ذلك جميعاً وبدون شك يعني أن الوعي البشري لم يعد نتاج الواقع المحلي المباشر وحده ذلك أن الواقع اليوم أصبحت له أبعاده الكونية ويتجأوز الحدود المحلية، إذ غدا يتعدى الوطني. أن الأديان التقليدية كانت غالباً تعبيراً عن المعارضة والاحتجاج الشعبيين. لقد تم التعرف مثلاً على الدين الإسلامي قديماً وحديثاً على أنه أيديولوجية الاحتجاج والمعارضة الشعبية، بيد أن الطبقات الحاكمة كانت قد استغلته بوصفه أيديولوجية لها كسلاح في الصراع الطبقي. وان هذه الطبقات الحاكمة تتساند هي أيضا في مواجهة الانتفاضات الشعبية فيما يمكن أن يعتبر بدوره تعاضداً غير وطني.
وفيما يغدو الناس شديدي الحساسية إزاء أي تدخل من الخارج سواء كان بندقية أو"ودا" فان المقابلة يتم تمييزها عندما يتحدث الغرب عن الإنسانية فلا يعني سوى نفسه دون الغير. وعندما يتحدث بوش الأب الرئيس 41 للولايات المتحدة 1988-1992م في خطاب تولي الرئاسة مخاطباً الشعب الأمريكي قائلاً "اننا مقبلون على عهد سلام ورخاء" -بغض النظر عن صدق هذا الزعم أوخطأه- فانه يقصد أن الغرب موعود بذلك العهد من الرخاء والسلام. وعندما تقول قوات احتلال العراق أن دخول البصرة أوبغداد كان عملا عسكريا رائعا على نحو غير مسبوق لأنه تم بأقل قدر من الخسائر في الأرواح لا يقصد بتلك الأرواح سوى أرواح الأمريكان أولا وأخيرا و ربما البريطانيين بالتماس.
إن المقابلة هنا هي بين أصحاب الامتيازات والحقوق في كل شيء وبين أولئك الذين لا حقوق ولا امتيازات لهم إذ لا يعتد بهم إلا بقدر ما هم محض تراكمات عددية وعبئاً على الإنسانية. وتعتبر "الإنسانية" هنا هي أولئك الذين يساهمون في اقتسام فائض إنتاج وثروات تلك التراكمات العددية من منتجي فائض العمل والإنتاج والثروة. أن المقابلة الحادة بين الماضي والحاضر المحروم من الحقوق والامتيازات تغدو وكأنها ضغطاً وحصاراً من الخارج من خلال وكالة داخلية، وغالباً ما يتم التعرف على الدولة بوصفها ذلك الوكيل وقد غدت أوبالأحرى عزز دورها التدخلي Interventionist إذ كانت الدولة تحتفظ ومابرحت بخصائص ذلك الدور في صورته التقليدية، كما يتم التعرف أيضا على بعض الفئات المنتفعة والطفيلية من الوكلاء والمقأولين والممثلين المحليين لرأس المال ما بعد الصناعي- المالي -الربوي Usurer الاحتكاري متعدد الجنسيات بوصفهم مسئولين عن ذلك الحصار والإحباط وثمنه الباهظ متمثلا في تضحيات لا متناهية[25].
 
 
 
 
 
تناقص الموارد وحصار الثقافة التقليدية :-
تسجل سردية حلول الصوفيين التجار في السودان صراع الصوفيين وسلاطين وصغار ملوك الفونج حول الموارد وعلى رأسها المرعى والمسيل زيادة على الأيدي العاملة من العبيد اللذين يتعينون على خدمة الخلأوى. فمهما كانت الأخيرة "اشتراكية" إلا أن الماء والأرض والعبيد تمثل بوصفهما القيمة الحقيقية لما تمأسس عليه الوجود الصوفي سواء ورعا متعبدا متصوفا ناسكا أو/و تاجرا في المحاصيل الاستراتيجية أو-و في تبادلها أوقاف من السلطنة السنارية. وقد تمثل تاريخ سلطنة الفونج مع بداية نهاية عزها العسكري الاقتصادي بالنتيجة في الصراع بين جماعتين أساسيتين هما سلاطين وصغار ملوك الفونج والعبدلاب سواء صوفيين أن قبليين أوتجار. وقد أوصل ذلك الصراع، زيادة على ظواهر أخرى منها نشوء الاستعمار المتردد فالكلاسيكي وجوره على شروط التبادل والتجارة في عموم أفريقيا وغيرها مما يسر نكوص سلطنة الفونج إلى حافة الإفلاس الفكري والتنظيمي والسياسي والاقتصادي فقيض شرط اجتياحها بالفتح التركي الأول. وليس صدفة تعاصر الفتح التركي الأول 1821 وظواهر أخرى أناقشها تباعا بوصفها سببا وسياقا للفتح.
وعندما يقول ماركس أن التاريخ المكتوب هو تاريخ الصراع الطبقي يتصور أن ليس ثمة تاريخ قبل نشوء الطبقات. فلم ينشأ المجتمع الإنساني متراتبا طبقيا في أوربا الغربية نفسها بالمفهوم الماركسى حتى صبيحة "الاكتشافات الجغرافية الكبرى". على انه من المفيد اقتراح ان يكون التاريخ المكتوب أوالمسكوت عنه على الخصوص هو غالبا تاريخ الصراع حول الموارد الطبيعية والسيطرة عليها، وهو أيضا تاريخ الفقدان المتواصل للطاقة المتاحة Energy Losses ومنها هذه الموارد الطبيعية والبشرية والسيبرنطيقا Cybernetics كعلم السيطرة والاتصال Communication/Control وهي بالضرورة وظيفية functional وسلوكية behavioural ومن ثم تشير السبيرنطيقا إلى السلوك المنتظم regular والنهائي determinate والقابل للتكرار reproductive كذلك فان مفهوم الطاقة يغدو أساسياً حيث أن عالم اليوم تتوافر لديه معلومات كبيرة جداً عن واقع النظام البيئي المغلق environmental closed system وعن الفقدان المتزايد للطاقة: أوسوء استخدام الثروات والموارد الطبيعية وشدة التفأوت في حصة فقراء العالم وأغنيائه في تلك الثروات وعن سوء توزيع هذه الموارد والثروات-الطاقة المتاحة والاستفادة منها.
                 فالتكييف الهيكلي structural adjustment أى التكييق هيكليا مع النظام الكوني الرأسمالي يوجه الاستخدام -أوسوء الاستخدام بالأحرى- الانتقائي لموارد العالم وثرواته، فالاخير بدوره مسئول عن فقدان الطاقة غير القابلة للاستعادة irreversible energy losses[26] . وتعاني المجتمعات المستقلة أوالتابعة من التوتر في ظل الأشكال المتسارعة أوالمتطرفة للرأسمالية ما بعد الصناعية الاحتكارية المالية الربوية الفائقة للوطنية. ويتمثل ذلك اكثر ما يتمثل في طور الاخيرة المسمى بإدارة الترابط أوالتعامد تحت هيمنة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بوكالة الاستخبارات المركزية the management of interdependence under the world bank, the IMF and the CIA. وقد انتجت تلك الادارة ضعف كل من الديمقراطية الاقتصادية والسياسية، أذ تمأسست على حصار من عداها ثقافيا. قد افرز الاخير بمغبة التضحيات اللا متناهية والمعاناة و قد عجز المجتمع عن احتمال أطروحات ومسائل معينة ففقد قدرته على التسامح الديني والثقافي مما راح ينذر باندلاع انتفاضات وتوتر في كل مكان ضد الحكومات القائمة كونها وكيلة عن أوسمسارة فى تنفيذ سياسات إدارة الترابط المذكور.
البعد الايكولوجي للأيديولوجية وإعادة التوزيع الاقتصادي / السياسي:-
يلوذ الناس أكثر فأكثر بالتقاليد والثقافة والماضي ويصبح الناس اقل تسامحاً دينياً لأنهم محاصرون في زمان الشدة والتضحيات اللامتناهية و في مواجهة الإحباط وعصور الانحطاط. و لا يبقى مع الحصار والتضحيات مكان أومجال سوى انتاج و اعادة انتاج نظرة كونية مطلقة Absolute World view على جانبى الصراع الكونى بدوره بين اصحاب المال والقرار وبين المعدمين المستلبين. و لقد مرت أوروبا بتجربة مشابهة قبل عصر التنوير حيث احرق المسيحيون الهراطقة وأقاموا محاكم التفتيش، وأوربا اليوم مقبلة -في دورة كاملة- بالتدريج على موجة من اللا تسامح الديني آخذه بالاشتداد مع اشتداد الأزمة الاقتصادية الطاحنة واضمحلال الموارد التي كان ممكناً بها إبان عهودها الزاهرة وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية-التوفر على امتيازات وحقوق كانت تبدو مقطوع بها للفرد وكأنها حق موروث لا ينازع. فنجد اليوم ظواهر عدم التسامح الديني رغم الواجهة المظهرية للديمقراطية الليبرالية. فلقد صودر كتاب بيتر رايت Peter Right, Spy Catcher في انجلترا وأوقف عرض مسرحية الـ Perdition وتمت محاكمة مسرحية شعرية يدَعي كاتبها فيها أن المسيح كان مثليا Homosexual ومنع عرض فيلم الإغراء الأخير للمسيح The last temptation of Christ من كثير من دور السينما. وأثارت خطبة احد الآلام لأسقف مدينة دارام Durham الدكتور ديفيد جنكنز Dr. David Jenkins ثورة في بريطانيا لم تهدأ حيث ووجه الأسقف أما "بالتوبة" أوبالاستقالة لأنه زعم أن بعث المسيح ليس بعثاً جسدياً وإنما يقصد بالبعث الذي فيه خلاص البشر بعثاً معنوياً يرقى بالبشرية إلى مستويات من رفعة الخلق والمبادئ. ومابرحت دوائر الفاتيكان ترى في ذلك أحد معوقات توحيد الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية. وهناك قانون إنجليزي حول التجديف والإلحاد بالدين المسيحي blasphemy against Christianity ويقترح رئيس كنيسة كانتربري Bishop of Canterbury على وزارة الداخلية البريطانية استبدال ذلك القانون بقانون يشمل الدين الإسلامي وغيره من الأديان بعد حادث سلمان رشدي.
البعد الايكولوجي للايدولوجيا وتغضن نظم المساعدة وتضعضع الموارد - الطاقة- ربما كان من الجائز اقتراح أن الأديان تميل بصورة عامة نحو توجهات تكاليف المنافع Cost-Benefit Orientations فيما يتعلق بما يؤخذ من الطبيعة وما يعاد إليها. أن العلاقة المتبادلة الايجابية بين البيئة والتنظيم الاجتماعي- استهلاك الغذاء. والحصول على سعرات حرارية Calorie in-take الخ تتبع توجهات تكاليف المنافع Harris; 1977 فمنذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا تعبر الأيديولوجيات عن ذلك. وإذ تقول حتى أشد الأيديولوجيات مادية كالماركسية مثلاً بأن الفرد يعي دوره ويتفتح ضميره الاجتماعي من خلال عمله في الطبيعة فإنها لا تغفل البعد الانتروبي Entopic فيما يتعلق بفقدان الطاقة Goldsmith; 1988، ويقول دور كايم Durkheim في مالينوفسكي Malinowski; 1982 ان العاطفة ذات الطبيعة الاجتماعية تنشأ حول جميع الأنواع Species وتجد تعبيراً عنها في الفلكلور والمعتقدات والشعائر الدينية كما أن الحكمة الشعبية Folk wisdom والأديان والعبادات والتقاليد الشعبية تؤكد المنافع والتكاليف أوتكاليف المنافع في علاقتها مع البيئة الطبيعية متمثلة في الأشكال المختلفة لعبادة الطبيعة. أما النظام الاجتماعي فانه يتصل بصورة وثيقة بموازنة ما يؤخذ من الطبيعة وما يعاد إليها مرة أخرى فإذا ما اختل التوازن فان كلاً من النظام الاجتماعي والنظام الايكولوجي يتهددان بالانهيار الذي يؤدي إلى نتائج وخيمة تتمثل في ما يلاحظ عبر التاريخ من الهجرات الجماعية والموت العنيف وسقوط الدول وانحسار أهمية أماكن عبادة وعواصم وانهيار حضارات كمثل ما يلاحظ من دورات العبادات المتعاقبة على النيل وما حدث للحضارة السومرية وغيرها.انظر(ى) الخريطة -1-.
قياسات على التكنولوجيا الحديثة وفقدان الطاقة بشروط الرأسمالية ما بعد الصناعية:-
لقد حأولت في مكان اخر جعل الصلة بين المبدأ الثاني لقانون القصور الحراري Thermodynamics الانتروبيا Entropy وبين الفعل الإنساني المجتمعي أوالسلوك البشري الفاعل في الطبيعة تنظيماً وإعادة تنظيم، ذلك أن كل تنظيم -اجتماعي- أوإعادة تنظيم يترتب عليه حالة من الفوضى المادية Disorder أوحالة اقل تنظيماً للوحدات المكونة خارج التنظيم الأولى. وان بعض أومعظم حالات التنظيم تؤدي إلى فقدان للطاقة Energy Losses مما لا يمكن غالباً استعادته من تلك الطاقة المولدة من إحراق قطعة من الفحم. أن أي كمية من الطاقة لا يمكن أن تعيد الرماد إلى حالته الأولى. أي إلى قطعة فحم من جديد. على أن ثمة حالات يمكن بها إعادة تجديد الطاقة كمثل ما يحدث للتربة المنهكة عقب الفيضان وبالذات في الدلتا وعلى الضفاف كمثل فيضان النيل على مر السنين حيث يجدد الطمي التربة التحتية Sub-Soil المفقودة بفعل الزراعة المكثفة أوعوامل التعرية Erosion أوبسبب فقدان التوازن الايكولوجي نتيجة لقطع الأشجار أوحرث التربة على أن معظم حالات الاضمحلال الشديد للتربة وصولاً إلى التصحر يتم بسبب الريح والسيول المنحدرة من المرتفعات العارية حيث تكون النباتات المثبتة للتربة قد أزيلت، بيد أن أسباب حديثة قد بدأت بالانتشار اليوم وهي الاستخدام المكثف للمبيدات الحشرية والمخصبات الكيميائية. وهذه الأخيرة تعتبر اليوم من اخطر أسباب تعرية التربة وتلوث الماء. الخ نتيجة للزراعة المكثفة Intensive Farming ولمشاريع الـ Agribusiness ويهمنا منها جانبها الطفيلي اللامكترث بنتائج الاستثمار المكثف في الزراعة على التربة من إنهاك وتلوث للنطاق المائي Water Table بصورة مؤثرة على دورة الري بسبب الكيمأويات.
ومن خصائص التكنولوجيا الحديثة ثمرة العلم المتقدم والموظفة من قبل رأس المال ما بعد الصناعي الاحتكاري -المالي- الربوي عبر الوطني بخاصة صناعة الحرب وأسلحة الفضاء التي تستهلك طاقة هائلة من الموارد وتبددها في عمليات انتروبية Entropic لا يمكن استرجاعها من ذلك الفحم والبترول والمعادن التي نفذت أوكادت فان محأولات إعادة استخدام الطاقة تستهلك بدورها طاقة جديدة باهظة. كما أن غالبية هذه الطاقة تأتي من أطراف النظام الرأسمالي الكوني لحساب المركز أو لحساب تلك التي يتم انتقاؤها من المناطق المتكيفة هيكلياً مثل كوريا الجنوبية والبرازيل الخ ويقترح البعض أطروحة شبه مؤكدة اليوم مفادها إن الكوارث الطبيعية اليوم لها أبعاد من صنع الإنسان Man-Made من المهم أن نذكر أن الرأسمالية تتغير أيضا على ضوء جملة شروط منها بالفعل البعد الهام جداً اليوم والمقرر لمصائر شعوب بكاملها - ومنها الشعوب الغربية والولايات المتحدة بالذات وهو البعد الايكولوجي وما يترتب على الإخلال بنظام البيئة من إخلال بنظام احتكار وتوزيع الثروة والموارد المتاحة للاستغلال من بشر مسيسين أومطلبيين أوأيد عاملة رخيصة.
من المفيد دراسة الرأسمالية ما بعد الصناعية الاحتكارية الربوية Usurer عبر الوطنية وتحليلها ليس فقط بسبب كوننا مستوعبون في النظام الرأسمالي الكوني وليس لكون “التنمية” الرأسمالية ما بعد الصناعة. الخ تنحو نحو تنمية أجزاء من العالم الأول والثالث على حساب مناطق أخرى وإنما والأهم لان استيعابنا في النظام الرأسمالي الكوني هو الذي يمكن به تفسير الأحداث التي تبدو مشوهة للغاية Distorted ومضللة Misleading وبدون التنبه للأشكال المتعددة المتغيرة للنظام الرأسمالي الكوني ما بعد الرأسمالي الاحتكاري المالي الربوي Usurer عبر الوطني والتصدير لرأس المال الخالص Net من عندنا في شكل فائض عمل - للعمل الرخيص أصلا منزوعة عنه الصفة المطلبية والمهارة De-Unionized and deskilled وفي شكل استنزاف للعمل الماهر Skilled labour في المناطق المكيفة هيكلياً Structurally Adjusted من خلال الديون الرهيبة قاصمة الظهر إذ تمول بلدان فقيرة إلى حد الموت الرخاء الفاضح لبلاد غنية تعيش بدورها على الديون سوى أن للديون منطق يخص المدين وليس كل مدين كمثل اي مدين آخر.
أن ديون الولايات المتحدة وحدها في عام 1987 تبلغ ثلاثة تريليون دولار وتبلغ ديون أوروبا الغربية الصناعية خمسة تربليون دولار في حين تبلغ ديون العالم الثالث بكامله ترليوناً واحداً. ثمة بالطبع أحداثا مثل يوم الاثنين الأسود17/10/1987م حيث فقدت سندات وفوائد تقدر بحوالي اثنين إلى ثلاثة تربليون دولار. أن هذه الأرقام العجيبة فلكية الضخامة ليست أرقام ورقية وإنما لها بعدها الذي يطال الحياة على الكوكب الأرضي إلى حدود بعيدة جداً ومن هذه الأبعاد البعد الايكولوجي. وفيما يلي مثال لسيناريو لا يستبعد بل اقترح اعتباره نمطياً وروتيناً دارجاً اليوم للعالم الثالث.
الأيديولوجيات الشعبية في السودان والبعد الايكولوجي:-
إن نظرة لتاريخ السودان الحديث والقديم لا تخطئ ملاحظة سلسلة الثورات الشعبية -الدينية- للفلاحين والعبيد التي كانت تهدف في معظم الأحيان إلى إعادة التوازن الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع- أي إلى الحالة السابقة على حلول اللا توازن والفوضى وسقوط الدولة المركزية ومعها الأيديولوجية أوالعبادة أوالعقيدة المركزية. وتكون العقيدة - والأيديولوجية - والدولة المركزية قد فقدت الشرعية معاً عندما يفشل الملك-السلطان-الفئة الحاكمة في فرض سعر عادل للذرة أوفي جعل المطر يسقط و النهر يفيض و الفيضان ينحسر..الخ.  وعلى سبيل المثال: اتسمت دولة الفونج بالثورات الفلاحية وبثورات العبيد فانتهت بنهاية دولة الفونج ونشوء الإسلام الصوفي وطرقه في السودان وانتهت الدولة المصرية التركية في السودان بثورات الفلاحين والعبيد أيضا وقامت الثورة المهدية بقيادة محمد احمد المهدي التي انتهت بدورها بثورات مماثلة. وكانت مسببات تلك الثورات اقتصادية وان أخذت شكلاً دينياً فالافتقار الشديد للجماهير وإفقار الأرض المزروعة على النيل والزراعة المطرية والموارد نتيجة للضغط على فائض الإنتاج وفائض العمل في شكل خراج وإتأوات وعلى الموارد البشرية في شكل غزوات للرقيق وتجنيد للجيوش المركزية والقبلية الصوفية وبسبب الحروب المتصلة سواء في عهد الفونج أوإبان فترة المهدية والنزوح العنيف للسكان وتركزهم في مناطق لا تحتمل أعدادهم المتزايدة كلها كانت من أسباب اختلال التوازن الايكولوجي في التاريخ الحديث نسبياً في السودان.
واختصاراً يمكن القول بأن روتيناً مشابهاً يمكن ملاحظته في كل مكان إبان التاريخ القديم لوادي النيل معبراً عنه في الحركة الأفقية لكل من الناس والمناطق المركزية - الدينية والاقتصادية والعسكرية والتي كانت أهم خصائصها إنها كانت مراكز عبادة من مقابر واهرامات وشواهد حجرية[27] وليس مصادفة أن تعاصر السبع سنين العجاف والسقوط الملحمي لملوك آلهة. فلقد شهدت الأسرة الثامنة عشر سقوط وقيام 21 ملكاً وملكة خلال 18 عاماً. فالإله الذي لا يجعل النهر يفيض والمطر يسقط والحصاد وفير يعتبر إسقاطه عملاً إلهياً وإعادة للأشياء إلى وضعها الطبيعي[28]. هذا كما ينبغي إمعان النظر في واقع التقاليد التي تكون قد تشكلت في إطار السرية المستمر وفي الأشكال الجديدة للظروف التاريخية الجديدة.
 
الفصل:الثالث
التربيـة والقيادة كنظم اقتصادية اجتماعية Systems
تمهيــد تاريخي إجرائي
 
تحأول هذه الدراسة فيما تحأول تأمل ظهور القيادات الاجتماعية والسياسية التقليدية والحديثة في السودان في تنويعاتها وتراتباتها المؤثرة على مسارات التغير الاقتصادي الاجتماعي وتأثرها بالتغييرات التي تحل في المجتمع، وبفعل تلك التغييرات في التنظيمات التي يتوفر عليها الأفراد ويتقبلون أويخضعون لزعاماتها المورثة أوالمطورة المحدثة ومدى التغير الذي يتم، أويتم ادعاء حدوثه، في التنظيمات الاجتماعية الاقتصادية على مر الأشكال السلطوية والقيادية التي قيض للسودان أن يفرزها من التمثلات المتصلة بتلك الظاهرات المتعالقة أوالتي تبدو متبادلة التعالق والاعتماد، ومحاولة تأمل ما اذا كان ثمة تحولات عميقة في تلك الظاهرات ذات التأثير والتأثر المتبادل من قلب التشكيل الثقافي الاجتماعي للمجتمع السوداني.
فمن المعروف بقرائن أحوال المتغيرات المعاصرة منذ منتصف هذا القرن تقريبا أن ثمة وتيرة أومتوالية يلاحظها الباحث في تاريخ وتحليل التنظيمات الاقتصادية الاجتماعية السودانية وهي وتيرة شبه تكرارية لقيام ونشوء وسقوط أوانحلال التنظيمات المحورية بحيث ترتقي إلى أعلى درجات ممكنة حسب شروط تطورها منذ عهد الأسرات الفرعونية. ثم ما تنفك تلك التنظيمات المحورية تنحل بدرجات متفأوتة وعلى مستوى متدرج من الأكثر محورية إلى الأدنى محورية إلى ما يشبه عناصرها الأولية أوتغدو كمثل أشباه لما كانت عليه لحظة كان مقيضا لها الارتقاء ويتمظهر ذلك بدرجات متفأوتة ونسبية في المنظمات ذات الطبيعة المحورية كالدولة المحلية ، الأمارة أوالمشيخة، أوالطريقة الصوفية في أعلى مراتب سلطتها . وتتمظهر تلك المتوالية أوذلك المنوال الدائري cyclical routine بصورة اشد وضوحا في الدولة المركزية التي شهد السودان نشوئها و ارتقائا و انحطاطها كمثل غيره من المجتمعات. ولقد شهد السودان عصور حضارة وارتقاء لمؤسساته وتنظيماته المحورية المركبة والمحلية وعصور انحطاط وتدنى  متبادل الاعتماد مع ظاهرات مسأوقة وسياقية contextual وبغير الدخول في تحليل ظاهرة تواتر Recurrence كل من الازدهار والانحلال الثقافي ، وما إذا كان راجعا لنظريات الدورة في تطور المجتمع أومتصلا بالعصبية التي يرتبط بتماسكها منتهي العمران وبتفككها نهايته -على نظرية ابن خلدون- أوإذا كان مرجع ذلك اضطراد في نمو المجتمع من مرحلة إلى مرحلة متقدمة بحيث لا يمكن الجزم بأن كل مرحلة هي مرحلة متقدمة على المرحلة السابقة عليها. فان التغيير قد لا يتضح دائما في خط مستقيم بل الأحرى انه يتم في اتجاه حلزوني وأحيانا وفي أزمنة تبدو على درجة من التوفر المتعاظم على التقدم التكنولوجي وتطبيقات العلوم على وسائل أوأدواة الإنتاج يتم التغيير في خطوات عدة إلى الوراء كما يلاحظ الناس في كل مكان إبان الثلاثين عاما الماضية فيما يسمى بالمجتمعات النامية في أفريقيا وبخاصة في السودان.
والواقع إننا نرى أن التغيرات الاجتماعية-وفي قلبها التغيرات الثقافية القائمة في النسق System والنظم  Organizations الاجتماعية والتي ليست سوى محصلة للصراع بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج المترتب على موقع أدوات الإنتاج من القوى الاجتماعية المنتجة. لم تعد مقولة ناجزة مطلقة إذ يراد أحيانا تحديد انسلاخ هذه القوى عن السلطة أوملكية هذه القوى لأدوات الإنتاج ونوعية الثروة . وقد لا تكفى ملكية أدواة الإنتاج في تعريف نمط الإنتاج حيث يمكن مع كافة شروط ارتقاء وسائل الإنتاج  ان تنكقص علاقات الإنتاج إلى أشباه سالفة لها كانت قد تمأسست فوق علاقات إنتاج اقل تطورا. وتضاف بالتالي المراكز والأدوار الاجتماعية المترتبة على ذلك باعتبار أن هذه العوامل وتجانسها تعبر عن المرحلة التي وصل إليها المجتمع مما يجمع عليه أصحاب الاتجاه الاقتصادي في تحليل الظواهر.
ولعل ذلك التحليل اقرب إلى فهم المجتمع الإنساني ككل في مساره الكلى أكثر منه في تظاهرات المجتمعات كل على حدة متفردة في إطار تبادل الاعتماد الاقليمى أوما بعد الإقليمي الكوني مما سنتعرض إليه بإيجاز فيما بعد. إن تحليل المجتمع الإنساني في نشوئه العام ربما كان اقرب إلى مسلمة الارتقاء المجتمعي المتصل منه إلى تحليل للمجتمع المعين في الزمان والمكان المحددين. هذا وان كان التنأول الذي يحلل الظواهر الاجتماعية من وجهة النظر الاقتصادية قد لا تتفق مسلماته والتحليل البنائي structural Analysis للمجتمعات كل على حدة ، وبالذات كلما كانت هذه المجتمعات بسيطة التكوين ومتجانسة تسودها علاقات التضامن الآلي حيث لا تتضح العلاقات والتقسيمات الطبقية و قياسا قد يصعب التعرف على ما يسمى بالصراع الطبقي كثمرة لوجود هذه التقسيات. ذلك ان طبقة من الطبقات الرئيسية المتاظرة-الحكام و المحك- لا تقف بعد متعرفة على نفسها ومصالحها بصورة واضحة من خلال وجدان طبقي-الا ماخلا طبقة الحكام بالطبع و حلفائهم فى مواجهة المحكوميين. و قياسا تقف الاخيرون في تضاد مع الطبقات الأخرى –المستغلة بفتح الغين-- في ذلك الصراع الذي تعتبره النظريات الاقتصادية محصلة للتغيير ودالة indices عليه. فالإنتاج من اجل الاستهلاك و والأفراد متجانسون بصورة عامة ومفردون فى مؤسسات غير حزبية بعد اى فى  تنيمات فئوية اتحاات مطلبية جماعات ضعط جنعيات اقليايتة نساء شباب طلاب رعاة.
التربيـة كنظــام اجتمــاعي اقتصادى:-
فى محاولتها متعددة المناهج تحاول هذه الدراسة استبصار تعالق  ظواهر القيادات الاجتماعية والسياسية التقليدية والحديثة في السودان في تنوعاتها وتراتباتها المؤثرة على مسارات التغير الاقتصادي الاجتماعي. كما تلاحظ احيانا وضوح تأثر تلك الظواهر بالتغييرات الحالة في المجتمع كما تلاحظ تفعيل تلك التغييرات للتنظيمات التي يتوفر عليها الأفراد والجماعات في الزمكان. و ازعم أن مقولة علاقة وسائل الإنتاج بتطور علاقات الملكية والعمل والإنتاج لم تعد مفهوما ناجزا مطلقا إذا أريد أحيانا تحديد مدى انسلاخ قوى الإنتاج عن سلطة أوملكية هذه القوى لأدوات الإنتاج ونوعية الثروة. وقد لا تكفى ملكية أدوات الإنتاج في تعريف نمط الإنتاج حيث يمكن مع كافة شروط ارتقاء وسائل الإنتاج أوعلاقات الإنتاج أن تنتقص علاقات الإنتاج إلى سياقات شبيهة لها متحدرة من علاقات إنتاج اقل تطورا وتضاف بالتالي المراكز والأدوار الاجتماعية المترتبة على ذلك باعتبار أن هذه العوامل وتجانسها المعين يعبر عن المرحلة التي وصل إليها المجتمع مما يجمع عليه أصحاب الاتجاه الاقتصادي في تحليل الظواهر.
و قياسا فالمجتمعات السباقةعلى الطبقات غير طبقية بهذا الوصف و الافلراد غير مفردين مكما ذكرنا فى مكان اخر.  و بالمقابل ففي المجتمعات الطبقية افالانتاج استهلاكي و الافراد ومفردون في مؤسسات غير حسية ، تنظيمات فئوية-اتحادات مطلبية، جماعات ضغط ، جمعيات اقلياتية من نساء و سباب و طلاب و رعاة الخ. و تتألف أحزاب سياسية من أفراد كانوا قد تعرفوا على أنفسهم ومصالحهم من خلال وعي سياسي واجتماعي طبقي وهذا هو ما يتمأسس فوقه تعريف الطبقة عند ماركس ، أن ماركس لم ينسب له ذلك وحده وإنما نسب إليه تباعا لكثرة ما كان قد قال وتباعد ما نشر من مؤلفاته بعد وفاته وما بقى منها لفترة طويلة. إما مهملا بقصد متعمد أولم يلتفت إليه كثيرا كمثل ما صار إليه أمر ما يسمى بالنمط الآسيوي للإنتاج أوالنمط الشرقي للتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية السابقة على الرأسمالية الصناعية.
وو قياسا يمكن اضافة-حتى سقوط حائط برلين-أشكال العقائدية و"العبادات"-للفرد والتنظيم والنص-مما يمكن قياسه كأصولية-مادية-بالأصوليات الأخرى كأصولية اليمين الجديد والذي اخذ في الانتشار بتسارع ملحوظ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وكانت قد تجذرت-منذ الربع الأخير من القرن الماضي-في التنويعات التي اتخذتها طبيعة راس المال الصناعي الخاص وأشكال التراكم غب سقوط الإمبراطوريات السابقة على الرأسمالية الصناعية والتي لم يقيض لها-خاصة بعد حرب القرم ثم الحرب العالمية الاولى و الثانية من شروط النشوء الاقتصادي والاجتماعي والعسكري ما يسمح لها بالتنافس على الأسواق والرساميل مثل الجمهورية النمسأوية والإمبراطورية العثمانية وبقايا الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية بدرجات.
وقد اتصلت سيرة السودان نشوءا ونكوصا بكل هذه الأحداث تباعا وان بقى أوأبقى لأسباب متفأوتة حتى عشية الاستقلال " السياسي " في مرحلة سابقة على الرأسمالية الصناعية في أهم أبعاد تشكيلاته الاقتصادية الاجتماعية وبالتالي اتصلت مؤسساته التقليدية بغير انقطاع يذكر كما كانت قد كرست فكريا "منظما" متقصدا قصدا غير سياسات الإدارة الأهلية ومشروع الجزيرة يعتبر نموذجا نمطيا للتنمية الاستعمارية ثم الحق قسرا بلا فكاك عن طريق تداخل مؤسساته ووكالات لعملية المراكمة و إعادة المراكمة-المالية-العالمية ووكلائها الإقليمين بنموذج "التنمية" الرأسمالية المتميز بسياسات التطبيع والهيكلة والتكييف لصالح الإنتاج أواللا إنتاج من اجل التصدير.
الدين عامود فقري للضبط و الاجتماع البشري:-
ولقد بقى الاقتصاد التقليدي طوال ذلك "خارج الإنتاج" Pre-production وقد تفاقم تجذير المؤسسات التقليدية بالنتيجة في شكل تنويعات اتصلت من عبادات وادي النيل الأسراتي وما قبله إلى المسيحية ثم الإسلام الصوفي-المالكي مع أبعاد متفأوتة من المذهب الحنفي-المتشدد-ثم الطائفية المسيسة ، مما ابقى على  الدين-في تراتباته وقربه أوبعده-عن النصوص نظاما محوريا في المجتمع السوداني. ولقد اتصل التعليم بأشكاله منذ القدم و كذلك التربية الاجتماعية والمثل والعادات والتقاليد وطرق لتوزيع الأدوار وتقسيم العمل الاجتماعي بالدين.
 هذا و قد بقى النظام الاقتصادي وفق الحتمية الاقتصادية أوالمادية مركزا للنشاط الاجتماعي حتى في ابسط المجتمعات تكوينا. ففي أي مجتمع حتى المجتمعات الدنيا دون الإنسانية sub-human فان الحاجات البيولوجية وإشباعها إنما تؤلف محور الصراع-من اجل البقاء وما بعده . ولما كان التخصص وتقسيم العمل في المجتمعات البسيطة لا يتخذ أسلوبا أومستوى يرقى إلى التمييز بين الأفراد من حيث الوجاهة الاقتصادية والاجتماعية ، فلا يصنفون في طبقات بهذا الوصف الكلاسيكي، فان النظام الاجتماعي الأكثر فاعلية في تطمين الأفراد وفي الإجابة على تساؤلاتهم ومخأوفهم إزاء الظواهر الطبيعية الغامضة كالميلاد والموت والكوارث، والفيضانات والأعاصير واختلاف الفصول وظهور وأفول الكواكب. إنما يغدو على أهمية جوهرية للنسق.
وهذا النظام هو النظام الديني الذي يقف معبرا عن هذه الظواهر متخذا من أحداها رمزا-طوطما-أوشعارا أوصفة كالسحر وغيرها. ويكون هذا النظام متصلا بالنشاط الاقتصادي الدائر في قلب الظواهر الطبيعية وما يترتب عليها خصوبة وشحا ووفرة وجدبا وكرما وبخلا. ومن ثم تكون المراكز والأدوار المحورية متصلة إما بالنظام القرابي المحوري ، أي بعبادة الأجداد أوالأسلاف أوالموتى ومن يمثلونهم ، أوأقرب الأفراد إليهم من كبار السن ، متوارثين مراكز السلطة الروحية ، أوعبادة طوطم العشيرة، فيدل على إحدى وظائفها أوما تطمح أن يكون لها من وظائف إذا كان الطوطم حيوانا. أوبالرغبة في صيانة هذا الحيوان من الانقراض، كالبقرة في الهند وفي جنوب السودان أونبات يكون شائعا في موطن العشيرة أوبظاهرة طبيعية أخرى كالرعد أوالبرق. أن الدين يغدو كترميز أومنظومة من الرموز والأساطير، نظام محوري في المجتمعات الصغيرة ويبقى كذلك كلما كانت معدلات التغيير بطيئة، ودوافع الاستقرار أقوى، ذلك أن الدين يعمل على إقرار الأوضاع. ويتبادل الاعتماد والتأثير والتأثر مع حالة الاستقرار Social statics والعكس صحيح إذ قد تبقى للدين وظائفه الاجتماعية، إلا انه يفقد مع التغيرات الاقتصادية الدينامية ذلك التأثير الذي كان له على حياة الأفراد اليومية على المجتمع من حيث الاستقرار.
                          
وسوف نعرض في الفصل التالي لنمط التنشئة لدى البجة والعلاقة الوثيقة المتصلة بين النظم الاجتماعية وبين التنشئة في المجتمع البجوي الطوطمي.
 


الفصــل: الرابع
3- المبحث الثالث: صراع المعتقدات والأديان والآلهة المستقرة: ما بين الضريح والسبر أو الكجور.
  
مجتمع البجا: سفر تكوين خصوصيات
 تاريخية مسكوت عنها
يعتقد أن البجا رحل ورعاة على وجه العموم، الا ان اهم ما يمييزهم أنهم من أقدم القبائل النيلية البدوية على الإطلاق ويعزى إليهم أول أشكال التنظيم الاجتماعي الوادى نيلي[29]. و يلاحظ أن ثمة خلط بين البجا من أسلاف النوبا المعاصرة التي تقطن شواطئ البحر الأحمر و تمتد مضاربها من الشمال حتى وسط السودان والبجا التاريخية التي توفرت الدراسات الاثنوغرافية والانثروبولوحية على دراستها إبان ما قد يسمى بعصر إنتاج الغذاء المائي Aquatic food production  قبل انحسار الماء تماما لتغدو الأرض غابات كثيفة عامرة ثم تخلى الغابات مكانها للصحراء الكبرى التي نعرفها اليوم. وكان البجا يشار إليهم فيتم الحديث عنهم وكأنهم النوبة مرة وبوصفهم قبائل البجا النوبية مرة أخرى وقد انحدروا عن أسلاف بعيدين في الزمان السحيق. و أميل إلى هذا التعريف ومن ثم تغدو من تعريفات البجا أنهم أعراب أكثر مما هم بدو بوصف أن الأخيرين قابلين للتوطين أوالاستقرار الدائم أوالنسبي فيما يبقى الأعراب إما رافضين أوعاجزين عن الاستقرار مما قد أناقشه فى مكان اخر حول نمط اللا إنتاج الأعرابي.
وحيث يرجع معظم المفكرين اصل ومفهومات السلطة وشرائح السلطة إلى البدو أرجعها في وادي النيل إلى البجا بوصفهم كانوا باكرا أعراب كما أرجعها إلى غيرهم من القبائل المترحلة في السودان. ويحلل بوتز Butzer احد علماء الآثار النوبية اصل السلطة وأهم الجماعات المنتظمة وأشكال السلطة البسيطة للقبائل المترحلة على شواطى النيل بوصفها ربما مثلها مثل نظائر مترحلة على شطوط البحار كالبحر الاحمر فيرد اهم خصائصها تضمينا الى العلاقات التبادلية على النهر. و كانت أقدم القبائل المترحلة أوالجماعات النوبية الباكرة تتبادل السلع و جيرانها من "المصريين" القدامى أو-و ما بات يشار اليه بالمصرين من سكان وادى النيل السفلى.
 و من المفيد تذكر ان المسمياة التى تعين عليها هيرودوت و تلك التى استدعتها "المصريات" ليست سوى مسميات باثر رجعى ان صح التعبير. فلم تكن ثمة مصر وقتها بل كانت ثمة ممالك جنوبية طيبية-من طيبة-وتل عمارنية-من تل العمارنة و ممالك الشمال-الدلتا الممفيسية-من ممفيس-وغيرها الخ. فان كانت الممالك الشمالية ممفيسية من ممفيس و الجنوبية طيبية من طيبة الا ان سكان وادى النيل لم يطلقوا على انفسهم اسم مصريين و لم يسمى سكان وادى النيل الاسراتى انفسهم بالمصريين فقد كانوا يعرفون بالكينطيين أى سكان كينط-الارض السوداء. و قياسا فقد كانت مملكة وأوات و-Wawat أو أيام Iam تؤلف سفر تكوين المجتمعات الوادى نيلية الجنوبية الباكرة و قد تعود اليها الأشكال اللاحقة للدولة السودانية[30].
و يرجع بعض المؤرخين القدرة القتالية للنوبيين إلى أصولهم البدوية-ربما البيجأوية و غيرها من القبائل الاعرابية القديمة. و ربما كانت تلك القدرات ترجع لحاجة تلك الجماعات الى الدفاع عن أنفسها عبر فضاءات واسعة و أراضى شاسعة تمثل موطنا مرة وتؤلف مجاهل وأعداء يتنافسون مع تلك الجماعات على المرعى والمسيل و ينافسونها على التجارة. و قد ينزع خصوم تلك الجماعات النيلية أونظائرها البحرية نحو إخضاع الاخيرين أوفرض سلطتهم عليها أوعلى الأقل خلق شروط تبادل لا متكافئ معها في التجارة التي قد تمر طرق قوافلها بين مضارب البدو و آبارهم. و مهما يكن من امر تلك الجماعات فان تبادل السيطرة و الخضوع بينها و بين غيرها كان حريا بان ينتج ايضا شرط التبادل اللامتكافئ بين الطرفين. و لعل البدو الاعراب احتكروا تجارة السلع "الاكزوتية " ومنتجات الغابات فيها exotic and forest goods مما بقى يؤلف أهم سلع تجارة البحر الاحمر و درب الأربعين عابرة الصحراء والتجارة عابرة الحدود الإقليمية المجأورة. و قد باتت تلك التجارة فيما بعد احتكارا لاعيان المستقرين و قادتهم القبليين و سلاطينهم و شيوخ طرائفهم من بعد. فقد آل احتكار تجارة القوافل لسلطان الفونج مثلا في أوج مجد السلطنة السنارية و لم ينفك ان آل الى التجار الصوفيين.
المهم على قلة حاجة البجا كبدو-كما هو معروف-لعقائد المستقرين فانه فقد بقى اللبدو عبر التاريخ أعداء المستقرين والمدن الدول. و بالمقابل لم يعتن البدو بتسجيل تاريخهم الا شفاهة فيما راح المستقرون يكتبون تاريخهم وتاريخ البدو فوصم الاخيرون-كافة المغول مثلا-بما وصموا به أو-و اخفوا تلك السجلات فلا يعرف لها اثر[31]. و فيما يصنف المغول مثلا اعرابا الا انهم يبقون من أهم تنويعات الاعراب و اشدها استناءا على القاعدة فقد اشادت بعض شرائح السلطة المغولية فى شبه القارة الهندية مثلا شواهد حجرية وتعينوا على أمجاد لا مادية ما تبرح متستر عليها جراء تكوين تاريخ المغول فى كومة واحدة فاجتزاءه فى فظاعات غزواتهم و حروبهم. ذلك ان سجلات Chroniclesالسلاطين المغول مثلا-و قد بقيت مصونة حتى القرن الثامن عشر-تقول بحق كل من يحمل دم كينكيز خان وتامبولين-تيمور لنك-فى وراثة الملك و الثروة التى من بين تصنيف الثروة المغولية ما يأت تحت المخطوطات السلطانية الملكية الامبراطورية التى تسرد سجل ملوك المغول بتفاصيل التفاصيل من الاعمال الفنية مثل عرش الطاووس الى الجسور والاضرحة الخ.
المهم و قياسا فالاعراب عموما أكثر تعينا على حفط تاريخهم فى صدورهم و تاريخ خصومهم الازليين المستقرين بحيث ينقلب الامر عند مقارنة البدو و الاعراب فيما يتصل بتسجيل التاريخ أو-و بسردية كل منهما بالنظر الى سرديات المستقرين. و ربما كان مفيدا تذكر أن أسلوب حياة البدو المتميز-مثلهم مثل الاعراب-بالتوحد الطويل والأسفار والعزلة من شأنه أن يكسبهم نوعا من الاسترابة الفلسفية scepticism في الأديان وبالتالي يضعف توقيرهم لآلهة المستقرين التي عادة ما ترجع وظيفتها إلى أهمية الاحتماء من البدو كعدو ماثل يتربض بالمستقرين و بالآلهة وبالمدن وبالسلطة المستقرة الدوائر دوما عند مشارف المدن وعلى حواف الصحراء. و ثمة مصادر تاريخية تنسب إلى البجا انتماءا دينيا قد يرجع إلى الممالك السابقة على الأسرات مثل الإمارات البدوية التي بقيت مستقلة رغم الاستعمار الشمالي-المصري-لطيبة والممالك الجنوبية.
وقد أجبرت تلك الممالك السابقة على الأسرات سلطات الاحتلال المتتالية و الغزاة على الاعتراف بها حتى ولو على سبيل التبادل التجاري شبه الحر على النيل. وتدعو وأواتWawat  وايام Iam لافتراض ان مينا أول ملوك وادي النيل وموحد الوجهين القبلي والبحري قد جاء من تلك الممالك أومن حولها. ويقول بيرانال  Bernal فى اثينا السوداء  Black Athena ان مينا جاء من المناطق التي تمتد حتى القرن الأفريقي وقد عرف بأنه اله الخصب والوديان حيث ترعد السحب دون أن تمطر[32] . ولمينا-البدوي-من ثم تماثيل و رموز على طول القرن الأفريقي حتى طيبة وممفيس بوصفه ثورا له عضو ضخم يخرج من بطنه ويدعى "ثور أمه" و"الثور الجميل". و هذه صفات وريها ملوك وداي النيل الشمالى عن نظائرهم الجنوبية بوصفهم انصاف الهة فنحتوا صورهم على المعابد بتلك الصفات الجسدية و الجنسية الخارقة.
ويأت ذكر الملك مينا في السجل البطلمى بوصفه اصل الممالك الصغيرة التي تغدو من آن لآخر ممالك كبرى واحدة بعد الأخرى في سياق قيام وسقوط الدولة المركزية, وكانت الممالك الصغيرة تتمتع باستقلال كامل كدولة واسعة النفوذ وأحيانا تقوم بدور الوساطة أوالوكالة بين الدولة المركزية وحاكم النوبا العليا على طول نقاط تمويل القوافل أوعند المحاجر التي كانت ذات أهمية قصوى في بناء الشواهد الحجرية والأضرحة والمعابد ومنها أبو سمبل وأهرام الجيزة أوفي بيع الأخشاب العطرة وغيرها من السلع الطرائفية من محاصيل الغابة والصحراء مما يستهلكه الملوك والأعيان والأثرياء[33].
المهم أن جماعة من البجا البالميز Balmmies[34]، وهم من أقدم القبائل الأفريقية الشمالية-الشرقية اعتنقت المسيحية. وإن بقى استعصاء البجا على المسيحية ماثلا حتى القرن الرابع عشر ، حيث اعتنقوا الإسلام[35]. هذا ويلاحظ أن النوبة كان يشار إليها على أنها دار البجا ويتنأوب الاسمان الإشارة إلى السودان حتى زمان المقريزى. وقد بقى البجا بهذا الوصف يشار إليهم على أنهم "رعاة ، يتبعون الكلا" بأخبية من جلود ، ويقال أن أنسابهم من جهة النساء   matrilinealولكل بطن رئيس وليس عليهم متملك ، ولا لهم دين"[36]. ويستطرد المقريزي في وصفه للبجه "أن البجا كانوا ، قبل دخول الإسلام إلى أرض مصر، يعبدون الأصنام.  وكان لكل بطن كاهن يضرب له قبة من أدم، معبدهم فيها.  فإذا رأوا إخباره عما يحتاجون إليه تعرى ودخل القبة مستدبرا ويخرج إليهم وبه أثر جنون وصرع ، ويقول الشيطان يغريكم السلام ، ويقول لكم ارحلوا عن هذه الحلة ، فان الرهط الفلاني يقع بكم.  وسألتم عن الغزو إلى بلد كذا فسيروا فإنكم تظفرون وتغنمون كذا وكذا والجمال التي تأخذونها من موضع كذا هي لي".
ولعله لما صار للبجا -عبر دورة العمران الخلدونية وتنوعاتها المتواترة في التاريخ - دينا وتاريخا وتراثا مثلهم مثل غيرهم من الحضريين والمستقرين وتقيضت لهم أسباب الاستقرار فاستقروا انشأوا لهم كغيرهم من المستقرين تاريخا يقول أويدعي، على غرار عادة إعادة كتابة تاريخ المنتصرين من الحضر، بان البجا كان لهم دينا معتبرا يحترمونه كما يحترمه كل من يمر فوق أراضيهم من غيرهم من القبائل.
وفيما بعد صار دين البجا دينا مركزيا بوصفهم يؤلفون أهم أواصل الشرائح السلطوية وبالتالي غدا دين أوعقيدة البجا كشريحة سلطة مركزية دين المجتمع على عهدهم ودين النوبة من بعدهم . والاحرى أن يتبنى البجا مثلهم مثل القبائل البدوية دين المستقرين حال أن يستقروا هم أنفسهم وإنهم في إعادتهم كتابة تاريخهم نسبوا الدين المستقر إلى أنفسهم . فدورة البدونة والاستقرار من شانها أن تميل بالمستقرين الجدد إلى إعادة كتابة تاريخهم في ميثولوجيا رسمية ومن ثم ينتهي العهد بالأصول البدوية الثقافية للبجا-كغيرهم- بصورة دائمة او مؤقتة. إذ غالبا ما لا تسجل.
الاديان النوبية:
كان دين النوبة على كل حال مما يمكن أن يقال انه يتمثل في نظام متجانس مع باقي النظم داخل النسق الاجتماعي. وكان الاحتكاك الثقافي والتبادل ضعيفان فيما يبدو إذ لم تتوفر الأسباب لتأكيد ضرورة الحاجة إلى التغيير ولم تنشأ شروط ارتقائه إلى درجة أعلى. إلا أن انتشار المسيحية بوصفها - كما قد يرى بعض المتمركزين ثقافيا - أكثر "رقيا" more superior وارتقاءا evolutionary قد أدى إلى انتشار عناصر ثقافية "أرقى" بالتالي . وتؤكد المصادر التاريخية، أن المسيحية لما انتشرت بين النوبة كان انتشارها قد تم في الأقاليم ذات الإنتاج المستقر، وعلى جانبي النيل بالذات.
 فالاستقرار من شأنه أن يوجد فائضا للتبادل. كما يدل الاستقرار على حدوث الاحتكاك فقد كان الماضي وإمكانية استمرار حدوثه بتراكم عناصر التفاعل الاجتماعي ، بكل ما ينتجه مجتمع مستقر من أجزائه الثقافية، وما تقدمه صلاحيته كمجتمع مستقر من التبادل المشترك. إن المسيحية امتدت إلى سنار وكانت الكنائس والأديرة منتشرة على جانبي النيل وفي مروى وعلى النيل الأزرق.  وكان مطارنة النوبة يرسلون إليها من قبل بطريق الأقباط بمصر.  ويقول أبو صالح الأمني "انه كانت في مملكة علوة 400 كنيسة ودير على جانبي النيل والبطاح"[37]، وتقول مصادر أخرى أن البجا كانوا في الواقع قد ظلوا على وثنيتهم أودخل منهم المسيحية قليلون-لاحظ أن مفردة الوثنية هي مفردة متمركزة مسيحيا كاثوليكيا إذ اعتبر المسيحيون والكنسية الكاثوليكية على عصر التنويرenlightenment وتنوعاته المتعددة الممتدة في الزمان-ربما حتى الآن-كل من ليس مسيحيا كاثوليكيا بأنه كافر-خارج حظيرة الإيمان الكنسي الكاثوليكي-أووثنيا ومتبررا متخلفا غير متحضر لذلك ينبغي اخذ مثل تلك التصريحات غير العلمية المتحيزة أوربيا/غربيا ethnocentric بتحفظ شديد.
فما هي روافد التنشئة الاجتماعية لجماعة بهذه الخصائص ؟
تعتبر عناصر التنشئة والقيادة البجأوية النوبية المتأخرة من نسيج صوفى فلسفى يشوبه بعض قسمات من السحر والتطير على الأرجح، اذ يغلب عليه ضغط العناصر الأيكولوجية ، وأسلوب الحياة الاقتصادية لهذه الجماعة التي يسودها اقتصاد الرعي و تعيش فى فضاءات لا متناهية. هذا ولعل التكوين المرفولوجي العشيري ،حرى بان يعبر عن نفسه فى انقسام القبيلة إلى عشائر وبطون وربما أفخاذ مما اتصل حتى وقت قريب و ربما ما يبرح ماثلا مما نحأول الايماء اليه فى قبيلة/طريقة المجاذيب فى مكان اخر. المهم كان السحر كنسق ديني ، يخدم الجماعة في وظيفة غاية في الأهمية نسبة لتعدد الطواطم.و رغم أن نسبة الأطفال بقيت لوقت طويل الى الام الا ان ذلك لم يؤثر على كل من تقسيم العمل الاجتماعى كثيرا رغم ان المرأة البدوية بقيت و لعلها ما تبرح اكثر "تحررا" و مسأواة بالرجل نسبيا من نظيرتها القروية فى المجتمعات الزراعية المستقرة بل اكثر تحررا على نحو اشد مثولا من المرأة الحضرية. و مع ذلك و رغم ظاهرة استقلال المرأة البدوية مما انعكس فيما بعد على توفر احتمال مشيخة النساء لبعض الطرق الصوفية كما سنرى الا ان كل تلك الملابسات لم تجعل من الزعيم الروحي -الساحر- امرأة إنما بقى الاخير فى البدء كاهن ذكر الا بقدر ما يحدث فىمثال اللات و العزى فى الجزيرة العربية مثلا.
ولعل الدور الاجتماعي للمرأة لم يكن يوفر لها ذلك المركز ، نتيجة لانشغالها بتربية الأطفال وتنشئتهم ،في ظل نظام الرعي الذي يحتاج إلى عناء متابعة المواشي، والى كل من يستخدم السلاح وركوب البحر معا ، وهو نظام عكس ما تتوفر عليه الزراعة من اقتصاد مستقر. على أن رواسبا في المجتمعات الرعوية السودانية المعاصرة تقول كما ذكرنا اعلاه بغير ذلك فمكانة المرأة البدوية الرعوية أرحب واشد ليبرالية وأقل تزمتا اجتماعيا في علاقتها بالرجل وفي اختيار الزوج وقد انحدرت تلك القيم للطوائف البدوية كالبقارة و الر عاة و البدو في غرب السودان وغيرهم وذلك بالمقارنة مع مكانة المرأة في المجتمعات الزراعية المستقرة وبخاصة تلك المتاخمة للحضر المدعي لنسق قيم يتصل بالطبقات الوسيطة. ولقد ظهرت من بين النساء البدويات إبان أوج الطرق الصوفية صوفيات وشيخات طرق صوفية.
 إذن يمكن إرجاع جذور التربية والقيادة إلى السحر والى نظام القرابة أوالحرب أوالاقتصاد غير المستقر ، وفي هذه النظم جميعا يتقاسم الرجال والنساء المراكز والأدوار ، وما يتصل بها من الوجاهة الاجتماعية بصورة نسبية و ذلك على ضوء التخصص وتقسيم العمل الاجتماعي المحدودين المتكررين في الزمان والمكان غير المتغيرين بصورة بارزة. و لعل تلك الخصوصيات قابلة لان ترجع الى أنماط الانتاج المسماة شرقية أوآسيوية في تنويعاتها الهيدرلوجية-المائية-الزراعية الرعوية و لو بالتماس بين الاقتصادين بوصف أنهما مكملان ولو عن طريق التبادل التجاري و السلعي التمويني.
هل الطوطمية والنظام القرابى عند البجا تنويع باكر على أوسفر تكوين الصوفية السودانية؟
يقول ابن خلدون "إن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أوما معناه"[38] ولما كانت النظم تتبادل الاعتماد نتيجة للتأثير والتأثر المتبادل بينهما داخل النسق الاجتماعي ، الذي يتألف منه مترابطة متماسكة ، فضغط الظواهر الطبيعية كفقر البيئة ووعورة الأرض وشدة جفافها والاعتماد على رعي الإبل في النشاط الاقتصادي [39]، والتخلخل السكاني -مورفولوجية الجماعة- تترتب عليه جملة متغيرات، بالضرورة ، وهي الهجرة الدورية أوالموسمية بين أقاليم المنطقة بالنتيجة، إن النظام القرابى الأمومي بنسبة الأبناء إلى الأم حتى لو كانت تسكن مع الأب في مضارب عشيرته يترتب عليه أن أفراد العشيرة الواحدة-الذين ينتمون إلى طوطم واحد هو طوطم الأم أويتبعون نسق واحد للمصاهرة يرجعهم إليها-ينتمون إلى بطون متفرقة ، أوعشائر ويسكنون مناطق مختلفة ، و قياسا قد يؤلفون مع ذلك أسرة واحدة ، وان كان لا يضمهم مكان واحد ، وهو أحد الشروط المهمة جدا والجوهرية في التماسك الاجتماعي. بالمقابل و قياسا على انتفاء هذا الشرط الجوهري ، اهتدى الجماعة إلى عوامل للترابط والتماسك هي :
- "الرباط العائلي الروحي الديني" بدون أن تنتظمهم وحدة جغرافية أوتؤلف بينهم مورفولوجية واحدة كمثل ما يكون في الطائفية.
ولعل الفونج قد ورثوا هذا النظام القرابى عن البجا-و قد سبق الاخيرون ظهور الاسلام كما فى الجزيرة العربية. فقد سادت نسبة الأبناء إلى الأمهات على عهد الفونج, و قد ترتب علي مصاهرة الفونح و حلفائهم العرب-أيلولة الوراثة لأبناء العرب الذين تزوجوا من نساء أمراء و ملوك الفونج. ففي أواخر أيامهم كان ملوك الفونج عربا من أصلاب شيوخ القبائل العربية وأحفادهم.
- الدور الذي تلعبه الشرائع الطوطمية ، بوصفها مجموع المعارف المقدسة في تنشئة الأفراد. فعلى الرغم من التفسيرات التي ألحقت بالطوطمية ، وهي في معظمها توظف المنطق الارسطي ، أوعن طريق استعارة عناصر أخرى -الخوف ، العاطفة ،الاهتمام بالذات ، الجهل بالأبوة أوالرغبة في التصالح مع قوى الطبيعية القاسية وتخفيف وطأتها، حيثما يجد الأفراد أنفسهم إزاء الطبيعة العارية بان الافراد و الجماعات ، ليس لديهم من أدوات السيطرة عليها إلا القليل أولاشيء بالأحرى- ومن ثم يلجأون استعارة هذه العناصر جزئيا أوكليا من أجل الوصول إلى تفسير للظواهر الاجتماعية. وقد بقيت المسألة عبارة عن توليف بين خيال البدائي والحقائق الحضارية. ويرى كلود ليفي سترأوس Claude Levi-Strauss في ظاهرة الطوطمية "أن أكثر ما يمكن أن يلفت نظر الباحث ، هو كيف تؤثر عناصر النظام الطوطمي -كيفية تكوين هذا النظام- والقوة المميزة لعناصر الشريعة الطوطمية، على أفراد مجتمع معين[40]. بينما يرى فريزر Frazer أن للطوطمية جانبين احدهما ديني والآخر اجتماعي ، إن الطوطمية كنظام ديني اجتماعي توفر هيكلا للمساعدة المتبادلة والحماية بين أفراد الجماعة. وثمة نظرية أخرى لفريزر يقول فيها أن المصدر الأصلي للطوطمية هو جهل البدائيين بالعمليات الفيزيقية التي يتم بها التناسل بين البشر والحيوان. وعلى الخصوص الجهل بالدور الذي يلعبه الذكر في الإنجاب. وكان دوركايم، هو أول من تنأول هذا الموضوع بالاعتبار الذي يستحقه فعلا. وهو القائل بأن الحقائق الاجتماعية تختلف اختلاف الأنساق التي تؤلف هذه الحقائق أجزاءا لها[41]، فلا يمكن فهم هذه الحقائق إذا ما انتزعت من تلك الأنساق عن سيافها النسقي. وهذا هو السبب في أن حقيقتين اجتماعيتين تأتيان من نسقين اجتماعيين مختلفين لا يمكن مقارنتهما مقارنة مجدية لمحض أنهما تبدوان متشابهتين. إنما الضروري أن تتشابه الأنساق الاجتماعية أصلا وبداءة[42].
وفي ذلك يبدو أن دوركايم قد اتجه نحو التحليل البنائي Structural analysis 3 وكان في تصوره لحقيقة المجتمع Reality of Society وأشكال تمثله الجمعي its collective representations قد زود كثيرين بأسس فكرية، يمكن استعارتها حتى اليوم، في تجربة الحياة الاجتماعية العصرية-من إضفاء منطق على مقولات الزمن، الفضاء، الطبقات الخ, ويقول دور كايم أن العشيرة هي المعبود في الحقيقة من خلال الطوطم. فالرمز الذي-يمثل العشيرة حريا بان يرتبط بأمن ورفاهية واستمرار وجود القبيلة نفسها عن طريق العدوى او التماس الطوطمى contagion حيث كل الأشياء الدينية معدية بالتماس. فالطوطمية هي العشيرة عابدة ذاتها.هي الشكل الخارجي، المرئي، لعبادة المجتمع لنفسه بواسطة أعضاءه الذين لا يستطيعون ، في تلك المرحلة ، تمثيل قداسة وتعقد المجتمع بأي أسلوب آخر ، سوى هذا الشعار ، هذا الرمز، هذه العلامة. ويمكن عقد قياس مع عبادة المجتمعات الحديثة للما حيث يغدو  المال معبود او فيتش Fetish
الطوطمية والتنشئة الاجتماعية:-
وكما في المجتمعات الحديثة ،حيث يستشهد جندي وهو يحمي رايته ، لينقذها من الأعداء، فالجندي وهو يموت من أجل قطعة من النسيج ، يفكر-في انه يموت في سبيل وطنه الذي ترمز إليه هذه الراية. ومن ثم تغدو هذه الراية ، كرمز وشعار ، أكثر قدسية من الحقيقة الاجتماعية التي تمثلها. ويصبح المجتمع في التفسير النهائي لدور كايم هو المعبود. فما يسمى بالبدائيين ربما كانوا في عبادتهم للطوطم في الحقيقة -وبغير أن يدركوا ذلك-بل ربما بادراك كامل لتجليات معتقداتهم-يعبدون قدسية النظام الاجتماعي وأشكاله المركبة. وكما في كافة الظواهر الدينية، كذلك في الطوطمية ثمة ترجيع بين المدلول والدلالة والعواطف التي يشحن بها الرمز أوالشعار ويعاد بعثها في التجربة الاجتماعية، تجربة المجتمع الذي خلقها. وهذا هو مصدر الأماني والمخأوف الطوطمية، في المجتمع نفسه والخشية منه والخشية عليه معا.
إن الطوطمية كنظام للدين في مرونتها تتأقلم مع أنساق القرابة المتباينة ، وأكثر ما تكون ملائمة حين تنتفي بعض الشروط الجوهرية للنسق الاجتماعي ، كوحدة السكن -الجغرافيا- في النظام الأمومي مثلا. مما تقوم به الطوائف في المجتمعات الحديثة نسبيا ، حيث يرتبط أعضاء جماعة متفرقة برباط روحي يضمن تماسكها وتضامنها كجماعة داخلية in-group إزاء الجماعات الخارجية out group وثمة من يرى في الطقوس الطوطمية أسلوبا للتنظيم الاجتماعي يحافظ على الوضع الراهن للمجتمع كما يخدم غاية الفرد بطريقة أكثر عمقا.
ومهما يكن من أمر التفسيرات المتعددة وما إذا كانت الطوطمية تقوم بتطمين الجماعة كغيرها من الأديان إزاء الخوف من الطبيعة أوأسرار الكون والحياة والموت أوأنها تمنح الأفراد في الجماعة الواحدة وسيلة للتماسك إزاء خطر التفكك ، أوإذا كانت تفسر عملية التناسل ، وجوانبها المجهولة لـ"البدائي" ،  طالما كانت تساند الجماعة ، في معركتها من اجل البقاء ، إزاء ضعف أدواتها في السيطرة على الطبيعة ، أوأنها، الطوطمية أوأي دين آخر-تزود الجماعة بحس التجأوز المريح والاشفاء ، في المواجهة اليومية لشواغل الحياة واهتمامه بهموم العيش وإشباع حاجاته البيولوجية ،أوبتوفير وسائل للتعبير الرفيع ، والإشباع الروحي فكافة المعتقدات النازعة الى ما وراء الطبيعة تقوم للفرد بمعظم تلك الاشفاءات و تلهمه ما تلهمه من البذل و الشجاعة و الاستبسال و النبل و الصبر والتسامح الخ. فلكل شئ ثمن.
عناد مورفولوجية مجتمع البجا
 تبقى بين قبائل البجا اقتصاد الرعي ، ومورفولوجية الجماعة ، وضغط العامل الأيكولوجي ،هي مرشدات المجتمع وموجهات آلياته-ميكانزماته ، في توافقه الداخلي والخارجي. ورغم أن ما لدينا من معلومات قليل جدا أو-و مما سجله انثروبولوجين و مؤرخين و علماء اثار على هواهم و تحذباتهم  فان التعرف على قسمات المجتمع السودانية اللاحقة تبقى مع ذلك رهينة بما كانت قد بقيت عليه منذ مجتمع البجا. و  الى ذلك فزيادة على زيادة على تحذبات المستقرين ضد البدو فان مجتمع البجا لم يتغير لوقت طويل.
على ان المهم فى محأولة فهم تلك المجتمعات هو تفادى تفسير أي جزء من ثقافة المجتمع معزولا عن سياقه. و لعله من المرجح-على ضوء المادة الخام المتوفرة إن النظام القرابي والرعوي اغلب الظن يفسران النظام الديني لدى البجا ، ومن وراءه التنشئة الاجتماعية. إن التنشئة الاجتماعية هنا ، تصدر عن المعرفة المقدسة ، وتنمط الأفراد كجماعة داخلية ، تختلف قيمها حينئذ إزاء الجماعة الخارجية. وإذ يستعير البجا الرموز الطوطمية لخلق تراتبات في الأدوار والمراكز و فبركة فوارق بينهم وبين الجماعات الأخرى ، كمثل ما يحدث بين القوميات إنما يتخذون اسم نبات أوحيوان، أوصفة هذا الحيوان أوالنبات فينتسبون إليه بصلة القرابة. وهم إذ يعيشون على ضوء النظام الأمومي ، و في مواجهة أسلوب حياة يتطلب الكثير من الترحال، تشتد فيه قسوة الطبيعة ، مناخا وتضاريسا ، كما تكثر المنازعات على الكلأ والماء، وتمثل احتمالات أن يضل قسم من الجماعة أويقصر عن اللحاق بالباقين ، فان البجا حريون بإقامة شريعة طوطمية ، يلوذون بها ويتميزون بها ويحمون أنفسهم من المخأوف المنطقية مع أوضاعهم المعيشية ، كما يحافظون على النظام الاجتماعي ، المؤدي إلى استمرار وبقاء العشيرة . وقد أثبت هذا النظام الاجتماعي عبر التجربة والخطأ وتراكمات الخبرة الاجتماعية انه جدير بإجلال الجماعة. إن التنشئة الاجتماعية تدور حول ، وتصدر عن، وتصب في هذه الغاية. وان الطوطمية شريعة محافظة لهذا السبب. وبالنظر إلى خصائص المجتمع البجأوي نجد أن التنشئة مترتبة على العامل المورفولوجي ومتصلة بالنظام المحوري وهو الطوطمية. مما يفسر الطور التاريخي الذي كان قد بلغه مجتمع البجا ، والمؤثرات التي حملتها معها هذه التنشئة ، كرواسب أوتراث إلى المجتمعات التي تطورت عنه ، كمجتمع النوبا ثم الفونج قبل مرحلة الاحتكاك العظمى بين الفونج وبين القبائل العربية ، بل أن بعض هذه المؤثرات قد بقيت معهم مما أثر بدوره في الاتجاه الذي سارت فيه وآلت إليه السلطة في السلطنة الزرقاء ، بوصفها سلطة افريقية الأصل فقد انحدر الملك واستقر للعرب نتيجة وراثة ابن الأخت لخاله عن طريق الانتساب قرابيا إلى الأم.
فالى ايى حد اثرت الانماط التى سادت لوقت طويل فى المجتمعات الرعوية المذكورة رواسبها التى تبدو عنيدة ما تنفك تتبدى فى قسمات التنشئة الاجتماعية السودانية من مجتمع النوبا و الى وقت قريب؟ 
الفصل الخامس:
المجتمعات الفطيرة Pristine Societies
والماء: اعتبارات مفهوماتية في السياق : contextual or operational concepts
 
