عقيدة العقل في الغرب الحديث


هشام غصيب
2011 / 9 / 1 - 23:54     


اتسمت مرحلة صعود البرجوازية الغربية بتعظيم العقل ورفعه فوق أي سلطة أخرى؛ سلطة الغيب وسلطة النص المقدّس وسلطة العادات والتقاليد وسلطة الدولة ورأس الدولة وسلطة التراث وسلطة الحدس والرأي، سواء بسواء. هذا ما حصل منذ بداية البداية. فصراع غاليليو مع المدرسيين ومن وراءهم من قوى دينية كان صراع مرجعيات: مرجعية العقل في مجابهة مرجعية النص. وكان صراعاً موضوعيا أخذ مداه الحقيقي، برغم تأكيد غاليليو على تمسكه بالإيمان الديني واحترامه للنص التوراتي. ففي الوقت الذي اعتبرت فيه القوى الدينية العلم مجرد أداة عملية لتسهيل الحياة وطوعته لخدمة الدين، فقد سعى غاليليو إلى تطويع الدين (تأويل النص) بما يدعم مرجعيته العقلية ونتائجها. وفي النهاية، وبرغم الصداقات الشخصية التي كانت تربط غاليليو برجال الدين، فقد كان لا بدَّ من الصدام بين الطرفين، لأن كل طرف كان يصرّ على مرجعيته، ولا ينفي مرجعية الآخر بصورة مباشرة بقدر ما كان يحاول ليّها وتطويعها لخدمة مرجعيته. ولئن كانت القوى الدينية تمتلك القدرة المادية وأدوات القمع الجسدي، فقد كان غاليليو يمتلك القدرة الفكرية وأدوات الإقناع والمنطق. لذلك كان لا بدّ أن يتعرض غاليلو للضغط الجسدي، الأمر الذي دفعه إلى الاستنكار اللفظي للنتائج العلمية التي أوصله إليها بحثه العلمي(بعكس برونو الذي فضل الموت على ذلك). ولكن، ما قيمة الاستنكار في ظل التهديد بالتعذيب والقتل!! لقد كانت لحظة الضعف(لحظة الاستنكار) تلك لحظة هزيمة شخصية لغاليليو، لكنها كانت لحظة انتصار مدوٍّ لمرجعيته، للعقل العلمي الحديث. وبعد هذه المجابهة المصيرية كان لا بدّ للقوى الدينية من التقهقر والانحسار.

كذلك، فمع أن مؤسس الفلسفة الحديثة، رينيه ديكارت، أكد على وجود الذات الإلهية، إلا أنه لم ينطلق من ذلك بوصفه القاعدة البديهية التي لا يرقى إليها الشك، وإنما انطلق من الذات المفكرة (الأنا المفكرة)، أي العقل، واعتبرها مصدر المعرفة اليقينية ونقطة ارتكازها التي لا يرقى إليها الشك البتة. فالمرجعية هنا هي العقل بلا منازع. إنه الأساس الذي يهزم أي شك، لأنه أساس ذاته. فالعقل لا يحتاج إلى ضامن خارجي لذاته. فهو يؤسس لذاته ويؤسس لغيره. إن للعقل أسبقية وجودية ومعرفية على أي كينونة أخرى. أما الذات الإلهية، فإن وظيفتها هي ضمان عقلانية الوجود المادي، أي ضمان مطابقته للعقل وقوانينه، ومن ثم جعله قابلاً لأن يعرف، لأن يكون موضوعاً للعلم. فحتى الذات الإلهية تطوع في نظام ديكارت الفلسفي من أجل العقل وهيمنته على الطبيعة، أي ضمان انصياع الطبيعة للعقل. ولكن، لماذا يريد ديكارت أن تنصاع الطبيعة للعقل؟ لأن العقل يريد أن ينظمها بما يضمن تحرر الإنسان من قيدها. ههنا نجد روح الحداثة تشرق بكل بهائها، معلنة شعار التنوير بجلاء: العقل والحرية؛ عقل حر وحرية عاقلة؛ العقل يحرر حامله من قيود الطبيعة، بما في ذلك طبيعته. إن الحداثة تعلن عن مبدئها منذ بداية البداية، سواء على صعيد العلم الطبيعي (غاليليو) أو الفلسفة (ديكارت). إن المرجعية الأساسية للإنسان هي العقل، لا النص ولا الغيب؛ العقل بصفته إرادة الحرية، بصفته أداة الكشف عن مكنونات الطبيعة وإعادة خلقها إنسانيا بما يحقق ويضمن حرية الإنسان من قيودها؛ العقل بصفته سيد المجتمع والطبيعة. هذا ما أعلنه بجلاء مؤسسو الحداثة منذ البادية: برونو وغاليليو وميكافيلي وبيكون وهوبز وديكارت.

