ظاهرة محمود أمين العالم : قراءة في كتاب “فلسفة المصادفة”


هشام غصيب
2011 / 8 / 15 - 09:34     

يتسم المفكر بصورة عامة بالجموح. إنه كائن جامح بطبعه. وبالمقابل يتسم الحزبي العربي بصورة عامة بضيق الأفق ونبذه الفكر والتنظير وميله العملي الصارخ. لذلك من الصعب أن نتصور مفكراً وحزبيا في آن. إن المفكر الحزبي ليبدو ضربا من التناقض المستحيل. صحيح أن الساحة تزخر بالمفكرين الملتزمين. لكن الالتزام بفكر ومنهج شيء، والالتزام بالقوالب الحزبية الجاهزة شيء آخر. ولدينا أمثلة واضحة على ذلك في صادق جلال العظم وسمير أمين وعبدالله العروي وحسن حنفي وفؤاد زكريا وزكي نجيب محمود وناصيف نصار وغالب هلسا ومحمد عابد الجابري والقائمة تطول. ومع ذلك، فهناك من حقق المستحيل، فكان مفكراً حزبيا وظل كذلك حتى استشهاده أو موته. ولدينا على الأقل ثلاثة عمالقة حققوا هذا الشرط المستحيل: المرحوم محمود أمين العالم والشهيدان حسين مروة ومهدي عامل. فلا أحد يشك في انتمائهم التنظيمي العميق للحزب الشيوعي (المصري في حال المرحوم واللبناني في حال الشهيدين).وفي الوقت ذاته، لا أحد يشك في قدراتهم التنظيرية الفذة وأصالتهم الفكرية والتزامهم العميق بالمنهج الفكري النقدي الصارم وأصول التنظير المحكم. فهم يتمتعون بملكات شخصية وفكرية نادرة تمكنهم من الالتزام الحزبي العميق من دون الحد من حريتهم الذهنية وممارساتهم الفكرية الأصيلة، بحيث إنهم يحققون أعلى درجات الإبداع الفكري من دون أن يعرضوا قوالب الحزب الضيقة للانكسار والليّ ومن دون أن يصادموا قيادات الحزب وهياكله معرضين أنفسهم للفصل والإقصاء وموقعين حزبهم في الحرج والضيق . كيف يفلحون في تحقيق هذه المهمة العسيرة، سؤال يمكن أن يشكل قاعدة لدراسة مفصلة في هذه الظاهرة.
ولعل أقرب مثال غربي على هذه الظاهرة هو أنطونيو غرامشي، المفكر الأصيل الفذ، والذي لم يكتف بكونه مناضلا حزبيا عنيداً، وإنما كان أيضا المؤسس الرئيسي للحزب الشيوعي الإيطالي. فانسجم نضاله وفكره العميقان أيما انسجام، وذلك بعكس ما حصل مع عملاقي الفكر الماركسي في القرن العشرين، جورجي لوكاتش المجري ولوي ألتوسير الفرنسي. إذ اضطر العملاقان إلى المراوغة وممارسة لعبة القط والفأر مع القيادات الحزبية مراراً وتكراراً، وتعرضا إلى غضب هذه القيادات والإخراج من الملة لفترات مؤقتة في حال لوكاتش تحديداً. وحين نشر هذا الآخير رائعته الفلسفية ” التاريخ والوعي الطبقي” عام 1923، تعرض لوابل من الهجوم والنقد من كل حدب وصوب في الحركة الشيوعية الأوروبية، بما في ذلك لينين وبخارين وزينوفييف. وظل هذا الكتاب الفلسفي العظيم خارج إطار الاهتمام الشيوعي حتى يومنا هذا. أما ألتوسير، فقد ظل عرضة للريبة والشك في نواياه من جانب قيادات الحزب الشيوعي الفرنسي برغم أثره البين على الثقافة الشيوعية لدى قطاعات واسعة من الحركة الشيوعية في أوروبا. وفي بلادنا، عانى الشهيد مهدي عامل وضعا شبيها في أوساط الحزب الشيوعي اللبناني والحركة الشيوعية العربية.