مـقــدمــة:-
هل فبركة الانساب والاصالة وظيفة عصور انحطاط ثقافي حقا؟
رغم ان اصل التصوف الروحى اسبق على الاسلام سواء فى المعتقدات الروحبة الخاصة و الفردية الا ان الطرق الصوفية الاسلامية تحتل فضاءا يخضها احينا. و قياسا فقد يجد البعض صعوبة فى تصديق ان الصوفية ظاهرة عالمية وسابقة على الاديان السمأوية أو-و ظاهرة قد تتمثل خارجها مثل الكونفيوشية وغيرها من التمثلات الروحية الاسيوية على الخصوص. و يمكن ان يكون المرء صوفيا و كونفيوشيا أويهوديا أومسيحيا أومسلما, المهم فربما أوقع ظهور الطرق الصوفية على عهد انحلال ملك بعض المجتمعات التى ظهرت فيها الطرق الصوفية بتاريخ معظم الطرق الصوفية تهمة كونها لم تكن سوى وظيفة عصور الانحطاط. وربما كان ذلك واحد من اسباب ان الصوفية كانت تباعد ما بينها وبين وتربأ بنفسها عن كل ما يتصل بالملك. و تدعى كافة الطرق الصوفية الاصالة بالانساب و المكان و بخاصة اذا كانت تلك الانساب "اعلى" من انسابها المحلية. فكما يدعى شتى أوائل مؤسسين الصوفية فى السودان انتاسبهم من الأولياء الى محمد صلعم الا ان دليلا على ان هؤلاء وجدوا فى اماكن التى نسبوا اصولهم اليها من الحزيرة العربية و الهند الى بغداد الى دمشق الى مكة والمدينة-يتعذر اثباته الا بقدر ما يذكرون هم انفسهم فى سيرهم الذاتية مما ينقله عنهم حواريهم و شيوخ الطرائق من بعدهم. وكانت سير الطرق الصوفية قد سيسيت من الهند الى مصر و من الجزائر الى موزانبيق بحيث غدى من الصعب تتبع اصولها و تقاليدها. و يلاحظ ان الطرق الصوفية فى افريقيا جنوب الصحراء لم تكن قد افرزت أولياء "صالحين يخصونها حيث كانت الطرق الصوفية فى افريقيا فيما عدى مصر وربما بدرجة ما شمال افريقيا قد نشأت :-
- متأخرة نسبيا عن نظيراتها .
- نشأت فى مناخ يختلف عن مناخ الفتح الاسلامى.
- اتصلت بمتغيرات تمحورت حول مناخ تلك النشأة من انها كانت غالبا نتيجة أووظيفة دخول الاسلام عن طريق الصوفيين الرحالة أوالتجار المسلمين الى اقاليم لم تدخل الاسلام .
- كان دخول تلك الاقاليم الاسلام على يدى التجار الصوفيين قد ادى الى ان غدت تلك الطرق افرعا لطرق صوفية كبرى مثل الطريقة القادرية والجيلانية وغيرها.
القياسات الذاتية للطرق الصوفية:-
لمفهوم التصوف أبعاد أكثر تنوعا مما يلاحظ لأول وهلة ليس فقط في المجتمعات الإسلامية/العربية وإنما في العبادات السابقة على الإسلام وغيره من الاديان. وقد عقدت مقارنات على الأقل في السودان بين الصوفية والتصوف ونظائر عبادية وأنساق تنظيم الإنتاج وعلاقات الملكية منذ عهد الاسرات النيلية عبورا بالمسيحية حتى الإسلام السياسي. وهناك مستويات من الطرق الصوفية والقبائل والطوائف إضافة للتنظيمات العصرية مما كنت قد عاصرته أو نشطت سياسيا من خلاله-في السودان وغيره-بحيث أمكنني اقتراح أن الحداثيين لم يزيدوا أحيانا عن أن يكونوا قد غيروا أسماء و بعض "النصوص" الفكرية والآيدويولوجية "شبه العقائدية" فيما ابقوا بوعي أودون وعى على روح التصوف من حيث التطهرية و المثالية و ربما ثورية بعض الوان التصوف فى الفكر المحدث كما حفظ بعضهم على ادوار ومراكز وإشكال القيادة من عبادة التنظيم والنص و الفرد فى التنظيم الحديث. ورغم سيادة المعتقد والايديوليوجية في حياة الأفراد إلا انه يلاحظ أن الصوفية تبقى واحدة من أهم واشد الظاهرات الاجتماعية-الاقتصادية السياسية الروحية عنادا في المخيلة والذاكرة والتكيبة الذهنية فى بعض المجتمعات دون ما عداها. فسيادة المعتقد الروحي الديني لا تعنى التدين وحسب ولا تؤدى إلى دوغما دينية حيث للمعتقد الروحي دورا عمليا في حياة الأفراد والجماعات فيتسم الانتماء الروحي على نحو جدلي مركب بنفعية ملحوظة نسبيا قياسا على نظائره من الانتماءات القبلية والجهوية.
                 ولقد درج دارسوا الطرق الصوفية على اعتبار أن أسلمة السودان نشأت واكتملت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بالإسلام الصوفي المالكي الظاهرى Formalist رغم أن بعض أهم القبائل كالكبابيش لم تسلم حتى القرن الثامن عشر. وتفترض هذه الدراسة وتحأول مجادلة أن الانتماء الروحي المنظم شعبيا أو بالقرابة و الأنساب الروحية كان وما برح أقوى من الانتماء القبلي فى بعض الاحيان. وقياسا فالانتماء الروحي العبادى المنحدر إلى المجتمع منذ ما قبل عصر الاسرات يبقى الشكل الحديث نسبيا للانتماء الروحى فى السودان الشمالى أقرب إلى ما كان عليه في عهد الاسرات منه إلى ما قد يكون شائعا في المجتمعات العربية الأخرى. و ربما كان من الأوفق القول بان الانتماء الروحي يكاد يكون اشد قربا للفرد السوداني عبر القرون باعتبار أهمية العبادات النيلية و قوة أثرها على حياة الفرد اليومية المادية وفي الحياة الأخرى. وربما كان من المفيد افتراض و لو تبسيطا أن تلك العبادات كانت منذ نشوء المجتمع بصورته المعروفة قد تمأسست فوق كل شيء وبعده على تنظيم علاقات الملكية والإنتاج المرشدة بدورها بالقرابات الروحية وتراتباتها. ولعل مزاج تلك النظم الاجتماعية كان وبقى مما لا يمكن فصم عناصره بعضها عن بعض وبخاصة فيما يسمى بالمجتمعات الهدرولوجية. فتلك النظم الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية الروحية حرية بان تسلم-في أكثر تظاهراتها تعبيرا عن الشعور الجمعي بالخطر إزاء التصرفات الهيدرولوجية للطبيعة غير القابلة للتحكم فيها كما فى النهر و المطر-المجتمع بكامله للميل الصوفى. و يصدر ذلك الميل عن الاحساس الجمعى الأمان لوفاء التصرفات الهيدرولوجية للفصول والمواسم والاحساس بالخطر لتخليها عن ذلك الوفاء. فعلاقة الانسان بالطبيعة بكاملها تسلمه الى نوع من الغيبية تتمحور حول النظام الايكولوجى من مطر ونهر وفضاءات فيزيقية لحدود واسعة سعة إقليم يكاد بصحرأواته وأدغاله الشاسعة يشارف سمعة شبه القارة الهندية.
ومن ثم تبقى شدة ميل الفرد السوداني نحو الانتماء الروحي أكثر منه انتمائه العرقي والجهوى من الظاهرات الفذة حقا. ولقد كان الانتماء الروحي/الديني تحول إلى "اثنية" أوقرابة باكرا و قبل دخول الصوفية إلى السودان وبات أكثر مثولا منذئد على الأقل. ويمكن القول أن الميل نحو الانتماء الروحي ظل متصلا في مجتمعات وادي النيل منذ قديم الزمان ولعل في ذلك تفسيرا جزئيا لما لوحظ من ضعف الحس العنصري لدى مجتمعات وادي النيل القديمة إذ لم يجد المؤرخون وعلماء الآثار في المصريات [43] مفردة تدل على التفرقة العنصرية[44]. وقد لوحظ فيما بعد أن العنصرية واضحة لدى اليونانيين-وهم ورثة الحضارة الوادي النيلية. اذ كان اليونانيون يوصمون كل من هو غير يونانى بالبربرية. لقد كان كافيا في وادى النيل الاسراتى أن يؤمن الفرد بمعات أو آمون أو آمون رع وغيرهم من الآلهة المركزية التى تنظم الكون-الذى يخص القوم و يعرفونه و يدل عليهم-كون مآت اطار فكرى أونظرة الى العالم كما كان على الفرد ان يؤمن الى ذلك بآلهة الممالك والأمارات المحلية الصغيرة حتى يغدو "مواطنا" إذا صح التعبير. ولعل ذلك يفسر كيف كان غزاة شمال وادى النيل و جنوبه يغدون "مواطنين" بيسر فيحرزون الخلود. و يغدو الواحد منهم وادى نيلى سعيا الى الخلود اذ يدعى الهة وادى النيل و النسب اليها و الانحدار من صلبها ضمانا للعودة اليها فى الحياة الاخرى. فلقد غدا الهكسوس والبطالمة منذ الاسكندر الأكبر في الأسرة الواحدة والثلاثين وادى نيليين و وآلهة وادى نيلية. وحتى عندما جاء بعضهم ربما بآلهتهم أوكانوا هم أنفسهم أصحاب آلهة مركزية وربما كانوا كمثل مينا، أول الملوك وموحد شقي الوادي، من أصلاب الآلهة إلا أنهم جميعا عبدوا آلهة الوادي النيلية الاسراتية حتى النهاية.
على ان عبادات وادى النيل كانت قد تعرضت ما بين نهاية الأسرة الواحدة والثلاثين وحلول الإسلام على شواطئ النيل الشمالي ثم الجنوبي لتداعيات الغزو والتنصير ألقسري ففرقت تلك العبادات بين الأفراد جراء حلول تنويعة غريبة من نمط الإنتاج الشرقي وقد اخترقه نمط الإنتاج الإقطاعي الأوربي عشية سقوط الإمبراطورية الرومانية. ولما حط الإسلام في وادي النيل من الشرق والشمال تمثل الاسلام بوصفه عبادة راقية تميزت عما عداها من العبادات المحلية. فما إن دخل الإسلام الصوفي المالكي المحافظ السودان حتى غدا الفرد الذي أسلم عربيا وغدا العربي سوداني. أى أن المسلم عربي بغض النظر عن العرق الأصلي. فربما يكون الفرد اقل دماء عربية من أن يغدو عربيا إلا أن السلالات والأنساب السودانية استطاعت نزوعا-إلى ثقافة وعرق أرقي-أن تفبرك أصولا عربية عريقة بلا أدنى تردد وصولا في النسب إلى العباس. وهكذا-و رغم سلبيات التفرقة اللاحقة-فقد عاد الانسان السودانى المسلم المعرب الى نقطة البدء مجددا فى دورة فيزيقية كاملة اذ   لعب الاسلام دور معات فبات الناس اندادا فى الاسلام افتراضا.
على انه من المفيد تذكر انه ما إن احتل الغزاة مواقع السلطة المركزية الخراجية حتى تعينوا على تفريق السودانيين في سلالات قبلية أخذت تحييد من آلية تذويب الفوارق والنعرات العرقية. فقد تعينت كل من أزمنة الشدة و تقصد الاستعمار على تعميق الفوارق فكرست السلالات القبلية. على أن الفرد السوداني كان وبقى-في محأولته فهم بيئته والتعامل معها بكل عناصرها في تذبذبها العنيف أحيانا وترددها في العطاء وفي سخائها أحيانا أخرى-يستدعى منظومة قيم تتسامح ثقافيا وعلى نحو صبور ومترفع وشبه فلسفي مع الطبيعة ومع غيرها. ذلك أن الفرد السوداني فيما يبدو كان قد اكتسب تلك الروح الفلسفية من طول اعتراكه مع طبيعة تتسم مرة بالسماحة والكرم وبانبساط الأرض وسعتها و وفرة الماء وخصوبة التربة وما تجود به و كانها من السماء الا أن مناطقا ومراحلا في حياة المجتمع كانت تمنى بشح وندرة ما تعود الفرد السوداني على كثرته و تدفقه و هكذا. فقد كانت تلك الطبيعة حرية بان تتسم بوفرة وعطاء ملحوظين حتى قيل أن "البطانة"-وهى منطقة وسط السودان تعتبر من أهم واكبر المناطق الرعوية-تشبه قربة الماء بحيث ينبت الزرع كما لو كان قد بذره الجن وسقاه بليل لتثمر فى الصباح الأرض بلا عناء كبير[45]. و مع ذلك فهو نفس المجتمع الذي تتهدد فيه حياة الفرد المسافات الطويلة والأدغال و قسوة صحرأواة التي لا تدانيها صحارى. سوى ان العلاقات الأولية وتصدر عن صوفية المجاميع الريفية وربما بعض البدو عن وعود كريمة مضيافة دائما تليذه دائما. و لعل هذا المزاج المركب يفسر لو جزئيا كيف أن الفرد السوداني يلوذ بتلك المنظومة التي تتفرع عنها تصوفا يخصه فهو الذى ينتجها ويعيد إنتاجها كلما لم يبق له مما يعتد به أويعتمد عليه. ذلك ان العلاقات الثانوية-الدولة وما يمثلها ما تنفك تخذله بصورة دورية وفق دورة ودائرية قيام وسقوط الدولة و المجتمعات التى يعقد عليها الافراد امالا "حداثية" و قد نظمتها جماعات وأفراد في نضال الطويل.
وتقف الصوفية من وجهة نظر هذه الدراسة كواحدة من أهم واشد الظاهرات الاجتماعية - الاقتصادية /السياسة/ الروحية-عنادا في تاريخ السودان منذ نشأت الطرق الصوفية في القرنين السادس والسابع عشر وحتى التركية الأولى وصولا إلى الحركة المهدية. ومن ثم فلربما كان من المفيد التطرق ولو بإيجاز إلى أن الفئات الحديثة في السودان تحرص ولو متسترة على الإبقاء على ولائها الروحي لطرقها الصوفية وطوائفها. ومن الأمثلة التي لم يقيض لها التحليل الموضوعي وان كانت قد حظيت بالوصف و وصمت مرة أودمغت ومرة اخرى ايدت واحتفل بها. فقد دمغت بعض قيادات مؤتمر الخريجين وقد كون في أربعينات القرن العشرين لإدارة عمليه الاستقلال السياسى بالاستقلال في الرأي المستنير الطائفية و هى تنويع على الصوفية. وكانت بعض قوى مؤتمر الخريجين قد انسلخت عن اصولها القبلية الصوفية الى ما كان تنظيما علمانيا بدرجة ملحوظة الا انها لم تنفك ان عادت الى حضن الطائفية. و كان بعض رموز حركة الخريجين قد وصف الطائفية بالأرستقراطية القبلية واستعرر بعضهم من الصوفية.فما الذي يدفع مثل هؤلاء الأفراد إلى ما اعتبر نكوصا إلى رحم الانتماء الروحي؟ وهل كان ذلك نكوصا منهم؟ هل كانت عودتهم إلى الطائفية نوعا من ضعف الوعي الاجتماعي يوم ذاك ؟ أم كان موقفهم نوع من النضج السياسي؟ هل كانوا نفعيين ؟ هل كانوا وصوليين؟ وبالتالي هل كان الانتماء للأحزاب المسماة حديثة وعيا اجتماعيا متقدما وأكثر نضجا بالخروج عن الطائفية والقبلية؟
1- التصوف Mystique  والعبادات الرمزية:-
                 من الظاهرات الشائعة في كافة المجتمعات السابقة على الرأسمالية والطبقات - مما يعود اليوم فيتمظهر في المجتمعات ما بعد الصناعية وما بعد التقليدية-ميل إلى الظواهر التي تدفع بالفرد لإضفاء نوعا من التقديس التصوفي Mysticism تحيط به ويتعامل معها فيما يتبدى أحيانا في تنويعات من الأسطرة(من الاسطورة) أوالترميز ويحيطها أحيانا بهالة من التقديس التصوفي. ويتسق ذلك الميل من ناحية أخرى مع، ويصدر عن، ميل نحو الانتماء الروحي . والفرد السوداني ميال إلى الانتماء الروحي رغم أهمية القبيلة والعشيرة والأنساب والانتساب القبلي الاثني كمثل ما يكون الانتماء الطبقي في المجتمعات الطبقية أوالانتماء إلى النوادي المتخصصة وفرق كرة القدم والأحزاب السياسية العصرية. وهذا الميل الروحي هو الأكثر عمقا من الميل العرقي أوالطائفي. ويتفق غالبا أن يغدو الميل الروحي العبادي التصوفي هو الخيط المتصل بالقرابات الاثنية والذي يصلها ويقف وكأنه واقع متضمن فيها وفيما ورائها وفوقها Transcendent.
الصوفية والمرعى والمسيل:-
مما يفيد التطرق إليه بإيجاز حتى يتم تفصيله تحليلا هيمنة ظاهرة البدونة أوتأثير البدو والأعراب على أنماط الحياة والعلاقات و تنظيم الإنتاج المعتمد على البدونة على المجتمع السوداني منذ قديم الزمان. ويلاحظ ذلك حتى ولو كانت علاقات الملكية أوتنظيم الإنتاج يتصل من حين إلى آخر بالاستقرار وتنظيم المجتمع المستقر. فثمة دورة تتكرر بين الاستقرار والبدونة وإعادة البدونة re-nomadisation. وتلاحظ الأخيرة فيما يتصل بتنظيم الإنتاج والتكافل بين البدأوة والاستقرار بصورة شبه عضوية. فمثلا منطقة البطانة اكبر مناطق المرعى والمسيل هي منطقة زراعية هامة أيضا لا تنقصها دعائم الاقتصاد المستقر سوى أن الميل نحو اقتصاد الرعي يبدو وكأنه أقوى لدى الكبابيش منه إلى الاستقرار المنتهي على ارض محددة بحدود منتهية. إن قبيلة البجة تعتبر أولى القبائل البدوية التي عرفها التاريخ المكتوب فهي من أقدم إن لم تكن أقدم قبائل الرحل على شواطئ البحر الأحمر شمالا حتى مصر وجنوبا حتى القرن الأفريقي، وتنسب إليها أول بوادر نشوء الدولة ونسبة التشكيلات السلطوية الفطيرة Pristine [46] على مر آلاف السنين منذ ما قبل عصر الأسرات النيلية الأفريقية العليا.
فربما لم يكن البجة منذ ظهورهم مترحلين بسبب كون المناطق التي كانوا يعيشون فوقها لم تكن قد تصحرت، بل العكس فقد تميزت منطقة الصحراء الشرقية الممتدة من الدلتا حتى سواحل البحر الأحمر بأنها كانت مغمورة بالماء وكانت مصدرا عظيما لإنتاج الطعام المائي كغيرها من أراضى الدلتا نفسها. فقد كانت الأخيرة مغمورة بالمياه قبل أن تجف بزمان طويل وقبل أن تتصحر فتغدو على ما أصبحت عليه في مرحلة متقدمة نسبيا من تاريخ التحولات الآيكولوجية للمنطقة[47]. ورغم أن الصحارى لم تكن كذلك حتى تصحرها بالأخذ المغالى فيه من الموارد المائية والغذاء المائي إلا أن تلك المساحات عرفت بالنأي عن النهر فباتت ملاذا لجماعات خارجة على السلطة المستقرة على ضفاف النهر على مر آلاف السنين. ولعل المزاج المركب للفرد الوادي نيلي يفسر ولو جزئيا كيف أن الفرد السوداني يلوذ بطواقم تتوفر عليها تصوف يخصه ينتجه ويعيد إنتاجه كلما لم يبق كثير مما يعتد به أويعتمد عليه من العلاقات الثانوية ووعودها التي قد تخذله بصورة دورية وفق دورية ودائرية قيام وسقوط السلطة المركزية في المجتمعات النيلية المستقرة.
وتعتبر قبيلة البجة، وهي أقدم قبائل البدو الرحل ولم تكن بداءة تعيش فوق ارض متصحرة، قبيلة بدوية رغم خصوبة وكثرة ماء ما بات يسمى بالصحراء الشرقية. فلم يكن التبدون قاصرا على بادية جافة أومتصحرة وإنما هو أسلوب حياة يبدوأنه يتصل بمرحلة الجمع والالتقاط وهي أقدم من الزراعة،[48]وهناك جماعات ما تبرح تفضل حياة البدأوة والاقتصاد الرعوي على الاستقرار فيغدو أسلوب حياة اختياري أكثر منه انصياعا لعوامل ضغط فوق اجتماعية ما بعد اقتصادية. ولان للبدو تاريخ يتصل بعلاقة تتسم بالشدة مع المستقرين ولان تاريخ البدو يكتبه المستقرون فقد يعمش تاريخ البدو وتأثير البدو على الحياة المستقرة والمستقرين في أفضل الأحوال أويشوه ويفبرك على نحو قد يسئ إلى ذلك التاريخ. ولقد انحدرت مفهومات إلى المجتمعات العربية-التي يتصل وجودها بالبدو وباقتصاد البدو باكرا على نحو جعلها راسخة حول البدو كلما قطن البدو أوترحلوا وراء المرعى والمسيح فوق ارض تعمر بالسلع الاستراتيجية مثل الماء والنفط والمعادن النفيسة. ويصدر المستقرون عن عداء قديم للبدو ويستدعون ما نزل في القرآن الكريم حول الأعراب انتهاء بما يراد اليوم إنشاؤه من الأساطير المفبركة حول أولوية حق المستقرين على البدو في بناء المدنالدول والمراكز الحضرية والمدينة العتيقة [49] وصولا إلى مدن الدول الخليجية.
وما يهمنا بالنظر إلى البدأوة كظاهرة هو أثرها على كل من أنماط العلاقات الاجتماعية المستقرة وعلى تنظيم علاقات المكيلة وعلى نشأة الدولة وعلى تشكيلات السلطة بالإضافة إلى علاقة البدو بالسلطة الوضعية المستقرة وبالعبادات التي كانت قد تمحورت حولها المجتمعات السابقة على الرأسمالية وعلى الطبقات وعلى الإسلام والطرق الصوفية واللاحقة للإسلام في السودان بحيث يمكن تعليل ظاهرة الطرق الصوفية كتنظيم اجتماعي عنيد. وبالنظر إلى البدو فان المجتمع النيل الاسراتى وما قبله كان قد عرف البدأوة كشكل اسبق من أشكال تنظيم المجتمع المحلى وإلى ذلك أحدثت أشكال التنظيم القبلي البدوي أثرا باقيا إلى وقت قريب وربما حتى الآن يطبع أشكال التنظيم القبلي المستقر وتنظيم الإنتاج وشكل الدولة بل وتشكيلات السلطة حتى اليوم. و من هنا يمكن القول بان كل من التنظيم القبلي المستقر والمبدون وما ينتظمها من الانتماء الروحي والتصوف والصوفية يمكن اعتبارها خواص لازمة لأشكال التنظيم الاجتماعي في مجتمع كالسودان. وان لزوم هذه الخواص يتصل بدوره بمرحلة تطور المجتمع. ذلك أن الشروط المواتية لنشوء المجتمع المحلى أوالمجتمع ككل وتقدمه إلى مرحلة أعلى إذا لم يقيض لها التحقق فان تلك الشروط تبقى في حالة مائرة رخوة وقابلة للنكوص إلى أشكال اقل نضوجا بحيث تتكرس علاقات وأشكال تنظيم اجتماعية بعناد ومنها القبلية بأشكالها المستقرة أوشبه المستقرة والبدوية وما تتمحور حوله تلك التنظيمات من عبادات ومنها التصوف والصوفية[50]. و  الى ذلك فثمة عوامل اكثر ضغطا على التجمعات السكانية السودانية منها عوامل الطبيعة العارية على الزمان والمكان الاجتماعيين الاقتصاديين. و من تداعيات ذلك الضعط التحول المكانى الحال بكل من الممرات المائية و المدن و القرى الواقعة على مشارف أوعند شطوط تلك الممرات المائية.
تعالق مواقع المستقرات البشرية و الانهر والخيران:-
رغم ان بعض علماء الاثار امثال بيل Bell لاحظ-1945-تحول مجرى بعض الانهر و الخيران الموسمية الا ان تلك التحولات لم تكن درامية. ففيما عدا اغراق الفيضات شواطئ بعض تلك الخيران ابان المواسم الاستثنائية فان تصرف الانهر والجدأول السودانية غالبا ما لا يخلف اثارا مزعجة بدرجة ملحوظة على السكان و قد عهد الاخيرون تصرفات الانهر والخيران والجدأول فى مناطقهم. وعليه فان المدن والقرى التى قد تقع عند شواطئ تلك الممرات المائية لا تتحول فى كل مرة بعيدا الى جوف الداخل عن مواقعها المعهودة. الا ان التحولات التى تحل بالمدن والقرى الواقعة على شطوط الممرات المائية الموسمية كالانهر الفرعية فغالبا ما تعبر عن نفسها بصورة ملحوظة. و يغيير نهر السوبات من الجنوب مثلا اسمه ما ان يشارف منحناه الجنوبى متجها نحو المنحنى الشمالى و كأنه يستدير حول نفسه فى شبه دائرة كاملة. ويعبر نهر السوباط بهذا الوصف اكثر من أى ممر مائى سودانى عذب آخر عن ظاهرة غريبة تتمثل فى تلك الدورة شبه الكاملة.
وما تبرح التجمعات السكانية تتحول فى السودان مع تحول موقع المدن والقرى جراء تصرفات الانهر والجدأول والخيران والمطر والفيضان. فالوادى الذى يبدأ عند بحر العرب مثلا يتحول الى خور ام علوان و خور ديلينج وخور خوجلى وخور الميرى وخور كليتان وخور ام بريمبيطا أو ام بريمبيتا وخور الباثا وخور ام عبد الله وخور الدليب وخور الكاجانا. لكل تلك الخيران تتحول من بحر العرب الى خور العلوى[51] وفى طريقها المتعرج حول جبال النوبا من الجنوب الى الغرب فالشمال من بحر العرب الى خور العلوى تعود وتلتقى بمبدأها مرة اخرى فى دائرة كاملة كما ذكرنا. وهناك مسلسل اخر يتعالق فيه تحرج مجرى النهر والخور والجدول وظهور واختفاء العمران. فمن خور ابو جبيحا وخور ابو دية أودية البخاس و خور الدبيبة وخور ام حشاما تصل تلك الخيران الى النيل الابيض[52]. و حيث ان هذا المنوال ليس نادرا بالنظر الى الممرات المائية الموسمية و الانهر الفرعية وبين المستقرات السكانية على ضفاف الاخيرة فان ذلك المنوال حري بان يبدون الناس و المدن و القرى بهذا الوصف.
ولا تدفع قوة الهدير ابان فصول المطر و مواسم الفيضانات مجرى النهر و الجدول الى التحول معها و انما تدفع تلك الحركة بدورها المدن و القرى التى تقع على جانبى تلك الخيران الى التحول و سكانها من مكان الى اخر. وحيث تبدأ سلسلة من الخيران من عند منحنى الجبال فان القرى تغدو بدورها موسمية اذ يبنى الناس بيوتهم على نحو فصلى منوالي استجابة لتصاريف الخيران و الانهر و الماء الجوفى. و تظهر المستقرات السكانية وتختفى بدورها على نحو مفاجئ و غير قابل للتكهن به احيانا. وتعبر تلك السلسلة من تعالق تحول الانهر الفرعية و الخيران و العمران عن نفسها على نحو متلازم و متعارض. و لا يقتصر الامر على المدن و القرى الواقعة على شطوط الانهر و الخيران العذبة وحدها فالموانئ البحرية قد عرفت أوكانت مستهدفة بدورها لتحول مواقعها كنتيجة لتصرفات دلتا البحار و كمية النشاط التجارى البحرى وحجم السفن والتجارة البضائع وغيرها. وهناك أسباب اخرى تفضى الى تغيير مواقع الموانئ. فمثلا تحول موقع الميناء السودانى سواكن فى بداية القرن العشرين من الموقع القديم لسواكن لاسباب يعتقد انها سياسية لا اكثر[53]. فقد خلفت الادارة الاستعمارية ميناء سواكن الاكثر صلاحية للملاحة و قد تميزت سواكن دون بورت سودان مثلا بكل من المرفأ العميق بالقدر الكافى و بعمق المرفأ الى جوف الداخل مما يحمى السفن من العواصف البحرية. الا ان ميناء سواكن لم تنفك-و قد اهملت لحساب بورت سودان-أن اسلمت امرها للنمو المتعاظم للاصداف البحرية و الطحالب و قد نال الاهمال من المدينة نفسها فباتت شبح لذاتها البديعة السابقة[54].
فهل يبقى التحليل الاقتصادى للظواهر السودانية اغلب على ما عدها حقا؟ لعل التحليل الاقتصادى أدعى الى فهم المجتمع الإنساني ككل في مساره الكلي أكثر منه في تظاهرات المجتمعات الرخوة على الخصوص كل على حدة متفردة بخصائص تخص تعالقها في إطار تبادل الاعتماد الإقليمي أوما بعد الإقليمي الكوني مما سنتعرض إليه بإيجاز فيما بعد.
اتصال التربية بالعقيدة المتمأسسة على العوامل الايكولوجية:-
بالنظر إلى النظام الاقتصادي وفي داخله العوامل الأيكولوجية في ضغطها على المجتمعات البسيطة ، ثم إلى النظام الديني بوصفه حصيلة وتكريسا للخبرة العشائرية -الإنسانية ، فان التربية تغدو شديدة الاتصال بالدين كنظام له هذه القيمة المحورية التي سنتنأول تحليلها وعوامل انحدار هذه القيمة إليه-النظام الديني-فالتربية إنما تعني بتنميط الأفراد في قالب يضمن تجانسهم وانضباطهم في المناشط والفعاليات الاجتماعية المعززة للتماسك والترابط الاجتماعي social order  وبتأهيلهم للأدوار المنحدرة إليهم بحكم مراكزهم في النسق الاجتماعي. ولما كانت غاية التربية في خلق "الفرد الاجتماعي" على ضوء نموذج القيادة والمثل العليا، لكل مجتمع والمنعكسة عن طائفة القيم والغايات الاجتماعية ، وللمجتمع الواحد في كل مرحلة من مراحله. فان التربية الاجتماعية socialization قد تشكلت داخل أنماط تربوية مختلفة إلا أنها بقيت ذات غاية واحدة هي التضامن الاجتماعي.
تنويعات القيادة والتربية التقليدية :-
تتنوع ظاهرات تظهر القيادات الاجتماعية السياسية التقليدية والحديثة في السودان وتتراتب بصورة تؤثر على مسارات التغير الاقتصادي الاجتماعي وتتأثر بالتغييرات الحالية في المجتمع. كما أنها تؤثر وتتأثر في تفعيل تلك التغييرات في التنظيمات التي يتوفر عليها الأفراد. ويتقبل الأفراد أويخضعون لتنوعاتها المورثة أوالمطورة المحدثة فيما يتصل بالتغيير الذي يتم أويتم ادعاء حدوثه في التنظيمات الاجتماعية الاقتصادية على مر الأشكال السلطوية والقيادية التي قيض للسودان أن يفرزها من التمثلات متصلة بتلك الظاهرات المتعالقة أوالتي تبدو متبادلة التعالق والاعتماد . كما أن ثمة تحولات عميقة تتم في تلك الظاهرات المتبادلة التأثير والتأثر والاعتماد من قلب المجمل الثقافي الاجتماعي للمجتمع السوداني. فمن المعروف بقرائن أحوال التغييرات المعاصرة منذ منتصف القرن العشرين إن لم يكن باكرا بكثير أن ثمة وتيرة أومتوالية يلاحظها الباحث في تاريخ وتحليل التنظيمات الاقتصادية الاجتماعية السودانية تتمثل في حالة شبه تكرار لنشؤ وسقوط أوانحلال التنظيمات المحورية بحيث ترتقي إلى أعلى درجات ممكنة بحسب شروط تطورها منذ عهد الأسرات الفرعونية أو/و تنكص إلى تنويعات مشوهة على ما كانت عليه. ثم ما تنفك تلك التنظيمات المحورية تنحل بدرجات متفأوتة وفي مقياس متدرج من الأكثر محورية إلى الأقل محورية إلى ما يشبه عناصرها الأولية أوتغدو كمثل أشباه لما كانت عليه لحظة كان مقيضا لها البقاء.
ويظهر تشوه الأشباه السابقة بدرجات متفأوتة ونسبية في المنظمات ذات الطبيعة المحورية كالدولة المحلية-الإمارة أوالمشيخة أوالطريقة الصوفية في أعلى مراتب سلطتها. وتتظهر تلك المتوالية أوذلك المنوال الدائري cyclical routine بصورة اشد تبيانا في الدولة المركزية في اشد تنوعات انحطاطها كمثل غيرها. ولقد شهد السودان عصور حضارة وارتقاء لمؤسساته وتنظيماته المركبة المحورية والمحلية وعصور انحطاط وتدنى في شروط الارتقاء والنشوء متبادلة الاعتماد مع ظاهرات مسأوقة وسياقية contextual وبدون الدخول في تحليل ظاهرة تواتر كل من الازدهار والانحلال الثقافي Recurrence، وما إذا كان راجعا لنظريات الدورة في تطور المجتمع أومتصلا بالعصبية التي يرتبط بتماسكها منتهي العمران وتفككها يعني نهايته-إلى براديجما ابن خلدون-أوإذا كان مرجع ذلك اضطراد في نمو المجتمع من مرحلة إلى مرحلة متقدمة بحيث لا يمكن الجزم بأن كل مرحلة لاحقة هي مرحلة متقدمة على المرحلة السابقة عليها.
ولقد بقى الاقتصاد التقليدي طوال ذلك "خارج الإنتاج"، وقد تفاقم تجذير المؤسسات التقليدية بالضرورة في تنويعات اتصلت من عبادات وادي النيل على عهد الاسرات وما قبلها إلى المسيحية ثم الإسلام الصوفي - المالكي مع إبعاد متفأوتة من المذهب الحنفي - ثم الطائفية المسيسة ، لذا يبقى الدين في تراثيات قربه وبعده عن النصوص نظاما محوريا في المجتمع السوداني. ولقد اتصل التعليم بأشكاله منذ القدم وكذلك التربية الاجتماعية والمثل والعادات والتقاليد وقيم توزيع الأدوار وتقسيم العمل الاجتماعي بالدين. وكان المجتمع السوداني مر بعهد الملكية الإلهية المطلقة ، فالملك هو القائد وهو نصف اله وسيد الرعية حيث تتصل مراكز السلطة ، وتتوزع الادوار والمراكز وتتأكد الوجاهة الاجتماعية وفق النظام المحوري الذي يترأوح بين السحر-الوثنية-الطوطمية الاحيائية-المسيحية-اليعقوبية-الإسلام المالكي المتشدد والانسلاخ المسيس-الطائفية. وحيث كان القائد العسكري ملكا وكان الملك يتطلب صفات تتصل بكل من الحرب والسحر فقد كان القائد حريا بان يتمثل بوصفه حاكما ونصف اله وربما كاهنا مثلما كان رمسيس الثالث واخناتون الخ. وإذا لم يكن الكاهن قائدا فانه متصل بالصفوة المقدسة الحاكمة، إذ تعضد المعرفة المقدسة الحكام والسلطة وتبرر وتفسر امتيازات الشرائح السلطوية.
وقد شهد المجتمع السوداني القديم ومازال يشهد تداخلا بين النظم الدينية والنظم التربوية-فقد كان الكاهن والتربوي مركزين متداخلين وربما أوقفا على فرد واحد مثلما فى بعض زعامات الاسلام السياسى فالاسلام الجهادة على الخصوص. و نادرا ما خرجت مهمة القيادة العسكرية والدينية التربوية عن رأس العشيرة أوزعيم القبيلة. وحتى عندما توفر من العوامل ما سمح بتخصص وتقسيم العمل مما غدا بهما من الممكن لبعض الأفراد إلا ينخرطوا في إنتاج الغذاء والتفرغ للحرب أوللتنجيم أوللتربية ، فلم يزد ذلك عن أن يوزع القيادة ، داخل الجماعة، بين فئة قليلة العدد من صفوة الحكام [55] بالمقارنة مع أغلبية المحكومين، سوى أن الفوارق على ضوء الملكية ومفهوم الثروة والحيازة ما كانت لترقى إلى مرتبة التمايز الطبقي بالمعنى المعروف كلاسيكيا بعد. ومع ذلك كانت الأنساق الاجتماعية هرمية، تنحدر السلطة فيها من أعلى وفق قرب أوبعد الأفراد من القوى الروحية، الآلهة، فرعونية مصرية أوكوشية أوعلى عهد الفونح متفرعة عن ومنحدرة من رواسب تم استيعابها في النسق الأصلي لأجزاء ثقافة وافدة أنشأت نسقا متكاملا يخصها أوثقافة محلية افريقية أصيلة المنشأ قادرة على استيعاب الوافد من الثقافات والتراثيات الاجتماعية الجديدة الغازية في اغلب الأحيان ومن ثم كان الملوك آلهة تارة وقادة عسكريين تارة أخرى، وكان الكهنة سدنة السلطة ودعامتها. بل صار فيما بعد للكهنة ، و ورثتهم السحرة مكانة لا تقل وأحيانا تفوق الملوك نفوذا[56].
وقد مرت تسعة قرون قبل ان تحل ظواهر المجتمع الإسلامي حلولا شبه متكامل محل الظواهر الاجتماعية المسيحية اليعقوبية أوالوثنية الطوطمية. ولتحري الدقة، فان ملامح المجتمع المسيحي كانت قد أدخلت عن طريق حملة تأديبية. كذلك فان أسلمة مملكة علوه "سوبا" -لعزلتها- جاءت بفتح عسكري . والواقع أن هذه المجتمعات وظواهرها جميعا قد تعايشت لزمن طويل بخاصة بين الأهالي في الجوف اذ كان يبدو أن أفراد السلطة كانوا أكثر تقبلا أوتسرعا في تبنى الميول والاتجاهات والعبادات الوافدة إما براجماتيا أولقربهم من مصادرها وذلك تزلفا للغزاة في حالة الانكسار أوالحصار. فسرعان ما تبنى افراد السلطة القائمة الوافد من الاجزاء الثفابية قياسا على العامة الذين لم يكن ما يجرى في المناطق الحضرية المركزية يضيرهم في كثير أوقليل طالما أن أسلوب حياتهم بدورات الفصول وتعاقب مواسم الزرع فالحصاد لا تناله. فالتحولات المركزية لا تصيب العامة فى الجوف باضطراب وقد لا يطاله اغلبها الا بقدر ما يتفاقم الضعط على الخراج. ويتأكد من واقع تاريخ السودان الشمالي أن الأديان، فرعونية، ومسيحية، وإسلامية، انتشرت بين السكان الأصليين عبر صراع اجتماعي على مستويين ، مستوى الاستعداد التدريجي البطيء جدا الناتج من خلال معايشة جماعات مهاجرة أومتاجرة ، مقيمة أوعابرة. لقد اختلط العرب بالفونج بالمصاهرة والجوار كما اشتركوا في حكم السلطة الزرقاء ، وزراء وعلماء ورجال دين وأولياء وكان لهم تأثير مباشر على التغييرات التي لحقت النظام الاجتماعي جملة وتفصيلا، وكانت العربية والإسلام أدواتها الأساسية.
والمستوى الثاني هو الغزو. وفي الحالتين كان ثمة مقأومة مستترة Latent وأخرى ظاهرة manifest في التقبل والاستقرار عليها. وهذه الظواهر والأنساق القبلية أوالطوائف الدينية ، الوثنية منها أوالسمأوية أوتوليفة مهجنة من كليهما، أومن دينين سمأويين ، كالمسيحية والإسلام ، أومنها جميعا[57]. كمحصلة منطقية مع العملية المتصلة لحركة الأجزاء والأنساق الثقافية وافدة أومستمدة borrowed أوغازية مفروضة ، ما تلبث أن تتواءم وتتوافق مع النظم الأخرى ، المؤلفة للنسق الاجتماعي معدلة فيه فيتم قبولها بسهولة أوتلقي مقأومة وصدا ، فتنزوي أوتكمن في صدور أفراد جماعة ضاغطة حتى تجد لها سبيلا إلى الاستقرار بين الظواهر المكونة لعادات الأفراد ومعتقداتهم وقيمهم وتقاليدهم ، وأنماط سلوكهم وما يصدرون عنه في علاقاتهم الاجتماعية وفق نظام تربوي متعامد interdependent عضويا مع النظام المحوري والدين ونسق القرابة. وتحأول هذه الدراسة مطبقة على السودان معالجة كيف أن الظواهر الاجتماعية التي تعاقبت ، ظهورا وضمورا لتكون مجتمع النوبة والبجة، ثم مجتمع الفونج وحتى حركة الثلاثينات-وهو ما سنعرض له في الفصول التالية- اتصلت فيها نسبة قوية من النظام الديني والاقتصادي والنظام التعليمي. وسوف تبدأ الدراسة بالسودان الاسراتى القديم:-
- مجتمع النوبة الاسراتي:-
 كانت مورفولوجية الجماعة بين النوبة وظيفة العوامل الايكلوجية ومحصلة لها. وكان الدين وظيفيا بدرجة عالية ، نتيجة للمحافظة الشديدة وسببا لها أيضا. ومن ثم فان البيئة الاجتماعية كرست هذه الظواهر كما غدت خاصة من خواصها ودالة من دالاتها. ولما كان المجتمع البجةوي أشد خضوعا للعوامل الطبيعية نسبيا ، فان الظواهر الايكولوجية فيه أملت اتجاهات وأساليب الإنتاج ، أي النظام الاقتصادي جميعا ، حيث اثمرت نمطا للبيئة شديد الاتصال والتعبير عن الحاجات البيولوجية الممثلة في الأوضاع والظروف الاجتماعية القريبة في مستواها من مجتمع الصراع من أجل البقاء والإنتاج من أجل الغذاء فحسب. أن أدوات الإنتاج لدى البجة لم تكن تبلغ في تطورها حتى تلك الأشكال التي كانت سائدة في المرحلة البربرية كما صنفها مورجان Morgan، فنحن نجد أن الأدوات الموصوفة في الياذة هومروس Homers Iliad -حيث بلغت المرحلة البربرية Barbarism قمتها-اقل تطورا مما كانت عليه أدوات الإنتاج لدى البجة قبل دخول المسيحية والإسلام.ومن هنا فان الأمر يدعو للاعتقاد بأن النظم الاجتماعية المتوائمة مع هذه المرحلة هي نظام القرابة ونظام المصاهرة  consanguinity الذي قد كان سائدا إبان النظام الامومي matriarchate، وتتصل نسبته تاريخيا مع المستوى التي وصلت إليه أدوات الإنتاج ودلالة التأثير العميق الذي تفرضه العوامل الايكولوجية على المجتمع.
وقد حأولنا إيجاد العلاقة السببية بين النظم المحورية والتربية في مجتمع بهذا الوصف[58]. أما مجتمع الفونج فقد توفرت معلومات ومادة أوفر عنه ، بتركيبه وتعقيد تراتباته الاجتماعية الاقتصادية باكرا وقبل حلول الإسلام. ورغم ان الانثروبولوجيين-العرب والمؤسلمين" تعينوا على اختزال مملكة الفونج في المرحلة اللاحقة على اسلمتها في العقد الأول من القرن السادس عشر سواء بإهمال الفترة السابقة على الاسلمة أوبوصم تلك الفترة ببساطة تكوينية ونظام ادوار ومراكز ميكانيكية إلا أن مجتمع الفونج السابق على الإسلام وما يسمى بالهمج يبقيان مجتمعين مركبين ولو بدور العامة والعبيد في تشكيل السلطة نسبيا بالانتفاضات الشعبية الدورية وبنزوع المنتجين من وقت لآخر إلى الهجرة بعيدا عن الدولة المركزية في سنار الخ. ولا غرابة فقد:-
- درج الغزاة والفاتحون على كتابة تاريخهم خصما على السكان الأصليين ولا يختلف عرب ومسلمو السودان في ذلك عن غيرهم رغم أن الأخيرين لم يفتحوا السودان وإنما غزوه من الداخل بالتجارة والاسلمة.
- إن ثقافة الغزاة والفاتحين تدعى لها "جنسا" أوعرقا متفوقا بل ممتازا بنوع من العناية الإلهية على نظائرها المحلية.
- إن معظم من كتب في الفونج منذ الشيخ ود ضيف الله كان يؤرخ لسير شيوخ الطرائف والقبائل المعربة المؤسلمة وقد فبرك بعض المؤرخين سوادنيين و اوربيين أنساب الأخيرة بالنتيجة في غياب أي بديل محلي. وكان سلاطين الفونج وملوك الفونج الصغار قد ارهبوا أدبيا وعقائديا فلم نسمع لهم صوتا حتى امست الانساب السلطانية القونجية بليل اموية[59]. أزعم أن مؤرخي الفونج-عرب مؤسلمين- لم يزيدوا إلا قليلا على ما فعله نظائرهم من قبل ومن بعد.
- إن الباحثين الإنجليز أقدموا على تسجيل سردية سودانية انتقائية تتحزب لتوجهات الممارسات الاستعمارية وتكرسها. فقد كان مؤرخو الإنجليز يصدرون عن تركتهم هم في الجزر البريطانية مع السكان الأصليين. وكانوا إلى ذلك يسقطون مخأوفهم على مكونات المجتمع السوداني مما لم يكن يناسبهم فيتحزبون ضده ويحابون ما يناسبهم بانتقائية لا تستحي.
 وكان البحاث اللاحقين للإنجليز تلاميذ الأخيرين وقد دربوا على الاكاديميا الانجلوساكسونية-فلم ينفكوا أن أعادوا إنتاج منظومات قيم الأخيرة وتحزباتها ولم يكن من خيار أمامهم.
و لم يكن ثمة خيار امام الباحثين السودانيين بعد الاستقلال سوى إعادة إنتاج الإرث الأكاديمي المذكور أعلاه إلى ما لا نهاية. فالإبداع في المناهج وإعادة تعريف المفردات ناهيك عن نحت مفردات بديلة طريق محفوف بالمخاطر العلمية والمهنية العملية. فمثل ذلك المشروع دونه النفي إلى بيداء زيغ نظر العوالم الثالثية والرابعية والعصر حجرية.
سوى أن ليس ثمة غرابة أوشذوذ فى ولا حتى استلطاف للعلاقة بين الحاكم الشرقي والمحكومين بهذا الوصف. ذلك أن الناس بقوا يقعون في الأنماط الغربية حتى حلول الرأسمالية ما بعد الصناعية مقابل ما يدفعوه ضرائب للدولة أو للخزينة العامة (صوامع الغلال و المطامير الملكية) تتمثل في ضمانات مثل الرعاية الاجتماعية والعلاج والتعليم المجاني أوالمدعوم وسن قوانين مكافحة الاحتكار وتقنين أسعار السلع التموينية الخ. ولما كان عجز الحاكم الشرقي عن الوفاء بدينه في العقد المذكور يؤدى إلى حلول الفوضى فما أن تخلت الدولة ما بعد القومية عن إعادة التوزيع وتوفير السلع والخدمات العامة انتشر عدم الاستقرار في المجتمعات الغنية مما صار يلاحظه الناس في كل مكان منذ نهاية تسعينات القرن العشرين.
وكان الغزاة يفرضون قيمهم وآلهتهم بالقوة على المجتمعات المهزومة. وكانت الحروب تقوم باسم الآلهة أوالطوائف الدينية الغازية رغم وربما بسبب أن غاية الحروب والغزو لم تزد على التوسع واستلاب ثروات المجتمعات الأخرى. فما أن يهزم مجتمع مجتمعا آخر يحأول الأول اختراق معتقدات الأخير أو/و يشرع في تعديلها وتشكيلها. وكان الإسلام قد استعصى دائما على الاختراق والتبشير فلم يكن هناك بد من أن يحأول الغازي تعديل أوإعادة هيكلة منظومة القيم الاجتماعية التنظيمية وتشكيلها حتى تغدو أكثر طواعية و اقل مواجهة للغازي أو المحتل أو المستعمر. وكان الغزاة اللذين ما ينفكون يحأولون على مر السنين فرض عقائد وتشكيلات قيم مشوهة مكان عقائد المجتمعات المهزومة سواء هزيمة عسكرية أواقتصادية ثقافية ويعيدون إنتاج ما وجدوه قائما قبلهم. وازعم أن معدلات استلاب فائض إنتاج المنتجين ترتفع في علاقة عكسية مع عجز الغزاة والفاتحين بالوصف أعلاه عن مفصلة قرابات من أي نوع مع المهزومين إلا ما خلا اصطناع موالاة وعمالة أقليات من بين الأخيرين خصما على أغلبية المهزومين.
ولم يكن ثمة غرابة فى استدعاء العمالة و الزبانية من بين الشعوب المهزومة. فقد كان اعضاء حكومة السودان مثلا قد تربوا على الاحتفال بالغزاة و استدعاء سيرهم من الامبراطور الرومانى يوليوس قيصر تايبريوس  –14-38 عديم الشعبية بين الرومان انفسهم حتى وليام النورماندى المسمى بالأول أوالفاتح 1027-87 على الاقل. فقد وصف الاخير بالنبل و البسالة و سجلت سردية فتوحاته فوق لوحات الشرف و المجد رغم انه طلب عند وقاته ان يدفن فى نورماديا. و قد احل وليام انسباءه و عملاءه مكان الارستقراطية الانجلوساكسونية من البارونات و القادة. و حيث احتل الغزاة والفاتحون مكان شرائح السلطة القائمة أو-و استوعبوها فقد اجتاح الغزاة و الفاتحون المجاميع الشعبية و لم يتركوا لها فضاءا الا بقدر ما تتوفر تلك المجاميع على دفع الضرائب مما سجل في كتاب القيامة Doomsday Book الصادر عام 1086 قبل وفاة وليام بعام حرفيا زيادة على ازعان منتجى الخراج و دافعو الضريبة الملكية لواجب التجنيد فى صفوف المتنافسين على السلطة فى كل زمان و مكان. 
ولعل ذلك يفسر لماذا وكيف قأوم الإنجليز الإسلام الشعبي فيما استوعبوا الإسلام الرسمي مثلما فعل غيرهم من الغزاة منذ الهكسوس إلى الاسكندر ومن حملة نابليون على مصر إلى التركيات الأولى وصولا الى الثانية. وكانت تنويعات الإسلام الشعبي التي كان يعتنقها البدو والأعراب على الخصوص اشد ما يقلق الإنجليز فناصبوا الطرق الصوفية والخلأوى وشخص الفكي-الفقيه على الخصوص عداء مستتر حينا ومعلن حينا آخر مقارنة مع عبادات ومعتقدات القبائل المستقرة. وازعم أن السياسة التعليمية ونسق التربية الاستعمارية عموما قد أدى إلى مفاقمة "تفريد" البدو الأعراب بتكريس ذهنية الأقليات بينهم. ذلك أن تكريس ذهنية الأقليات حري بان يخلق شرط شرذمة المجتمع مثلما تفعل الرأسمالية ما بعد الصناعية-الكوننة-الأمركة-تباعا بخلق الكراهية الاثنية والنوعية ببرامج دمقرطة المجتمعات المهزومة بالأولى وبالأسواق الحرة. وقد خلقت الأسواق كيمياء الكراهية الاثنية وعدم الاستقرار في كل مكان. وازعم أن بعض تطير الإنجليز من عبادات ومعتقدات البدو والأعراب قد:-
- يعود إلى الإرث الانجلوساكسوني مع السكان الأصليين للجزر البريطانية من الشعوب الكلتية بالوصف أعلاه.
ويرجع أيضا إلى خشية الانجلوساكون من البدو والأعراب إذ أن الانجلوساكسون هم أنفسهم أحفاد الفايكينج بدو اعالى البحار وأعرابها- أي أنهم قراصنة.
وقد بقى ذلك التطير ماثلا وما يبرح حيث ان كل ما لا يمكن استقطابه داخل دائرة نفوذ الدولة أوما يقوم مقامها حري بان يخلق اقلاقا للسلطة القائمة فى شكل دولة خراجية مركزية أوما يقوم مقام الاخيرة. و رغم خشية كل سلطة قائمة من البدو الاعراب الا ان التنظيمات و العبادات المحلية المستقرة كانت قد خلقت وما تبرح تخلق للدولة المركزية أوما يقوم مقامها اسباب دائمة للتطير. و  ليس ثمة غرابة أوشذوذ فى العلاقة بين الحاكم الشرقي والمحكومين بهذا الوصف.
الا  ان نوع من التعامل شبه الحضارى يبقى قائما مقابل ما يدفع من  ضرائب للدولة أوللخزينة العامة (صوامع الغلال و المطامير الملكية) مما يعبر عن  نفسه في ضمانات ولما كان عجز الحاكم الشرقي عن الوفاء بدينه بما يشارف العقد الاحتماعى المذكور في مكان اخلر فان ذك العجر قد يؤدى إلى حلول الفوضى. وكان الغزاة يفرضون قيمهم وآلهتهم بالقوة على المجتمعات المهزومة. وكانت الحروب تقوم باسم الآلهة أوالطوائف الدينية الغازية رغم وربما بسبب أن غاية الحروب والغزو لم تزد على التوسع واستلاب ثروات المجتمعات الأخرى. فما أن يهزم مجتمع مجتمعا آخر يحأول الأول اختراق معتقدات الأخير أو/و يشرع في تعديلها وتشكيلها.
 وكان الإسلام قد استعصى دائما على الاختراق والتبشير فلم يكن هناك بد من أن يحأول الغازي تعديل أوإعادة هيكلة منظومة القيم الاجتماعية التنظيمية وتشكيلها حتى تغدو أكثر طواعية و اقل مواجهة للغازي أو المحتل أو المستعمر. وكان الغزاة اللذين ما ينفكون يحأولون على مر السنين فرض عقائد وتشكيلات قيم مشوهة مكان عقائد المجتمعات المهزومة سواء هزيمة عسكرية أواقتصادية ثقافية ويعيدون إنتاج ما وجدوه قائما قبلهم.
وازعم أن معدلات استلاب فائض إنتاج المنتجين ترتفع في علاقة عكسية مع عجز الغزاة والفاتحين بالوصف أعلاه عن مفصلة قرابات من أي نوع مع المهزومين إلا ما خلا اصطناع موالاة وعمالة أقليات من بين الأخيرين خصما على أغلبية المهزومين. ولم يكن ثمة غرابة فى استدعاء العمالة و الزبانية من بين الشعوب المهزومة.
فقد كان اعضاء حكومة السودان مثلا قد تربوا على الاحتفال بالغزاة و استدعاء سيرهم من الامبراطور الرومانى يوليوس قيصر تايبريوس  –14-38 عديم الشعبية بين الرومان انفسهم حتى وليام النورماندى المسمى بالأول أوالفاتح 1027-87 على الاقل. فقد وصف الاخير بالنبل و البسالة و سجلت سردية فتوحاته فوق لوحات الشرف و المجد رغم انه طلب عند وقاته ان يدفن فى نورماديا. و قد احل وليام انسباءه و عملاءه مكان الارستقراطية الانجلوساكسونية من البارونات و القادة. و حيث احتل الغزاة والفاتحون مكان شرائح السلطة القائمة أو-و استوعبوها فقد اجتاح الغزاة و الفاتحون المجاميع الشعبية و لم يتركوا لها فضاءا الا بقدر ما تتوفر تلك المجاميع على دفع الضرائب مما سجل في كتاب القيامة Doomsday Book الصادر عام 1086 قبل وفاة وليام بعام حرفيا زيادة على ازعان منتجى الخراج و دافعو الضريبة الملكية لواجب التجنيد فى صفوف المتنافسين على السلطة فى كل زمان و مكان. 
ولعل ذلك يفسر لماذا وكيف قأوم الإنجليز الإسلام الشعبي فيما استوعبوا الإسلام الرسمي مثلما فعل غيرهم من الغزاة منذ الهكسوس إلى الاسكندر ومن حملة نابليون على مصر إلى التركيات الأولى وصولا الى الثانية. وكانت تنويعات الإسلام الشعبي التي كان يعتنقها البدو والأعراب على الخصوص اشد ما يقلق الإنجليز فناصبوا الطرق الصوفية والخلأوى وشخص الفكي-الفقيه على الخصوص عداء مستتر حينا ومعلن حينا آخر مقارنة مع عبادات ومعتقدات القبائل المستقرة. وازعم أن السياسة التعليمية ونسق التربية الاستعمارية عموما قد أدى إلى مفاقمة "تفريد" البدو الأعراب بتكريس ذهنية الأقليات بينهم. ذلك أن تكريس ذهنية الأقليات حري بان يخلق شرط شرذمة المجتمع مثلما تفعل الرأسمالية ما بعد الصناعية-الكوننة-الأمركة-تباعا بخلق الكراهية الاثنية والنوعية ببرامج دمقرطة المجتمعات المهزومة بالأولى وبالأسواق الحرة. وقد خلقت الأسواق كيمياء الكراهية الاثنية وعدم الاستقرار في كل مكان. وازعم أن بعض تطير الإنجليز من عبادات ومعتقدات البدو والأعراب قد:-
- يعود إلى الإرث الانجلوساكسوني مع السكان الأصليين للجزر البريطانية من الشعوب الكلتية بالوصف أعلاه.
ويرجع أيضا إلى خشية الانجلوساكون من البدو والأعراب إذ أن الانجلوساكسون هم أنفسهم أحفاد الفايكينج بدو اعالى البحار وأعرابها- أي أنهم قراصنة.
وقد بقى ذلك التطير ماثلا وما يبرح حيث ان كل ما لا يمكن استقطابه داخل دائرة نفوذ الدولة أوما يقوم مقامها حري بان يخلق اقلاقا للسلطة القائمة فى شكل دولة خراجية مركزية أوما يقوم مقام الاخيرة. و رغم خشية كل سلطة قائمة من البدو الاعراب الا ان التنظيمات و العبادات المحلية فى المستقرة كانت قد خلقت وما تبرح تخلق للدولة المركزية أوما يقوم مقامها اسباب دائمة للتطير.
 
ود ضيف الله والوان الطيف السودانى المجتزأ:-
هل كان ود ضيف الله يعنى بكتابة سير ذاتية لشيوخ واعيان وملوك صغار مقابل حق الاربعاء؟ فكتاب الطبقات الذى لم يزد على سير ذاتية معظمها خارج السياق الاقليمى ناهيك عن السياق العالمى. و قد راقت الطبقات للانجليز فروجوا لها واعادوا انتاج قسماتها فى كتابات انثربولوجية واثنوغرافية و فى سير ذاتية للقبائل التى كانت لها حظوة عندهم خصما على من استعصى عليهم و ناصبهم العداء مثل الشريف يوسف الهندى وغيره. ومن المفيد تذكر ان الذهنية الانجلوساكسونية تروق لها السسير الذاتية والبطولات الفردية و تتعين على التاريخ الرسمى خصما على البطولات الشعبية والتاريخ الشعبى. وقد تعينت تلك الذهنية على تسجيل سير الملوك والملكات والاعيان وشيوخ القبائل اذ يسهل التماهى مع الاخيرين اكثر من أى شئ اخر. وكان وينجيت يدعو قادة الطوائف-و كان ثمة طائفة واحدة بعد- وزعماء القبائل و شيوخ الطرائق-و كان يطلق عليهم الزعامات التقليدية النبيلة[60]-فى قصره لتناول الشاى و الكعك فيما تصدح الموسيقى فيوخذ بالباب اؤلئك العرب الاشو. و كان بعض اعضاء حكومة السودان يقول انه كان يحلو له مراقبة اؤلئك القوم و هم مسحورون بما حولهم كالاطفال كونهم فى رأيه فى الواقع اطفال قاصرون لا يبلغون الرشد الا بمساعدة الرجل الابيض. على ان اهم و ربما اخطر ما تعينت عليه الطبقات انها تعينت على سير معظم القبائل الشمالية و قبائل وسط السودان و قد ركنت مرتاحة على الاحوال التى ترد تلك القبائل الى العباس او من يضاهيهه من عظام العرب والمسلمين مثلما كان ملوك الفرنجة ينسب نفسه لسلالات ممثلجة بل حتى خرافية. فكأن هؤلاء و اؤلئك ابراهيم عليه السلام و قد بات مسلما باثر رجعى. وبالمقابل تعين السرديات الرسمية الاسلامية الفونجية و ما لحقها بدرجات المقياس على نكران و احيانا الذراية باسلاف السكان الاصليين لحساب المؤسلمين و المعربين. حيث كان الفونج ينسبون الابن قبل الاسلام وبعده بقليل الى اب اجتماعى هو الخال لم ينفك التجار و الصوفيون و قد ورثوا ملك الفونج بالزواج ان راحوا ينسبون اصولهم الى خط الاباء الطبيعيين خصما على الاباء الاجتماعيين فانتهت سلالة الفونج و من شابههم من السكان الاصليين, و لا يقول احد لنا حتى اليوم من اين جاءت للسودانيين تلك الالوان والملامح ولا كيف تكاثر التجار والصوفيون وهم اللذين هاجر معظمهم الى السودان أعزب غبر متزوج او/و لم يأت معظمهم بنساء معه؟
كرس المؤسلمون والمعربون اصولهم بالنسب الى الاب البيولوجى لاسباب اقتصادية وسياسية وعقائدية معروفة وهى اثبات حق الصوفيين والتجار من الشيخ عيس وابنه فى وراثة سلطة و ثروة الفونج فى الارض والمرعى والمسيل بادعاء الحق فى ادارة العدالة. فرغم ان معظم الشعوب القديمة من الجزيرة العربية و افريقيا نفسها مثلا ينسبون الى الام فالخال الا ان الصوفيين والتجار العرب الوافدين من شمال افريقيا ومن الجزيرة العربية ثابروا على ادعاء امتيازات ايديولوجية-و ربما اثنية-استثنائية كانت فى الواقع حماية لمصالحهم الاقتصادية. و لعل حاصل جمع تلك الرواسب العنيدة حرى بان يؤلف اشكالية باقية و قد استقرت قسمات تلك الاشكالية فى مسام المجتمع السودانى على مر السنين والسودان فى حالة انكار. فرغم ان المهاجرين لم يبيدوا السكان الاصليين بدنيا بل العكس تناسبوا معهم و صاهروهم و تزاوجوا منهم الا ان ذلك النسب و تلك الزيجات كانت بمثابة الابادة الثقافية فالفكرية و التنظيمية للسكان الاصليين. و قد اردت تلك الابادة الثقافية السكان الاصليين الى الدرجة الثانية قياسا على المؤسمين و المعربين على الخصوص. على انه من المفيد تذكر ان الخصوصية الثقافية السودانية التى كانت قد تحدرت الى مسام المجتمع السودانى فتعينت على تزاوج الاجزاء الثفافية المحلية المتصلة على مر الاف السنين و نظيراتها الوافدة فى كل مرة. و قد تركت رواسب الهزيمة بالزواج اثرها فى تراتب المجتمع. ذلك انه ان تصاهر الصوفيون و التجار الاعراب والسكان الاصليين فلم يعد ثمة سبيل الى التفريق بين السكان الاصليين والمؤسلمين و المعربين على الخصوص من حيث اللون. وبالمقابل فقد تعيين الشمال والوسط على ابداع اسلوب فريد للتمييز بين السكان الاصليين والمؤسلمين والمعربين ياستدعاء الوان الطيف. فلاسودانيون هم الوحيدون اللذين يتعرفون على انفسهم كونهم بالوان الطيف. فليس ثمة سبيل الى التفريق بين الثقافات والاعراق باستقطابها بين ابيض واسود اذ ليس ثمة ابيض بل ثمة تنويعات على السمرة والسواد. كما انه لم يكن ثمة سبيل للتفريق بين الناس من حيث كون السودانى قوقازى او متزنج سامي أو حامي. ومن ثم غدى السودانى احمر واصفر وذهبى واخضر وازرق فى مقياس الالوان البشرية المدرج. و يبقى محض ثلاث الوان من تلك الالوان تعبير على التمييز العرقى خصما على الالوان الثلاث الباقية. ومن الغريب ان السوداني لا يستحب اللونين الاحمر و الازرق على الخصوص. و يستدعى اللون الاحمر لون الغزاة من اليونان ربما الى الاتراك و الخواجات اما اللون الازرق فلون السكان الاصليين و الاهخضر فبين بين و ربما كان هو لون احفاد اولئك الصوفين التجار الدعاة. اما الاصفر فلون محبب للغزل و يستدعى ذوى البشرة الفاتحة التى تلهم  الشعر و الغناء. .
وقد عصمت تلك الخصوصية الثقافية قسمات المجتمع السودانى على مر السنين فابقت على طلعته بلا تغيير كبير بل زادت طلعة هذا المجتمع العجيب الغريب لولا الحساد والاعداء ورغمهم والانواء شبابا وألقا وتسامحا. ولعله من الموضوعية الاشارة الى ان وضع السودان الجغرافى وتاريخه الطويل الطويل العريق كان من شأنهما تكريس مفاهيم التعدد الثقافى والعرقى الخ جراء وقوع السودان على مفترق طرق قديمة عظيمة حفلت بالقوافل التجارية وشهدت هجرات كبرى من الجنوب الى الشمال عندما كان الشمال مغمورا بالمياه ولم يكن ثمة دلتا ولا ضفاف تحتمل الاجتماع السكانى ومن الشرق الى الغرب مرة ومرة بالعكس, كما كانت الهجرات تحط فى السودان اتية من الصحراء الى واديان الانهر العظيمة وبالعكس. وما تبرح هجرات الحجاح من نيجيريا وتشاد وغيرها وما تنفك هجرات العمل من كل مكان الى كل مكان تحط بالعمالة فى السودان من كل مكان من افريقيا واسيا باجناس افغانستان وتركيا ومن الصين واليمن. 
فما هى التحولات الحالة فى المجتمع السودانى عشية اسلمة الفونج؟ وما هى تداعيات الاسلام المالكى المراسيمى الفونجى الرسمى على قسمات المجتمع السابق على الاسلمة واللاحق لها؟ فيما يلى مجادلة وجيزة لأهم ملامج التنشئة و التربية ونماذج القيادة السودانية فى مناخ ومع انتشار الطرق الصوفية خصما على ما عداها.
 
 
الفصل:السادس:  أبـرز بعض اهم النظـم التعليميـة
في السـودان التاريخي القــديم ؟
 
المجتمـع النــوبي:-
أدى ويؤدى الاحتكاك بين الأنماط الثقافية cultural patterns المختلفة في السودان إلى جملة من المؤثرات المتبادلة بصورة لافته للنظر وان لم تحظ باعتماد كثير من المؤرخين العربيين و المسودنين Sudanists ومن العديد من اشهر تلاميذهم من السودانيين . ولقد كان التأثير عادة يرد إلى الغزو أكثر من أي شيء آخر. ذلك أن كافة الغزاة كانوا يعتبرون ضمنا أوصراحة من ممثلي ثقافات أكثر تقدما أوتحضرا من النوبة وحتى نشؤ السودان الحديث. ولقد بقي السودان منذ عهد الأسرات شبه مجهول وان تمت الإشارة إليه فتحت مصنفات المصرويات Egyptology . ولقد اعتبرت النوبة حتى وقت قريب وفي مؤلفات ضامرة من حيث الانتشار والقبول محض جملة اعتراضية أوشرح على متون التاريخ الاسراتى الوادي نيلي، الأمر الذي ترتب عليه اجتزاء الكثير من الحقائق التاريخية النوبية وبخاصة المروية . على أننا وإن لم نكن بصدد رد اعتبار السودان التاريخي إلا انه قد يكون من المناسب أن نشير إلى أن تاريخ الجزء الجنوبي من وادي النيل الاسراتى هو في الواقع سابق على الجزء الشمالي .
ولقد أثبتت الدراسات الجيولوجية والتقنية المحدثة-الكربونية carbon dated - في قراءة تواريخ الطبقات الأرضية[61]، إن الجزء الشمالي كان مغمورا بالمياه حتى وقت حديث نسبيا مما يجعل ذلك الجزء من النيل غير قابل للعمران ومن ثم فان الحضارة الفرعونية الشمالية - الممفيسية - وبالتالي التاريخ الاسراتى الشمالي أحدث من نظيره الجنوبي. وعليه فان النوبة الجنوبية مصريا -التي هي شمالية سودانيا: أي طيبة وممالكها واسراتها ومعابدها وكهانها يؤلفون أقدم الأسرات والممالك و العقائد المعروفة فى وادى النيل و المسكوت عن ذكرها. ومن هنا فان المؤثرات الثقافية النوبية المروية هي مؤثرات ذات أبعاد متأصلة و متجذرة في التربة النوبية المروية وليست وافدة من مصر الأسرات الشمالية . ولقد لوحظ - في دراسة غير منشورة بعد للمؤلفة بعنوان the pharaohs and the new pharaohs - إن العديد من الرواسب الثقافية السودانية التي كانت قد تبدت في أوج أيام الفونج واستمرت أهم رواسبها حتى بداية القرن العشرين إن لم يكن حتى اليوم، هي من رواسب مرحلة الأسرات المروية وصولا إلى النوبة المسيحية. وتعود أهمية ذلك إلى عناد تلك الظاهرات ورسوخها في مسام المجتمع السوداني حتى اليوم مما يفسر كيف أنها قد تختفي كما لو كانت قد اندثرت أوضعفت ثم تعود مرة أخرى بقوة اذا توفرت شروطها في قلب الشروط التي كانت قد أودت أوبدت كما لو أنها أودت بتلك الظواهر.
 ولقد يساعد في فهم مثل تلك الوتائر الثقافية الاقتصادية الاجتماعية ، إن المجتمعات السابقة على الطبقات أوالمسماة بمجتمعات النمط الآسيوي أوالشرقي تتميز بتلك الخاصة المميزة لها التي يتم بها لتلك المجتمعات الآسيوية أوالشرقية أن تعيد إنتاج نفسها فى كل مرة. ذلك ان تلك المجتمعات تعيد انتاج نفسها بعدما يبدو أنها قد تحطمت جراء كارثة طبيعية أوتغضنت اثر انكماش اقتصادي أوأزمة اقتصادية أوانقلاب بلاطي أوبسبب انهيار المحاصيل أوارتفاع سعر الذرة أولأن النيل لم يوف بميعاده فيضانا أوللتحاريق المنوالية أولشح أوعدم هطول المطر فى مواسمه فصول متوالية الخ الخ. و لعل ذلك ما قد يثير ذعر خصوم الشعوب-الحكام و خلفائهم الخارجيين- على مر التاريخ. فقدرة الشعوب اللامتناهية على اعادة انتاج نفسها بابداع فى كل مرة بقيت هاجس خصوم الشعوب فى كل مكان و زمان.
و كانت تلك الظواهر الطبيعية أوالسلطوية تتعاصر وانتفاضات شعبية تحتج على الالهة وعلى الحكام بوصفهم ممثلين للأول على التخلى عن العامة وعلى عدم الوفاء بما يشارف العقد الاجتماعى من طرف الحكام فى ايفاء الاخيرين بالعهد للمحكومين. فتاريخ تلك المجتمعات يحفل بالثورات والانتفاضات الشعبية التي يشار إليها بانتفاضات الفلاحين والعبيد مما يتكرر في تلك المجتمعات دون أن يترتب عليه تغيير يذكر . و يشار الى تلك الانتفاضات بوصفها تعبر عن نفسها فى ثورات فيزيقية بالمعنى الحرفى تعود الى ما يشارف نقطة الصفر فى كل مرة.
و يقول ماركس فى تلك الظواهر فى سياق النمط الشرقى انها  ثورات بالمعنى الحرفي أي دائرة ميكانيكية فيزيقية كاملة تعود إلى نقطة الصفر مجددا في كل مرة أوهكذا يتصور أنها تفعل. و إن كل هم تلك الانتفاضات هو إعادة النسق أوالنظام إلى ما كان عليه قبل الكارثة أوالأزمة إذ تزعزع الاخيرة ما اعتاد عليه المحكومون المنتجون من الاحرار والاقنن والعبيد من وتائر الإنتاج وتراتباته الاجتماعية العبادية الإنتاجية، ومن ثم فان الانتفاضة ليست سوى آلية لإعادة الأنساق إلى ما كانت عليه مجددا وفي قلب تلك الوتائر والظاهرات الثقافية وكانت تلك جميعا قد نسبت إلى أصول وجذور ميتافيزيقية إلهية عبادية فاستقر ذلك النسق الإنتاجي المادي والأيديولوجي في أعصاب المجتمع وكافة عملياته المتصلة بتنظيم الإنتاج وعلاقاته مما تتأسس عليه نظم التربية والتنشئة والتعليم والقيادة.
على انه من المفيد ملاحظة أن بعض المؤثرات الثقافية لا يمكن تفسيرها بدون ردها إلى الاحتكاك الثقافي الذي اسميه بالاحتكاك الثقافي الهامشي تفريقا لها عن العناصر الثقافية الناشئة من قلب النسق الثقافي واستجابة لمرحلة تطوره والوظائف التي تخصه وتدل عليه وتخدم غاياته وأهدافه الاجتماعية. ومن تلك المؤثرات الثقافية الهامشية تلك التي تتم بين الجماعات المترحلة من التجار . وفي أواخر سلطنة الفونج مثلا ردت تلك العناصر الثقافية المتقدمة إلى التجارة والتبشير الإسلامي والمصاهرة . فعن طريق التجارة أوالمصاهرة أوالهجرة نسبت التغيرات الثقافية التي حلت في الأنساق موضوع الاحتكاك مما يشار إليه في علم الاجتماع بالتغيرات التلقائية. و تلقى الاخيرة تقبلا عفويا بوصفها مستمدة borrowed بالتدريج على مستوى التأثير والتأثر. أما التغيرات التي تحل نتيجة للصراع وحالات الصد والمقأومة لمؤثرات خارجية ، فهي التي تؤدي إلى الصراع داخل النسق ، ومن ثم فان النسق الاجتماعي موضوع الصراع والمقأومة واداته ووسيلته ، والأنظمة المكونة لأجزائه - لا تبقى بعد انتهاء الصراع أوضموره كما كانت من قبل. فأما أن يعود النسق أكثر تماسكا وإما يرتد منهكا ينهار في إحدى المنأويل الدورية. وفي الحالتين يستحيل تصور أن نسقا كان محورا لصراع أوطرفا فيه لا يتأثر بما دار حوله أوداخله. وإنما الواقع أن خصائص هذا النسق تتبدل في جدل تفرضه دينامكية الصراع نفسها فلا يعود إلى حالته الأولى.
وحتى إذا غدا النسق أكثر محافظة ، فإن ذلك ، يفضي مجددا إلى نشوء احتمالات الصراع الداخلي الحتمي والطبيعي. و لا معدى من افتراض هذا الواقع كدالة من دالات الأوضاع الاجتماعية في ديناميكيتها النسبية في الزمان والمكان. فإنها تخلق آليات للتوافق الاجتماعي بتحديدها للوسائل والغايات ، وقد يترتب على موقف الشدة ظهور أفراد لا يستجيبون لعوامل الضبط الاجتماعي Social Control ومن هؤلاء الأفراد غير المنضبطين الخارجين عن "الصف" تنشأ الجماعات الضاغطة ، أوطلائع التغيير التي توالى نشاطها ، وقد حدد امكان فاعليتها توفر عوامل ثقافية ، فكرية ، واجتماعية- تعاظم التماسك المتشدد من قبل المجتمع كي يحمي نسقه ونفسه، وقد حدث ذلك بالنسبة للدعوة المسيحية بين النوبة والبجة على أيدي المبشرين المصريين في مرحلة باكرة، وعلى عهد الملك سلكو[62]، و بموجب فرمان إمبراطوري ، في مرحلة أخرى حيث استعصى النوبة والبجة على المسيحية، فواجهوا دعوة المسيحية بالصد شبه المطلق وقد استمر هذا الصد طويلا مقارنة بالزمن الذي استغرقته دعوة المسيحية وانتشارها في مجتمعات أخرى كالمجتمع المصري مثلا. حقيقة أن المجتمع المصري يعتبر أكثر مرونة بسبب انفتاحه باكرا على المؤثرات الخارجية كونه أقرب ، جغرافيا ، من عوامل احتكاك ثقافي عديدة وعناصرها المختلفة. هذا و تجعل طبيعة المجتمع المصري منه أقل محافظة وانطواءا باعتباره مجتمعا توفرت له أسباب الأخذ والعطاء والمبادرة منذ مرحلة باكرة بالتغيير فبعد عن دواعي التمركز الثقافي ethnocentrism وهو ما يفسر قابلية المجتمع المصري للتأثر بعناصر الثقافات والتيارات الفكرية الجديدة من ناحية ورفض المجتمع السوداني -النوبة والبجة- لنفس هذه العناصر من ناحية أخرى.
استجابة المجتمع النوبي للمؤثرات الثقافية المسيحية وما بعدها:-
رغم أن المسيحية أخذت أكثر من خمس قرون حتى صارت دينا رسميا للنوبة إلا انه من المفيد تذكر أن دينا رسميا لا يعنى بالضرورة انتشاره بصورة شعبية. فلقد كان يكفي أن يدخل الملك أوشيخ القبيلة في الدين الجديد حتى يدخل أتباعه ومواليه إلى الدين الجديد معه إما براغماتيا أوجريا للناس على دين سلطانهم وما كان على الأتباع والموالى أن يغيروا حتى أسمائهم وأسماء اللآليات التي كانت من المؤسسات المحورية في حياتهم الإنتاجية. إذ تدل دراسة للأسماء مثلا في النوبة المسيحية أن اللذين يتخذون لهم أسماء مسيحية كانوا من الفئات الوسيطة من المرتبطين بالشرائح السلطوية و أولئك الذين يتماهون معهم أويسكنون المناطق المتاخمة للمدن أوأشباه المدن أوالقرى الكبيرة . لذلك نرى الكثير من الرواسب العنيدة ثابتة لا تتغير كثيرا بل أن الكنيسة لا تعدو أن تقام مقام المعبد كما سنرى أن المسجد سيقام فوق الكنسية وستتصل أساليب تنظيم الملكية والإنتاج والخراج باسمائهما وجعولها ونسبها وتتصل كلها بالمطامير وبدور الدين في حياة الناس إبان الوفرة والشح والكوارث.
فكل ما هناك أن زعيم القوم يغير اسمه أويتحول الكاهن إلى قسيس أولا يفعل وتستمر الحياة بذلك النمط المسمى آسيوي والمطرق إلى الداخل inward looking-ness  مما يكرس مفهوم الاستعصاء على أورفض التغيرnon-changing الذي يلصق بالأنماط الآسيوية حتى يصار إلى تحنيطها فيه كمثل صورة فوتوغرافية التقطت على عدسة مرة واحدة فبقيت معلقة هكذا في فراغ الزمان والمكان تزداد صلابة resilience لا يطالها التغيير لأنها ترفض التغيير. لذلك فمن المفيد النظر في الكيفية التى يتم بها تحليل الأنساق الدينية الثقافية مؤسسة على التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية- أنماط الإنتاج التي سبقت قيام الطرق الصوفية كمجتمعات وكايدولوجية بدأت أرستقراطية وانتهت شعبية راسخة في مسام المجتمع السوداني بكل رواسبه ما قبل الإسلامية من الاسراتية حتى المسيحية وصولا إلى الإسلام السياسي المعاصر في السودان. وأكثر ما تتمثل تلك الصفة العنيدة في تكريس الرواسب القديمة المقأومة للوافد والجديد ما قد يمكن إرجاعه فيما بعد لأشكال المحافظة النسقية لتلك الأنماط.هذا وسيلاحظ كيف أن الرواسب قد تندثر اندثارا غير أنها تحتفظ ببذرة قابلة للنماء ما أن تحل شروطا أوشروطا مسبقة داخل النظام لان يعاد إنتاجها من جديد في تنويعات منها بلا حدو دendless variations.
لم تجد إذن دعوة المسيحية في النوبة، في أعقاب هجرة طلائع المسيحيين الفارين من وجه الاضطهاد الروماني، تلك الاستجابة التي لقيتها في وادى النيل الشمال و الحبشة فقد تدخلت العوامل الايكولوجية ، فقر وشح الطبيعة ،او-و سعة المكان و توفر القدرة على الحياة بعيدا عن النهر نتيجة لوفرة الامطار على عكس وادى النيل الجنوبى. و كان وادى النيل الشمالى مرتهن بفيضان النيل و تحاريقه الى ما حاق به من عزلة اجتماعية لاحقة لأواخر عهد أهم الأسرات مثل الأسرة الثالثة والعشرين والخامسة والعشرين-اللتان شارفتا عصورا سوداء dark ages بمعنى أنهما غير مسجلتين في التاريخ الرسمي لما يسمى المصريات. وكانت الا سرتين المذكورتين قد حكمتا وادى النيل الشمالى ما بين القرن 818 -715 قبل الميلاد و730-709 و 747-965 قبل الميلاد.
وإلى جانب ذلك فان العزلة الجغرافية والاقتصادية والسياسية بعد انحسار الهيمنة النوبية على وادي النيل الاسراتى كان من شأنها أن تؤدى بالنسق الاجتماعي إلى أن يرتد أكثر محافظة واستغراقا في الخصائص ا لتي تدل عليه وحده و بالتالي أكثر إطراقا إلى الداخل ومن ثم يمكن القول بان النسق الاجتماعي الثقافي كان أميل إلى أن يتسم بشدة التماسك نتيجة للعوامل الايكلوجية الضاغطة علاوة على خشية المجتمع وحرصه على نظمه وأنساقه بوصف أنها كانت قد أثبتت نجاحها في إشباع الحاجات الاجتماعية، على تواضعها، وصيانة المجتمع والحفاظ عليه. و ينبغى تذكر ان الاستحواذ على الفائض من وادى  النيل الجنوبي كان قد قيض لوادى النيل الشمالى شرط نمو وازدهاره قياسا على النوبة كما الف ضعف تدفق الفائص من الجنوب شرط نكوس منوالي فى الشمال. 
كل هذه العوامل ممثلة أكثر من أي شيء آخر في كل من الأيديولوجية وعلاقات وتنظيم الملكية والممثلين للمصالح المعلاة فيها كقياداتها الاجتماعية تضافرت على صد المؤثر وإحباط أثره في كثير من الأحيان مرة. كما وقفت عناصر صد اجتماعية واعية، في وجه هذا المؤثر الجديد مرة أخرى، وذلك حفاظا على مصالحها المتمثلة في المراكز التي تحتلها والأدوار التي تقوم بها وما يترتب عليها من امتيازات أووجاهة أوحتى تطمينا لمخأوفها وكلها مما ينعكس عن النسق الاجتماعي القديم.
وحيث كانت طبيعة الإنتاج الزراعي والعلاقات الاجتماعية مزيجا من الفرعونية والأفريقية والرومانية[63] لم تسلم واحدة من هذه مكانها للأخرى بصورة خالصة بعد ، وكانت توفر للأفراد الأدوار المتصلة بأدوات الإنتاج البسيطة من المسأواة والتطمين وإشباع الحاجات ، في ظل نظم قرابية ودينية. كان المجتمع بسيط التكوين وكان أفراده متجانسون إلى حد كبير. ومما يدعو إلى هذا الافتراض هو أن ما بين مملكتي نبته ومروى كان المجتمع قد مر بفترات طويلة من الجمود الثقافي. هذا زيادة على أن مملكة مروى ذات الحكم الذاتي لم تكن بعد قد تعرضت للغزو أوالنفوذ الأجنبي لوقت طويل نسبيا مما أبقى لها نسقها القديم المحافظ حتى تدفق البعثات التبشيرية المسيحية الرسمية وحملات الفتح التأديبية للإمبراطورية الرومانية[64].
تواتر المؤثرات الثقافية:-
شهد المجتمع النوبي طائفتين من المؤثرات شبه متسأوقتين في القرن السادس عشر:-
أولا : المؤثرات المسيحية التي أثرت تأثيرا اجتماعيا على النظم والأنساق الثقافية فتكيفت بها العلاقات الاجتماعية المحلية وظهرت وظائف جديدة لهذه النظم على المستويين المحلي والمركزي ، فتركزت التنشئة العسكرية كظاهرة في المجتمع. وتؤدي التنشئة العسكرية وظيفتها في المجتمع، من خلال القيادة، في المحافظة على الكيان النوبي بما ترتب على ذلك من خصائص سياسية مميزة جعلت للملوك النوبيين مراكز مسأوية لملوك مصر والبلاد الأخرى في الشرق الأدنى، وتقف معاهدة –البقط[65] وقد وقعها العرب مع النوبة عقب إحباط محأولة الأخيرين غزو النوبة توكيدا على ندية وتكافؤ القدرة القتالية لدى المجتمعين النوبي والمصري. وكانت معاهدة -البقط-التي تنظم العلاقات بين البلدين. قد أبرمت حينما قام زكريا ابن يوحنا ملك النوبة بارسال ابنه جورج في القرن التاسع للخليفة المعتصم في بغداد بشأن البقط وبشأن تهديد الولاة المصريين المتصل، ويتضح من حسن وفادة الخليفة للأمير أن النوبة كان لهم شأن استحال معه إلا أن يعاملوا معاملة طيبة بل وكأنداد لبأسهم وقدراتهم القتالية.
وقد عرف النوبة بتلك القدرات باكرا منذ الأسرات الفرعونية وإبان نشوء طيبة والممالك الفرعونية القديمة والسابقة على الممالك الشمالية في ممفيس عند الدلتا كما كانت قد قيضت لهم قيادة جيوش التوسع الإمبراطورية الفرعونية ثم حكم النيلين الشمالي والجنوبي فيما بعد إبان الأسرات الثانية والعشرين إلى الخامسة والعشرين[66]. ومن الخصائص الأخرى، احتفاظ النوبيين بنظامهم الديني وبلغتهم، بل أن هذه اللغة على الرغم من محاصرة العربية لها على امتداد قرون عديدة من الاحتكاك والاستمداد ، ما برحت قائمة متساندة مع عادات وتقاليد وقيم وأنماط سلوك تخصهم وتميزهم ، منها مثلا الزواج من الداخل والذي وان اشتركو فيه مع قبائل سودانية أخرى إلا أنهم اشتهروا به حتى اليوم كشعب قديم.
ثانيا : الطائفة الثانية من المؤثرات تمثلت في طلائع الهجرات العربية الكبرى من الجزيرة العربية إلى أفريقيا عموما والسودان عبر البحر الأحمر ومن شمال أفريقيا عقب انحلال الخلافة العباسية وتزايدها بعد انهزام العرب في الأندلس.
التربية والتماسك الاجتماعي:-
كانت النوبة المسيحية ،وقد اتصلت جذور أنساقها الاجتماعية من الأنساق الفرعونية ، ثم الأنساق الرومانية من بعدها قد حافظت على نمط من العلاقات الاجتماعية ، كشدة التماسك من ناحية ، وديمقراطية القيادة من ناحية أخرى. حيث كان دين مسيحيي النوبة هو دين الملك والشعب معا حسب زعم بعض المؤرخين وكان النوبيون مسيحيين على المذهب اليعقوبي. على أن رواسب التأليه والتقديس الفرعوني للحاكم فيما يبدو قد أضفت طابعا على نموذج القيادة، ويدلنا على ذلك وصف ابن سليم الأهواني للوالي فيما اقتبس منه المقريزي في خططه. "ولهذه الناحية وال من قبل عظيم النوبة يعرف بصاحب الجبل، من أجل ولاتهم لقربة من أرض الإسلام ، ومن يخرج إلى بلد النوبة من المسلمين معاملته معه في تجارة أوهدية إليه أوإلى مولاه يقبل الجميع ويكافئ ولا يطلق لأحد الصعود إلى مولاه لا لمسلم ولا لغيره" وهكذا اتسمت القيادة بالخصائص الآتية :-
أولاً: أن نظام القيادة يتصل فيما بينه بخط الولاية من أعلى هرم يؤلف قمة النسق أوالبناء الاجتماعي الذي تجتمع عنده كل من السلطة السياسية والسلطة الدينية والعسكرية بالأحرى-فالنوبة محاربون يحذقون فن الحرب.
ثانياً: بالرجوع إلى النص السابق يتضح أن اصل قوة هذا الوالي -والمقيم في الناحية العليا-حيث يتصرف المسلمون ويتجرون ولا يفصحون بالعربية-رغم أنهم مقيمون بها- مرده توليه أمور "هذه الناحية" بالذات. فهي إذ تقع بقرب أرض المسلمين معها في الشمال وحواليها يقطن ويتجر المسلمون ، فان هذا الوالي ينبغي إن يكون قويا كما أن مكانته عند عظيم القوم هي التي أهلته لهذا الدور.
ثالثاً: أن الولاة جريا على نمط مألوف في القيادة ، يصدرون فيه عن تأليه لزعيمهم الأكبر ، لا يتصلون اتصالا مباشرا بالمسلمين وان كانوا يقيمون معهم علاقات اجتماعية -تجارية- ويقبلون هداياهم.
رابعاً: أن الاتصال بالرعايا أيضا لم يكن اتصالا مباشرا ويؤكد ذلك فيما يؤكد مدى ما لزعيم القوم من قداسة في قلوب أتباعه على الرغم من عدم التفرقة في الدين.
خامساً: وأخيرا أن هذا النظام الاجتماعي على الرغم من أنه يؤكد قيم الجماعة الداخلية in-group ويتشدد في تقاليدها ونظمها خاصة النظام الديني بوصفه محوريا بالنتيجة والضرورة-فان النوبة لا يمتنعون به عن الاتصال بالجماعات الأخرى ، مع احتفاظهم لأنفسهم بحق تنظيم وتقنين حدود هذا الاتصال ، فلا يسمحون للمسلمين مثلا بالتخاطب بلغتهم العربية. ومن التاريخ والخبرة الاجتماعية للنوبة ، نلاحظ أن النوبة أنفسهم كانوا قد تعرضوا لوضع مشابه أبان الفتح الروماني لبلادهم على يد القائد ماكسيموس Maximus الذي عقد معهم خلال حملته التأديبية-معاهدة ، يهمنا انه تم لهم بمقتضاها السماح من قبل القائد الروماني بأن يمارسو طقوس وشعائر حجهم في كل عام إلى جزيرة "فيلة" وان يستعيروا من حين لآخر تمثال إيزيس "ليطوفوا به حول بلادهم تبركا وطلبا للحماية". وكان ذلك في إطار تعهد من جانبهم بالمحافظة على السلام مدة مائة عام. إن هذا المجتمع قد عرف التماسك والمحافظة بتجربة الارتهان بالعدو الخارجي أوعلى ضوء ضرورات اجتماعية داخلية. ولقد حدث في موضع آخر إن واجهت النوبة موقفا مشابها آخر من مسألة التوافق مع أنظمة وجماعات خارجية out group من ذلك انه ومع بدايات انتشار الإسلام ورفض النوبيين له، وما كان من واقع الصد المسلح لمحأولات الغزو من الشمال والهدنة وما كان من عدم محافظتهم عليها حيث أخذوا يرسلون سراياهم إلى صعيد مصر مخربين مفسدين. انتهى الأمر بينهم بالصلح مع مصر والسماح للمسلمين بالاحتفاظ بمسجد كان لهم في دنقلا.
¯  فإذ كان من المحظور على العرب المسلمين الإفصاح بالعربية فان هذا المسجد لا شك له دلالة اجتماعية وسياسية. فالدلالة السياسية كما يقول عبد العزيز امن عبد المجيد صاحب التربية في السودان هي محتوى الرمز ، من أن المسلمين قد وطئوا هذه البلاد[67]. وان ذلك يقابل رفع علم الدولة الغازية على أرض الدولة المغزوة. أما الدلالة الاجتماعية فهي انه، وان كانت ممارسة الشعائر الغريبة على المجتمع، ودينه محرمة على من يقيمون ويتساكنون و الأفراد والجماعات المحليين. فإن ذلك لا يمنع العابرين من أن يقيموا شعائرهم وطقوس دينهم، شريطة إلا يكون في هذا النشاط ما يؤلف خطرا على قيم الجماعة أويؤدي إلى انتشار هذا النظام بأي درجة من الدرجات. وهو ما يمكن تفسيره بالنظر إلى طبيعة النظم الاجتماعية التي تتبادل الاعتماد وما يترتب على الترابط الشديد، بين أجزاء النسق ، من تقديس لكافة النظم ، ولكل نظام على حدة. والواقع إن شدة الترابط بين النظم وتقديس النسق الاجتماعي، يتبادلان التأثير والتأثر بحيث يغدو متعذرا تبين ما إذا كان التقديس سبب والترابط هو نتيجة أوالعكس. إلا أن المعالجة التاريخية تقول بأن نقطة البدء هنا هي أنه، كلما أثبت نسق ما وظيفته في إشباع الحاجات كلما تمت احاطته بالتقديس هو ، وكل ما يتصل به من ممارسات، بالتقدير بوصفه واحدا من آليات حماية المجتمع، حتى يغدو المجتمع نفسه بأجزائه المكونة له مقدسا كمثل ما يذهب إليه دوركايم فيكاد يبدو كما ذكرنا فى مكان اخر وكأن المجتمع يعبد نفسه.
مارس النوبيون إذن نوعا من التعايش بين أنظمة مختلفة اختلافا واضحا، بل غالبا ما تقف موقفا عدائيا من نظمهم. ولكنهم كانوا، لخصائص راجعة لتقاليدهم وقيمهم وعاداتهم، يستعصون عليها، ويحمون أنفسهم من تأثيرها، بتحفظات كانوا هم يضعونها ويصرون عليها، اعتدادا بأوضاعهم الاجتماعية، ذلك الاعتداد الذي انحدر إليهم حتى اليوم وفي ذلك التمركز الثقافي الملحوظ ما يفسر كيف أن النوبة حتى اليوم من الجماعات القليلة جدا والنادرة في العالم التي ما برحت تتمسك بمبدأ الزواج من الداخل. كما يتضح مبلغ تضامن النوبة أينما ذهبوا ومهما كانت المجتمعات التي يوجدون بها وتحيط بهم وما يبرح النوبة كذلك وكأن ثقافتهم ومعتقداتهم غير قابلة للذوبان في الكل الاجتماعي الذي قد لا يؤلفون داخله أكثر من جزئية صغيرة. وقد قأوم النوبيون الإسلام وصدوه طويلا ولم يدخلوه إلا بالتدرج مثل ما حدث لهم مع المسيحية. كما أن العرب لم يتغلبوا على النوبيين واكتفوا بمهادنتهم لما كان للآخرين من قدرة قتالية ووحدة في الحرب وحذق للرماية[68] فاكتفي الطرفان من القتال بأن يترك كل منهما الآخر وشأنه.
هذا علأوة على أن النوبيين رفضوا الإسلام-وهم حديثو عهد بالمسيحية-والواقع أن حداثة العهد بالمسيحية ليست إشارة لاكتمال دخول النوبيين في المسيحية وإنما يشار إلى صيرورة الدولة رسميا مسيحية. أما دخول وانتشار المسيحية في بلاد النوبة فقد مر ما بين أوله وإعلانه رسميا ، ما يقارب الخمسة قرون كما أن هذا الإعلان كان قد جاء في أعقاب تحريم الوثنية في الأقاليم الرومانية بمرسوم إمبراطوري. ويرجع بعض الدارسين مقأومة النوبة إلى صفة المحافظة التي اتصف النوبيون بها، والتي ينسبها علماء النفس إلى البيئة الاجتماعية حيث يقولون إن قسوة البيئة وشح الطبيعة يذكيان المحافظة والتعصب لكل ما هو محلي، وقد أثبتت بعض الدراسات النفسية أن حس المحافظة يشتد ويزداد مع قسوة البيئة وشحها، كما هو الحال في أرض الحجر. وترجع المحافظة ومقأومة الجديد، إلى أن النظم الاجتماعية لتماسكها وتساندها في مجتمعات معزولة أوشبه ذلك، تصد كل ما من شأنه أن يعرض ما استقر وتواضع عليه الأفراد من إحباط فاعليته الوظيفية.
وإذ يؤدي نظام دوره في إشباع حاجات الجماعة متساندا مترابطا في تجانس مع النظم الأخرى من البناء أوالنسق الاجتماعي، فان خشية إبداله تنبع من الخشية من تعريض البناء بكامله للخطر. ومن الشواهد التاريخية أن المجتمعات الصغيرة شديدة الترابط في أنظمها. وحينما يكون لكل نظام وظيفة اجتماعية فان الدور الذي يؤديه النظام من إشباع حاجات الأفراد بأقل درجة من الإحباط إنما يرجع فيرد لهذا النظام اعتباره الاجتماعي. والى جانب ذلك فقد كان النوبيون يعقوبيين ، واليعقوبية في المسيحية هي دين الشعب ودين الملك معا. وفوق ذلك كان النوبة يعيشون في مجتمع مستقل أوتسودهم الوحدة حاكما ومحكوما. ولما كان الدين في الجماعات الأولية وشبه الأولية نظام محوري يتوحد الأفراد من خلاله مع المجتمع ، وغالبا ما يتساند النظام الديني والنظام السياسي كان هذا التوحد من ثم هو إقرار لذوات الأفراد بوصفهم متحدين مع القيادة فيها. ولما كانت اعتبارات السلطة تستلزم التعرض لمسألة الملكية والثروة والوجاهة ومن خلف ذلك مراكز وأدوار الأفراد ، فان النظام الديني والسياسي والاقتصادي من العوامل التي تؤكد صفة المحافظة إلا أن ما حدث من تغيير اجتماعي بسبب دخول الدين الجديد ، كان قد حدث ، كما سنرى ، بسبب عوامل موضوعية خارجية ، ولم يكن للعوامل الذاتية دور كبير-أودور يذكر فيها-إلا إذا قصدنا المقأومة. فالمنطقة بكاملها كانت تخضع لهذه التغيرات الثقافية ، ومن ورائها تغيرات في الظواهر الاجتماعية.
 والواقع ان ثمة حقيقة موضوعية أخرى قد تفسر التماسك الاجتماعي للنوبة، تلك هي أن بلاد النوبة بحكم موقعها كانت معرضة للغارات من ثلاث نواح:-
 1-من الشرق حيث قبائل البجا
2-ومن غرب النوبا حيث جماعات صمحو وتهنو،
3-ومن الجنوب حيث جماعات متزنجة.
وزاد على ذلك-تركز السكان في بقعة صغيرة من الأرض مما يزيد معدلات التفاعل فيما بين الأفراد وينمي تماسكهم وتعأونهم-أضف إلى ذلك خطر الغزو المتجدد من الشمال دوما [69]
وكانت أبرز أدوات مقأومة الغزو الخارجي التنشئة العسكرية التي يقال أنها ذات جذور رومانية وترجح هذه الدراسة أن التنشئة العسكرية راجعة لطبيعة منوال قيام وسقوط الدولة منذ عهد الأسرات وما تتوفر عليه تلك الطبيعة من شروط استقطاب شريحة سلطوية تتصل بجماعات قبلية لها شدة المراس والبأس والقدرة القتالية وذلك عن طريق تبنى الملك الفرعون لأبناء القبائل تارة ضمانا لولاء آبائهم وتارة أخرى بسبب أن بعض تلك القبائل ذات ميزات قتالية. فيؤتى بالطفل الذكر منذ حداثته فيغدو ربيبا في البلاط يتعلم لغة الملوك وأنماط سلوكهم فيغدو عضوا من أعضاء الصفوة الحاكمة. وكان بعض هؤلاء الربابى أوالأرباب الملكيين من العبيد المعتقين وكان العبيد المعتقين مقاتلين في صف البلاط وإلى جانب الاسرة الحاكمة حراسا على تيسير وراثتها وأيلولتها في خط أولياء عهدها وأحيانا كانوا يستولون على السلطة باسم صاحب البيت الملكي وأحيانا باسمائهم هم. هذا وكانت المؤثرات المسيحية "بالتبشير أو-و الهجرة" أوبالسيطرة المسلحة قد جاءت للمجتمع النوبي، كانعكاس للمؤسسات والنظم الرومانية الإغريقية، ذات الطبيعة القهرية التعسفية. فلم يكن بد من أن تنقل نظما وأجزاء ثقافية معها أينما حلت. ومن ذلك التنظيم السياسي وشكل الحكم وأجهزته. مميزات الحياة العسكرية الملازمة للجيوش وقد عرفت بها روما كإمبراطورية فاتحة.
التنشئة : عندما تصبح التنشئة عاملا على المقأومة بدلا التماسك الاجتماعي.
كانت أبرز أشكال مقأومة الغزو الخارجي وأكثرها إيجابا قدرة الجنود النوبيين على تسديد السهام، حتى لقبوا "برمات الحدق" لأنهم كانوا يصوبون سهامهم نحو عيون أعدائهم، وقلما يخيب مرماهم. إن القدرة القتالية العالية بما في ذلك رماية السهام تمثل إحدى أجزاء الثقافة النوبية فالفونجية، مما يشير إلى سيادة التنشئة العسكرية في شمال السودان ممثلة في الجيش المركزي المدافع قوة وعددا والقائم عند البلاط السنارى في العاصمة المركزية لسلطنة الفونج. ومما يضيف إلى دوافع مقأومة الغزو الخارجي وامكانية الثبات عليها، ما رأيناه من كيف كانت مملكة النوبة محافظة ومعتدة بقدراتها القتالية وظلت كذلك حتى سقوطها.
وينسب بعض الدارسين السبب في ذلك إلى عزلة مملكة النوبة/مروى، وآخرون ينسبونه إلى أن مملكة النوبة كانت فقيرة لا تغري إذ لا تقدم مغنما، إلا أننا نرى أن الصد والمقأومة اللذين مارسهما النوبيون إزاء الفتح الإسلامي، كما كانوا قد قأوموا بهما المسيحية، هما انعكاس للتنشئة الاجتماعية المتأسسة على تنظيم الإنتاج والعلاقات الخراجية ومعاهدات التراضي أوالإجبار ونسق الاستضافة الأهلية لسفراء السلطان وأمرائه الإقليميين مما يربط أجزاء السلطنة . وقد غدا هذا الطاقم من المواضعات القيمية مرشدا، ومتمحورا حول نظام ديني.
وقد دخلت المسيحية بلاد النوبة على مهل وبالتدريج منذ القرنين الأول والثاني ولم تظهر مروى كدولة مسيحية إلا على عهد الملك سلكو ويعتقد انه هو مؤسس مدينة دنقلا وكان ذلك في القرن السادس. وإذا كان من أهم عوامل انتشار المسيحية في المجتمع النوبي تسلل بعض المسيحيين في وجه الاضطهاد الديني من الشمال، فإن ذلك يعني أن المسيحية لم تنتشر انتشارا تلقائيا كاملا. فبعد مضي خمسة قرون بقى النوبيون وثنيين ، إلى أن أرسل القائد الروماني ماكسيموس على رأس حملة تأديبية للبلاد النوبية عام -450-457- ومع ذلك بقى النوبيون يعبدون أريس في جزيرة فيله، أما مملكة علوة فلا نعرف سوى أنها دخلت المسيحية في أوائل القرن السابع وان من دخل من النوبة العليا-علوة-[70] المسيحية فعل ذلك نتيجة للعوامل الآتية :-
1- الاستعداد الثقافي والاحتكاك الذي استمر على مدى طويل بين عناصر مسيحية مهاجرة، من الفارين في وجه الاضطهاد ، أورجال القوافل التجارية الآتية من مصر إلى السودان وقد تم ذلك ببطء شديد.
انه بعد صدور المرسوم الإمبراطوري الروماني -في نهاية القرن الرابع- اجبر كافة سكان الإمبراطورية باعتناق المسيحية، وقد دخل الكثير من النوبيين والبجة المسيحية، على أثر حملات تأديبية. وثمة من بقى من السكان على دينه، وثنيا بعد كل ذلك وحتى القرن الرابع عشر ، حين دخل هؤلاء وغيرهم  من القبائل السودانية الدين الإسلامي. ويعتقد إن الشكرية بقيت حتى القرن الثامن عشر على دينها قبل إن تدخل الإسلام. وكان شيوخ الشكرية اعتركوا في التعامل مع السلاطين ومالؤوهم ولم يلبثوا إن حصلوا من الأخيرين على امتيازات كانت غالبا وقفا على شيوخ الطرائق مقابل إدارة العدالة نظريا. وتؤكد وثائق الفونج إن الشكرية تمتعوا بإعفاءات مماثلة للإعفاءات التي حظي بها شيوخ الطرائق من جمع الخراج باسمهم وليس باسم السلطان. وقد تبرع السلطان بادي ابن دكين بأرض للشكرية في البطانة لزعيمها الشيخ عوض الكريم أبو سن ابن على وسمح له بالاستفادة من الأرض وجمع الخراج من بين من يختار أبو سن جمعه منهم من  القبائل الأخرى. ويعنى ذلك ان السلطان بادي  سن شرطا بان تدفع الشكرية الخراج على الأرض للشيخ عوض الكريم أبو سن وليس للسلطان[71].
المهم من الممكن إذن إرجاع التنشئة لدى النوبة إلى متغيرات متعددة وفي نفس الوقت تبيان أثرها على الظواهر والمتغيرات التي تتبادل معها الاعتماد والتأثير والتأثر، وهو شأن النظم التربوية في المجتمعات البسيطة على وجه الخصوص مثلما هو شأنها أيضا بصورة عامة في كافة المجتمعات.