بيد أن نزعة تعظيم العقل لم تقف عند الحد الذي وصلت إليه لدى ديكارت. فمع الانتصار الهائل الذي حققه نيوتن في بناء أول نظرية علمية شاملة في التاريخ، قادرة من حيث المبدأ على تفسير أي ظاهرة مادية تفسيراً مقداريا دقيقا وعلى التنبؤ الدقيق، وقادرة فعلاً على حل جلّ مشكلات حركة النظام الشمسي، ومع بدايات الثورة الصناعية في إنجلترا في القرن الثامن عشر، تضاعفت ثقة فلاسفة العقل في أنفسهم وفي العقل بحيث إنهم ما عادوا يكتفون بالتصور الديكارتي للعقل، وما عادوا يقبلون بأن تكون ضمانات سيادة العقل وعقلانية الطبيعة خارج العقل نفسه. لذلك أخذوا يسعون إلى توسيع مفهوم العقل وإكسابه مزيداً من القدرات التي تجعل منه سيد الوجود في ذاته، أي بحكم طبيعته وبنائه الداخلي. وتصدى لهذه المهمة الكبيرة لا أكثر ولا أقل من الفيلسوف الألماني الكبير، إيمانويل كانط، الذي تزامن تحقيقه هذه المهمة مع الثورة الفرنسية، التي ألهت العقل واعتبرته البديل الحديث لإله الأديان القديمة (سان جيست وروبسبيير). وقد عمد كانط في فلسفته النقدية إلى إلغاء دور الذات الإلهية في ضمان عقلانية الطبيعة، أي مطابقة الطبيعة للعقل في بنائها الداخلي، مسبغاً هذا الدور على العقل ذاته. وغدا العقل لدى كانط قوة خلاّقة تساهم بصورة رئيسية في صنع موضوعها وواقعها، لا مجرد صفيحة بيضاء تتلقى الانطباعات من خارجها، كما تصوره لوك، ولا مجرد مخزن للأفكار الخالدة، كما تصوره ديكارت. لقد أضحى العقل لدى كانط خالقاً يصوغ الوجود على شاكلته ومثاله. فلئن كان العالم المادي (الطبيعة) عقلانيا ومطابقاً للعقل، فهو كذلك لأنه نتاج العقل في بنائه وصورته. فالعقل يسقط على مادة الحس الخام بناءه الداخلي وينظمها وفق قوالبه وقواعده وقوانينه الداخلية. إذاً، فإن ضامن عقلانية الطبيعة، ومن ثم هيمنة العقل وسيادته عليها، هو العقل نفسه، تلك القوة الخلاقة، التي حلت محل العقول الفعالة، عقول أفلوطين والفارابي وابن سينا وابن باجة.