وهنا لا بدّ من أن أدلي باعتراف يعبر عن ندم. فقد أهملت أعمال محمود أمين العالم وتجاهلتها ، برغم أني عرفته شخصيا ودخلت في حوار معه أكثر من مرة، بما في ذلك باكورة أعماله، أعني “فلسفة المصادفة” ، الذي كان من المفروض أن أوسعه قراءة وتمحيصا واهتماماً ونقاشا، لأن موضوعه يدخل في صلب عملي الفكري . لقد أهملت هذا الكتاب الأصيل المحكم وهذا المفكر الكبير ، قياساً بما أبديته من اهتمام بمهدي عامل وسمير أمين وصادق جلال العظم ومحمد عابد الجابري وفؤاد زكريا وحسن حنفي، مع أنه لا يقل أهمية عنهم، بل ويتفوق عليهم جميعا من الناحية الفلسفية الصرفة. ولربما كان السبب في هذا الإهمال هو أني ماهيت بينه وبين الحزب الشيوعي المصري، فافترضت ضمنا أن فكره”صحيح” آيديولوجيا، لكنه لم يكن يحمل أي جديد يساعدني في فهم عالمي وواقعي. لربما افترضت أن فكره مجرد تكرار منمق للقوالب الشيوعية والأفكار السوفييتية الجاهزة. وحين خصص محمد دكروب عدداً خاصاً من مجلة “الطريق” لمحمود أمين العالم منذ بضع سنوات، وطلب مني أن أزوده بمقالة لي تتناول كتاب ” فلسفة المصادفة” ، تذرعت بكثرة مشاغلي وزودته بمقالة تشير إليه عبوراً فقط قي سياق آخر تماماً، وهو نقد وضعية فيلسوفة العلم المعاصرة، نانسي كارترايت. لكم كنت مخطئا في موقفي هذا، ولكم أشعر اليوم بالندم لأني لم أول عمله الاهتمام الذي يستحقه إبان حياته وفي سياق الحوارات التي سبق أن دارت بيننا.
لقد قرأت الكتاب أخيراً، بعد وفاة المفكر الكبير، من طبعة قديمة لدار المعارف المصرية تعود إلى عام 1969. وكنت قد حصلت عليها من الصديق ناهض حتر منذ سنوات خلت. ماذا أستشف من هذه القراءة؟
1) إن كتاب ” فلسفة المصادفة” هو من أفضل كتب فلسفة العلم باللغة العربية، أن لم يكن أفضلها على الإطلاق.
2) إن الكتاب ليس مجرد رسالة لنيل درجة الماجستير في الفلسفة (إنه، على أي حال، يستحق أن يكون رسالة دكتوراة). يقول محمود أمين العالم في التمهيد: ” لقد حصلت به على درجة الماجستير في الفلسفة من جامعة القاهرة في يونيه 1953. إلا أنه في الحقيقة لم يكن يستهدف هذه الغاية . لم يكن بحثا عن درجة علمية، بل كان بحثا عن الحقيقة، عن الاستقرار الفكري”. ويؤكد ذلك أسلوب الكتاب ومنهجه في تفنيد الأفكار ونقدها.
3) إن صاحب الكتاب صاحب مشروع فلسفي وشامل. لقد عد هذا الكتاب نقطة البداية في مشروع شامل يهدف إلى وضع تصور متكامل في الكون والحياة. ولئن كان هذا الكتاب يعنى بالطبيعة والفيزياء، فقد عزم العالم على أن يرفده بكتاب آخر يعنى بالمجتمع والعلوم الإنسانية حتى يكتمل تصوره الفكري في الكون والحياة. لكن انخراطه في الحزب الشيوعي المصري ونضالاته حال دون إكمال هذا المشروع الفلسفي.