الفصل:السابع : مجتمـع الفونـج: العلاقة الطردية بين اظلمة
التاريخ الموضوعى وسفر تكوين الطرق الصوفية
 
مقدمة:
كانت النظم التربوية الفونجية حرية بان تعكس تداعيات المراحل التي مر المجتمع بها، من مجتمع إقطاعي عسكري متعدد الثقافات إلى مجتمع أثمر الاحتكاك والامتزاج الثقافي داخله ، ظواهر اجتماعية جديدة أبرزها ما يكون قد تعين من الانصهار الأتنولوجي، السلالي، الى روافد الثقافة العربية الإسلامية. ولعل محصلة كل ذلك الانصهار والامتزاج المفترضين تمثلا فى التربية الصوفية. وكانت الصوفية قد انتشرت في المجتمع العربي الكبير إبان فترة الجمود الثقافي، الذي أعقب انحلال الخلافات الكبرى ، وواكب بداية انحلال الخلافة العثمانية النهائي. وأزعم أن التحولات التي حاقت بالمجتمع العربي و بخاصة منها ما تمثل مع نهاية القرن التاسع عشر كانت حرية بان تشارف ما يعتور العالم العربي من نكوص ثقافي وفكري وتنظيمي مع نهاية القرن العشرين وما بعده. ومهما يكن من أمر التربية الصوفية ، فإنها كانت مؤشرا للعزلة الثقافية ودالة على المرحلة الاستاتيكية التي كانت تمر بها الثقافة العربية ، معزولة عن التيارات الثقافية لأوربا أبان الثورة الصناعية ، وعهد "الكشوفات العلمية الكبرى" في العالم.
ولم يكن صدفة أن تنتشر الطرق الصوفية والتخريجات على الأديان والمعتقدات مثل الوسأوس الدينية والتطير والشعوذة والسحر في العالم العربي من شمال أفريقيا إلى اليمن ومن مصر إلى موريتانيا والصومال واريتريا عبورا بالسودان الخ. ومن الجدير بالذكر أن تلك التمثلات الناكصة لا تقتصر على العالم العربي والإسلامي. فقد انتشرت تلك الظواهر الثقافية او الخرافية فى كل مجتمع  تمثلت فيه شروط الاحباط والنزوع الى التعويض الفردى و الجمعى على مر التاريخ. فقد تمثلت تلك الظواهر فى اوربا الغربية فى القرن السابع الى التاسع عشر كما ذكرنا فى مكان  اخر و فى امريكا فى القرن الثامن عشر و اوربا الشرقية فى القرن التاسع عشر و عشية الثورة البلشفية.  
المهم في تنأولنا للتربية الصوفية سواء في السلطنة الزرقاء أوإبان المهدية رأينا أن نأخذها كميكانيزم للتوافق أكثر من محأولة التعرض لها آنيا بالتحليل المستطرد لتسأوقها مع النظم التربوية الأخرى كالتربية العسكرية أوالحديثة ، كالمدارس والتعليم النظامي الذي أدخلته الإدارة التركية والمتغيرات التربوية الأخرى المعاصرة لها في المجتمع على التوالي.
قد اعتبرنا الحركة المهدية –متفقين في ذلك مع كثير من الدارسين- نتيجة منطقية للتربية الصوفية أكثر مما حأولنا تحليلها من وجهة نظر الإسلام. كذلك كان تنأولنا لظاهرة المهدي ، وموقف الثقافة الإسلامية من هذه الحركة ونظرته إليها ، إذ عالجناها من وجهة نظر الحركة الاجتماعية بوصفها ثورة على الأوضاع ، وما ينعكس عن الثورات من تداعيات قد تبدو ولو لوقت وجيز تغييرات جذرية في التربية والتنشئة ونظم القيادة. ولما كان من العسير تجأوز الحركة الدينية -عميقة الأثر على هذه الحركة الاجتماعية- فإننا أيضا استعرنا إلى جانب التحليل التاريخي للتغييرات الحالة في المراكز والأدوار على ضوء المثل العليا للتنشئة المهدوية ، استعرنا وجهة نظر ماكس فيبر Max Weber حول الكارزما Charisma التي تعلى دور قسمات القيادة الفردية المتمأسسة على فكرة دور الفرد  فى التغيير الاجتماعى خصما على الأفكار وبخاصة على التنظيم الشعبى في حركة التغيير.
و تصدر تلك النظرية عن نظريات الصفوة بتنويعاتها المكتبية و الوظيفية والعضوية مما كان فلاسفة ليبراليين من فيلفاريتو باريتو الى موسكا وغيره قد صوغها فى القرن الثامن والتاسع عشر[72]. فقد باتت ثنائية الصفوة و الكتل الجماهيرية جزئية منهجية لازمة لتحليل المستعمرات بالنظر الى حكامهم الغربيين و الى الحكام اللذين راح الاخيرون يعدونهم لاستلام السلطة من بعد "خروج" الاستمعار الرسمى من المستعمرة. و كان أؤلئك الفلاسفة قد تعينوا على مفصلة تنويعات من تلك الثنائيات من سلطة افراد مفردين عرفوا بالصفوة الى سلطة فرد مفرد مطلقة وصولا الى الديكتاتورية أوما عرف فى السياق مط الانتاج الاسيوى أوالشرقى-وهو رديف لنمط الانتاج الاقطاعى الشمال غرب أوربى-بالاستبداد الشرقى Oriental Despotism. وتخترق براديجما أومنهج ثنائية الصفوة والكتل الجماهيرية Elite Mass paradigm كافة المجتمعات السابقة على الطبقات الى ما بعد الصناعية.
و تيسر تلك البراديجما بهذا الوصف من ثم تعريف فتحليل مفهوم السلطة وتشارك السلطة مما رشد المصالح المتوارثة التى تمأسست على الثورة الاجتماعية فالمادية وصولا الى تزويق الكاريزما فى اصحاب تلك المصالح. The Elite/ mass dichotomy cuts across most social formations in pre-class to post-industrial societies. The elite/ mass approach to the concept of power and power sharing helps to rationalise vested interest which rests on social hence economic wealth, charisma, skills and government backing; whose outcome has been expressed in without claiming to base itself on old and new despots.  و كان فلاسفة ماركسيين مثل انطونيو جرامشى قد كتب في تدرج تنويعات الصفوة العضوية والوظيفية Gramscian, Organic or Traditional elite . كما كتب جرامشى فى تنويعة تشارف كاريزمية الصفوة ناقدا اكثر منه محبزا أومحرضا. Gramsci in a graded scale of extreme ‘eliteness’ المهم استندت المهدية بعد كل شيء إلى رصيد من التراث والأدب والروايات المتناقلة بقدر ما وظفت تنظيمات وأجهزة للتغيير بالعنف من ناحية وقد أثر هذا بدوره على الأفكار وعلى التربية من ناحية أخرى. و كانت المهديية قد تمثلت فى الزمن الضائع للامبراطورية البريطانية رغم ازدهار المجتمع الفيكتوري و انتصار الملكة و بينجامين ديزرائيلى على العثمانيين فى القرم و المضاربة فى اسهم قناة السويس الخ مما اكون قد ذكرت بعضه فى مكان اخر.
التستر على تاريخ الفونج و تداعياته
ينبغى الاقرار بان هذا الفصل يأخذ عن مؤرخين سودانيين من ود ضيف الله و يوسف فضل ومحمد ابراهيم ابوسليم وغيرهم و اجانب مثل أوفاهى OFahey وسبولدينج [73]Spaulding وبعض الرحالة والمغامرين امثال مورهيد بشأن اصول الفونج والسلطنة و يشير هذا الفصل الى كل منهم فى موضع ذكره ويجادل بعض محصلاتهم. و توفر المادة الخام فيما توفر اتصال هبوط موجات غير معروفة من المغامرين و التجار و الصوفيين على سلطنة الفونج سرعان ما راح بعضها يخترق و بعضها يتحكم فى كامل المسلطنة. ولم تنفك بعض تلك الجماعات ان اخذت تبتز ثم تحل محل شرائح سلطة الفونج.
لذلك ليس غريبا ان يتم التستر أوحتى يعمش على تاريخ الفونج. و لا يتستر أويعمش على تاريخ الفونج السودانيون المؤسلمون المعربون وحدهم وانما تتواطأ دوائر المعارف الغربية على ذلك التستر باحلال اطروحة اشد لؤما وخطرا. و تقول موسوعة انجليزية مثلا ان السودان بدأ بدارفور الاسراتية و ان الاخيرة كانت تحت سوليمان صولونج حوال 1640 الى حوالى 1670 الى ابراهيم الذى حكم ما بين 1873-98 الى ان هزم محمد احمد و اتباعه سلطة دارفور الاسراتية فى 1874 و حكموا دارفور حتى 1898 حيث "انتهت "سلطة المذكور بمحمد احمد دون أى كناية و قد هزمه على دينار ابن ذكريا الذى هزمه الانجليز بدورهم فى 1916"[74].
ففيا ليس ثمة ما ذكر للفونج فى المراجع الافرنجية فقد باتت سلطنة الفونج و قد اتصلت منذ سقوط نبتة فعلوة والمقرة الى نهاية القرن السابع عشر كغيرها من فصول التاريخ غير الاسلامى أوالمؤسلم بما فى ذلك التاريخ الاسراتى الوادى نيلى الجنوبي كما ذكرنا لوقت طويل محض شرح على متون السردية الرسمية لاسلمة السودان فتعريبه هكذا بقدرة حفنة من المهاجرين المسلمين وهم:-
- الفارين فى وجه الاضطهاد الخلافى من الشرق.
- النازحين فى وجه سقوط ممالك اسلامية شمالية من الاندلس و شمال افريقيا.
و قياسا يبقى بالطبع خلاقا حول أصول الفونج السلالية، إذ يرى بعض المؤرخين، أنهم خليط من سكان البلاد الأصليين من المتزنجين والعرب ، من فلول بني أمية الفارين في وجه الاضطهاد العباسي، نزحوا على طول النيل، حتى وجدوا لهم مستقرا، في جزيرة سنار الواقعة بين النيل الأبيض والنيل الأزرق. وقيل أنهم في مسارهم هذا كانوا قد لجاءوا إلى الحبشة إلا أن بني العباس أرادوهم وأرسلوا في طلبهم عنوة، فما كان من النجاشي إلا أن سرحهم، وأرسل للخليفة هدية غالية، متفاديا حرج تسليم قوم استجاروا به ، أوالدخول في حرب طويلة، ومن ثم خرج الفونج إلى الجبال التي في أعالي جزيرة سنار.
ولما كان السكان الأصليين أقل عدة من القوم النازحين فقد سهلت هزيمتهم، خاصة وان العرب الأمويين لهم تقاليد في الحرب وإلفة بها كما كانت السلطة والنفوذ من عاداتهم وممارساتهم في سوريا والعراق. وكأن سكان السودان الاصليين لا قدرة قتالية لهم و لم يعرفوا برماة الحدق وكانوا من البدو و الاعراب ذوى البأس. المهم تتصل السردية "الاجنبية" على اهل البلاد الاصليين فتستطرد بان "اختلطت الجماعتان ، الجديدة والقديمة، وتمازجتا وزاد من هذا التمازج حركة التسري الواسعة ، ثم الزواج فيما بعد ، مما ترتب عليه نشوء مجتمع جديد من الاثنين ، أهم نتائجه وراثة سمات سلالية وثقافية مشتركة بين الجماعتين وان بقى للقوم سمات واضحة من الثقافة العربية[75]، ومن القائلين بهذا الشيخ عبد الدافع صاحب تاريخ الفونج. إلا انه من الملاحظ أن أغلب القبائل السودانية تدعي نسبا عربيا بل ومتصلا بآل البيت.
وتقول رواية أخرى أن الفونج هم سكان جزيرة سنار الواقعة بين النيل الأبيض والنيل الأزرق وهي "بلاد المكروبين" التي أشار إليهم هيرودوت "بأنهم في أقصى جنوب أثيوبيا". كما يقال أنهم من الجنود المصريين الذين فروا إلى السودان ، في أيام الملك بسامتيك سنة 644 قبل الميلاد. ويرى البعض أن هذه هي بلاد الملك-كعامر-الذي طمع قمبيز ببلاده ، وعجز عن الوصول إليه سنة 525 قبل الميلاد. و تقول نفس المصادر المتناقضة اذ كيف تكون بلاد المكروبين موضوع طمع قمبيز-أن الملك كعامر هذا تولى الملك في هذه الجزيرة 12 ملكة و10 ملوك[76].
و قد ذكرنا في فصل اخر ان مملكة علوة المسيحية، قامت بنفس المنطقة تقريبا قبل أن يدخلها لإسلام بعد ذلك بألف عام ، حتى اتفق العرب والفونج عليها، وخربوها وأقاموا مملكة سنار ، في بداية القرن السادس عشر. ويقول صاحب الطبقات "اعلم أن الفونج ملكت أرض النوبة وتغلبت عليها أوائل القرن العاشر سنة 910 وخططت مدينة سنار ، خططها الملك عماره دنقس وخطط مدينة اربجي"[77].  لاحظ التحذب لعمارة دنجس خصما على ملوك الفونج و كأن الفونج بدأت مسلمة يحكمها مسلمون خصما على كل ما سبقهم و من سبقهم من أى ذكر للفونج و ملوكها اللذين اتفقوا مع العرب على تخريب مملكة سنار باقرار ود ضيف الله فى الطبقات الموسومة.
ويقول الشيخ عبد الدافع صاحب تاريخ الفونج ، إن عماره دنقس كبير الفونج، والشيخ عبد الله جماع شيخ قبيلة القواسمة-وهم أى القواسمة من عرب جهينة - اتفقا على ضم كلمة المسلمين ومحاربة النوبة وكان أن حشدا جيوشهما ، وهاجموا النوبة في سوبا، وخربوها ثم ساروا إلى منطقة قَرِّى ، وقتلوا ملكها واستولوا على البلاد. ويقال أيضا انه مما ساعد على نهاية مملكة النوبة وجود فتن داخلية فيها[78]. وعلى أثر ذلك اتفق الطرفان على أن يكون عماره ملك هذه السلطنة الأعظم ويكون في مكان ملك سوبا. وان يكون عبد الله جماع ، في مكان ملك قَرِّى، ويلقب شيخا. وقد بقى هذا التقليد حتى نهاية السلطنة الزرقاء أومملكة سنار. فكيف يفسر كون عمارة دنقس يغدو ملكا اعظم و يغدو جماع شيخا؟ المهم كان ملك الفونج قائما على الأقاليم الواقعة مابين اربجي وما تلاها جنوبا ، وكانت إدارة مشيخة قرى تمتد من أربجي شمالا إلى الشلال الثالث ، وتتبع سيادة ملوك الفونج[79]. وكانت مملكة سنار إذن منقسمة إلى عدة ممالك ومشيخات من أجناس سلالية وثقافات مختلفة "من سود ونوبة وعرب، حضر وبدو"[80]. و كانت كل مملكة أومشيخة ذات استقلال من نوع يمكن اعتباره استقلالا ذاتيا فيما خلا الجزية التي كانوا يدفعونها لملك سنار–الأعظم. لاحظ(ى) ان الجزية لملك الفونج و لا نعلم يقينا ان كان قد اسلم ام ان ذلك ابان تداعيات دخول التجار الصوفيين و قبل اسلمة السلطنة بصورة شبه كاملة فى القرن السابع و الثامن عشر. و كانت الفونج ومشيخاتها المذكورة تتجأور و مجتمع كان تابعا للكشاف والأتراك ابتداءا من الشلال الثالث وحتى الشلال الأول بعد أن هزم العثمانيون النوبة السفلى وفتحوها من أسوان حتى الشلال الثالث حيث عسكر جندهم. وقد عرف هؤلاء بالغزو وحكامهم بالكشاف العثمانيين المصريين. وهكذا انقسمت بلاد لنوبة السفلى بين الفونج والكشاف حتى الفتح عام 1882م.
أبرز الظواهر الاجتماعية السنارية الملكية:-
        لاحظنا أن الروايات على اختلافها، تشير إلى حقيقة أن الفونج كانوا خليطا من سلالات وثقافات متعددة، ما هو مؤكد بحكم التاريخ اليقيني ، ملكة علوة مثلا والتي أشرنا إليها سابقا، ومنها أن النوبيين اضطروا للاحتكاك ، على مستويات مختلفة بالفونج ، كغزاة لهم حقوق الغزو، على المجتمع المنكسر. و لما كان من تقاليد الفونج أنفسهم التسري- مما سنعود إليه مرة أخرى-فإننا نميل إلى أن اختلاطا سلاليا قد وقع بين الفونج والنوبة، ما يدفع بالظن إلى أن التمازج السلالي كان سمة للمجتمع الجديد الذي أقامه ملوك الفونج. ومن ناحية أخرى فان عرب الجزيرة العربية-أوعرب بني أمية-هم من أعضاء هذا المجتمع ، بوصفه غازيا -وفي تفاعله- بعد أن استقر له الوضع- يؤلفون عنصرا سلاليا آخر. ومهما يكن من أمر العرب، فنحن نعلم أنهم قد جاءوا بأعراف وتقاليد مجتمعاتهم الأولى، ومنها تقاليد ورواسب ممعنة في القدم، من عادة التسري بالسبي أو"بما ملكت إيمانهم". ولقد استطاع العرب، عن طريق هذه العادات أن يكسبوا نفوذا وسلطانا على السكان الأصليين بسبب هذا النظام بالإضافة إلى تجارة الرقيق.
وانه بواقع نظام التسري يمكن أن ندرك فورا، أن ثمة اقتصاد يقوم على الرقيق سواء كان تجارة أواستخداما. ولما كان معظم العرب النازحين ممن تولوا السلطة ولم يألفوا العمل أوأنهم من النازحين من الجزيرة العربية، حيث كل من نظام الرق وعادة احتقار العمل اليدوي-مما يدعوا للاعتقاد مؤكدا في كثير من الأقوال المأثورة والأدب الشعبي أن هؤلاء القوم يمارسون نفس عادات وتقاليد أصولهم الأولى في المجتمعات التي أتوا منها، من احتقار للعمل ومن اعتماد على الرقيق. ولما كانت الحرب والغزوات، أوفر مصادر وروافد الاسترقاق بالسبي والاستعباد للجماعات المقهورة، فان نظام الرق أدعى لأن يؤلف واحدا من الملامح الهامة لهذا المجتمع الجديد. ويقول ودضيف الله "وكان ملوك سنار يجهزون ، في أيام عزهم ،جيشا لا يقل عن 25 ألف مقاتل مسلحين بالحراب والسيوف والدروع ، وفيهم من أربعة إلى خمسة آلاف فارس من العبيد والفونج ، كانوا يقيمون في بلاد البرونالى الجنوبى ، و لهم ثلث الغنائم التي يغتنمونها من فازوغلي وجنوبها"[81].
الخصائص الحربية لمجتمع الفونج
إذن فالمجتمع الجديد كان يحتقر العمل اليدوي ، رغم اعتماده عليه ، ولو في صناعة الحرب وعدتها. ومع ذلك كان متقدما في الأعمال اليدوية بواقع العتاد الحربي المذكور ونتيجة لتوفر الأيدي العاملة بالرق، وكان من دواعي هذا الاحتقار، من التراث الذي أتى به العرب إلى جانب توفر مصادر الأيدي العاملة متمثلة في نظام الرقيق المعمول به، والذي اتسع نتيجة لمناشط المجتمع الجديد وحتى بعد إلغاء الرقيق رسميا بقانون عام 1933 إلا أننا نرى كيف أن نظام الرقيق، قد أثر تأثيرا بارزا في تكييف معاهد التعليم ووظائفها في تلك الفترة مما عرض له باستطراد في مكان آخر[82]. ومن هذه الظاهرة الاجتماعية-وجود نظام الرقيق- نخلص إلى ظاهرة أخرى وهي الحرب. وقد لازم الفونج الاعتزاز بقدرتهم القتالية حتى حين أصاب الفونج الضعف الشديد على أواخر أيامهم و يبدو ذلك من رسالة محمد ود عدلان لإسماعيل باشا إذ يقول "لا يغرنك انتصارك على الجعليين والشايقية فنحن الملوك وهم الرعية، أما بلغك أن سنار محروسة محمية بصوارم قواطع هندية وخيول جرد ادهمية ورجال صابرين على القتال بكرة وعشيـة؟" وكانت الحرب وظيفيا واجتماعيا نشاطا برز فيه الفونج لتوفر كل أسبابها وإمكانياتها، فأما الأسباب، فهي مجأورة الفونج للأتراك والكشاف والأحباش. ومن المعروف تاريخيا، ثمة غزوات كتلك الغزوات المتكررة من ناحيتي الأحباش، ومن مصر شمالا على أيام السلطان سليم، على الفونج ، وان جيش الفونج ان تصدى للثانية، ابان اسعد عصور الفونج على أيام الملك بادي الثاني –ابودقن-الذي كان عهده من أفضل ما شهدت مملكة الفونج. فهو الذي أدخل الإصلاحات بعد ذلك والتعمير و"التنوير الديني مما جعل للحركة آلية الانتشار ولم يلبث ان بات الصوفي" سيد القوم.
ومن المفيد تذكر انه ما إن أصبحت سنار العاصمة السلطانية المركزية للفونج المؤسلمة غدا تاريخ الفونج تاريخا مؤسلما يكتبه الصوفيون خصما على التاريخ الفونجى السابق على الأسلمة مثل ذلك كمثل تاريخ المنتصرين اللذين يعيدون كتابة التاريخ خصما على المهزومين. وازعم أن سفر تكوين إحلال السير الاسراتية الذاتية مكان التاريخ الرسمي كان قد تكرس مجددا على أيدي متصوفة الفونج. ذلك أن نمط إنتاج بعض الخلأوى كان حريا بان يعيد إنتاج نمط الإنتاج الشرقي في تنويعاته الأكثر نكوصا من أي وقت مضى بالضرورة فيكرس نكوص المجتمع تنظيميا وبنائيا وفكريا بالنتيجة. وعلى كل حال فقد كان انتصار الفونج على الحبشة في عام 1744 على عهد بادي الرابع -ابوشلوخ- ، تحت أمرة أمين ود مسمار وود عجيب. وكان لقاء الفونج مع جيوش السلطان سليم ، في سواكن ومصوع، لولا أن السلطان تراجع حين علم أن الفونج "عرب" ومسلمين فعدل عن غزوهم[83].
لاحظ(ي) انه ما أن تمت أسلمة الفونج حتى غدا كل مسلميها عرب أي أن الأسلمة يتبعها التعريب أوتتضمن الأسلمة التعريب حتى أن لم يكن الفرد عرقيا عربيا . وأن هذه خاصة من خواص المجتمع السوداني المؤسلم المعرب بالتالي فعقد الامتياز للمؤسلمين على غير المؤسلمين حيث تنحدر بل كانت قد انحدرت السلطة المركزية وسلطة القبائل الكبرى والطرق الصوفية في خط المعربين بوصف أن إسلامهم شرطا لتعريبهم وهكذا تمت عملية أشبه بالانقلاب على سلاطين وأمراء الفونج لصالح المشايخ الصوفيين وكان أهم ميكانيزماتها الإقطاعيات الخيرية باسم البر بالفقراء التي كان السلاطين يتبارون تحت وطأة ما يمكن أن يدانى "الإرهاب" العاطفي والسياسي في من منهم أكثر جودا وأشدهم إحسانا بالفقهاء من الصوفيين اللذين كانوا قد اخذوا يحتكرون "إدارة العدالة" أي الشريعة الإسلامية الصوفية . ومن إدارة العدالة قيض للصوفيين احتكار التجارة والآبار التي تقع على الابعاديات والضياع الإقطاعية التي تصدق السلطان بها لهم ثوابا في الله، والمرعى زيادة على المسيل عابر إقطاعياتهم . ويقول المؤرخون أيضا أن نظام الإدارة من دويلات ومشيخات إقطاعية مقسمة بين مشايخ قرى من العرب القبليين ، وملوك الفونج الخلاسيين كان حريا بأن يستدعي الصدامات من حين لآخر. من ذلك ثورة الشيخ عجيب الكفوتة على ملك سنار عدلان ابن أبيه ، والحرب التي انتهت بينهما بهزيمة ومقتل الشيخ عجيب.
أما إمكانيات الحرب وتوفر عناصرها ثقافتها ، فمنها ما هو راسب في المركب الثقافي cultural complex للجماعات المؤلفة لمجتمع الفونج. فالحرب والغزو والغارات من الثقافة القبلية، ومن صلبها. وقد جاءت بها القبائل الأفريقية وكانت واحدة من مميزاتها ولقد كان الاقتصاد البدوي للعرب الرحل ومنهم اشهر القبائل البدوية في أفريقيا كالكبابيش وغيرهم كان ذلك الاقتصاد وأسلوب الحياة البدوية عاملان من أهم عوامل تكريس القدرة القتالية للقبائل السودانية الكبيرة .
هذا وكان عرب الجزيرة قد جاءوا معهم بقدرة قتاليه مماثلة ويقال أن هؤلاء كانوا متقدمين على حلفائهم. وكان هؤلاء الأخيرين منحدرين عن أسلاف في تمازجهم بين عرب وزنج ، ورثة ثقافة تعتمد على الحرب في حياتها اليومية كذلك. ولما كانت تجارة الرقيق ، رائجة ، وكانت الحرب نفسها مما يضاعف من فرص الربح في التجارة وفي رواجها وازدهارها ، فان روافد لإمكانيات الحرب تتزايد بتوفر الأيدي العاملة فيها ، سواء في صناعة الأسلحة أوبالاشتراك في الحرب.
وهنا يجدر ملاحظة أن الفونج ما كانوا يستكثرون على عبيدهم وبخاصة العبيد الملكيين royal slaves حرفة الفروسية التي كانوا حريين بأن يجعلوها وقفا عليهم ، بوصفهم سادة، يتعاملون مع العمل اليدوي ربما بما فيه القتال بوصف انه عملا قد يليق بالعبد المحرر وبالأرباب . أن مفهوم العبد المحرر أوالذي يمكن أن يطلق عليه مفهوم العبد المقاتل  Military slave مفهوم محوري في فهم تشكيلات السلطة في الفونج. كذلك مفهوم الأرباب . والأرباب بدورهم من مصاف الرهائن البلاطية من أبناء الأمراء الإقليميين الذين كان السلاطين يزوجونهم محظياتهم الملكيات ليتجسسن على الأمراء ويأخذون الأبناء ليربوهم في البلاط السلطاني للتأكد من ولاء الأمراء حتى إذا كانوا من أبناء السلاطين أومن القبائل والسلالات الملكية.
وهذه الظاهرة من رواسب المجتمع المنحدرة إليه منذ عهد الأسرات وربما إذا أمعنا النظر نلاحظ أن هذه الظاهرة ما برحت تظهر إلى اليوم في تنويعات مشوقة ينبغي التعرض لها لتحليل التشكيلات السلطوية وفهم واحدة من أهم آلياتها[84]. ذلك أن ظاهرة العبد المقاتل وربيب البلاط ظاهرة متستر عليها على الرغم من أنها مما يحفل التاريخ الاجتماعي أكثر منه الرسمي به. فحيث يتستر التاريخ الرسمي للملوك والسلاطين على هذه التنويعات الفريدة فإنها تكاد تكون شائعة في كافة تشكيلات السلطة في المجتمعات السابقة على الطبقات ووريثاتها من المجتمعات السابقة على الرأسمالية الصناعية -الوطنية أوالخاصة.
على أن السلاطين والأمراء وهم من محتكري ارفع الرتب العسكرية وكذلك أمراءهم العسكريين لم يكن مما يضيرهم فيما يبدو وهم السادة، أن يتشاركوا ورقيقهم حرفة واحدة. والواقع أن تمازج جماعات السلطة في الفونج وفي المجتمعات السابقة على الفونج كانت غالبا تضم في صفوف الصفوة الملكية المدني والديني القيادي منها أفرادا من مصاف العبيد المحررين والأرباب والعبيد المقاتلين كواحدة من اشد آليات تسهيل عمليات الوراثة المتعسرة ابان الأزمات حيث كان العبد الملكي أوالمقاتل أوالربيب يقوم بما يسمى صناعة الملك kingmaker فيحكم باسم الأسرة المالكة وباسم الملك أومن اجل الاحتفاظ بالسلطة في البيت أوالقبيلة المليكة وأحيانا لحسابهم الخاص. وقد حفلت امبراطويات افريقية كمثل إمبراطورية مالي حتى القرن الثامن عشر بمثل تلك الظاهرات حيث كانت تدار بواسطة هؤلاء العبيد والمحظيات أيام الإمبراطور الذي غالبا ما يقود اعتماده على تلك الفئة لان يغدو محض رمز للإمبراطورية أكثر منه حاكما فعليا. ولعل في تنويعات معاصرة لهذه الظاهرة في المجتمعات السابقة على الرأسمالية الصناعية وحتى في المجتمعات الصناعية قياسات تحتاج الانتباه إليها وبخاصة في زمن الأزمات والتحولات التاريخية والانهيارات للإمبراطوريات الكبرى كمثل ما حدث إبان سقوط الإمبراطورية المصرية الاسراتية وعشيه نهاية اليونان وكذلك مع نهايات الإمبراطورية الرومانية والإسلامية وربما الأوربية الغربية المعاصرة[85]. .
ومن الامكانات المتوفرة لثقافة الحرب ،أن هذه المجتمعات ورثت معرفة صناعة الحديد ، فوق توفره، منذ العصر الذهبي لمملكة مروى ، زد على ذلك انه مما يعزز وظيفة الحرب، تجربة الفونج أنفسهم مع النوبة. حيث كان انتصار الفونج، لتقدمهم من ناحية، وضعف النوبة عسكريا واجتماعيا من ناحية أخرى. فالحرب إذاً، تأكدت وظيفتها الاجتماعية لهم عبر تجربة وممارسة, وقد توفرت لهم كل من أسبابها وامكاناتها. وسوف نرى أن الفونج، عدا كل ذلك لم ينهزموا أمام جيش إسماعيل وحملات محمد علي باشا والدفترى من بعده، عندما جاءهم فاتحا لانه لم يجد في سنار من الفرسان إلا نفرا قليلا" لأن الفونج كانوا قد فقدوا عزهم من زمان".
وكانت الحرب إلى كل ذلك، تأتي للمجتمع بالغنائم- كما أسلفنا، فوق أنها، وهذا هو المهم، كانت وسيلة للضبط فيما بين الدويلات الإقطاعية  انه حيث يسود اقتصاد الحرب والرق والقبلية والعصبية-وكلها من ملامح المجتمع الفونجي-تكون التنشئة أقرب إلى العنف والخشونة.
ذلك أن الفروسية تفترض قوة جسمانية ، وقدرة قتالية في الفرد، ومعرفة بفنون الكر والفر وقسوة في معاملة الأعداء وسرعة في الحركة، وهي أسلوب حياة كامل، إذ يتفرغ المحارب لإجادة أساليب القتال والتهيؤ المستمر للحرب ، لا يترك وقت فراغ وإذا توفرت فترات سلم، فتقضي بين التفاخر بالنصر بين المنتصرين. و قياسا يسود العمل الشاق، بين المهزومين و أسرى الحروب ،  فيغدو التغني بأشواق الحرية بين المهزومين والمسترقين اعتصاما من الهزمية بانتظار دورة الدوائر. وينعكس كل ذلك على مختلف أشكال التعبير وعلى مفردات اللغة وعلى أسلوب الحياة جميعا.
هذا و يتعين مع مثل ذلك الواقع الواقع والغارات القبلية وفق نمط الحياة الرعوية، واقتصاد الصيد في هذه المناطق ، تحديد مناطق نفوذ وحدود كل قبيلة ومرافقها ومساقيها ومساقط مياهها.  وتكون هذه الأقاليم ملكا مشاعا للقبيلة.  ويكون شيخها مالكا اسميا لها، يقوم عن أفراد القبيلة بفض منازعاتهم ، وعقد الاتفاقات والعهود نيابة عنهم ، وإبرام الأحلاف لمصلحتهم.  وهذه الأرض حرام على كل من عداهم وتلك هي سمات القيادة ووظائفها في هذا المجتمع. ومن هنا يمكن أن نخلص إلى أن الحياة القبلية تسودها الديمقراطية زيادة على الإحساس القوي بالحرية والانطلاق.وتكون هذه إحدى سمات الشخصية القبلية وإحدى غاياتها فتحدد قيمها الاجتماعية والجمالية جميعا.  ومن ثم يمكن أن نصل إلى استنتاج ما يمكن أن تكون عليه التربية القبلية من تناقض بين ما يسود الجماعة الداخلية in group من قيم وبين ما تمارسه هذه الجماعة إزاء الجماعات الخارجية out group في ظل التنشئة القبلية.
نشأة الطرق الصوفية الحديثة نسبيا:-
إن توفر أسباب الحرب وامكاناتها قد ساعد على توسع سلطة الفونج و تماسكها بوصفها حديثة نسبيا بالنظر الى تنويعاتها فى المجتمعات العربية  والاسلامية. وسوف نرى كيف أصبحت أداة لتفكك المجتمع، أكثر منها أداة تماسك. وقد تنبه ملوك الفونج إلى ذلك، والى حقيقة الانقسامات والحروب القبلية في المملكة فشجعوا الطرق الصوفية، كي ما تقضي على النعرات القبلية والتشيع بين الحكام. وهكذا أخذت ظاهرة جديدة -الصوفية- في الانتشار في مجتمع الفونج، تحل بالتدريج محل ظاهرة اجتماعية متسأوقة معها ومتزامنة ومتقاسمة الأهمية -الحرب- كوسيلة للتماسك الاجتماعي. إن ظاهرة نمو المدارس الصوفية تعتمد على معظم مقومات وازدهار الظاهرة القديمة بهدف تحييدها ، من ذلك :-
1- الحد من سيادة الروح القبلية، ومحاولة تذويبها في إطار نظام تعليمي يؤلف بين القبائل ويقلل من غلواء تعصبها.
2- انتشار نظام الرقيق الذي كان يساعد تجنيد القوات المحاربة مما راح قيض اتساع وازدهار الخلأوي والزوايا و وفر الخدمة لروادها وطلابها وعابري سبيلها.
3- اهتمام شيوخ القبائل بارتباط سيرهم وذكراهم بقيام الخلأوي والزوايا ، في موطنهم ، وبين عشيرتهم ، والمنافسة التي أفاد منها شيوخ الطرائق في توسيع نطاق سعيهم ومناشطهم.
لما كانت كل قبيلة ، ما برحت ترغب في التميز والاحتفاظ بخصائص وروابط يشترك فيها أفرادها وبطونها وأفخاذها، اتخذت كل قبيلة وليا ذا تقوى وصلاح ، وغالبا ما كان نسبه يتصل بآل البيت وبقريش. وكانت له كرامات حتى بعد مماته. أما أبان حياته فله مكانة رفيعة، وأولاده من بعده، لا تعلو عليها مكانة حتى أن ملوك سنار كانوا لا يرفضون للأولياء والعلماء طلبا. بل كان الولي يصلح ما بين الملك وكبار رعيته ، وتقام للولي قبة بعد موته ويكون له مزاره.
وهنا نلاحظ كيف تتأثر المراكز والأدوار، بظهور هذه الظاهرة الجديدة، فلا تعود تصدر عن واقع السلطة المدعومة بأجهزة القمع وبالسلاح ، أوبألوان السطوة الدنيوية ، أوالقيم القبلية المحض، وإنما تبدأ السلطة الروحية والجزاءات الشعائرية في إضفاء معنى جديد للوجاهة على المراكز، وتؤثر بالتدريج على الأدوار الاجتماعية للأفراد من قمة السلطة حتى فى مكان اخرا. وحيث جاءت الطرق الصوفية إلى المجتمع السوداني عن طريق الأولياء والصالحين، إذ يقال أن الشيخ إدريس بن محمد الأرباب قد أخذ الصوفية ، على الطريقة الجيلانية، عن الشيخ تاج الدين البهاري، الذي قدم إلى سنار من بغداد، وعنهما اشتهرت هذه الطريقة. وكانت أول الطرق الصوفية في السودان[86]. فإنها عملت على إقرار الأوضاع وتهدئتها.
ومن ذلك انه كان من المعروف أن الشيخ إدريس هذا هو مبعوث الملك عدلان بن أبيه لدى أولاد الشيخ العجيب، الذي كان قد خرج على طاعة الملك عدلان فأرسل له الأخير بعساكر كثيرة فقتل الشيخ عجيب-شيخ قرى ، وأرسل أولاده إلى دنقلا. وكان دور الشيخ إدريس أنه قد "حمل الأمان" إلى أبناء الشيخ عجيب، وإذ صدقوه بوصفه كامل الأمان الملكي ورجعوا معه إلى الملك، فأكرمهم الأخير وعين أحدهم على مشيخة قرى مكان أبيه. وكان ذلك في حوالي العقد الأول من القرن السابع عشر، فانه مما يلفت النظر إن الشيخ إدريس-أول من أدخل الصوفية وأول الأولياء بل لقّب بسلطان الأولياء- كان قد أكد فاعلية الدور الذي قام به، أي حل مشكلة بين الملك وأحد ولاته المهمين، ليغدو أول وأبرز الأولياء. انه مما يغري الملاحظة لهذه الواقعة أن يربط بين الوظيفية الاجتماعية لدور معين بالوظيفة الاجتماعية لدور آخر في مجتمع واحد. فالواقع أن ظاهرة العساكر الكثيرين، والمعركة التي تمخض عنها مقتل رأس الخارجين على سلطة الملك المركزية، لم يحل المشكلة الاجتماعية ، المترتبة على الموقف، وإنما الذي ساهم في حلها بل حلها بالفعل فهو الدور الذي قام به رجل من رجال الدين، اشتهر بالصلاح والتقوى. ولعل هذا من البدايات الأولى التي يمكن أن نعول عليها في تفسير نشوء وانتشار الظاهرة الجديدة ووظيفة هذه الظاهرة الاجتماعية التربوية كأداة للتماسك والترشيد. وسوف تكرس هذه الوظيفة إليها ظاهرة أخرى هي ظاهرة تنظيم المجتمع اقتصاديا وسياسيا على غرار الطرق الصوفية التي ستغدو إلى ذلك فضاءات حضارية مركزية ينتهي إليها كل من النسب الديني الروحي والمقر المكاني للتنظيم الأشد تماسكا و استقرار.
هل التربية الصوفية آلية تماسك؟
لعله من المناسب أن نعود فنقول أن انتشار الطرق الصوفية في مجتمع الفونج بينما ساعد على استقرار المنتجين على الاقل و اضعف عوامل بدونة المجتمع نسبيا-إلا انه- بالإضافة إلى عوامل أخرى- أدى إلى تفرق الأفراد في طرق يتبعون شيوخ طرائقهم كل على حدة . و كان التوجه السلمى لتنظيم الانتاج-فيما عدا التجارة-التي بقيت تحتاج حماية مسلحة بمليشيات من الحيران (جمع حوَّار) الصوفيين عبر طرق القوافل وما بين الحدود الإقليمية وحراسة الآبار بوصف أنها حكر على أصحابها ومن تقع على أراضيهم-قد أنتج المجتمع الصوفي. و أخذ الاخير يميل نحو التعامل السلمي و بالتالي اخذ يقضى رويدا على أهم آليات السلطة الفونجية وهي انتشار عسكرة المجتمع سعة السلطنة وأقاليمها ومحطات ضيافتها ومراكز تجميع واستلاب الخراج فيها.
و قد صرفت الحياة الصوفية والمجتمع الصوفي و الجماعات القبلية عن أساليب الحياة القديمة بقيمها ودوافعها، وقياسا فقد ترتب على انتشار الطرق الصوفية أضعاف الروح العسكرية لدى الفونج بالنتيجة. ولعل ذلك مرجعه-وفق التاريخ الرسمي للصوفيين وهم كتبته أومستكتبيه-دعوة الصوفية إلى حياة الهدوء والسلم ونشر روح التقشف والزهد والانصراف إلى حياة التعبد والتبحر في علوم الباطن والظاهر من أمور الدين ، والنشاط الدائر حول نظام الخلأوي -التي غدت كمثل الكمونات مكتفية اكتفاءا[87] ذاتيا. و كانت الاخيرة تتمأسس على التوفر على الزراعة وتربية الماشية أحيانا ، وعلى الموارد المتأتية من البر والهبات و العمل الخيري و الأوقاف السلطانية السنارية مما تبارى المحسنون من الأغنياء من آباء الحيران و ابناءهم مثلهم فى اهالته على الصوفيين. وكان السلاطين والأمراء الذين دالت دولتهم تباعا بسبب تلك الإعانات والمساعدات[88] يطلبون الثواب من وراء الحسنة الى الصوفيين مرة و يطمحون الى ان يتركهم الاخيرون و شأنهم.
ولما كان التعليم في الخلأوي نوعا من فعل الخير زيادة على أثره في الضبط الاجتماعي فقد تبارى التجار والأغنياء وأعيان الرعية في إظهار الكرم وإقامة الخلأوي والزوايا باعتبارها مؤسسات خيرية، وعامل استقرار في نفس الوقت. ومن ذلك:-
1- إن ملك الفونج أوقف على المسجد ، الذي بناه الشيخ المانجلك، في حلة ود عجيب أراضي كثيرة في شرق النيل الأزرق. و لقد بلغ الابتزاز الصوفي بأحد ملوك الفونج أن جأر قائلا: أعطوه -يعنى احد الصوفيين الذين اخذوا يحرضون الفلاحين والعبيد على عصيان الأمير ا لجائر إذ لم يعد كفيلا بإحقاق الحق ولا بضمان سعر عادل للذرة - اخذ الملك يجأر قائلا:" أعطوه ما أراد من مطاميرى -مخازن الغلال الأميرية- وأراضي ومياه لا أريد سوى شبرا ادفن فيه مخافة الله فيقال مات فلانا يتقي الله مغفور له لدى  شيخه" ".
وقد نشطت عمليه كتابة السير وتسجيل وحفظ الأنساب إذ أخذت كل جماعة وبطن وعشيرة وقبيلة تباهى بالنسب إلى العباس عم الرسول (صلى الله عليه وسلم). فقد أصبح كافة السودانيين مسلمين بل عرب من اشرف الأصول العربية.ومابرحت تلك الأنساب بنفس الأهمية لدى الأفراد والجماعات السودانية كوثائق انساب محفوظة بحق الانتماء المتوهم أكثر منه الحقيقي فلا يطعن احد فيها كما بقيت وثائق تمليك الأراضي السلطانية الفونجيه حتى الآن حجج حقوق حامليها بما كان لهم من سلاطين الفونج وأمرائه من أملاك في الأرض والمسيل.
2- كذلك كان ملوك الفونج يكرمون العلماء ويقدمون لهم العطايا. وكان الأولياء والفقهاء معفيين من الضرائب إكراما وتشجيعا على نشر العلم والثقافة. وكان الأعيان يتبركون بالحفأوة بهم وبتبارون إليها. من ذلك أن الشيخ المضوي العالم المشهور دخل عند الملك أونسه بن ناصر وكان عنده رجال الديوان مجتمعين، ففرق الديوان لأجله وقام إليه وعانقه وعاتبه وقال له " تقصد إلى أن تشيب حتى تأتيني ؟ قالوا ليك ما بيكرم العلماء؟"-عن الطبقات، الطبعة الأولى. وما يعنينا ملاحظته فورا هو أن تعاقب نشوء ظاهرة وانتشارها ثم ضمورها كان دالة على نشوء ونمو وفاعلية ظاهرة اجتماعية أخرى. ويتأكد ذلك بالنظر إلى ظاهرتي الحرب والصوفية في مجتمع واحد. ففيما كانت الأولى عامل إقرار للأوضاع داخليا وخارجيا في مرحلة، غدت عامل إقلاق واضطراب في مرحلة أخرى حتى نَمّتْ الجماعة آلية جديدة للحفاظ على تماسكها وكانت هذه الآلية -الميكانيزم- هي الصوفية.
الطرق الصوفية كظاهرة محورية في نظم التربية والنسق الاجتماعي:-
طوعت الطرق الصوفية، كظاهرة محورية في المجتمع، بقية النظم و الانساق فتكافلت في النسق المتجدد. من ذلك مظاهر الحياة القبلية وقيمها السلوكية والجمالية جميعا، كذلك النظام الاقتصادي الإقطاعي، ونظام الرق الذي تحول من تغذية المؤسسة العسكرية -الجيش- وصناعة الحرب ومناشطها، إلى دعامة من دعامات انتشار وازدهار الطرق الصوفية والأجزاء الثقافية المكونة لها. لقد كان الرقيق يخدمون الجيوش ويشتركون فيه وكانوا قوامه وموضوعه معا، وكان الرقيق يقومون على خدمة كبريات الخلأوي ومرة كانوا يؤلفون رأس مال توظفه الخلأوي نفسها عن طريق ثروة الشيخ التي تأتيه بالهبات، ومنها الرقيق، تارة أخرى، وهذا جدير بالملاحظة، وكان الشيخ وهو يعتق رقيقه، يساهم في تفتيت نظام تقليدي قديم، مما يشير إلى إرهاص ظاهرة متقدمة في المجتمع، وما لذلك من مؤثرات دالة على التغيير الاجتماعي.
هذا و لعل ما يهمنا فورا هو كيف تعمل نظم اجتماعية وظواهر، بهذا الوصف، على دعم وتماسك النسق الاجتماعية في مرحلة ثم تغدو في مرحلة أخرى عامل تفكك وظاهرة انحلال، إذ تضمر وظيفتها بظهور ظواهر أخرى أكثر إشباعا للحاجات الاجتماعية، وتثبت وظيفتها في النسق الاجتماعي ولدى الأفراد. كل ذلك بالنظر إلى البعد التاريخي-أي الحركة الديناميكية-للمجتمع بتأثير عوامل من داخله تخصه وأخرى من خارجه ضاغطة أوقاهرة أومستمدة. فقد رأينا حتى الآن أن المجتمع السوداني تبادلت الأهمية المحورية فيه ظاهرتان اجتماعيتان متمثلتان في نظام الدين والنظام القرابي، سواء كان الدين هو السحر أوالطوطمية أوالمسيحية أوالإسلام. وسواء كانت القرابة اسطوربة او طوطمية أوسلالية أوراجعة للاشتراك في ثقافة واحدة أوقبلية. فحيثما كانت النظم تصدر عن جماعات ثقافية أوسلالية أوقبلية، فقد تبادلت هذه الظواهر الوظيفية الاجتماعية، سالبة أوموجبة التأثير على التماسك الاجتماعي، وفي قلبه التنشئة الاجتماعية أوالتربية والتعليم ومؤسساته الترشيدية والعاملة على تكريس الضبط الاجتماعي.
وقد بقيت هذه الظواهر وظيفية اجتماعيا منذ النوبة حتى اليوم. فمن أبرز ظواهر المجتمع السوداني نظام الدين والأنظمة المتبادلة الاعتماد والتكافل معه، وهي القبلية -وصراعاتها وتحزباتها- ثم الطائفية -وهي رافد عن القبيلة تاريخيا عبر عهد طويل من الطرق الصوفية- وتسند هذه الظواهر في فاعليتها، سمة ثقافية شبه ملازمة، هي الروح والتربية العسكرية. فهل احلت التركية الأولى حقا بدائل للتربية الفونجية الصوفية؟ ام راكمت على الموجودات الثقافية التنظيمية؟
المبحث الثانى : هل الطرق الصوفية تنويع على التشكيلات السابقة على الطبقات؟ : تعريفات منهجية اجرائية Definitions Operational
مقدمة: بدأوة السودان المتأصلة ولا بأس:
السودان مجتمع بدوى رعوى بالدرجة الأولى و تؤلف الثروة الحيوانية-قبل ظهور  النفط و خلافه-اكبر مكونات الناتج المحلى الاجمالى Gross Domestic Product(GDP) و يعود تصدير اللحوم و الجلود و الصمغ العربى بعد ان بار القطن فى كل مكان للسودان بمعظم دخله من العملات الصعبة فيعنى أن المنتجات الحيوانية تسجل أعلى اسهام فى الناتج القومى الاجمالى Gross National Product(GNP). و بقدر ما يقأوم المرء(أة) العكس الا ان غواية افتراض ان نمط الانتاج السودانى ما ينفك يتمأسس فى اهم مكوناته بعد –و حتى ظهور النفط على نحو اقتصادى و ما اذا كان الله تعالى سوف يتوقى السودان برحمته من القراصنة و شذاذ الافاق المعولمين و المحليين-على الانتاج الرعوى و الريفى فى افضل احوال ذلك النمط و اكثر حالاته عافية فرضية لا تقأوم. و ليس ثمة ما يغيير من هذا الواقع شيئا. فاين البأس فى ان يستقر شرط بقاء فنمو القطاعين الزراعى و الرعوى حيث تهفو قلوب اكثر من خمسى البشرية الى العودة الى هناء توفر الخبر و الكسرة و تتعلق ارواحم بحلم الركون الى امان دورات الحياة و الانتاج الموسمية و ضمان تحقق التوقعات الجمعية المتواضعة و القابلة للتحقق؟ ذلك انه فيما خلا بريطانيا اشد المجتمعات الأوربية الغربية تصنيعا لويلها و خسرانها-فان القطاع الزراعى و الرعوى يؤلفان اكبر مخدم و يسهمان  بصورة مؤثرة فى المجتمعات المصنعة-من فرنسا و ايطاليا و اسبانيا بل حتى امريكا على الخصوص. ذلك ان الاخيرة تثابر على العمل بشعار انه "ان تمتلك القنبلة الغذاية ان هو أخطرا من امتلاك القنبلة النووية" ومن ثم ترتهن خصومها و كانت قد ارتهنت خصومها من المنظومة الاشتراكية-الاتحاد السوفتى سابقا على الخصوص الى الدول الاقريقية المفقرة. و تتعين امريكا على اعتقال نمو المجتمعات الافريقية جنوب الصحراء على الخصوص بما يسمى العون الغذائى على طريقة الامريكى القبيح. و قياسا ما تنفك أمريكا و بريطانيا على سربلة الدول المفقرة فى مشروع واسع لخصخصة كل شئ من الماء الى النفط و الماس و البشر-الايدى العاملة المسترخصة-ببرنامج يشارف مشروع مارشال فى فندق جلان ايجلز باسكتلندا منتصف يوليو 2005.
و رجوعا الى السودان فقد الفت البادية و الصحراء و منتجاتهما و اسلوب حياتهما اشد قسمات السودان الثفافية خصوصية و لا بأس بل الخير كل الخير فى ذلك. و لا مفر من هذا الواقع و ليس ثمة ما يجعل السودانى فى كل مكان مستقر حضرى متمدين-أى من سكان المدن على نحو خالص مخلص مثل سكان المدن الدول العربية و الاسلامية مما قد افصله ايجازا فى مكان اخر. المهم فورا لماذا الاستعرار؟ و لمصلحة من التبرؤ من تلك القسمات العظيمة الا بقدر ما يستدعى مثل ذلك التبرؤ تصورات خاطئة من شأنها اصابة تحليل الواقع السودانى بانيما الفكر و التنظيم؟ هذا و ازعم ان استعلاء سكان المدن على الريف و استعلاء الاثنين على البادية أوالعرب الاعراب البقارة الابالة و غيرهم ممن لا يجرؤ معظمنا على النطق باسمه لم يورث السودان سوى ما يشارف فصام الشخصية. فمرة بقى المثقف السودانى ليبرالى أوماركسيولوجى يستعرر من الطبيعة لقبلية للتكوين الاجتماعى الاقتصادى السودانى و يكاد مرة ثانية ينكر تمأسس التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية و نمط الانتاج الذى تصدر عنه الاخيرة.
و يتباهى المثقف السودانى الشمالى على الخصوص من ناحية ثالثة بقبيلته و يتخايل بقبليته و قد تعينت تلك القبلية الشمالية على اضمار الذراية بغيرها من القبائل غير الشمالية ناهيك عمن لا قبيلة له. و قد قيض ذلك التناقض كميار كل من المحنة النظرية و التنظيمية التى منى بها فكر التغيير و الثورة مرة و مرة اخرى انتج ذلك التناقض مناخ العدأواة الاثنية و العرقية. و ما يبرح التناقض المذكور يهدد السودان بالخطر و قد كاد الشر كل الشر ان يحدث و ربما حدث الشر كل الشر ثمنا لذلك التناقض و قد عبر عن نفسه فى اسوأ حالاته فى التعالى و الصلافة بمغبة ضعف الحس التاريخى. المهم و مهما كان من امر الحضر و المدن فان شيئا لا يمكن ان يبتعد بالحضر و المدن بما فى ذلك العاصمة الوطنية و عواصم المديريات عن الريف و البادية. فقد بقيت خصائص الثلاث-الحضر و الريف و البادية-متلازمة متمازجة غير قابلة للفصل و لو بالعلاقات القبلية و العشيرية و الاسر الممتدة من المدينة للريف. و قد تفاقم عدم قابلية الحضر و الريف للفصل أوالتمايز بقدر ما دفعت السياسات "التنموية" التخريبية الناس للهجرة العنيفة من كل مكان الى كل مكان من الريف و البادية الى المدينة. فلم تعنى الهجرة المذكورة حراكا اجتماعيا فالمفرد صادعا الى مكانة أومركز اجتماعى اقتصادى افضل أواعلى الى ما ندر كما لا تمدين To Urbanise تلك النقلة الفيزيقية الفرد.
و ازعم ان هجرة العمل الماهر و نصف الماهر الى اسواق العمل الخليجى و السعودية و ربما حتى الى الغرب كان حريا بان يخلخل الشرائح المتقدمة تنظيميا فى المجتمع الى اصابة معظم اعضاء جماعات العمل المهاهر و غير الماهر بفيروس التطيير من العمل المهنى جراء مغبة عدم تجديد عقودهم الى غواية بعضهم بالتصويت لاحزاب يمين الوسط أو اليمين الجديد المتطرف.
 
رسم بيانى تقريبى لاتجاهات هجرة العمالة الى سوق العمل الخليجي:
 
 
 
 
 
 
 
