البلدان البازغة


سمير أمين
2011 / 8 / 13 - 13:05     

الصعود القوي للبلدان البازغة في الجنوب في مواجهة تحديات العولمة المعاصرة



بين عامي 1500 و1900 كان "الغربيون وحدهم هم الذين يشكلون أوضاع العالم الجديد للرأسمالية التاريخية، وكانت شعوب التخوم المقهورة تقاوم بالتأكيد ولكنها تُهزم في النهاية وتضطر للتأقلم مع حالتها كتخوم مسودة. وفتح القرن العشرون، "بصحوة بلدان التخوم"، فصلاً جديداً في التاريخ، بدأ بثورة روسيا شبه التخومية في عام 1905، والتي قادت إلى ثورة أكتوبر 1917، ثم الثورة الإيرانية في 1907، ثم المكسيكية (1910/1920)، ثم ثورة الصين في 1911 التي قادت إلى انتصار 1949، ثم جاءت النهضة العربية الإسلامية بحركة تركيا الفتاة ثم الثورة المصرية في 1919، وتأسيس حزب الكونجرس في الهند، وكانت هذه جميعها المظاهر الأولى لهذه الصحوة. وقد جرت هذه الصحوة تحت راية الاشتراكية (في روسيا والصين وكوبا وفيتنام)، أو تحت راية التحرر الوطني المصحوب بدرجات متفاوتة من الإصلاحات الاجتماعية التقدمية.

وقد أعلنت حكومات وشعوب آسيا وأفريقيا في باندونج في عام 1955 رغبتها في إعادة صياغة النظام العالمي على أساس الاعتراف بحقوق الأمم المسودة حتى ذلك التاريخ. وكان هذا "الحق في التنمية" هو الأساس الذي قامت عليه العولمة متعددة الأقطاب المتفاوض عليها في تلك الحقبة والمفروضة على الإمبريالية التي اضطرت للتأقلم مع هذه المتطلبات الجديدة. والتصنيع الذي سار بنشاط في مرحلة باندونج لم يجرِ في ظل المنطق الإمبريالي وإنما فرضه انتصار الشعوب.

وهذه الصحوة الأولى لشعوب التخوم فقدت الزخم لأسباب متعددة ومركبة تعود جزئياً لتناقضاتها الداخلية، وكذلك لنجاح الإمبريالية في ابتداع أساليب حديدة لفرض سيطرتها عن طريق التحكم في الاختراعات التكنولوجية، والسيطرة على الموارد الطبيعية للعالم، وكذلك السيطرة على النظام المالي المعولم ونظم الاتصالات والمعلومات، واحتكارها لأسلحة الدمار الشامل. ولكن مرحلة سيطرة إمبريالية الثالوث المكون من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان لم تطل، فقد تبعتها مرحلة من الفوضى والحروب والثورات. وفي هذا الإطار لا تستطيع إمبريالية الثالوث أن تفرض سيطرتها على الموجة الثانية لصحوة أمم التخوم إلا عن طريق السيطرة العسكرية على العالم.

إن تاريخ التوسع المعولم للرأسمالية التاريخية يتلخص في عملية التراكم القائم على النهب المنظم لشعوب التخوم ولمصلحة شعوب المركز. بدأت هذه العملية باستعمار الأمريكتين، وتجارة العبيد، ثم الاستعمار بكافة صوره وآخرها استعمار فلسطين الذي يجري حالياً. ولم يقتصر التراكم على نهب الفلاحين وهم الغالبية العظمى للشعوب قدبماً، وإنما خرب القدرات الصناعية (الحرفية والصناعية) لبلدان كانت أكثر ازدهاراً من أوروبا مثل الصين والهند وغيرها.

كان الصراع بين المركز والتخوم باستمرار أحد المعطيات الأساسية في تطور تاريخ الرأسمالية التاريخية، ولهذا السبب كان الاتجاه العام لانتصار شعوب التخوم في نضالها من أجل التحرر مرتبطاً بالطعن في الرأسمالية ذاتها. ذلك أن الريع الإمبريالي المرتبط بتوسع الرأسمالية التاريخية ليس مصدراً للأرباح المتزايدة للاحتكارات الرأسمالية وحسب، بل هو الأساس لإعادة إنتاج المجتمع في مجمله. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن التغيير الراديكالي للمجتمع ليس علبى جدول الأعمال في بلدان الشمال، قي حين أن بلدان التخوم هي "منطقة العواصف" والثورات المتكررة التي تحتوي احتمالات النجاح.