4) بدأ محمود أمين العالم مسيرته الفلسفية في هذا الكتاب بسعيه إلى خلق ما أسماه ميتافيزياء تجريبية. وبتعبير آخر ، فقد سعى إلى خلق كانطية جديدة. فلئن أقام كانط مذهبا فلسفيا جديداً على أساس ميكانيك نيوتن ونتائجها الفكرية والعلمية، فقد سعى العالم إلى إنتاج ميتافيزياء جديدة على أساس الفيزياء الحديثة المتمثلة بنظرية النسبية ونظرية الكم والفيزياء الإحصائية، مسترشداً في ذلك بكتاب فلسفي لـِ D.M.Emmet . وكان عقله آنذاك مثقلا بالفلسفة المثالية بمذاهبها ومدارسها المتنوعة، بنيتشه وبرغسون وراسل ومايرسون وبيرسون وغيرهم. وبدأ بفهم مثالي ملتبس للفيزياء، وأراد بادئ ذي بدء أن يستعمل هذا الفهم المثالي معول هدم لموضوعية العلم والفلسفة المادية. إذ يقول في التمهيد :”لقد بدأت هذا البحث غارقا حتى أدني في الفكر المثالي، هادفا إلى اتخاذ المصادفة معولاً لتقويض الموضوعية العلمية”. ولكن ، وبعد أن قطع شوطاً ملموساً في بحثه ، وقع بين يديه كتاب لينين ” المادية والنقدية التجريبية” وكتاب إنغلز ” جدل الطبيعة”. ويصف وقعهما عليه كالآتي : ” وكان هذا حدثا فكريا في حياتي، قلب تصوراتي الفلسفية رأسا على عقب. فأمسكت بالمعول نفسه، ورحت أقرض به الفكر المثالي الذي كان يستغرقني تماماً . واقتضاني ذلك سنوات أخرى أخذت فيه أنسج البحث منذ البداية على نول موضوعي جديد. بل رحت أجدد كذلك حياتي الفكرية عامة ، وأبدأ مرحلة جديدة في حياتني”.
من الواضح إذاً أنه كان لدراسته الفيزياء دور مهم في ماركسيته وفي مساره الماركسي. ولا يعني ذلك أن الفيزياء الحديثة قادته إلى الماركسية. لكن إشكالاتها ومحاولة حل هذه الإشكالات وفهمها هي التي جعلته يدرك قوة الماركسية وساعدته في تبنيها واعتمادها منهجا للتفكير والفعل.
وقد يكون من المفيد أن أقارن هنا بين طريقي إلى الماركسية وبين طريق محمود أمين العالم إليها . ذلك أن الفيزياء أدت دوراً ما في تفكيري أيضا. ولكن أستطيع القول إن دراستي الفيزياء لم تكن عاملاً حاسماً في اعتمادي الماركسية. فالعامل الذي كان حاسماً حقا في ذلك هو جدل الإدراك، جدل اكتشاف الذات والموضوع ، من جهة ، واكتشاف الإنسان بوصفه كائنا بيولوجيا اجتماعيا يمارس حياته بالإنتاج، واكتشاف مادية الحاجات الإنسانية وحيويتها. وقد ساعدني ذلك في فهم الفيزياء وتملك تاريخها. إذ درست الفيزياء بادئ ذي بدء من منظور وضعي إمبريقي إنجليزي،وشكل هذا المنظور عقبة كأداء أمام تملكي الموضوع بصورة مرضية. فجاءت الماركسية عونا لي في تخطي هذه العقبة وتملكي الموضوع وتاريخه.
وساعد هذا الفهم الجديد في تعزيز فهمي للمادية والجدلية وبناء تصور نظري مفصل لهما. أما في حال محمود أمين العالم ، فقد أسهمت إشكالات الفيزياء إسهاما مباشراً في تكوين ماركسيته . وبصورة خاصة، فقد وجد في الماركسية ضمانة لموضوعية الفيزياء، ومن ثم وجودها. ذلك أن الفلسفة البرجوازية كانت تقوده حثيثا إلى نفي موضوع اهتمامه، أعني الفيزياء، وإلى فوضى فكرية جامحة . فجاء كتاب لينين ” المادية والنقدية التجريبية” وكتاب إنغلز ” جدل الطبيعة” إنقاذا للوضع وأرضية خصبة لحل الإشكالات الفيزيائية.