 
و بالمقابل فقد كان حاصل جمع كل من مغبة تناقص الاهتمام بالفطاع الزراعى و الرعوى الى التغييرات الدرامية فى البيئة و المناخ من التصحر و الجفاف منذ سبيعنات القرن العشرين على الاقل و تباعا مسئول عن تخلخل الارياف و البوادى و ترييف المدن الخ.
المهم وحتى عندما ينزح الفرد من الريف أوالبادية الى المدينة بالهجرة العنيفة أوبخاطرة فقد لا يزيد تنفله الفيزيقى عن نقلة كمية و ليست نوعية فما تنفك تلك النقلة  ترييف المدينة من ناحية. و من ناحية اخرى  تبقى تلك النقلة بهذا الوصف على شرط  عجز الفرد عن الفطام من العلاقات الريفية البدوية القبلية و الصوفية. و ليس ثمة مدن دول فى السودان كما فى بعض اجزاء الشرق الأوسط مثلما فى فلسطين و الشام و بلاد الرافدين و ايران و ربما اليمن. و قد بقيت طبيعة المدن الدول فى الجزيرة العربية و وادى النيل و شمال افريقيا اقرب الى القرى حتى سميت المدينة ام القرى. و كانت تلك الكيانات "الحضرية" قد حقنت و بقيت تحقن بكل من البعد البدوى الرعوى بالهجرات المتصلة من جنوب الجزيرة و ما وراءها وصولا الى الاندلس. فقد كان أهل ربط البيازين أوهم بدو سيارة يعيشون على مشارف غرناطة و قرطبة و غيرها و ما ينفكون يدخلونها و يقيمون ضيوفا مؤقتين أودائمين فيها. فهم "سيارة و بادية" أى اعراب لا يستقرون اذ يميلون الى "التجول فى نواحى مملكة غرناطة فى تجارة و زراعة و مصالح مختلفة".
و كانت مدن وادى النيل الاسراتى مدنا بلاطية ملكية أواميرية أوثيولوجية تتصل بالكهنة و المعابد المركزية و المحلية. و قياسا كانت مدن السودان القديم مراكز حضرية لها طابع اميرى ملكى أومدن الكهنة تؤلف جزرا-أوغيتوا أوديم-لا يقربه الفلاحون أوالعبيد المعتقين القائمين على قوات الحرس البلاطى, و كانت المدن الوادى نيلية متراتبة طبقيا و كان الريف يتاخمها دون ان يخالطها. و فى نفس الوقت كانت الارض الزراعية و المناحل و صوامع الغلال و المطامير و نظار الحصاد و الضرائب الخ محددة بحدود قدسية تعين تلك المجتمعات على اطعام الرعية كشرط لدفع الرعية للخراج للحاكم و هكذا. فقد كان ثمة عقد اجتماعى غير مكتوب الا انه غير قابل للمسأومة. و بالمقابل تتسع المراكز الحضرية السودانية المعاصرة افقيا فتبتلع اراض زراعية و مراعى و مسايل الا ان تلك المدن لا تتمأسس على اكثر من طراز المبانى المأخوذة من اشباه خليجية جراء عودة العمل السودانى المهاجر من دول النفظ ابان ثمانينات و تسعينات القرن العشرين و تباعا. و غالبا ما تنشأ تلك المبانى الشاهقة أو-و الرائعة و المروعة فى المدن الكبرى ليقع معظمها غالبا على جابنى شارع الاسفلت الرئيسى و الوحيد فتؤلف "احياء راقية" فى مدن لا تزيد على مدن الكأوبوى.
و قد بنيت المدن فى السودان منذ ما بعد الفونج لتقوم بادوار ادارية أومراكز تجميع المحاصيل أو- انتاج قطع  الغيار الخ [89]. و قد انشأت اخرى على مفترق طرق نقل المحاصيل الى الموانئ البحرية و الارضية و طرق لقوافل شمالا و تجارة الجمال و الجلود و ريش النعام و العاج و غيرها من منتجات  الصحراء و عند مفترق طرق نقل قوات الامن و الجيش. و حيث كانت مدن الشمال قد اتصلت بالتخطيط الحضرى الوادى نيلى القديم فقد  اتصل الميل نحو المدن الوظيفية أوذات الوظيفة الواحدة فى شرق السودان مثلا ببناء بورت سودان مكان سواكن التى تركت للتهأوى بالاهمال و مدن الغرب حيث بنيت مدن متراتبة طبقيا مثلها مثل مدن أوربا النمط العبودى السحيق. فجوبا مثلا كانت ابان الاستعمار عبارة عن شارع طويل يصطف من الملكية-احياء الاهالى الجنوبيين و تشارف جبل الرجاف الى المطار-فمستوطنات الانجليز ثم السودانيين الشماليين القائمين على الصفوف الثانوية للادارة و هم "الموندوكورو". ويؤلف الاخيرون عازل طبقى بين الانجليز و الاهالى الاصليين للجنوب. ويصل الشارع المار من حى الملكية عبورا بمستوطنات الانجليز الفارهة و حى الموندوكورو الى السوق و الميناء فينتهى الشارع عند حافة مرسى البواخر الآتية من الخرطوم تحمل البريد و الركاب و المبشرين و الزوار من الاداريين و المفتشين البريطانيين فى المناسبات و من اجل نكريس الضبط و الربط بين الاهالى و موظفى الخدمة المدنية السودانيين الشماليين والشرطة أوما يسمى بالبوليس الحربى و التجار الشماليين. و رغم ان التجار الشماليين أى "الجلابة" يلون فى المرتبة المندوكورو الا ان الجلابة قد يسكنون فيما بين الملكية و حلة المندوكورو و ربما فيما وراء كلاهما. فالجلابة اقوام مثل أهل البيازين يجوبون المدن ويتنقلون على طول النهر يمتطون السفن العابرة و الوافدة و ربما استخدموا الاطواف و المراكب البدائية. 
و حيث تبنى منازل الفئات المذكورة بالطوب الاحمر و الخ تبنى حلة الجنوبيين المتاخمة بالمواد لتقليدية الموجودة. و ما يبرح هذا "التخطيط" يفرض نفسه فى الاحياء السكنية الجديدة فى الخرطوم عموم. و ما تنفك المبانى الخلفية المتاخمة للصفوف الأولى للمبانى الفاخرة تعبر عن الطرز الريفية بمواد البناء التقليدى صفوفا وراء صفي المبانى المتجهة نحو أوالمتاخمة للشارع الرئيسى المسفلت الوحيد. فما هى علاقة الحداثة بظواهر ليست عنيدة و حسب و انما لا تبشر بمدينة تذكر أوتنسى بل ترييف المدينة؟ ففى افضل احوالها قد لا تزيد تلك الظواهر العنيدة عن التنويع على نفسها طويلا و ربما نكص بعضها. 
هل يتعالق مفهومى البدو و القوى الحديثة؟
فيما خرجت الحداثة من عباءة البرجوازية الصناعية و المدينة Urbanisation فهل خرجت حداثوية السودان من عباءة البدأوة و ما تبرح تفعل حقا؟ هل البدأوة نقيض الحداثة بالوصف اعلاه فلا يلتقيان؟ ازعم ان السودان الحديث كان مثله كمثل نظيرة البعيد فى القدم يملك دائما القدرة على استيعاب الاجزاء الثقافية فاعادة صياغتها فى قسمات تدل عليه و تخصه رغم و ربما بسبب التعددية الثقافية العرقية. و ان تراتبات مراحل تطور المجتمع و السرديات التاريخية لكل جماعة من الجماعات المؤلفة لذلك الموزاييك العظيم انتجت مجتمعا شديد التركيب و التسامح معا بقى مع ذلك يصدر عن  البدو و شرائح سلطة قابلة للتأقلم مع الغزو الموالى من قبل جماعات اعرابية بدوية فى كل مرة و استيعابها و تشكيلها على مر التاريخ. و فيما يلى بعض التعريفات المحورية حتى نتفق على لغة الجدل تباعا.
1- البدو والحروب و الفائض:
يفترض بعض علماء الآثار انه حيث ينشأ مجتمع يقوم فيه كل فرد من كافة الفئات السكانية بدور في بناء واستمرار المجتمع-الحضر-الحضارة-مجتمعين ينبغي أن يقوم فوق هؤلاء جميعا فرد أوأفراد قياديين يحددون من يقوم بماذا وأين؟ ففي ذات حين كان الناس يعيشون غالبا في تجمعات محلية دائمة أومؤقتة وفي قرى دائمة أومؤقتة بدورها. فقد قررت تلك الجماعات والقرى أودفعت في لحظة ما للتجمع في مكان واحد ليخلقوا مدنا كبرى فراح يخرج من بينهم قادة وقد ألهموا-أو/و أدركوا أن فكرة القيام بتشييد قيم مشتركة نسبيا ونصب وشواهد حجرية فكرة قد تجمع الناس على نحو اشد تضامنا. فمتى عبر الناس ذلك "الخط" بين الحياة في جماعات وقرى متفرقة والحياة في مدن مستقرة ودائمة نسبيا؟ وهل كان تنظيم الماء والزراعة أم الخوف من غريم خارجي ومن الحرب هو السبب في عبور الناس ذلك الخط بين حياة الجماعات الصغيرة والقرى المتفرقة وبين نشوء المدن المستقرة وبناء الشواهد الحجرية والمعابد والقيم المشتركة؟  يقول البعض أنها الحروب  فقد كانت الحروب حرية بدفع الشعوب للتساكن مجتمعين  في مكان واحد في مواجهة عدو خارجي مشترك يحوم حول مستقراتهم ويتربص بهم الدوائر فنشأت القرى و البلدات و  الحضر كوظيفة للخوف من عدو خارجي كالبدو فقامت الحضارات في مواجهة البدو سوى أن البدو يسيطروا في مرحلة من مراحل تلك الحضارات عليها ابتداء بالدولة المركزية الخراجية الاسراتية السابقة على الطبقات. ويسقط هؤلاء العلماء مفهومات شبه حديثة وأخرى متمركزة أوربيا-غربيا-تصدر عن تجارب أوربية غربية انجلو امريكية تحديدا-تسودها غالبا كل من ندرة الأرض والعمل الحي Living labour. و يفترض بعض العلماء أن الحروب كانت حرية بان تنتشر بين الجماعات المتجأورة سوى أنهم يصرون على أن أهم أوأول الفئات السكانية المعروفة بصورة اشد دقة من غيرها والمتراتبة على نحو شديد التنظيم كانت فئة الجنرالات والجنود من المقاتلين المتفرغين والمحاربين الموسميين. ولا يعرف هؤلاء العلماء ولا يشيرون إلى أصل هؤلاء الجنرالات الاجتماعي التاريخي. وأجادل أن معظم العسكريين كانوا تاريخيا من أصول بدوية أوكانوا قد بدونوا بالتجنيد بحيث انفصلوا عن أصولهم الاثنية وربما ادعوا أصولا فائقة على جماعاتهم الأولى أو/و أعراق ملكية.
 ويؤكد هذه الفرضية أن هؤلاء الجنرالات والجنود كانوا من أوائل واهم من "نشأ" مرتقيا صاعدا متفردا من بين الفئات السكانية فغدا القادة الجدد جنرالات و جنود مقاتلين يدافعون عن الجماعات الحضرية المستقرة في المدن بوصف ان الاخيرة ظاهرة جديدة. فان كانت قدرات الجنرالات والجنود القتالية قد رفعتهم فى المقياس المدرج In a scale of gradation  الى مصاف حماة المجتمعات الحضرية فقد كان منطقيا أن تغدو تلك الفئة قائدة لتلك المجتمعات وحاميتهما في مواجهة عدو خارجي ماثل عند حواف الحضر يتربص بها الدوائر أو/و مفبرك. وإذ تفترض تلك الفكرة أن المدن لم تكن سوى استجابة لمواجهة ذلك العدو إلا أن أولى وأقدم المدن الأم التي تم التنقيب عنها lفى العالم الجديد بعد مئات السنين من "اكتشاف" الاخير-وكان ن الغزاة الأسبان قد دمروامعظمها عن بكرة أبيه وبنوا مدنا استعمارية فوقه وبحجارته وذهبه وفضته و ثرواته فيما طمرت الرمال على مر السنين ما تبقى من آثاره فاندثرت أوكادت-تشير إلى أن فرضية أن المدن نشأت عن الخوف و استجابة للحاحة الى مواجهة عدو خارجي يتربص بالمجتمعات الدوائر لا تكاد تستقيم على أقدام تخصها. فقد كان قادة تلك المجتمعات من المهندسين والمعماريين والمنظمين والحرفيين أكثر مما هم من الجنرالات والمقاتلين. فهل كان اول انقلاب عسكري قد تمثل ما ان استقرت المدن الحضرية البازغة؟ و هل قيضت الحياة الحضرية للعسكر افتعال العدو الماثل عند حواف بلدات و مدن المستقرين تسويغا لسلطتهم من بعد و تباعا و اتصال مثلجة تلك السلطة بغاية تكريس سلطتهم على مر السنين؟
المدن العبادية و البدائل الناجرة للتنويعات الاقتصادية الاجتماعية المعاصرة:
كانت التجمعات الحضرية حرية بان تتمحور حول قيادات وعبادات وآلهة جماعية مؤلفة من حاصل جمع العبادات والآلهة المحلية أو/و من آلهة مركزية أحلت مكان الآلهة المحلية تمثلا لسلطة مركزية فوق كافة السلطات المحلية. ويقوم أفراد على إدارة شئون الأخيرة ممثلين لولاء يفوق الولاءات المحلية كمثل ما راح القبليون يفعلون-أوافترض أنهم كانوا حريون بان يفعلوا مع قيام الدول القومية المركزية الحديثة. ذلك أن الدولة المركزية ما كانت لتملك القيام بما كانت حرية بان تعد الأفراد والجماعات المحلية السابقة به و قد تحولت بولائها أوبجزء منه إلى السلطة المركزية الجديدة القائمة في الحواضر الجديدة مقابل تنظيم حياتهم أو/و الدفاع عنهم إزاء العدو الماثل عند حواف الحضر يتربص بها الدوائر. وبمرور الوقت غدت الآلهة والقادة الكهنة المركزيين أصحاب حق لا ينازع في ذلك الولاء وما يتمثل فيه ويفترض به ويترتب عليه من التزامات للآلهة والقادة والكهنة. فقد كانت المعادلة في الواقع أوقفت باكرا فوق رأسها.   
ذلك أن الجماعات المحلية كانت ملزمة-بوكالة قادة تلك الجماعات المحلية وتمثلات آلهتهم المحلية-بتقديم فائض عمل تلك الجماعات وإنتاجها كي يقوم قادتهم على تبني العمل من اجل والإشراف على بناء الشواهد الحجرية وتقديم الاضاحى للآلهة وتقديم الهدايا الجبرية والتوفيقية للسلطة القائمة عبيدا للجيش القائم في العاصمة وسلعا استهلاكية واكزوتية. ولكن لماذا تقوم مدن وحضارات في مكان دون آخر؟  ربما كان لدواعي مواجهة العدو الخارجي الماثل اعتبارات يتعين معها تحديد مكان مدينة أومجتمع أوحضارة.  سوى أن ثمة فرضية أخرى تتصل بتنويعة أخرى من قيام المجتمعات والمدن والحضارات تلك التي تتمحور حول الماء. وأجادل أن تلك الفضاءات الحضرية وما ترتب على نشوء المزيد منها من حضارات قيمية حجرية ربما كان في بداياتها مدنا اتصل نشوءها بالرغبة في ترويض الطبيعة فالتحكم فيها بصورة أوسع وأدق مع تراكم الخبرة والمعرفة ومواجهة تكرار عدم قابلية الطبيعة للتنبؤ وعدم انتظام وتذبذب المطر وضلال ومفاجآت تصرف الأنهر والكوارث الطبيعية مما يلاحظ في مجتمعات الماء الاسراتية الوادي نيلية والبابلية والآشورية-فتدريب و إدارة التحكم في المياه وقياس مناسيب الأنهر وتعيين الأفراد والجماعات في إدارة المياه وتخصيص المحاصيل وتجنيد الأيدي العاملة.
وازعم أن الزعامة قد لا تعقد منذ البدء للجنرالات والجنود فلا يأتي هؤلاء في المرحلة الأولى أوفي المرتبة الثانية للقيادة وإنما تأتي الزعامة من بين المنظمين والمهندسين والحرفيين و"المفكرين"-الكهنة" والمرشدين متراتبين ومتعأونين ومتحدين حول أهم وظائف المجتمع وتيسير عمليات استلاب الفائض وتقاسمه وبناء الشواهد الحجرية والمعابد والنصب الشعائرية. ويؤلف الفائض دم شرايين المجتمع وتراتباته إلا أن الشواهد الحجرية والمعابد والنصب الشعائرية وأضرحة الآلهة تبقى محور لحياة غير مادية تتمأسس عليها الحياة المادية. فالأولى بناء فوقي قانوني قضائي أكثر منه عبادي إذ تصدر علاقات الملكية والإنتاج عن ذلك البناء وتتمحور حوله. فلا ينتج الناس من اجل الكفاف تحت إشراف منظمي الماء ومن يقررون ماذا يزرع وأين وإنما يقدم المنتجون قرابين وأضاحي للآلهة وخراجا لحكام لا ينظمون الماء ولا يقررون ماذا يزرع وأين. وينظم اؤلئك الحكام والكهنة حياة الناس عبر البناء الفوقي باحتكار تمثيل كل من الأسلاف و الآلهة. وإذ يحتكر الحكام تمثيل الآلهة يضمنون هطول المطر ووفاء النهر في مواسمه والحصاد الوفير وسعر عادل للذرة أوالقمح أو الكسافا في السوق فيما يقومون على "تجنيد العمل" من اجل المنشآت الهيدرولوجية الكبرى ويوظفون جامعي الإتأوات وضرائب وعائدات التجارة المحلية.
ويتوقع الحكام والكهنة فوق كل ذلك اتصال تجنيد الايدى العاملة فوق الاقطاعات الملكية وأراضى الكهنة والأمراء من الفلاحين وجامعي العسل الخ. ويتوفر المحكومون بوكالة حكامهم المحليين ترتيبا على تزويد الحكام المركزين بقوات حراسة الآبار على طرق قوافل التجارة "العالمية": أي عابرة الحدود القبلية والإقليمية ومليشيات الحراسة وجند الجيش القائم في العاصمة وفي حماية المدن والمجتمع ضد جيرانه وبخاصة في مواجهة العدو الماثل عند الحدود. و يضمن تسيير المجتمع بهذا الوصف التبادل الذي يدعم المنتج المحلى بسلع لا ينتجها وسلعا عبادية  للآلهة و سلطة تفاخرية للحكام الذين يتحولون إلى أنصاف آلهة بدورهم فالمقدرة سمحة ودليل على معزة الله لهم. ذلك أن جاه الحكام هو جاه المجتمع وعزتهم هي عزة المجتمع على غرار عزة القبيلة وشيخ القبيلة وهكذا تتحرك في حلقة شبه كاملة. سوى انه ورغم أن الصوفيين تعينوا على الاستيلاء على سلطة دولة سنار الفونجية تباعا إلا انه من المفيد تذكر أن الدولة الخراجية المركزية كانت لها منذ عهد الأسر النيلية بدائل دائما من شرائح سلطة الممالك الصغيرة والأمارات الداخلية. وكان تنافس الأخيرين فيما بينهم يدفع الفرعون أوالسلطان إلى التعين على العدالة وعلى مواجهة مسئولية ضمنية تجاه الأفراد والجماعات لتشاركه وإياهم أسلاف وآلهة وعبادات بوصفه ممثلهم لدى الأخيرة.
و كان الحاكم الخراجى المركزي يخضع بمعنى من المعاني للمحاسبة والمراجعة كما كان مطالبا بحماية الأفراد والجماعات من الخصوم والأعداء المتربصين عند حواف السلطنة. فنادرا ما عرفت تلك الممالك استخدام العنف السلطوي ضد الناس العاديين الا فى فترات الجذر مما كانت يعبر عنه سلطة استثنائية جئ بها للابقاء على سلطة اهل بيت الفرعون السلطان الملك. و قد يلخص هذا المنوال ما قد يسمى نمط انتاج تقليدي أوشرقي أو
سمه ما شئت-و ينتج هذا المنوال قيادات وأنماط سلوك الخ تقليدية تخصه و تدل عليه.
هل الصوفية فائض انتاج رواسب سحيقة؟
بقيت رواسب السلطة الحضرية المذكورة عنيدة و قد استقرت فى مسام المجتمع السودانى حتى نهاية الاسرات الحديثة و انهيار دولتى علوة و المقرة شمال الخرطوم الحديثة. بل بقيت تلك الرواسب فى معظم المدن الفونجية حتى حلول الصوفيين الذين ما انفكوا كما رأينا فى مكان اخر أن انشأؤوا بدورهم تنويعات على المدن السابقة فى قرى و خلأوى تناثرت على النيل و فى الجزيرة- ولاية النيل الازرق حاليا- و على حواف ما بات الخرطوم و أمدرمان من بعد. و قد تعينت المهدية مرة على محاربة الطرق الصوفية و الخلأوى و لم تبق للفقيه اكثر من اعفاءه من الخروج فى الجهاد مقابل تدريس راتب المهدى فعفى زمان الاهمال و التعقب على اهم قرى الصوفيين و الخلأوى مؤقتا. و لم ينفك الحكم الثنائى بدوره ان راح يجتاح الاخيرة أويخلق نسخا شائهة على "الأصل" أو-و ما شارف تنويعة واحدة من الموجودات السابقة مع تثبيت نماذج سلطوية تقليدية محجمة بالقدر الكافى لتطويعها. فقد كان الاستعمار حريا بان يتطير من:
-مثول الخلأوى بوصفها مجتمعات بديلة.
-تعبير علاقات الملكية و الانتاج فى مجتمع الخلأوى عن ملكية خاصة خارج الملكية العامة لوسائل الإنتاج من الأرض والماء والعمل الحي و قد ارتهنت بملكية الدولة لتلك الوسائل.
و من المفيد تذكر ان ملكية الدولة-بخاصة الدولة الاستعمارية تراكم خارج المحتمع لحساب مجتمع اخر على غرار التجار و الاعراب الاستثنائيين المذكورين اعلاه-ليست ملكية الدولة لوسائل الانتاج استعماريا كمثل ملكية قطاع عام يخص القوم أوالجماعة بالوصف الاشتراكى. ففارق بين ملكية الدولة و الملكية العامة لوسائل الانتاج تحت الاشراف الجمعى و بمحصلة التمتع الجمعى من حاصل جمع تلك الوسائل أى اعادة التوزيع الاشتراكية. بل العكس صحيح. فقد كانت الدولة الاستعمارية تخلق بالوصف اعلاه اقليات ثرية ترتهن بتلك الدولة و بمصالحها و أغلبيات مفقرة و قد ارتهنت الاخيرة بدورها بالاقليات المذكورة بكل من الادعات السلفية و العبادات و الولاءات الممثلجة.
و كانت الدولة الاستعمارية تتعين على خلق ما يسمى بالطبقات المتوسطة أوما يشارفها تمهيدا لنشوء تلك الاقليات أو-و تستدعى شرط احياء جماعات المصالح التقليدية تيسيرا لعلميات وراثة السمسرة فى استلاب الفائض لحساب مصالح الاستعمار و خصما على مصالح اغلبيات المتنتجين للفائض. فكأن الدولة الاستعمارية تنويعة باكرة على الدولة ما بعد القومية و علاقتها بالسوق و بالمراكمة ما بعد الرأسمالية لحساب اقليات ثرية محلية و مكوننة-مؤمركة و اغلبيات المفقرين حتى الموت. و قياسا فان كانت الدولة المركزية الخراجية تدعي ملكية الأرض وما عليها من العمل الحي والمرعى والمسيل باسم الآلهة والأسلاف والقرابات والله تعالى فيما بعد الا ان الدولة المركزية لم تكن  تحتكر وسائل الإنتاج بهذا الوصف تماما. فلقد كانت الحيازة والمساطحة وغيرها من تنويعات الملكية المشاعية والفردية مما قد أتعرض له في مكان آخر تقيد احتكار الدولة المركزية لملكية وسائل الانتاج قاطبة كالارض و الماء و غيرها.
المهم فسوى انه وأن بقيت علاقات الملكية في مجتمع الخلوة تشارف ملكية مشاعية بين الشيخ والحيران-التلاميذ- وخدام و عبيد مجتمع الخلوة إلا أن الخلأوى الفت-بالأوقاف السلطانية السنارية-تنويعة لما يشارف الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بهذا الوصف.و بالمقابل  فقد يسرت السياسات الاستعمارية إزاء الخلأوى والقبائل:
1-ضرب بديل بآخر دون تغيير يذكر أوينسى في طبيعة الدولة الخراجية المركزية التي لم تزد الإدارة الإنجليزية عن انتعال أحذيتها Stepped into its shoes كما يقول الإنجليز.
2-ادعت حكومة السودان أنها حكومة مسلمة تحكم شعوبا مسلمة تمثل اكبر امة إسلامية تمتد من شبه القارة الهندية-قبل التقسيم-حتى أطراف الولايات العثمانية الشرقية سابقا.
3- أن تمظهر الأديان كمصدر سلطة وثروة عبر التاريخ دفع الإنجليز لاستدعاء مفاهيم المسيحية الغربية باكرا. وكانت البرجوازية الصناعية الفيكتورية قد استدعت المسيحية الغربية فراح الإنجليز يصدرون في امتدادات البرجوازية الصناعية المذكورة عن احتكار السلطة والثورة باسم المجتمع الأم أكثر مما كانوا يستلبونه لأنفسهم. فقد أعاد أعضاء حكومة السودان إنتاج السلطة باسم الأسلاف والآلهة في عبادة الإمبراطورية. 
4 –إن وراثة الرأسمالية-بوصفها عقيدة تشارف الأصولية أحيانا-احتكار السلطة و الثروة من  الكنيسة الغربية لم يكن يبعد عن توظيف حق الأخيرة في المنح والمنع. قد تعينت حكومة السودان على إعادة توزيع الأدوار بوصفها وكيلة الآلهة في إيقاع العقاب والثواب. وقد قيضت لها تلك الوكالة ضمان المتعأونين وتطويع المشكوك فيهم واغوائهم و تقاسم ولو فتات سلطة وثروة تتعين على التفضل بها حكومة السودان خصما على المعارضين والعصاة.
5-علق توزيع الأدوار بهذا الوصف، خصما على إعادة التوزيع بين المنتجين، الصراع الاجتماعي الاقتصادي السياسي في سمأوات جماعات تدعى تمثيل الناس.
6- كانت حكومة السودان عزفت عن إعادة توزيع السلطة والثروة إلا ما خلا بين تلك الجماعات في المقياس المدرج فقد كانت دولة الاستقلال-وقد تألفت في معظم وأهم "تطوراتها" اللاحقة من تلك الجماعات- حرية بان تمتثل لأرباب نعمتها من ناحية ولا تكترث من ناحية أخري بحماية الناس العاديين من المنتجين أحرار وعبيد أو أرقاء من المخاطر الخارجية
7- توظيف السلطة والثورة للعصف بالخصوم وتكريس إقصاءهم بعيدا عن مشارف السلطة والثروة.   
ذلك أن المنوال الشرقي ينتج قيادات تقليدية وأنماط سلوك ومفاهيم تقليدية مقارنة وتقابلا مع ما يسمى بالنمط الحديث الذي ينتج بدوره منتجين وقادة حديثين. ويتصل الاخيرون بالحداثة ويطلقون على أنفسهم صفة القوى الحديثة مما اناقشه فى مكان اخر.
الفصل:الثامن : السياق التاريخى لفتح السودان انجلوساكسونيا
وهنا ينتهي تنأولنا للسودان القديم حيث يبدأ عهد الحكم الثنائي Condominium بسقوط دولة المهدية. وبه يبدأ ما يسمى بالسودان الحديث متأثرا بالاحتلال الأجنبي كمجتمع تابع. حيث وجدت وظهرت إرهاصات ما برز وتأكد من الاتجاهات والميول التربوية والمثل العليا في توزعاتها الثنائية كما سنرى سواء بفعل عوامل التغيير التلقائي لمجتمع اجتماعي متنوع الرواسب residues، نتيجة للتفاعل الثقافي الذاتي والموضوعي حسب وضع الأشياء لمجتمع تابع سياسيا واقتصاديا وثقافيا بالتالي كمركز نفوذ متروبوليتاني.
اجادل ان ما يسمى بالحكم الثنائى كان قد تمثل باكرا و قبل حملة الفتح الثانية. فقد كان الضباط والتجار والمغامرين الانجلوساكسون على الخصوص وغيرهم من النظائر الاوربية قد حل بالسودان عشية انهيار سلطنة الفونج و عاصمتها سنار بالقرب من واد مدنى بالجزيرة على النيل الازرق. وكانت سلطنة الفونج قد راحت تتضعضع لاسباب احأو ل تفصيل بعضها فى مكان اخر فباتت حدودها مفتوحة مبزولة مستهدفة. و يسجل مورهيد بدقة اعراض تفكك السلطنة مدلالا عليها ببضعة ظواهر ما تنفك تتنوع على نظائر محدثة منها انخفاض سعر العملة الرسمية الريال المجيدى وانتشار التضخم ووقوع التجارة و الاعمال الكبرى فى ايدى اجانب أو -و شذاذ افاق محليين الخ.
وكان فتح السودان بما يسمى التركية الأو لى-و قد قادت الاخيرة الى استعادة مصر السودان بما سمى احيانا بالتركية الثانية فالحكم المصرى الانجليزي الثنائى ذى الطبيعة الاستثنائية قانونيا وتنمويا-قد تعاصر عالميا جملة احداث فى أو ربا الغربية-و الشرقية ايضا. و قد اتصلت تلك الاحداث بحركات وانتفاضات شعبية على العروش الأو ربية الغربية و ثورات على قياصرة روسيا و بولندا فى أو ربا الشرقية كما اتصلت بفلسفات فكرية تنظيمية كان لها اثر عميق فى التحولات التى حلت بالسودان و غيره من الدول العربية و الاسلامية. و ازعم ان اهم و اخطر تلك التحولات عبرت عن نفسها فى كمياء انتفاء شرط نشوء القومية و الدولة القومية و المشروع القومى رغم و ربما بسبب انتشار الفكر القومى. فقد انتشر الافكار القومية لغوية شعوب الامبراطوريات السابقة على الرأسمالية بغاية تفكيك الاخيرة فى كيانات صغيرة قابلة للاحتواء بواسطة البرجوازية الصناعية البازغة. و حيث نشأت تلك الكيانات الصغيرة نسبيا لتكريس البرجوازية الصناعية وجيزا الا ان الاخيرة لم تنفك ان استهدفت بدورها لما سمى مشروع ويلسون لحق تقرير المصير لاحقا. و قد تعاصر كل من اجتياح سلطنة الفونج الى حلول التركية الأولى وصولا الى التركية الثانية. و قد استقطب السودان فيما خلا المهدية بل ان المهدية نفسها طوقت من الشمال و من الشرق بتلك التداعيات على نحو ملحوظ قد نناقشه فيما يلى. و قد تمثل بعضها فى:-
- وجود القوات البريطانية و المصرية فى شرق السودان و قد اتخذت سواكن مقرا لها.
- الحصار الاقتصادى الذى ضربته السياسات البريطانية بوكالة مصر من الشمال على التجارة الخارجية فى تنويعة على الحصار الاقتصادى الماثل على السودان منذ تسعينات القرن العشرين..
- بوار محاصيل المهدية.
- تضور المهدية للرساميل و سقوط المحاصيل جراء الهجرات العنيفة من كل مكان الى كل مكان بمغبة استنفار المؤمنين لنصرة المهدية.
- هروب عناصر من الجيش النظامى الى الشمال. و قد عادت عناصر من المحاربين القدامى مع قوات التركية الثانية فى تنويعة على الحرب الاهلية الاخيرة.
المهم من المفيد ملاحظة أنه ان نشأت دول قومية بدساتير و حدود قومية بليل فى امتدادات البرجوازية الصناعية الا ان:-
احتلال السودان وغيره من توسعات الامبريالية الرأسمالية البرجوازية الصناعية كان قد تمثل بوصفه اخر شهقة للبرجوازية الصناعية
استقلال السودان كان حريا بان يتمثل فى الزمن الضائع للقومية ودولتها ومشروعها جميعا.
وازعم ان سفر تكوين تلك التحولات تمثل باكرا منذ القرن الثامن عشر فالتاسع عشر وكأنه تطورا فى البرجوازية الصناعية و تقدما فنشوءها بسقوط العروش الاوربية الغربية والارستقراطية الاقطاعية والتقليدية الاوربية الشرقية جميعا. فقد كانت البرجوازية الصناعية الغرب أوربية تطرح نفسها وكأنها الممثل الوحيد لتلك التحولات و المستفيد من ثم منها. الا اننى ازعم ان الاخيرة كانت قد اخترقت باكرا بنقيض و أوبنظير مشوه لها كان حريا بان يأتى من الولايات المتحدة فيخصم نشوء أونكوص الاخيرة على البرجوازية الصناعية. وكان النظير المشوه ذاك قد راح يصعد ناشئا لاحتلال زعامة العالم ماديا وفكريا وتنظيميا باكرا منذ عشية الحرب العالمية الأولى بل منذ الربع الاخير من القرن التاسع عشر. الا ان معظم المفكرين الغربيين وغير الغربيين لم يجد فى قلبه الاقرار بذلك المثول.
وكانت حملة استعادة السودان للخديوى تسأوقت ولحظة حلول الامبراطوريات البرجوازية الصناعية بما قد يبدو مرة واحدة والى الابد حلولا للاخيرة مكان الامبراطوريات السابقة على الرأسمالية الصناعية. وحيث كانت عشية ذلك الحلول قد تسأوقت وانتشار الانتفاضات والحركات الشعبية فى أوربا الجنوب غربية على الخصوص وغيرها مما قد اذكره فى مكان اخر فقد كان ادب السلطة الأوربية الغربية قد صور تلك الانتفاضات و الحركات الشعبية و كأنها نهاية الاقطاع الغربى بوصفها تمثلا للعنف والفوضى.
واجادل أن تلك اللحظة كانت حرية بدفع مفكرى الغرب الى مفصلة ترياق لعنف فوضى الحركات الشعبية وقد راحت تهدد العروش الأوربية كون تلك الحركات الشعبية كانت قمينة بتهديد البرجوازية الصناعية الأوربية الغربية ودولتها القومية. واحاول فك مفصلة ذلك التكاذب فى بحث تحت النشر بعنوان قاموس الاستحواذ.
المهم كانت الولايات المتحدة قد بدأت بالمقابل تنظر الى الدول القومية الأوربية الغربية بوصفها غريمات مقبلة. وازعم انه حيث كانت قوة الفكر الصهيونى فى امريكا قد راحت تستقوى تباعا على قوة الفكر الأوربى الغربى بهجرة يهود الامبراطوريات السابقة على الرأسمالية و روسيا القيصرية عشية الثورة البلشفية الى العالم الجديد فقد نشأت فكرة فمشروع الدعوة لحق تقرير المصير فى امريكا على يدى ويلسون الذى قد يبدو بمناداته بحق كل جماعة فى اقامة دولة قومية تناقضا مع افتراض ان خصومة امريكا لأوربا تمأسست على تطير الأولى من القومية والدولة القومية والمشروع القومى.
و ازعم ان مشروع ويسلون للا 14 نقطة كان حريا بان يخدم اكثر ما يخدم فيتوفر على شرطين اساسيين تحقيقا لـ:-
1- تمزيق الامبراطوريات الأوربية السابقة على الرأسمالية عشية نضوج البرجوازية الأوربية الصغير صاعدة الى البرجوازية الصناعية مثلما انذرت نظيراتها الانجلوساكسونية و الفرنسية مثلا. فلم تلبث البرجوازية الصناعية الأوربية ان انتعلت احذية البرجوازية الصغيرة فراحت تفبرك لها سيادة قومية وتمثلات قانونية وفنية فانشغلت بنفسها النرجسية. وكان بعض اصحاب الرساميل المادية وغير المادية من طوائف بعض من اسميهم بالاعراب الاستثنائيين قد ضاف بالثورات الشعبية ونضوج شرط البرجوازية الصناعية الأوربية الغربية.
ولم ينفك اؤلئك الاعراب الاستثنائيين ان راحوا يحضون الدول الدول الأوربية الغربية الى الولايات المتحدة التى استضافتهم وكانت الاخيرة ما برحت بازغة=على تسير و تشجي قيام دول قومية تخصهم هم. و كانت الاخيرة حرية بان تتمأسس فوق تقتت الامبراطوريات السابقة على البرجوازية الصناعية الى دول قومية. ولم تلبث تلك الدول ان راحت بدورها  تتصارع و تدخل فى خروب حول الحدود التى لم تكن سوى حدود قومية تعسفية قابلة بطبعها على التفجر. فقد كانت تلك الحدود قنابل موقوتة فى كل مكان.
2- قيام وطن قومي لليهود.
فكيف يتناسب قيام وطن قومى لليهود و تخثر أى مشروع قومى عدى الأول عكسيا؟ و ما هى تداعيات علاقة الصهيونية العالمية بنشوء و سقوط الدولة القومية و مشروعها؟
سفر تكوين القومية ودولتها الفريدتان خصما على غيرهما من القوميات والدول:-
كانت الامبراطوريات السابقة على الرأسمالية قد الفت صداعا للبرجوازية الصناعية و لليهود الصهاينة فى النمسا و بروسيا و تركيا. وكانت البرجوازية الصناعية ويهود الامبراطوريات السابقة على الرأسمالية قد ضاقت بالانسجام الاثنى بين شعوب الاخيرة فراحت واليهود يتعينون على نشر حركات  "قومية" مشبوهة تنادى بحق تقرير المصير لأى جماعة اثنية فشرزمة تلك الجماعات من ناحية. و من ناحية اخرى لم ينفك الصهاينة و كانت الحركة الصهيونية تكتسب قوة وانتشارا بثبات فراحوا يحاصرون ويلسون ويبتزونه حتى تقدم بمشروع حق تقرير المصير فى باريس 1919م بمعاهدة فيرساى. فكيف يعلل التناقض بين ضيق الفكر الغربى بالحركات الشعبية المطالبة بالقومية و تعين البرجوازية الصناعية على خلق دول قومية فى كل مكان بليل؟ و اجادل انه ما ان اعلن حق تقرير المصير حتى اندلعت حركات و ثورات و انتفاضات تطالب بالاستقلال و بالحكم الذاتى فى كل مكان خصما على البرجوازية الصناعية.
الا ان تأمل مغبة الاستقلال و حق تقرير المصير و قد اتسما بالفجاجة و العجز عن التنظيم و التنمية الذاتية لم ينفكا ان خلقا عوامل انهيارهما من داخلهما فكأنهما يتعينان على تحقيق نبؤة ذاتية مسبقة. فلم يقيض بعض تلك الحركات-و لم يسلم بعضها من الفجاجة-فكرا بديلا لتنويعات الحكومات الاستعمارية.و لم تنفك تلك الحركات ان انتجت ما يشارف حصاد الخسران المسبق. فقد كانت الكيانات التى انتجها الاستعمار لا متجانسة بدورها وغير ناضحة وقاصرة عن تكوين دول قومية و عن ادارة المجتمع بسلطة دولة قومية قوية. وحيث لم تكن تلك الكيانات الملفقة تملك الى ذلك قدرات رأسمالية تنظيمة فقد استهدفت بكل من ميلها للتدمير الذاتى بجريتها الفطرية و باختراق نمط اللا انتاج الشمال امريكى-الرساميل عابرة القارات و الشركات متعددة الجنسيات لشرط-مراكمة أى رساميل محلية. وازعم ان ذلك الاختراق قيض تقويض تلك الدول القومية صبيحة الاستقلال السياسى تباعا وقد سرعت عمليات تدمير الذات الكامنة فى تلك الكيانات الفطيرة Pristine تقويض الدول القومية. فما هى العوامل المصاحبة لنشوء الفكر القومى والدولة القومية و سقوطهما معا بدرجات المقياس فى كل مكان؟ وكيف تمأسست خيبة الاستقلال الوطنى السياسى والحركات التحريرية المسلحة على سقوط الدولة القومية و مشروعها؟ 
عقلانية التوسع في اراض بلا صاحب:
كانت بريطانيا قد راحت تطرح نفسها بوصفها تمثلا للقومية المتسييدة منذ الربع الاخير من القرن التاسع رغم ان الامبراطورية البريطانية و غيرها كانت بطبيعة تكوينها متعددة القوميات. وكانت القومية الانجلوساكسونية قد راحت تكرس نفسها بخاصة ابان المجمتع الفيكتورى من ناحية فيما راحت من ناحية اخرى تخترق السلطنات المغولية فى شبه القارة الهندية و جنوب وشمال شرقى اسيا من شمال الهند و ايران و افغنستان و كابول الى أوزبيكستان و جوا وسوماطرا. و كانت الامبراطورية تكرس نفسها بهذا الوصف بصادرات ثروات المغول و غيرهم من الشعوب المنهوبة بحق الفتح أوالاكتشاف المادية و غير المادية, فلم تنفك انجلترا الفيكتوية ان راحت تصدر عن ابهة عروش تلك الممالك العريقة النبيلة و معابدها و فنونها الخ. و قد قيضت تلك الثروات المادية و غير المادية لبريطانيا التعين على استدعاء سيادة العالم على نحو غير مسبوق. و ما ان اسلم المجتمع الفيكتورى مكانه للمجتمع الادواردى الذى اتعرض له وجيزا فى مكان اخر حتى وجدت بريطانيا نفسها مرغمة على ان تفاوض و قد ازعنت للمساومة على سيادتها مع تداعيات نشوء الولايات المتحدة صاعدة بدورها. ذلك ان المجتمع الادواردي كان محض تنويعه متخيلة او افتراضية على امبراطورايات القرن التاسع عشية سقوطها جراء الانيهارات المالية و اسواق الائتمان.
و بالمقابل لم تكن الولايات المتحدة تملك-بطبيعة تاريخها الملفق و جغرافيتها الهائلة-تشارف ابعد من دولة ما بعد قومية كونها دولة مهاجرين متعددى الجنسيات لا ليس لها أستدعاء قومية بعينها. وحيث لم تكن الولايات المتحدة تملك تاريخا و لم يكن لها استدعاء قومية فقد راحت تمأسس نفسها على اساطير جماعات معينة من المهاجرين و الآباء الاوائل و العرباء الذين صاحبوا الاخيررين مثل اسطورة "الامة المباركة" و شعب الله المختار. بالمقابل فقد حرضت حركة تقرير المصير بمعرفة ووكالة امريكا شعوب الامبراطوريات البرجوازية الصناعية الأوربية الغربية على تكرس هيمنة المشروع الصيهونى فالصهيونى الجديد خصما على الولايات المتحدة نفسها و ارتهانا للاخيرة معا. و كنت قد جادلت فى مكان اخر ان المشروع الصهيونى الجديد تنويع على مشروع مارشال على الاقل ان لم يكن تنويع و اتصال للبيرتون وودز  Briton   Woodsو صندوق النقد الدولى الخ.
 و يتعين باراك اوباما مثلا على ما يشير اليه بارى جراي ب"خطة اوباما لنهب امريكا[90] جراء تسليم اوباما و اعضاء طاقمه امثال لوراسن سومرز  Lawrence Summers امر الاقتصاد لسوق المال و الماليين. و يعيد الاخيرون انتاج سيناريو نهب الاقتصاد الامريكى بمعرفة الادارة 44 بمستشاريها و محاميها و مجلسي النواب رغم ان الاخيران تتحكم فيهما اغلبية ديمقراطية. و ليس غريبا ان تشعر اعداد متزايدة من الامريكان بانها خدعت خاصة و قد استؤمنت نفس الجماعات التى دمرت اقتصاد امريكا و العالم على انقاذ الاقتصاد الامريكي و العالمي. فمستشار اوباما الاقتصادى الاول لورنس سومرز Lawrence Summers يهيل 3 تريليار دولار على نفس المصارف التى دفعت له 8 مليون دولار فى 2008 عمولة و 135 الف دولار مقابل محاضرة واحدة.        
وازعم ان الحركة الصيهونية كانت حرية بان تتعلم من تجربة اليهود فى الامبراطوريات السابقة على الرأسمالية. فقد تعين الفكر و النظريات الصهيونية فالصيهونية الجديدة-المعولمة-على محأولة وصولا الى احلال شرط انتفاء نشوء مجتمع على الاطلاق فى الولايات المتحدة نفسها. و قد جعلت تلك النظريات من تفريد الفرد على نحو مرضى-باثالوجى-مرة و بجعل العلاقة بين الفرد والدولة بحيث يفعل الفرد كل ما من شأنه حتى تتركه الدولة- فيما خلا الضرائب- وشأنه آلية لنفى وجود مجتمع امريكى بهذا الوصف. على ان الولايات المتحدة فيما رغبت عن أوارغمت على تجأوز مفهوم المجتمع والطبقات و التطير من الاخيرين فانها جعلت من مجتمعات غيرها فضاءات مباحة بلا تحفظ أوتبكيت. ذلك ان فاقد الشئ لا يعطية بل لا يراه اصلا فى غيره. وكنت ناقشت بعض تداعيات انتفاء شرط وجود مفهوم المجتمع والطبقة فى فى مقالات نشرت فى صحف لندية عشية اجتياح افغانستان فالعراق 2002-2003.
و قياسا فان كانت بريطانيا-عندما تحايل كرومر على رفع العلم البريطانى جنبا الى جنب مع العلم المصرى فوق ارض السودان-أنها-وربما كانت قد باتت-على يقين من انها لم تكن تفعل شيئا خارقا لمألوف ما يفعله سادة الكون فقد كان سادة الكون يملكون الاستيلاء على الارض و ما عليها. وكانت "الاكتشافات الجعرافية الكبرى" قد كرست افتراض ان كل ارض غير أوربية مستباحة بوصفها ارض بلا صاحب. فقد كانت بريطانيا حرية بان تدعى الارض وما عليها حيث كانت جحافل المغامرين وشذاذ الافاق و الانغال البريطانيين قد تمرست على الاستيلاء على ارض من عداها بتجربة شركات الهند الغربية فى شبه الجزيرة الهندية و قراصنة شواطئ الارخبيل الاندونيسى فى جافا و غيرها فى جنوب شرقى اسيا و الصين. وكانت انجلترا قد ارسلت باكرا قوات من المغامرين مثل الاخوة ويلزلى Wellesley- وقد غدى ارثر أصغرهما دوق ويلنجتون Duke of Wellington واحد من اهم ابطال الانجليز- للاستيلاء على الولايات و الامارات الهندية واحدة تلو الاخرى. و كان القراصنة الهولنديون قد سبقوا غيرهم منذ نهاية القرن السادس عشر فى عمليات القرصنة الأوربية فيما وراء البحار الشرقية فاستقروا عند شواطئ شبه القارة الهندية-جافا وغيرها من الجزر جنوب شرقى اسيا قبل ان يأخذ تظائرهم الانجليز فى تحديهم ومغالبتهم فاتنصار الاخيرين على "الشركات" الهولدنية فتصفيها لصالح الانجليز.
الا ان جيش السيخ وكان قد درب بواسطة المرتزقة الفرنسيين لمواجهة الانجليز عرقل اجتياح الهند مؤقتا. فقد كان ثمة اكثر من نصف مليون مسلح هندى فى العشرينات من القرن التاسع عشر جيوشا فى الممالك والسلطنات الممتدة من بيهار الى البنجاب. و لم يكن المرتزقة يملكون قوات كافية من المجندين المسلمين و الهندوس لاشعال حرب على ممالك و سلطنات بيهار و البنجاب.و لم تكن الاخيرات فى حروب اهلية يملك الانجلوساكسون استقطاب قوات احداها لصالحهم كما فعلوا فى السودان فى مواجهة ما قدر باكثر من ربع مليون انصارى لم يكن مسلحا سوى بالحراب و حسب. ذلكم هو السبب فى ان الانجليز راحوا يهادنون ملوك و سلاطين الهند فيما راحوا يخترقون العقائد المحلية بالتبشير تفاديا لاندلاع صراعات لم يكونوا وقتها يملكون بعد استيعابها أومواجهتها عسكريا فى وقت كانت فيه أوربا متورطة الى ذلك فى الحروب النابليونية فى 1856 و قد اتصلت  عاما20. و لم يلبث التبشير الافانجلي الانجليزي ان انتشر فى الهند و غيرها من امتدادات انجلترا الاسيوية. وكان المبشرون والمغامرون الانجليز و قد ازعجهم ان الخنزير محرم لدى المسلم و البقرة بين الهندوس فراحوا يهينون الهنود المجندين فى صفوف شركات الهند الشرقية مسلمين و هندوس فى عقائدهم. و لم يلبث الاخيرون ان اشعولوا ما يسمى ب "التمرد الهندى" فى 1857-8 الذى كانت غايته اعادة الوضع الى ما كان عليه قبل اطاحة الانجليز بسلطة ملوك المغول وملكاتهم وسلاطينهم السابقين.
الا ان التمرد سحق و احلت شركات الهند الغربية مكان الممالك والسلطنات فباتت الهند مستعمرة انجليزية و لم ينفك معظم المغامرين الانجليز العاملين فى الهند ان فضل البقاء فى الهند حيث لم ترق لهم العودة بعد ان قيضت الهند لبعضهم الترقى من حيث رتبهم العسكرية و غدى بعضهم صاحب ثروة وجاه وخدم وحشم.
وكان بعضهم محض عامل فى البريد أوالسكك الحديدية تحايل حتى بات مستشارا مخاتلا لدى بعض الملوك و الامراء. و حيث كانت الرتب العسكرية تشترى فقد كان كل فاشل يشترى رتبة فى الجيش ليحقق مجدا عسكريا فيرقى فى صفوف الجيش و يعتبر بطلا قوميا مثل وينليجتون وغردون و كيتشنر و نيلسون و غيرهم و غيرهم. فلاستعمار الهند تاريخ اطول من استعمار السودان و مصر. و كانت الهند-فيما خلا ايرلندا-معمل تجارب الاستعمار البريطانى. و كانت الهند قد استقرت فى اعصاب الشرائح السلطوية الانجلوساكسونية باكرا منذ القرن السابع عشر. و كانت الملكة اليزابيث الأولى مولت حملة مرتزقة انجليز على اساس المناصفة بين المرتزقة والعرش لتصفية شركة الهند الهولندية تحديا للهولنديين. فان استولت قوات المرتزقة البريطانية على معظم موانئ شبه القارة الهندية فى 1600 باسم العرش. وقامت اهم القلاع التجارية فى كلكتا فى 1770.
وكان الانجليز و الفرنسيون حرضوا محمد على باشا على الخلاقة العثمانية فسمح لة بالاستيلاء على بعض امتدادات الباب العالى من الشام الى الحجاز فلم ينفك محمد على يتحرش بالخلافة حتى توقيع اتقاقية لندن 1832. ولم تلبث الدول الكبرى ان راحت بدورها تتربص بالخلافة الدوائر حتى اتفاقية برلين 1887 أى بعد عامين من ثورة محمد احمد المهدى على التركية الأولى فى السودان وصولا الى عشية الحرب العالمية الأولى. و لم تلبث بريطانيا ان استولت-بذريعة امتلاك و حماية " شركات-أوفابريكات Factories الهند الشرقية"-على شبه القارة الهندية فى 1857 و ما حواليها تباعا وعلى الموانئ الصينية بدورها. و لم يلبث ديزريلى ان اغوى فيكتوريا فنصبها امبراطورة على الهند فكرست انجلترا سيادتها الايديولوجية بالالتفاف على المعقتدات المحلية و قد راح الانجليز فى امتدادات الامبراطورية يخترقون أى بديل لايديولوجية الاستعمار بالتبشير والافيون و/أو بادعاء انهم مسلمون يحكمون شعوبا مسلمة بل "اكبر دولة مسلمة تحكم اكبر شعب مسلم".
وكان تعداد ذلك الشعب المسلم انذاك من الشرق الأوسط الى شبه القارة الهندية قبل التقسيم أكثر من 900 مليون نسمة. و كان غردون تعين في مناخ حروب القرم و اتفاقية برلين على التحرش بالسودان فأغمضت فيكتوريا العين عن حملة رعاياها فى مصر لدى محمد على لانقاذ غردون بخاصة و كان محمد على يتميز غيظا من تجاسر محمد احمد المهدى عليه بالثورة المهدية فى 1885 فعلى الحكم التركى الأول ما بين 1821-22-1885. و كانت عمليات الاستيلاء الأوربى الغربى تتفاقم على مناطق متزايدة فسقط مزيد من موانئ و اساطيل تجارة الخلافة العثمانية لأوربا الغربية و كانت قد سقطت من قبل للبرتغاليين منذ القرن الخامس عشر بالابتزاز و الارهاب و اختطاف افراد الاسر الحاكمة و جعلهم رهائن و تكرست الهيمنة الأوربية على تلك الموانئ تباعا بالرساميل المعرفية والمادية التى توفرت للبرتغال كوظيفة سقوط غرناطة. فقد كانت رساميل غرناطة المعرفية و المادية قيضت "اكتشاف" العالم الجديد فاشرعت أوربا الغربية نوافذها على ارجاء الدنيا. وكانت تلك الرساميل وراء استيلاء الانجلو ساكسون اكثر من غيرهم علي اجزاء من الامبراطورية المغولية فى شبه القارة الهندية و شمال و جنوب شرقى اسيا و الاستحواذ على حصص التجارة الاسلامية وصولا الى بداية تصفية الخلافة العثمانية فى الربع الاخير من القرن التاسع عشر.
وكان الاستيلاء على الموانئ الصينية قد قيض بعمليات مماثلة لما تم فى شبه القارة الهندية كما فعل بشأن موانئ التجارة الاسلامية باكرا بالاحتيال والابتزازة و بافتعال المعارك باسم التجارة الحرة. و كانت هزيمة نابليون على يدى ويلينجتون فى ووترلو فى 1815 اى قبل التركية الاولى ببصعة سنوات و قبل موت نابليون غريم انجلترا العتيد فى جزيرة سانت هيلينا بست سنوات- قد خلق فى مجموعه شرط تقلص فضاءات فرنسا فى شبه القارة الهندية وفى شمال امريكا الجنوبية تباعا. و قيضت عمليات مشابه لما تم فى شبه القارة الهندية قيض الاستيلاء على الموانئ الصينية مثلما الحال مع موانئ التجارة الاسلامية باكرا بالاحتيال و الابتزازة و بافتعال المعارك باسم التجارة الحرة لانجلترا فضاءات غير مسبوقة تجاريا و بحريا.
وكانت حربا الافيون فى 1839-42 و 1856-1860 قد ختمتا على مصير الصين-التى كان تعداد سكانها مئات اضعاف تعداد سكان الجزر البريطانية-لحساب انجلترا تباعا و خصما على غيرها. فقد قيضت تجارة الافيون منذ 1810 ثم حرب الافيون 1856- دفاعا عن حرية التجارة-فهزيمة الصين فاتفاقية نانكين Nanking 1848 و اتفاقية تنيلسين Tientsin فى 1858 الاستيلاء بريطانيا بموجب تلك الاتفاقية على هونكونج و فرضت فتح موانئ كانتون-آموى-نانجبو و شانجهاى باسم "حرية التجارة" البريطانية بالطبع. وكانت بريطانيا تعينت على تصفية الخلافة العثمانية بكل من "الثورة العربية" بقيادة لورانس العرب و بحركة الخلافة فالحركة العروبية احباطا للقومية العربية من وقتها تباعا تواطؤا مع كمال اتاتورك أو/و ارهابا ووعيدا غب هزيمة المحور و تصفية الخلافة العثمانية نهائيا. فقد تخصص لورد كيرزون Lord George Nathanial Curzon المبعوث السامى الانجيزى فى شبه القار الهندية و أحد "أعمدة الامبراطوية الاربع" فى تطويع فاستيعاب مصطفى كمال-اتاتورك-فاغواه بقيادة ما يسمى بحركة الخلافة موحيا اليه بانه جدير بان يطرح نفسه بوصفه "أب تركيا الحديثة". وما أن انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة المحور حتى غدى كمال اتاتورك رئيس الجمهورية فى 1938-[91]. و كان اللورد كورزون اصغر من حكم الهند و قد سيطر على اكثر من 100 زعيم قبلى و طائفى و اكثر من 100 مليون نسمة فلم يلبث ان اعتقد أن الهند ملكه هو الخاص. و كان يحب ان يطلق على نفسه لقب الحاكم العام حيث احتفظ باللقب بعد ترفيعه الى منصب المبعوث السامى فى 1893. و كان يعتقد انه  ضمن ما اسماه "ولاء الهند التى علمها اياه الغرب". و كان يجأر بانه حيث عمرت الهند بالثرواة والكنوز فقد كانت اهم ثرواتها الولاء للامبراطورية البريطانية الذى علمته اياه انجلترا. و قد علم كروزون كمال اتاتورك بحق الولاء للغرب.
المهم كان بعض أو معظم تداعيات الاحداث المذكورة تعاصر كما ذكرنا مع تطورات عنيفة فى أوربا الغربية بانتشار الانتفاضات الشعبية والثورات والتمرد فى ارجاء الامبراطوريات السابقة على البرجوازية الصناعية واللاحقة لها من الهند الى جنوب افريقيا فالسودان. وكانت المهدية خليقة بتأليف واحدة من اهم شواغل الانجليز فى افريقيا فى مواجة فرنسا وحادث فاشودا. و قد ادعت انجلترا ان حملة فتح السودان كانت:-
- مرة استعادة اراضى مصرية باسم الخديوى
- ومرة ثانية انتقاما لمقتل غردون و كان قد نصب نفسه- وهو المثلى الذنديق- بطلا فيكتوريا قوميا فصدق نفسه وراحت انجلترا تنذر نفسها لتكريس ذكراه خصما على غريمة محمد احمد المهدى. فكأن اسباب الفتح الثانى كانت تنويعة باكرة على انتقام آل بوش من صدام حسين و الاحرى انتقام قوات التحالف من سكان الفالوجا لمقتل 4 من أعضاء بلا ك ووتر    Black Waterاحدى شركات التأمين الخاصة.
المهدية والتنوير الانجلوساكسونى الانجلوامريكي:-
كانت الحركة المهدية قمينة بشغل الانجليز مثلما شغلتهم ثورة التايبينج فى الصين التى ارسلوا اليها غوردون لقمعها عسكريا و بنشر الافيون مثلما شغلتهم الانتفاضات الشعبية فى أوربا الغربية فى منتصف القرن التاسع عشر. والواقع ان التركية الأولى-و قد بادر بها طاقم خدمة محمد على و معظمهم اجنبى من الانجليز والالمان والالبان والبوسنيين واليونان. وكانت تداعيات الانتفاضات و الحركات الشعبية فى أوربا الغربية تصاحبت و الحركة المهدية و ربما استدعت كمياء التعامل معها[92]. فقد كان الانجليز حريون فى وجه ثورة دينية بالتعين على تسيس الاسلام باختراق الطرق الصوفية والخلأوى على الخصوص مثلما باتوا معنين ب"علمنة" تركيا باكرا و قبل سقوط الخلاقة العثمانية بل تمهيد لذلك السقوط. و ازعم ان الانجليز راحوا الى ذلك يعيدون انتاج تنويعات على الاسلام الشعبى وقد استوعبوا علماء الدين مثلما فعل اسلاقهم الاستعماريين الفرنسيين-نابليون فى مصر-أوالانجلوساكسون-فى العالم الجديد.
وقد حأول الانجليز كما تحأول امريكا اليوم احتضان بعض الطوائف الدينية منذ البدء فى وادى النيل فجاء الاستعمار الانجليزى على رأس قوات حملة اعادة فتح السودان فى 1885 من الشمال رجل دين بات زعيم واحدة من اكبر الطائفتين لم تلبثا ان تحولتا بدورهاما الى اكبر حزبين فى السودان. وقد بقيت الطائفتان تحتكران الساحة السياسية من الاستقلال السياسي حتى نشوء الاسلام السياسى فى نهاية السبعينات على نحو راح يقلص فضاءات هاتين الطائفتين تباعا. فقد كان الانجليز خليقون بمحأولة فبركة أو/و ابتعاث طوائف لضرب طوائف اخرى و اعادة تشكيل الطوائف الدينية وايقافها فى مواجهة بعضها بعضا بوصفها احزاب,
و قياسا فقد تواجهت احزاب الاخيرين على جانبى الطيف السياسى بين وحدة وادى النيل و الانفصال. بل حاولت حكومة السودان اقامة ملكية سودانية  Sudanese Royalty. و كان الانجليز بعدون بقايا اسرة محمد احمد المهدى لذلك الدور الا ان الفكرة اهملت فقد كانت العروش قد باتت فكرة بائرة , و كان الانجليز قد الحقوا الطريقة الختمية بهم فسار زعيمها على رأس حملة الفتح من مصر.  و كان محمد عثمان المرغنى يحمل ضغينة على ابراهيم ابن البقادى فلم يتردد فى مباركة حملة فتح السودان مقابل منحه الحق فى جمع خراج المديريات الشمال والتجارة مع مصر و فتح مدارس الطريقة القرآنية. و قد بقى الميرغنى حليفا لمصر بلا منازع حتى انتشار الاضطرابات الفكرية و التنظيمية على عهد الكوننة وتباعا فتفكك عناصر التحالفات التقليدية فى وادى النيل و الشرق الأوسط جميعا.
وفبرك الانجليز طائفة الانصار وتعينوا على انشاء حزب سياسى لها منأوئا لحزب الختمية أوالميرغنية و للاحزاب المصرية مثل الوفد المصرى. و قد حأول الانجليز جعل عبد الرحمن المهدى غريما روحيا و اقتصاديا فسياسيا للميرغنى و لمصر. فكأن الاانجليز كانوا ينحتون تنويعات باكرة على الاسلام السياسى تمثلت نظائر باكرة منه فى كل من الطوائف السياسية قد ترجع كفة التوازن بينها الطرق الصوفية رغم انهم راحوا يحلون بدائل شائهة أو/و اخترقوا مجتمعات الخلأوى لكون بعضها طرح نفسه ابان الفونج بديلا للدولة المركزية. وحيث كان الفكى يتعين على خدمة ما يشارف مجتمعات حضرية فقد كان لزاما استبداله فى عمليات مركبة بنظائر من المتعلمين الحضريين والتعليم الحضرى. وازعم ان الاخيرين كانوا محبطين منذ نشأتهم كونهم كانوا مدانين بالقصور بكل من شرط نشوءهم و بسياق قيامهم فى كل مكان. فقد بقى المتعلمون الغربيون تنويعة فطيرة على ما كان قد تمثل باكرا بوصفه فائض انتاج الطبقات الاساسية المتناظرة فغير قابلة للنشوء صاعدة الى شبه طبقة قمينة بتنظيم حزب سياسي يعبر عن مصالح فئات و مجاميع تاريخية.
 
رسم بياني تقريبي لتاثير التعليم على توزيع المتعلمين
 
 
 
 
وكان التعليم الحضرى محصور فى سياسات تعليمية قمينة بانتاج قيم ومفاهيم تشارف نظائر استعمارية دون ان تكون تلك النظائر قد مرت بمراحل تطورية تاريخية تجعلها قابلة للاستقلال عن الموروث الاستعمارى بالابداع الذاتى فالاستمرار. فقد كان التعليم الاستعمارى يصدر عن نظائر متروبوليتانية فيكتورية لا تدعى الحداثة و التنوير الا بقدر ما تدلس مفاهيم الحداثة و التنوير.
وازعم ان "التنوير" كان حريا بتكريس صراع المعتقدات الغربية مع ما عداها باعلاء الأولى بوصفها منتهى التقدم و الحضارة. فالمعتقدات غير الغربية نقيض معلق فى رقبة الشعوب المهزومة ب "الاكتشافات الجغرافية الكبرى". فرغم ان الاخيرة ألفت سفر تكوين التنوير و ما يسمى تدليسا المبدأ الانسانى Humanism أو/و الحضارة الغربية غير المعرفة سوى ان الشعوب "المكتشفة"، ولم تكن راغبة فى أن تكتشف- كانت حرية بان تتشوه ب"الاكتشاف" فتغدو نقيضا بل يخصم علي ذلك النقيض كل من التنوير والمبدأ الانسانى جميعا باقصاءه خارج حظيرة الحضارة التنويرية الانسانية. فالتنوير تنويع على داروينية شوهت تقصدا لتبقى غير الغربى غير قابل للنشوء لعجز متأصل فيمن ينهزم فى معركة الصراع من اجل البقاء. و قد بات الاخير صراعا عنيفا من اجل بقاء نهاب استحواذى و ما تنفك معدلات الاستحواذ العنيف لذلك النهب تتفاقم اتباعا.
سفر تكوين مسخ المجتمعات الرهينة:-
كان الواقع الموضوعى الذى لم يتنبه عليه معظمنا-عشية الاستقلال السياسى للمستعمرات الأوربية الغربية-هو ان ما اسميه "نمط اللا انتاج الشمال امريكى" ونمط الانتاج العبودي فى امتدادات البرجوازية الصناعية فى افريقيا و فى امريكا الجنوبية الخ كان قد راح يستقر فى مسام البرجوازية الصناعية باكرا و قبل تصفية مستعمرات الاخيرة بميثولوجيا الاستقلال السياسى المذكور:-
1- مرة بعلاقات انتاج تمأسست على اجزاء مجتزأة من وسائل انتاج عالية التقنية من شأنها استنزاف خالص و فائض انتاج العمل الحى.
2- ومرة اخرى بعلاقات العمل العبودى وتصدر عن رواسب علاقات العمل فى اقطاعات الجنوب الامريكي
3- ومرة ثالثة بتكريس رواسب الاقطاع الشمال غرب أوربى حتى فى متروبوليتانات الرأسمالية.
ازعم ان سفر تكوين علاقات الانتاج المذكورة كان قد تحدر من البرجوازية الصناعية الانجلوساكسونية.
4- ان أوربا الغربية-وقد خرجت من حروب دينية اتصلت 1000-كانت حرية بان تسقط عنف المسيحية الغربية على الاديان و العقائد الاخرى.
5- ان الرأسمالية و قد احتلت مكان الكنيسة و كانت حرية بان تتطيرمن الطوائف المسيحية الاخرى واليهودية الأوربية الغربية فراحت تسيس الاديان بعنف بما فيها الكالثوليكية الغربية خاصة ابان الحصار الاندلسى ثم حصار البروتساتنية للكاثوليكية.
6- اذ كانت الرأسمالية بتنويعاتها الانجلو ساكسونية و الانجلو امريكية على الخصوص قد حملت جنين عنف الكاثوليكية والبروتستانتية من بعدها فقد سبقت الكنيسة الغربية أو-و تبعت المغامرين لتنصير اهالى الاراضى "المتكشفة" فبررت الكنيسة العنف باسم الملك و الرب.
7- ان تسيس الاديان كان قد بدا باكرا ب "الاكتشافات الجغرافية الكبرى". فقد كان السكان الاصليون ينصرون باسم الكنيسة مرة و باسم الملك بعنف حتى ابادتهم ثوابا فى الرب. و كان الأوربي يقطع اطراف السكان الاصليين اذ لم يتخل الاخيرون عن عقائدهم وأسلوب حياتهم فيعتنقون المسيحية وقيم البيض. فذلكم هو ما يسمى ب"عبء الرجل الابيض". فان كان الأوربيون قد قطعوا اطراف السكان الاصليين فى العالم الجديد واستراليا اذا لم يتخلى السكان الاصليون عن عقائدهم واسلوب حياتهم ليعتنقوا المسيحية وقيم البيض من اجل تجانس البشرية فذلك لان الأوربيين كانوا يسعون الى ارساء قواعد "مسأواة" و "عدل" بين بشرية متجانسة بارغام السكان الاصليين على النصرنة حتى يتجانسوا فيعدل بينهم و بين البيض[93].
 فقد كانت المسيحية الغربية ايقونة الحضارة و كل ما عدى المسيحي الغربى متوحش كافر. وكانت الكنيسة الكاثوليكية البرتغالية تدمر وتحرق مئات المعابد الهندوسية فى جوا-غرب شبه القارة الهندية- واقامت بالمقابل عشرات الكنائيس. وكان الجأوييوان-من شبه جزيرة جاوا شمال غرب شبه القارة الهندية و كان البرتغاليون يحكمونها حتى وقت قريب ثم باتت من معاقل الاسمااليين-كان الجاويون  يجلدون ويحرقون فى سبيل تنصيرهم ابان محاكم التفتيش. و كانت محاكم التفتيش قد انشأت لها عدة نقاط كمقر خاص و اتصلت لمائتى عام ما بين 1560-1860 فى شبه القارة الهندية.على ان اللذين راحوا ضحية التنصير لم يعتبروا شهداء كنظائرهم المسيحيين.
و من المفيد تذكر ان أوربا الغربية-الرأسمالية بتنويعاتها لا ترى ان سمات انحطاط الشعوب المهزومة الخلقية-العرقية-اللونية تقف حائلا دون الحضارة الأوربية الغربية وحسب. بل ان الأوربيين الغربيين يرون-ترى الرأسمالية بتنويعاتها-فى اللاتجانس اللونى الثقافى سمات انحطاط تقف حائلا دون بشرية-نصرانية-بيضاء-متجانسة ثقافيا. و يقف قصور الاجناس اللا أوربية عن النصرنة مبررا لعدم مسأواتهم بالنصارى فدون المسأواة والعدل بين البشر. و فيما تقطع اطراف غير النصارى لنصرنتهم سوى ان تقطيع اطراف غير النصارى-لا يجعل منهم-و قد قطعت اطرافهم-مسأوين للنصارى البيض الاصحاء الكمل. فلا يبقى الأول و الكفرة لا متجانسين مع النصارى روحيا وحسب وانما خلقيا و بدنيا بقطع اطرافهم.
ويستعبد المشوهون خلقيا و ثقافيا بوصفهم مشوهين روحيا معوقين عقليا فيتم اقصائهم فى افضل الشروط عن مسارات التجانس فالمسأواة و العدل فى المفهوم الغربى- الرأسمالى. و ربما كان من المفيد تذكر ان المسيحية الأوربية تدعى أو-و توقن انه اذ يخلص مسيح أوربا الغربية النصارى والعالم الغربى النصرانى فان تخليص الناس بتنصيرهم يخلص العالم وبالتالى فنصرة مسيح عالم السواسية النصرانية يخلص النصارى[94]. واجادل ان الرأسمالية بالوصف اعلاه كانت حرية بان تخلق شرط استقطاب تاريخ الرأسمالية الرسمى والتاريخ الشعبى للشعوب المهزومة فى كل مكان مثلما استقطبت السردية المسيحية الغربية ما عداها فبات خارج حظيرة الايمان. فقد كانت هزيمة الشعوب "المكتشفة" الخ حرية بان تتمثل فيما قد يشارف مواجهات ثقافية-عرقية على الاقل-عنيفة بلا فكاك باسم وتحت راية الحضارة الانسانية والبشرية والديمقراطية والحرية و العدالة والمسأواة و من ثم محاربة الفاشية و الشيوعية والارهاب.
الربرجوازية الرأسمالية وعلاقات العمل العبودى و فئات المتعلمين غربيا:-
كانت البرجوازية الصناعية و قد اجتاحت كل ما عداها قد شوهت علاقات العمل والملكية تشويها باسم المسيحية الغربية حامية الرأسمالية والربح والفائدة. فقد تشاركت الكنيسية و العرش باكرا خالص و فائض العمل الحى فى المجتمعات المهزومة بتكريس مفهوم مشوه لتقسيم العمل الدولى فلنا انتاج المواد الخام و لهم تصنيعها واعادتها لنا مصنعة لنجبر على شرائها. و يعني التقسيم الدولي للعمل اعادة انتاج القنانة ان لم يكن العبودية الا  اننا كنا سعداء نتقافذ غبطة كوننا بتنا مزارعهم و اسواق بيع منتجاتهم.
المهم لم يلبث العمل الدولى أن راح يتمأسس فوق ما سمى تحرير الاسواق. و قد تساوق تحرير الاسواق و "تمكين المرأة". و حيث يصدر تحرير الاسواق عن "تمكين" العمل الحى المسترخص فقد كان تقسيم العمل بهذا الوصف حريا بان يحل اقليات سياسية اقتصادية مكان فئات او طبقات اخرى تعين على تفريد الافراد على نحو غير مسبوق مرة بالهجوم على الاسرة و مؤسسة الزواج و المؤسسات والنظم الجمعية كالقبيلة والطرق الصوفية الخ.
و كان تفريد الافراد بالوصف اعلاه حريا بان يصدر بدوره عن تفريد الافراد الذى تعين عليه الاستعمار الانجلوساكسونى بنظريات الصفوة بالتعليم الاستعمارى و اطلاق الطموح نحو و السعى وراء الخدمة المدنية فى عواصم المديريات و موانئها. وحيث بات الافراد المفردون-الصفوة-ينتمون الى الفئة المتعلمة تعليما حديثا وغربيا و يميلون للمقام الحضرى انسلخوا عن القبيلة و العشيرة والطريقة الصوفية.
و قد راحت الصفوة المتعلمة تستعرر كما نكون قد ذكرنا فى مكان اخر من القبيلة و العشيرة و المؤسسات التقليدية دون ان تنتج لها بدائل اصيلة تخصها هى و تدل عليها. وكان بعضهم و قد راح يجأر برفض الطائفية يطلق علي الاخيرة الارستقراطية القبلية أوالطائفية و لو وجيزا الا انهم لم ينفكوا ان راحوا يلوذون بالطائفية مجددا-فى غياب بدائل فكرية و تنظيمية تصدر عن الخصوصيات التاريخية ل"مرحلة تطور" المجتمع السودانى. و ذلك ان استعرار الصفوة المتعلمة غربيا أوالانتلجنسيا أوالمثقفين أوالقوى الحديثة-فى مرحلة "تطور" السودان و لم تكن لترقى عن تنويعة على النمط الشرقى-لم يزد سوى ان رد القوى الحديثة الى الفوقان على عزلتها لتجد نفسها فى عراء الجماهير الشعبية. فقد عنى الاستعمار باكرا ثم قام عشية "خروجه" بتنظيم احزاب طائفية استلبت القوى الحديثة يمينا و يسارا من القواعد الشعبية مرة واحدة والى الابد. فقد استقطبت الطوائف الجماهير الشعبية يمينا و يسارا فيما عجزت بعض احزاب اليسار من "الديمقراطيين والعلمانيين فالاشتراكيين عن ابداع نظريات أو تنظيم بديل حقا.
ذلك ان احابيل الفكر و النظر الغربيين الليبراليين كانا قد راحا يأخذان بخناق ما عداهما فلم ينفك ان تعذر على المثقف الليبرالى العالم ثالثى و رابعى الفكاك منهما وصولا الى بديل نظرى فتنظيمى ازاء الاجتياح الاقتصادى من ناحية كما اخذ المثقف الثورى عن الماركسية الروسية بلا تحفط. فحتى عندما انقسم المعسكر الاشتراكى فى الستينات اكتفى الاخير بالوقوف الى جانب الاتحاد السوفيتى بولاء اعمى لم ينفك ان تركه اما محيرا وقد اصابه سقوط المنظومة الاشتراكية الأوربية الشرقية باضطراب فكرى وتنظيمى عظيم أو-و اعلن الكفر باشتراكية. ذلك أن معظم المثقفين العالم ثاليين و قد بات معظمهم عالم رابعى بقوا يصدرون عن كل من:-
1- التنويعة الليبرالية الانجلوساكسونية.
2- التنويعة السوفيتنية من الديمقراطية المركزية .
3-التمأسس على قواعد غير موجودة تاريخيا اذ لم يكن قد قيض لمجاميع الشعبية السودانية النشوء الى طبقة بمعنى جماعة واعية على مصالحها و منظمة فى حزب سياسى الا بقدر ما استقطبت المجاميع الشعبية فى قواعد للاحزاب الطائفية. ذلك ان المجاميع الشعبية لم يقيض لها النشوء بوصفها "طبقة" محكومين الا بقدر ما تتعين على انتفاضات "غير منظمة" احيانا أو-و قد استلبت زعماتها الشعبية غالبا. و قد احبط كل من عجز تلك الانتفاضات عن اكتساح كل شيء فى طريقها و استلاب زعاماتها الشعبية فى كل مرة نضوجها فنشوءها صاعدة فى مواجهة طبقة الحكام. هذا ناهيك عن النشوء كطبقة عاملة مجعولة للثورة على برجوازية صناعية محلية أومستعمرة الخ.
فلم تكن طبقة صناعية سودانية قد نشأت. ذلك ان الاستعمار الكلاسيكى أوالبرجوازية الصناعية لم تكن بالضرورة معنية بخلق شرط  نشوء طبقة صناعية معتبرة فى امتداداتها بل العكس. فقد كانت البرجوازية الصناعية نفسها بسبيلها الى النكوص أوالنشوء الى رأسمالية ما بعد صناعية خصما على الطبقات العاملة جميعا فى كل مكان, فقد كان شرط نشوء أونكوص البرجوازية الصناعية فى المتروبوليتانات معنى باحباط شرط نشوء نظائر فى الامتدادات. فلم تكن البرجوازية الصناعية و الرأسمالية ما بعد الصناعية اللاحقة لها معنية مثلا ب "تصنيع" الامتدادات و انما عنيت بخلق شرط تكريس علاقات العمل العبودي بوسائل انتاج متقدمة على نحو غير مسبوق بغاية نقل الانتاج السلعى الا ما خلا صناعة السلاح الى بؤر تنتشر فيها علاقات العمل البائسة رغم تطور و ربما بسبب تقدم وسائل الانتاج على نحو غير مسبوق. و أجادل تباعا ان ذلك الاحباط ليس اكثر و لا اقل من ثمن نشوء أو نكوص البرجوازية الصناعية الى رأسمالية ما بعد صناعية أو ما يسمى بالامركة الخ.
4- واجادل ان السودان كان قد قدم باكرا لممارسات الامركة فى كل من مفهوم الحزبين الكبيرين اللذان ينازلان بعضهما كما المصارعين فى حلبة المصارعة الرومانية و فى مفهوم الحكومة الرئاسية. و قد اصدرت التنمية الاستعمارية عن علاقات الانتاج و الملكية التى تشارف المفهوم الامريكى. فقد ادخل نظام الوقت والحركة باكرا كما ان الملكية بقيت مثل نظيرتها الاميريكية اعتبارية ولم تسجل الاراضى كملكية خاصة لا فى السودان و لا فى امريكا الا قريبا مما قد اذكره فى مكان اخر. و لم تزد الديمقراطية ما بعد الليبرالية-و قد بقيت غير قابلة للزيادة عن واجهة مظهرية لما لا وجود حقيقى له.
ورغم ان الامركة بالوصف اعلاه كانت قد جربت على نموذج التنمية الاستعمارية فى السودان فى غفلة من التاريخ و الزمان سوى انه من المفيد تذكر ان التعليم الاستعمارى الكلاسيكى كان حريا بان يتناقض عشية اجتياح الامركة-الرأسمالية ما بعد الصناعية-للبرجوازية الصناعية منذ بداية الحرب العالمية الأولى الى ما بين الحربين. و يصدر ذلك التناقض عن طبع البرجوازية الصناعية و ادعاءاتها الليبرالية عشية اجتياح الرأسمالية ما بعد الصناعية وكأنما باتت كالنبع يفيض على نحو عزيز قبل ان يغيض. ذلك ان ادب السياسة ليبرالى و اشتراكى و حتى ماركسى كان يصل مكتبات السودان مثل سودان بوكشوب و كانت الصحف الكبرى تصل بصورة منتظمة ليس للخرطوم وانما الى المديريات و كان زعماء القبائل و نظار الخط من خريجى كلية غردون يقرأونها [95]حتى مقتل السردار فى 1925. و قد فتحت تلك المنابر الغربية كوى غير مسبوقة امام الشاب السودانى المتعطش للمعرفة.
وفيما كان السودانيون-فى مقابل المناهج و المقررات المحافظة فى كلية غردون- يقرأون الادب الماركسى. فقد ظهرت بعض الحلقات الماركسية بين طلاب و خريجى كلية غردون باكرا منذ الحرب العالمية الأولى[96] فى امدرمان و الخرطوم و واد مدنى. و كان المستر ستورى Storrie وهو ايرلندى من ضباط قوة دفاع السودان وغيره "يعقدون الندوات و يتبادلون الحوار مع المتعلمين غربيا من الشباب السوداني حول الادب الماركسى"[97]. و كان المدرسون المصريون يقدمون بدورهم طلبة كلية غردون للاقكار الثورية اثناء الحرب[98]. و من المفيد تذكر ان بعض اعضاء حكومة السودان من المصريين كان منفى جراء اشتراكه فى ثورة عرابى أو جراء عضوية حزب الوفد وحزب الاامة المصرى. و كان الامير المصرى عمر طوسون عمل بالسودان و كان على صلة باعضاء الجناح المؤلف لاقسى يسار حزب الوفد امثال امين الشاهد و حمدى سيف النصر و عبد الرحمن فهمى وكان -رغم انه ربما ساهم فى تيسير عملية تجنيد سودانيين فى و قاد بالفعل حملة على ثورة المكسيك نيابة عن فرنسا نابلبيون الثالث ابن عم نابليون بونابارت فى 1854-كان عمر طوسون متعاطفا مع السودان[99].
فقد اتهم عمر طوسون باشا بتسريب اخبار حركة الوفد التى اتهمها الانجليز بالماركسية الى السودان و تزين تحديات حزب الوفد للاستعمار الانجليزي للسوادنيين[100]. و فيما كانت مصر تصدر للسودان اتجاهات "غير مرغوبة" من الشمال كان الاتحاد السوفيتى يحأول اختراق الدول العربية عن طريق القارة الافريقية و  عبر البحر الاحمر من السعودية. و كانت الاستخبارات السودانية قد عثرت على نسخة من برنامج الحزب الشيوعى المصرى-و يزعم الانجليز ان مؤلفه كان رجلا انجليزيا- مع "المتورطين فى حركة اللواء الابيض". و يعزو معظم المؤرخين نشوء الفكر و التنظيم المتقدم بمعنى تجاوز القبيلة و العرق الى ما يشارف الفكر الثورى لاول مرة فى السودان لتلك المرحلة. و قد تمثل ذلك الفكر فى قدرة السودانيين المعتبرة على تنظيم حركة اللواء الابيض وصولا الى ثورة 1924 مما يعذى الى عوامل و مؤثرات اقل ثورية احيانا. و ربما لم تكن تلك العوامل و المؤثرات بعيدة عن نظائرها فى مصر[101].
وقد نسبت بعض تلك المؤثرات الى النشاط الذى كان العمال السودانيون يقومون به فى عطبرة باكرا متأثرين بنشاط القنصل السوفيتى فى الحجاز. فقد عثرت الاستخبارات السودانية أو ادعت انها عثرت على ما ينسب حزب العمال السودانى الى علاقة مثابرة بين على احمد صالح و كريم حكيموف القنصل السوفياتى فى جدة بالحجاز وغيره من العناصر الشيوعية فى المنطقة. سوى ان حكومة السودان لم تصم حزب العمال وحده بالبلشفية بل زعمت ان حركة اللواء الابيض بدورها حركة بلشفية و ليست و حسب محصلة تحريض الجناح اليسارى المتطرف فى حزب الوفد المصرى[102]. وقد سجلت جريدة التائمز فى عام 1925م يوميات تطير بريطانيا مما كان يدور فى السودان و مصر ابان 1914-1925م بوصفه وظيفة ما عرف يومها باختراق البلاشفة لمصر و السودان.
وقد تحدرت تيارات فكرية متقدمة مشابهة من سوريا و لبنان وفلسطين الى عصبة اللواء الابيض السودانى مما كان من شأنه ان يعبر عنه نفسه فيما كان حريا ان ريغدو اكثر تركيبا مما ملك السودانيون التعين عليه منفردين وقتها. ذلك ان  حركة 1924م التى قادها اللواء الابيض تمثلت كاكثر الحركات السودانية تطورا فى تاريخ السودان. فقد تعينت الحركة على المطالبة بحقوق تقدمية واسعة فاستقطبت جماهير لا متجانسة من كل مكان من ضباط قوة دفاع السودان و مهنيين وطلاب وفلاحين وبقالين وعمال بل اعيان بعض القبائل مثل قادة الجموعية اللذين كانوا يجمعون التبرعات للحركة. وكان محمد الخليفة عبد الله الجموعابى يجند الناس للحركة فى منطقة النيل الابيض وفى مديرية النيل الازرق بين العركيين[103]. وقد بقيت الطريقة العركية تكافح الاستعمار بانواعه وقد اتهمها الانجليز بالتشيع تشويها لسمعتها بين اتباعها  واعتقلوا 300 من قادتها فى الجزيرة.[104] وكانت الاستخبارات السودانية قد سجلت فى نفس الوقت وجود حزب العمال و كان على احمد صالح مؤسس والامين العام للحزب.وكان حزب عمال ماركسى بالضرورة حريا بان يؤلف مصدر تهديد لحكومة السودان فاق حركة اللواء الابيض خطورة[105]. وقد نجحت حكومة السودان من بعد فى تحويل على احمد صالح–تكاذبا-الى شاهد ملك على ثوار 1924م ومقتل السردار عام 1925م. 
5-تمأسس الاحزاب الحديثة الضرورة على التنويعة التقليدية و النموذج الامريكى بالنتيجة.
اخذت الاحزاب "الحديثة"-دون ان تقصد وربما دون ان تدرى-عن الطرق الصوفية وعن القبائل كما اخذت عن الخدمة المدنية:-
- التراتب الهرمى المتصل بالسن و بالوجاهة الايديولوجية فيما تمأسست مع ذلك بالمقابل على التعليم الغربى.
5- عبادة الفرد والتنظيم
وكانت عبادة الفرد و التنظيم حرية بان تستقر فى مسام التنظيمات الاشتراكية-الشيوعية-السوفيتية. و تؤدى عبادة الفرد و التنظيم الى شخصنة القضايا فيغدو كل نقد للقيادات الحزبية عدوان شخصى وتقييم ممارسات الحزب موضوعيا صراعات شخصية و قد حقنتها الحساسيات الذاتية.
فقد باتت امانة الحزب و ما يسمى ب "التنظيمات الديمقراطية" متحلقة سيارة  كمثل الكوكب حول الحزب مدى الحياة دون ان ترق  او-و يفك اسارها. و لا يترك رئيس الحزب مكانه-ان فعل الا و قد بلغ الثمانين فيغدو رئيسا شرفيا. و يخلفه امين سر الحزب. وقد يناهز الاخير السبعين بالتذكية اذ لا ينافس الاخير على الرئاسة مرشح اخر. ذلك ان الاحزاب الشيوعية فى روسيا القيصرية كما فى المجتمعات العربية كانت حرية بان تصدر عن النمط الشرقى. و كان الاخير قد تكرس فى روسيا القيصرية على مر مئات السنين و لم تنجح قيم الثورة البلشفية فى اقتلاعه حتى النهاية مما قد يفسر نكوص روسيا المرسلمة سراعا نحو تنويعتها السابقة على الثورة البلشفية.
6- الترقى بالمحسوبية والقرابة والصلات القبلية و الجهوية.
7- الترقى بالنسب والزواج. فقد كانت عضوية اللجنة المركزية فى الاحزاب العربية من المصرية والسورية الى السودانية واليمنية تتمثل من اقارب وازواج و انسباء[106].
8-اعادة انتاج التنويعة الخراجية و السابقة على الطبقات بوراثة أواحتلال أوالاستيلاء على السلطة بالزواج أوما اسميه الانتصار على الغريم بالزواج Conquest by Marriage. وقد وظفت هزيمة الغريم بالزواج منذ المجتمع الاسراتى حتى حلول الصوفيين على سلطة الفونج.وقد وظفت هزيمة الغريم بالزواج عندما ناسبت الجبهة الوطنية للاحزاب رئيس جبهة الهيئات غب انتفاضة اكتوبر 1964. وحأول احد الاحزاب المثل بتزويج رئيس حزب من ابنة حزب منافس. 
- الترقى بالتقوى العقائدية المحدثة. وقد باتت الايديولوجية بمثابة العقيدة تلون قوة الانتماء الحزبى الحديث أو-و عدمه. اما نشاط العضو و اسهامه سياسيا فقد بقى ثانويا فى الترقيه. و قد بات العضو الامين السمين افضل من العضو و الملتزم مبادئ الديمقراطية و تكريس حقوق الشعب. 
الفصل: التاسع: المؤثرات التعليمية فى مناخ الدافع
الاستعماري المتردد إلى الكلاسيكي
عاصر السودان الاستعمار المتردد فى شكل مغامرات الامبراطوريات البرجوازية الصناعية البازغة و قد راحت تتوسع بصورة لا معنلة و غير مباشرة و بما سمحت به البرجوازية الصناعية لنفسها فسوغته بان اطلقت عليه "حق الفتح". و قد تنافست الدول الأوربية الغربية الكبرى على اقاليم السودان بصورة لا معلنة تعين عليها المغامرون المضاربون و الرحالة و كتاب السير و الاسفار والمبشرين و التجار المشبوهين. فكأن التحولات الحالة فى المجتمع الفونجى تنويعة باكرة على ما يحدث حاليا و بما يشارف كامل الفاعلين و غاية افعالهم جميعا. فقد تعينت تلك القوى على اقتسام افريقيا و تشاحنت فيما بينها علي حدوده الغربية مثلا فيما سجل تاريخيا فى معركة فاشودا فى نهاية القرن الثامن عشر. و قد تكأكأت عوامل ذاتية و موضوعية على السودان ابان أواخر مجتمع الفونج مما ذكرنا بعضه فى مكان اخر. و لم ينفك الفونج ان سقط لما يسمى بالتركية الأولى. الا ان التركية الأولى كانت واجهة مظهرة للمغامرين والمضاربين المبشرين والتجار وسماسرة الامبرطوريات.و لم تنفك التركة الأولى ان تخثرت من داخلها فخلق تخثرها شروط موضوعية لانقلاب عليها فى ثورة محمد احمد المهدى فخلق ذريعة استعادة السودان لمصر كونه كان مستعمرة مصرية.
-خصومة الاستعمار والعقائد والاديان المحلية:-
تطير الاستعمار الكلاسيكى دائما من العقائد والاديان و الايديولوجيات الجمعية فى المجتمعات المهزومة فتعين على اختراق العبادات والاديان الشعبية وابطالها الشعبيين أو/و القضاء عليهما. فلم يتورع الاستعمار الكلاسيكى بل تدافع-مثلما تفعل نظيرته ما بعد الصناعية-الامركة-نحو فانخرط في الممكن والمستحيل من اجل تنصير الاهالى أو-و تكريس وثنيتهم. ويقول مدير المعارف  بشأن المدارس ف جبال النوبة شبـ "الا تدرس مادة الدين(الاسملامي) حيث انه من المرجح ان ينبرى اكبر عدد من زعماء جبال النوبة لتبنى المدرسة والتبرع لها.ومن ثم فيجب ان تكون المقررات المدرسية مما يناسب الوثنيين"[107]. وصرح كتشنر لأحد كبار القسأوسة بأن " لا عجلة مباشرة لتقديم التسهيلات من أجل تعزيز شلك أعالي النيل الوثنيين ، بوصف ان هذه المسألة ليست ملحة " في السودان[108].
فقد كان الاستعمار المتردد فالكلاسيكى قد مارس الاستباق الدفاعى الثقافى والعسكرى والسياسى فداهم العقائد المحلية فى العالم الجديد و غيره وقد تعين على القضاء على الثقافات الاصلية وحاول اختراق الاديان التى لم يكن يملك تنصير معتنقيها كالاسلام فى شبه القارة الهندية الى مصر والسودان وشمال افريقيا والكونفيوشية فى اليابان والصين وجنوب وشمال شرقى اسيا الخ. وازعم ان ليس ثمة تفسير اكثر جدلية نسبيا من اختراق حملات "الفرنسة" للاسلام فى الجزائر مرة أو/و دفع الاسلام الى النزول تحت الارض حتى تخشبت اطرافه فتشوه تشوها مرة اخرى. وقياسا استوعب الاستعمار الانجليزى الاسلام الرسمى باكرا فقد اختراق الطرق الصوفية بزعم ان الاسلام الشعبى قمين باثارة النعرات الدينية لانه قابل للايحاء و العنف.
 