لكن كانط لم يكتفِ بعلمنة المعرفة بصدد الطبيعة، وإنما سعى أيضا إلى علمنة الأخلاق وعقلنتها، بمعنى أنه سعى إلى جعل العقل مرجعية الأخلاق، أي تأسيس الأخلاق عقليا. إذ أكد كانط على أن القانون الأخلاقي مكتوب في إرادة الإنسان، أي فيما أسماه العقل العملي. فالإنسان حرّ في جوهره ولا يليق به، في مرحلة نضجه (تلك التي أسماها كانط مرحلة التنوير)، أن يتلقى الأوامر والتعليمات من خارجه. فالقانون الأخلاقي يكمن في داخله العقلي، في إرادته الذاتية العاقلة. والإنسان العاقل الفاضل، إذ يطيع هذا القانون، إنما يطيع ذاته العاقلة، يطيع جوهرة الإنساني العاقل، أي يحقق انسانيته التي تميزه عن غيره من الكائنات. فهذا القانون يتميز بكونيته وارتباطه بجوهر الإنسان الذي يميزه عن غيره، أي بالحرية العاقلة أو العقل الحر. هكذا يؤسس كانط الأخلاق على العقل وحده، لا على النص ولا على الغيب ولا على الطبيعة المادية. ههنا أيضا نجد أن العقل هو المرجعية. فالأخلاق لا تفرض على الإنسان من خارجه، وإنما تشكل بنية أساسية من بنى الإنسان بصفته كائناً عاقلاً حرّاً. وكما يؤكد كانط في كتابه، “الدين ضمن حدود العقل وحده”، فإن الأخلاق تفقد معناها إذا لم تقم على كون الإنسان كائنا حرّاً يمارس حريته المطلقة عبر قوانين عقلانية غير مشروطة. لذلك، فإنها تقوم بغير حاجة إلى فكرة كائن آخر فوق الإنسان، وبغير حاجة إلى دافع آخر غير القانون الداخلي. ويخلص كانط إلى القول بأن الأخلاق لا تحتاج إلى الدين مطلقاً، لا من حيث المشيئة ولا من حيث القدرة على الفعل. فهي، بفضل العقل العملي البحت، مكتفية في ذاتها وبذاتها. هذه هي النتيجة التي يصل إليها كانط في آخر كتبه وفي نهاية عمره. إن العقل هو المرجعية الجوهرية لمملكتي الكائن والواجب. إنه مرجعية اليقين المعرفي واليقين الأخلاقي. إنه القوة الخلاقة التي تنظم الطبيعتين المادية والإنسانية وتجعل تحكم الإنسان العاقل فيهما ممكنا. إنه المرجع والسيد في الطبيعة والمجتمع. وهو كذلك لأنه خالقهما الفعلي. هكذا يحل العقل محل الذات الإلهية، وهكذا يسوغ كانط فكر الثورة الفرنسية ومحاولة زعماء الثورة، وبخاصة سان جيست وروبسبيير، تنصيب العقل إلهاً أوحد (كائناً فائقاً Supreme Being) . إنها عقيدة التنوير في شكلها البرجوازي، عقيدة حديثة من نوع جديد تسعى إلى أن تحل محل العقائد الدينية القديمة. إنها عقيدة العقل، التي تجعل من العقل خالق الأرض والسموات والمجتمع البشري، نجدها تصل أوجاً فلسفيا لها في فيلسوف التنوير الأكبر، إيمانويل كانط، في الوقت الذي وصلت فيه أوجاً سياسيا اجتماعيا في الثورة الفرنسية الكبرى.

لكن كانط لم يكن نهاية المطاف بالنسبة إلى العقلانية البرجوازية. إذ إنه ترك نظاماً عقلانيا يعاني من صعوبات وتناقضات لم يكن من السهل إغفالها. وكان في مقدمة تلك الصعوبات والتناقضات: (1) التناقض بين الفعل الأخلاقي ونتائجه، أي مسألة السعادة ومسألة العدالة. فالعدالة تقضي بأن يقود الفعل الأخلاقي إلى السعادة. بيد أنه لم يكن في نظام كانط الفكري ما يضمن ذلك. (2) التناقض بين الكائن والواجب. فالكائن (الطبيعة) يطيع قانون الضرورة. أما الواجب فيطيع مبدأ الحرية. كيف نوفق بين مفهوم الإنسان بصفته كائناً أخلاقياً حرّاً وبين مفهومه بصفته كائناً طبيعياً يطيع قوانين الطبيعة ومبدأ السببية؟! كيف نوفق بين الحرية والضرورة؟ هذه مشكلة أساسية في نظام كانط شكلت أساساً حقيقيا لتخطيه من قبل من تلاه من عمالقة المثالية الألمانية (فخته، شلنغ، هيغل، شوبنهاور). (3)كان هناك تناقضات واضحة بين مبادىء العقل ومستوياته لدى كانط. كما إن كانط لم يحدد مصدر هذه المبادىء وأساسها. لقد فسر كانط الضرورة في الطبيعة والفعل الأخلاقي، لكنه عجز عن تفسير ضرورة العقل ووجوده. (4) اتسم نظام كانط الفكري بالسكونية وكأن العقل خارج التاريخ. فلئن استوعب هذا النظام الطبيعة والعلم والفلسفة والأخلاق وقوانين الجمال، فإنه أغفل التاريخ (التطور، التغيير) في بنائه الداخلي، وكأن العقل بلا تاريخ، وكأن التاريخ بلا عقل.

وقد بدأ بالتصدي إلى مهمة حل هذه التناقضات وسد هذه الثغرات الفيلسوف الألماني، يوهان غوتليب فخته (1762-1814). لكن الحل المكتمل جاء على يدي فيلسوف العقل الأكبر، غيورغ هيغل (1770-1831). ففي هيغل وصل دين العقل ذروته. كيف؟ هذا ما سيشكل موضع المقالات القادمة.