المأزق الرأسمالي يبدو بوضوح كامل فيما يتعلق بالقضية الزراعية



يقوم تطور الرأسمالية التاريخية على أساس الملكية الخاصة للأرض الزراعية وإخضاعها لمتطلبات السوق الرأسمالي، وبالتالي للتخلص التدريجي المستمر من سكان الريف لمصلحة فئة ضئيلة من المزارعين الرأسماليين الذين يمثلون نسبة ضئيلة من السكان (من 5 إلى 10%)، ولكنها قادرة على إنتاج الطعام الكافي للشعوب المعنية، بل وتصدير كميات كبيرة من الطعام الفائض. ولم ينجح هذا الحل الرأسمالي في أوروبا إلا لأنه كان لديها صمام الأمان المتمثل في الهجرة الواسعة إلى الأمريكتين الأمر الذي لا يتوفر لبلدان التخوم حالياً. وفضلاً عن ذلك، فبعكس الصناعات الفديمة لا تستطيع الصناعات الحديثة أن تستوعب الأيدي العاملة الفائضة نظراً لأنها تستخدم التكنولوحيات المتقدمة – وذلك شرط تنافسيتها.

والنظام الرأسمالي لا يستطيع إلا أن ينتج، ويعيد إنتاج "عالم مدن الصفيح" الذي يقوم على التوسع الكامل في العمل الرخيص. أما في أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان فقد وفر النظام الرأسمالي مؤخراً، بمساعدة فرص الهجرة المتوفرة، بالإضافة إلى أرباح الإمبريالية، الحل الوسط بين رأس المال والعمل، والذي كان مثله الواضح بعد الحرب العالمية الثانية هو نظام "دولة الرفاهية". ولا تتوافر الشروط لمثل هذا الحل الوسط في بلدان التخوم اليوم، والنظام في هذه البلدان لا يجد قاعدته الاجتماعية إلا في الطبقات المتوسطة الجديدة التي تصير المستفيد الوحيد من التنمية على أساسه.

ولا شك أن صورة الحقائق السائدة اليوم لا تسمح بتصور الطعن في شرعية النظام الرأسمالي المعولم، فالطبقات الحاكمة في بلدان الجنوب بعد هزيمتها، قد قبلت بصفة عامة الانخراط في دورها الكومبرادوري التايع، أما الشعوب المرتبكة المشغولة بالسعي اليومي من أجل البقاء، فتبدو وقد قبلت هذا المصير، بل والأدهى، أنها تبدو أحياناً وقد تقبلت الأوهام التي تغرقها بها تلك الطبقات الحاكمة. ورغماً عن ذلك، فالطبقات الحاكمة في بلدان الجنوب المسماة بالبازغة قد اختارت بوضوح استراتيجية لا هي بالخضوع السلبي للقوى المسيطرة في النظام، ولا هي بالمعارضة الصريحة لها، بل هي استراتيجية التنمية النشطة والتي تبني عليها آمالها في التقدم السريع لبلادها.

ومع ذلك فبلدان الجنوب أو بعضها على الأقل، تملك اليوم من الوسائل ما يسمح لها بمقاومة أساليب التحكم للمراكز الإمبريالية، فهذه المجتمعات قادرة على التنمية بجهودها الذاتية دون الوقوع في شراك التبعية. وهي تمتلك الإمكانيات لاستيعاب التكنولوجيا بحيث تستطيع استخدامها بمفردها، وهي تستطيع أن تفرض على الشمال، باستخدام مواردها الطبيعية بمعرفتها، الحد من الاستخدام المفرط والمبدد للموارد الطبيعية. وهي تستطيع الخروج من إسار العولمة المالية؛ وهي تعارض من الآن احتكار الولايات المتحدة لأسلحة الدمار الشامل. وهي تستطيع كذلك تطوير التبادلات جنوب/ حنوب – للسلع والخدمات ورؤوس الأموال والتكنولوجيا – بشكل لم يكن ممكناً تصوره في عام 1955 حين كانت تلك البلدان تفتقر إلى الصناعة، وإلى القدرات التكنولوجية.