-استقطاب الاقليات و امرأة الغريم لاستهدافه بسيناريوهات فضائحية:-
اصطفى الاستعمار الكلاسيكى نساء الغريم و الاقليات فى المستعمرات الفرنسية كالبربر و اصطفى الاقباط فى مصر و المولدين واعضاء القبائل الضعيفة فى السودان الخ. و تعين الاستعمار الكلاسيكى على اصطفاء المرأة العربية فاشد ما يشوق الغزاة أوالمستعمرين امرأة الغريم وبخاصة من يمثلون اندادا للمستعمر مثل نساء الطبقات المتوسطة و الوسيطة. و لك ان تلاحظ(ي) ان الاخيرة وسيطة و ليست متوسطة و لهذا تعريف اخر و سياق مختلف لنشوء الطبقات. هذا وقد تخصص الغزاة والمستعمرون الغربيون فى نساء المجتمعات التى تمثلت بها تنويعات فجة للطبقات الوسيطة-الحضرية بميلها الغربي بتعليمها غالبا-كالجزائر ومصر والشام. فقد ولعوا بها وما ينفك الغربى حتى المثلى منهم لا يستعصى على غواية امرأة الغريم من زمان الاستشراق فى القرن التاسع عشر الى العراقيات السجينات فى ابى غريب وصولا الى فان جوخ المخرج السينمائى الهولندى الذى انتج فيلما حول المرأة المسلمة تصلى فيه الاخيرة عارية الا من غلالة سوداء رقيقة فى صورة لا تصدر سوى عن شبق مرضى محبط وعبورا ببيم فورتوين Pim Fortuyin اكثر الساسة الهولنديين شعبية اليوم يهاجم الاسلام واصفا اياه بالتخلف و بالتفرقة ضد المرأة فيلعب على مشاعر الهولنديين باستداعاء مخأوفهم وعصابهم. ومع ذلك ينبغى تذكر ان فورتوين المثلى لا يمكن سوى ان يكون اكثر احتقارا للمرأة من الرجل السوي.   
وقياسا فقد احتوى الاحتلال الامريكي الكونفيوشية فحض المرأة اليابانية والشباب على اجتراح القيم اليابانية التقليدية و كانت الاخيرة تجد فى التضامن والتضحية و الامانة و الوفاء نبلا و فى المزاحمة الامريكية الشرسة والفردية لا اخلاقية غير مغتفرة. فقد طوع الاحتلال الامريكى الفرد الياباني-بخاصة المرأة و الشباب- بتفريدهم-فى تنويعة على مدرسة آنا فرويد للتحليل النفسي مع الفرد الامريكى-بالقيم و العلاقات الجديدة فيحررهم من "جمود العلاقات و التراتب الاقطاعى الامبراطورى"[109] وحيث كان اليابانيون "مفقرين جائعين" جراء الحروب الامبراطورية التوسعية فى جنوب شرقى اسيا و الحرب العالمية الثانية و التدمير الذى احدثته الاخيرة وبخاصة قنبلتى هيروشيما وناجازاكى وقد "ذاق اليابانيون مرارة وجراح الهزيمة"-الا ان الشباب والنساء شعروا لأول مرة ب"الانعتاق من الكونفيوشية وصرامة التقاليد والقيم الأخلاقية اليابانية". فقد كان الشباب "صامتا لا يسمع له صوتا" خلف منظومة قيم احترام الكبار والمقدسات الاجتماعية-فراح يعبرعن مشاعره.
وفيما يستخدم الاستعمار أو/و الرأسمالية المرأة-اليابانية مثلا- لغاية "تحرير" المجتمع فى سيناريوهات تمكين المرأة وتحديث المجتمع يستخدم الاستعمار المرأة- العربية والمسلمة مثلا-فى سيناريوهات محافظة تستدعى مخأوف المسلمين وتستعديهم على تحرير المرأة بوصف ان تلك السيناريوهات تصدر عن مشروع فضائحى. فقد استعدى الانجليز قبيلة حبيب الله خان-1901-1919م ملك افغانستان والقبائل الاخرى عندما خلع الانجليز البرقع عن احدى صور الملكة نادية خان زوجة الملك وهى فى اجتماع للويا بيرجا-كبار زعماء القبائل. و لم تنفك القبائل ان طالبت بخلع حبيب الله خان ولم يكن مفضلا لدى الانجليز فخلع واحل مكانه شقيقه امان الله خان فى 1920م. و كان الاخير اثيرا لدى الانجليز20.
المهم ليس ثمة ما يدعو لتصور ان الاشتباه فى الحركات النسوية التى شجعها الاستعمار و فى تلك الفئات التى ناصرها من الفئات الاجتماعية الوطنية مثل الطبقات الوسيطة مما استقطب الاخيرين و رجال الدين منذ بداياته من أول وهلة فى كل مكان و ليس ثمة ما يدعو الى ان ذلك الاشتباه يندرج تحت النظرية التآمرية. ذلك ان الاستعمار الفرنسى حرض المرأة الشامية مثلا و فتح لها ابواب ما يشارف اللجوء السياسى لدى المقيم الفرنسى فى بيروت[110]. و من ذلك اتهام الانسة نظيرة زين الدين بالتحبب للغرب-فرنسا-كما اثارت كتاباتها حول "السفور والحجاب "محاضرات ونظرات مرماها تحرير المرأة والتجدد الاجتماعي في العالم الاسلامي" سجالاً عنيفاً متصلاً "لجرأتها وتجاسرها" حتى لجأت الانسة نظيرة مستنجدة بالمقيم الفرنسي في بيروت[111]. وقد اتهمت بعض زعيمات الحركة النسوية في سوريا الكبرى كذلك بعض الكاتبات في لبنان بعد التقسيم بالتواطؤ مع الاستعمار. و كانت حركة "النهضة" العربية تتجه نحو الغرب وفرنسا-الثورة الفرنسية مثلا-في ترسم خطى التحضر والتمدين و التحرر الغربى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والنوعى جميعاً. و كان تخريج اقليات النساء من الطبقات الوسيطة الحضرية-و قد تعلمن تعليما غربيا-امرا زائدا عن حاجة معظم المجتمعات العربية. فقد كانت الاخيرة تمر بمراحل تطور سابقة كثيرا على مراحل تطور أوربا و مع ذلك لم تكن المرأة الأوربية نفسها قد حصلت على حقوق كانت المرأة المسلمة قد حصلت عليها. فلم تحصل المرأة الفرنسية مثلا على حق الميراث حتى منتصف ثمانينات القرن العشرين[112]. 
و بالمقابل ترك الاستعمار الانجلوساكسونى المرأة السودانية و شأنها نسبيا لغياب طبقة حضرية وسيطة فى السودان صبيحة فتح السودان فى 1898. فقد كان الاستعمار يخطط للسودان مستقبلا مختلفا. فقد ركزت التنمية الاستعمارية فى السودان على اقتصاد ريفى رعوى ينتج من اجل تصدير المواد الخام و الماء فى شكل منتجات زراعية وابقت على فكرست التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية الريفية الرعوية ومؤسساتها القبلية التى تتمأسس علي ذلك الاقتصاد. وترتيبا اصطفت مجاميع الاقليات من زعامة القبائل و الطرق الصوفية الرعوية على الخصوص لتشكل منها اقلية اقتصادية تتمأسس على اعادة تقسيم العمل الدولى فى السودان وعلى اقتصاد السوق. و من المفيد تذكر ان نظرية توظيف الاقليات فى خدمة السيد الاجنبى او صاحب رأس المال او العمل الاجنبى كانت و ما تبرح دارجة. فلم تخترع الرأسمالية ما بعد الصناعية مثلا ما ينسب اليها من انها تعينت على خلق اقليات و الاعتماد عليهم فى تيسير المراكمة الرأسمالية بتويعاتها منذ نشوء الرأسمالية. و رغم أن خطاب و سياسات اقتصاد التصدير لم تكن قد نشأت بعد الا ان مرتكزات اقتصاد السوق كانت قد كرست باكرا فى السودان مثلا شأنها شأن سياسات اخرى اتصلت بدورها باكرا من بعد ما بات يسمى العولمة-أوالكوننة مما افصله فى مكان اخر. و ما ان شكلت أوكونت تلك الاقلية القبلية الطائفية المتمأسسة على اقتصاد التصدير سواء بالتجارة شمالا أو بالمحاصيل النقدية فقد وضعت بذرة الاقلية الاقتصادية التى تحتكر اقتصاد السوق محليا خصما على من عداها رغم مخاتلة السياسية التعليمية الاستعمارية لما يسمى ب"القوى الحديثة" بشأن دور الاخيرة فى سلطة الحكم فى السودان بعد الاستقلال.
ولعل تلك المخاتلة تفسر كيف طرحت بعض شرائح من القوى الحديثة نفسها بوصفها:-
- مرة وريثة أو/و على الاقل شريك محتمل فى سلطة الاستقلال السياسي و ما بعده.
 - ومرة اخرى طبقة وسيطة بين الاداريين الاستعماريين والسودانيين ممثلين فى زعائهم التقليديين وحسب.
- مرة ثالثة متحدثة باسم الشعب السودانى بل ممثلة له.
- ومرة رابعة عازلا بين الحكام والمحكومين. 
سوى انه رغم و ربما بسبب انخراط اقليات المتعلمين السودايين غربيا فى التمثل بالطبقة الوسيطة نوعيا الا ان تلك الاقليات كانت مجعولة بدورها فى التنمية الاستعمارية و مستقبلها للعجز عن امتلاك قوة عددية تذكر أوتنسى. ومع ان مجلة "الفجر" و "النهضة" مثلا فاضتا بموضوعات شارفت ما تتطرق اليه الحداثة و تهتم بما يهتم به الحداثى من هموم المجتمع و السياسة من الاشتراكية الفابية والمادية الى اطفال الانابيب وحقوق المرأة والزواج المبكر والطلاق الا ان الادارة البريطانية لم تكن تتحمس لنشوء طبقة وسيطة فى السودان. فلم تكترث الادارة البريطانية بخلق اكثر من تراكم عددى ممن يمكن تصنيفه فى عداد طبقة وسيطة مسيسة و عاجزة عن التنظيم السياسى فى وقت واحد. وبالمقابل فحيث تخطى الاستعمار الكلاسيكى المرأة السودانية نسبيا للسبب المذكور اعلاه- فيما خلا المدارس الخاصة التى كانت نساء الانجليز تعقدنها لنساء البيوتات الكبيرة كنساء قادة الانصار[113]-فقد اصطفى الاستعمار الفرنسى مثلا المرأة فى الجزائر و تونس و الشام و غيرها بوصفها آلية وايقونة "تحديث" المجتمع.
فقد كان الاستعمار الكلاسيكى مثله مثل الاستعمار ما بعد الرأسمالي-الكوننة-الامركة الخ-يتمأسس على "تحرير" المرأة كونها كانت غالبا جديرة بان تحول الى واحدة من أهم و ربما الى آلية ناجزة لتحديث المجتمعات العربية و الاسلامية من افغانستان الملكية وايران الامبراطورية الى شمال افريقيا و اليمن. و كان الاستعمار الكلاسيكى حريا بان يخلق فئة اجتماعية لا اقتصادية منأوئة أوبديلة أومتعأونة مع فئة المرأة من بين المتعملين تعليما غريبا و قد بات الاخيرون يطلقون على انفسهم صفة "القوى الحديثة". على ان التحديث كان حريا بان يخلق مناخا كان قمينا بمغايرة ما اتخدته ما بعد الحداثة. و لم تتغير القضايا التى اهتمت بها القوى الحديثة كثيرا أوقليلا من بعد حيث كانت الحداثة تشجع تحرير المرأة الا ان ما بعد الحداثة لم ينفك ان بات رفيق فراش الفيمنية الغربية المغالية Radical Western Feminism أوما أعرفه بالنسووقراط. و ازعم ان كلا الحداثة و ما بعد الحداثة كانتا على اتفاق شبه كامل بهذا الوصف. فحيث تعينت كل من الحداثة و ما بعد الحداثة على تدليس نفسيهما كمفردات فرفض خطابهما تعريفات مفرداته قاطبة خصما على ما عداه حتى اليوم فقد اتصل تخاتلهما. الا ان معظم الغأوين من غير المبدعين فكريا صدقاهما. فقد كان كل منهما حليف بلا تحفظ لما يسمى "تحرير" المرأة و"تمكين" المرأة تباعا.
وكانت الحداثة-متمثلة فى بعض تنويعات اليسار التقليدي-حليفا لحركة تحرير المرأة و لم تزد تلك الحركة عن اعلاء عمل المرأة الحضرية خارج البيت بالضرورة خصما على اسهام المرأة الريفية والبدوية فى انتاج الحياة والكفاف فى الوقت الذى كرس فيه الاستعمار شرط بقاء الارياف و البوادى خارج مشاريع "التنمية" الا بقدر ما تعين على تشويه الاخيرة ايقاف بعضها فى مواجهة الاخرى و الكل ضد الكل بتهاون و ربما تواطؤ بعض المتعلمين غربيا و معظم التقليدين.
 و لم ينفك ما بعد الحداثيين ان باتوا حلفاء للنسووقراط بلا تحفظ و قد راحت الاخيرات تذرين بالانوثة والامومة وتغالين فى تطلب مسأواة اقليات النساء مع اقليات الرجال خصما على اغلبيات النساء الحقيقيات والرجال من منتجات و منتجى الكفاف والاطفال فى الارياف والبادية.
بالمقابل لم يدخل الاستعمار الكلاسيكى مفهوم تمكين المرأة فى مجتمع رعوى فقد رآى الاستعمار ان اغلبية النساء سواء ريفيات أوالرعويات لا تحتجن الى تمكين يذكر أوينسى. ذلك انه ان ابعدنا عوامل افقار الارياف والبوادى العربية كما حدث و يحدث فى السودان مثلا فان النساء البدويات على الخصوص كن قد تمتعن عبر التارخ بحريات كمية و نوعية لم تتمثل فى طبيعة تقسيم العمل الاجتماعى و حسب و انما فى دور المرأة البدوية فى الحرب والكر والفر وفى الهجاء واستنفار الرجال وفى رئاسة الاسرة مما يلاحظ حتى بين البدو المتوطنين مثل الشايقية. وازعم ان تقسيم العمل الاجتماعى الانتقائى نوعيا كان قد اتصل فى ا المجتمعات العربية و الاسلامية بنشوء الطبقات الوسيطة و بالحضر. و قد تمثلت المجتمعات الانفصالية بين الرجال و النساء فى المعمار-المشربيات والحيشان الخلفية والديوان والمنضرة و غرفة المسافرين الخ مما قلص مساحات حركة فحرية المرأة الحضرية التى كانت فى الواقع تستمثل امرأة الطبقات الحاكمة اجتماعيا وقانونيا و فنيا فيما لا تملك التشبه بهم اقتصاديا.
ويلاحظ ان الحجاب دخل الاسلام ما ان حل الاسلام بين ظهرانى الحضارات المدنية كفارس فلم ينفك ان استدعى اجزاء ثقافية حضرية "متقدمة" على نظيراتها البدوية فى الجزيرة العربية السابق على الاسلام و الحجاز. فقد بات الاسلام بدخول المدن الفارسية حضرى فارسى محجب. و يؤكد ذلك ان الاجزاء الثقافية المذكورة التى استعارها الاسلام من فارس كانت فى الواقع ناكصة على نظيراتها البدوية بالنظر الى مكانة المرأة و مساحات حركتها فى الحضر مقارنة مع مكانة المرأة و مساحة حركتها فى البادية والريف. و كان جنوب الجزيرة والحجاز–قبل سقوط تجارة سبأ و انهيار خزان مأرب الخ موطن الملكات من بلقيس الى اروة بنت احمد. و ترتيبا يمكن افتراض ان نساء الحضر المسلم اقل حرية من نساء باديته.
و بالمقابل دخلت التركية-الحكم الثنائى-السودان و فى مقدمة طلائها رجال الدين الاسلامى و المسيحى فأدخل الاستعمار التعليم الارسالى لبنين و بنات الطبقات الوسيطة. و لم ينفك اليسار ان ادخل مفهوم حق المرأة فى العمل لحساب اقليات النساء فى الحضر و كأن المرأة السودانية حضرية فاستبدل المشربيات العثمانية و كانت قد استوردت مع التركية الأولى بالمشربيات الماركسية و الليبرالية على الخصوص التى تتجاهل عمل المرأة فى البيت و الحمل و الوضع و الخ فتقصيه خارج الانتاج بوصفه "سابق" على الانتاج Pre-Productionلحساب المشروع الرأسمالى ما بعد الصناعى وخصما على غالبيات المنتجين فى كل مكان.
 
انقلي التالي الى مكان اخر
- ضغينة الغرب على الاسلام الغريم الازلى:-
ربما كان مفيدا تذكر ان الاسلام-والعرب- ومراكز الثقافة العربية الاسلامية التاريخية التى تمثلهما كانت قد وقفت منذ القرن الحادى عشر والمسيحية الغربية–الكاثوليكية بنوع خاص- والبروتستاتنية من بعدها - ومع عنفوان ألاولى باشكال الهياج المسيحى الدورى-غريمان تاريخيان متقابلان. فقد بات الاسلام منذ الصليبية الأولى على الاقل عدوا محوريا للمسيحية الغربية. ولان الاسلام ثقافة ومعتقد واسلوب حياة جميعا: أى ثقافة كاملة قد تشمل عربا غير مسلمين فان العرب والثقافة الاسلامية حتى بين غير المسلمين من العرب اصبحا صنوان لدى الغرب-امريكا بحيث يجمع العرب ومسلمين- واحيانا مسيحيين–كما الفلسطينين واللبنانيين مثلا الا ما خلا المارونيين- فيكومون فى كومة الاعداء الازليين للغرب-لامريكا.
و يلاحظ كيف ان الرد على ما يواجهه الامريكان فى الخارج من محأولات العنف المسمى بالارهاب الاسلامى يدفع الولايات المتحدة الى اعلان الحرب-ضمنا أوعلنا-على كافة "العرب" مسلمين و مسيحيين مما يكرس الخصومة العالمية بين الولايات المتحدة و العرب مسلمين و غير مسلمين من فوق ارض "الشرق". وقد تحولت مقولة الشرق بدورها باكرا الى مفهوم جيوبوليتيكى أوسياسى اكثر منه جغرافى يعنى العرب اكثر مما يعنى أى مكان أوجماعة اخرى. و من هنا يتم استقطاب " الغرب" و الولايات المتحدة الوريثة له و"الشرق" العرب الوريثين الوحيدين فى المفهوم الغربى-الولايات المتحدة للاسلام الغريم الازلى للمسيحية من ناحية. و من اهم ما يميز العرب فى تصالح مع أوفى مواجهة الغرب-الولايات المتحدة انهم يعبرون لدى الغرب-أمريكا عن ذلك العدو الازلى الذى كان قد تمثل اكثر من مرة و اعيد اختلاقه و فبركته مرات و مرات. فمن المفيد التنبه على ان كافة المجتمعات تخلق و تفبرك العدو الخارجى و الداخلى معا. و ان الغرب-الولايات المتحدة كان و ما برح-مثله كمثل المجتمعات التقليدية ما قبل الرأسمالية المحاصرة الصغيرة والمفقرة و المجتمعات الغنية القاهرة على السواء-يخلق و كان قد خلق عدوا خارجيا.
وقد ورثت خارطة الذاكرة الانجلوامريكية الرسمية ومعمار لغتها خصومة الاسلام من اسلافها الانجلوساكسون. و كان الاسلام و ما برح الاسلام-العرب كون الاخيرين يؤلفون زعامة و تراث الاسلام-بقى الاسلام موضوع اكثر اشكال الخصومة عبر التاريخ الغربى-الامريكى بالتماس. ففيما خلا سعى أوربا-بريطانيا لاحتواء الخلافة العثمانية-أحد اطراف المحور-ابان و بعد الحرب العالمية الأولى-كون تركيا كانت تؤلف متراس المسيحية الاخير ازاء الاسلام-فلا يسجل التاريخ الحديث اكثر من محض عمليات تواطؤ تاكتيكية مع زعماء العرب من الشريف حسين و صولا الى آل بيت سعود. و قد سعت بريطانيا ونجحت فى تصفية ركائز فكر وتنظيم حركات السخط الاسلامية بتكوين بدائل بحركة الخلافة بتحديث تركيا فعزلها عزلا شبه تام عن امتدادات الخلافة السابقة منذ 1924. و كان لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا " العظمى" ابان الحرب العالمية الأولى قد اعلن ان انتصار مصطفى كامل أتاتورك -تركيا فى الحرب العالمية الأولى-يدق ناقوس الخطر على ابواب أوربا بوصف ان تركيا كانت اخر متاريس المسيحية الغربية ضد الاسلام. و من ثم انخرطت بريطانيا من يومها خفية من يومها و تباعا فى احتواء تركيا[114]. و يتمثل ذلك الاحتواء فى تنويعات على نفس اللحن فى كل مكان فى الأوطان العربية بما يسمى الثورة العربية بقيادة المشبوه لورانس العرب وصولا الى مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وحيث كان لورانس العرب قد تجنس بالعربية و ارتدى ملابس فرسان البادية و انخرط فى حياة شارفت التماهى مع أو نشر الاعتقاد بانها تماهت مع العرب حتى اليوم دون مغالطة تذكر أو تنسى فقد كان نظائره من شذاذ الافاق قد احتال على الشعوب المهزومة بما يسمى " صليبية الاكتشاف" Discovery Crusade قد فعلوا المثل حتى بات المغامرون وانغال الامبراطورية الأوربيين يطلقون على انفسهم و كان السكان الاصليين يشيرون اليهم فى الهند مثلا ب "المغول البيض" فى بداية القرن الثامن عشر مثلما كان السودانيون يلقبون الانجليز بالترك و من ثم التركية الثانية بمعنى الفتح الانجليزي المصرى او الحكم الثنائى.
المهم كانت جماعات و احاد المغول البيض يذهبون الى شبه القارة ليصنعوا مجدهم بتصور انهم قادرون على الاستحواذ على سلطة سلاطين و ملوك شبه القارة الهندية و ما ورائها. و كان بعضهم مانكون قد ذكرنا فى مكان اخر  سعى الى و ربما نجح بالتخاتل و الاحتيال فى استعباد شعب بكامله عن طريق غواية احد ملوكه أوحتى سلاطين المغول انفسهم كالسلطان أكبر الى آخر اباطرة المغول أورانجزيب Aurangzib-1618-1707. و قياسا راحت الارستقراطية الانجلوساكسونية وصنائعها فى المستعمرات الداخلية كاسكتلندا وايرلندا وويلز تحاكى أبهة وعظمة بلاطات المغول فتأخذ عنهم حب الفنون والموسيقى والحدائق ذات النافورات وقد شاهدها بعض الاوربيين لأول مرة فى افغانستان والهند وفارس حيث تنقلت عروش احفاد كينكيز خان وتيمور لنك بين اجزاء الامبراطورية المغولية الاسلامية.
المهم كان بعض المغامرين والمرتزقة يتحول الى واحد من رعايا المستعمرة باعتناق منظومة قيم وحتى عقيدة المستعمرة تكاذبا. فلم يكن عليه سوى ان يسلم و يتزوج امراة محلية ويخضب كفيه بالحناء و يرتدى لباس الهنود فيحل محل غريمة. و كانت امرأة شيعية نبيلة فى الثامنة عشر من هيدراباد من السادة-اعتبرت بهذا الوصفت بين ابناء جلدتها بانها من سلالة النبى صلعم-كانت مخطوبة لسيد نبيل مثلها وقعت فى غرام مغولى ابيض فحملت منه. فلم يلبث الاخير ان اسلم و تبنى تطلعات و امانى انسباءه ابان اشد أو قات الامبراطورية حساسية. و كانت المنافسة الانجلزية الفرنسية على سبه الجزيرة الهندية و ماورائها و ماحولها اشدها.
و كان نابليون ينوى غزو شبه القارة فى طريقه من الحملة الفرنسية على مصر. والواقع ان عمليات استيعاب الاسلام منذ الحملة الفرنسية على مصر على الاقل لم تنته حتى وقت قريب. و قد عميت غايات ذلك الاستيعاب بحيث اخذ البعض يعتقد ان نابليون مثلا كان فى اعتناق الاسلام يتماهى مع المسلمين. بل يروج ذلك البعض و يجأر بان نابليون بات فى سعيه لاستقطاب العلماء الدينيين–الرسميين–حريا بهذا الوصف بان ينشى أو ل تنظيم "نيابى" فيما يسمى بمجلس الشورى أوأو ل "برلمان صورى" من علماء الدين "الرسميين" والاعيان.
على انه من المفيد تذكر ان ان كافة الغزات كانوا سواء سابقين على الاستعمار الكلاسيكى أوما بعد الكلاسيكى قد سعوا لاستيعاب علماء الاديان فى كل مكان و كل مرة بالا استثناء غالبا. وقد سعى الانجليز لاستقطاب علماء الاسلام "الرسميين" و الاعيان من زعاماء الطوائف و القبائل و بعض الطرق الصوفية فى مواجهة نظائر دينية–اسلامية-شعبية وزعماء شعبيين و ابطال شعبيين من اجل احتواء أوضرب الحركات الشعبية المنتظمة حول الاخيرة و استباقا لها باكرا.
فقد كان معظم الغزاة والمستعمرين قد حأول غالبا و نجح بعيدا احيانا فى استيعاب الشعوب العربية–والمسلمة عن طريق زعماءهم الدينيين الرسميين وكسر القادة الشعبيين من الصوفيين و القبليين. ذلك ان الغزاة والنهابين الدوليين تعينوا على عمليات احتواء الاخيرين بالغواية أوبالاختراق والتهديد جميعا حتى نهاية الاستعمار الكلاسيكى. و لم تلبث الرأسمالية ما بعد الصناعية الامركة بدورها ان سيست الاسلام باختراقه فاستيعابه. و يدعى تونى بلير-وقد تلفع بعباءة صواب اصولى-خلافة الراشدين اذ ينبرى من وقت لاخر و بلا حياء فى هداية المسلمين للانخراط فى سراط الامركة. و ما ينفك جورج ووكر بوش يجأر بفتأو ى استيعاب الاسلام الرسمى و الشعبى بالتهديد أوبالوعيد وصولا الى الاجتياج تحت رايات الارهاب. و من جانبهم لم يقصر بعض علماء المسلمين فى التودد للاستعمار بتنويعاته. فيلاحظ أن:-
1- العلماء الرسمييين العرب افتوا بصلاحية نابليون حاكما لانه كان و بعض جنرالاته قد اسلم–رغم ان نابيليون بقى يشرب الخمر و لم يختن.
2- ووقف معظم علماء الدين السودانيين و زعاماء الطوائف و القبائل الكبرى بجانب حملة الفتح بل كان بعضهم على رأس جيوش الفتح من مصر فى طريقها الى احتلال السودان. كما تضامن هؤلاء مع الانجليز فى السودان على الاقل ضد حركة الاشقاء ووحدة وادى النيل وما سمى بالفئات الحديثة.
3- فضل بعضهم بريطانيا على مصر حاكما بعد الاستقلال الوطنى.
4- كان الغرب-الرأسمالية- قد "هادنت" الاسلام والمسلمين مظهريا-مؤقتا-بعد الحرب العالمية الثانية وتقسيم فلسطين  عام 1948 ونشوء منافسة بائنة بين الرأسمالية- الشيوعية ابان الحرب الباردة بصورة مركزة بمفصلة عدأو ة "خارجية" ناجزة بين النظامين الرأسمالى و الاشتراكى راحت تسقطب امتداداتها ضد الاخير بنشاط حثيث.
و كان استيعاب الاسلام تاكتيكيا دبلوماسيا جراء استقطاب الرأسمالية و النظام الاشتراكى ان لم تستعدي ممارسات و سياسيات الغرب-الولايات المتحدة-الاسلام الا بقدر ما تعينت على ذلك انتقائيا و براجماتيا-بصورة باردة و ساخنة منذ سقوط الامبراطورية العثمانية فى الربع الاخير من القرن التاسع عشر حتى عشية سقوط النظام الاشتراكى نهاية ثمانينات القرن العشرين. فلم تلبث عدأو ة الغرب- الرأسمالية-المعلنة للاسلام أن برزت مرة اخرى بعد الانهيار الدائم أوالمؤقت للمعسكر الاشتراكى.
5- لم ينفك الحلفاء-ما بعد الرأسمايين واتباعهم ما بعد التقلديين و"العلمانويين" المحليين ان راحوا يستقطبون علماء الدين العرب مجددا وعلى نحو اشد مثولا عشية حرب الخليج الثانية–1991 لادراكهم ان علماء الدين ما يبرحوا يتخذون تنويعات على مواقفهم التاريخية تلك ازاء الغزات والمحتلين. وحيث ناصرعلماء الدين الرسميين "الحلفاء" فلم يتورعوا عن الافتاء بحلال اعلان الحرب-فى الشهر الحرام-متحالفين على السلطة العراقية فى تنافس زعماء العرب على زعامة العرب-بوصف ان عدو عدوك صديقك. كما انهم لم يروا غضاضة فى نشوب الحرب فى الاشهر الحرم و لا فى تجول الجنود و المجندات فى شوارع المدن المقدسة ابان الحرب بملابس معنية وصها عبد الرحمن المنيف فى روايته "مدن الملح".
6- لم ينفك حكام العرب المتسلطين من محتكرى السلطة المركزية–بالوكالة عن اسيادهم المكوننين أوبالاصالة عن انفسهم-ان هيأ لهم انهم باستقطاب علماء الدين الرسميين و زعماء القبائل والعشائر والطرق الصوفية–وقد راحوا يعيدون انتاجها مجددا-انهم بذلك يملكون:-
أ- احتكار السلطة خصما على المعارضة "العلمانية" و الاسلاموية. ولك(ى) ملاحظة سيناريو التغاضى عن الطالبان فعسكرة الافغان وصولا الى اجتياحهم. على انه اذ كانت امريكا قد كرست خطابا مكوننا ونشرت ثقافة مكوننة فقد تظهرت كل من اشكال التماهى معها و مواجهتها فى بدائل و تنويعات مكوننة حتى و ان اختلفت تلك البدائل فى درجة التطور أوالاستقطاب. ذلك ان المشاريع البديلة للكوننة استعارت بدورها ادوات الاتصال عابرة الكواكب والاسلحة الدعائية والتعبيرية الساخنة عابرة الكواكب و الاسلحة النارية و التكتيكات نفسها.
ب- مواجهة حكام العرب لشعوبهم بتماس اخصاء المعارضة الاسلاموية على الخصوص.
وكانت الرأسمالية ما بعد الصناعية قد تواطأت مع الاخيرين منذ الحرب البادرة حتى منتصف تسعينات القرن العشرين و تباعا على توظيف الاديان المسيسة فى مواجهة الشيوعية من ناحية و من اجل سحب البساط من تحت اقدام و تحييد اليسار التقليدى من ناحية اخرى. فقد خلقت الرأسمالية ما بعد الصناعية تنويعة من اليمين الجديد المتطرف فى مواجهة و استباقا لشرط تطور فنمو اليسار واليمين التقليديين فى البلاد العربية و الاسلامية و فى اسيا وامريكا الاتينية وحتى سقوط حائط برلين.
فقد وجدت في بعض من فصائل الاسلام السياسي مثلا موضوعا ناجزا للعدو الخارجى فيما وجدت فى بعضها بديلا طيعا لوسطية مشبوهة أوللطريق الثالث من ناحية اخرى. وما ان خرج مشروع الاسلام السياسى عن طوع الرأسمالية ما بعد الصناعية حتى اخذت الاخيرة تجرم الحركات الدينية المسيسة و تتهمها بالارهاب.
وازعم ان رعب الغرب-الولايات المتحدة على الخصوص من الاديان الشعبية يصدر عن كل من تنويعة دينية يسوعية صهيونية متطرفة فيرى فى كل ما عدى الاخيرات خصومة مهلكة. فامريكا اشد المجتمعات الغربية-الديمقراطية المصنعة-تدينا بل تطرفا دينيا مما يتمثل فى كل من افانجلية ما يسمى بالحزاب الجنوبى الاصولية و فيما بات يسمى بالمسيحية الصهيونية.
ففيما يدعى الغرب-الولايات المتحدة العلمانية والحداثوية أوما بعدها فى بعض سياساته الخارجية وفى التعبير الفنى و صناعة السينما و ادوات الاتصال و "الثقافة الشعبية" جميعا فى مواجهة الثقافة الزراعية الرعوية و ما قبل التصنيع و التقليدية أوما بعدها تبقى الولايات المتحدة بالذات مجتمع تقليدى متدين واحيانا متطرف التدين و بخاصة مجتمع ما يسمى بالحزام الانجيلى الجنوبى.
فما هى السياقات الانجلوساكسونية التى عاصرت الحملة الثانية لفتح السودان فى 1898؟ و ما هى اليات اختراق الاستعمار للمجتمعات المهزومة بالرأسمالية فتشويهها؟
 
 
 
 
 
 
 
الفصل العاشر: التدافع الأوربى نحو السودان:-
1- هل كانت معركة كررى تنويع باكر على الويل والصدمة:Shock and Awe ؟
تصور معركة امدرمان و كأنها  ايقونة عظمة الامبراطورية ولو باشتراك تشيرتشيل كمراسل حربى وكيتنشينر  قائدا لقوات حلفاء من ثلاثة جيوش. فقد حارب البريطانيون و المصريون و السودانيون الدراويش بذريعة الأخذ بثأر غردون و بدعوى استعادة السودان لخديوى.و كان غردون-حسب تلك السردية الملفقة مسيحيا اصوليا قتله متوحشون برابرة. و لم يكن جلادستون رئيس الوزراء راضيا عن تلك الحملة. و كان كيتشينر  يقود 26 الف مقاتل قد وصل متأخرا على انقاذه. وقد اخذ كيتشينر بثأر غردون على نحو وحشى دام فيما لم يزد اذ اكتفى  بقول اننا نفطناهم نفضناهم دمويا We dusted them, we dusted them bloodily  ولم تكن معركة امدرمان التى كانت عاصمة المهدية اقل من تنويع على الصدمة والويل الامريكية فى العراق ويقال ان اسراب هائلة من الكواسر ظللت سماء المدينة و لم يكن احدا يملك  تفسيرا لذلك الا بقدر ما خمن البعض بان الكواسر اشمت رائحة الموت مع قرب معركة دامية. ولم تأخذ المعركة طويلا فبعد (3) ايام سقطت امدرمان و قصفت قبة المهدى من على البعد و باتت مياه النيل صفراء بدم الموتى و الجثث.
                 ولم ينفك كيتشينر ان غدى نجما بليل. و لم يلبث السودان ان بات كما مصر عمليا مستعمرة بريطانية الا ما خلا انهما لم تكونا كذلك دستوريا. وقد اقنعت بريطانيا مصر التى كانت واقعة تحت السيطرة العثمانية بتحمل نفقات ادارة السودان حتى نهاية الحكم الثنائى وكان نابليون قد غزا مصر و بعد عام باتت مصر والسودان  فى 1869على اهمية فائقة لبريطانيا مع فتح قناة السويس.وكان لقناة السويس اهمية بالنسبة لتخفيض التعريفات الجمركية على صادرات وبخاصة واردات بريطانيا العظمى مما كان حريا بان يرفع من قدرة الاخيرة على المنافسة التجارية وكانت فائدة قناة السويس تعود ايضا على ايطاليا والنمسا وروسيا بالفائدة فى حين ان فرنسا هى التى كانت وراء بناء قناة السويس وكان من المتوقع ان تفيد اكثر من غيرها من فتح قناة السويس. الا ان بريطانيا جعلت همها حرمان فرنسا عدوتها اللدود من الممرات المائية ومن السيادة البحرية من شبه الجزيرة العربية الى مصر والسودان. وقد بقى  الفرنسيون بدورهم معنيين بالاستيلاء على الموانئ المصرية والمداخل السودانية بعد ان باع نابليون اقطاعاته الخاصة فى امريكا الشمالية وكوبا وقد غدت تلك الاقطاعات ولايات المسيسيبى و نيواورليانز والمكسيك بالجنوب الشرقى لامريكا الشمالية. و كان بحاجة ماسة لتمويل حملاته التوسعية فى اوربا والشرق تحت ضغط ومنافسة انجلترا وتحايلها. كما فقد نابليون ممتلكات فرنسا فى شبه الجزيرة الهندية جراء تآمر شركات الهند الانجليزية و الهولندية على قواته.
وكان على جلادسون حماية قناة السويس و من ثم التدخل فى مصر والسودان والسيطرة علي بورت سعيد و على سواكن.  و لم يكن جلادستون يرغب فى كل ذلك. وفى نفس العام قضى جلادستون نحبه.
فلم يكن جلادستون هو الذى يحكم بل كانت المصارف هى التى تفعل كونها كانت كعادتها معنية بالحصول على رساميلها وارباحها من فوق رأس الحكومات مما ادى الى استقاله جلادستون و خلق كيماء الظروف التى ادت الى موت غردون. ذلك ان الملكة فيكتوريا لم ترسل لغردون النجدة فى وقتها عقابا له على مقاومة تعليماتها والتصرف منفردا كون غردون كان رجلا مغامرا يعمل لحسابه واجندته الخاصة منذ أن انخرط فى الكونغو فى السمسرة خصما على الاهالى لحساب ملك بلجيكا فى الكونغو واشتراكه فيما سمى بحرب الافيون فى الصين.  
المهم اندلع السخط الشعبى فى1881م على التدخل الاجنبى فى مصر وكذا فى السودان. ورغم ان ثورة عرابى هزمت فى1882م فى معركة التل الكبير الا انها لم تنكسر. وقد عوقب بعض اعضاء الثورة بالنفى الى السودان –كون السوجان كان يعتبر منف-فيما بقى الغليان تحت السطح ليعبر عنه نفسه فى ثورة 1919م فى مصر و1924م فى السودان ومقتل السردار فى ستاك فى 1925 على التوالى.
2- فــاشودا تنويع باكر على دارفور:-
تدافعت أوربا نحو افريقيا Scramble for Africa فتصارعت بريطانيا وفرنسا حول فاشودا وبحر الغزال- وتشارف دارفور الحالية-بعد اقل من عام من واقعة كررى بامدرمان. فقى 2 أو3 سبتمبر 1889 دخل الجنرال الفرنسى فاشودا وبحر الغزال بغاية ضمهما الى فرنسا الا ان كيتشنر زحف فى 10 سبتمبر نحو فاشودا فاخرج الفرنسيين فى 19 سبتنبر بعد ازيلت الاستحكامات الفرنسية فى 11 سبتنمبر 1889م بتهديد الانجليز الفرنسيين برفع العلم المصرى بوصف ان تلك اراض مصرية. وتعيد احداث دارفور انتاج صراع امريكا وبريطانيا من ناحية وفرنسا من ناحية اخرى حول ثروات الافارقة والعرب باسم حملات "تحديثية" تنصيرية فخصما اقتصاديا وثقافيا علي اصحابها.
ويجأر تونى بلير ان علينا مسئولية اخلاقية للتدخل فى السودان. ويصف البعض تونى بلير بالتمتع بنظرة جلادستونية للعالم تدفعه لعمل كل ما فى وسعه فى السودان لحماية الدارفوريين الا ان تلك النظرة لا تدفعه لعمل شئي فى زيمبابوى لحماية الزيمبابويين. و فيما تمتلئ الصحف و تفيض باخبار السودان لا نسمع بما يحدث فى زيمبابوى الا بقدر ما تفوح رائحة تورط المغامرين الانجليز من سيمون مان و مارك ثاتشر فى فضائح تهريب السلاح عبر زيمبابوى توطئة لقلب حكومة غينيا الاستوائية الى رشأوى صفقات الاسلحة البريطانية للسعودية. فهل يتدخل بلير فى السودان ام فى غينيا الاستوائية باسم و تحت مظلة المجتمع الدولى ام بالركض وراء امريكا. ذلك ان العولمة الكوننة تجأر بملئ فيها على لسان كلب سيده بلير و امثاله بحتمية عودة الاستعمار مجددا بلا تحفظ الا بقدر ما يتعين على المستعمرين- بفتح الميم-ان يبعثوا بعريضة أوأورنيك استرحام عليه دمغة و بصمات طاعة واجبة وولاء لا متحفظ واسترحام يستجدون فيه عودة الاستعمار.
المسأومات المعولمة على السودان باكرا:-
يسر استقلال حكومة السودان Sudan Government- وهو الاسم الذى اطلقته الادارة الاستعمارية على نفسها صلافة- عن وزارة المستعمرات والخدمة المدنية البريطانية بهذا الوصف وراثة امريكا للتجربة الاستعمارية البريطانية فى السودان باكرا. وقد وفر تصنيف السودان-كونه من أفضل مختبرات "التنمية" الاستعمارية "المستقلة" اذا صح التعبير بمعنى استقلال بعض سياسات الاستعمار البريطانى الاستراتيجية المركزية عن الوطن الام نسبيا[115]- فضاءا باكرا لتوسع الممارسات الامريكية الامبريالية الفطيرة. فرغم ان الاعتقاد يسود بان امريكا صعدت أونكصت حسبما ترى(ن) الى بدايات امبريالية فيما بين الحربين سوى اننى ازعم ان امريكا بدأت رحلة وراثة الامبراطورية الانجلوساكسونية منذ حروب القرم 1853-6 ومعاهدة برلين 1877-8 الى تصفية الخلاقة العثمانية تباعا. وكانت امريكا قد تعينت على بناء امبراطورية فى كل من كندا وامريكا الجنوبية وبقيت الاخيرة حوشها الخلفى من فينيزويلا الى المسكيك منذ منتصف القرن التاسع عشر على الاقل كما الحقت بعض امتدادت الامبراطورية الاسبانية فى جنوب شرقى اسيا كالفيليبين الخ بتوسعاتها الباكرة . و بالمقابل بقيت افريقيا افتراضا خارج مناطق نفوذ امريكا.
ولعل الصفة "القانونية الدولية" الفريدة للسودان بما يشار اليه بالحكم الثنائى Condominium عبرت باكرا عن احدى قسمات السودان الحديث فيما ما شارف خصوصية سياسية تنظيمية. فقد وفرت تلك الصفة امكانات غير عادية للاداريين الانجليز فراحوا يدعون لانفسهم صفة "حكومة السودان". وكانت حكومة السودان توليفة من تراتب مراكز وادوار شرائح السلطة السابقة من الفونج الى الفتح التركى الأول كما كانت حكومة السودان تستدعى تنويعة فطيرة على أو تشارف مفهوم البنتاجون من حيث ان الاخير توليفة من القيادات العسكرية والخدمة المدنية. وفيما بادرت حكومة السودان بسياسات "تنموية" مستقلة على نحو غير مسبوق فى المستعمرات والمحميات والامتدادات الامبراطورية فقد تعينت على عسكرة السودانيين العاديين ولو بتطلب "التعظيم سلام" من "الاهالى" كلما مر المفتش و كان الاخير تنويعا على امين السوق الفونجى أو مدير المديرية وقد اخذه الانجليز عن الحكمدار التركى...الخ. فقد اعاد الانجليز فتح السودان باسم الخديوى على رأس قوات شكل المصريون فيها صف ضباط و جنود حملة الفتح خصما على الثورة المهدية. وقد بقي السودانيون يشيرون للحكم الثنائى بالتركية الثانية قياسا على التركية الأولى ما بين 1821-2 الى 1885. وقد خصمت الاخيرة على أواخر سلاطين الفونج. على ان الانجليز لم ينفكوا ان تعينوا كعادتهم على تغريب نظائرهم المصريين سياسيا و قانونيا منذ البداية فانفردوا بسلطة السودان بعيدا عن مصر رغم ان مصر بقيت تتحمل ميزانية السودان حتى النهاية بل استقل الانجليز عن هوايتهول ووزارة المستعمرات جميعا مما قيض لحكومة السودان بهذا الوصف:-
ممارسة سياسات استعمارية اتسمت بقسمات مرنة نسبيا فدخلت حكومة السودان مثلا فى مسأومات باكرة منها الادارى والتنظمى و المالى منها ما اتصل بكل من تداعيات مشروع ويلسون لحق تقرير المصير غب معاهدة فيرساى 1920 من تمويل مشروع الجزيرة ثم برنامج المساعدة العسكرية الامريكية الخ.
اختلاق ذرائع ابعاد المصريين عن السلطة الحقيقية وصولا الى تلفيق اسباب طرد المصريين من السودان فى 1925م.
تمهيد ذلك المناخ لاستقطاب السودان صبيحة الاستقلال للانقلابات العسكرية استجابة لتداعيات  مشروع ملئ الفراغ باعلان امريكا لما سمى بالنقطة الرابعة منذ خمسينات القرن العشرين. فهل كان حق تقرير المصير تنويع باكر على مشروع الشرق الأوسط الكبير؟
ادعى معظم اعضاء حكومة السودان و بعض الاكادميين الانجلوساكسون ان السودان الف تجربة "تنموية" استعمارية "نموذجية" من حيث "تحديث" الاقتصاد بربط مشروع الجزيرة بالسوق العالمى وبخلق مؤسسات حديثه و بناء اسس للادارة المحلية و محاكم المشايخ والعمد الخ يتجاهل بعض المؤرخين بالمقابل عمق التغييرات التى تعينت حكومة السودان عليها من اعادة هيكلة المجتمع السودانى سياسيا و فكريا على نحو يتناقض وادعاء الانجليز حيث كرسوا تنويعة تقليدية كانت حرية بان تغدو باكرا تمثلا لما اعرفه بالنظائر ما بعد التقليدية بوصف الاخيرة تنويعة باكرة على ما تجأر امريكا به تباعا من الاستباق الثقافى. و قد اسس الرئيس الامريكى جيمس مونرو-1758-1831-ليبريا على الساحل الغربى على المحيط الاطلنطى فى 1822م بعبيد محررين. و كان بعض السود حارب فى صفوف الانجليز ضد الامريكان. ومن سييرا ليون الى نوفاسكوشا-اسكتلندا الجديدة بكندا-عاد العبيد المعتقين اللذين حاربوا فى صفوف الانجليز ضد الامريكان  الى بريطانيا. وكان بعض العبيد تمرد فهرب بعضهم و طاردهم الانجليز بالكلاب حتى قضى الانجليز على ثورة العبيد وقبض عليهم عن بكرة ابيهم.
وكانت ليبريا وسييرا ليون من الدول التى اقتطعتها القوى الامبريالية وجعلت كل منها مستعمرة بدون اعتبار لخصائص السكان الاثنية. وتعتبر ليبيريا اكبر منتج للمطاط وهى غنية بالمعادن من الكوبالت والنحاس الى الذهب والفضة. وكان العبيد ارسلوا الى سييرا ليون وليبيريا وغيرها لبناء دول فى افريقيا.
المهم كانت مهمة الافروامريكان المحررين "تعمير"-بمعنى اقامة مستوطنات ومعناها بالانجليزية كذلك-فقد استقلت ليبيريا فى 1847م واطلق على عاصمتها مونروفيا. وكان اغلبية سكان ليبيريا من القبائل الاصلية سوى ان نخب المستوطنين الامريكان السود احتكروا السلطة بوصفهم صفوة حاكمة حتى ثمانينات القرن العشرين. وقد ارسلت امريكا اعداد غير معروفة من الافروامريكان للاستيطان فى السودان والعمل فى مشروع الجزيرة الا ان المحأولة لم تنجح. وكان البروفيسور رايزنر من جامعة هارفاد في الولايات المتحدة- وقد ترأس تحرير الدورية الاكاديمية البحثية الرسمية السودانية المعتبرة رسائل ومدونات Sudan Notes & Records-يجأر بان الانجليز اقدر من يحكم السودان بحق تقرير المصير. وكان رايسنر ينشر بحوثه حول تاريخ السودان القديم- وقد جمع ماداتها أثر الحفريات التي قام بها في المديريات الشمالية-فى رسائل ومدونات وكان قد اطلق فى 1909م على بدايات الاجتماع على شطوط نهر النيل جنوب الشلالات "جماعات الافق" غير المعرفة بسوى احرف ابجدية [116]Reisner s A.B.C and X Horizon Groups. وكانت جماعات الافق المذكورة تتاجر على النهر فى الذهب والاخشاب وسلع الادغال والصحراء والمنتجات المائية. و يعلم الله ما كان يقصد رايزنر باطلاق تلك المسميات على الجماعات النوبية و ما اذا كانت معاصرة للمجتمع الاسراتى حقا أم الاحرى سابقة عليه؟ هل كان رايزنر يستبق الوجود الحقيقى الموضوعى لاقدم حضارة عرفها التاريخ الانسانى فراح يعمش عليها باكرا لحساب الشمال؟ [117]
كان رايزنر يكتب فى جريدة نهضة السودان حول الاثار و تاريخ وادى النيل الى مبادئ العالم الحر و الديمقراطية و حق تقرير المصير. و قد الهمت جريدة النهضة فئات ومجاميع فلم تنفك أن اجتهدت بالاسهام فى تعريف مبدأ حق تقرير المصير بحسن نية أو-و سذاجة تاريخية فاجعة- بوصف حق تقرير المصير جسر الى الاستقلال السياسى-و ليس بالضرورة الاستقلال الاقتصادى-بديمقراطية التحكم فى المقدرات القومية فحرية استغلالها حلال على كل طير حرام على اهلها. ذلك أن حق تقرير المصير لم يكن موضوعيا مجعول لاكثر و لا اقل من تسليم السلطة لنظائر تشارف تنويعات على معظم قادة مستعمرات امريكا الجديدة فى افغانستان و العراق و كازاخستان وجورجيا وغيرها فى كل مكان فى درجات المقياس دون تسليم القوة الاقتصادية والعسكرية مما يفرز تنويعة انجلوامريكية على نظيرتها الانجلوساكسونية الباكرة للدولة "المستقلة". فقد كان حق تقرير المصير اختراعا امريكيا اشرع قلوعه ويلسون باكرا تحت ضغط أو/و بغواية تنويعات باكرة بدورها على المحافظين الجدد. و كان الاخيرون يقصدون بحق تقرير المصير لليهود بتوفير شرط اقامة دولة قومية لهم فى اسرائيل دون غيرهم مما بات تباعا و كأنه خصما على من عداهم.
ولعل امعان النظر فى أجندة تنويعات المحافظين الجدد حرى بان يقيض التعرف على تنويعات باكرة للاخيرين من القبالا وصولا الى تنويعات ماثلة كاليسوعوقراط. فاليسوعوقراط اخر صيحة فى توليف اجندة المحافظين الجدد والافانجليين المتطرفين بعدما باتت "التقية" تدفعهم الى التسترعلى تنويعة المسيحيين الصهاينة فتنويعات المحافظين الجدد الباكر سيدة "التقية" وأول من ابدعها وغذاها على مر التاريخ. وأزعم ان التنويعات الاخيرة تنتج بدورها تخريجات محلية مثل الخوارج الوهابيين و بعض طوائف الاسلامويين. وقد ادعى الاخيرون لانفسهم "سلطة الفتوي والقراءة الوهابية للإسلام عموما". وانتجت الاخيرة بخاطرها أو-و جراء فشلها أوربما نهاية دورها فى تحقيق اجندة اسيادها تنويعة "علمانية" متكاذبة تلتحف بعباءة ما بعد الحداثية وقد تخفت وراء التقية بدورها حين أطلق معتنقوها على انفسهم صفة الليبراليين الجدد سواء بالاستزلام أو/و بالعمالة المأجورة والاخطر فى بالتواطؤ على حق العالم قاطبة فى مصير أفضل. 
المهم كانت تبسيطية تعريف حق تقرير المصير حرية بان تخادع بعض وربما معظم الكتاب السودانيين. فقد أكد محرر صحيفة "حضارة السودان"[118] مثلا ان ليس ثمة رسول حضارة للسودان كالانجليز. فقد أغوى قاموس الاستحواذ المخادع معظم الكتاب على خلع تعريف على مفهوم حق تقرير المصير لا يتصل بحقيقة المفهوم الموضوعية تاريخيا و من ثم اسقط المفهوم على حركة الاستقلال. و قد تعين عدد حضارة السودان بتاريخ 7/8/20 مثلا على التخريج عن مبادئ مشروع ويلسون ذى النقاط الـ 14 مما لم يكن فى الواقع يعبر عن حقيقة المفهوم فاسقط الاخير على حل ما أسمته حضارة السودان ب "المسألة السودانية". فقد راحت فصائل سودانية تتخيل أن مشروع ويلسون لحق تقرير المصير "سانحة مناسبة لاختيار الانجليز دون سواهم لادارة السودان ، فهم أقدر من غيرهم"-المصريين بالطبع. و قد اقر ما سمى ب "المقالات الأربع الشهيرة" ان ليس سوى الانجليز ملاذا للسودان البازغ اذ "لا يسع احد ان ينكر أنهم أكفأ من ادار وساس أمة ، و أقدر من لا يخضع الهوى لسلطان الحق". ذلك ان الديمقراطية السودانية "و ليدة و هى بداءة ربيبة المجتمع البريطانى و لا أحق من البريطاني من ادارتها على ارضه و بين سكان مستعمرات الامبراطورية العريقة"[119]. و سوف تغدو المقالات الاربع الشهيرة لمجلة حضارة السودان تحليلا ناجزا ل "المسالة السودانية" و ما ترتب عليها وما اذ كانت المقالات بايعاز من الادارة البريطانية ام كانت واحدة من المنأورات الطائفية فى المسأومة على السلطة عشيه وبعد الاستقلال سفر تكوين حوار لم ينته ربما حتى اليوم ليس بين المهزومين بالسطو الاستحواذى على مقدرات العالم وحسب.
سفر تكوين خطاب الدمار الشامل و اعادة ترتيب التحذبات القديمة:-
تمثلت التنمية الاستعمارية فى مشروع الجزيرة ك"أفضل نموذج للتنمية الاستعمارية"- حسب تونى بارنيتBarnet  رغم انه لم يكن مقيض لها سوى ان تغدو محض أوهام تنموية.An Illusion of Development وقد تقابلت "تنمية" السودان ونشاط الرساميل العالمية فى السودان مع تطورات يمكن ملاحظتها فى احداث متتالية على نحو يكاد يكون فريدا. فقد ارسلت الولايات المتحدة ايد عاملة من الامريكان الافارقة الى السودان فى مبادرة تشارف ما حدث فى ليبيريا بغرب افريقيا فى 1821-22 تساوقا مع التركية الاولى الا ان المشروع لم ينجح تماما. وازعم ان تداعيات تلك التطورات تمثلت فى تنويعات انحلال الهيمنة الانجلوساكسونية الاقتصادية الاستعمارية فى السودان باكرا لحساب نظرتها الانجلوامريكية لا بقدر ماتعينت الاولى على السمسرة نيابة عن الثانية.
فقد جمعت رساميل استثمارية لمشروع الجزيرة بسندات و اسهم فى سوق المال العالمي فالفت تلك البادرة أولى اشكال الاستثمار الاجنبى متعدد الجنسيات و ربما ارهاص الشركات عابرة القوميات. و الواقع ان الشركات متعددة الجنسيات والرساميل عابرة القومية لم تكن اختراعا لاحقا لما بعد الحرب العالمية الثانية كما يعتقد البعض. فقد استثمرت البرتغال المفقرة رأسماليا والمتخلفة اقتصاديا واجتماعيا مستعمراتها فيما وراء البحار وبخاصة انجولا وغينيا بيسأو و جزر الرأس الاخضر وسان تومى والموزانبيق على الخصوص باموال بريطانية و فرنسية باكرا منذ القرن الثامن عشر وامريكية وجنوب افريقية منذ القرن التاسع عشر و تباعا. المهم كان النموذج الانجلو ساكسونى الانجلو امريكى المشترك ل"تنمية" السودان حري بان يتمأسس تنظيميا على:-
- مفهوم الحزبين الطائفيين الكبيرين اللذان لا سبيل الى وجود حزب ثالث امامهما وجودا حقيقيا و فاعلا و ليس وحسب واجهة مظهرية لما لا وجود له.
- مفهوم احزاب رأس المال الوطنى التجارى و الزراعى-الطائفى بالنتيجة-السابق على البرجوازية الصناعية.
- مفهوم احزاب الرساميل عابرة الحدود القومية أى ما يشارف احزاب الملك والكنيسة بوصف ان الاخيرين تنويعة على اصحاب الرساميل الباكرة أو/و سماسرة لحسابها. وقد تمثلت احزاب راس المال التجارى اكثر منه الاستثمارى التصنيعى الذى يخلق عمالة و ينعش الاقتصاد الى سماسرة راس المال المالى العالمى فى بعض احزاب الاسلام السياسى رغم ما يتبدى من تواجه المشروع المعولم و مشروع الاسلام السياسى الحضارى.
- مفهوم الوقت والحركة باكرا و قد ادخل على علاقات العمل "الصناعى" أوالتصنيعى وعلاقات الانتاج وقد استعارهما الاستعمار الانجليزى من امريكا.
- مفهوم التعنيت أوعمليات الانتاج المجزأ fragmented production processes والانتاج بالقطعة واقتصاد المفك screw driver economy
- عمليات انتاج السير المتحرك Conveyor belt وقد ادخلت فى انتاج قطع الغيار فى النقل المكانيكى و بخاصة السكك الحديدة بعطبرة مدينة عمال السكك الحددية فى السودان منذ ما بين الحربين كما ادخلت نفس العمليات مصر و الهند من بعد.
ومن المفيد تذكر ان المستر جيمس كري James Currie مدير المعارف السودانية كان يدير تدريب عمال المؤن بمصلحة العمل، بوزارة التموين البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى. و كانت اساليب العمل بالقطعة وانتاج السير المتحرك قد دخلتا بريطانيا منذ بداية القرن العشرين فى مصانع سيارات فورد فى 1906م. ثم استدعت الحرب العالمية الأولى نشر ذلك الاسلوب فى الانتاج الكبير. ولم يلبث المستر كرى ان اقترح وقام بتنفيذ وتيرة الوقت والحركة Time and motion ونظام السير المتحرك فى تدريب عمال ورش السكك الحديدية لصنع قطع الغيار. وكان نظام الوقت والحركة ويصدر عن توقيت حركة العامل و حركة السير المتحرك بجزئية السلعة المعينة فـ "يقتصد" فى وقت انتاج السلعة و من ثم تقل تكلفة الانتاج خصما على طاقة العمل الحى الانتاجية واجر العامل. وغنى عن القول ان الممارسات البريطانية كانت حرية بان تصدر عن الممارسات الامريكية بشأن التنظيمات العمالية وحزب العمال والحركة الاشتراكية الباكرة والحلقات الماركسية فى امدرمان بدءأ بالمؤثرات الاتية من مصر ومن القناصلة السوفيت فى الشرق الأوسط.
ويقول المستر كرى فى الطبعة الجديدة للجزء الثانى لمجلد مشروع جيمس كري للتعليم: أرشيف مركز التوثيق التربوي ، وزارة التربية والتعليم-جمهورية السودان الديمقراطية: 1968م انه تعلم "الكثير من مساعديه من الامريكيين ذوي التدريب والخبرة الأمريكية". وأزعم ان الاستعمار الانجلوساكسونى كان قد تواطأ باكرا مع نمط اللا انتاج الشمال امريكى The North American Mode ofNon-production- واعرفه واحلله فى بحث مستقل- بوصفه تنويعة مشوهة على البرجوازية الصناعية.فهو سابق على البرجوازية الصناعية ولم يرق الى نمط الاقطاع الشمال غرب اوربى. ذلك ان نمط اللا نتاج اشمال امريكي لم يرق الى ابعد من نمط الانتاج  العبودي و قد راح يكرس علاقات العمل العبودي بوسائل انتاج عالية التنقنية بصورة غير مسبوقة احيانا. و اجادل ان بعض الاكاديميين والاقتصاديين الانجلو ساكسون و الانجلو امريكان ممن عمل فى حكومة السودان امثال جيمس كري و جون ميلنر راحوا يصدرون فى سياسات ادارة السودان عن تكريس علاقات انتاج النمط الشرقي او الاسيوى. و لعله من المفيد الاشارة وجيزا الى تعالق نمط الانتاج  الشرقى او الاسيوى و طبيعة احزاب السلطة و المعارضة فى مجتمعات ذلك النمط فى تنويعاته الفطيرة او-و فى تحوراتها اللامتناهية. و اجادل ان ذلك النمط راح يتمأسس فوق:
- حق تقرير المصير مرة.
- هيكلة شرط نشوء الاحزاب السياسية فى افضل الشروط مرة اخرى.
وحيث كرس الحكم الثنائى مفهوم الحزبين الكبيرين فى السودان باكرا فقد ابقى الاستعمار على الاخيرين طائفيين يمثلان وسطية ترأوح عند تنويعات اليمين خصما على الوان الطيف السياسى بعمومه. و فيما يلى تعريف اجرائى لمفهوم الاحزاب السودانية:  
اعرف الاحزاب بوصفها كيانات و جماعات او منظمات لها زعامة معروفه و معرفة و قواعد معروفة و معرفة بدرجة ما. و لتلك الكيانات و الجماعات و  المنظمات ثقافة تخصها و يصدر عنها خطابها و برنامج و اجندة واحيانا رموز و شعائر ومن خصائصها التنافس فيما بينها على سلطة الدولة و-او على مراكز السلطة المركزية و المحلية. و تنشد تلك الكيانات الجماعات المنظمات الوصول الى السلطة المركزية أو المحلية او كلاهما لتحقيق برنامجها المعلنة وربما برنامجها الخفىة احيانا. وذلك بغاية احلال خطابها و برنامجها و اجندتها و ربما الهتها مكان نظائر الاخيرة فى الحزب المناظر اى الحزب الحاكم او الجماعة الدينية الايديولوجية المسيطرة على السلطة القائمة مثلما فعلت طوائف المعتزلة و الاشاعرة و تنويعاتهما على عهد كل من الخلافات الاموية و العباسية و الاندلسية و العثمانية و تباعا. و هكذا ففى صراعها الايديولوجى و التنظيمي مع الاحزاب الاخرى تسعى الاحزاب المعارضة او المساوقة الى احتلال مكان الاحزاب الاخرى و بخاصة الحزب الحاكم. و تكون الاحزاب سياسية او دينية او طائفية او عقائدية. 
ذلك ان ليس كل من يتنافس على سلطة المراكز المحلية او على سلطة الدولة  عضوا فى حزب او منظمة او طائفة او جماعة معلنة. فثمة كيانات و مجاميع و طوائف و حزاب غير معلنة متسترة احيانا الا ان لها نفس خصائص الاحزاب السياسية او الدينية المعلنة. و قد ترتقى تلك الاحزاب السرية الى مواقع السلطة و قد تستولي على السلطة الا انها لا تعلن عن هويتها الحقيقية ابدا.
مثول الامركة فى السودان و افريقيا باكرا:-
لم يكن السودان فى الخاطر الامريكى بعد الاستقلال وحسب وانما كان كغيره من المجتمعات الافريقية جنوب الصحراء حريا بان يغدو منذ بداية القرن العشرين مبعث طمع امريكى فى القارة البكر الغنية. فقد كانت تلك الثروات تسدعى تجليات مستقبل واعد لـ "التقدم" الغربي و لم يستوطن افريقيا بعد سوى محض حفنة من البيض. ولم يكن ما فى باطن الارض الافريقية من المعادن النفيسة والسلع الاستراتيجية من الماس واليورانيوم والذهب الى النفط بخاف وكانت تكنولوجيا التنقيب و جواسيس الفضاء قد راحت "تكتشف" ما فى جوف الارض باكرا و قبل الاعلان عن النفط تلك السلعة الاستراتيجية بهذا الوصف. وكان النفط النيجيرى مثلا معروفا للكافة قبل خروج الانجليز من السودان واستقلال نيجيريا. وقد صرح سير جيمس روبرتسون فى لقاء ببيته بتشولسى Cholse باكسفوردشاير فى 1980م حول بحث كنت اقوم به انهم كانوا "يتندرون بوجود النفط النيجيرى باكرا وقبل الاعلان عن "اكتشافه".
وكان جيمس روبرتسون يشغل منصب السكرتير الادارى فى السودان أى بمثابة وزير الداخلية وقد بات الحاكم العام لنيجيريا فى 1965م بعد خروجه من السودان. هذا وحفرة النحاس احدى مدن دارفور كما ذكرنا فى مقال سابق اسم على مسمى وربما اقدم من وواشنحتون ليست وحسب مستودعا للنحاس وانما لحزام اليورانيوم ويمر باقريقيا الوسطى فالنيجر حتى الكنغو «زائير» وقد اعتمدت امريكا فى صناعة قنبلة نجازاكي وهوريشيما وغيرهما على يورانيوم افريقيا كما اقحمت يورانيوم النيجر تكاذبا فى التذرع بغزو العراق. المهم تبقى الدول المذكورة ونظائرها مع ذلك اشدها استهدافا للافقار بمحض ثرواتها الطبيعية. وكان الغرب قد جأر مع المستعمر الفرنسى بيير دى لا بيريه فى 1892م وقد تحركت فى صدره خفافيش الضغينة على برابرة يجلسون فوق ارض بلا صاحب و ثروة حيوانية عظيمة انه "ان نترك شيئا يحول بيننا وبين الثروة والعمالة المتوفرة ان هو جرم بحق الحضارة الانسانية".
ولم ينفك الفرنسيون أن دسوا حشرة فتاكة أودت بنبات التين الشوكى الذى كان سكان مدغشقر الاصليون يعتمدون عليه غذاء لهم و لقطعانهم العظمية فلم يلبث سكان الجزيرة ان هجروا قسرا وقطعانهم و قد حلت بينهم مجاعة غير مسبوقة. فالاستيلاء على البقر والارض وتسخير الايدى العاملة فى اراضى المستوطنين الى تسهيل جباية الضرائب للحاكم تعريف حرفى للتقدم الغربى فالحضارة الغربية. وبالمقابل ما ينفك سكان افريقيا الاصليين ينقرضون بمعدلات فلكية بالايدز ومرض النوم والملاريا استباقا لتناقص الموارد غير المسبوق.
السودان نصب عين امريكا:-
تقول طرفة راجت فى خمسينات القرن العشرين ان رئيسا امريكيا-لعله ايزنهأور- دعى بعض المحاربين القدامى و طلب من احدهم التطوع بالقيام بقصف السودان. و ذهب الجنرال المتقاعد فى المهمة فطار فوق العطمور الأول-بيداء جرداء فيما خلا مجرى النيل ما بين الشلالات-و فوق الثانى و عندما وصل الرابع عاد ادراجه فلما سأله الرئيس ان كان انجز المهمة رد الجنرال نعم يا سيدى فقد وجت السودان مدمرا. I found it bombarded sir. . ورغم ذلك فقد بذ السودان دول امريكا اللاتينية فى الانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية بالمقابل حيث شهد السودان فى عام واحد ما يقرب من 13 عشر محأولة انقلاب عسكري فاشل وانقلاب ناجح وانتفاضات شعبية أودت بانظمة عسكرية اصابت امريكا بالخشية على افريقيا جنوب الصحراء. ولم يكن السودان مدعاة تطيير امريكا وحدها وانما مصدر ضيق جيرانه شرقا وشمالا. ورغم ان السودان بقى المجتمع العربى الوحيد الذى اندلعت فيه انتفاضات شعبية أودت بانظمة عسكرية الا ان المنظرين والمثقفين العرب يتجأوزون هذه الحقيقة-كما يقول الابن نزار عتيق ضائقا بتجاهل العرب للسودان- فيجأرون جزعين وقد روعهم غياب أوتغييب العمل الشعبى أويائسين من العمل الشعبى.
المهم ما تبرح امريكا تضع السودان نصب عينها لاكثر من سبب فمن ان السودان حوش مصر الخلفى الى موقعه من منطقة البحيرات والانهار الاقريقية العظيمة زيادة على حجمه الخرافى و ثرأواته الاسطوية وقد بقيت ثروات السودان مثل كهف على بابا أو-و الكنوز المسحورة مكنونة يحرسها الجن من وراء المسافات و الادغال منذ قديم الزمان. وفوق ذلك فامكانات السودان الزراعية كانت تدفع للجزم بأن البطانة مثلا قربة ماء ما ينفك ينسكب بليل يسقى الزرع و قد بذره الجن فلا حاجة للفلاحة الا بقدر ما يحصد اصحاب الحيازات وفير الحبوب و الفاكهة الخ كل موسم بلا جهد انسانى على الاطلاق. وكانت البطانا الى ذلك موطن بعض شرائح السلطة الاسراتية المروية وكانت مروى تشمل الى ذلك صحراء كردفان و قد اكتشفت حديثا ثورة حضارية عظيمة فى عشرات القرى الاثرية و الاهرامات الباهرة على مشارف الخزان الجديد بالقرب من مروى. و يستدعى حاصل جمع تلك التجليات المخبوءة والظاهرة السطو الذى تبدع فى تسويغ مبرراته امريكا ومن وراءها شذاذ افاق المسحيين الصهاينة الخ الخ. فأى ادعاءات اجدى بتصويغ السطو على غنائم سودان مفتوحة حدوده على 8 دول و تترامى اطرافه فى الانحاء من العون الانسانى و كأن امريكا مؤسسة خيرية يؤرقها انتهاك حقوق الانسان؟
كانت امريكا بعدما افتضحت سيناريوهات التنمية والاصلاح...الخ تعينت على الاستباق الدفاعى سوى ان الاخير لم ينتج الانتصارات العسكرية والمكاسب الاقتصادية المطلوبة الا ما خلا بطولة النفر جيسيكا لانج وارباح هاليبيرتون بثمن باهظ على دافع الضريبة الامريكى فلم تلبث امريكا ان راحت تعد الاضاحى الماثلة والمقبلة كما الشياه للسلخانة بالابتزاز من الافراد الى الحكومات بملفات انتهاكات حقوق الانسان. وقد استدرجت بعض الحكومات للعصف بالمعارضات وبشعوبها بترخيص محاربة الارهاب. فليس اشد وظيفية من الطغاة وقد بارت تجارتهم فى تسويغ ضربهم وشعوبهم دفاعا عن الشعوب. وكان احد المفأوضين فى اتفاقية سلام ما قد عاند بشأن توزيع مراكز السلطة فلم ينفك ممثل امريكا ان هدد المذكور باخراج ملفه الخاص بانتهاكات حقوق الانسان وغير ذلك مما تورط فيه المفأوض المذكور بغض طرف و ربما بمعرفة الاستثمارات الامريكية. ولم يكن الملف فى البنتاجون على غرار الساعة الخامسة والعشرين وانما قرص مدمج CD محفوظ مكنون سلفا بجيب حلة ممثل امريكا السفارى.
                 وسوف تهدد أمريكا السودان باخراج ملف الانتهاكات التى ارتكتبها الحكومة وتلك التى لم ترتكبها مقابل الازعان للعقود المرغوبة بدون حملات حرية أومشروع دمقرطة ولا تمكين المرأة السودانية وأى امراة تقصد امريكا؟ هل اقليات النسووقراط أم غالبيات منتجات الكفاف والحياة الأكثر مع ذلك "تمكنا" من الامريكيات انفسهن. و فيما ادركت أن امريكا دبابات ابرامز 8 أو رؤوس الصواريخ المنضبة والقنابل العنقودية مكلفة وغير مضمونة العاقبة ما انفكت امريكا ان راحت توصف اسلوب ادارة الخراب بالرموت كونترول ويتألف من فبركة خصوم و اعداء و منقلبين و مرتزقة و طامعين و واهمين فمصدقين لوعود الاستخبارات الامريكية من التنويعات الماثلة على حاكج كرزاى و كنعان مكية و احمد الشلبى و غيرهم. و يدرك السودان بالمقابل تباعا ضعف شعبيته بين دول الجنوب و الشرق و الغرب و الشمال الافريقى على الخصوص.
 