5) يعالج كتاب “فلسفة المصادفة” مشكلة كبرى في الفلسفة منبعها التأويل الرئيسي لميكانيك الكم، ذلك النبت ” الشيطاني” الذي شهده الثلث الأول من القرن العشرين. ويسمى هذا التأويل تأويل كوبنهاغن لأنه انبثق من معهد الفيزياء النظرية في مدينة كوبنهاغن الدنماركية على أيدي نيلز بور الدنماركي وفيرنر هيزنبرغ الألماني . وقد رفد هذا التأويل بأفكار منبعها مدرسة غوتنغن الألمانية، وعلى رأسها الفيزيائي الألماني، ماكس بورن. وهو تأويل فيزيائي ، وليس فلسفيا، في جوهره ، وإن كان يحمل الكثير من المضامين الفلسفية. وهو يرتكز إلى الأساليب الإحصائية الاحتمالية ، ويميل إلى نفي الواقع وموضوعيته. ويمكن القول إنه شكل أكبر تحد للفلسفة المادية في تاريخها، تلك الفلسفة التي قامت أصلا على أساس الفيزياء الكلاسيكية. والمفارقة هنا هي أن “مقتل” الفلسفة المادية جاء من مكمنها ومصدرها وحاضنها، الفيزياء بعينها، وكأنها عملية انتحار جماعية للفلسفة المادية والفيزياء معاً. إن تأويل كوبنهاغن والتأويلات المصاحبة له هي أخطر تحد بالفعل للفلسفة المادية وللواقعية بألوانها وأصنافها في تاريخ الفكر ، لأنه ينبع من قلبها ومصدرها.
وقد أدرك محمود أمين العالم ذلك ببصيرته الثاقبة وحدسه الفلسفي العميق مبكراً ، فانبرى للتصدي لهذه التأويلات بجدية بالغة وبكل ما أوتي من قدرة فكرية متميزة، مؤكداً قيمة العلم وموضوعيته المتنامية. لقد جاء إلى عالم الفيزياء من عالم نيتشه الملبد بالغيوم الفكرية ، كما صوره عبد الرحمن بدوي. وجاء إليه من أجل تقويض أسسه بتقويض موضوعيته تحقيقا لعشقه الصوفي النيتشوي البدوي. وسار من دون وعي صوب هاوية المثالية اللاعقلانية حتى اصطدم بصخرة لينين وإنغلز، فدبت فيه صحوة زلزلت وعيه وحولته رأساً على عقب إلى الحالة النقيض ودفعته إلى إدراك خطورة التأويلات السائدة للفيزياء الحديثة، وولدت في نفسه رغبة جدية في التصدي لها والانخراط في أكبر معركة فكرية شهدها العلم الحديث والفلسفة الحديثة . ولم يكن من السهل على طالب ماجستير في قطر متخلف على تخوم الحضارة الحديثة أن يتصدى لأعتى عقول العصر : لبور وهيزنبرغ وآينشتاين وبلانك. لكنه امتلك من الجرأة الفكرية والحماس النضالي ما جعله يلقي في وجه خصومه الحجة تلو الحجة حتى تسنى له أن يبني تصوراً فلسفيا ورياضيا وفيزيائيا بديلا يرتكز على قاعدة فهم خاص لمفهوم المصادفة ودوره في الفيزياء وتاريخها .
لقد ارتكزت الفيزياء الكلاسيكية على مبادئ العلية والحتمية والتحديدية المطلقة . وأساسها هو إمكانية تحديد مسار كل جسيم في الكون تحديداً كاملاً محكما في المكان والزمان منذ الأزل وإلى الأبد. وتحكم ذلك كله علية ميكانيكية محكمة ، لا بل حتمية ميكانيكية محكمة. وفي هذا السياق، فإن المصادفة لا تحمل أي معنى موضوعي. فهي ، إن وجدت ، مجرد تعبير عن جهلنا ونقص في معرفتنا الأسباب والآليات والقوانين ، أي إنها لا تحمل سوى معنى ذاتي. ويرى محمود أمين العالم أن هذا التصور الميكانيكي الكلاسيكي للكون يحمل مضامين لاهوتية تفترض وجود العارف المطلق اللانهائي.
أما ميكانيك الكم ، فأساسها مبدأ اللاتحديد لهيزنبرغ ، الذي ينص على أن التحديد الكامل لجميع الكميات الفيزيائية، التي تحكم قوانينها الكون ، مستحيل. فتحديد عدد منها يتم على حساب الأخرى . وعلى سبيل المثال، فكلما كانت سرعة جسيم محددة كان موضعه لا محدداً. وهذا يعني أنه ليس هناك مسارات محددة للجسيم على نطاق فاعلية مبدأ اللاتحديد، أي على النطاق الذري ودون الذري، بمعنى أن مفهوم المسار المحدد ينهار ويفقد مطابقته للواقع التجريبي على هذا النطاق. ويحل محل هذا المفهوم في ميكانيك الكم مفهوم الحقل الاحتمالي للجسيم. فالجسيم يكون موجوداً إلى هذا الحد أو ذاك في كل موضع ضمن حقله الاحتمالي. ويطيع هذا الحقل ، أي حقل توزيع احتمالات موضع الجسيم، معادلة تفاضلية محددة تسمى معادلة شرودنغر ، نسبة إلى الفيزيائي النمساوي إرفن شرودنغر، الذي اكتشفها.