واليوم تتوافر فرص فك الارتباط يشكل عملي لم يكن متاحاً من قبل، فهل ستقوم تلك المجتمعات بذلك؟ ومن الذي سيفوم بذلك، السلطات الحاكمة القائمة؟ أم السلطات الشعبية بعد وصولها إلى السلطة؟ ربما ستقوم بذلك في المرحلة الأولى أنظمة انتقالية ذات طبيعة وطنية شعبية.



صعود الصين، هل يمثل طعناً في شرعية النظام الإمبريالي؟



تحتل الصين في صفوف البلدان البازغة مكاناً متميزاً، لا فقط بسبب حجمها الكبير، وإنما أساساً بفضل نجاحها في بناء صناعتها بشكل متكامل، وطريقتها الخاصة والفعالة لمواجهة المشكلة الزراعية، والفضل في ذلك يعود إلى ثورتها الاشتراكية ومبادئ الماوية. وتتميز العلاقة بين السلطة التي يمارسها جهاز الحزب (المتمسك باسم "الشيوعي")، والكتلة الاجتماعية التي يستند إليها (بصفة عامة الطبقات المتوسطة وهي المستفيد الأكبر من التطورات الجارية، ومعها الرأسماليون)، ومن جانب آخر الطبقات الشعبية (العمال والفلاحون)، بالتفرد. وتحتمل هذه العلاقات المتميزة فرصة التحول إما في اتجاه سلبي (وهو السير صراحة في طريق إعادة الرأسمالية)، أو اتجاه إيجابي (وهو تحقيق نوع من "الحل الوسط الاجتماعي" لصالح الطبقات الشعبية). والتحدي الذي تواجهه القوى الاجتماعية لليسار واليمين المتواجهة هنا، هو الاختيار بين أشكال من المقرطة ذات التوجه الاجتماعي التقدمي من جهة، أو أشكال المقرطة "التقليدية" التي ربما تتوق إليها الطبقات المتوسطة (حتى إن لم يكن ذلك مؤكداً).

ويدعي الخطاب السائد أن آسيا في طريقها لتخطي إرث التخلف و"اللحاق" بسابقيها في النظام الرأسمالي لا بفك الارتباط معه، وتؤيد ظواهر الأمور هذه النظرة للمستقيل. وبهذا تفقد الرأسمالية طبيعتها الإمبريالية، على الأقل بالنسبة لجنوب وشرق آسيا. وطبقاً لهذا التطور يصير العالم منظماً حول أربعة أقطاب هي الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، أو حول سبعة أقطاب إذا أضفنا إليها روسيا والهند والبرازيل.

ولكنني أرى أن التحليل الذي يقوم عليه هذا الفكر قصير النظر، أولاً لأنه لا يأخذ في الاعتبار السياسات التي تعمل واشنطن على اتخاذها لإفشال مشروع الصين. والقواعد العسكرية الأمريكية الدائمة في آسيا موجهة أساساً ضد الصين في تهاية المطاف. وإضافة لذلك، فحيث إن أوروبا لا زالت غير قادرة على تصور إمكانية الانسحاب من حلف الأطلنطي الذي يربطها في ذيل الولايات المتحدة، وأن اليابان لأسباب مشابهة أو لأسباب خاصة، تبقى تابعة لحاميها عبر المحيط الهادي، فإن الإمبريالية الجماعية للثالوث ليست بسبيلها للاختفاء.