 
المبحث الرابع:
الفصل : السودان مستعمرة استثنائية فى مناخ الاستعمار المتردد والكلاسيكى:-
يسجل الادب الرسمى لامتدادات الامبراطورية البريطانية التجربة الاستعمارية للسودان بوصفها تجربة نموذجية. و مايبرح بعض مؤخى السودان يردد هذه الاحبولة غير القابلة للاثبات الا بقدر ما يتعين الباحث على طرق الاباب الكشرعة و كفى الله الباحثين شر الجدل ناهيك عن القتال تطلبا للحقيقة. لا اذكر من الذى قال و ما اذا كان ثمة من قال الا اننى ازعم ان اهم ربما كان افضل ما قد يقوم عليه بحث هو اثارة اسئلة اكثر من العناية بالاجابة على اسئلة. فثمة من يتعين على الاجابة على نحو نمطى على اسئلة نمطية. ولا يفارق طلاب السلا مة هؤلاء سبلا مناهج مطروقة استهلكتها وطأة وثقل وقع أقدام المسافرين ممن يطلب سكة السلامة الفكرية تلك وقد ضمنها له من سبقه فوقها.
المهم فورا كان لوجود حكم ثنائى اثره فى صيرورة السودان مستعمرة استثنائية بمعنى أن طاقمى الحكم الثنائى كانا حريان بان يتنافسا فيما بينهما وقد يتباريان حول  "تعمير" السودان على نحو بقى مدعاة للتأمل والجدل معا. فقد  كانت مصر قد اغدقت على السودان ميزانية و رجالا من ناحية ومن ناحية اخرى تعين الانجليز على تكريس افضل ما لدى الامبريالية من اشكال الادارة الاستعمارية. من ناحية اخرى و لم ينفك اعضاء الادارة البريطانيين ان اخذوا يتعاملون مع السودان بوصفه "اقطاعية" تخصهم و قد استقلوا كما ذكرنا عن كل من وزارة المستعمرات و الادارة المدنية البريطانية. فقد انشأت كلية غردون فى 1902 بعد بضعة سنوات وحسب من الفتح و مدرسة الطب فى 1925 و الكلية الحربية بعدها و تخرج فى تلك المؤسسات مئات السودانيين. و قد انشأت حكومة السودان ورش لانتاج قطع الغيار وغيرها فى السودان وقد انتجت تلك الورش 164 الف عامل مهنى ماهر فى عشرينات القرن العشرين[120]. وقد ترتب انه عندما استقل السودان كان قد توفر له كادرا معتبرا فى كافة المجالات من الطب الى الخدمة المدنية نموذجية و سلك دبلوماسي زاعت كفاءته فى كافة افريقيا و حركة عمالية تعينت باكرا على تنظيم حزب يخصها باسم حزب العمال السودانى باكراو قد شارك فى ثورة 1924. و كانت الحرب العالمية خلقت بدورها اسبابا لتنمية السودان من زراعة القمح لقوات الحلفاء حيث اعطيت للسيد عبد الرحمن اراض وعطاءات لتزويد القوات بالقمح. ذلك ان امريكا كانت تزود الحلفاء بالسلاح والمؤن فى اعالى البحار فيما حوصرت السفن البريطانية دون الشواطى الاوربية.
فقد كانت كانت البرجوازية البريطانية قد عبرت مجتمع الاحداث الفيكتوري الفج و اشرفت على عشية المجتمع الادواردى Edwardian المدعى حين رفع كرومر العلم البريطانى الى جوار العلم المصرى اعلانا بقيام الحكم الثنائى على السودان. وقد بقى معظم أعضاء حكومة السودان وبعض الأكاديميين الانجلوساكسون يزعم ان السودان ألف تجربة "نموذجية" "التنمية" الاستعمارية من حيث "تحديث" الاقتصاد بربط مشروع الجزيرة بالسوق العالمي وخلق مؤسسات تعليمية و سياسية و قضائية حديثه الخ. وبالمقابل يتجاهل الاخيرون إعادة حكومة السودان هيكلة المجتمع السوداني اجتماعيا وسياسيا وفكريا على نحو يتناقض وادعاء تحديث السودان بصورة ينتفي فيها التحديث. فقد كرس الانجليز تنويعة تقليدية لكل ما تعينوا على تحديثه قشريا. وفيما كانت التنويعة التقليدية حرية بان تغدو باكرا جنينا قابلا للنشوء الى ما اعرفه بما بعد التقليدي فقد كرست مظهرية نظيرتها الحديثة وقابليتها للضمور وصولا الى ما يشارف الفناء. وكان السودان قد وفر للانجليز أفضل مختبرات التجريب الامبريقى على "التنمية" الاستعمارية "المستقلة" إن صح التعبير بمعنى استقلال معظم سياسات التنمية الاستراتيجية عن ثقل البروقراطية المركزية في الوطن الأم نسبيا[121].
و كان على تلك "التنمية" أن تستوعب أوتستوعب فى مقياس تاريخي وسياسي مدرج من المسارات الفكرية والثفاقية والتنظيمة المتعاقبة التى مر بها السودان واستوعبها بدوره أو/و استوعبته أوتبناها وتأقلم معها أورفضها وواجهها بأشكال الرفض والمقأومة انتهاء بالثورة عليها. وقياسا يصح القول بان السودان يوفر مرة ثانية مادة أولية غنية وخصبة للبحث كون السودان كان حقل تجارب وتجريب لسياسات استعمارية وما يبرح حقل تجارب استعمارية لاحقة. ويوفر السودان مرة ثالثة كوى على التحولات التي تمت في الإمبراطوريات السابقة على الرأسمالية الصناعية في أفريقيا عموما و السودان منذ ما سمى بعهد الهمج على أواخر سلطنة الفونج. فقد اتصلت الاخيرة وبداية الاستعمار غير الرسمي أوغير المعلن Informal . ويختلف الاخير عن الاستعمار الكلاسيكى بوصفه قد نشأ بتنويعاته الاستيطانية و باقامة سلطة المستعمرين على الشعوب المستعمرة بآليات امبريالية معلنة يقف وراء سلطها هيلمان الامبراطورية و هولها. و قد مهد لامبريالية  شركات خاصة و افراد من المغامرين والقراصنة كشركات الهند الشرقية ب"بفتح" كوى تجارية وتكريس مصالح سياسية دينية تمهيدا لرفع أعلام دولهم.
وكان الاستعمار غير الرسمى يعتمد على الحشد التجارى والمصرفى والعسكرى ان دعى الحال عند الموانى فى محطات و قواعد مشبوهة وبتحالفات مع السكان الاصليين مثلما حدث فى افريقيا ابان تجارة الرقيق العبر اطلسية الى أوربا والعالم الجديد و فى شبه الجزيرة الهندية و جافا وجوا البرتغالية و غيرها. ولم تلبث تلك المحطات و الموانى التجارية ان باتت آلية التوسع وقد قيضت التحالفات المشبوهة مع زعماء و ملوك السكان الاصليين ودفعهم الى الاستدانة والانفاق التفاخرى حتى الخراب املاقا بلا فكاك سوى الازعان لشرطيات الدائنين. وقد تعينت تلك الجماعات و الافراد على ترويع السكان الاصليين ليس وحسب ينهبهم و انما بانتزاع اسرارهم مثلما فعل "المكتشفون" البرتغال وقد اختطفوا احد ابناء ابن مازن. وكان الاخير من كبار رجال العشائر الافريقية المسلمة وأكبر ملاح فى شرق افريقيا وكانت فدية الابن اجبار ابن مازن على الادلاء بالطريق الى الشرق الاقصى. وكان جبل المائدة هو طريق التجارة الاسلامية. ولم ينفك البرتغاليون أن انقلبوا على سواحل افريقيا الشرقية ومدن جنوب شرقى اسيا و نهبوها.
وقد فعل سيسل رودس  Rhodesوغيره من المغامرين نفس الشئ مع رؤساء قبائل افريقيا من روديسيا الشمالية الى ملوك و سلاطين الزولو فى جنوب افريقيا. و قد يسرت تلك الممارسات لبريطانيا مثلا استدعاء مفهوم الامبراطورية. وكان بنجامين ديزرائلى مستشار فيكتوريا المفضل وصفيها ورئيس وزرائها-و قد باتت شبه القارة الهندية شبه رهينة لممارسات مماثلة مع ملوك المغول-قد أغوى فيكتوريا على اعلان نفسها امبراطورة على الهند باحتلال البنجاب فى 1849م. كما أوعز ديزرائيلى للملكة بحرب القرم على العثمانيين وشراء اسهم فى قناة السويس. وكانت مجاميع قراصنة-شركات الهند الشرقية-نيابة عن طلائع و بتمويل البرجوازييين الصناعيين البريطانيين والهولنديينن والتجار والمغامرين والباحثين عن المجد أو توطيد ذواتهم من شذاذ الآفاق والمعوقين اجتماعيا ونفسيا- قد تعنيوا على تكريس شرط تلك الاستراتيجية. وكان معظم الاخيرين يتسولون اقرارا ماديا وذاتيا وكان ممولوهم يستدعون استراتيجيات ابعد من الربح و الشهرة. وكانت منظومة القيم الفيكتورية الصارمة اخلاقيا مظهريا قد دفعت انغال ومثليين من نوع غردون وكتشنر بوصفهم تنويعة مجددة من العبيد المعتقين لخدمة الامبراطورية بغواية "شراء" أسماء والقاب النبلاء والحاق انفسهم بالمؤسسة الرسمية وحتى بتيسير سلالات ارستقراطية بالتناسب مع الاخيرة.
وبالمقابل كان المبشرون الكاثوليك والإنجيليين-طائفة من البروتستانت تصدر عنها الكنيسة الانجلزية و قد تفرعت منها الاقانجلية الانجلو امريكية المغالية- وقد تحورت الى ما يسمى بالمسيحية الصهيونية Judio-Christianity التى نعرفها-يقيمون الاساس النفسى والذهنى للثقافة الاستعمارية تصويغا للتوسع اللا مادى الرأسي منذ القرن الثامن عشر تمهيدا للفتح والتوسع الافقى. وقد بات بعض المبشرين بدورهم بناة وأعمدة الامبريالية من بعد. ولم ينفك الاستعمار المتردد Reluctant Colonialism ان راح ينشط فى الاستحواذ على اقاليم ما وراء البحار ب"حق" الفتحRight of Conquest .و قد ادى الاستحواذ بما يسمى الاستعمار المتردد الى نشوء الامبراطوريات فيما وراء البحار. و كان حق الفتح حريا بان يسوغ استراتيجية ما سمى بالتدافع نحو أو على أفريقيا scramble for Africa . كانت غايةالاخير استشراف اصل الانسان بما يمكن أن يعرف من اسفل فى مفهوم "متحف تاريخ البشرية The Museum of Human History " بحق الفتح. فقد كانت نظريات النشوء والارتقاء قد اندلعت بحثا عن اسلاف الانسان الأول من القردة و موطنها أفريقيا. فقد استكثر على الافريقى ان يكون الانسان الأول فجد البشرية. وكانت الحركات التبشيرية بالمقابل على اشدها كما ذكرنا فى مكان اخر. وقد نشط المبشرون فى "انقاذ" ارواح الافريقيين من الكفر فالارتقاء بهم-حتى الموت-من التوحش والوثنية الى مصاف البشرية وعالم النصارى ثوابا فى الرب مما اناقشه تحت عنوان مناخ الاستعمار المتردد و الكلاسيكى فى مكان اخر. فقد تعاصرت كل من النظريات والافكار والحركات وانتشرت المصدرات العنصرية "العلمية" فى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين جنبا الى جنب مع الحماس التبشيرى منقطع النظير مما لا يكافؤه سوى نظيره الافانجلى الانجلو امريكى فى مناخ مشروع القرن الامريكى الجديد و قد تزامن الاخير ومشاريع ارتياد النجوم و الكواكب اقتحاما و استعمارا للفضاء بالعلوم و ثورة المعلومات غير المسبوقة بدورها.
وكان الاستعمار المتردد قد راح يخترق السودان تباعا منذ نهاية القرن الثامن عشر على الاقل بتغلغل التجار الأجانب في اقتصاد سلطنة الفونج خلسة والرحالة و المغامرين[122]. ولم ينفك الاخيرون ان شارفوا سلطة داخل سلطة سلطنة الفونج على أواخر ايام عزها و قد تحورت بعض اجزاء الاخيرة الى ما يسمى مملكة الهمج. و كان الوزير الأول قد بات حاكما فعليا متنفذا غير معلن فى السلطنة عشية اجتياح التركية الأولى لسلطنة الهمج نيابة عن المصالح الاجنبية. و من المفيد ملاحظة ان كيانات محلية او اقليمية غالبا ما تتمثل فى التاريخ غير المكتوب ان امعنا النظر و كأنها تتحور الى آليات استعمارية بالوكالة عن المصالج الاجنبية. و يلاحظ ان تلك الكائنات او اليات الاستعمارية المحلية او الاقليمية كانت تنويعات ما تبرح نظائرها ماثلة فيما يسمى ب "الدول الشبه استعمارية" Sub-Imperialist states مما كانت الامم المتحدة قد تعينت على تعريفه على المستوى الاقليمى. ذلك ان مصر محمد علي كانت قد بدأت تتحور نحو تنويعة باكرة على اللوجيستات الاستعمارية الاقليمية داخل الخلاقة العثمانية و خصما عليها. وكانت مصر قد الحقت نفسها بصورة غير مباشرة بالمشروع الامبريالي البرجوازى الصناعى خصما الامبراطوريات السابقة على البرجوازية الصناعية كالخلافة العثمانية. ومن الجدير بالتذكر أن منتصف القرن التاسع عشر وعام 1848م تحديدا كان قد تعاصر وانهيار العروش الأوربية الغربية جراء انتفاضات شعبية وثورات متعاقية ومتطابقة فى مواجهة امبراطورية النمسا وايطاليا و المجر مما اذكره فى مكان اخر. وقد استعدى بعض ملوك وامراء و حكام اقاليم تلك الامبراطوريات على العروش الامبراطورية لقاء وعود بالاستقلال أو-و توسعات نسبية أوما شابه.
وقد راح محمد على مثلا ينافس الاستانة بالتوسع فى الشام والجزيرة العربية بحيث اتصلت الحروب المصرية العثمانية بايعاذ من بريطانيا طوال اعوام 1824-1832م أى بعقد اتفاقية لندن فى 1832م. وكان محمد على وقد وعدته بريطانيا بالاستقلال مسبقا فاستقوى بتلك الوعود وتوجه نحو التوسع فى السودان منذ 1821 و 1822م ولم يكن السودان ولاية عثمانية بل كان يصك عملته ولا يدفع خراجا ربما منذ معاهدة البقط وان بقى يتاجر مع الشمال مثلما مع الشرق عبر البحر الاحمر...الخ. وقد استبق التوسع العسكرى المعلن كالعادة بممارسات نمطية مثل الحصار الاقتصادى واختطاف الصفقات التجارية والتسلل أوالاختراق والتخريب المالى وخلق شرط التضخم مع اتساع نشاط التجار الاجانب الواقدين من الشمال. ذلك انه حين وصلت قوات التركية الأولى ابواب سنار "كانت اشجارغابات سلطنة الفونج الكثيفة قد قطعت وتداعت قصور السلطان وبات الملك ضعيفا يرتجف توترا وقد غدى رهينا للوزير الأول وكان الاخير من الهمج. ومن المفيد تذكر ان تنافس التجار الصوفيون مع السلطان على تجارة القوافل العالمية وتجارة العبور وجمع الضرائب واستلاب الخراج وعلى المسايل والمراعى وعلى الآبار الخ كان بدوره قد راح يخصم على قوة السلطة السنارية فراح ينحت فى جدران صلابتها على نحو نحأول تحليل قسماته فى مكان اخر.
صحح الى هنا صباح 31 مارس 2010
المهم لم تنفك تلك الممارسات ان راحت تفعل فعلها فى السلطنة السنارية تباعا. وليس صدفة أن تتحول السلطنة إلى ما يشارف المحارة الفارغة اقتصاديا وقد استبدل المجيدى بريال ماريا تريزا وهو عملة فضية كانت مستخدمة فى الامبراطورية النمساوية منذ القرن الثامن عشر وانتشر استعمالها واستمر حتى نهاية ستينات القرن العشرين فى المجتمعات التى لها عمله وتلك التى لا عمله لها من الشرق الاوسط و الجزيرة العربية والسودان وشمال اليمن وغيرها. و قد راح الناس يتقايضون بذراع القماش في الدامر وسواكن وكانت الاخيرتان مدنا ومواني تجارية و مراكز عامرة بالتبادل مع شمال أفريقيا وعبر البحر الأحمر على التوالى حتى اجتياحها بعض التجار الصوفيين مع ظهور نماذج مثل الحاج عيسى و ابنه حمد بن عبد الله و غيرهما[123]. ذلك ان اخر سلاطين الهمج محمد ود عدلان وهو وريث سلاطين الفونج-غريم بعض التجار الصوفيين و العبدلاب. ذلك ان السلطان كان قد بات كما يحدث فى مناويل صعود بعض حاشية السلطان الى سدة السلطة باسمه و نيابة عليه و خصما عليه لم يلبث ان بات رهينة لوزيره الأول أبو لكيليك. و كان الاخير قد سيطر على السلطنة حتى بات المفأوض الأول و الأخير ليس و حسب فى العقود والمعاهدات وانما غدت سلطته بحيث باتت سلطة السلطان محض سلطة متخيلة أو افتراضية Virtual من حيث البت فى امر او تقرير مصير الفوج. فقد كان الوزير الأول أبو ليكيليك هوالذى تفأوض مع قوات الفتح المصرى التركى الأول بشأن شروط التسليم والحماية نيابة عن السلطان[124]. وكان الخيار الأوحد امام الملك عدلان وابناء عمومته هو التفأوض على الاستسلام[125]. وكأنه الامبراطور هيروهيتو عشية نهاية الحرب العالمية الثانية.
فعندما دخلت قوات محمد على سنار لم يكن قد بقى من الفونج سوى تنويعة شائهة عليها تسمى دولة الهمج تزويقا لسلطة "غير شرعية" أو سلطة من اسميهم بالعبيد المعتقين أوالمقاتلين وربما لسلطة منشقين عن السلطة الشرعية في سنار. و كان الهمج قد جعلوا عاصمتهم خارج سنار في "لولو" ابان التنازع على السلطة المركزية فبعيدا عن فضاء نفوذ الدولة المركزية القانوني والإداري. ولم ينفك الهمج ان استولوا على الدولة المركزية السنارية. ولأن تلك الدول المنشقة غالبا ما تكون ضعيفة وغير قابلة للحياة مثل خديج أو جنين مجهض الا انها تضعف بدورها الدولة المركزية ايضا. فلم يكن قد بقى للسلطان سلطة حتى على تعيين أمناء السوق و قد استقطب الوزير الأول السلطة فاحتكر عقد المعاهدات و الصفقات السياسية و التجارية الى تعيين متنفذى الدولة حتى بات مركز الجندي ودوره ملحقا بسلطة الوزير و الجماعات الأجنبية الوافدة على سنار و قد راحت الاخيرية تخترق بدورها شرائح السلطة السنارية المركزية. و بامعان النظر فمنوال قيام و سقوط السلطنات و الممالك الكبرى يتكرر على مر تاريخ مجتمعات المستقرين. وثمة قياس على سلطنة الفونج فى قيام و سقوط امبراطورية المغول فى شبه القارة الهندية و فى تنويعات الرجال اللذين تسببوا فى سقوطها و ايلولتها مستعمرة ضعفية مقسمة.
مناخ الاستعمار المتردد و الكلاسيكى فى السودان:-
ازعم ان أوربا ما تنفك تمر على مر تاريخها غير المكتوب على الخصوص بمراحل و اطوار فكرية وتنظيمة دائرية تكرسها اطرا فكرية-باراديجمات–فصلية موسمية تعود بدورها الى نفسها مرة و الى ما يبدو مغايرا لها فى كل مرة فيما قد يشارف الحلقة المفرغة تماما. ذلك أن تلك المراحل قد يفضى بعضها-التحور من البرجوازية الصناعية الى الرأسمالية ما بعد الصناعية الى ما يشارف تنويعة على الاقطاع الآسيوى أوالشرقى اكثر منه الاقطاع المسمى شمال أوربى-ما قد يشارف مربع صفر مجدد فى كل مرة. ورغم ان تلك التحورات تتخذ لها مسميات القة وقد تأخذ باللب الا انها تبقى زائفة ومخاتلة على نحو يدعو للدهشة حقا. على انه من المفيد تذكر ان الفوارق التى قد تتبدى وكأنها نشوءا على ما سبقها حرية بان تعبر اكثر ما تعبر عن التنافس على الموارد مع تفاقلم انهاك الموارد فى كل مرة عن سابقها. ففيما بتسابق اناس على ارسال مراكب الفضاء الى الكوكب و الاقمار فان مستويات معيشة الشعب الامريكى نفسه تتدنى على نحو غير مسبوق ناهيك عن معدلات افقار أغلبيات شعوب العالم قاطبة[126]. وقياسا على "التقدم" أو التطور "العملى" وأفقار أغلبيات الناس فى كل مكان فان الغرب يراوح ايضا بين التطرف الدينى وصولا الى التطير و الخرافات و بين العلمانية المدعاة مما اناقش تمثلاته فى مكان اخر. فقد رأوحت أوربا الغربية مثلا بين الوثنية والتطير الى ما اسمته العلمانية و ما تنفك تنكض الى عبادة الشيطان و الاضاحى البشرية فى الاطفال والاجناس الاجنبية سواء كان ذلك بالمحرقة أوبقانون الامن القومى. وقد رأوحت أوربا بين الاعتقاد فى أو التصديق بوجود الارواح والشيطان والايمان بالمادية. وكان الايمان بالمادية يعنى فيما يعنى الكفر بالروحية فبالرب. وكان مناخ الاحباط والشدة فى القرن الخامس والسادس عشر مثلا-من انتشار العطالة والأوبئة والحروب وهجرة الناس- وبخاصة يهود الاندلس والسفارديم تعينا- من كل مكان الى كل مكان داخل أوربا من جنوب غربي أوربا ومن شرق أوربا الى شمال غرب أوربا فرنسا وهولندا والمانيا وبريطانيا على الخصوص-قد انتج كمياء التطير و العصاب العام والخاص. وقد منيت أوربا باحداث متسارعة على مستوى العروش صبيحة سقوط غرناطة والاكتشافات الجغرافية الكبرى كما شهدت تلك الفترة ايضا الانقسامات فى الانقسامات الطائفية من المسيحية الى طوائف اليهود و ظهور الطوائف المنشقة عن الكاثوليكية من البروتستانتية و تنويعاتها مثل الكويكرز. وكانت الاخيرة و الجزويت قد باتت ملاذا لبعض مفكرى اليهود المرتدين امثال ديفيد ريكاردو 1772-1823م وكان الاخير أحد الاباء الأوائل للاقتصاد الحديث و "مبادئ الاقتصاد السياسي للضرائب" The Principles of the Political Economy of Taxation وكان يهوديا اعتنق المسيحية الغربية-فانضم الى طائفة الكويكرز Quakers وراح و صديقه و منافسه فكريا الاقتصادى والديمغرافى توماس روبرت مالتوس 1766-1834م يروجان لنظرية السكان و"التجارة الحرة". وقد غدى ريكاردو ومالتوس من أهم النشطاء فى وضع وتشجيع سياسات التجارة الحرة بوصفهما الجيل اللاحق لادام سميث و كان بدوره محصل ضرائب استكتلندى نادى بنظرية "حرية التجارة" فى مؤلفه "ثروة الامم". وبالمقابل فقد فاقم انقسام الطوائف الكاثوليكية على الكنيسة حالة العصاب العام فيما انتشرت طوائف مشبوهة وغير معرفة وبات المناخ العقائدى الأوربى ينذر بتحولات كبرى فى صفوف رجال الدين وكبار اللاهوتيين و المفكرين و المثقفين جميعا.
وكانت تداعيات كمياء حراك الناس و الافكار العنيف حرية بان تنذر المثقفين والمفكرين والشعوب جميعا بعدم استقرار غير مسبوق. وفى نفس الوقت استقطب ذلك المناخ المثقفين الفرنسيين مثلا بين الكنيسة وطائفة الهيوجنوتس كون الاخيرين معنيين بالقضاء على الكاثوليكية. وكانت الاخيرة تتهم الهوجونتس و كل من يتعاطف معهم بتدمير المجتمع والحضارة الفرنسية. ومع الحاح كيمياء التطير من كل شيء ومع انتشار الصراع الدموى بداءا بمذبحة القديس بارثولوميو وحروب الانجلوساكسون العرقية ضد الشعوب الكيلتية فيما يشارف الابادة العرقية وقد اتصلت فى ايرلندا منذ الحرب الاهلية الانجليزية بقيادة كرومويل على تشارلز الأول حتى اتقافية الجمعة الحزينة فى 10 ابريل 1998م وابادة الاقطاعيين الانجليز للفلاحين الاسكوتلندين فى القرن التاسع عشر.
و قياسا فرغم ادعاء عصر النهضة وربما بسببه-الا أن معظم المثقفين الأوربيين بقي يعتقد فى السحر منذ عشية مذبحة سانت بارثولوميو حتى نهاية القرن التاسع عشر وربما تباعا. فقد انتشر الاعتقاد فى السحر و الشعوذة بين ارقى الناس مستو-رغم وربما بسبب ما يسمى بالنهضة وصولا الى التنوير والمبدأ الانسانوى...الخ.
وقياسا بقى بعض فلاسفة و مفكرى القرن الثامن عشر يعتقد فى السحر والشعوذة جراء تداعيات القرن السادس و السابع عشر مما تمثل فى الحروب الدينية والانقاسامات وانقسام المذاهب فى و الانقسام فى الانقسام وتذبذب المفكرين بين الكنيسة و العلمانية و بقاء الاخيرة غير معرفة حتى اليوم. وقد يفسر ذلك فيما يفسر جاذبية قبائل النوير لدى رادكليف برأون وقد صنع لنفسه امجادا بانثروبولوجيا السحر النويرى الافريقى.
 و قياسا فقد كان التطير والخرافات قد استقرا كما نحاول الاشارة اليه ايجازا فى مكان اخر فى اعصاب مسيحية الانجلوساكسون رغم "التقدم" العلمى والتطور التكنولوجى ابان الثورة الصناعية و تباعا. و كان المغامرين والرحالة والمبشرين الى أعضاء الادارة البريطانية فى السودان يستدعون اخيلة حول كل من الشرق والاكزوتية الى المتوحش النبيل الخ كونها صورة ساحرة مسحورة مثلها. وكانت أخيلة كامنة فى الذهنية المسيحية الغربية كالرهبنة و التنسك حرية بان تجذب بعضهم الى التعلق بسبر غور كينونة التصوف الاسلامى السودانى مما استدعى  اهتمام "حكومة السودان" بالصوفيين والطرق الصوفية وتطيرهم منهم ومنها معا.
ومن المفيد تذكر ان الايمان بالسحر والشعوذة وبالارواح والشيطان بقى فى الواقع شرط التقوى فى أوربا حتى القرن الثامن عشر على الاقل. ذلك ان رفض التصديق بوجود الارواح والشيطان كان يعنى الايمان بالمادية والكفر بالروحية فبالرب.
وقد اتصل الاعتقاد بالشعوذة فى امريكا حتى القرن السابع عشر وفى فرنسا حتى منتصف القرن العشرين و فى انجلترا حتى الحرب العالمية الثانية. و كان أرثر ميللر قد سجل دراما مغبة الاعتقاد فى السحر فى امريكا فى روايته الشهيرة بعنوان "المحاكمة" أو الأورداليا Crucible وقد ترجمت الى العربية بعنوان "ساحرات سالم" واخرجت فى اكثر من نسخة من الافلام العالمية. وقد فسر ميللر تعقب السحرة و الساحرات حراء انتشار حالات غريبة فى مدينة سالم بولاية نيوانجلاند فى شمال امريكا بمناخ ربيع عام 1691-2 وقد اتسم بالرطوبة العالية و الحرارة غير العادية.
و قياسا نسب انتشار حالات التسمم بين الفلاحين الفرنسيين عام 1665-6 الى السحرة والساحرات والمشعوذين والمشعوذات حتى اكتشف العلماء فى خمسينات القرن العشرين أن التسسم نشأ عن نوع من الفطر ينمو بين الشعير و نبات اخر كالشعير Rye يصنع الفلاحون و فقراء المدن منه خبزهم. فقد انتشرت حالات التسمم في شمال فرنسا بنفس الفطر فى 1952 مع ارتفاع نسبة الرطوبة و الحرارة. كما بقيت تهمة ممارسة السحر و الشعوذة فى بريطانيا حتى بعد الحرب العالمية الثانية. فقد حوكمت هيلين دانكان Helen Duncan بتهمة تسريب اسرار حربية بصورة سحرية. فقد تعقب بوليس بورتسموث هيلين دانكان بان نصب لها كمين فى 14/1/1944م وتم اعتقالها فى 19/1/1944م بموجب قانون تعقب السحرة والمشعوذين لعام 1734م. وكان محاكمة هيلين دانكان بتهمة السحر الاسود واثارة الشائعات الضارة حول ما اعتبر اسرار حربية عشية اخر معارك الحرب العالمية الثانية فصدر بشأتها حكم بالسجن لمدة 9 أشهر بوصفها "انسان خطر". ولم تلبث الشرطة ان  أعتقلت هيلين دانكان مرة اخرى بتهمة ممارسة السحر الاسود وادينت فى 1951م قبل وفاتها ببضعة اعوام.
المهم من المفيد تذكر ان القرن التاسع عشر كان العصر الذهبى للحماس التبشيرى المسيحى ايضا. وكان بناء الكنائس و الكاتدرائيات الهائلة على نحو غير مسبوق قد تسأوق والتوسع الحضرى الهائل فى بناء المدن الكبرى. الا ان تلك النصب والشواهد الحجرية والاضرحة المسيحية بما فى ذلك كتدرائية سانت بول فى قلب لندن نفسها بقيت مجهولة للطبقات العاملة والمفقرة. بالمقابل لم يكن الاخيرون يعرفون عن تلك الشواهد شيئا ولا يكترثون لها وقياسا بقى الفلاحون اكثر تدينا رغم ضعف وسطحية ايمانهم. فقد بقى العامة من العاملين والباعة المتجولين-كالعادة-بعيدون عن الايمان الحقيقى "لجهلهم" واستلابهم الاقتصادى والاجتماعى مما انعكس على البروليتاريا الصناعية في مرحلة لاحقة وحتى ما بين الحربين على الاقل.
فان كان القول بان الشك فى الاديان السمأوية والايمان المطلق وفى يقين ازلى قد انكسر مع العلم الا انه صحيح بالمقابل القول بان العلم اذ اخذ بتلابيب بعض المفكرين ولو على سبيل المجادلة الفكرية حتى الجنون-نيتشه مثلا- فقد انتج الشك بدوره بدائل لليقين العقائدى أو/و اعاد انتاج بدائل عبادية طقسية للايمان المطلق. فقد شارف التحليل النفسى عقيدة مبنية على ايمان محدد من اجل ذاته وبات فرويد الها لتلك العقيدة. ذلك ان بعض النظريات "العلمية" مثل نظرية النشوء والارتقاء من المسلمات "العلمية" وبالمقابل تعينت نظريات الامتياز العرقى وعبء الرجل الابيض بمعنى مسئوليته فى انقاذ ارواح الكفرة بتنصيرهم أوالحق المتوحشين بحظيرة البشرية-الخ تشارف الدوغما. فقد خلقت نظرية النشوء والارتقاء قياسا ما يشارف بل خلقت دينا بديلا ناجزا لـ"سفر التكوين" مما جعل النقاش الفكرى زائدا عن الحاجة.
فان كان الفيكتورين قد راحوا يجدون فى البحث عن دين طبيعى فى مواجهة فسق السلطة و قد انتشر الفسق بخاصة ابان العصر الادواردى الوجيز الا ان الفكيتوريون والادوارديون من بعدهم بقوا يرنون الى تكفير ذنوبهم  بالعصف اليومي بحق الحياة العادية و الناس العاديين ثم ما ينفكون ينثنون يتعينون على الاعتراف الوقتى. وكانت ارهاصات المجتمع الادوادي تمثلت فى الربع الاخير من القرن التاسع عشر عشية نهاية المجتمع الفيكتورى الذى كان بدوره وجيزا. فرغم ان عهد فيكتوريا كان طويلا الا ان ما يسمى بالمجتمع او العهد الفيكتورى لم يعرب عن نفسه الا بعد ان اعلنت الملكة فيكتوريا نفسها امبراطورية على شبه القارة الهندية بتحريض رئيس وزرائها و افرب مستشاريها اليها بيجامين ديزرائيلى. و قد اختلقت ملامح للمجتمع الادواردي بوصفه وريث المجتمع الفيكتورى فعبر عن نفسه فى تمثلات مميزة و مختلفة عن الاخير فى سبعينات القرن التاسع عشر .
و يزعم ان العشرة سنوات السابقة على الحرب العالمية الاولى اختلفت عن الربع الاخير من القرن التاسع عشر. و كان البعض يقول ان سبيعينات القرن التاسع عشر كانت رد فعل على ستنيات القرن التاسع عشر, فقد عبرت عن نفسها بوصفها تحولا نحو اللياذ بالريف الذى لم يكن الادوارديون يعرفون عنه كثيرا. و كان الادوارديون يعتقدون انهم من جذور ريفية, فرغم انهم حضريون الا انه كان يروق لهم ان يدعوا انهم غير ما هم عليه. و كان عليهم ان يقطعوا صلتهم بالفقراء و انكار السفراجيتس Suffragettes و نكران الازمة.
و كان الادوارديون يرون ان المجتمع عبارة عن مجاميع من الشابات الشقراوات اللواتي يركضن فى حقول و وديان زاهرة. وعندما نشرت "مذكرات امراة ريفية"  The country diary of a woman.  اشتراها الكل و لم يقرأءها احد. و كان الناس يشترونها ليتهادونها بوصفها قطعة لطيفة عن حياة لم تكن لهم الا ان اهدائها قد يعنى ان الهادي شخص لطيف. و مع ذلك راحت بريطانيا تهدم المنازل الادواردية لبناء منازل شعبية و كانت كوفنت جاردين Covent Gardens على وشك ان تهدم لولا الاحتجاج الشعبى.
و كانت سبعينات القرن العشرين بدورها هى عبارة عن مسلسل الناس اللى تحت و الناس اللى فوق. Upstairs down stairs    
فى وقت كانت بريطانيا تكاد تحترق على نيران الانتفاضة العمالية و تعيش عشية الحركات العمالية الاخرى والخوف مما يمكن ان يحمله المستقبل. و قد باتت الفوارق الطبقية بحيث تنذر بكارثة.  و كانت الدولة البرجوازية قد راحت تبدو عاجزة عن ان تعيد بناء المحتمع البرجوزي الصناعى فيما راح رأس المال الصناعى يسلم امره لرأس المال ما بعد الصناعى على نخو مفاجئ و متسارع.  حيث لم تكن الملكة فيكتوريا حداثية الا ان المجتمع الفيكتورى الذى لم يزد عمره بعدها على بضعة  سنوات كان "حديثا" بما كان ينبئ بنشوء ما سمى ما بعد الحداثة اى الحداثة و نهايتها معا.  
و كان الفيكتوريون أفضل من كرس فكرة الواجب والوطنية بالمقابل فيما نشروا نموذج بناة الامبراطورية وعبادة البطل البرجوازى المتحدر عن البطل الاقطاعى الفردى فى تنويعات الابطال القوميين عبر نيشيه وكارليل بديلا أو-و تعويضا عن الايقونوغرافيا المسيحية. ونرى تباعا أن تنويعات مماثلة من البدائل راحت تنشأ وتنتشر بعد اكثر من قرن فى مناخ مشابه لم يزد عن احلال علاقات سوق طاحن و مقدسات و لا مقدسات استهلاكية مادية مكان قيم البرجوازية الصناعية-الملكية الخاصة-العائلة-العلاقات الأولية-والثانوية وعبادة البطل الاقطاعى الفردى المتحدرة الى عبادة الابطال القوميين و الايقونوغرافيا البرجوازية الصناعية جميعا.
فان كان البطل الاقطاعى قد اتسم بالفروسية و البرجوازى بالنخوة أوبادعاء نخوة لم تكن لترقى فى الواقع الموضوعى الى اكثر من محض ورقة توت فلم يزد فرسان السوق-الرأسمالية ما بعد الصناعية و ما بعد الحداثة الخ-عن ان يتصفوا بالصلافة والاحداث-من المحدث Maverick و ليس الحديث- والعنف الرمزى والمادى الذى يشارف البلطجة و تبلد الاحساس ازاء الفرد العادى والمفقرين جميعا. فقد باتت تنويعات ما بعد الحداثة وايقونات نجومية السينما وكرة القدم ومن هم أدنى منهم من اثرياء ومشاهير الكوننة تحتل مكان ايقونغرافيا الكنيسة والبرجوازية الصناعية ورموزهما اضرحتهما ومعابدهما جميعا الا ان ورقة توت وقار البرجوازية الصناعية تسقط عن الرأسمالية ما بعد الصناعية. 
المهم اخذ بعض فلاسقة القرن التاسع عشر يواجه الكنيسة رغم ذلك الجو الخانق و يقارعونها بمفصلة ما اسموه "الدين الطبيعى" Natural Religion مقابل المسيحية الغربية. فقد تعين بعضهم على مواجهة الكنيسة بكل من الشك من ناحية و ب "العلم" من ناحية اخرى و قد أتهم اؤلئك الفلاسفة الكنيسة بالتأثير على الحضارة الانسانية بصورة سالبة. و رغم ان بعضهم كان قد اعلن ان تاثير المسيحية الغربية سالب على الحضارة الغربية الا ان كثير من المفكرين والكتاب قياسا على معايشة كل من الكنيسة وفلسفة الشك. وكان جوته قد جأر "دعونا نحتفظ بتلك الاشياء غير القابلة للاستشراف".
فان كانت الحاجة فى الاعتقاد فى الاشياء لكون بعض تلك الاشياء منته فان تلك الحاجة تصدر لدى الانسان عن رغبة فى تاليه وعبادة المطلق فلو لم تحتوى كافة الاديان الكبرى على حقائق عظمى لما صمدت للزمن. فقد بقيت معظم الطبقات المفكرة على عقيدة مسيحية أسمية فيما أخذ الجدل يدور حول كيفية ادعاء الايمان والعلم معا فيما بقى الايمان يستعصى على المعرفة. ذلك ان الايمان يطالب بمعرفة ما هو بطبعه خارج عن و أبعد من العقل وغير قابل للاستيعاب عقليا.
و قياسا فأى محأولة لتعريف الايمان غير واردة كون الايمان غير قابل للتعريف. فان لم يكن العقل الانسانى محض مرآت فالعقل الانسانى يخلق العالم مع ذلك على شاكلته[127]. ولم ينفك ديفيد هيوم وكيتس وكانت وهيجل أن اعلنوا "موت الرب". وكان لكتاب ديفيد هيوم حول سقوط الامبراطورية الرومانية أثر كبير فى بروز شك وضعف يقين كانا راسخين فى الذهنية الأوربية الغربية حتى راحت افكار ديفيد هيوم وكانت وهيجل تنتحت فى جدران مقدسات بعينها من المأورائى Metaphysical الى الوضعى كالكنيسة و السلطة الوضعية و بخاصة مفهوم الامبراطورية. الا ان بعض الفلاسفة راح يحذر من ان يؤخذ العلم بدوره بالثقة المطلقة دون فهم ومجادلة العلم. فقد كان الدين والايمان يؤخذان بلا جدل وان اخضعا لبعض التمحيص فى وقت كانت فيه الداروينية والفرويدية غير قابلتين للجدل.
هذا وقد اثر وليام جيمس فى القرن التاسع عشر بدوره على هيجل الذى عرف الدين والتاريخ على انهما "ابنية" Constructs ينشئها الانسان والمجتمع من وقت لاخر. فكون البشرية تمر بصورة محتمة بمراحل عمر- تطور بمعنى نشوء أونكوص-معين من وقت لاخر فان البشرية حرية باعتناق معتقدات وانتاج أبنية تخص مراحل ذلك العمر. ومن ثم فعندما يبلغ العالم-البشرية-الرشد فسرعان ما ينفطم العالم عن معتقدات سابقة من اجل معتقدات تبسيطية سابقة ليعتنق معتقدات أخرى أقل تبسيطية وأكثر تركيبا.
وكانت افكار هيوم وهيجل قد انتشرت فى الروايات والادب فنزلت الى اغلب الناس-أوقل-قولى-الى أعضاء الطبقات الوسيطة والمتوسطة-حيث كان هيوم قد أصبح اكثر تأثيرا فى أوربا فيما انتشرت افكار ويلزلى الدينية فى بريطانيا مما يزعم انه ساعد على تحييد أواجهاض الثورة فى بريطانيا. ومن المفيد تذكر أنه كلما انتشر الحركات الشعبية والمناداة بمطالب جمعية كلما تسأوقت تلك الحركات و حركات أوثورات مضادة تشارف الفاشية الحقيقية وليس تهمة الفاشية غير المؤسسة. فقد انتشرت الثورات المضادة فى شكل تبشير كنسى حماسى محموم يشارف الهجمة الفاشية على من عداها من الخصوم جميعا تجريما وابلسة ابان القرن التاسع عشر ليس فى المستعمرات وحسب و انما فى مواجه الحركات الشعبية المنأوئة للعروش الأوربية الغربية.
ومن المفيد تذكر ان حركات صفراء غامضة كانت فد اتصلت فى مواجهة الحركات الشعبية منذ الامبراطورية الرومانية على الاقل. فقد قام قياصرة الجمهورية الاسراتية الرومانية منذ يوليوس قيصر على الاقل برشوة العامة واختراق صفوفهم و تنظيماتهم شراء زعمائهم استباقا للحظة نضوج الاخيرين فكريا وتنظيميا بالضرورة. فقد كانت غواية العامة و حتى بعض شيوخ الخندق المقابل على التماهى مع اؤلئك القياصرة الجمهوريين ضد خصومهم من غايات الجمهورية الاسراتية الرومانية منذ يوليوس قيصر حتى نهاية روما.
 وحيث يتعين التربص بالحركات الشعبية على احباط شرط نضوجها فكريا وتنظيميا يبقى التربص بالحركات الشعبية علي تلك الحركات بهذا الوصف مستلبة فمحكومة بالحديد و النار او/و بتغييب الوعى الجماهيرى وسيلة الى قمع تلك الحركات على مر التاريخ غير المكتوب. ويخلق شرط استباق نضوج الحركات الشعبية بالوصف اعلاه وكان قد خلق على مر الزمان كمياء انتشار اليأس فى قلوب الحركات الشعبية مما ييسر اقتلاع زعاماتها الشعبية اما بالحاق الاخيرين بحواف الدائرة الضيقة لشرائح السلطة القائمة أو/و بالقضاء عليهم بتهمة العصيان-الارهاب. وكانت الرأسمالية بتنويعاتها قد وصمت الحركات الشعبية -وقد اسقطت عنفها هى- على تلك الحركات مثلما تفعل مع كافة خصومها من المحكومين الى شعوب امتدادات الرأسمالية بتنويعهاتها.
ذلك انه فيما وصمت البرجوزاية الصناعية فترة الحروب الاهلية الاوربية بان اطلقت عليها "الاقطاع "النغل" Bastard Feudalism فقد ارجعت البرجوازية الصناعية اصل الصراع الى ضعف النظام الملكى-العرش فى مواجه رعايا يستقوون علي العرش مما ترتب عليه فيما يبدو ان نذرت البرجواية الصناعية الا يتكرر مرة اخرى. وقد صارت صيحة ان :"ليس ثمة اسوا من حكومة الغوغاء  Nothing is worse than an Auclocracy or mobology-from mob تتخفى وراء معمشات مفهوماتية حتى اليوم[128].
فحين ورثت معظم شرائح الارستقراطية الكلاسيكية وشرائح السلطة الاقطاعية التقليدية الدولة أعادت الاخيرة مجددا انتاج نفسها فكتابة تاريخها وكتابة تاريخ تلك الفترة. وقد كرست تلك الفترة مفهوم العنف السياسى ممثلا فى الحركات الشعبية اكثر منه فى شرائح السلطة. وكانت الديمقراطية الغربية تصدر عن- وقد أوقفت لوقت على كل من اليونان وروما- رموز ودالات ومفلصفات-من الفالصو- تتمأسس على اليونان وروما رغم أن نصف اثينا على الاقل كان عبيدا.و قد راح اليونانيون والغربيون من بعدهم يجأرون بتجويد نظرية ديمقراطية تعمش على النظام العبودى فى المدن اليونانية سواء اثينا أو اسبارطا او كورينثيا.
ومن المفيد تذكر ان واقع انماط الانتاج الغربية يؤكد بامعان النظر قليلا بأن تلك الانماط لم تملك يوما تجويد نظرية ديمقراطية والاحى بناء مشروع ديمقراطى بدون عبيد. فالديمقراطية سواء فى المراكز و ا لاحرى فى الاطراف الامبراطورية بقيت ديمقرطيةو حرية اقليات يمثن او خصما على اغلببات فى الهوامس المتروبوليتانية او-و فى امتدادات الامبراطوريات المالية على الخصوص.  فالعبودية آلية المراكمة الرأسمالية المتعاظمة بالضرورة دوما كما ان الرق وظيفة تلك المراكمة بالنتيجة. و قد اخذ الغرب عن اسبارطا و اثينا معا و لم تكن صدفة ان استمثل الانجليز والثورة الفرنسية و هتلر و موسيلينى اسبارطا بوصفها سفر تكوين احلال النظام بالقوة. ورغم ان اسبارطا كانت تعنى حكم الاوكلوكرات Auclocracy اى العامة الغوغاء الا ان الغرب بقى يستدعي اواخر ايام اسبارطا وقد باتت توتاليتارية كما يستمثل بلا تحفظ أثينا الديمقراطية تخاتلا.
مغبة الحركات الشعبية الاوربية الغربية على الفكر والتنظيم:-
عاصرت التركية الاولى كمياء مواجة العروش الاوربية الغربية وغير الغربية كالخلاقة العثمانية السابقة على البرجوازية الصناعية وموجات عارمة من الحركات والثورات الشعبية فى منتصف القرن العشرين. وقد شهدت تلك الفترة تحولات فكرية و تنظيمة ما برحت ماثلة حول كل من تكريس سلطة جماعات بعينها واستلاب اغلبيات المنتجين وقد تعاصرت مع ارهاصات الثورة البلشفية فى روسيا وكواكبها الدائرة فى فلكها تباعا. وكان القمع فى 1821م ادى الى اندلاع انتفاضات شعبية فى نابولى وفى بولونيا فى 1831 ولم تنجح محاولة ظرد النماسويين من لومبارديا وفينيسيا اذ قمعت ثورات 1848م .الا انه ما ان تضامن الفرنسيون مع الايطاليين طرد النمساويون من شمال ايطاليا فى 1859م واجتاح غاليبالدى جنوب ايطاليا فقبلت ايطاليا امانويل الثانى فى 1851 ملكا على ايطاليا الموحدة لاول مرة. وعلى صعيد اخر كانت انتفاضات الفلاحين الروس و ثورات المثقفين تطالب برفع وهدة نمط الانتاج الشرقى والعلاقات القيصرية الارستقراطية عن كاهل المجتمع الروسي وصولا الى ثورة 1917. و كانت الاوضاع فى روسيا وبولندا فى مرحلة الانتقال من الاعتماد شبه الكامل على الزراعة الى التصنيع الخ.
الا أن التاريخ الرسمى الاوربى الغربى عنى بتكريس مفهوم انتشار "الفوضى" الفكرية و التنظيمية جراء تلك الحركات ابلسة للثورات الشعبية فى منتصف القرن التاسع عشر كعهده تقصدا مثلما يؤبلس حركات التحرير الوطنى بوصمه بالارهاب. المهم زعم ان "فوضى" تنظيمية قد اعتورت النمسا مثلا جراء انتشار السخط العام فى كل مكان مما دعى امبراطور النمسا ووزير خارجيتة ميترلينك للهرب. و كان رعايا امبراطورية الهابسبيرج المجريين على الخصوص يطالبون بالاستقلال الذاتى فلم تنحسر تلك "الفوضى" الا بسحق الثورات و هزيمتها لحساب البرجوازية الصناعية. الا ان تلك الحركات والثورات الشعبية فرضت اصلاحات ليبرالية لاول مرة كحق الاقتراع للذكور الفرنسين مثلا. هذا ومع أن الاستجابات الرسمية حول المطالب الوطنية بشأن المانيا و ايطاليا بقيت لا معرفة بصورة كافية[129] سوى ان ما سمى ب"البعث الايطالى" أدى- جراء حركة الاستقلال والوحدة الايطالية ابان الحروب النابليونية فى القرن التاسع عشر-الى تحرير معظم ايطاليا من ثقل الامتيازات اللاهوتية و الاقطاعية المتمثلة فى تراتب الكنيسة الكاثوليكية.
فمن قال ان نمط الانتاج الاسيوى عاجز عن التغيير يرفض التطور؟
ومن المفيد تذكر ان التاريخ الرأسمالى الرسمى لا يذكر الاحداث الا انتقائيا فلم يتعين ذلك التاريخ على تسجيل انتشار ثورات مضادة على الحركات والثورات الشعبية المذكورة وصولا الى استهداف الحركات العمالية البازغة عشية الحرب العالمية الاولى و ما بين الحربين وصولا الى ما بعد الحرب العالمية الثانية و تباعا. ففيما كانت الحركات المطلبية الاوربية تواجه كل من الازمة الاقتصادية والعطالة بمطالب جمعية عادلة اندلعت ثور مضادة فى بريطانيا مثلا تؤبلس سخط العمال و المتجين المشروع جراء الازمة الاقتصادية الكبرى وعصف بحركات العمال الطليان و كانت قد كادت تستولى على السلطة خصما على البرجوازية الصناعية و كانت الاخيرة فى طريقها الى التضعضع على نحو عجزت معه عن اعادة انتاج المجتمع البرجوازية مما وصفه جرامشى على نحو دقيق وابدع الى ذلك بالتبؤ بنشوء الامبراطورية الانجلو امريكية. و اندلعت ثورة مضادة ابان الحملة الانتخابية عشية نهاية الحرب العالمية الثانية فى أوربا- وغيرها فيما خلا اليابان وجنوب شرقى اسيا على المشروع الاشتراكى لحزب العمال البريطانى. ذلك ان برنامج حزب المحافظين انطلق يصمهم منافسى حزب المحافظين ومرشحه تشيرتشيل بطل النصر على هتلر بالطابور الخامس و بالفاشية. وكأن تلك الوصمة تعيد تنويعة باكرة تشارف التهم التى تكيلها الافانجلية الانجلوامريكية المتطرفة-المسيحيين الصهاينة-لمن عداهم صبيحة ما يسمى ب"نهاية" الحرب الباردة. وكانت الثورات المضادة قد اندلعت ضد الاتحاد السوفيتى- وكان حليفا ابان الحرب العالمية الثانية-الا انه لم ينفك ان بات خصما بعد الحرب العالمية الثانية. و قد تعاصرت معظم تلك الاحداث أو التطورات وتداعياتها واحدات وتطورات فى السودان منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الاولى ووصولا الى الاستقلال مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتباعا.
التنمية الامبريالية المحدثة برؤوس الصواريخ المنضبة :-
ورثت الامبراطوريات البرجوازية الإمبراطوريات ما قبل الصناعية غب الانتفاضات والثورات الشعبية وقد عمت الاخيرة أوربا الغربية والشرقية فى منتصف القرن التاسع عشر سخطا على العروش و من اجل توحيد بعض الأوطان مثل ايطاليا و رفضا للامتيازات الكنسية الأورستقراطية لحساب الحقوق الجمعية لشعوب تلك الامبراطوريات مما لخصنا اعلاه. وكانت "تنمية" الإمبراطوريات البرجوازية الصناعية لامتداداتها كما في السودان وغيره قد عبرت عن نفسها فى المناخ المذكور اعلاه وبادراك للدروس التى استخلصتها البرجوازية الصناعية من تجاربها مع الحركات و الثورات الشعبية الاوربية. وكان مفهوم التوسع الامبراطورى حريا بان يصدر عن تلك التجارب والدروس وعن حصاد "الاكتشافات الجعرافية" العنصرى مسيحيا غربيا و"علميا" غربيا معا. فقد تمأسس التوسع الامبريالى فى السودان مثله مثل الهند وغيرها على دخول الجيوش اما متسللة تحت رايات غيرها مثلما فى التركية الاولى أو/و فاتحة تحت مشاريع وشعارات التبشير فى الكفرة وعبء الرجل الابيض الخ. وقد تنافست كل من بريطانيا والمانيا وايطاليا وفرنسا على اجتياح فضاءات الاقوام غير الغربية افقيا بذرائع متعددة. و قد تمثل التنافس بين فرنسا وبريطانيا فى السودان مثلا فى معركة فشودة جنوب غرب السودان وحادثة الباى في الجزائر و حرب البوير فى جنوب افريقيا والتمرد الهندى The Indian Mutiny وعصيان الكتيبة الايرلندية متضامنة مع الهنود- وانتفاضات السيخ وفى التنافس مع نابليون على ممتلكاته فى شبه القارة الهندية وفى جنوب امريكا الشمالية والوسطى فى كوبا والمكسيك وغيرهما.
ومهما كان من امر الامبراطوريات الاوربية الغربية فانها كانت حرية بان تغدو قصيرة الاجل كما رأينا و نرى تباعا. وازعم انها كذلك كونها فككت باكرا منذ نهاية القرن التاسع عشر و تباعا و قبل ان يشتد ساعدها على نحو كامل فلم يقيض لها ان تبلغ الرشد. ذلك ان عمر البرجوازية الصناعية حسب تقديرى لم يزد على 75 عاما قياسا على الاقطاع الشمال غرب أوربى الذى زاد على الالف عام. ذلك ان الرأسمالية ما بعد الصناعية وقد راحت تنشأ منذ نهاية القرن التاسع عشر على الاقل كانت قد أخذت تتعين على وراثة البرجوازية الصناعية بديون الحروب فتصفية ممتالكات اوربا فيما وراء البحار و كانت مراكمة رساميل فائقة على رأس المال البرجوازى الصناعى حرية بدورها ان تقيض بواقع ايجار او ريع النفط الشرق أوربى والجنوب شرق اسيوى وصولا الى اعادة هيكلة و تشكيل اوربا فى المقاس المدرج بمغبة مشروع مارشال.الذى يحتاج الى فصل كامل لتفكيك مفصلة الاجبولة التى انطوى عليها فى المراكمة الامريكية خصما على اوربا الغربية.
                 هذا ويلاحظ الناس فى كل مكان كيف- وقد بات النفط عصب الاقتصاد الأوربى الغربى منذ بداية القرن العشرين فقد أرتهن النفط اقتصاد اوربا منذئذ. ومن المفيد ملاحظة ان الامبراطويات البرجوازية كانت قد وجدت نفسها غب الحرب العالمية الأولى مواجهة بمطالب الأقليات حيث راح مشروع ويلسون لحق تقرير المصير يحرض تلك الاقليات خصما على الكيانات الكبرى و لحساب دول قومية مفبركة كان أهمها و قد بقى ابعدها اثرا دولة إسرائيل. ويلاحظ الناس فى كل مكان كيف ان نظائر اسرائيل من الدول القومية فى المنطقة لم تزد قياسا على ما يشارف خيال المآتة. و كان الشرق الأوسط قد مني بتفكك الخلافة العثمانية تباعا منذ نهاية حرب القرم عبورا بسياسات بريطانيا على الخصوص لعزل تركيا واصطناع حركة الخلافة عام 1924م وما سمي بالحركة العروبية استباقا للقومية العربية بميثاق أو إعلان ويلسون عام 1919م. ولم تنفك الرأسمالية ما بعد الصناعية ان تمأسست على اجتياح ما اسمته بالدول المارقة لتحريرها من فوق الدبابة ابراهام 8 ورؤوس الصواريخ المنضبة باليورانيوم. فقد كانت الإمبراطورية ما بعد الرأسمالية حرية بان ترث الإمبراطوريات البرجوازية الصناعية فراحت الولايات المتحدة تحتل مكان الإمبراطوريات البرجوازية الصناعية تباعا وقد تفاقمت هزيمة تلك الإمبراطوريات اقتصاديا و عسكريا و سياسيا تباعا منذ الحرب العالمية الثانية.
وأزعم أن تداعيات بعض تلك التطورات تمثلت في تنويعات انحلال الهيمنة الانجلوساكسونية الاقتصادية الاستعمارية في السودان باكرا مما عبر عن نفسه فيما يشارف العولمة ما بعد الرأسمالية. و من الجدير بالذكر ان السودان كان قد اتصل بالعولمة ما قبل الرأسمالية باكرا منذ الاسرات الوادى نيلية. فقد كانت الامبراطوريات السابقة على الرأسمالية معولمة بقدر ما تيسر لها من فضاء فيزيقى جغرافى و سياسى فى العالم القديم. المهم لم ينفك السودان ان الحق بالعولمة البرجوازية الصناعية مع نهايات سلطنة الفونج عبورا بالتركية الاولى. وكان الاستثمار الأجنبي فنشوء الرساميل متعددة الجنسيات قد بدأ ينشط عالميا منذ ذلك الوقت في السودان. وبإضافة غير ذلك من التطورات التي يمكن ملاحظتها في أحداث متتالية في السودان على نحو شبه فريد فقد تمثلت العولمة ما بعد الرأسمالية فى السودان باكرا فى اقتران اهم المشاريع الاقتصادية الزراعية السودانية بسوق المال والسندات العالمى. فقد جمعت رساميل استثمارية لمشروع الجزيرة بسندات وأسهم في سوق المال العالمي. وكانت الولايات المتحدة حأولت المتحدة مبادرة بإحلال أيد عاملة من الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية فى السودان إلا أن المشروع لم ينجح تماما. على أن بعضا من المشاريع التى الهمها النموذج الامريكى فى الانتاج جرب باكرا ونجح كما رأينا فى مكان اخر فى السودان
فكيف تيسر للتنمية الاستعمارية فى السودان تسويغ هكذا استثنائية شبه قاصر على السودان؟
كانت الصفة "القانونية الدولية" الفريدة للسودان التي يشار اليها بالحكم الثنائي أوالكندومينيوم  Condominium قد وفرت إمكانيات غير عادية لـ"حكومة السودان " أى للإداريين الإنجليز فبادروا بسياسات "تنموية" على نحو يصعب العثور على قياس عليه فى المستعمرات والمحميات والامتدادات الإمبراطورية. فلقد وفرت تلك الصفة القانونية أو اللاقانوينة لوضع السودان العالمي وسيلة احتكار الإداريين الإنجليز للسلطة والانفراد بها تمهيدا لاختلاق ذرائع لإبعاد المصريين عن السلطة الحقيقية ثم طردهم من السودان على الرغم من أن المصريين كانوا شركاء في فتح السودان وفي تشكيل صف الضباط الجنود اللذين قاموا بحملة الفتح التي مولتها مصر ونفذتها باسم الخديوى والت مصر على نفسها تحمل ميزانية السودان حتى الاستقلال. وبالمقابل لم يزد دور الإنجليز عن احتلال المراكز القيادية والاستخبارات العسكرية في جيش الفتح ولم تنفق بريطانيا مليما في إدارة المستعمرة إلا أن الإنجليز انفردوا بالحكم منذ 1925 وحتى الاستقلال. والمعروف أن بريطانيا أو حفنة من المغامرين من بناة الإمبراطورية كانوا قد ورطوا بريطانيا،حسب التاريخ الاستعماري البريطاني الرسمي، في إعادة احتلال السودان باسم مصر بعد حادثة غوردون الشهيرة-ولو بسبب الفيلم الذي أنتج حول أحداث تلك الفترة فصار شبه وثائقي رغم ما به من مغالطات وأحداث درامية لزوم التشويق السينمائي-كانت تلك الحفنة قد ادعت لنفسها الحق في التصرف في شئون السودان باستقلال ملحوظ عن مصر وبريطانيا.
وكان مفاد المغالطة التاريخية القانونية انه لما دخل الجنرالات الإنجليز السودان باسم الخديوي وكانوا موظفين عنده ومصر تحت الحماية-لا حظ المغالطات والمصادرات على مطلوب المنطق في السردية الاسستعمارية-فقد قرر الإنجليز في التو واللحظة وفيما يقال انه كان "عفو الخاطر" ان "رفع علمي البلدين" ،علم مصر وعلم بريطانيا ، فكان إن وجد الحكم الثنائي الذي لا مثيل له في القانون الدولي الا بقدر ما اختلق كرومر قانون صوغ به الحكم الثنائي. و لما استتب الأمر على ذلك الشكل اللا قانوني أو المقنن تعسفا بدأت بريطانيا في اختلاق المعاذير لإبعاد مصر عن السودان.
كان السودان و مصر عمليا مستعمرات بريطانيا الا ما خلا انهما لم تكونا كذلك دستوريا. وقد اقنعت بريطانيا مصر التى كانت واقعة تحت السيطرة العثمانية بتحمل نفقات ادارة السودان حتى نهاية الحكم الثنائى. وكان نابليون قد غزا مصر فى 1870م وبعد عام باتت مصر و السودان  فى 1869م على اهمية فائقة لبريطانيا مع فتح قناة السويس. وكان لقناة السويس اهمية بالنسبة لتخفيض التعريفات الجمركية على صاردات واردات بريطانيا العظمى مما يرفع من قدرة الاخيرة على المنافسة التجارية. وكانت فائدة قناة السويس تعود ايضا الى ايطاليا و النمسا و روسيا فى حين ان فرنسا هى التى كانت وراء بناء قناة السويس و كان من المتوقع ان تفيد اكثر من غيرها من فتح قناة السويس. الا ان بريطانيا جعلت همها حرمان فرنسا عدوتها اللدود من الممرات  المائية ومن السيادة البحرية من شبه الجزيرة العربية الى مصر والسودان. فقد كان الفرنسيون بدورهم معنيين بالاستيلاء على الموانئ المصرية والمداخل السودانية بعد ان باع نابليون ما بات ولاياة المسيسيبى ونيواورليانز و المكسيك من اقطاعاته بالجنوب الشرقى لامريكا الشمالية لتمويل حملاته التوسعية فى اوربا والشرق. كما فقد نابليون ممتلكات فرنسا فى شبه الجزيرة الهندية جراء تآمر شركات الهند الانجليزية والهولندية على قواته.
وكان على جلادسون حماية قناة السويس و من ثم التدخل فى مصر والسودان والسيطرة علي بورت سعيد و على سواكن. و لم يكن جلادستون راغبا فى ممارسة معظم تلك السياسات الا ان جلادستون لم يكن هو الذى يحكم بل كانت المصارف هى التى تفعل و هى معنية بالحصول على رساميلها وارباحها من فوق رأس الحكومات مما ادى الى استقاله جلادستون وخلق كيماء الظروف التى ادت الى موت غردون[130]. ذلك ان الملكة فيكتوريا لم ترسل له النجدة فى وقتها عقابا له على التصرف منفردا و مقاومة تعليماتها كون غردون كان رجلا مغامرا يعلم لحسابه و اجندته الخاصة منذ عمله لحساب ملك بلجيكا فى الكونغو و اشتراكه فى ثورة الافيون فى الصين. المهم اندلع السخط الشعبى فى 1881 على التدخل الاجنبى فى مصر وكذا فى السودان وان لم يكن التدخل الاخير رسميا بل كان بوكالة اوسمسرة بعض "الكتشفين" والمبشرين"  المغامرين و التجار الاوربيين. ورغم ان ثورة عرابى هزمت فى 1882م فى معركة التل الكبير الا انها لم تنكسر. وقد تفى بعض اعضاء الثورة الى السودان –كونه كان يعتبر منف-فيما بقى الغليان تحت السطح ليعبر عنه نفسه فى ثورة 1924م فى السودان و مقتل السردار فى ستاك فى 1925م[131].
وقد تم في 1925 لبريطانيا أو للإدارة البريطانية بالأحرى-بعد حادث مقتل السير دار لى ستاك-الانفراد شبه الكامل بإدارة السودان فغدا السودان محتكرا و وقفا على الموظفين البريطانيين، وسميت الإدارة بحكومة السودان Sudan Government وهو الاسم الذى أطلقته الادارة الاستمعارية على نفسها ادعاءا و صلافة معا. و مع ذلك ظل السودان تحت حكم ثنائي رغم غياب مصر ورغم أن مصر-المحمية-أي تحت الحماية البريطانية بعد تصفية الولايات العثمانية-كانت تدفع ميزانية السودان ربما منذ الفتح الأول. ولم تنقطع صلة مصر بالسودان بعد المهدية رغم الخمسة عشر عاما من حكم المهدية لوسط وغرب السودان وأجزاء من الشمال بينما بقى شرق السودان تحت الحكم العسكري الانجليزى- المصري-و نشر الجند بقيادة أمثال كتشنر.
ومن أهم تداعيات الأحداث المذكورة أن حكومة السودان تعينت على الاستقلال بامرها عن كل من الخدمة المدنية البريطانية أي هوايت هوول  White Hall وعن وزارة المستعمرات. و قد راحت حكومة السودان بذلك تحكم مجتمعا بصورة غدا ممكنا لها التصرف المطلق في أموره وكأن السودان قائم فى فراغ العلاقات الاستعمارية والعلاقة بين مصر وبريطانيا. وقد قيضت هذه الشروط لحكومة السودان أن تقوم بتجارب لم تكن ممكنة في المستعمرات ولا في المحميات ولا في امتدادات التاج. ولقد ترتب على ذلك الاحتكار شبه المطلق لتصريف شئون الحكم الثنائي قيض لحكومة السودان كذلك أن تجلس على قمة السلطة الوضعية الاستعمارية "الوضعية " والساعية لتحضير السودان وتنميته وترقيته بحيث يلحق بركب الحضارة الغربية، والى تعليم أبنائه وانتشالهم بداءة من تخلفهم وبربريتهم ومن تعصبهم الديني وبخاصة بعد أن كان "تورط" بريطانيا ومصر في السودان قد ترتب على وجود الثورة المهدية وحكومتها التي كان قد جاء بها "متطرفون" أومتعصبون دينيون عقب ثورة دينية. وقد يسر وضع السودان القانوني أو اللا قانوني استقلالا إداريا أدى بالحكومة-رغم قشرة مظاهر التقدم مثل معاهد التعليم الحديث في كلية غوردون التذكارية عام  1902 لتخريج صفوف الموظفين للعمل في الوظائف الدنيا في الخدمة المدنية وإدارة بعض القبائل على نحو يسر الاستقلال الإداري لحكومة السودان وممارسة وتطبيق سياسات اقتصادية واجتماعية وتنظيمية عملت على تكريس أوضاع ثقافية واجتماعية سابقة على الاستعمار فيما يشار إليه بعملية "التنمية " الاقتصادية والتعليمية وغيرها.
وكان من أغراض حكومة السودان إدخال التعليم النظامي الرسمي بمناهج محدثة تتجأوز التعليم الأهلي وقد اتهم بالعصيان لصلته بالخلأوي بإضعاف التعليم الأهلي في أشكاله التقليدية رغم أن المدارس الرسمية لم تكن كافية لاستيعاب أعداد السودانيين الراغبين في التعليم. وقد تمثل مشروع حكومة السودان لتنمية المجتمع في الإبقاء على الأشكال التنظيمية للمجتمع ومؤسساته بحيث تحولت حكومة السودان أو حولت نفسها إلى تنويعة مما يسمى ب "الاستبداد الشرقي" في كثير من تظاهراتها وممارساتها وعلى رأسها أن جلست فوق قمة هرم السلطة. فرغم أن آلهة النمط الشرقي-وهم إما آباء حكامهم أو حكامهم ممثلين للآلهة على الأرض- شديدة العقاب إلا أنها رحيمة تعيد التوزيع من المطامير الملكية وكهنتها ديمقراطيين يتشاركون مواسم العبادات المركزية والعبادات المحلية ويفسحون للآلهة الأخرى مكانا بين أضرحة ومقامات الآلهة المركزية. وبالمقابل لا يرعوي الاستبداد الوضعي ولا يرحم إلا بقدر ما يخشى انتشار السخط بين المحكومين وعدم الاستقرار الاجتماعي من جراء تفاقم المظالم. ويسقط الاستبداد الشرقي المظالم والكوارث على عدو خارجي يتربص بالحكام والمحكومين والأسلاف والآلهة الدوائر وعلى الأوبئة وعلى اليوم التالي لليوم السابق للطاعون. ويصدر الاستبداد الوضعي أسباب عدم الاستقرار خارجا ثم ما ينفك يتهم التعبير عن السخط بالعنف وربما بالإرهاب فتهديد امن ومصالح الحكام والمحكومين فيبرر إرهاب الدولة الديمقراطية باسم شعوبها. وهكذا يتعين الاستبداد الوضعي وقد تلفع بعباءة الديمقراطية على قهر حكام ومحكومي امتدادات الدول الديمقراطية في تنويعات على إرهاب الدولة الديمقراطية ثم ما ينفك يروع موضوع إرهاب الدولة الديمقراطية باتهامه بالعنف والإرهاب في حلقة مفرغة.
 فلم تزد الإدارة الاستعمارية في جأوا أوفي السودان مثلا عن أن تمثلت في دولة خراجية-دون تغييرالاسم التقليدي لهذا المفهوم[132] وكيلة عن وبوساطة الشرائح الخراجية بوصف الأخيرة سماسرتها أو وكيلاتها التقليدية السابقة على الإسلام وعلى المسيحية وعلى الأسرات فالسابقة على الاستعمار وعلى المهدية وعلى التركية الأولى وعلى الفونج. ومن ثم لم يتجأوز أو يزد دور حكومة السودان على دور القابلة أو الوكيل في عملية استلاب الخراج وفي عملية تقاسمه خراجا خالصا مما كان يصدر إلى الخارج في شكل فائض عمل وفائض إنتاج , أو/و خراجا مقتسما مع زعماء القبائل و شيوخ الطرائق فى تويعة على ما كان الحاكم الخراجى القائم فى العاصمة يفعل. و كنت قد زعمت فى دراسة اخرى بان قد يمكن القول بأنه لو كان السودان وحكومته في المريخ لما تغير تنظيم أوعلاقات الإنتاج والملكية ولا تغيرت علاقة السودان بالعالم الخارجي لا بمقدار ما تغيرت بعض شرائح متقاسمي الخراج المنتفعين بالخراج في أشكاله التقليدية تلك في الداخل أو في الخارج بالوكالة. و كانت العمليات التأديبية العسكرية وإقرار الأمن والاستقرار وكسر عضلة الحركات الدينية الصوفية والقبلية والعصف بالانتفاضات الاثنية أوالدينية أوالاجتماعية الماثلة أو المحتملة قد كرست ذلك التراتب الخراجى الذى تقف على رأسه حكومة السودان. لذلك وغيره من الواقع الموضوعي المتصل بطبيعة السودان وبخارطته السكانية والبيئية وبالمسافات الشاسعة وغيرها فان السودان يعتبر تجربة نموذجية للتنمية الاستعمارية وواحدا من نماذج "التنمية" الاستعمارية الوعرة وعورة سكانية وتكوينية وثقافية.
ربما كان واردا السؤال : هل كان الاستعمار معنيا بتكريس النظم والأنساق السابقة أم كان السودان بدوره مهيئا لتشويه النظم والأنساق السابقة على الاستعمار؟ هل يستوي القول بان السودان كان حريا أن يرقى إلى مرحلة فائقة التقدم أوالتطور إذا ما ترك وشأنه؟ بالطبع هذا سؤال موغل في الافتراضية وهو إلى ذلك كمثل المصادرة على المطلوب من حيث غياب ما يمكن توفره من الدلائل الموضوعية بحيث يمكن الإجابة على نحو موضوعي. سوى أن ثمة فرضية ناجزة تتأتى عن طبيعة المراكمة الرأسمالية. ولنبدأ بالقول بان راس المال هو مفهوم "برئ" ومحايد بحد ذاته. لكن حتى يقيض لراس المال ان يكون راس مال بالمعنى الاقتصادي فان عليه أن يواصل عمليه المراكمة المتصلة عن طرق الخراج أو الفائدة أوالربح أو غيرها من أشكال الفائض. إن أي كمية من المال لا تعتبر راس مال- ناهيك عن أن يسمى راس مال صناعي بدون أن يقوم على عمليات مراكمة لها قوانينها ولها طبيعتها التي تدل عليه. فراس المال البدائي يراكم عن طريق استلاب الخراج أو الريع وراس المال التجاري يراكم من عائدات التجارة والربح على المتاجرة فيه بيعا وشراء وراس المال المالي يراكم عن طريق سعر الفائدة في شكل الربا البدائي أو المرابحة أو المشاركة العشورية أو الخماسية في المحاصيل وعلى الديون الريفية. الخ أما راس المال الصناعي فيراكم عن طريق الربح عبر الإنتاج الصناعي للسلع من خلال المعادلة المعروفة:الإنتاج=التوزيع-التبادل-الاستهلاك- الإنتاج مجددا.
من هنا يمكن القول بان راس المال هو بطبعه محدود وغير قابل لان يكون موزعا بصورة عادلة على أفراد مجتمع واحد . أي أن راس المال لا يمكن مشاركته فإما أن يكون مملوكا لطبقة أو لجماعة خصما على طبقة أو جماعة أخرى أو لا يكون راس مال مهيمن بهذا الوصف بحيث ينتج ويعيد انتاج مجتمع رأسمالى بتراتباته الفطيرة وصولا الى تمايز طبقى ناضج. ومن ناحية أخرى فان راس المال المتراكم عن طريق استلاب الموارد سواء كان منها فائض العمل الحي أو رأس مال قابل لأن يطور نفسه فيرقى إلى مراحل متقدمه عن بتطور أساليب الإنتاج مما يتأت باستغلال الطبيعة والموارد الطبيعية والاهم بنشرء علاقات الملكية الى مرحلة اعلى لحساب المالكين واصحاب المال وخصما على علاقات العمل و المنتجين. فالاستغلال بهذا المعنى لكل من الطاقة الإنسانية والطاقة الطبيعية من طبع راس المال بكل أشكاله. وقد يصل اتغلال الموارد بالتراكم الرأسمالي الى يؤدى الاخير وكان قد أدى إلى ضعضعة الموارد الطبيعية التي يعتمد عليها راس المال في مراحل تطوره المتعاقبة في عملية الإنتاج. وحيث تتمأسس عمليات الانتاج فوق علاقات انتاج اكثر منها على أدوات إنتاج بعينها فان تلك العمليات تصدر عن طبيعة المرحلة التي يمر بها تطور رأس المال في ارتقاءه صاعدا أو ناكصا. وينتج رأس المال شكل السلطة التي تناسب مرحلته المعينة.
المهم بيقى رأس المال بهذا الوصف متناه اى محدود، وبالتالي لا يمكن تصور عدالة توزيع الثروة في أى مرحلة مهما كانت متقدمة بل العكس صحيح. حيث يبدو انه كلما ارتقى رأس المال من حيث القدرة على المراكمة فانه يغدو اقل رغبة فى عدالة التنوزيع مهما كانت فارقة احيانا. فكلما ارتقى راس المال كلما استحال عليه توزيع دائرة تشاركه فى المجتمع الواحد ناهيك عن أكثر من مجتمع أو مجموعة مهما كانت متجانسة. و غالبا ما يغدو تقدم وتطور رأس المال خصما على مناطق ولحساب مناطق اخرى. ويطور راس المال مناطق ومجاميع وشرائح سكانية على حساب أخرى في المجتمع الواحد. ويمكن القول بالتالي أن تقدم مجتمع أومجموعة مجتمعات تحأول التجانس والتنسيق بينها في المقياس المدرج-كالمجتمعات الأوربية أوالولايات المتحدة إلى مابين الحربين-إنما يستتبع أن تستلب مجتمعات أخرى لحساب تلك المجتمعات المتقدمة. أي أن ثمن تقدم المجتمعات الغربية تدفعه بالضرورة المجتمعات غير المتقدمة فيكرس ذلك الثمن بالنتيجة تخلف نظم وأنساق المجتمعات غير المتقدمة بحيث يغدو تكريس التخلف وظيفة تقدم المجتمعات المتقدمة ودالتها معا, وقد زعمت فى مكان اخر ان انماط الانتاج المسماة آسيوية وشرقية تلك السابقة على الرأسمالية كانت غالبا حرية بان تعبر عن نفسها فى التعاهد او التعاقد بين الحكام والمحكومين جراء الانساب والاسلاف والعبادات والالهة المشتركة فيما يشارف العقد الاجتماعى الا ما خلا ابان ازمنة الشدة. و تعبر الاخيرة عن نفسها فى الانتفاضات الشعبية التى عمرت تاريخ تلك المجتمعات. وقياس على المجتمعات الرأسمالية فان فكرة العقد الاجتماعى بقيت مفهوما طوباويا اكثر منه عملى موضوعيا فيما تعينت الرأسمالية كما رأينا اعلاه على استباق الانتفاضات الشعبية وكسر ظهرها وابلستها على مر التاريخ الرأسمالى غير المكتوب, ولعل ثمة سؤال ملح هو هل أن تنوعات "التغيير" أو التطور و النمو في المجتمعات السابقة على الرأسمالية الصناعة أو السابقة على الطبقات حرية بان تعيد إنتاج أشكالها التقليدية؟ وإلى متى تستمر عملية إعادة الإنتاج هذه و أشكال تنوعاتها؟
السودان تجربة "تنموية" استعمارية وعرة :-
بقدر ما يعتبر السودان تجربة استعمارية مشوقة وهامة في تاريخ بناء الإمبراطورية البريطانية بقدر ما تعتبر الفترة موضوع الدراسة بدورها محورية في فهم السياقات اللاحقة في السودان. و لعل بعض أهم تداعيات الحكم الثنائى و عشية الاستقلال ما تبرح ماثلة بعد. وقد حظيت تلك الفترة بمعاصرة اعتمالات إقليمية وعالمية غاية في الأهمية. و تعتبر هذه الدراسة إن إرهاصات وملامح ما غدا اليوم ماثلا من إعادة تشكل المجتمع المعاصر وشروط تمثله على ما هو عليه في صيرورته المائرة fluid غير المستقرة in a state of flux بعد كان قد تفعل منذ سبعينات القرن العشرين. وكانت تلك التفعيلات قد عبرت عن نفسها فى ممارسات وسياسات ما سمى بـ "إعادة هيكلة" المجتمعات, وقد تمأسست عملية اعادة هيكلة المجتمعات فوق كل من سياسات و ديون ما يسمى التكييف الهيكلي. و كان اخير حريا بان يغدو بمثابة اسفير ملغم فى اقتصاد تلك المجتمعات فلم تنفك ان راحت تنكص بمعدلات غير مسبوقة جراء الديون الخارجية مما لم يكن معظم تلك المجتمعات يحتاجه حقيقة, ذلك ان التكييف الهيكلى تعين على اعادة تشكيل الاقتصاد بحيث يتوافق و التغييرات الحالة في طبيعة راس المال الصناعي الخاص عشية صعوده ان نكوصه الى ما يشار إليه الأورثوزكسية الاقتصادية الجديدة أوالليبرالية الاقتصادية الجديدة-مما لم يكن اكثر و لا أقل مما اعرفه بالثورة المضادة في فكر “التنمية” الرأسمالية. فقد كانت الأرثوذوكسية الاقتصادية الجديدة وغيرها من المسميات التي تمفصل تباعا حسب الطلب عبورا بالإصلاح الاقتصادي في ثمانينات القرن العشرين باقتصاد السوق واقتصاد الباب المفتوح والإنتاج من اجل التصدير وغيرها قد راحت توظف اشرس ما فى الرأسمالية الغربية من وسائل الاستحواذ على الفائض بالفوائد على خدمة الديون وحدها ناهيك عن دفع الديون الاصلية التى باتت تفاقم كونها لم تنفك ان راحت تدفع الاقتصاد الى تطلب المزيد من الديون وكأن الاقتصاد بات مدمنا للديون الخارجية شأنه شأن مصاب بادمان الكحول مثلما حدث فى ارجنتينا وزامبيا وغيرهما.
ورغم ان مفهوم الديون الخارجية كان قد استقر فى مسام اقتصاد المجتمعا عبر التاريخ بالربا مما شوه الاقتصاد كون خدمة الديون تدفع الاقتصاد الى ادمان الديون و مزيد منه. و يوصل ذلك الادمان الدولة المدينة وشعبها الى ما يشارف علاقات العبودية مع الدائنين. الا انه من المفيد تذكر ان ثمة ديون خارجية و ديون خارجية.
وقياسا على الديون الخارجية من الدول الرأسمالية الغربية التى أوصلت الدول المدينة الى كل من ادمان الديون فالخراب فان الدول الاسيوية مثلا تستدين وتقبل اعانات من بعضها. سوى ان تلك الديون والاعانات ساعدت الدول الاسيوية مثل ماليزيا و فيتنام على تنمية مستدامة مقارنة مع "التنمية" فى الخراب التى اكرهت الدول النامية عليها جراء الاستدانة من الدول الغربية. وتبقى اليابان مثلا أكبر دائن لبعض الدول الاسيوية وتقوم الصين تباعا بدور مماثل. و قد بقى دور اليابان كدولة دائنة يكاد يفوق من عداها حتى حلول الصين فوق ساحة الاقتصاد العالمى. وتضتح طبيعة الديون الاجنبية الاسيوية والغربية فى المقارنة بين ماليزيا وغانا قد استقلتا عام 1957م. وحيث يعانى الاقتصاد الغانى مثله مثل اقتصاد معظم ان لم يكن كافة الدول الافريقية جوب الصحراي ما يشارف الكساح المزمن تحولت ماليزيا ابان نفس الفترة الى واحدة من أكبر الدول المصنعة فى جنوب شرقى اسيا, وكان متوسط الدخل فى الدولتين متشابها الا ان متوسط دخل الفرد الماليزى وصل منذ الالفية الثالثة وتباعا حوالى 4 الاف دولار فى العام مقارنة مع دخل الفرد الغانى الذى يقل عن 157 دولار فى العام. و تستثمر ماليزيا اليوم مثلها مثل الصين واليابان فى الدول الاسيوية وما عداها. وتستثمر الصين و ماليزيا و اليابان بمعدلات عالية فى السودان مثلا. فقد خرجت رساميل الاخيرات الى فضاءات أوسع من كل من جنوب شرقى اسيا وحافة جنوب المحيط الهادى South Pacific Rim جميعا. فما هى الخصوصيات الفارقة للتنمية "الرأسمالية" الاسيوية و نظيرتها الغربية؟
اتصلت الديون الخارجية الغربية للدولة المسماة نامية و دول أوربا الشرقية ابان وعشية انهيار المنظومة الاشتراكية بمفهوم و معايير صندوق النقد الدولى والبنك الدولى وأمثالهما من المؤسسات المالية الغربية كما اتصلت الديون البينية بين الدول المسماة نامية والدولة الغنية بدورها بشرطيات متشابهى فقد كانت تلك الشرطيات ترغم الدول المدينة على قبول استثمارات اجنبية تتعين على تصدير الفائض الى الخارج خصما على المراكمة الذاتية للمجتمع المضيف لتلك الرساميل.
وفيما يلى قياس موجز لمغبة اليون الخارجية والمعونات الاجنبية الغربية و نظيرتها الاسيوية مثلا:-
1- يتجاوز الدائنون والمانحون الغربيون بانواعهم وزير المالية تكريسا لاحباط التخطيط المركزى.
2- يفرض صندوق النقد الدولى الغاء التخطيط المركزى للاقتصاد فى حين الن البنك الدولى مثلا هو اكثر المؤسسات المالية الغربية تخطيطا مركزيا.
3- يتسأوق وجود عشرات المانحين فى وقت واحد فى الدولة الممنوحة بحيث يثار الاضطراب التنظيمى والمالى فى جنبات تلك الدولة. فلكل من اؤلئك المانحين أوليويات وشروط. فقد كان فى تانزانيا مرة ما يزيد عن 1000 مانح فى وقت واحد. وكان على ماليزيا تقديم اكثر من 500 تقرير للمانحين فى عام واحد[133].
4- تجعل قوة المانحين لهم وضعا يفوق وضع الدولة القائمة ناهيك عن وزير المالية مثلا. وبالمقابل تتحكم تلك القوة فى الوزرات المختلقة تجأوزا لأى سلطة محلية اخرى واقلاقا لها.
وقد تمأسست ابرز ملامح هذا النموذج الاقتصادي في “التنمية” على سقوط أوالانهيار-الدائم أوالمؤقت-لأى مشروع اشتراكي من إعادة التوزيع التي يتوفر عليها القطاع العام إلى الاقتصاد المخطط مركزيا حتى النظام الاشتراكي في الجمهوريات السوفيتية السابقة. و يتأسس النموذج "التنموي" على ما أسميه أصولية السوق و يصدر الاخير عن الرأسمالية ما بعد الصناعية. وكانت العملية التراكمية لشروط ذلك الاقتصاد قد باتت لا انتقائية INDISCRIMINATE فان كان رأس المال الصناعي انتقائيا في الاستثمار وفي التصنيع فأن راس المال ما بعد الصناعي حتى مابين الحربين فقد بات بعد الحرب العالمية الثانية لا متحزبا فلم يعد يحسب حسابا انتقائيا للمجتمعات الصناعية الغنية. فقد تعين ما يسمى بعولمة الصناعة Universalization of Industrialisation على إعادة هيكلة المجتمعات بصورة عنيفة. وكانت جذور تلك التحولات قد راحت تستقر في مسام المجتمعات الغنية والمفقرة معا صبيحة صعود الولايات المتحدة الأمريكية إلى الزعامة الاقتصادية السياسية العسكرية والثقافية والأيديولوجية للعالم [134]. وكان الاتحاد السوفيتي بدوره قد نشأ صاعدا لمشاركة أمريكا زعامة العالم وجيزا ما بين الثلاثينات حتى الستينات أواتفاقية عدم إشعال حرب نووية بين القوتين العظمتين. فأين يمكن للسودان ان يقف عشية الاستقلال السياسي في الخارطة السياسية الاقتصادية لعالم كان يتحور سراعا نحو واحدية القطب اقتصاديا وعسكريا وثقافيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وربما باكرا منذ مشروع ويلسون لحق تقرير المصير باتفاقية فرساي في باريس بنهاية الحرب العالمية الأولى في 1919؟
قياسات التنمية الاستعمارية و التنمية الاهلية:-
رغم أن هذه الدراسة تتكئ أكثر من أي شيء آخر على التنأول السيوسيولوجى الا انها ايضا تستعير التحليل الاقتصادي السياسي كلما دعت الضرورة، ومن ثم فإنها تنظر إلى الطرق الصوفية وتأثيرها على تشكيل الفرد والجماعات السودانية، وبالتالي إلى نظم القيادة الاجتماعية السياسية-الاقتصادية بالضرورة كما سيتضح من أسلوب إنتاج وإعادة إنتاج المجتمع الصوفي في القرنين الثامن والتاسع عشر وحتى بداية الحكم الثنائي في السودان. فمنذ عشرينات القرن الماضي عنى الاستعمار البريطاني بإعادة هندسة القبائل والطرق الصوفية وإعادة تعريف مفاهيم الملكية الزراعية وتقسيم المياه والأراضي وتوزيع الإمتيازات الاقتصادية التجارية كركائز اقتصادية اجتماعية لإعادة هيكلة أهم خصائص المجتمع السوداني وعلى رأسها الخصائص القبلية التي تم له استيعابها منذ الحكم التركي /المصري الأول. و ازعم ان الاستعمار المتردد كرس بدوره و باكرا و قبل الفتح التركى الأول مسارات “التنمية” الإمبريالية" باحلال فئات اجتماعية مكان اخرى بالوصف اعلاه. و كان الاستعمار المتردد بريادة الفتح التركى الأول بالوصف اعلاه قد تعين ابان المرحلة الأولى من الفتح على اعادة انتاج التعليم الاهلى و بخاصة التعليم القرآنى للخلأوى و احياء الطرق الصوفية باستجلاب طريقته معه وهى الطريقة المحمدية و بفتح الرواق السنارى لما بات ينتج علماء الدين السودانيين.
وقد كرست التركية الأولى ايضا النظام القبلى و كان أول من منح القاب البكوية زعماء كبريات القبائل مثل زعيم قبيلة الشكرية. وحيث تعينت التركية الأولى ايضا على تكريس قيم سابقة على أواخر السلطنة الفونجية كتجارة الرقيق فقد كان من بين العناصر التى تعينت التركية على اصطفائها والحاقها بشرائح السلطة بل تمييزها بالقاب وفضاءات حركة واسعة الزبير رحمة وابنه سليمان. وقد صار الأول باشا وقيض له ولسليمان ما بات يعرف بامبراطورية الادغال أوالغابة  Bush Empiresوكانت تلك الامبراطورية عبارة عن محطات نقل العبيد وقد اقيمت على شكل ذرائب فى الخلاء مسورة بالشوك. وكان تفكك السلطنة قد قيض لتجار الرقيق الاجانب وعملائهم احتكار تلك التجارة وقد راجت اسواقها فى أكبر مدن الفونج كشندى وبربر والدامر على أواخر ايام الاخير. ذلك ان السلطنة كانت على أواخر ايامها اما منيت بتفكك ابنيتها المركزية التى كانت ترتكز على نمط الانتاج الشرقى-مما قد اناقش بعض قسماته فى مكان اخر ويجمع الاخير بين تنويعتى العبودية غير المنفولة والقنانة غير المربوطة بالارض معا. وكان اهم ابعاد قطاع تجارة القواقل عابرة الحدود القبلية والقومية وتسمى ايضا تجارة المسافات الطويلة Long Distance Trade  ويشار اليها بالتجارة العالمية International Trade وتجارة القوافل عابرة الصحراءTrans-Saharan Caravan Trade . وكانت التجارة حكرا على الدولة الخراجية المركزية الا انها فقدت للسلطان تباعا منذ تجارة الملح والذهب ابان التجارة الصامتة الى تجارة الرقيق العبر اطلسية مع التوسع الأوربى والغزو الاجنبى. وكان السلطان الى ذلك قد تنازل باكرا لشيوخ الطرائق عن حق حراسة طرق وابار تجارة القوافل فجمع الجبايات وفرض الضرائب على تجارة العبور أو انه لم يعد يملك القدرة على منافسة الاخيرين فى التجارة.
وكان شيوخ الطرق الصوفية قد أوصلوا وجهاء واعيان الفونج كما سنرى الى املاق-بالالوان الطبيعية ان صح التعبير وذلك على غرار املاق الطبقات الوسيطة المعاصرة. حيث لم يبق لاعيان الفونج امام منافسة سر التجار الصوفى سوى مظهر خارجى وقد خلى وفاض اعيان الفونج من المال و من كل اقتدار اقتصادى و من ثم سياسي. و كان اعيان الفونج يؤلفون الشرائح الوسيطة بين السلطان والملوك الصغار وامراء الفونج فى اقاليم السلطة. وازعم ان تلك السابقة الفت تنويعة على تنويعات لاحقتة وسابقة باكرة على تفريغ مراكز وادوار الفئات او أوالشرائح "الطبقات" السودانية الوسيطة من قدراتها التنظيمية فالاقتصادية السياسية جميعا فلم يبق منها اكثر مما يشارف خيال المآتة. وقد عقد قياسا فى مكان اخر بين حالة تلك المجاميع- و قد احل مكانها اشباه مشوهة- ومن اطلعت عليهم فئات خيال المآتة. ذلك انه فيما عصف بتلك الفئات فقد احلت مكانها اشباه مشبوهة يطلق عليها احيانا صفة "الطبقات الثرثارة" Chattering Classes و"الطبقات الاجرائية Operational أو طبقات وظيفية  Functional   وقد راح يعمر صفوف تلك "الطبقات من أعرفهم بالليبراليين الجدد Neo-Liberals فى مكان اخر تفريقا لههم عن الليبراليين اللذين انجبتهم البرجوازية الصناعية والدرمقراطية البرلمانية الوجيزة كون الاول تنويع على المحافظين الجدد. المهم لم يبق لاعيان الفونج ولا للفئات الوسطى الفونجية مع تفريغ مركزها الاقتصادى والسياسى سوى مظهرها الخارجى. ورغم أن محمد احمد المهدي كان قد ألغى الطرق والطوائف الا ان المهدية لم تلبث أن احلت فئات اجتماعية دينية مكان اخرى فالغت الطرق الصوفية.
وكانت الثورة المهدية قد ارتكزت على طرق صوفية بازغة وأقامت دولتها ما بين أعوام 1885م إلى 1898م الا ان المهدية احلت مكان الاخيرة اشباه مشوهة لشيخ الطريقة. وقد قيدت المهدية حركة الفكى و عينت له "الراتب" مقررا مدرسيا و لم تترك له سوى الاعفاء من الخروج للجهاد بصحبة امير المنطقة الا باذن الاخير. ولم ينفك الحكم الثنائى ان راح يعمل التجريب الامبريقى مثلما فعلت انجلترا مثلا فى مستعمراتها الداخلية وبخاصة ايرلندا فى احلال فئات مكان اخرى. فقد حاول الحكم الثنائى احلال المتعلمين المغربنين مكان نظائرهم التقليدية مرة ومرة اخرى راح يضرب الاخيرين ببعضهم وهكذا مما انتح فيروس الانقسامات بين كل جماعة وصولا الى ما يشارف الحرب الاهلية بين التنظيمات الحديثة مما يتمأسس على ما يسمى بالقوى الحديثة والتنظيمات التقليدية مما يتمأسس على الطوائف المسيسة. وقد انتجت الاخيرة كل من تنويعات العسكر المسيسين طائفيا والعسكر الاسلاميين السياسيين. وقد انجب الاسلام السياسى السودانى بدوره مجاميع من المتعلمين المدنيين المؤدلجين فى تنويعة اعرفها بالليبراليين السودانيين الجدد. وقد اتقنت تلك المجاميع استقطاب فاحتواء قيادات سياسية فتشكيلها وتطويعها مما تلاحظ تنويعاته فى المجتمعات المفقرة العربية الاسلامية والغربية الغنية.
وحيث أزعم ان ليس ثمة ظاهرة تنشأ من فراع كما ان لكل شيء شروطه الى ذلك اجادل ان ظاهرة احلال و اعادة تشكيل مجاميع اجتماعية فى خدمة السلطة القائمة أو/و السلطة السمسارة لحساب سلطة خارجية كانت قد جربت باكرا وعلى مر الزمان. وكان الاستعمار الانجليزى مثلا قد احل نصراء تابعين بكل من تبشير الكنيسية الانجليزية البروستانتية والعرش مكان زعامات الايرلنديين مثلا من السكان الاصليين الكاثوليك فى ايرلندا على سبيل المثال لا الحصر. ولم تلبث انجلترا أن ادعت ايرلندا بوصف أن الاخيرة بروتستانتية يحكم شعوبها البروتستانية زعامات بروتستنتية مما يجعل من انجلترا مسئولة عن حمايتهم كونهم رعاياها. ولم تلبث انجلترا أن ادعت ايرلندا البروتستانتية بعد ان تعينت على تكريس انقسام الشعب الايرلندى بين كاثوليك لا يزيدون على تراكمات عددية لمن لا وجوه لهم الا بقدر وما وصمهم الانجليز بالوحشية والبربرية مثلما توصم كل مقاومة قومية للاستعمار. وبالمقابل بات البروتستانت اصحاب الارض خصما على اصحابها الاصليين يحكمون قبائل غير قابلة للتطويع. و قد بات المستوطنون البروتستانت ممثلين للتاج. وقياسا فان امسى البروتستانت بالضرورة وحدويين فقد تعينت انجلترا على حماية الرعايا البروتستانت كونهم رعاياها بالنتيجة. فقد باتت ايرلندا تابعة للتاج كون بعض زعمائها و قوادها قد تمت افانجلتهم اى استقطابهم فى الكنيسة الانجليزية الانجيلية أو تم تصدير جماعات بروتستانتية من النخب المغامرة لاستيطان ايرلندا خصما على أهلها الاصليينين. وازعم ان ما قيض لانجلترا ادعاء ايرلندا بوصفها تابعة للتاج بموجب افانجلة Evangelizing  بعض زعاماتها و قواعدهم كان حريا بان يقيض لحكومة السودان ادعاء السودان ما ان جأرت الادارة البريطانية فى السودان منذ ما بين الحربين بانها "حكومة مسلمة تحكم شعوبا مسلمة". مما افصله فى مكان اخر. وقياسا ازعم ان "أسلمة حكومة السودان" او ادعاء  الاخيرة للاسلام تخاتلا كان حريا بان يقيض لحكومة السودان ادعاء السودان والسودانيين كونهم رعايا "حكومة مسلمة تحكم شعوبا مسلمة".
السودان وايرلندا:-
إذ كانت بريطانيا تحكم مسلمي العالم المقدر تعدادهم-بما في ذلك شبه القارة الهندية - الهند السابقة على التقسيم- بنحو مليار نسمة آنذاك فقد راح الإداريون الإنجليز يدعون أنهم "مسلمون" يحكمون امة مسلمة ويشيرون إلى أنفسهم وبخاصة بعد مقتل السير لى ستاك Lee Stack منذ عام 1925م السردار "المصري" بـ"حكومة السودان". فقد كانت انجلترا تتعين على ممارسات لا تقل او تزيد على استدعاء مفاهيم سلطة استعمارية يتعين على ادارتها فرد مفرد مثل الحاكم العام والسردار والمعتمد المقيم والحاكم العسكرى ممن يلاحظ الناس فى كل مكان تنويعات عليهم من كرومر وكيتشينر وصولا بريمر و نجروبونتى. و تتمثل تلك التنويعات المتستر عليها فى فى البلقان و اوربا الوسطى و الشرقية وفى دول بحر قزوين اما فى هيئة حاكم عام او معتمد او سفير أو حتى شركة اعلانات مثل "بيت الحرية" House of Freedom وساتشى وساتشى ( ساعاتى وساعاتى اليهوديين العراقيين القائمين على مؤسسة بهذا الاسم و غيرها ممن يتعين على انتاج واخراج المعارضات المعدلة جينيا).  فالسلطة الحقيقية فى البوسنة مثلا فى يد بادى آش داون Ashdown ممثلا لحلف الاطلنطى وقوات السلام العالمى. ويقول احد الكتاب عن السفير الأمريكى فى القاهرة انه بات محبا للصوفية ويشاهد عند اضرحة اوليائها و يحرص على زيارة مولد السيد البدوى بطنطا سنويا وقد اصطحب ابنته.
وحيث لم يكن واردا التبشير المسيحى فى المسلمين بتجربة بريطانيا فى الهند ومصر وغيرهما فقد اعلنت حكومة السودان انها هى مسلمة. ولم ينفك ان بات من أهم ما شغل الإنجليز به هو القيادات الاجتماعية والتعليم الأهلي حتى يتمكنوا من استيعاب الفرد والجماعات عبر التعليم والتدريب والتنشئة الأهلية بعد مفصلتها بالقدر الكافي. وكانت غاية تلك السياسات شكم قدرات الاخيرة الايديولوجية القتالية مما كان قد تبدى إبان نهاية سلطنة الفونح ومع الثورة المهدية بالذات. وكان من غايات تلك السياسات الى ذلك تفادى الاضطرار إلى نشر التعليم الرسمي حتى لا تغدو المستعمرة اكثر تكلفة مما تدر الأمر الذي يغدو مصادرة على مطلوب فكرة الاستعمار من أصلها. ذلك ان قانونا أوشريعة استعمارية رأسمالية "تنموية" معروفة تقول بان مستعمرة مكلفة لا تستحق أن يحتفظ بها An uneconomical colony is not worth having .
ولقد كانت الطرق الصوفية واحدة من آليات الاستيلاء على سلطة أمراء وسلاطين الفونج في أواخر أيامهم. وكانت الطرق الصوفية أو على الأقل طريقة محمد احمد المهدي وراء سقوط حكم محمد على باشا في السودان أو ما يسمى بالتركية الأولى. المهم من المفيد تذكر أن انجلترا بقيت تصدر عن تجربتها مع القبائل الكلتية في ايرلندا على الخصوص. وكانت ايرلندا وبقيت تجربة استعمارية وعرة حتى تدخل الايرلنديون الامريكان لحساب ايرلندا الكاثوليكية ومن اجل توحيد الايرلنديتين بحرب تحرير مسلحة لم تتوقف حتى بعد توقيع اتفاقية الجمعة الحزينة فى قصر ستورمونت فى 10 ابريل  1998م. فلم يلق جيش التحرير الايرلندى السلاح حتى منتصف سبتمبر2005م[135]. ورغم أن السودان شكل بدوره  وعورة سكانية وتكوينية وثقافية للمستعمرين منذ غوردون و سلاطين باشا والمكتشفين الأوائل فقد ركزت السردية الرسمية للإدارة البريطانية في السودان على قصص النجاح دون غيرها من ناحية واستباقا لما قد يحيق بالسودانيين مما يجلبونه على أنفسهم بجريرتهم وليس بمغبة الاجتياح الاستعماري كما في كرري حيث قضى ما يشارف ربع مليون أنصارى نحبه في عصرية واحدة من أيام يناير 1899. لقد أدرك المستعمرون أن الوعورة التكوينية والثقافيةالسودانية تعيد إنتاج تجربة الانجلوساكسون مع الايرلنديين وقد وصم الأول الأخيرين بالوعورة والعنف استباقا لما قد يحيق بهم مما يجلبه البرابرة و المتوحشون على أنفسهم بجريرتهم.
وكانت انجلترا قد أسقطت العنف على الأقوام الكلتية من الويلش والاسكتلنديين وبخاصة الايرلنديين حتى يسهل وصمهم بالبدأوة والعزوف عن والاستعصاء على التمدين. وما أن وصموا بالبربرية حتى اتهموا بمقأومة الكنسية فاعتبرتهم الأخيرة كفارا متوحشين يليقون بالإقصاء خارج حظيرة الإيمان Beyond the Pale[136] تم تسويغ إبادتهم بوصفهم أدنى من الآدميين. وكانت الحدود البريطانية الايرلندية حرية بان تغدو حدودا بين شعوب متحضرة وإقليم تسكنه أقوام بدوية أعرابية خارجة على البشرية. ذلك أن الانجلوساكسون كانوا يتطيرون من البدو الأعراب ويولعون بهم لما بينهم وبين الأخيرين من سير مشتركة مسكوت عنها. وكان ولع الإنجليز بالبدو وبالطرق الصوفية حريا بان يتصف بالتناقض. فمرة كانت تستهويهم القبائل المترحلة والقبائل المستقرة ويسحرهم البدو والأعراب على وجه الخصوص. ومرة كانوا يكرسون عمليات اقتصادية وسياسية من شأنها تحجيم تلك القبائل وتقليص سكانها.
ومن ناحية أخرى كانوا معنيين بتتبع الطرق الصوفية حينا في خشيه مما كانوا يشيرون إليه " بالميل نحو الهياج الديني Religious volatility المبشر بالعنف" وحينا آخر يحأولون استيعابها بترفيع زعماء قبليين على حساب آخرين وحينا ثالث يعضدون بل يعيدون إنتاج اكبر الجماعات الصوفية-جماعة أنصار محمد احمد المهدي الذي كان قد ثار على التركية الأولى وأقام الدولة المستقلة الوحيدة التي كانت تصك عملتها وتستلب خراجها لصالحها خارج السيادة العثمانية للولايات العربية. ويمكن إضافة الأحداث المتلاحقة لنهاية ثمانينات القرن العشرين تلك التوليفة الاقتصادية الاجتماعية للتنمية الاستعمارية بخاصة ما بدأت جذوره ترسى منذ ما بين الحربين العالميتين بصعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي معا إلى الزعامة الاقتصادية السياسية العسكرية والثقافية والأيديولوجية للعالم[137].
الفصل الرابع عشر: خلفيات تاريخية ومفهوماتية
قد يؤلف السودان سرة افريقيا وتؤلف اقريقيا سرة العالم فيؤلف السودان سرة العالم. وازعم ان ليس غريبا ان يؤلف السودان الجغرافى فبوصفه سرة القارة الافريقية موطن كل تلك الثرواة المادية العظيمة فيغدو هدفا جيوسياسيا محوريا لسياسات دولية ماضية ومستقبلية. والسودان مهد الحضارة الفرعونية التى ما يبرح العالم يتحذب بشأنها للمالك الشمالية خصما على الجنوبية حتى يسهل "تبييض" تلك الحضارة مرة و يكرس لا احقية افريقيا بانتاج حضارة لا مسبوقة تصويغا لبربرة اهلها فتيسير عمليات تحويلهم الى محض طعام للاسماك. و السودان معبر هام لاهم قسمات تلك الحضارة غير القابلة للنفى ولا للالحاق بأوربا والغرب باجتزاء حاصل جمع تلك الحضارة فى تاريخ ملوك الاسرات الوادى نيلية. ذلك انه ما ان اجتزأ تاريخ حضارة وادى النيل فى سير ملوكها و الهتها بخاصة من الاسرة الثامنة عشر و ايزيس حتى فلصف-من الفلصو-تاريخ تلك الحضارة بوصفه تنويع على ملوك والهة أوربية غربية وقد راح الاخيرون يتماهون مع ملوك وادى النيل خصما على شعوبهم مثلما خصم "تحديث" و دقرطة افريقيا خصما على شعوبها تباعا. وتوقف كنوز السودان المعروضة لأول مرة فى المتحف البريطانى مابين 9 سبتمبر 2004 الى 9 يناير 2005 نظرية النشوء والارتقاء و حسابات التواريخ الميثولوجية التوراتية فوق قدميها و كانت تلك النظريات قد أوقفت فوق رأسها طويلا حتى اصيبت بالدوار.
ويتحدى خط مسار الحضارة الوادى نيلية براديجمات الغرب السابق على الرأسمالية و ما بعد الرأسمالى التى تفلصف-من الفالصو-تاريخ البشرية تكريسا لمفهوم مدلس بشأن هجرة الاجزاء الثقافية فالحضارة دائما من الشمال وليس من الجنوب الى الشمال. ولا يوقف تاريخ الحضارة الوادى نيلية المنظور الغربى المتحيز للشمال خصما على الجنوف على قدميه فيوقف نظرية النشوء والارتقاء الصاعدين-بالغرب طبعا-الى ما لا نهاية فوق قدميها بدورها وحسب وانما يغدو تاريخ وادى النيل بهذا الوصف حريا بان يوفر الدليل على ان العالم يتخلف بقدر ما لا ينتج سوى تكنولوجيات الدمار من تدمير البيئة والانسان والمجتمع والاخلاق والقيم. المهم ينفرز تاريخ السودان عن محصلة حضارية تتصل بقارات مجأورة واخرى بعيدة من جنوب شرقى اسيا فالجزيرة العربية الى شمال افريقيا عبورا باليونان. ويتاخم السودان عوالم عربية واسلامية ومسيحية وطوطمية. ويجسر السودان شمال القارة وغربها و القرن الافريقى و منطقة البحيرات بكافة آليات الترابط التاريخى الحضارى من الجنوب الى الشمالي والعكس. والسودان هو منتج- مبنى للمجهول- ومنتج ومناح ثقافى وكأنه بوتقة الثقافات العربية والافريقية. وحيث يتلقى السودان ثقافات من حوله تتكيف الاخيرة بالثقافات السودانية فتنج اجزاء ثقافية جديدة. وما تنفك تلك الاجزاء الثقافية السودانية- وقد تجددت على ارض السودان اجزاء ثقافية تعتمل فى داخلها تلك الابداعات و المجددات الثفافية الى باقى القارة من جنوب الجزائر الى موريتانيا و الصنغال غربا و من القرن الاقريقى جنوبا الى أوغندا و نيجيريا وكينيا حتى الموزأوبيق شرقا و جنوبا.
تسييس الاسلام السودانى و ترويع "القوى الحديثة" باكرا:-
تصارع فى السودان مفهومان محوريات روع كل منهما الآخر على مر التاريخ. وازعم ان مفهومى التقلدي و الحديث ارتهنا بعضمها فى السودان منذ وادى النيل الاسراتى شأنه شأن غيره من المجتمعات كون المجتمع ميكانيزم حى يتفاعل وينشأ وينكص فى تنويعات على نفسه اكثر منا أى شيء اخر رغم الغزو العسكرى و الاجتياح الثقافى الخ. و يصدر مفهوما التقليدى والحديث بدورهما عن تلك التنويعات اكثر من أى شئ اخر. وتجادل هذه الدراسة ان الحداثة تمثلت فى وادى النيل الاسراتى منذ نشوء ظاهرة الحكيم الغريب- مثل مينا وكان يسمى الحكيم اليافع أوالشاب- وظاهرة العبيد المعتقين و المحظيات الملكيات وترتبط بظاهرة الحكماء الغرباء من مينا الى الحاج عسى وابنه حمد بن عبد الله على الساحة الايديولوجية والاقتصادية فى الفونج وصولا الى عبد الله التعايشى الخ. المهم فورا يستخدم البحث بخاصة فى المبحث الثانى مفردة حديث بمعنى معاصر احيانا ويدرك ايضا ان المفردة تعرضت للتدليس مرة ومرة قامت بغواية المستعمرين-بفتح الميم الثانية-كغانية ذات سبع اقنعة تطالب برأس من يجرؤ على التطلع الى وجهها فراح معظمهم يدعى الحداثة مثلما يدعى معظمنا اليوم الليبرالية الجديدة استجداء لمكان تحت سحب العولمة.
وأعرف المعاصرة بوصفها محض الوجود فى الزمكان وتغدو هذه المفردة بهذا الوصف محايدة لا تعنى شيئا فقد يكون الفرد أوالشئ أوالمجتمع معاصرا ويبقى تقليديا وربما بات ما بعد تقليدى لمحض معاصرة مؤثرات لا يقوى على استيعابها أو/و يرفضها وقد تكون ممنوعة عليه. وقد يستوعب الفرد الشئ المجتمع مؤثرات معاصرة بلا وعى أو/و بمحض الحاحها, سوى ان مثل ذلك الاستيعاب يبقى غير قابل للهضم فيصيب الفرد أوالشئ أوالمجتمع بعسر هضم قد يتمثل فى امراض وتشوهات قد تنتج تنويعا مشوهة على نفس الفرد أوالشئ أوالمجتمع. ورغم ان مفردة المعاصرة تستخدم مرادفا للحداثة احيانا الا ان الاخيرة نفسها تستخدم تكاذبا متقصدا بوصفها تقدم على التقليدى أوتطورا عليه أوعلى ما سبقه. وازعم ان مثل تلك التعريفات اما تشارف السذاجة غير المغتفرة أو/و تستدعى بلؤم مدلسات تعوزها الموضوعية. وكثيرا ما تستخدم مفردة الحداثة بمعنى التقدم على ما كان عليه الشئ أوالفرد أوالمجتمع و كأن الحداثة و من ثم التقدم وظيفة مرور الزمان A function of the passage of time . فيضمن فى مفهوم مجتمع القرن الواحد و العشرين مفهوم تقدم ذلك المجتمع على ما كان عليه نفس المجتمع فى القرن العشرين وهكذا.
هذا فيما قد تعنى الحداثة كل شئ لكل فرد فانها باتت ايضا تعنى تعنى اشياء متغايرة لافراد مختلقين. و كانت مفردة الحداثة تتألق فى خمسينات القرن العشرين ببشرى التقدم و كانت حبلى بحمولة من معانى المعاصرة والدينامية و الاقبال على الحياة و الابداع القومى و التسامح الوطنى مع نظائر وطنية اخرى وقبول التغييرات المتسارعة الحالة فى مفاهيم الكرامة الذاتية والجمعية والتشارك والغيرية والتضحية فالفداء دفاعا عن القيم. فالحداثة محصلة ذلك كله.
و بالمقابل فحيث كانت المفردة فى افضل تعريفاتها موحية ودافعه للنزوع نحو تغيير التقليدى الى ما هو افضل أى الى الحداثى فقد بات كلمة حديث و حداثة تعنى عشية الالفية الواحدة والعشرين و فى مناخ ما بعد الحداثة مفهوم  قديم بارد متخشب لا عملى. فان راحت ما بعد الحداثة تعنى عكس الحداثة جميعا فقد تعينت الأولى على الذراية بالثانية. ذلك ان ما بعد الحداثة تتهم الحداثة بضيق الافق والتحذب والجهل والغباء وبالتواطؤ مع الليبرالية على ما بعد الليبرالية و بمجانبة الصواب السياسى وبالعداء لامريكا فللسامية وبالنظرية التآمرية جميعا. 
المهم تصدر الاسطر التالية عن فرضيات قابلة للاثبات فى محأولة توفير الجهد فى البحث فى مزيد من قسمات السودان. وتبدأ أولى الفرضيات بمحاججة أوبالزعم بان تنويعات باكرة على حملة حرية العراق كانت قد قيضت ما سمى الاستقلال السياسى وحق تقرير المصير فسلمت زعامات افريقية وعربية لتنويعات على الليبراليين الجدد أوالخواج الجدد فى العراق وافغانستان ومثلما حدث فيما سمى بالجمهوريات الجددة وقد خرجت من رحم خراب المنظومة الاشتراكية. وكانت التنويعات الباكرة على الليبراليين الجدد ونظائرهم الخوارج الجدد قد يسرت وراثة العمليات الوعرة التى كانت حرية بان تعبر عن نفسها عشية الاستقلال باخراج "استقلال" صورى فرفعت الاعلام و دقت المزيكا و سميت معظم شوارع العواصم الافريقية وغيرها باسماء العملاء خصما على المناضلين الشرفاء. وكان المناضلون الشرفاء قد صدقوا ادعاءات انجلترا الديمقراطية الليبرالية- مثلما صدق بعض العراقيين والعرب والمسلمين أمريكا- قياسا على غفلة البعض التى تشارف اليوم- فى افضل الشروط-الخديعة-فتصور الشرفاء ببراءة تتقطع لها نياط القلب, ان البرجوازية الصناعية أو/و وريثتها ما بعد الصناعية و قد باتت تنتعل احذية الأولى بثبات منذ ما بين الحربين على الاقل رسولتى الحضارة و الديمقراطية.
وبالمقابل و فيما راح الانتهازيون الواعون يتماهون مع مبادئ الراسمالية المعلنة وادعاءاتها فقد كانوا حريون بتيسير توريث الاستعمار  الانجلوساكسونى الكلاسيكى لنظيره الانجلو امريكى. فقد كانت بريطانيا تاخذ على عاتقها القيام بدور الخنفساء التى تسبق العقرب و قد تعينت باكرا على:-
- تطويع الشباب الحضرى بغواية نظريات سلطة الصفوة الحضرية والنخب الوظيفية خصما على الصفوة التقليدية الريفية البدوية. وكانت امريكا قد استدعت تلك التنويعات من تجربتها فى اعادة تشكيل اليابان وما تنفك تحأول استدعاءه تباعا فى اعادة تشكيل العراق والشرق الأوسط الكبير ان قيض لها ذلك. وكان الشباب السودانى البازغ حرى-مثله مثل نظيره اليابانى-لان يسجيب لغواية الاحابيل التحديثية. فقد كان الفكر الانجلوساكسونى حريا بان يخايل لاؤلئك الشباب بمدلساته المفهوماتية وبمؤسساته الاخاذة . وقد غرر ذلك الفكر وتلك المؤسسات لأولئك الشباب مثلما غرر بابنائهم وأحفادهم من بعدهم. بالمقابل فقد روع اؤلئك الشباب بمغبة تهمة العصيان وقوانين الجمعيات المحظورة باكرا مما لم تنفك الحكومات الوطنية اللاحقة ان استدعته بدورها[138]. وقد كرست مغبة تهمة العصيان لدى اؤلئك الشباب المنع والكف الراجعين فى هذه المرة الى القوانين الوضعية قياسا على المنع والكف الذاتيين والجمعيين اللذان كانا يعودان غالبا لقوة الاعراف والتقاليد والى سلطة الضبط الاجتماعى على الفرد و الجماعة.
- اعادة هيكلة الاسلام الرسمى-مثلما فعلت امريكا مع الكونفيوشية و الطاعات الخمس. و قد خصمت اعادة هيكلة الاسلام الرسمى على الاسلام الصوفى الشعبى القبلى الريفى و البدوى لحساب الاسلام الطائفى. وكان الاسلام السودانى صوفى مالكى    حنفى محافظ على تقاليد و مراسيم رسمية Formalist ظاهرى متشدد احيانا و يصدر عن الاصول فيما يسمح بالاجتهاد. وكانت تنويعة الاسلام السودانى قد تحدرت عن قسمات طوائف الموحدين الاندلسين و قد ادخل بعض التجار-المتصوفين الاسلام فى السودان صبيحة سقوط غرناطة-الاندلس سواء من شمال افريقيا أو-و من الجزيرة العربية شرقا. وحيث كان الموحدون قد جاءوا من الشمال غب سقوط غرناطة فقد راحت تنويعات عليهم تأت من الشرق و من الجنوب و ما تنفك تنويعات على التنويع التوحيدى المذكورة تترى تباعا حتى ثورة البترول فى بداية سبعينات القرن العشرين و تباعا. ففيما تتمأسست الطوائف المجيشة فوق الطرق الصوفية الآتية من الشمال مع هجرات الموحدين الاندلسيين العنيفة فقد جاءت طوائف كانت حرية بان يتصل سفر تكوينها بارهاصات الحركات التطهرية المتطرفة فى الجزيرة العربية. فقد كانت التحولات الحالة فى الاندلس و شمال افريقيا قد تصاحبت و تداعيات مشابهة فى الجزيرة العربية و البحر الاحمر مع سقوط مدن و موانئ الاندلس للاسبان الكاثوليك من ناحية و سقوط موانى الخلافة الاسلامية التجارية الخ للمغامرين البرتغاليين من ناحية اخرى. وحيث كان الموحدون قد جاءوا من الشمال غب سقوط غرناطة فقد راحت تنويعات عليهم تأت من الشرق و من الجنوب تدق ابواب المراكز الحضارية التاريخية فتقضى عليها تكفيرا وثوابا فى الله تعالى. وقد باتت معظم  التنويعات اللاحقة للموحدين لا تملك التفريق بين "الجهاد لنشر التوحيد ومنطق العصابات المتصارعة والمتطاحنة" أو-و تتجاهل تلك التنويعات التوحيدية ذلك الفرق تقصدا لغرض فى نفس يعاقيب الارض و جواسيس الفضاء[139].
المهم أسلمت سلطنة الفونج فى 1504 مع حلول اؤلئك التجار المتصوفة على مسرح اقتصاد و سياسة الفضاء الفونجى و تعينهم على احلال آليات سلطة صوفية مكان سلطة ملوك سنار المسيحية أو-و الاحيائية الاوراحية Animist مما يؤرخ به الاسلام السودانى رسميا. ذلك ان تاريخ السودان الحديث لا يشير كثيرا الى عقيدة سنار قبل اسلمتها وكأن ثمة انقطاع بين ممالك علوة والمقرة و نشوء السلطنة السنارية.
عندما اندلعت المهدية فى 1885 اجتاحت السودان حركة صوفية تطهرية فى تنويع على حركات الموحدين و المرابطين المغاربية والاندلسية-فيما يشارف الامر بالمعروف والنهى عن المنكر وكانت الاخيرات رديفات نظيراتها الفاطمية والايوبية كما يقول فاضل الانصارى. ذلك ان السردية السودانية ارتهنت من يومها بسير بضعة اسر تاهت فى البيداء طويلا قبل ان تحط الرحال فى الفونح فلم تنفك ان استقطبت السلطنة بين سلاطين وامراء ومناجيل ومكوك فونجية وقبائل عبداللابية ادعت الثقافة الاسلامية بوصفها اكثر رقيا مما عداها من ثقافات الاقوام الاصليين بما فيها الثقافة الوادى نيلية القديمة فخصما على السكان الاصليين و قد راح الاخيرون بتوارون فى الزوايا والاركان وقد اشعروا بالنقص والقصور من سلاطينهم حتى امناء اسواقهم.
تعين الحكم الثنائى تكريس تلك الفروقات بسياسة المناطق المقفولة
تعين الحكم الثنائى على تسييس الاسلام الرسمى بتنصيب العلماء منذ البداية ولم ينفك ان كرس ذلك التسييس بوفد كبار المواطنين الى لندن لتهنئة الملك جورج الخامس بنصرة الحلفاء فى الحرب العالمية الأولى تسييس علماء المسلمين. ولا يمنع ذلك من الاشارة الى ان التركية الأولى كانت قد حأولت استيعاب الاخيرين ولو باقامة الرواق السنارى بالازهر لتخريج شيوخ وأئمة متعلمين و كانت المهدية قد عزلت الفقيه-الفكى-و حجمت دور الخلوة فى المجتمع بعدما كانت مجتمعا بكالمه. المهم خلع الملك علي زعماء القبائل وعلماء الدين السودانيين بخاصة القابا تحمل تراخيص امتيازات معنوية وفوائد غير معنوية كما كانت صفة شاعر أومطرب الملك أوالخليفة الشرقى تخلع على الأول حللا و اكياسا من الدنانير الذهبية. فحيث قارب الانجليز سلطة الاحتلال فسلطة الاستقلال المحتمل بالتماس بتكريس مفاهيم شرقوية ضمنوا وراثة سلطة تقليدية خراجية شرقوية لهم من بعد وتباعا.
استبق الانجليز بمجالس العلماء وقد باتوا موظفين لدى السلطة القائمة تمثلات الاسلام الشعبى القلقة و الثورية و كانت الاخيرة كعهدها قابلة للتفجر فى انتفاضات شعبية منوالية عمرت تاريخ المجتمعات المسماة "شرقية".
كون الانجليز مجالس علماء السودان مثلما فعلوا فى الهند ومصر وغيرها وكان اجتماع مشيخة الطريقة وزعامة القبيلة الف سابقا قيادات الهمت وقادت انتفاضات وحركات شعبية فى مواجهة الدولة المركزية الخارجية على مر الزمان.
مهد الانجليز لتسييس الاسلام الشعبى باكرا منذ حملة اعادة الفتح.
كانت طريقة صوفية اصطحبت حملة اعادة فتح السودان على رأس القوات على طول الطريق من مصر الى الخرطوم. و لم تكن تلك الطريقة تشارك الطرق الصوفية الفونجية الاندلسية الشمال افريقية اصولها الصوفية والاثنية و تاريخ حلولها بالسودان الفونجى. فقد جاءت سلالة زعيم تلك الطائفة من الحجاز على أواخر ايام الفونج فى القرن الثامن عشر ثم هاجرت من السودان بعد منافسة ادت الى صراع قصير مع احد شيوخ الطرائق الفونجية.
- لم ينفك الانجليز ان طييفوا-من الطائفة-الطرق الصوفية ثم راحوا يجأرون بانهم "حكومة مسلمة تحكم اكبر امة مسلمة" مما حدى بسير دوجلاس دودز باركر Dodds‑Parker ان يزعم فى مقابلة اسصبارية structured interview بلندن فى 1979 "كنا حكومة مسلمة تحكم شعوبا مسلمة "We were a Moslem government governing a Moslem people", . وقد حدى ذلك الادعاء انجلترا بان تجند مسلمى المستعرات البريطانية-وقد بلغوا وقتها 9 ملايين بما فى ذلك مسلمى الهند قبل التقسيم-كونهم حريون بمناصرة جورج الخامس "الامبراطور العادل" على "الخليفة الظالم" فى الاستانة. وكان نابليون قد زعم انه مسلم و ان الفرنسيين مسلمون خلص و راح يجأر بانه ان بلغ الاستانة خلع سلطانها و لبس عمامته و دمر الخلافة ليؤسس مكانها امبراطورية تخلده على مر التاريخ. و كان نابليون من أوائل من سييس الاديان فى المنطقة العربية حديثا نسبيا فقد استقطب العلماء و اقام ديوان لمشايخ و العلماء فى القاهرة فى 25 يوليو 1798-عقب دخوله امبابة ببضعة ايام.
ويمكن عقد قياس بين تسييس الاديان فى الشرق الأوسط مثلا وسيناريو اعادة كتابة القرآن وحذف بعض اياته وكتابة العربية بالاحرف الافرنجية بعد "تبسيطها و حركة "تطييف"-الطائفية-و"تصويف" Mystification-من الصوفية-العمل و التنظيم السياسى عشية استقلال السودان فى مواجه ما كان المستعمرون البريطانيون يرونه من خطر الخلافة العثمانية على "مستقبل" المستعمرات السابقة فى كل من مصر والسودان على الاقل من ناحية وتهديد الخلافة ودول المحور للعالم الحر والديمقراطية من ناحية اخرى.
المهم كانت حكومة السودان الى ذلك تدرك ان المتعاطفين مع الثورة العرابية ومن اشترك فيها و ربما اعضاء الحزب الوطنى-و كان بعضهم قد نفى الى السودان ضمن طاقم الادارة المدنية-حريون بالتاثير على الشباب السودانى. و كانت مفاهيم بعض من اشترك فى حروب أوربا التوسعية كحرب المسكيك تحت قيادة الامير عمر طوسون وما للاخيرين من رصيد من التجارب والافكار العابرة للحدود جراء تجارتهم خارج الحدود يقلق حكومة السودان-كون تلك المفاهيم حرية يغواية العناصر الحضرية المتعلمة الشابة و يتجأوز مفاهيم السلطة التقليدية المحلية الضيقة. و كان من تداعيات الحروب التوسعية نشوء ظاهرة جيوش العبيد المعتقين ممن لم ينفك ان راح ينظم نفسه فى حركات تقأوم الاستعمار الانجليزى. و قد قاد بعض الآتين منهم من مصر وبعض عناصر البوليس الحربى وكان بمثابة الصفوف الثانية و الخلفية فى الجيش القائم بثورة سودانية على الانجليز فى 1924. و كانت حكومة السودان تتطير الى ذلك مما رأته من ميول حزب الوفد المصرى "اليسارية" فعملت على فصم عرى العلاقة بين حزب الوفد وفصائل الحركة السودانية "الحديثة" الناشئة وعلى رأسها حزب العمال السودانى وفلول ثورة 1924م لحساب الطائفية والقبلية.
وكانت الحركة المحدثة- ولا اعرفها بالحداثة بوصف ان ذلك مفهوم يتمأسس على فيصدر عن منظومة قيم رأس المال الخاص أوالبرجوازية الصناعية- قد تأثرت الى ذلك بمناخ الليبرالية البريطانية وكانت قد مثلجت اليبرالية بدورها فى تنويعة ساحرة. و كانت بريطانيا قد أوهمت ما يسمى بالانتلجينسيا من خريجى كلية غردون فقايضتهم على التخلى عن الولاء القبلى والجهوى والصوفى بالولاء لما يشارف العلمانية والليبرالية. والانتليجينسيا اسم خلعه الانجليز على المتعلمين غربيا من اهالى المستعمرات سواء ذراية أوتطيرا كون التراث الانجلوساكسونى يستهين بالمثقفين لحساب ما يسمى برجال الحدود Frontiersmen أوهمت حكومة السودان السودانيين المثقفين غربيا-الانتلجينسيا-بانها تفضلهم على القوى التقليدية. فلم تنفك الحركة المحدثة أوما سمى فيما بعد بالقوى الحديثة أن انسلخت عن الطائفية والقبلية فى ثلاثينات القرن العشرين.
وقد زعمت حكومة السودان التعين على اعداد الانتليجينسيا لادارة السودان بعد الاستقلال, أوأغوتهم مثلما فعلت مع نظائر فى كل مكان من الهند وبورما الى مصر بتدريبهم على التماهى مع سراب التنمية الاستعمارية. وقد راحت الادارة البريطانية تتعهد تلك القوى الحديثة بالرعاية و قد وعدتها بان تأتمنها على "تطوير" السودان فعلى مستقبل تلك الامتدادات بعد الاستقلال. الا ان بعض اعضاء حكومة السوادان ما انفك ان راح يتنافس مع بعض فصائل تلك القوى و يتعين على احباط شرط نضوجها و قد استفذه تمييز بعض أعضائها. وكان جراء تلك الكمياء وغيرها من تداعيات "تنمية" السودان ابان ما بين الحربين على الخصوص ان راح الانجليز يحلون القوى التقليدية مكان الانتليجينسيا السودانية و الهندية وغيرها فى امتدادات الامبراطورية. بالمقابل راح بعض اعضاء الانتلجينسيا السودانية ينحاز بدوره الى الطائفية بغواية وترغيب زعيمى الطائفيتن الكبيرتين أو-و بارهاب المستعمرين انفسهم. و قد قاد بعض اعضاء الانتلجينسيا الاحزاب الطائفية-القبلية-حتى ما بعد الاستقلال.
1- العقائد و الثقافات السودانية التاريخية والفيزيقية:-
انتشرت اسماء الالهة القديمة فى السودان اتية احيانا من الجزيرة العربية و من اسيا الصغرى و فيما بعد جاءت من اليونان. و اختلطت اسماء الابطال الاسطوريين للسودان القديم-بلاد النوبا-و طيبة و جبل البرقل ونظائر ترجع الى اصول فى شبه القارة الهندية. و هناك اثار ثقافية فارسية و هندية فى السودان الشرقى و الأوسط و الغربى الى الاثار الوافدة من الجزيرة العربية بالوصف اعلاه ل فى السودان و قد عبر ذلك الاثر القارة عن طريق الساحل الشرقى فالغربى للبحر الاحمر الى شمال وسط السودان فجنوب الجزائر وموريتانيا والصحراء الغربية-الساقية الحمراء والعين. وتتشابه فصائل الطيور والحشرات والشجر على ضفتى البحر الاحمر عند جنوب اليمن من تعز الى عدن والشاطئ الافريقى الغربى للبحر عند شرق اثيوبيا وشرق السودان الأوسط[140].
ومن المفيد تذكر ان البحر الاحمر انفلق بهذه السعة حديثا نسبيا ويقال انه كان اخدودا ضيقا و حسب. المهم و مع ذلك بقى البحر الاحمر معبرا مائيا سهل على الناس والافكار والاجزاء الثقافية عبوره حتى اليوم اذ يقطع البحر الاحمر من شواطئ الجزيرة العربية عن السعودية على الخصوص الى شواطئ افريقيا الغربية كالسودان و القرن الافريقى فى مراكب بسيطة بقيت على بدأوة صنعها وحجمها وتسمى الطوف. ولم ينقطع التبادل والتجارة السوداء بين الشاطئين يوما عن طريق تلك المراكب البدائية. و يقول غانم القرشى عن ابو محمد عبد الله الطيب بن ابى مخرمة ان الاخير قال ان أوبحر القلزم أو"البحر الاحمر كان برا واحدا حتى عدن ووراء جبل سقطرى الى ان جاء ذو القرنين فى طريقه الى الدنثا فحفر فيه خليجا من البحر فجرى فيه البحر الى ان وقف على جبل باب المندب فبقيت عدن فى البحر وهو متدير حولها"[141].
وهناك فى شرق السودان اسرا حضرمية واسماء حضرمية وكذلك اسر ذات اصول اثيوبية واسماء اثيوبية واسماء مدن مثل الدر وقرة وقرى ووادى حلفايين ووادى حلفا[142]. كما ان هناك اسماء قبائل من غرب الجريرة العربية وجنوب اليمن وسلطنة عمان. وتتقارب اسماء المدن العمانية حتى تكاد تكون ذات اصل واحد مثل عبراى وعبرى واسماء قبائل سودانية تتشابه واسماء قبائل يمنية وعمانية مثل الجعليين والجعلان وأولاد على وبنى دارو. واذ يقال ان اصل قبيلة العبابدة يعود الى اليمن الخ فان معظم تلك القبائل من شرق الربع الخالى. وقد انتشرت الطرق الصوفية عابرة من الجزيرة العربية ومن شمال افريقيا الى السودان مثل القادرية حتى جزيرة موزانبيق الواقعة على ساحل موزانبيق-موسى البيك-على التخوم الشرقية للقارة الافريقية.
                 ويحمل الاسلام الشعبى السودان قسمات تلك المخالطة الايجابية الفطنة والرشيدة معا. فلم تحل أى من تلك الميثولوجيا والاساطيرة والاجزاء الثقافية أوالعقائد فى فضاء لا متسامح بل حلت فى مناخ انفتاح فسيح لا يطاله عصاب ضائقة مكانية أوثقافية. ذلك ان شعوب تلك الرقعة من الارض الافريقية الخرافية الرأئعة و المروعة معا المسماة السودان هى مرة واحدة قابلة لاستيعاب ما يرد اليها عابرا أو-و مقيما فيما تحتفظ برباطة جأش هوية نادرة العبقرية الا ما خلا بعض سقط قول دعاة اجتزاء تلك الهوية فى "قبلية" مشبوهة لا سبيل الى توكيدها الا باجنحة من الترديد. على ان كل تلك الامور تبقى غير قابلة للوصف و تضيق بتطرف المثابرة على خصم سماحتها لحساب الحدود مرة ومرة اخرى تنفتح تلك الامور على ادغال المسافات فتكاد
تضيع فى موجة طغيان دخيل ثقافى لا عهد لها بخبث مسعاه. 
 