ولا يحدد الجسيم في موضع محدد إلا بعملية قياس محددة. فالقياس التجريبي ينتقي موضعا معينا بصورة شبة عشوائية ، مع أن القياسات المتكررة المتعددة تكشف عن نسق معين من التوزيع الاحتمالي ينسجم مع معادلة شرودنغر.
وقد قاد ذلك مدرسة كوبنهاغن إلى إيلاء المشاهد دورا أساسيا في تحديد الواقع المعاش أو المجرّب أو التجريبي. بل ذهبت هذه المدرسة إلى اعتبار الوعي مكونا جوهريا من مكونات أنطولوجيا المادة والطبيعة. إذ ذهب أقطاب تأويل كوبنهاغن إلى الفكرة المثالية بأن المشاهد يخلق ما تتم مشاهدته، ومن ثم يدخل في تحديد الواقع المجرّب وإنشائه. فالعالم هو فضاء من الاحتمالات لا يتحدد إلا بالمشاهدات والمشاهدين. وعبر نيلز بور عن ذلك بالقول إن طبائع الأشياء تمليها وتحددها التجهيزات والإجراءات التجريبية. أما يوجين فغنر ، فقد عد الوعي مكونا جوهريا من مكونات الوجود غير قابل للاختزال إلى ما هو أبسط وأكثر جذرية منه، وأنه شرط ضروري من شرائط تحديد الظاهرات . وذهب الفيزيائي الأميركي، جون ويلر ، إلى الفكرة الغريبة أن ما نجريه الآن يحدد ويثبت ما حدث في الماضي. لذلك عدت ميكانيك الكم معول هدم لموضوعية الفيزياء وماديتها. وقد ابنرى بعض عمالقة فيزياء القرن العشرين لمجابهة هذا الخطر القادم من كوبنهاغن . وكان في مقدمتهم ألبرت آينشتاين وماكس بلانك وإرفن شرودنغر ولوي دي برولي . وحاولوا بيان تهافت تأويل كوبنهاغن ورد الاعتبار إلى العلية والحتمية والتحديدية والموضوعية الكلاسيكية.
والحق أن العرض الذي طرحته لتوي يشكل سياقاً ضروريا لفهم أطروحة محمود أمين العالم في فلسفة المصادفة . وقد جاء رد فعل العالم على الأفكار المطروحة أعلاه جديداً وأصيلا وعميقا ومتحرراً من سطوة المدرستين الرئيسيتين في الفيزياء الحديثة : مدرسة بور ومدرسة آينشتاين . إذ إنه وجه سهام نقده النافذ إلى كلتا المدرستين. ومع أنه يؤكد بصورة قاطعة موضوعية الفيزياء والطبيعة، إلا أنه لا يتعاطف مع موقف آينشتاين من هذه المسألة. فهو يرفض تشبث آينشتاين بالموضوعية الكلاسيكية ويعتبر الأخيرة قاصرة عن استيعاب عالم الفيزياء الحديثة. فهو يرى أن مجال تطبيقها ضيق ولا يتخطى نمطاً معيناً ومحدوداً من الحالات الفيزيائية، هذا ناهيك بما يعلق فيها من مضامين لاهوتية مطلقة ، حيث إنها تفترض أنطولوجيا ميكانيكية ضيقة عمادها ارتدادية Reversibility العمليات الطبيعية والتفردية ( أي اعتبار الوجود المادي كومة من الأشياء القائمة في ذاتها ومعالجتها بمعزل عن بعضها ، واعتبارها معزولة عن بعضها باستثناء التفاعلات العرضية بينها) وما أسماه العالم اللاتكميلية أو اللاجدلية ( أي خلو علائق الطبيعة من التناقضات الجدلية) . وبمعنى آخر ، فإن المصادفة لا تؤدي دوراً موضوعيا أنطولوجيا في الفيزياء الكلاسيكية، وإنما تؤدي دوراً ذاتيا فقط.