2- السياقات المعاصرة للحكم الثنائى من اسفل واجرائيا Operationally:-
دخل الاسلام السودان متأخرا مع انحلال الاندلس و حلول شرط تضعضع الخلافات الاسلامية الكبرى تباعا و انتشار الطرق الصوفية. وكانت الاخيرة وظيفة انحطاط ثقافة الحكم الاسلامي ولم تلبث ان بذرت بدورها الانحطاط العام فى المجتمعات الاسلامية تباعا. رغم ان الاستعمار المتردد دخل السودان من نافذة التركية الأولى أى الفتح العثمانى تحت الوية ولاية عثمانية الا ان الاستعمار الكلاسيكي دخل السودان متأخرا عشية كل من انحلال اخر الخلافات الاسلامية و بداية نهاية البرجوازية الصناعية الأوربية الغربية و المقهوم القومى للدولة. فقد كان التحول الحال فى البرجوازية الصناعية قد راح يدفع بالاخيرة لان تخلى مكانها لتنويعة على البرجوازية الصناعية. ومن تداعيات ذلك التحول اخلاء الدولة القومية مكانها لما اسميه الدولة ما بعد القومية. وكان اخطر تلك التداعيات:-
- تكشف ان الدولة القومية فى مستعمرات الامبراطوريات الأوربية السابقة أكثر من جملة اعتراضية فى المشروع ما بعد الرأسمالي. فلم تكن الدولة القومية اكثر من تهيؤات فى مخيلة السياسيين فى الداخل و الخارج. ذلك ان الافراد والجماعات الافريقية مثلا لم تفطم من ورؤاها التقليدية. ذلك ان المشروع القومى الافريقى مثلا لم يزد على ان تمأسس فوق حدود قومية لم تزد بدورها عن خط فوق الرمال بين قبائل وعشائر وشعوب-البانتو مثلا-قيضت نقاط تفجر وعنف قبلى خلع عليه وصفا قوميا. ولم يكن مقيضا للدولة القومية ومشروعها القومى ان تصمد وقد تعينت تداعيات الرأسمالية ما بعد الصناعية على اتهام القومية بانها عائق للتقدم. فقد راح خطاب الرأسمالية ما بعد الصناعية يجأر تباعا منذ ما بين الحربين بأن القومية حرية بان تغدو ذلك "المفهوم الشاذ للقومية وقد اختلقه القرن التاسع عشر يقف فى وجه التقدم". وازعم ان المشروع القومى كان تزويقا مؤقتا وذرائعيا لتمرير مشروع دولة اسرائيل القومية و حسب. فما ان تمت غواية وودرو ويسلون باعلان مشروع حق تقرير المصير ذى 14 نقطة حيث منحت أى جماعة اثنية الحق فى اقامة دولة حتى سارع روثتشايلد بتدبيج مسودة وعد بلفور واكرهه على توقيعها.
ومن المفيد تذكر أن احتلال السودان و قيام الحكم الثنائى كان وظيفة مناخ تفكك الامبراطوريات السابقة على البرجوازية الصناعية حيث تمثلت فجأة وبليل جماعات اثنية عرقية كانت تعيش بصورة متوافقة داخل الامبراطوريات السابقة على البرجوازية الصناعية. ولعله من المفيد ايضا تذكر ان مفهوم الدولة القومية ما انفك ان بات بائرا ما ان قامت دولة اسرائيل القومية. فقد راحت الرأسمالية بتنويعاتها البرجوازية الصناعية ونظيرتها الرأسمالية ما بعد الصناعية وقد راحت الاخيرة تحتل مكان الأولى بصورة حثيثة راحت الرأسمالية تؤثم القومية الا ما خلا قومية اسرائيل وما بعد قومية رأس المال عابر الحدود. واجادل ان البرجوازية الصناعية يسرت حلول ما بعد القومية مكان القومية بنكران طبقية المجتمع و احتكار تمثيله معا. فقد راحت البرجوازية الصناعية تعبر عن نفسها فى تجأوز الطبقات والانسان الا ما خلا الطبقة البرجوازية الصناعية والانسان البرجوازي المطلق. ورغم ان البرجوازية الصناعية كانت قد ادعت ابتكار الفكر الليبرالى الا ان الاخير انكر وجود الطبقات ضما عندما انكر وجود الطبقات الدنيا و الطبقة العاملة معا. فالليبرالية فكر الطبقات العليا و عنصرية الحكام ضد المحكومين[143]. وكان بعض المفكرين المحدثين قد اشار الى كيف تعينت البرجوازية الصناعية على القيام باحلال نفسها مكان الطبيعة والقانون الطبيعى والامة والانسانية والقانون والمسرح والانسان [144]فقد حييدت البرجوازية الصناعية مفهوم أو فكرة الانسان الطبقى أوالعتها لسحاب الانسان البرجوازى -الطبقة البرجوزاية وقيم الانسان البرجوازى و قد اعلت البرجوازية الصناعية الانسان البرجوازى الصناعى على الانسان غير البرجوازى-الطبقات غير البرجوازية وحرمت وابلست وصمتت عن ارث وفكر وقيم من عدى الانسان البرجوازى سواء كان بروليتاري-عامل صناعى أومزارع أوفرد عالم ثالثى بالاحرى. فقد بات الانسان البرجوازي انسان مطلق يمثل الانسان قاطبة. فما هى الخصائص الثقافية و الطبقية التى كان الحكم الثنائى حريا بان يصدر عنها فى اعادة هيكلة أوتشكيل المجتمع السودانى؟
سفر تكوين التراتب الطبقى السودانى:- 
اجادل أن اهم الخصوصيات الثقافية والفكرية السودانية الحديثة ما تنفك تصدر عن مجتمع الفونج المسلم. فقد جاء الاسلام الصوفيين الى الفونج بملامح ما تنفك راسبة أو كامنة فى المجتمع السودنى. وكانت قسمات تلك الخصوصيات ماثلة عندما حل كل من التركية الأولى الغزو المصرى التركى والتركية الثانية الحكم الثنائى. فما هى الملامح الطبقية للفونج؟ ازعم ان السودان بقى لا طبقى رغم المراكز و الادوار المحددة للافراد والجماعات فى سلطنة سنار وفى ممالك وامارات الفونج الصغيرة. ذلك ان ملوك الفونج لم ينشأوا الى طبقة بحد ذاتها-بمعنى جماعة واعية على نفسها تنظم نفسها للدفاع عن تلك المصالح فى حزب سياسى. و رغم ان تلك الشريحة كانت حرية بان تتعرف على مصالحها الا انها لم تعرف تلك المصالح على نحو اقتصادى بحيث يكرس دورها فى تنظيم الاقتصاد مكانتها اقتصاديا. ذلك أن مصالح شرائح السلطة الفونجية كانت تتمأسس فوق مصالح ميثولوجية اجتماعية وكانت الاخيرة تضمن المصالح الاقتصادية وترشدها مثلما تفعل الميثولوجيا أوالدعاية وغيرها فى كل مكان وزمان. ولم تدافع شرائح السلطة الفونحية عن مصالها الا بقدر ما كانت تملك سلطة متوارثة ممثلجة. لذلك بقى التعالق بين السلطان والملوك الصغار وامراء الاقاليم من اصهاره عادة وغالبا من رهائنه البلاطيين وبين العامة تعالق قرابات حقيقية-قرابة دم ومصاهرة- غالبا أومتخيلة Perceived فيما فبرك بعضها فاسقطت عليها مفاهيم القرابات بالتذرع. وقد انتجت تلك القرابات سلالات "متحاننة" تتفادى الصراع المفتوح رغم صراعاتها الداخلية الدورية على مر تاريخها. وقياسا كانت الانتفاضات الشعبية تعبر بدورها عن نفسها ابان الازمات والكوارث استدعاءا لعودة النظام الى ما كان عليه حيث كان الملك السلطان الفرعون قادرا على جعل النهر يفيض فى مواعيده و المحاصيل وافرة فى مواسمها. فقد كانت علاقة الفرعون من قبل فسلاطين الفونج-ورثة ملوك النيل الاسراتيين المتعاقبين حتى مملكتى علوة والمقرة فسوبا الخ، ولمنتجين المحكومين العامة والعبيد علاقة تعاقد غير مكتوب باستحقاقات قرابات حقيقية أومتخيلة أومفبركة. فقد كانت تلك القرابات الحقيقية أوالمفبركة تفرض على السلطان والملك والامير بهذا الوصف مسئولية فرض سعر عادل للذرة فى السوق و جعل المطر يهمر والنهر يفيض.
وكان المحكومون يعبرون عن السخط ان عجز الفرعون السلطان الملك الامير زعيم القبيلة عن فرض سعر عادل لذرة الخ أو/و القيام بمسئوليته الميثولوجية والاجتماعية الاقتصادية بتوزيع الطعام من المطامير الملكية السنارية الخ. وكان ذلك السخط يتمثل فبما يشارف انتفاضات شعبية يعتقد ان لم يكن لها غاية ابعد من اعادة النظام الى ما كان عليه قبل الازمة التى اشعلت السخط فالانتفاضة الشعبية. فرغم ان تلك الانتفاضات عمرت التاريخ الا انها كانت غالبا ما تسعى الى اعادة الوضع الى ما كان عليه قبل حلول الازمة الفيضان التضخم التحاريق الكارثة. و كانت القبائل بمثابة احزاب الا انها لم تزد على تنظيم اعيان و شيوخ و زعماء القبائل فى طبقة تعرفت على مصالحها ازاء السلطة المركزية ان وجدت والدفاع عن تلك المصالح. وكانت مظاهر الصراع السلطوى المذكورة غالبا ما تقتصر على التنافس على حصص الخراج والاتأواة و ربما الوراثات بخاصة ابان الازمات والكوارث حتى حلول التجار الصوفين فى نهاية القرن الخامس عشر. على ان ظهور الصوفيين غير من كمياء كل من العلاقة بين الحاكم والمحكوم ومن طبيعة الصراع السلطوى معا. فقد كان الصوفيين تجارا وكانوا بهذا الوصف يمأسسون مكانتهم على عائد تجارتهم فيصدرون عن قيم تجارية مالية اقتصادية فى التحليل النهائى.
وكان بعضهم ان لم يكن اغلبهم قد هاجر من مجتمعات ربما كانت اكثر "تقدما" بمعنى نشوءا فى السلم المرحلى بما يسمى بتطور المجتمع ماركسيا. وكانوا الى ذلك يتمتعون بذهنية المهاجر والاقلية والغريب الاجنبى جميعا. وحيث تمنح الهجرة المهاجر بصيرة اشد حدة بالمجتمع "المضيف" كون المهاجر ضيفا ولو مؤقتا فالهجرة قد تقيض له ايضا نوعا من حرية الغريب فى التحلل من تقاليد ومفاهيم المجتمع. ويقيض ذلك للغريب بدوره التحرر من اللامساسات و المحاذير المحلية كالمقدسات الاجتماعية والسياسية مما تظهر مثلا فى لا اكتراث الصوفيين بقداسة السلطان الذي  لم يجرؤ احد على ان يجالسه ولم ير أحد وجهه سافرا سوى خاله ولم يشاهده احد يأكل الخ. و للمهاجر الى ذلك اكثر من ثقافة ثقافته هو و ثقافة المجتمع التى يتعين عليه استيعابها حتى يتلائم ويتعايش مع المجتمع ولو بالتذرع Expediently بقدر ما لم يتقيد بها مع ذلك. و يمييز كون ان للمهاجر اكثر من ثقافة على وعن غيره وربما منحته الهجرة خاصية تفوقية على السكان الاصليين حكام ومحكومين معا. وقياسا فقد كان لأولئك لمهاجرين الغرباء غالبا وفى كل مكان حكمتهم التى الهمتهم تنظيم أسلوب حياة يتسم بما يشارف التحذب لذلك الاسلوب. وكان الاخير حريا بان يعبر عن نفسه فى تنظيم الطريقة الصوفية التى يعرف الصوفى نفسه بها ويعرفها به هو نفسه كونه مؤسسها. وعليه فقد جاء التجار الصوفيين بحقائب نفسية و ايديولوجية و تنظيمية كان من شأنها تمييزهم عن السكان الاصليين على نحو درامى.
واجادل انه ان تمييز المهاجرون التجار الصوفيون الحكماء بالوصف اعلاه وهؤلاء اقرب الى الفلاسقة فقد كانت الطرق الصوفية حرية بأن تنشأ فى المجتمع-"المضيف" مؤقتا- وقد نظمت نفسها فيما يشارف الاحزاب. ذلك ان الطرق الصوفية تتمأسس فوق فئة أو" شبه طبقة" من تجار واعين على مصالحهم مسبقا قمينون بالدفاع عن مركزهم الايديولوجي حماية لمكانتهم الاقتصادية. و كانت حماية مكانتهم بهذا الوصف حرية بدورها ان تتمحور حول انتزاع امتيازات فارقة من السلطة المركزية. ومع ذلك و رغمه فقد كانت الطرق الصوفية تحتاج الى السلطان والى التنظيم السلطوى كيما تقوم و تكرس نفسها. فالطرق الصوفية تنويعة على الاحزاب و غيرها من التنظيمات التى ازعم انها عرفت عبر التاريخ بكونها لا تملك الوجود اصلا الا بقدر ما تخرج من عباءة سلطة مركزية قائمة. فليس ثمة سبيل لنشوء حزب أوطريقة صوفية الخ الى بالنظر الى تعالق قوة الاخيرة ووسائلها للمراكمة مع تجليات كيان أكبر منها يحمل عنها مهام لا تملك ولا ترغب هى فى حملها مثل ارساء القانون واقرار الامن وتوفير وسائل المواصلات وقواعد التجارة وحراسة الابار واأمين طرق القوافل الخ وكاأ الدولة المركزية كانت رغم جباية الاتأوات والخراج كانت تتعين على ما يشارف توفير شئ من السلع و الخدمات العامة فى تنويعة على القطاع العام. وعليه فان كانت الطرق الصوفية قمينة بان تعبر عن نفسها وكأنها أحزاب سياسية الا انها لم تكن اكثر من تمثلا مظهريا لا اكثر لما يشارف الاحزاب السياسية بالتعريف الماركسى. ذلك ان الطرق الصوفية:-
1- لم تكن تعبر تنظيميا عن ابعد من جماعات سابقة على الطبقات حلت بين ظهرانى مجتمع "مضيف" سابق على الطبقات.
2- نشأت فنظمت نفسها فى مواجهة السلطة السياسية والميثولوجية والاقتصادية للسلطان فى سنار وملوك وامراء الفونج فى الاقاليم. فقد كانت الطرق الصوفية استجابة تنظيمية لموجودات سياسية ومثولوجية واقتصادية. ولعل الطرق الصوفية اعادت مفصلة تلك الموجودات الفونجية باحلال نظائر صوفية اسلامية مكانها تمحور بعضها حول مجتمع الخلوى و باتت اخرى نظير لقوات الجيش القائم يحرس الملك فى سنار. فقد تعين مجتمع الخلوى على اعادة انتاج علاقات الملكية فى العبيد كما جند الاخيرين فى ماليشيات حراسة الابار و القوافل فالاستئثار ببعد من عائد التجارة العالمية وصولا الى احتكارها. 
3- لم تكن قابلة-الى حين-لان تصعد الى مرتبة احزاب سياسية مهما كانت فطيرة. فلم تكن الطرق الصوفية بمثابة احزاب سياسية للسلطان مثلما كانت الاحزاب الانجليزية مثلا فى بداياتها الفطيرة الأولى احزاب الملك.
 
 
رب ضارة نافعة:-
ما تنفك أحداث دارفور تدفع السودان الى صدر الانباء العالمية قصة عالمية كبرى قلما ينافسها من قصص الاثارة قصة. وكان السودان قد بقى كما مهملا وقد تورط فى حرب اهلية 20 عاما راح ضحيتها مليونان واعداد غير محسوبة ممن عوقته الحرب بدنيا ونفسيا ولم يكترث احد حتى ظهور النفط فى الجنوب والغرب والشرق بالسودان ولا بالسودانيين. وقد بقى معظم السودانيين الى ذلك يحشم من المثابرة على الكتابة فى السودان بدون مناسبة أو/و ترتهنه المصادرة والتعقب. ولعل من حسنات احداث دارفور-أن كان ثمة حسنات- ان كثيرين باتوا يكتبون فى السودان بل فى دارفور. وكان غرب السودان قد بقى بعمومه من بلاد النوبا الى الفور معمش على تاريخه حتى وقت قريب مثله مثل غيره من اقاليم هذا الوطن الواسع الفضفاض. على ان علاقة النوبة الغربيين بالحضارة الوادى نيلية ما تنفك تنتظر فك مفصلتها. وكان معظمنا قصر مع ذلك بحق تاريخ السودان بقدر ما لم يزد سوى ان اعاد ترتيب تحذباته. فقد بقى معظمنا يركز على الشمال والوسط ويستدعى اساطير انساب غير مثبة فيدعيها بالتمنى و-أوبتواطؤ غرماءنا جميعا.
وما تنفك اقليات تعيد انتاج نفسها فى كل مرة سواء من الاعاربة أومن اللذين يمتطون موجات الانتهاز السلطوى منواليا تدعى الاحقية فى مواطنة السودان دون سواها وفى كتابة واعادة كتابة تاريخه خصما على من عداها قاطبة. وما تبرح أسباب مواطنة اغلبيات السودانيين تنتفى باسم لون أو عرق أوثقافة أو ايديولوجية لحساب من عداها. وقد افرز ذلك الادعاء تنويعات من تدليس مفاهيم ومغالطات استقرت فى اعصاب السردية السودانية. فلا يعبر العرق فى السودان عن نفسه فى ابيض و اسود قوقازى ومتزنج الخ وانما فى تفرقة عنصرية مزوقة Euphemised فى اربعة الوان وربما اكثر. فاهلية المواطنة السودانية تتدرج فى المقياس من اصفر- وقمحى وذهبى- واخضر الى ازرق فاحمر. وقياسا تغدو التنظيمات التقليدية والحديثة "خشوم بيوت" بمعنى بطون و عشائر فصلات ارحام. والخشم فى السودان هو الفم وليس الانف كما فى العراق و الخليج و يغدو الخشم من ثم كناية للمهبل أوالرحم أيضا و البيوت هى القبائل و العشائر مجازا وتزويقاEuphemisms معا[145].
المهم فيما يقصى الازرق والاحمر أى طرفى المقياس المدرج خارج احقية المواطنة المدعاة و المدعية تلك يغدو ارزق مشبوه العروبة وكأن السودانيين أوغيرهم من المجاميع المعربنة عرب فى أى مكان. وبالمقابل يغدو الاحمر غجرى-حلبى نسبة لحلب لسبب مسكوت عنه بعد تاريخيا أو منطقيا كغيره-أى من لا اصل قبلى له أوخواجة فغريب. و كان المهدى قد ابى- بمعنى كره أو اعرض عن أو نبى بنفسه عن-الحمرة. وقياسا يصف السودانيون البدو الرحل والاعراب خاصة ب"العرب" و بـ "الاشو" وربما ب "الغبش" وكلها مفردات قبلية حضرية يبادل مستقرون من عداهم بها المظنة المستهينة. وقد بقى الاخيرون يتبادلون والمترحلين الشك بحق وبغير حق على مر الاف السنين. ولا يعود وصف البدوى ب "العربى" الى أصل عرقى وانما الى اسلوب حياة "العرب" الاعراب و امتهانهم للبدأوة و الترحل ما بين مرعى ومسيل دائريين فى صيفية وشتوية لا تنقطعان. وربما ردت مفردة "الاشو" الى الفجاجة lack of sophistry فالتبربر.
المهم عندما زاعت مفرادات قاموس الهجمة على السودان لتكريس سفر تكوين ازمة دارفور وجد شذاذ افاق الاعلام والصحافة من الانتهازيين والتبسيطيين بقصد وقد تدافعوا تطلبا لسبق صحفى مرة ولخلق ستار دخان على أحداث العراق مرة ثانية و لتبرئة ذمة الاعلام الانجلوساكسوني مرة ثالثة من تهمة التحذب ضد "انتصارات" قوات التحالف فى العراق...الخ. وجد هؤلاء ضالتهم المنشودة فى غياب تعريف يذكر أوينسى لظواهر "يكتشفونها هم لأول مرة" كالعادة. ومعظم السودانين مرتاح على الخطأ. فقد استلقط الصحفيون- ولم يتعين أحد على تعريف مفردة "عربى" اجرائيا سياقيا- فى القاموس الشعبى السودانى-مفردات جاهزة سلفا لابلسة السودان. ولم تزد تلك المفردات كعادتها عن اجتزاء الواقع فى تبسطية ابيض واسود عربى افريقى مسلم مسيحى مسلم احيائى توطمى الخ. فقد وصفت القبائل غير المستقرة فى ترحلها فى الداخل ومن دول الجوار وراء اراضى السودان الواسعة بالقبائل العربية. وقياسا وصفت القبائل الريفية المستقرة نسبيا كالفور والمساليت والزغأوى وغيرها بالافريقية. ومن المفيد تذكر ان لا الأول ولا الاخيرين عرب أو متزنجين بصورة خالصة بالطبع و اين هى تلك الاقوام الخالصة المخلصة الا بمثلجة-من الميثولوجيا- وأسطرة- من الاسطورة - السردية الرسمية. كما ان القبائل المترحلة تستقر فى أوقات الشدة ولو بالعمل الموسمى فى المدن جراء التصحر والجفاف مما كان قد الم بالسودان ما يبرح منذ سبيعينات وثمانينات القرن العشرين والواقع عبر تاريخ العامة المسكوت عنه كالعادة.
وقياسا لا تستقر القبائل المتريفة ولا تعتمد على الزراعة وحدها اذ يملك المزارعون ماشية بطبيعة القطاع الزراعى فى كل مكان. ويترحل الاخيرون بدورهم غالبا موسميا-فكافة المزارعين-الا ما خلا اصحاب حواشات الجزيرة سابقا-باتوا مبدونين فى سوق العمالة الزراعية الموسمية وغيرها جراء منافسة محاصيل العون الغذائى و الغوث الانسانى- المشئومين- لمحاصيلهم فى السوق. المهم لعل اهمية تلك التعريفات المنهجية الاجرائية قمينة بتفسير بعض السياسات الاستعمارية باكرا واهتمام الحكم الثنائى بكل من العرب الرحل بوصفهم سلالة بعض أخطر خصومه الادارة البريطانية والمستقرين عند حواف المناطق المركزية لانتاج المحاصيل الاستراتيجية مثل القطن والصمغ العربى والسمسم و...الخ وضرب احدها بالآخر. ويفسر حاصل جمع ذلك ايضا بعض قسمات السياسة التعليمية بالنظر الى التنظيمات المحلية بين تلك المجاميع و على رأسها النظام القبلى والمجتمع الصوفى-أوالطريقة الصوفية-بدوية مترحلة أوحضريفية مستقرة- ومنتجات الاخيرة الرئيسة والجانبية من التراتب الاجتماعى الاقتصادى الى تعليم الخلأوى مما تمأسس عليه التعليم الاهلى على مر السينين مستعصيا على التعليم الاستعمارى لوقت طويل.
واجادل ان استيعاب معمار اللغة و الخارطة الذهنية الفريدة لمجتمع بهذا الوصف حرى بان يردع من ترأوده نفسه على اعادة ترتيب تحذباته بغاية استعداء أمريكا على السلطة القائمة بوصفها غريمة كل من عدى شرائح تلك السلطة القائمة. ذلك ان التهديد الامريكى و حلفائه المزعنين أو الطامعين في اعادة انتاج ما اسماه تونى بلير رئيس وزراء بريطانيا بالامبريالية الرفيقة لا يستهدف تلك السلطة لحساب الامبريالية الامريكية كون الاخير لا تزيد ولا تنقص عن جريمة منظمة. ان التهديد الماثل و الذى قد لا يكون ثمة راد له ليس سلطة الانقاذ فهذه امرها هين مثلها مثل نظائرها فى كل مكان و انما التهديد الماثل هو تهديد السودان بكامله. و ليس ادل على ادراك الخطاب العربى-و بخاصة المصرى-لذلك التهديد من الاهتمام المفاجئ بالسودان على نحو غير مسبوق. فتهديد السودان تهديد لكافة المنطقة بدءا بمصر.  ياطالما كان ذلك الخطاب يتردد منذ الاسرة الاولى و مينا حاكم الوجهين القبلي و البحرى ذلك الآتى من الجبال التى ترعد سحبها و لا تمطر.  
 
 
 
 
 
الفصل: الحادى عشر: اختراق السياسات التعليمية
 الاستعمارية للثقافة والحكمة الشعبية السودانية
تفترض هذه الدراسة ان أستعمار السودان كلاسيكيا تعاصر وبدايات نشوء الاستعمار الجديد أوالامبريالية الامريكية ما بعد الصناعية. وان الممارسات الاستعمارية البريطانية فى السودان سرعان ما بحت تخضع لمؤثرات و ضغوط خارجية رغم ان حكومة السودان كانت تتمتع بخصوصية تنظيمية و سياسية حيث كانت كما قلنا فى مكان اخر انها كانت مستقلة بدرجة ملحوظة عن كل من وزارة المستعمرات و وايتهول أى الخدمة المدنية البريطانية. و اجادل ان مثل ذلك الاستقلال كان فى الواقع قمين بان يترك تلك الحكومة مفتوحة على اكثر  اثر من اثار سياسات محتملة. فقد كانت مستهدفة لتأثير التيارات العالمية التى راحت تنتشر غب الحرب العالمية الأولى مما دفع حكومة السودان للتصرف و كأنها حكومة مستقلة و قد حصلت على حق تقرير المصير و فى ممارسة سياسات استعمارية بعينها لا تخضع للمراجعة الخارجية. كما ان ذلك الشعور بالاعتداد بالذات كان حريا بدوره ان يدفع حكومة السودان الى تجأوز أى احتمال لاثر محلى أوتصور حتى معارضة داخلية. و كانت أى بادرة بهذا النوع قد وصمت سراعا بالعصيان و ما هو اخطر فقعمعت قمعا فى نفس الوقت الذى كانت حكومة السودان تجأر فيه بانها حكومة ليبرالية و اقرب الى الحداثة و الديمقراطية.
بعض المفردات المحورية
لعله من المفيد تذكر ان تعريف أى من تلك المفردات موضوعيا ومن اسفل و ما اذا كان مظهر تلك المفردات يعبر عن مخبرها من الفخاخ المنهجية التى وقع فيها معظمنا. ولعل فى قياس على ما تجأر به الادارة الامريكية 43 فيما يتصل بـ"تحرير" العراق ودمقرطة الشرق الأوسط الكبير الخ حريا بان ييسر ادراك مخاتلة تلك المفردات للحقيقة الماثلة حقا. و و ازعم انه لم يكن غريبا ان تحأول حكومة السودان-فى سعيها الحثيث لتأجيل حلول شرط نضوح الوعى و نشوء مشاريع بديلة للاستعمار-اختراق أهم البدائل المحتملة للتركة الاستعمارية. و كان اهم بديل محتمل هو الارث الثقافى الايديولوجى-ان صح التعبير- فالمحلى التقليدى فى تنويع على ما يحدث تباعا بشأن النقل عن الثقافة العربية الاسلامية و الهوية الاسلامية فى كل مكان.
ويلاحظ ذلك فيما يلاحظ فى محأولة السياسات التعليمية الاستعمارية اختراق الثقافة التاريخية السودانية. و قد تعينت تلك السياسات بصورة مسأوقة  على اخماد روح الثورة والتوقد فى الاسلام الشعبى ممثلا فى الطرق الصوفية. فرغم سفر تكوين نشوء الصوفية و الطرق الصوفية فى السودان فقد تأقلمت الاخيرة مع الموروث الشعبى و المنظومة الثقافية السودانية وباتت تؤلف بعضا من الخصوصيات الاجتماعية الفكرية التنظيمية للسودان الشمالى.
فقد كانت الطرق الصوفية قد اكتسبت باكرا من الفونج التسامح العقائدى و من سلاطين الفونج التواضع المنسحب امام ثقافة غازية سواء اعتبروها بحق متميزة superior cultureعلى نظيرتها المحلية أو/و ازعانا لابتزاز الصوفيين. و يعتنق معظم السودانيين الشماليين الاسلام الصوفى المالكى الحنفى المحافظ على التقاليد و المراسيم الرسمية Formalist المتشدد. وكان سفر تكوين ذلك الاسلام قد جأءهم مع موجات الهجرة من شمال افريقيا صبيحة سقوط المدن الدول الاندلسية. و قد اتصلت تلك الموجات اكثر من غيرها بالتجار المترحلين من الحجاز و العراق و مصر و من شمال افريقيا. و كان بعض الرحالة الذين هبطوا السودان الشمالي دعاة من فلول المرابطين و الموحدين.
وكانت بدايات فلول التجار المسلمين قد هبطت شمال السودان فى القرن التاسع. و لم يتستقر اؤلئك التجار الا بقدر ما أقاموا المساجد واجبروا ملوك السودان المسيحيين  على احترام اماكن عبادة المسلمين مع دفع الحزية للخليفة و قد عقدوا مع اؤلئك الملوك معهادة البقط المعروفة.
و قد عادوا مجددا عن طريق شمال افريقيا كما ذكرنا فى مكان اخر و احبروا ملوك النوبة المسيحيين و الوثنيين على اعتناق الاسلام او-و هزموهم بالزواج من بناتهم فلم ينفكوا ان ورثا السلطة بالتنكل. و الى ذلك فقد راحت الانساق و النظم الثقافية الغازية كعهدها تسودن نظيرتها السابقة عليها مما حأولت الاشارة اليه فى مكان اخر. وكان اسلام الصوفيين التجار الوافدين تنويعة على عقائد اسلام ما بعد سقوط عهد الخلافة عبورا بعهد الطوائف فالمرابطين وصولا الى الموحدين فمملكة غرناطة الى ممالك شمال افريقيا. وكانت طوائف المرابطين والموحدين طوائف رديفة لنظيرتها الفاطمية[146]. وقد جاء صوفيو الاندلس بتوليفة من اسلام كان حريا بان يتشدد فيثابر على شكليات العبادة و شعائرها كمحصلة للصراع من اجل بقاءه.
وكان الصراع من اجل بقاء الاسلام المذكور حريا بان يتعين على ما اعتبر نقاء العقيد كما رأينا على عهد الموحدين فى مواجهة ملوك الاندلس و حلفائهم نصارى أوربا الغربية واليهود. فمن طبع مقأومة الاندثار تكريس منتجات روحية تتصل بادواة الصراع اكثر مما تتصل باصل العقيدة و قد حوصر المسلمون طويلا فى الاندلس و غيرها تباعا. و ليس ادعى من لحظة الانكسار الفاجعة الاخيرة من تكريس ما قد يفضى الى الاصولية فى مواجهة الفناء. الا ان الثقافات والمنظومة القيمية السودانية المحلية استعصت على الانسحاب كليا امام الثقافة الغازية رغم امتياز الاخيرة و اصوليتها و قد اجتمعت بهذا الوصف على الأولى[147].
سفر تكوين ما بعد التقليدي:
رغم ان مفردات لغة مادة البحث الاساسى قد تبدو "قديمة"-بوصف ان اللغة و المفردات سابقة كثيرا على التحولات المتسارعة-و قد تجأوز بعضها بعض العلوم الاجتماعية ما بعد الحداثية. سوى أن التحولات المعاصرة قد لا تزيد عن افرازات ما بعد حداثية ما تنفك تعبر عن نفسها فيما اسميه ما بعد تقليدي. ذلك انه رغم تسارع "التطورات" ما بعد الحداثية و ربما بسبب ذلك الا ان نظائر للطرق الصوفية و القبائل و قادتها و قادة التنظيمات المسماه حديثة ما ينفك يعيد انتاج نفسه فى تجليات أوتشوهات حسب ظروف الاقتهار والسماحة.
وكنت قد عاصر قيام التنويعات التقليدية لتلك الظواهر و اعاصر تباعا نظائرها ما بعد التقليدية فى استجابتها لما بعد الحداثية الشائهة أوفى تنويع على الاخيرة أوقد نشط سياسيا فى عضوية بعضها فى بعض المجتمعات العربية و الافريقية من فلسطين الى الصنغال. و قد مكنتنى تلك المعاصرة من افتراض:-
1- ان ما يعتبر حداثى أوما يسمى قوى حديثه قد لا يزيد احيانا على تنويعات على ما بعتبر تقليدى أوالقوى التقليدية الا بقدر ما يغيير بعض اؤلئك وهؤلاء أسماء مهنهم و ربما انتماءاتهم الحزبية و بعض "النصوص" الفكرية الايدويولوجية "شبه العقائدية" مؤقتا و تذرعا.
2– ان بعض الاخيرين كان احيانا يبقى بوعى أوبلا وعى على ادوار ومراكز واشكال القيادة من عبادة التنظيم والنص والفرد على نحو اشد عقائدية مما كانت النظائر التقليدية السابقة على الطبقات قد تعينت عليه.
وازعم ان واقع ان الدولة المركزية "الحديثة" لم يزد على اعادة انتاج الدولة المركزية الخراجية فقد كانت للاخيرة قداسة ما انفكت ان تحدرت الى نظيرتها "القومية" الحديثة و كانت السلطة تصور فحلة مقارنة مع انوثة أوتأنيث الموالين واخصاء المعارضة. فلم يزد الاستعمار بالضرورة و النتيجة سوى ان احل جماعات راحت تجلس فوق قمة الهرم الخراجى الاستعمارى طاقما ممن أعرفهم بالقناصلة Pro-consuls مكان الحكام الخراجيين التقليديين وقد نصب معظمهم-امثال غردون وكيتشينر وكرومر على الخصوص-انفسهم وكلاء قنصل أعلى-السلطة فى الدولة الام مثلما كان نظائرهم الخراجيين التقليديين قد نصبوا انفسهم وكلاء عن الالهة.
ولعل ذلك قد يفسر:-
أ- ان المؤسسات والنظم "الحديثة" لم تكن قمينة بان تخرج من رحم دولة غيرمكتملة النضوج. فنقيضا لنظيرها فى الوطن الام حيث كانت الاحزاب مثلا قد خرجت من صلب الدولة القومية الأوربية ابقيت الدولة القومية "الحديثة"-فى الامدادات-خديج-بمعنى جنين غير مكتمل التكوين.
ب- التنافس المستمر و الصراع بين تلك الفئات التقليدية و الحديثة على مر التاريخ الحديث وخروج بعضها ودخوله فى احزاب أو اخرى والتصالح والتخاصم فيما بينها فيما يشبه الصراع الذى كان يدور فى الفضاءات العليا لشرائح السلطة الخراجية العبادية السابقة على الطبقات و على الرأسمالية.
ج- يدرك الناس انهم اذ يواجهون السلطة القائمة أو-و معظم فصائل المعارضة انما يواجه الناس شرائح سلطوية مشغولة بلعبة الكراسى الموسيقية السياسية و باعادة توزيع السلطة و الثروة فيما بينها. ذلك ان الحكومة و معظم المعارضة باتتا رفيقتا فراش واحد تزأودان على بعضهما فى السمسرة فى أو/و تتقاسمان عائد السمسرة فى مصائر الناس بالوكالة عن الراسمالية ما بعد الصناعية-العولمة الكوننة-الامركة-الكوكلة-المكدنة-الدزننة.
د- ان الناس ما ينفكون يخلفون الدولة "القومية" ورائهم و كانت قد اخلت هى بهم باكرا فلم يلبثوا ان راحوا ينخرطون اما فى اعادة انتاج مؤسساتهم المحلية الاهلية الريفية الرعوية أو-و يعيد الناس انتاج اجزاء ثقافية قديمة و يبدعون اخرى مثل مجتمعات الخلأوى و تعليم الخلأوى. و قد يعيدون انتاج الاخيرة بابعاد "محدثة" أوما اسميها ما بعد تقليدية فى مواجهة انهيارالنظام التعليمى الرسمى. و يعيد السودانيون فى بداية القرن الواحد و العشرين مجتمعات الخلأوى فى وجه انهيارنظم الكفالة الرسمية كما يعيدون انتاج الخلأوى المهنية لتدريس القرآن و النجارة والحدادة و غيرها من المهن التقليدية "المطورة" فى مواجهة تفاقم العطالة و الاقتلاع الاقتصادى والسياسى والاجتماعى جراء اسواق العمل المهيكلة و التصحر وخصخصة الارض المشاع والديون الخارجية الخ.
هـ- يعيد الناس انتاج عباداتم المحلية الجهوية التى تخصهم مجددا أو-و يبدعون بدائل للدولة تدل عليهم و تليزهم فى بيداء انشغال شرائح السلطة بنفسها مثلما فعلت على مر الزمان و كأن الزمن مر عليها مرورا فلم يغيير ما بشأنها كثيرا الا ما خلا تحول الحاكم المركزى الروحى المدنى الى عسكرى يخلع على نفسه و محاسيبه الرتب و النجوم الكثيرة.
و- لا يجد الناس-و قد راحت الدول تعيد انتاج صراعاتها الداخلية فاستدعت مفاهيم التنائى التقليدى الممثلج للسلطة المركزية الخراجية القائمة فى العاصمة النائية-لا يجدون معدى من ان يتركوا الدولة و شرائح السلطة و شأنها. ذلك ان الدولة المركزية-و قد باتت تتمثل فيما اسميه بالدولة ما بعد القومية-ما تنفك و الامر كذلك تحلق فى فراغها الذاتى أوفى علياء سمأوات اشد نأيا مما كانت عليه نظيرتها الخراجية. فان ارتهنت الدولة ما بعد القومية بشرطيات العولمة-الكوننة-لم تعد الدولة "القومية" تكترث باعادة انتاج مجتمع قومى ولا باعادة التوزيع التقليدى شبه العادل على الافراد و الجماعات مما راح الاخيرون معه يبادلون الدولة عدم الاكتراث.
3- ان الصراع ما ينفك يعبر عن نفسه رغم و ربما بسبب اختراق ما يسمى بالرأسمالية ما بعد الصناعية فيما يسمى ما بعد الحداثة الخ.لكل من التنظيمات التقليدية و الحديثة معا.
فما هى الاجزاء الثقافية السودانية التى الفت أهم القسمات الاجتماعية السودانية التى تعين الاستعمار على مواجهتها و التعامل معها بالاستيعاب والاحتواء غالبا و محأولة اعادة هيكلتها أواعادة تشكيلها باختراقها؟ ام كانت تلك الاجزاء عامل تيسير للسياسات التعليمية الاستعمارية الرسمية؟و هل كانت تلك القسمات قابلة لتحدى الاجزاء الثقافية الاستعمارية المدلسة بطبعها؟
 
التربية الصوفية آلية للتوافق الاجتماعي:-
تبادلت كل من التربية الصوفية والغزو الأجنبي العمل على تعميق وتوجيه الميل نحو التغريب والانسلاخ alienation بين الأفراد. و كان للطرق الصوفية الفضل في خلق النوازع اللأواقعية لدى الأفراد. ولما جاء الفتح التركي، بكل ما نسب إليه الأفراد، من قهرهم والتنكيل بهم-اثر مقتل إسماعيل-ومن تدخل خشن في أسلوب حياتهم ونظمهم، ومن تقريب لأفراد وجماعات وإبعاد لأفراد وجماعات أخرى، وموالاة بعضهم ومعاداة بعض آخر، تضافرت هذه العوامل لتخلق موقفا من مواقف الشدة وانخرط الأفراد إزاءه في اتجاهات متباينة واستجابات اجتماعية تتفأوت بين الصد والوعي والمقأومة، وبين النكوص والانسحاب retreat والسلبية والإذعان والميل للقدرية. ولقد لعبت التربية الصوفية دورا ترك أثرين متقابلين يمعنى معاكسين على الاتجاهات الاجتماعية :-
1- اتجاه سالب في شكل الانخراط في مناشط دينية هي تخريجات derivation عن الصوفية وراسب من رواسبها وهو التقمص الروحي والزار والانجذاب spirit possession & shamanism.
2- التطلعات الجمعية التي كانت الطرق الصوفية قد بذرت بذورها بالروايات التي انتقلت وشاعت في المنطقة بكاملها حول قرب ظهور المهدي المنتظر.
وكانت الأوضاع الاجتماعية تساعد على تقبل مثل هذه الأفكار وتكرسها من ناحية. وكان معينا من الرموز والمؤشرات التى تعضد تلك التطلعات قد توفر للأفراد، من ناحية اخرى كسبت تلك التطلعات-بتراكم الأدب الصوفي حول أسطورة المهدي. وتعتبر هذه اتجاهات ايجابية حيث أنها غذت الميل نحو تقبل محمد احمد -المهدي- فيما بعد والانخراط بنشاط في تثبيت دعوته من قبل الأفراد والجماعات. و لعل انتشار و تعدد الطرق الصوفية-حتى مع حالة الانحسار التي أخضعت لها-سواء من حيث سيادة قيمها أومن حيث حالة نكوصها يؤلف، بحد ذاته مؤشرا أودالة على الأحوال الاجتماعية ابان التركية الأولى. فقد كانت اعتبارات الحكم التركي و تداعيات الحالة الاقتصادية عموما من شأنها خلق شرط ضمور فاعلية الأفراد والجماعات. و ربما فسر ذلك كيف ان الأفراد والجماعات يلجاءون تحت وطأة أوضاع اجتماعية مرهقة إلى السحر والشعوذة والزار. ففي محأولاتهم-لإيجاد البديل -التوازن العاطفي- لقبول أوتقبل التناقض بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون لاذ الأفراد بالتصوف، وذلك على سبيل النزوع إلى الهروب من واقع غير مقبول و لا سبيل الى مواجهته دفعة واحدة. فما علاقة الاستعمار بكل ذلك؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
4- استولت على صلاحيات السلطان وملوكه وامرائه تباعا ولم تنفك ان ارغمت السلطان الفونجى القائم فى سنار المحروسة على أن يمالئ الصوفيين بل يستجديهم العفو والمغقرة ومحض شبر من الارض يدفن داخله.


المبحث الثانى:  هل الهجرة المنوالية خارج دائرة الدولة المركزية الخراجية وظيفة نشوء جماعات بديلة لتلك الدولة؟أم العكس؟
 
ازعم ان معظم الطرق الصوفية كان حريا ان يخرج  بعد القرن الثانى و صولا الى الرابع على سيطرة السلطة القائمة. و اجادل ان البدايات الاولى لما شارف الطرق الصوفية كان قد اتصل منذ مقتل عثمان و فتنة البيعة الاموية و تباعا. فقد عبر معظم الحركات الصوفية النخبوية اللاحقة لعصر الراشدين عن نفسه فى استقطاب العامة والاقنان والعبيد فيما يشارف ثورة مضادة كحركة عبد الله بن سبا مرة و عبر بعضها الاخر عن نفسه فى كونه لورة على السلطة القائمة مرة اخرى. و لعل عبد الله بن سبأ اول من تعين على الثورة المضادة تحت راية الامر بالمعروف و النهى عن المنكر. فقد كان الاخير أول من حرض على و نظم ثورة مضادة على خليفة راشدى وبادر بتسييس الاسلام واستعدى ولاة الامصار و"العامة" على الخلافة مثلما فعل من بعد الملاحدة والزنادقة والخزمية والراوندية والخوارج وتنويعاتهم على مر الخلافات الرشيدية والاموية والعباسية والفاطمية والايوبية الى المماليك و الخلافة العثمانية فالاندلسية وصولا الى لورانس العرب نيابة عن أو باصالة جماعات مشبوهة. فقد استغل عبد الله ابن سبأ قولة حق اريد بها باطل فأطلفها دعوة متخاتلة بـ "الامر بالمعروف و النهى عن المنكر" لاثارة الفتنة مثلما تثار الفتنة باسم الدمقرطة والحرية وغيرها من مدلسات قاموس عولمة الازعان للرأسمالية ما بعد الصناعية ومشروع القرن الامريكى الجديد مما يلاحظ تنويعاته اليوم فى كل مكان مزاودة على اى جماعة أو خطاب بديل.
هذا وحيث كانت جماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قد انتحلت لنفسها منذ خلافة عثمان الراشدية وربما فى تنويع على نظائر باكرة من الثورات المضادة منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد لنفسها صفة الحركة الشعبية تكاذبا فقد خصمت تلك الحركات و منها الطرق الصوفية على مناطق نفوذ الدولة الفيزيقية الجعرافية. كما تخصم تلك الحركات على سطوة الدولة المركزية و النيل من الدولة المركزية على مر تاريخ  الدولة الاسلامية منذ القرن الرابع الهجرى على الاقل. و فيما كانت تنويعات على الطرق الصوفية قد نشأت دون ان تعلن عن نفسها بهذا الوصف فى الخوارج و الاباضية والمعتزلة ونظائرها خصما على  الخلافات الاسلامية فقد نشأت نظائر "محدثة" بين جنبات ما يسمى بالدولة  "الحديثة" فى المنطقة العربية والاسلامية فعبرت عن نفسها فى ظاهرة الاسلام السياسى. ذلك ان الاخير كان قد نشأ فى ثلاثينات القرن العشرين على الاقل بوصفه تنويع على المطالبة بحق تقرير المصير. وكان حق تقرير المصير قد روج تخاتلا من اجل تيسير قيام دولة اسرائيل وليس من اجل عيون العرب او المسلمين. المهم ازعم ان الاسلام السياسى كان حريا بان يشارف طائفة يقوم عليها قطب او شيخ طريقة تقف بدورها كنظائرها التاريخية خارج الفضاء القانونى للدولة المركزيةCentral State  Jurisdiction  وفى صراع معلن او خفى معها. وقد تنافست معظم حركات الاسلام السياسى وما تبرح مع الدولة و القبيلة و الاحزاب السياسية الطائفية و غير الطائفية على الاتباع و "المريدين". الا ان الاسلام السياسى لم ينفك ان تبرأ من سلالة الصوفية و ناصب بعض الحركات الاسلامية الاخيرة العداء او-و تستر على نسبته اليها مثلما فى السعودية. على انه من المفيد تذكر ان الطبقات الحاكمة و حلفائها من الاعراب الاستثنائيين المذكورين فى مكان اخر كانت تعمل بدورها على تحريض جماعات مشبوهة بدورها مثلما رأينا فى الخلاقة الايوبية مثلا.
تعريف الصوفية السودانية اجرائيا Operationally وجيزا
كانت الطرق الصوفية قد اضعفت الفونج باجتياح مراكزه السلطوية من سنار الى عواصم الممالك الصغيرة و الامارات الداخلية الادارية الدينية والتجارية أو/و احلال نظائر صوفية اسلامية معربة مكانها تباعا على غرار ما صنعت نظائر ماثلة فى الاقاليم العثمانية وقتها. فقد كان انتشار المدن التجارية الصوفية تحت عباءة الصوفيين وتجارهم فى مستقرات الخلأوى قد تعين على شظينة السلطنة و اقاليمها الداخلية. فلم تنفك السلطنة ان توزعت ما بين ملوك و امراء الفونج و ممالك العابدلاب من ناحية و بين احتكار الصوفيين و سكان الخلأوى لحراسة ابار تجارة القوافل من ناحية اخرى مما نحت فى جدران صلابة السلطة القائمة فى سنار. فكيف قيض استلاب سنار لحساب التجار الصوفيين؟
يسجل مصطفى عوض السيد فى رسالة ماجستير سفر تكوين الطريقة المجذوبية وازدهارها وقد اتصلا بظهور الحاج عيسى وابنه حمد بن عبد الله على الساحة الايديولوجية و الاقتصادية فى الفونج. و يقيض تاريخ المجاذيب افتراض ان نشوئهم كان حريا بان يخصم على الاساس المادى للدولة المركزية. و يتضح بصورة نسبية كيف ان الهجرة المعاكسة Centrifugal Migration للجماعات والافراد بعيدا عن الدولة المركزية الخراجية وعن الادارة السياسية وعن هيمنة الايديولوجيا السلطانية وعن سيطرة الادارية السلطانية الفونجية السابقة على حلول الطرق الصوفية. وتتم تلك الهجرة خارجا فتخلق شرط بدونة الجماعات و الافراد. ولعل حركة السكان بهذا الوصف حرية بان تتمثل لحساب المجاذيب و خصما على الدولة المركزية السلطانية الخراجية. ويقول مصطفى عوض السيد أن "حمد بن عبد الله مؤسس طريقة المجاذيب ويعتقد انه مؤسس الدامر" كان رجل دين و تصوف واعتزل الناس" حيث ترحل "فى منطقة الدامر وقد اتخذها مقاما انقطع للعبادة فيه". ولم تنفك سلالة حمد بن عبد الله ان هاجرت الى الدامر من دارو نتيجة انقسام داخل المجتمع القبلى فى دارو-و قد انقسم الاخير-الى عدة بطون وعشائر كعادة المجتمع القبلى كل بضعة اجيال"[148].
ولا يفصل مصطفى السبب وراء انقسام المجتمع القبلى الى عشائر وبطون وهجرة بعض الاخيرة بعيدا عن مراكز الادارة وجمع الخراج الخ فلعل أى من أوكل الاسباب التالية وقف وراء هذا المنوال الدائرى من هجرة الجماعات والافراد نحو الدولة Centripetal Migration وهجرة الاخيرين بصورة معاكسة بعيدا عنها وصولا الى انقسام المجتمعات المحلية والجماعات والقبائل والطرق الصوفية فيما بعد على نفسها والتنافس فيما بينها وفيما بينها والدولة المركزية على الخراج الخ. ولعل ذلك المنوال تمثل فى:-
1- ضغط اعداد متزايدة من الجماعات والقوى السنارية والطرق الصوفية المتشاركة فى الموارد على الموارد.
2- تفاقم الديون الريفية-تنويعات الشيل-على المنتجين للخراج مما يدفع الاخيرين الى الفرار طلبا للمأوى فى الملاذات الدينية مما كانت توفره الاخيرة على مر التاريخ منذ وادى النيل الاسراتى عبورا بالكنيسة المسيحية الشرقية السودانية. وقد باتت الخلأوى من ثم - وقد مأسست نفسها فوق الكيانات السابقة عليها حرفيا حتى باتت بعض المساجد فى شندى تسمى بالكنيسة- توفر للجماعات والافراد المبدونة ملاذا بغواية العمل الحى والثواب والتوبة الخ خصما على القوى السياسية المتصارعة فى بين الفونج والهمج. 
3- ضغط الاعداد المتزايدة من السكان على نظام مساعدة لا يتغيير كثيرا الا بقدر ما يصل سقف نمو اقتصادى يتصل بدرجة تطور علاقات انتاج وعلاقات عمل تعيد انتاج نفسها منواليا بدورها فى تنويعات لا متغايرة كثيرا.
المهم فورا تتضح علاقة أؤلئك الصوفيين و رجال الدين فى سردية المجاذيب بالتجارة ايضا والعلاقة بين التجارة وطرق القوافل والآبار على طرف القوافل والمدن التجارية. ذلك ان نشوء المجاذيب متسأوقا والمراكز التجارية على طول النيل وعلى تخوم البحر الاحمر واضح فى سجل الطريقة بوصف الاخيرة تمأسست فوق واحدة من العائلات الدينية التجارية الكبيرة. فقد اتصلت سيرة المجاذيب و غيرهم من التجار الصوفيين بتاريخ المدن ما بعد الفونجية مثل الدامر كون الاخيرة مركز تجارى معتبر و كذلك شندى التى ارتقت الى مرتبة تجارية رئيسية غب الانقسام الاسراتى الذى وقع حول منطقة مروى ما بين 1659 الى 1705-6[149]. و يلاحظ ان حركة هجرة السكان و المدن أوالقرى و غير ذلك من المستقرات المترحلة بدورها مع كل من دورات الطبيعة فى تصرفات النهر و المطر و قسمات المكان الهيدرولوجية مما نناقشه فى فصل مستقل الى حركة الرساميل البشرية والمادية و اللا مادية بهذا الوصف حرية بان تخلخل المكان بخروج السكان بخاطرهم أو-وبعوامل طرد ضمنية. كما تكرس تلك الحركة مقدرات مكان حلول تلك الرساميل مثلما تخلخل مكان رحيلها معا. فكأن عمار مكان يخصم على تضعضع وصولا الى خراب اخر فى علاقة طردية و حركة منوالية كما يلاحظ الناس فى كل مكان و على مر التاريخ المكتوب و المسكوت عنه قصدا أو/و غفلة. 
وكان شيخ الطريقة يجمع بين كل من وظيفة الفكى والتجارة و ربما الزراعة والنشاط الدينى مما يتضح فى التطورات النمطية التالية وقد بات ذلك النمط خصوصية ثقافية و فكرية و تنظيمية و اجتماعية ألفت منذ القرن السابع عشر على الاقل قسمات السودان اللاحقة. و قد تعينت تلك النماذج التنظيمية الاجتماعية على وسم التجمعات الانسانية السودانية بسمتها القبلية الصوفية منذئذ. و قد اكتسبت تلك التجمعات صلابة و مناعة نسبية ضد الخلخلة والشرذمة لحساب المدن الحضرية لوقت طويل الا ما خلا ما يتم داخل الأولى كونه خصوصية ديمغرافية اقتصادية تعمل على تكريس النموذج بالانقسامات المتوالية بين العشائر والبطون الى مزيد منها يرحل بعضها و يبقى الآخر وهكذا فى كل مرة. و تعيد تلك الخصوصية انتاج المجتمع فى كل مرة بغض النظر عن ترحل المجتمع الفيزيقى فى المكان. و بقدر ما تبدو ملاحظة ان  ج النظام الكلى لا يبدو و كأنه ينتج نموذجا أعلى على الموجودات التنظيمية والثقافية والديمغرافية ومن حيث المهن شديدة الغواية الا ان مثل هذه الملاحظة تغدو حرية بان تيسر ارجاع المجتمع السودانى الى النمط الشرقى استسهالا للتحليل. الا اننى أرجئ مجادلة هذه الملاحظة الى مكان اخر من البحث أوالجزء الثانى.
المهم كانت التجمعات الصوفية التجارية غالبا والزراعية احيانا أوالاحرى تلك التى تجمع بين الاثنية حرية بان تنجح فى استقطاب حركة الجماعات والافراد العشائريين القبليين بطبعهم من الشمال والشرق بدون خلق شرط اقلاق اقتصادى يذكر لاسلوب حياة تلك العشائر والقبائل. وأزعم أن عملية اجتماعية اقتصادية نشأت بين المجاذيب الشماليين مثلا ولم تنفك تلك العملية ان "تطورت" فشارفت تنويعة من الحكم الذاتى الاقطاعى بمعنى أن شيوخ الطريقة المجذوبية شارفوا زعامات اقطاعية و قد خرج الاخيرون من رحم الطريقة كما تمأسسوا عليها معا. وازعم ان سعى المجاذيب نحو تكريس مكانتهم الدينية كان دفاعا عن مصالحهم المادية التجارية و غيرها و العكس ايضا صحيح. وكان "واضحا أن المجاذيب كانوا تجارا و رجال دين معا" حيث احتكرت تلك العائلة كلى النشاطين وقد بقي النشاطان يمارسان منذ ايام الحاج عيسى كما مارس المجاذيب الزراعة بمنطفة رأس الوادى بالدامر و فى المنطقة جنوب الدامر على نهر عطبرة"[150] حتى سبعينات القرن العشرين على الاقل. وحيث "كانت حركة المجاذيب بمحازات نهر عطبرة الى مناطق البجا على البحر الاحمر مواتية تجاريا و ماليا وديمغرافيا بدورها لطريق التجارة معا فقد كانت مكانة شيوخ الطرائق تكرس احقيتهم دون من عداهم فى احتكار المدن التجارية والموانئ و طرق القوافل. فان كان الاسلام عقيدة متقدمة على كريم المعتقدات المحلية و تفضيلا على الاخيرة فقد بات المسلم والمعرب اكثر تمييزا بتلك العقيدة عمن عداه. و قياسا يفترض ان قرى و مدن الصوفيين- وقد تمحورت حول الطريقة الصوفية وقد تمأسست الاخيرة فوق الخلوة- باتت بدورها "تطورا" ونشوءا صاعدا على المدن الفونجية ومدن الهمج بما فى ذلك سنار عاصمة السلطة الفونجية ولولو عاصمة الهمج وقد خرجوا على الاولى ثم ما انفكوا أن سيطروا عليها خلسة مما لم يتنزل بدوره فى التاريخ المكتوب الا بقدر ما عبر عن نفسه فى جمل اعتراضية لا ترقى الى شرح على متون التاريخ الرسمى للسودان الشمالى حتى اليوم. فقد بقى كل ماهو اسلامى معرب ارقى من و مفضلا على نظائره السابقة على الاسلام واللامعربة حتى وقت طويل مما قد يقف خلف  مشاكل السودان الماثلة فى الجنوب والغرب والشرق جميعا.
هل الخلأوى تنويعة ديمغرافية و اقتصادية نشوئية على المدن الفونجية حقا؟ 
تسمى الفترة ما بين 1500 الى 1800 فى تاريخ تقسيم السودان-من الخارج-بفترة الفتح و الممالك الاسلامية فى كردفان و دارفور. وحيث ان سلطنة الفونج تشمل شمال السودان فان ذلك التقسيم لا يشملها. ومنذ دخول سليم الاول مصر عام 1517 دارت احداث فى وادى النيل الشمالى والجنوبى منها امتداد الخلافة العثمانية بعد مضى 12 عاما من قيام سلطنة سنار حتى الشلال الثالث كما تم الاستيلاء على سواكن فى  1532م. وكانت حدود الخلافة العثمانية الجنوبية تقف من 1560م الى 1583م عند ابريم. وكانت حدود سلطنة سنار الشمالية تمتد حتى الشلال الثالث وقد امتدت حدود السلطنة الشرقية الى ما وراء سواكن. وحيث ان قبائل البجا و هي من اهم من سكن المنطقة الشرقية لوادى النيل-السودان ومصر.     
وقد اتصلت الفونج المؤسلمة بما يشارف المدن او القرى الدول ويقوم على كل منها من ناحية الفونج مكوك و مناجيل و من ناحية الصوفيين والعبدلاب شيوخ صوفيين و زعماء قبائل وقد تجاوزت حدود كل من الصوفية والقبلية بعضها بخاصة فى الفضاءات البدوية الرعوية.
وازعم ان نهايات المدن الفونجية كانت وظيفة اخلاء الأولى مكانها لمدن وقرى الخلأوى. فقد كان التجار الصوفيون المهاجرون والاعراب قد استباحوا مدن الفونج حتى غدت سنار على أواخر ايامها وقد خلت من ابهة البلاط السنارى ورحل الخيالة أوافقروا. وكان رأس مال الفونج البشرى والمادى و اللا مادى مملوك لكل من السلطان و الامراء و المناجيل و سر تجار مدن الفونج فى القرنين 16 و 17 بلا منازع حتى حلول جماعات التجار الصوفيين. وقد راح الاخيرون يحلون مكان نظائرهم الفونجية مما كان يمثل تنويع على الطبقات الوسيطة بين التاجر الأول وصاحب الاحتكار السلطانى لتجارة القوافل السلطان الفونجى المقيم فى سنار المحروس. ذلك اصحاب راس المال الخاص والتجار الفونجيين لم ينفكوا ان راحوا يتحورون Mutate الى تنويعات مشوهة على انفسهم باكرا مع حلول التجار الصوفيين, وكان التاجر وصاحب المال الفونجى- وقد فقد ملكة فى الارض وقد غدت أوقافا خيرية على الصوفيين و معظم ما وصله بتراتبات المراكز والادوار السلطوية السنارية من سيد القوم لحساب الصوفيين المهاجرين وقد احتكروا ادارة العدالة والسوق جميعا- قد عجز عن اكثر من السير فى الاسواق وقد تلفع بعباءة تقوى جبرية عاقدا سيفا كبيرا على هيئة صليب خلف ظهره[151]. ولم تنفك جماعات التجار الصوفيين ان اخلت مكانها بدورها لجماعات المغامرين والمضاربين الاجانب وقد راحت الاخيرة تحل مكان التجار الصوفيين منذ منتصف القرن الثامن عشر وصولا الى بداية القرن التاسع عشر[152].
المهم فورا فقد التجار الفونجيون ثرواتهم فسلطتهم تباعا لحساب التجار الصوفيين المهاجرين سواء بالابتزاز الدينى أوبما اسميه الهزيمة بالزواج Conquest by marriage وهو تقليد تاكتيكى معروف بين القبائل البدوية والاعرابية على الخصوص و قد آلت به ثروات و اموال المستقرين المنقولة وغير المنفولة لحساب الاعراب على مر التاريخ مما يلاحظبين قبلائل الترك و الخزر و مراتعها ما بين القفقاز و نهر الفولجا و بين قبائل الجزيرة العربية, و تعقد قبائل اعراب الشتات و الاعراب تعقد منذ قديم الزمان معاهدات الانطفاء بتزويج بنات القبائل الضيفة لابناء القبائل القوية ضمانا لولائها زيادة على ضم مراعيها و مسايلها بالنسب الى اصهار الاخيرين من القبائل القوية كما قد نرى تفصيلا فى مكان اخر. و عليه اجادل ان ينبغى التفريق بين البدو و الاعراب ذلك ان الاول غالبا ما يزعنون لسلطة الدولة المركزية فى حين ان اعراب الشتات يبقون متنقين مترحلين بخاطرهم و ان استقروا فوجيزا و بالتنكل   By Defaultمما ابحثه بتفاصيل و احلله بعمق اكثر و اوسع فى بحث اخر.
و بالمقابل لم يعد لملوك و مكوك و امراء الفونج سوى سلطة مظهرية لا وجود حقيقى لها. ذلك ان سلطة ملوك و امراء الفونج لم تنفك ان خصمت لحساب الصوفيين بوصفهم دعاة -و قد جمعوا بين التجارة والدعوة-  ايديولوجية اسمنى من عقائد الفونج. مما ييسر لهم ادعاء الاحقية فى وراثة السلطة خصما على ملوك و امراء و مكوك الفونج[153]..
 
                 المهم فورا بات بعض اثرياء الفونج حوار-من الحواريين- أو باع من منى بالاملاق عبيده و قد عجز عن سعاية العبيد أو/و أخذ يهدى الاخيرين لشيخ الطريقة تبركا أو من خشية فامتثالا للترويع الايديولوجى والابتزاز. وقد بات حلول تجار الصوفيين مكان نظائرهم الفونجيين المسيحيين أو الوثنيين تعبير عن قبول الأسلمة و التعريب بلا تحفظ فيما يشارف استسلام وازعان من عدى الصوفيين التجار للاخيرين بالجملة. و لم يكترث احد بان يقل لنا شيئا عن من هم من عدى الصوفيين التجار اؤلئك. فقد ابقى التاريخ الرسمى لأسلمة الفونج على استقطاب السكان الاصليين كأنه قضية مقطوع بها فبات الاخيرون و ما يبرح بعض مجاميعهم فيما خلا الشمال و الوسط محض تراكم عددى لمن لا وجوه له. ففيما خلا ما بات السكان الاصليون موضوع تلق طوعى للاسلام ازعانا لا يحلو لمعظمنا محاججة حلول الصوفيين الا بقدر كون اسلمة الفونج تعبير عن تحولات هائلة و منحن تاريخى عظيم و مشهود. فقد تمثل ذلك الحلول و كأنه "تطورا" ف "نشوءا" ليس و حسب على الثقافة المحلية كون ذلك الحلول تعبير عن ثقافة ممتازة راقية و متقدمة و انما بات حلول المجتمع الفونجى المسلم تعبير عن تشكيلات اقتصادية اجتماعية متفدمة متميزة بنمط انتاج صاعد على الاقصاد الطبيعى أو العبودي.
الا ان ذلك النوع من الطرح قد لا يزيد عن افتراض يصدر عن لا انتقاء يشارف التحذب اللا علمى المعيب. ذلك ان اللا انتقاء المذكور يبدو وكأنه تمأسس فوق امتياز الثفاقة الغازية و ممثليها بلا منازع. فالسودان المسلم نشوء على السودان السابق على الاسلام فاكثر تطورا و تحضرا. وأن المسلم والمؤسلم معرب وبالتالى ارقى ممن عداه. والعكس صحيح ايضا فالمعرب مسلم واكثر امتيازا من حيث العقيدة على من عداه. واجادل ان تلك الافتراضات غير المثبتة حقا كانت حرية بان تتجاهل عمدا:-
1- التكوينة الاقتصادية الاجتماعية للفونج. فرغم ان مجتمع الفونج اتصل قرون قبل حلول التجار الصوفيين والمهاجرين بالوصف اعلاه وتباعا الا ان ذلك المجتمع يبدأ- فى السردية الصوفية السودانية-مع اسلمة السلطنة فى 1504.
2- ان السلطنة كانت اكثر تقدما عن حاصل جمع مدن الخلأوى وقراها.
3- ان نهاية الاقتصاد العبودى السلطانى و الاميرى السنارى عبر عن نفسه فى اخلاء ذلك الاقتصاد لنمط الانتاج العبودى فى مجتمعات الخلأوى حيث راح اباء الحوارى والتلاميذ الموسرين يهدون شيخ الطريقة عبيدا.
4- ان مجتمع الخلوى بات متراتبا بين شيخ الطريقة والحوارى والتلاميذ والعبيد و ربما النساء والاطفال حسب البيئة الطبيعية و الاقتصادية لموطن الطريقة من حيث كونها حضرية أوتتصل باعتبارات المجتمع البدوى الرعوى.
وأزعم ان تلك الفرضيات لا تزيد على ان تستدعى "تطورات" عربية اسلامية سابقة دون ان تجد فى قلبها التعين على وضع تلك التطورات فى سياقها الحقيقى. فلم يكن حلول الطرق الصوفية فى السودان تمثلا موضوعيا لتميز وخصوصيات تاريخية و تنظيمية و تطورية اذ لم تتصل تلك الطرق تعينا بمرحلة معينة من تحولات تطورية حالة فى الاسلام. وحيث كانت الطرق الصوفية قد ظهرت فى القرن الهجرى الأول بين "شخصيات عرفت بزهدها السلبى و حصر طاقاتها فى عبادة الله" الا ان الصوفية المتأخرة شهدت نهايات ازدهار الثفافة الاسلامية-تطورا أونشوءا و قد تسبب بعضها فى تسريع تلك النهايات. بل ازعم ان نشوء بعض الطوائف الصوفية الف نكوصا. فما خلا ادعاء  تجار العرب الصوفيين و المعربين المسلمين والمؤسلمين الهيمنة الفكرية و التنظيمية المجتمعية على سلطنة و امارات و منجليات الفونج فلم يكن تجار الصوفيين اللذين حلوا بسلطنة الفونح سوى تنويعة على غزاة يستدعون بطبيعة تكوينهم سيادة على الشعوب موضوع الغزو وتكريس ذلك الادعاء تباعا بالمثابرة على فبركة تاريخ نرجسى ملحاح.
ورغم اننى عزوت للطرق الصوفية قسمات و خصوصيات ايجابية كثيرة فنسبت اليها فى البحث الباكر تحولات تبدت بالقياس مع ما تمثل من عسكرة الفونج على عهد الهمج الخ "تطورا" الا اننى-و بعد سنوات من التعين على البحث المتصل و الملاحظة المشاركة و بما ارجو ان يكون بصيرة اكاديمية مكافحة-ان صح التعبير- وبالمسافة النفسية والفطام من سذاجة تصور ان التقدم ملحاح وانه حرى بان يتم بمرور الزمن وغير ذلك من السذاجة الماركسويولوجية-اقر باثر رجعي in retrospect بان بعض المحصلات الباكرة كانت حرية بان تشارف سذاجة ماركسيولوجية و ربما التمنى فى افضل الشروط, وقياسا أزعم أن تاريخ معظم الصوفيين المعربين النرجسى الرانى الى ماضى كان حريا بالا يمت الى المحكومين ولا الى العامة ولا الى الاقوام المؤسلمة من السكان "الاصليين" بصلة تذكر أوتنسى. ولعل تاريخ الصوفيين والسجلات الفردية لبعضهم والسردية التى تعينوا على بناءها كانت حرية بان تخصم على تاريخ الاقوام الاصليين حكام ومحكومين كما يلاحظ فى الفونج مثلا وغيرهم ممن عدى العرب والمعربين. فقد الحقت شرائح تلك الجماعات نفسها بانساب اسطورية شريفية مثلهم مثل كافة الغزاة فى كل مكان. وما أن فعلوا ذلك حتى باتوا كغيرهم من الغزاة وما ينفكون يصدرون كغيرهم من الغزاة عن تمييز عرقى أوعنصرى على مر التاريخ. وكانت السلالات المذكورة الى ذلك بمثابة رساميل اجتماعية شرقوية تضاهي الرساميل المادية بل تفوقها توفرا على انتاج شروط المراكمة المادية واللامادية بانواعهما.
ولم يكن مسعى أولئك الافراد والجماعات باضفاء امتيازات وخصائص فارقة على انفسهم من شأنه اعلاء الاسلام على الاديان والعقائد المحلية- وقد أطلق على الاخيرة صفة "كريم المعتقدات" تفضلا بعد طول ذراية- وحسب. انما والاخطر يسر تحقق ذلك السعى اسقاط الامتياز على الاسلام الصوفى مما يسر بدوره فيما بعد ادعاءات الاسلام السياسى المتعالية على الاسلام الشعبى والرسمى. وحيث تعين الأول على احتكار التفسير ففقد بات ذلك الاحتكار اداه انتاج واعادة انتاج كل من السلطة فالثروة. ذلك ان الابتزار وارهاب الاقوام المهزومة بالغزو عصبيا كانت تنتج دائما آلية استحواذ على السلطة والثروة خصما على المجتمع السابق جميعا. فقد أوقف ادعياء الامتياز العرقى و الدينى الغزو العصبى مكان الاجتياح المادى فلم ينفك الاحساس بالقصور فالنقص ان اصاب المجتمع السابق ابتداءا بالسلطان القائم فى سنار الى صغار الملوك و المكوك و المنجليق و زعماء القبائل الفونجيين مما يسر للتجار الصوفيين العرب و المسلمين و ادعياء العروبة والاسلام اخضاع من عداهم لهيمنة ثقافية عقائدية بالضرورة و عرقية بالنتيجة فى دورة فيزيقية كاملة أوحلقة مفرغة.
فقد طرحت تلك الثقافة والعقيدة نفسها فورا ومسبقا بوصفها أرقى من الثقافات والعقائد الاصلية فبات اصحاب الأولى بالتماس اشد تحضرا وتقدما من السكان الاصليين. بل ناصبت بعض تنويعات الاسلام السياسى اصحاب الحضارات السودانية الاصلية-شمالية و جنوبية باعتبار ان مينا مؤسس الاسرة الأولى و موحد الوجهين القلبى و البحرى جاء من القرن الافريقى-منذ البدئ عداءا معلنا ففبركت دواع سياسية و لفقت تهما مرة لاشعال تلك الحرب الاثنية العنصرية بوصفهم رطانة وربما "برابرة". ولم ينفك الاسلام السياسى ان راح يؤبلس الحضارة الوادى نيلية فاغلق المتحف القومى بوصفه تزويق لعبادة الاصنام الخ فى تنويع على ما فعله التجار الصوفيين مع عقائد "الفونج" وما سمى ب"الهمج" والزنج والبرابرة الخ. ولم ينفك الاستعمار الأوربى ان ذهب نفس المذهب وراح الى ذلك يكرس اهمية تلك الجماعات ولم تزد فى الواقع على اقليات توطنت فى مساحات صغيرة نسبيا مقارنة مع السواد الاعظم من سكان شبه القارة المسماة بالسودان. و لم يكن انشغال المؤرخين والاثنوغرافيين و الانثروبولوجيين النشط بتسجيل سرديات تلك الاقلية و كتابة أو اعادة كتابة تاريخها بوصفها صاحبة حق معلى على غيرها فى السودان الشمالى والأوسط سوى مفاقمة خصم سردية وتاريخ تلك الاقليات على اغلبيات "الاهالى" فى جنوب وغرب وشرق السودان مما بذر فيروس التحولات الحالة تباعا منذ الاستقلال وصولا الى أزمة دارفور وربما غيرها تباعا.
والمهم فورا لم تلبث سمسرة بعض تلك الجماعات فى السلطة والثروة أن أفرزت كمياء تسييس الاسلام من بعد مما راح يعبر عن نفسه فى حركات انصرافية غامضة. واحاجج ان تلك الجماعات عبرت عن نفسها فى تنويعات على نظائر سابقة. فقد كانت الحركات الغامضة قد انتشر على مر الزمان اما خصما على الخلافة أو/و بتشجيع الحاكمية من العباسية فالاموية الى الايوبية الى الممالك الاندلسية الخ ومن ورائها جماعات اشد غموصا وشبهة وما يبرح معظم المؤرخين لا يجرؤون على النطق باسم تلك الجماعات ناهيك عن البحث فى سلالاتها النغلة.
أثمة قياس بين الطرق الصوفية واحزاب الملك و احزاب رأس المال المعولم؟
رغم ان الطرق الصوفية قد تميل الى التصرف كحزب سياسى وقد تعرف شيوخ طرائقها على مصالحهم الايديولوجية فالاقتصادية الا أن الطرق الصوفية بقيت كما ذكرنا تنظيمات فى مواجهة السلطان و ملوكه وامراءه مرة ومرة اخرى يعتمد وجودها على سخاء وجود السلطان. فرغم ان الصوفيين كانوا يرهبون السلطان وملوكه ومرائه الا ان الصوفيين كانوا فى المحصلة النهائية شريحة بلا قواعد شعبية بهذا الوصف الا بقدر حواريها و عبيدها. وكان الحوارى بطبعهم جماعة متغايرة متنقلة مترحلة و كات الطريقة تعتمد على العبيد عطايا من السلطان فى اغلب الاحيان حتى وقت متأخر من الفونج. و قد خرجت الطرق الصوفية من عباءة السلطنة بالوصف اعلاه فلم يكن مقيضا لها ان تخرج من فراغ تنظيمى سلطوى مثلها كمثل نظائرها فى كل مكان وزمان. على ان الطرق الصوفية بقيت قياسا على الاحزاب السياسية تتمثل فى تنظيمات لا طبقية. فلم يكن لها ان تغدو كذلك بالمعنى الماركس للطبقة وترتيبا لم تكن احزابها احزابا سياسية بهذا المعنى, الا ان الطرق الصوفية خلقت شرط حلول كيانات مسييسة ومؤدلجة لها خطاب واجندة خارج خطاب واجندة الدولة المركزية-السلطان الخ.
وقياسا فقد نشأ ما يشارف الاحزاب السياسية بعد انحلال الفونج وسقوطه فى ايدى التجار الاجانب وصولا الى التركية الأولى. وقد تعينت القوى الغازية على خلق ما يشارف احزاب الملك. فقد انشأت التركية الأولى جماعات دينية خارج الطرق الصوفية رسمية من العلماء الملحقين بالدولة ومن المتفقهين دينيا في خريجى الرواق السنارى الازهرى الخ. وقد خلقت التركية الأولى من شيوخ الطرائق وزعماء القبائل بداية ما قد أعرفه بـ"الطبقات" أوما يشارفها من الشرائح "الوسيطة" بين الحكام والمحكومين كون الأولى شريحة أوفئة حرية بان تتوسط بطبعها بين الحكام والمحكومين تكتيكا لحين الاستيلاء على السلطة أو-و انقضاء زمانها الافتراضى بخاصة ان بعض اعضاء تلك الشريحة كان عليه حماية مصالح اتباعه وحواريه الخ. وقد تعينت تلك الشريحة من وقتها على القيام بادوار فارقة من دور الوسيط الى دور العازل بين الحكام و المحكومين الى صانع الحكام أوالملوك وصولا الى احتلال مقام شرائح سلطوية لحسابها هى مما اناقشه فى مكان اخر. ورغم ان معظم أعضاء تلك الشريحة قد يتماهى مع بعضه الا ان بعضها كان ايضا قمين بان يتنافس على الحصول على اقسى ما يمكن الحصول عليه من امتيازات من الحاكم الجديد فالتبارى فى ارضاءه و لو على سبيل الصراع من اجل البقاء السياسى والاقتصادى والتنظيمى.
الا ان التركية الأولى كرست لأول مرة دور تلك الجماعة حيث حولتها الى شريحة تتماهى مع السلطة القائمة بدرجات متفأوتة. فقد خلعت التركية الأولى القاب ارستقراطية حاكمة على بعض من أصطفت من زعاء القبائل وشيوخ الطرائق و نصبت بعضهم حكاما على بعض المديريات الجديدة. وقد الحقت التركية الأولى بعض اعضاء تلك الشريحة بما يشارف الدائرة الداخلية للارستقراطية الملكية المصرية فمنحت الشيخ عوض الكريم ابو سن زعيم الشكرية مثلا لقب بك و بات الزبير "بارون" تجارة الرقيق الاكبر و صاحب ما يسمى امبراطورية ذرائب الادغالThe Bush Empire الزبير باشا. و حيث كرست التركية الأولى دور تلك الجماعة حولتها الى ما يشارف أحزاب الملك-فى نفس الوقت الذى حرصت على عدم تسييس قواعدها الجماهيرية أو/و تعينت على اضعاف الحس الدينى بين تلك القواعد الا بقدر ما يقيض استنفارها لحساب السلطة القائمة بسمسرة زعاماتها.
وليس ثم غرابة فقد درجت الشرائح الحاكمة على استقطاب زعامات المحكومين كما الحقتهم بدوائرالسلطة الداخلية بغاية اعادة انتاج الاخير لنفسها. وما ينفك هذا المنوال دارجا تباعا. و كانت الكنيسة و العرش فى أوربا قد اضعفتا الحس الدينى لدى العامة من الاقنان و العبيد و باكرا بل حتى الطبقة العاملة ابان القرن التاسع عشر. و كان سفر تكوين احزاب الملك اتصل بالعناية الالهية و قد ورثها ملوك أوربا بسقوط الكنيسة. و كان بعضهم مثل هنرى الثامن فى انجلترا و الفيزيوقوط الاسبان المعاصرين للاندلس فى شبه جزيرة ايبيريا وصولا الى نابليون ناصب البابوية العداء فيما حرم العامة من تعلم الدين و الابجدية معا تيسيرا لسياقة العامة و الاقنان و من شابههم قطعان مزعنة مرهبة مروعة بما يشارف الخرافات و التطيير فى حروب الكنيسة ثم فى حروب العروش.
وقياسا فقد كانت المهدية بدورها انتقائية فى الحاق تلك الشرائح بها واعلاء بعضها على بعضها الاخر من اهل البحر الى انصار المهدى غرب السودان مما نفصله فى مكان اخر. و خلقت القوى البريطانية الغازية من بعد بالمقابل تنويعات اكثر نضجا على "أحزاب الملك". فقد سيس الحكم الثنائى الطوائف وقوى طرقا صوفية وقبائل خصما على اخرى. وقد خصص الحكم الثنائى لزعامات بعض تلك الكيانات جعولا واقتطع لها ابعاديات و قيض لها حق الاربعاء و حق البليلة و حق الفاس و غيرها من حقوق شيخ الطريقة وفقيه الخلوة سابقا وزعيم العشيرة. ذلك ان الحكم الثنائى يسر لبعض اعضاء تلك الشريحة تقاسم الخراج حيث بات بعضهم وكيلا عن حكومة السودان-وقد انتعلت الاخيرة احذية "الدولة المركزية" - فى ادارة عمليات استلاب الخراج. ولم يلبث بعض اعضاء تلك الشريحة أن راح يتحور Mutate مرة اخرى الى زعامات و قيادات تملك احتكار تنظيم ما يشارف أحزاب سياسية. فقد كان لتلك الشريحة كل من سقف طائفي ايديولوجي وقاعدة شعبية-لا مسيسة بالضرورة الا بقدر ما تحمل اكفانها فوق ظهرها مهاجرة الى العاصمة دفاعا عن زعيمها حاميها وفى سبيل طائفتها دون مجادلة أومناقشة ثوابا فى الله تعالى جهاد فى سبيل سيدها وحاميها. فقد خرج الانصار مثلا من غرب السودان مارس 1953م مهاجرين الى العاصمة دفعا لمشروع ما بعد قومى تمثل وقتها فى رفض وحدة وادى النيل لحساب الارتباط بانجلترا. و لعل تدفق القواعد الشعبية اللا مسيسة تلك تنويعا باكرا على طوفان "المعارضات" التى باتت تعمر ساحات الجمهوريات الاشتراكية سابقا و ميادين عواصم الشرق الأوسط دفاعا عن مشروع ما بعد قومى مما اكون قد اشرت اليه فى مكان اخر.
المهم بقيت تلك القيادات بهذا الوصف تحتكر الساحة السياسية وما تنفك تفعل تحت مسميات وفى تحورات Mutations متجددة فى كل مرة. وازعم ان كل من السقف الايديولوجى المذكور والقواعد اللامسيسة-جراء استقرار كل من الطائفية السياسية و تنويعة اقطاعية ذات خصائص ذاتية- قد أتعين على تحليلها فى مكان اخر-بقيا و ما يبرحان ييسران تحور تلك القيادات بيسر مجددا وفى كل مرة. و ان ذلك التحور المتذرع بقى غير متنبه اليه الا بقدر ما يقف بعض المحللين امامه محيرين او/و يصمونه استسهالا منهجيا احيانا بالعمالة والارتزاق.
واجادل ان ذلك التحور الدرامى- وقد عبر عن نفسه فى جاهزيته الدائمة فى خدامة الاستعمار الكلاسيكى وصولا الى خدامة الرأسمالية ما بعد الصناعية- يصدر فى الواقع الموضوعى عن انعكاس للتحولات الحالة فى المركز واحتياجاته اللوجيستية والساسية فى المحاور والهوامش وكأن تلك "الكائنات" السياسية سواء احزاب سياسية او "معارضات" معدلة جينيا تمثلا لعباد الشمس الذى لا يملك الا ان يتوجه وجه شمس وجوده اصلاو بقاءه فاستمراره. و ازعم ان اكثر ما يسر تلك الخدامة على القيادات المذكورة هو حرصها على عدم تسييس قواعدها الجماهيرية الا بقدر ما تلقنها و تستوعبها وتستقطبها فى عبادة الفرد و الولاء الاعمى لزعيم الطائفة-القبيلة-الحزب-مثلما كان الحال منذ مئات السنين من ناحية. و فى تنويعة على علاقة تلك القيادات بشمس وجودها بالوصف اعلاه مرة اخرى. و يقف اسلوب الانتاج و علاقات الانتاج وراء معظم هذه الظواهر حيث يبقى على تلك القواعد اما مفقرة قياسا على زعاماتها أو-و قابلة للهياج الايديولوجى فى تنافس مع ودفاعا عن زعاماتها امام قواعد الولاءات الاخرى. و حيث كانت علاقات الانتاج والعمل الخراجية التقليدية تصدر عن المحاصصة فى المنتج او/و استلابه خالصا فقد راحت التحويلات المالية التى يرسلها معظم المنتجين خارج السودان مثلا تغدو و كأنها تنويعة على الخراج مما يعفى الدول و تلك الزعامات من مسئوليتها تجاه القوعد الشعبية بتراتباتها الاقتصادية الاجتماعية و ولاءاتها السياسية الايديولويجية جميعا. وقد بدأت تلك التنويعة من الخراج منذ نشوء اسواق العمل الخليجى بداية السبعينات. و لم تنفك تلك التنويعة من الخراج المزوق Euphemized Tribute أن تمثلت على نحو غير مسبوق وشبه معلن ابان حكومة الانقاذ. فلم ترتفع معدلات تحويلات المغتربين فى علاقة طردية مع ما اسميته بالهجرة المتباعدة عن الدولة المركزية ولم تعف تلك الهجرة كما كانت مثيلاتها السابقة عليها تعفى المنتجين من كل من العمل المجبر و من الخراج بانواعه. فقد راحت حكومة الانقاذ بالمقابل تفرض ضرائب شتى على دخول و تحويلات المغتربين زيادة على اشكال الاتاواة وضرائب العبور داخل السودان نفسه و ضرائب الانتاج داخل الاسواق المحلية الخ-كون فائض العمل الحى ليس ملكا لصاحبه. فقد بقى فائض انتاج العمل الحى ملكا للدولة المركزية الخراجية الجديدة اوالدولة ما بعد الخراجية.
وقياسا ففيما تشارك تلك التنويعات من السلطة التى يمكن تعريفها بما بعد الخراجية القواعد الشعبية فائض عملها فان الثانية حرية بان تستلب اقتصاديا حد الكفاف و ربما التضور و ان ذلك حري بدوره أن يسلب تلك القواعد الشعبية بتراتباتها قدرتها التنظيمية. و اجادل مجددا ان ما يبدو من اليسر الذى تحور به زعامات الطوائف المسيسة و صيرورتها الى ما غدت عليه فى مجتمعات كالسودان ولبنان واليمن وربما الجزائر وغيرها من المجتمعات العربية والافريقية- يتمأسس فوق اقصاء القواعد الشعبية خارج الحوار الا بقدر ما يستثير تلك القواعد خطاب زعاماتها منواليا ودوريا وانتقائيا فيهيجها ليدفعها الى الانسياق وراء زعاماتها سواء للدفاع عن أجندة الاخيرين أو-و لتوكيد شعبيتهم و الاهم للتصويت لتلك الزعامات فى الانتخابات بانواعها لا اكثر. و ازعم انه ان كانت الطرق الصوفية و القبائل و الطوائف من بعد-فالطوائف تنويع محدث نسبيا على الطرق الصوفية و احلال لها مكان الاخيرة-قد تفعلت كاحزاب شبه سياسية فقد باتت الطوائف الدينية بدورها أحزاب الملك أو الحاكم.
وقياسا فان كانت الاحزاب السياسية السابقة على الرأسمالية الصناعية وتلك التى عاصر البرجوازية الصناعية الاوربية وجيزا احزاب محتكرى تجارة القوافل وتجارة العبور شمالا وشرقا واحزاب اصحاب الابعاديات الزراعية فان الاحزاب السياسية المعاصرة للرأسمالية ما بعد الصناعية-العولمة-الكوننة الخ-قمينة بان تغدو أحزاب مستزلمى و سماسرة رأس المال عابر الحدود القومية. فقد باتت الاخيرة أحزاب اصحاب مال سمسرة ساسة يقومون بدور القابلة أو الام الحاضنة Surrogate فى كل مكان فى المقياس المدرج. و ما تنفك الاحزاب فى المجتمعات المسماة نامية-و قد هزمت بالتنمية الصناعية فما بعد الصناعية تباعا والاصلاح و الدمقرطة الخ-أن غدت احزاب اصحاب المال المكوننين بوكالة الدولة القابلة و سمسرة أصحاب المال الوطنيين. و لعل الاخيرين باتوا بحيث لم يترك لهم هامش مراكمة تذكر أو تنسى.و قياسا فقد انتج مناخ "تطور" فصعود حزب العمال الجديد البريطانى مثلا أو نكوصه بالتعددية الحزبية ما يشارف نظام الحزب الواحد وقد غيبت المعارضة الا ما خلا ما تتعين على اختلاقه أسباب التنافس بين حزبين بات واحدهما افتراضيا. و لا يزيد اختلاف التنافس المذكور عن اعادة انتاج الحزبين الامريكيين الكبيرين.
فأين يبدأء سفر تكوين كتم أنفاس الايديولوجيات المحلية تمهيدا لوأد تاريخ البشرية الا ما خلا الرأسمالية ما بعد الصناعية-الامركة-مشروع القرن الامريكى الجديد؟
 


الفصل الخامس عشر :  تنويعات على لحن الانظمة الاسلامية من الحكم الثنائى الى الحكم العسكرى الثالث
ازعم ان انجلترا تعينت منذ البدء على مواجهة الاسلام بوصفه عدو أوربا الازلى- ولو بحكنة و دهاء اكبر رغم نسبية توفر المعلومات ابان الامبراطوريات السابقة على الامركة مثلما تفعل الولايات المتحدة قياسا على ثورة المعلومات ابان الاخيرة. فقد دأبت بريطانيا على احتواء كل من الطوائف باكرا منذ صحبت الميرغنية حملة فتح السودان من مصر على طول طريق المديريات الشمالية و الطرق الصوفية لم تنفك الادارة ان طوعت طريقة الانصار باكرا فوصولا الى ما بين الحربين. و قد تعينت انجلترا على حصر وتصنيف واستباق احتمالات تنظيم شعوب المستعمرات لنفسها باكرا فى كل من شبه القارة الهندية والتوسعات والمستوطنات الافريقية فى كينيا ويوغندا كما فى مصر و السودان. وقد جمع "مكتشفون" من مغامرين و مبشرين ورحالة و "انثروبولوجيين" زيادة على موظفين فى ادارة التركية الأولى مادة معتبرة حول السودان وتركيبته وشعوبه و ثقافاته الخ. و قد انتشرت بعض تلك العناصر بالسودان منذ نهاية الفونج عبورا بالتركية الأولى وحتى نهاية المهدية الى حلول قوات الفتح التركى الثانى أى الفتح المصرى الانجليزى-الثنائى. فقد بقى كيتشنر و قواته مثلا فى منطقة البحر الاحمر يجمع معلومات استخبارية عظيمة ابان حركة المهدى فلم يخرج كيتشينر من السودان.
وكان ضباط ومهندسو حملة فتح السودان من البريطانيين يكتبون يوميات الحملة على السودان على طول الطريق من مصر الى الخرطوم يوميا. و قد عنيت تلك اليوميات بتسجيل حجم و قوة و امكانات الكيانات السودانية قبائل و طرق صوفية الى قوات المهدى و كان الاخير الف لهم ما يشارف اسامة بن لادن و قد باتت الملكة فيكتوريا وقد حرضها ديرائيلى على استدعاء امبراطورية بتاج الهند تتطير من الحركات المهدوية التحريرية و قد امتدت من نيجيريا الى ايران-و كان فيكتوريا تنويع على بنش الابن..  
أ- اختراق الاديان وابسلة الحركات الشعبية:-
كرس التاريخ الرسمى الانجلو ساكسونى وصم من عدى المسيحية الغربية-الافانجلية- بالشرك و الكفر. و لم يسلم للانجليز خصم و كل من اختلف عنهم سواء فردا أوجماعة أوكان عدوا داخيا أوخارجيا للمؤسسة السياسية أوللعرش من تهمة الجنون و اختلال العقل من الاميرة ديانا الى هارى ستانلى الذى رماه البوليس بالرصاص لانه كان يحمل رجل طأول بدت لاحدهم وكأنها سلاح. و قد سهل ذلك الميل وصم الخصوم الى ذلك التخلف الذى هو وظيفة اللا عقلانية بالبدأوة و العزوف عن و الاستعصاء على التمدين. وكان المشرك و الكافر ذلك الذى لا يدين بدين الشرائح الحاكمة سواء غير الشرائح الوثنية السابقة على المسيحية أوالى الكاثوليكة فاللبروتستانتية على التوالى. و قد وصم الانجليز الايرلندين بالكفر استعصوا على التنصير الكاثوليكي ثم وصموهم بالشرك عندما رفضوا البروتستانتية حتى كما كانت مقأومتهم للكنيسة الكاثوليكية دعت الانجليز الى اعتبارهم متوحشين مدللة على تبربهم ببقائهم خارج حظيرة الايمان حتى غدى يشارف الى الحدود البريطانية الايرلندية بوصفها اقليم يسكنه اناس خارج حظيرة الايمان. وكان الانجلوساكسون يعتبرون كل من ليس على دينهم كافر مشرك ينبغى نصرنته أو/و قمعه والقضاء على عقائده وثقافته.
ومع ذلك يبدو ولع الانجليز الظاهرى بالبدو و بالطرق الصوفية فى السودان حريا بالاتصاف بالتناقض . فمرة كانت القبائل و البدو منهم على الخصوص يستهوون الانجليز و مرة كان الاخيرون يكرسون عمليات اقتصادية وسياسية من شأنها تحجيم تلك القبائل وتقليص سلطاتها. ومرة ثانية بقى الانجليز معنيون بتتبع الطرق الصوفية فى خشيه مما كانوا يشيرون اليه "بالميل نحو الهياج الدينى المبشر بالعنف" ومرة يحأولون استيعابها بترفيع زعماء قبليين خصما على زعماء اخرين و مرة ثالثه يعضدون بل يعيدون انتاج اكبر الجماعات الصوفية –انصار محمد احمد المهدى و كان قد ثار على التركية الأولى و اقام الدولة الستقلة الوحيدة خارج الخلافة العثمانية كانت تصك عملتها و تستلب خراجها لصالحها خارج السيادة العثمانية على للولايات العربية .
ب- الاسلام والقومية السودانية:-
من الظاهرات الفذة شدة ميل الفرد السودانى نحو الانتاء الروحى اكثر منه العرقى أوالطائفى. و لقد كان الانتماء الروحى الدينى قد تحول الى"اثنية" أوقرابة منذ دخول الصوفية الى السودان على الاقل. و يمكن القول ان ذلك الميل نحو الانتماء الروحى يمكن ان يكون ميلايتصل بمجتمعات وادى النيل منذ قديم الزمان و لعل فى ذلك تفسيرا جزئيا لما لوحظ من ضعف الحس العنصرى لدى تلك المجتمعات اذ لم يجد المؤرخون و علماء الاثار فى المصريات مفردة تدل على التفرقة العنصرية[154].
. هذا فى حين انه لوحظ فيما بعد ان العنصرية واضحة لدى اليونانيين - وهم ورثة الحضارة النيلية - اذ كان اليونانيين يصمون كل من هو غير يونانى بالبربرية. لقد كان كافيا فى مصر ا لقديمة ان يؤمن الفرد بمعات أوامون أوامون رع وغيرهم من الالهة المركزية أوالمحلية حتى يغدو "مواطنا" اذا صح التعبياى مصريا. و لعل ذلك يفسر كيف كان الغواة يمصرون أويتمصرون بسهولة . فلقد غدى الهكسوس بالاسرة الثامنة عشؤر الى البطالمة حتى الاسكندر اكبر فى الاسرة الواحدة والثلاثين وادى نيليين و الهة وادى نيلية. و كان الوادى نيليين اصحاب الهة مركزية و كانت قد جاءت كما جاء مينا كمثل مينا موحد شقى الوادى من اصلاب الهة نيلية و ثم عادوا الي الالهة فى الحياة الاخرى.
لما جاء الاسلام الصوفى المالكى الرسمى غدى الفرد المؤسلم عربيا . وغدى العربى سودانى. أى أن المسلم عربى دون ان يكون عرقيا عربى بالفعل. وربما يكون ما بدمائه من دم عربى اقل كثيرا من ان يغدو به عربيا. الا ان السلالات والانساب السودانية استطاعت توهما لة فبركة تكريس اصول عربية عريقة بلا ادنى تردد وصولا الى النسب الى العباس. على انه من المفيد التنبه على ان السلالات القبلية التى اعيد انتاجها فيما بعد كانت قد اخذت تحييد من تلك الاليه المذوبة للفوارق و النعرات العرقية. و قد يترتب على ازمنة الشدة على الخصوص أوبسبب تقصد الاستعمارعمليه تعميق الفوارق ان تكرست السلالات القبلية.
ربما كان واردا من هنا فهم كيف ان الفرد السودانى فى محأولته فهم و التعامل مع بيئته بكل عناصرها فى تذبذها العنيف احيانا و ترددها فى العطاء و فى سخائها احيانا اخرى... اذ يستدعى الفرد السودانى - أوكان الى وقت قريب - فى تلك المحأولة لفهما و التعامل معها طاقما من القيم متسامحا ثقافيا صبورا و مترفعا على نحو شبه فلسفى. ان الفرد السودانى فيما يبدو كان قد اكتسب من طول اعتراكه مع طبيعة تتسم مرة بالسماحة والكرم بانبساط الارض و سعتها و وفرة الماء و السماء و ما تجود به حتى ان مناطقا و مراحلا فى حياة المجتمع كانت تتسم بشدة الوفرة والعطاء حتى انه يقال عن "البطانة" انها كقربة الماء و ان الزرع ينبت كما لو كان بفعل الجن وقد بذره و  سقاه بليل اذ تثمر الارض بلا عناء كبير(انظر(ي) Crawfoot:1928). ومع ذلك فهو نفس المجتمع حيث تتهدد فيه حياة الفرد المسافات الطويلة والادغال و جفاف الصحرأواة التى لا تدانيها صحارى. ولعل هذا المزاج المركب يفسر لو جزئيا كيف ان الفردالسودانى يلوذ بتلك الطواقم التى تتوفر عليها صوفية تخصه ينتجها و يعيي انتاجا كلما لم يبقى كثير مما يعتد به أويعتمد عليه من العلاقات الثانوية و وعودها التى قد تخزله بصورة دورية وفق دورية و دائرية قيام وسقوط المجتمعات التى ينظمها فى نضاله ا لطويل من اجل تنظيم المجتمع.
تجذر التعليم القرآنى فى الذهنية السودانية:-
وعليه فانه من المبالغة فى التبسيط استعارة المفهومات التى كان الانجليز يستخدمونها فى وصف العناصر الحديثة من المدربين والمتعلمين تعليما حديثا من ناحية كما ان محتوى التعليم الاستعمارى نفسه ما كان له ان يؤهل الفرد لاكثر من التدرب على اجادة التعين على التراتب الدنيا من السلطة أوالادارة فى سلك الخدمة المدنية الادنى أوالأوسط على افضل تقدير. لذلك فان تصور ان عمليه تعليم وتدريب هؤلاء الافراد كانت من العمق و القوة بحيث تؤدى بالافراد المتعلم ا و المدرب عصريا الىالانسلاخ الكامل أوشبه الكامل عن الجذور التقليدية للتنشئة الاجتماعية - ان تصور ذلك مسألة تحتاج الى تأمل و بخاصة
تداعيات التعليم الاهلى و نشوء القومية السودانية:-
كان التعليم الأولى "اهليا" بمعنى تعليم الخلأوى و كان قرئانيا و لم تفلح السياسيات المتعددة فى اعادة هيكلة الخلأوى ولا فى تعجيز الاهالى عن التعلم بها ولا فى الحد من انتشارها. فقد اصبحت الخلأوى بديل شبه معلن للطرق الصوفية المتسترة وقد تعين الانجليز-على نحو يشارف سياسة الفرنسيين فى الجزائر ازاء الاسلام-محأولة القضاء علي الطرق الصوفية من خشية من مغبة استقطاب الاسلام ضد المستعمر. وقد حأولت حكومة السودان تعقب الخلأوى مثلما ما تعقب الفرنسيون التعليم القرآنى فى الجزائر مثلا. وفيما بات الاسلام السودانى اسلوب مقأومة للانجليز و قد خرج عنه زعماء شعبيين وابطال قوميين فقد اتصلت المقأومة حتى عام 1921م كثور الشيخ السحينى وغيرها من تلك الانتفاضات الثورات التى عمرت التاريخ على مر السنين[155]. هذا و ما كان واردا ان يوفر الانجليز بديلا للخلأوى وكل ما توفروا عليه هو التضيق على شخص" الفقيه" القئائم على الخلوة الذى كان دوره قد تقلص تباعا ابان الثورة المهدية حيث كان محمد احمد المهدى قد الغى القبائل و الطرق الصوفية امرا الخلأوى ان تدرس "راتب المهدى" وكان "الراتب" يمثل صيغة التعاليم التى كان قد ارتأى ان يسترشد بها الافراد فى المجتمع المهدوى حول امورهم الدينية والدنوية . و لم يترك المهدى لشخص الشيخ امتيازامن امتيازاته السابقة على المهدية غير ان يعفيه من ا لخروج فى الجهاد كلما دعى داعىا لدفاع عن المجتمع المهدوى الى ذلك. ورغم ان المهدى كان على أواخر ايامه هو قد اعاد للقبائل و الطرق الصوفة اعتبارها فى سياق التحالفات التاكتيكية ازاء الحصار الاقتصادى والعسكرى والسياسى الذى كان المهدى قد منى بها على أواخر المهدية الا ان دور الشيخ ومكانته كانا قد تقلصانسبيا ابان الفترة السابقة على الحكم الثنائى. هذا و لم يكن واردا ان يسعى الانجليز الى نشر التعليم فى السودان بحيث يتم استغناء الاهالى فى الاقاليم النائية على الخصوص و بين القبائل المترحلة و المستقرة معا عن التعليم الاهلى أوتعليم الخلأوى المنتشرة فى السودان انتشار المؤسسات التقليدية عميقة الجذور المستقرة وظيفيا فى نسيج ا لمجتمعات المحلية .. و لعل ولع الاداريين الانجليز بكل من القبائل و سيرهم مما انخرط بعضهم فى التوفر على البحث فيه و تسجيله و بالطرق الصوفية مما يستلفت النظر . فمن المعروف ان بعض الاداريين الاداريين كانوا من المؤرخين مثل ماكمايكل Mc Maekael هولت Holt وغيرهما ا و من الانثروبولجيين المشهورين من امثا ل ايفانز بريتسارد Evans Prichard والزوجين ريفرزRivers سليجمان وسليجمان Sligman and Sligman و قد نشأ ولع الانجليز بالقبائل الرحل بالذات نتيجة للاستعمار النجليزى ليرلناد التى ظلت تقض مضج بريطانيا منذ ان كانت محض جزيرةمعزولة حتى نشؤ برطانيا الامبراطورية العظمى و ا لى يومنا هذا. فلقد كان ايرلنديون قبائل رحل تمتز بالقدرة القتالية العالية مما حدى بالانجليز ان يكرسوا طاقة ملحوظة فى محأولة استيعاب تلك القبائل التى تزيد سكنى المناطق الجبليةالوعرة من اقتتاليتها ووعورة استيعابها . والواقع انه ربما كان من المفيد الاشارة الى ان شيئا لم يتم فىا لمستعمرات لم يكن قد جرب فى الوطن الام. و تقف ايرلندا بوصفها معمل التجريب الاستعماري الغني فيما كانت الامبراطورية تستمدده و تسعير اساليبه فى كثير من مستعمراتها كما سنرى فيما بعد.
فقد ابلست الحركات المهدية والمهدى بنفس القدر وسارت مفردة "مجنون كالمهدى" as mad as the Mahdi بين الركبان فاستقرت فى الضمير الشعبى البريطانى. وبالمقابل انخرط الانثروبولوجيون و المؤرخون و مدراء المديريات من رادكليف برأون و سليجمان و سليجمان و ريفرز و نعوم شقير وماكمايكل وهيل[156] وتريمينجهام[157] الخ فى تسجيل تاريخ القبائل الشمالية والجنوبية و شجعوا كتابة تاريخ الطرق الصوفية على الخصوص. و كانت بريطانيا تتطير من كل من:-
- التطرف الدينى و قد عاصرت انجلترا وتشاركت حروبا دينية أوربية استمرت 1000 عام منذ سقوط الامبراطورية الرومانية عبورا بالصليبيات فانقسام الكنيسة البروتستانتية الانجليزية عن البابوية على عهد هنرى الثامن -1491-1547 حتى القرن السابع عشر.
- الحركات الشعبية لاسباب ذاتية وموضوعية. وكانت بريطانيا على الخصوص محصلة الانتفاضات والثورات الشعبية التى تواجهت فيها السكان الاصليون من شعوب الجزر الكليتية-الايرالنديين والويلش والاسكتلنديين-بدرحات المقياس-مع الانجلوساكسون-الانجليز. وقد اتصل تطير انجلترا من الانتفاضات والثورات الشعبية حتى القرن التاسع عشر حين هددت الاخيرة العروش الأوربية قاطبة و لم تنفك ان أودت ببعضها و نجح بعضها فى انتزاع حقوق و انتصارات للعامة الدهماء اللذين لم يتوقف الفكر الغربى المحافظ يوما عن احتفاره والذراية بها رغم و ربما بسبب الواجهة المظهرية للديمقراطية الليبرالية. ذلك انه ان اعطت شرائح السلطة المحافظة للعامة بعض الحقوق مسأومة الا انها لم تألوا جهدا فى ان تغمط شعوب امتداداتها ذلك الحق وكأن حقوق عامة المتروبولات حرية بان تخصم على حقوق شعوب الامتدادات.
وفى نفس الوقت دشن الجيش بوصفه رديف و احتياطى لانقاذ الاحزاب الطائفية-حزب الامة خاصة-كلما تهددتها حركات صوفية أوقبلية أومن بين المتعلمين فى المدن. و كان الاخيرون قد خلقوا بلا عامود فقرى. فرغم مؤتمر الخريجين و ربما بسببه ققد استبقت حركة الخريجين باكرا و قد راحت حركة الخريجين تنقسم على نفسها مرة أو-و تستوعب فى احدى الطوائف. ففيما كان اكبر الخريجين يجأر بسقوط الارستقراطية الطائقية سوى انهم لم يلبثوا ان باتوا اهم واجهاتها المتعلمة و منظريها.
و كانت الطبقة المتعلمة وقد جندت خارج القبائل الكبيرة و من بين ما يسمى بالمولدين قد أوهمت بانها سترث السلطة من الانجليز. فكأنهم باتوا بدائل ناجرة للانجليز رغم ان الاستعمار كان يستدعى غير ذلك تماما. فقد راح فكر نهاية القرن التاسع عشر يصدر فى بريطانيا-عكس فرنسا مثلا-عن نظريات الصفوة فى مواجهة نظريات السلطة الشعبية.
وقد صوغت مارجريت ميد نظريات الصفوة التقليدية خصما على الصفوة الحديثة. ومع ذلك راحت تلك النخبة "الحديثة" و قد تعلقت افئدتها بالسلطة تستدعى الأوهام التى كان الاستعمار قد كرسها فاستقرت فى اعصاب تلك الطبقة و بقيت و تهجس لها مما شجع غرماءها من الانظمة الديمقراطية الى العسكرية على غوايتها بالسلطة فمسأومة تلك النخب على "مبادئها المعلنة" أوالمدعاة فى كل مرة. و كانت تنويعات من تلك النخبة قد تعينت على حركات تحرير مسلح سوى ان معظمها ما انفك ان احتلت مكان المستعمرين. فقد:-
- احتل المقاتلون الجزائريون ما ان نزلوا من الجبال ليحتلوا مكان الفرنسيين والبيض.
- تقاسم المقاتلون الزبمبابويون ما ان خرجوا من الغابات و المستوطنون الروديسيون الشماليون البيض السلطة و الثروة حتى فاقم الضغط على الفائض منافسة الأول للاخيرين وصولا الى ازمة زيمبابوى الاقتصادية فالسلطوية جميعا.
- راحت الطبقة المتوسطة الجنوب افريقية السوداء تنافس رجال الاعمال الافريكانر البيض رغم ان الثوار الجنوب افريقيين لم يحتلوا مكان الافريكانر تماما.
ومن المفيد تذكر ان مقايضة النضال بثواب الوظيفة والوجاهة والثروة-ان امكن-كان قد تمثل باكرا فى مفهوم للتبتل والتقوى فزيوع صيت الشيخ بعلو نار القرآن على مشارف قريته. وكان اتساع الطريقة و كثرة الحواري من ابناء الاغنياء و العبيد هدايا من الاخيرين وظيفة علو نار قرآن الطريقة و شيخها فتدفق البليلة و حق الاربعاء و الرقيق على الاخير. على ان الثواب عند الاستعمار الكلاسيكى و من ثم ما بعد الاستقلال بات عند الرب وليس عند الله تعالى. و كان بعض "المتعلمين" من ابناء بعض الطوائف ادرك ذلك باكرا فسهل استدراجه للتواطؤ على الحركة الشعبية منذ ثورة 1924. فلم تندلع ثورة مضادة و لم ينقلب العسكر على الديمقراطية بسوى تواطؤ بعض هؤلاء "المتعملين" بمساعدة المستعمرين السابقين و الطائفية وقد ساندهما تواطؤ اقليمى. فمنذ ثورة 1924 كانت كوادر طائفية مثل عبد الله خليل قد "استنضفت" باكرا فباتت- كما يقول بروفيسور جوزيف أومارا استاذ الاقتصاد السياسى الاسترالى البرتغالى الاصل-رأس رمح ضرب الثورة بوصف ان تلك الكوادر كانت حرية بان و قد دربت على تكريس اعتبارات الثورة المضادة.
فرغم ان على احمد صالح حاجى مثلا اتهم بخيانة حركة 1924 الا ان الحقيقة هى ان احد رجالات احدى الطوائف غدى-حسب البروفيسور جوزيف أومارا و جعفر محمد على بخيت-شاهد الملك الحقيقى فى التحقيق فى تنطيم الخلايا المكونة للحركة. و لم يلبث ذلك الرجل و امثاله أن بات بمثابة اياد علأوى ليس و حسب فى تيسير عملية وراثة الاستقلال العسرة من حكومة السودان للاحزاب التى لم تنفك ان احتكرت الساحة السياسية من بعد وانما يسر ذلك الرجل وراثة النظام العسكرى الأول للديمقراطية السودانية الوليدة فى 1958 بعد عامين و حسب من الاستقلال. ويتكرر انقلاب تلك الجماعات الطائفية على نظائرها العلمانية المحدثة نسبيا وقد عبرت عن نفسها فى التمثلات التالية:-
- تستقطب الجلسات المنظمة فى قصر السيد عبد الرحمن المهدى-و كان يعقد مجالس بلاطية to literary hold court- لطلاب و خريجى كلية غردون.و قد اخترفت تلك العلاقة حركة الموظفين فى ثلاثينات القرن العشرين حول تخفيض مرتباتهم الى 5 جنيهات و نصف فيسرت احباط تنظيم احتاجاجاتهم على السياسات المالية و اضراباتهم فى مواجهتها وصولا الى اجهاض حركة مؤتمر الخريجين لحساب القوى التقيليدية.
- غواية عبد الرحمن المهدى لزعامات حركة المؤتمر وكانت تنادى بسقوط الارستقراطية القبلية. فلم ينفك بعض ان بات اهم تلك الزعامات مثل محمد احمد محجوب وعبد الحليم محمد ورأسى عشيرة الهاشمية فى امدرمان ان باتا من زعماء حزب الانصار فالانفصال عن مصر خصما على صفوف المؤتمر الاتحادية.
- ومرة رابعة استبقت تلك الطوائف بريادة طائفة الانصار صوت ثقة فى الحكومة الديمقراطيةعشية 17 نوفبر 1958. فقد قام عبد الله خليل رئيس الحكومة الائتلافية بعملية تسليم السلطة و تسلمها للعسكر بعد عامين من الاستقلال. وكانت حركة ضعط واسعة قد انتشرت بشأن علاقة السودان بالنقطة الرابعة ونظرية "ملئ الفراغ" عشية توقيع القوتين العظمتين على ما يسمى بالديتانت Détente و كان ايزنهأور قد زار السودان فى نفس العام يدعو لملئ الفراغ و كانت الحركات الثورية تعمر السيتينات من انتفاضة عدن و قد اجبر شرط حلول امريكا صاعدة الى قوة عظمى بلا التباس خصما على بريطانيا و غيرها و كانت قوات بريطانيا انسحبت فيما وراء شرق القنال الى قيام الوحدة المصرية اليمنية و الوحدة المصرية السورية فيما كانت حرب فيتنام تنذر بالاندلاع على خلفية حروب الهند الصينية.
- ومرة خامسة اخترقت جبهة الاحزاب الوطنية بزعامة حزب الامة. و لم تكن تلك الجبهة تكونت من قبل حتى صبيحة انتفاضة اكتوبر 1964 كرد فعل متأخر على قيام جبهة الهيئات المهنية. و قد فاجأت الاخيرة الاحزاب التقليدية و اثارت فزعها و تطير قوى التوسع الامبريالى الجديد بوكالة بعض دول المنطقة سواء "علمانية" أوثيولوجية. فقد راحت جبهة الاحزاب الوطنية تنظم نفسها سراعا، وقد اتضحت رجاحة كفة و وزن جبهة الهيئات المهنية بعد يوم المتاريس على كفة النظام العسكرى الأول بقيادة الجنرال عبود.
ويمكن عقد قياس استيعاب بعض الاحزاب الطائفية التقليدية لبعض اعضاء مؤتمر الخريجين كتنويعة باكرة على اختراق جبهة الاحزاب الوطنية لانتفاضة اكتوبر 1964م. فقد تعينت جبهة الاحزاب الوطنية-الطائفية على اختراق فاحباط حبهة الهيئات التى قادت الانتفاضة فى اعقاب تداعيات مقتل طالب جامعة الخرطوم الشهيد القرشى فى مواجهة طلابية مع قوات الحكم العسكرى الأول. وقد راحت جبهة الاحزاب الوطنية تزاحم فى الحصول على مكتسبات الانتفاضة. ولم تنفك ان استحوذت على معظمها بتلك الآلية الدارجة فى السياسة السودانية منذ اسلمة سلطنة الفونج على الاقل فى 1504 و هى الهزيمة بالزواج. و حيث بات حزب طائفة الانصار حريا بان يستقطب رئيس وزراء حكومة الانتفاضة جراء زواجه من احدى بنات آل بيت المهدى فقد بدأ العد التنازلى للقضاء على انتصارات الانتفاضة وصولا الى عزل اليسار وحل الحزب الشيوعى فحلول شرط اعلان الدستور الاسلامى لأول مرة فى السودان.
- ومرة سادسة قيضت الهزيمة بالزواج أوتوظيف الية النسب تيسير اعلان كل من جبهة الميثاق والدستور الاسلامى. ولم يلبث حسن الترابى والصادق مؤسسى جبهة الميثاق-و قد ناسب الأول الثانى-و كان الأول النائب العام ابان حل الحزب الشيوعى فى 1965-ان اعلنا الدستور الاسلامى. و قد ترتب على احداث منتصف ستينات القرن العشرين المذكورة و احداث اخرى قد اتعين علي التعرض لها فى مكان اخر. وكانت تلك الاحداث قد تسأوقت واحداث اقليمية و عالمية و كان بعضها ستار دخان على بعضه من حادثة مسجد امدرمان وازمة الدستور والمناداة بالدستور الاسلامى بمبادرة كل من الصادق و الترابى و كان الاخير نائبا عاما للسودان.
وكان حلول شرط قيام سلطة الاسلام السياسى فيما بعد و تباعا قد نضح بخاصة منذ انتخابات 1984م وما تلاها من الانتفاضة الشعبية الثانية الى الاستيلاء العسكرى على السلطة فى يونيو 1989م. وكانت السلطة ملقاة على قارعة الطريق طوال شتاء 1988م الى منتصف صيف 1998م والديمقراطية الثالثة برآسة الصادق المهدى مستهدفة فلم تنفك ان اغوت بها ثلاث جهات انقلابية فى وقت. واحد الا ان جماعة حسن الترابى انفردت بالاستيلاء على السلطة فيما اختلط الامر على قيادتى الانقابين الآخرين.   
المهم فورا ان على احمد صالح حاجى الامين العام لحزب العمال السودانى-و كان الاخير من بواكير الحركات المتقدمة فى التفكير والتنظيم الحزبى من خلال كل من صلات نشطة بمسئول العلاقات السوفياتية السعودية بالسعودية كريم و مصر-كان حريا بان يغدو موضوع عصف مزدوج باكرا. فان كانت علاقة على احمد صالح حاجى ب"الشيوعية العالمية" بحد ذاتها ذريعة جاهزة للقضاء علي الحزب فقد كانت بعض المسائل الشخصية بدورها حرية بان تيسر كسر احمد صالح حاجى. و قد يسر مخطط حكومة السودان لكسر على احمد صالح ضرب حزب العمال من ناحية و تلفيق علاقة بين الاخيرة وتنظيم ثورة 1924م من ناحية اخرى. و ليست تلك التجارب الاستعمارية سوى تنويعات باكرة على نظائر مثل اتهام الادارة 43 بارشاد البنتاجون و زعامة رمسفيلد و ولفوفيتش العراق بالعلاقة مع القاعدة الخ.
وكانت الاستخبارات السودانية تروم ضرب عصفورين بحجر دون ان تبدو معادية للديمقراطية. فقد كان القضاء على مصداقية على احمد صالح حاجى ايسر من القيام بتجريم فمنع حزب العمال السودانى بقانون ادارى. فاغتيال شخصية حاجى بمساعدة و تواطؤ بعض عناصر التنظيمات الطائفية التقليدية ايسر بكثير من حظر حزب العمال السودانى بقرار ادارى من مسجل المنظمات و الهيئات تحت قانون المنظمات المحظورة.
وأزعم ان التنظيمات الطائفية و جهات اقليمية كانت غالبا ما تقف وقتها وراء الانقلاب على الديمقراطية وصولا الى الانقلابات العسكرية غب الاستقلال. و كان الاستعمار قد هيأ العسكر بحيث:-
- بادروا بتقنين عملية تحويل الدولة اداة لانتاج السلطة و الثروة
- بات العسكر يشارفون الطبقة فى حد ذاتها باكرا وقبل غيرهم
- ورث العسكر-وبخاصة الاسلامويون- عن الطرق الصوفية احتكار الافتاء فبات العسكر من بعد أهل الفتأوى السياسية و التنظيمية من فوهة بندقية أومن على ظهر دبابة.
وكان الافتاء تحول منذ الاستعمار على الاقل الى وظيفة رسمية لها مؤسسة معتبرة محمية من و تستدعى العمل على حماية الدولة. فقد ترك الاستعمار منذ الحملة الفرنسية على مصر و اجتياح شبه القارة الهندية مجالس علماء فى كل مكان من الهند الى مصر والسودان. و لم يلبث بعض المفكرين وقد كسرهم طول بقاء العسكر فى السلطة و فراغ الصبر على "توالى" دورهم فى سلطة كانوا يعتبرون انفسهم كفئا لها ان باتوا يقنعون من الغنمية بالقيام بدور مستشار الملك و صانع الملك و فقيه الملك أوعراف الملك. و بالمقابل اخذت المعارضة على عاتقها الافتاء ضد الدولة. فقد كانت الدولة الاستعمارية تجمع بين ال