لكن انهيار العلية والحتمية والموضوعية الميكانيكية الكلاسيكية في ضوء ميكانيك الكم لا يعني انهيارها بصورة عامة وبالمطلق ، وفق العالم. بل على العكس من ذلك تماما ، فقد جاءت التطورات الفيزيائية في القرن العشرين معززة إياها بتوسيع مدى انطباقها وتحرير الرؤية الكلاسيكية مما علق فيها من مضامين لاهوتية . فلئن رفض العالم رؤية آينشتاين الحتموية الكلاسيكية ، فقد رفض أيضا رفضا قاطعاً ذاتية بور وهيزنبرغ وفغنر وغيرهم من أقطاب تأويل كوبنهاغن . إذ رفض فكرة المغزى الأنطولوجي للمشاهد وصرف النظر عن المشاهد صوب أداة القياس والمشاهدة. كما إنه رفض فكرة أن ميكانيك الكم تقوض أركان الأنطولوجيا المادية برمتها، وإنما أقرّ أنها تقوض أركان الأنطولوجيا المادية الميكانيكية الكلاسيكية الضيقة فقط ، لكنه أكد على أنها تفعل ذلك من أجل إفساح المجال لأنطولوجيا مادية جديدة رحبة عمادها لا ارتدادية Irreversibility العمليات الطبيعية واللانفردية والتكميلية أو الجدلية، أي موضوعية المصادفة . فالظاهرات الطبيعية والجسيمات لا توجد بمعزل عن بعضها وبصورة تفردية ، الأمر الذي يوجب معالجتها بالطرائق والأساليب الإحصائية والاحتمالية. كما إنها لا تطيع علية ميكانيكية ضيقة ، وإنما تطيع علية إحضائية رحبة أسماها العالم علية ”مجالية عواملية” . إن الظاهرات الطبيعية تتداخل وتتشابك وتتعدد وتتغاير بطريقة تتخطى بها الحتمية الكلاسيكية الضيقة ، وإن كانت تطيع أشكالاً من العلية والحتمية والضرورة أرحب وأوسع وأكثر قدرة على النفاذ إلى قلب الواقع الطبيعي.
يتبنى العالم إذاً طريقا ثالثة غير طريقي آينشتاين وبور، ويدافع عنه بإصرار وحماس وثقة عالية بالنفس وبجرأة فكرية قل نظيرها شرقا وغربا. وبرغم ما يكتنف موقفه من غموض مفاهيمي فيزيائي ورياضي، إلا أن هذا الموقف يمثل محاولة جريئة وأصيلة ترسم ملامح مخرج من مأزق العلم والمادية في القرن العشرين. ومع أنه لم يتح للعالم ولا لغيره من المفكرين العرب تطوير هذه الأفكار الأصيلة الثرة فلسفيا وفيزيائيا ورياضيا ، إلا أن بعض التطورات اللاحقة في هذا المجال والتي تمت بعد عام 1952، عام اكتمال “فلسفة المصادفة”، جاءت توكيداً لأهمية أفكار العالم . وأخص بالذكر التأويل الفيزيائي الرياضي المحكم لميكانيك الكم ، والذي وضعه الفيزيائي الأميركي، ديفد بوم، والتأويلات التي وضعها بعض الفيزيائيين السوفييت، وفي مقدمتهم فوك وبلوخنتسيف. وما زال تأويل بوم يفعل فعله في هذا المجال ، مؤكداً على موضوعية الفيزياء والطبيعة والمصادفة والأنطولوجيا المادية الاحتمالية ، تماما كما سبق أن فعل محمود أمين العالم بطريقته الفلسفية المحضة في كتاب ” فلسفة المصادفة”.
وختاما ، فإنه لا بد من القول إن كتاب “فلسفة المصادفة”، باكورة أعمال محمود أمين العالم، كشف عن مشروع فيلسوف ومفكر عربي فذ صاحب رؤية ثاقبة وقدرة فلسفية متميزة. وجاءت الأيام لتثبت ذلك ، ولكن ليس في مجاله الأصلي ، أعني فلسفة العلم ، وإنما في مجالين آخرين لا يقلان أهمية : مجال التحليل السياسي ومجال النقد الأدبي.


رحم الله فيلسوفنا الكبير وأبقى ذكراه العطرة حية في نفوس أبناء أمتنا العربية الماجدة.