وثانياً لأن قياس "النجاح" بمجرد معدل نمو الاقتصاد أمر مضلل، ولا يمكن الاعتداد بتتابعه لأكثر من سنوات معدودة، فإن استمرار النمو في آسيا يتوقف على كثير من العوامل الداخلية والخارجية التي تتشابك بأشكال مختلفة طبقاً للنماذج الاستراتيجية للتحديث التي تختارها الطبقات السائدة المحلية من جهة، وردود فعل الخارج من جهة أخرى. ومتابعة هذه البلدان للنمو سيؤدي لازدياد حدة الصراع مع بلدان الثالوث الإمبريالي حول موارد الثروات الطبيعية التي تعمل هذه الأخيرة على احتكار حيازتها، فضلاً عن تأثيرها على التوازن الإيكولوجي للكوكب.

وينسب الخطاب السائد نجاح الصين ما بعد الماوية إلى مزايا السوق والانفتاح على الخارج لا غير، ومع ذلك فقد حققت الصين في خلال العقود الثلاثة للماوية (1950-1980) نمواً غير عادي يصل إلى ضعف ما حققته الهند أو أي بلد كبير آخر في العالم الثالث. ورغم ذلك فما تحقق في العقدين الأخيرين من القرن خارق للعادة، ولكنه لم يكن ليتحقق في غياب الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي بُنيت في الفترة السابقة.

ولما كانت إمبريالية الثالوث مبنية على الوسائل الجديدة التي فصلناها أعلاه بدلاً من احتكار الصناعة، فإن هذه المزايا التي تحققها بلدان المركز الإمبريالي تعمق الاستقطاب على المستوى العالمي بدلاً من أن تخففه. وبهذا الفهم فإن تعبير "البلدان البازغة" يدخل في باب الهزل الأيديولوجي فالأمر يتعلق ببلدان في سبيلها لبناء رأسمالية التخوم المستقبلية بدلاً من "اللحاق". والصين ليست الاستثناء من هذه القاعدة، بل هي مجرد ورشة تشغيل من الباطن لمصلحة رأس المال، والمستهلكين في المراكز الإمبريالية!



اشتراكية السوق، هل هي مرحلة في الطريق نحو الاشتراكية أم طريق مختصر نحو الرأسمالية؟



لقد اختارت الطبقة الحاكمة الصينية الطريق الرأسمالي و"اشتراكية السوق" صارت الطريق المختصر لوضع الهياكل والمؤسسات الأساسية للرأسمالية بشكل تدريجي مع التقليل بقدر الإمكان من آلام واحتكاكات الانتقال إلى الرأسمالية.

فما هي الفرص التي يتيحها هذا الطريق للصين اليوم؟ وتقوم حالياً التحالفات بين الدولة، والطبقة الجديدة لكبار الرأسماليين من القطاع الخاص، وفلاحي المناطق التي اغتنت بفضل انفتاح أسواق المدن، والطبقات المتوسطة المزدهرة، ولكن هذه الكتلة المسيطرة تستبعد الأغلبية الكبيرة من العمال والفلاحين. وبناءً عليه فأية مقارنة بين التحالفات التاريخية التي أقامتها بعض البرجوازيات الأوروبية مثل العمل/رأس المال لأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، مفتعلة.

ونموذج التنمية الرأسمالية الجاري يعطي الأولوية للتصدير ويترتب عليها نمو استهلاك الطبقات المتوسطة، وهو النموذج المثالي للتراكم في التخوم. والسير في هذا الطريق يؤدي لما نراه من الآن، وهو:استغلال وحشي للعمال يذكرنا بالقرن التاسع عشر، إلى جانب نكبة بيئية. وفي المقابل فإن النموذج الحقيقي للتنمية يجب أن يقوم على أساس إعطاء الأولوية لتوسع السوق الداخلي لمصلحة الطبقات الشعبية مع التركيز على تطوير إنتاج أدوات الإنتاج. والصراعات السياسية والاجتماعية في الصين يظهر فيها هذان الخطان. وضعف الكتلة المسيطرة ذات التوجه الرأسمالي في الصين هو مصدر المصاعب للإدارة السياسية للنظام.

"الصين بلد فقير لا نرى فيه الكثير من الفقراء". والصين بلد يغذي 22% من سكان العالم مع أنه لا يملك سوى 6% من الأرض القابلة للزراعة في الكوكب، وهذه هي المعجزة الحقيقية. ومحاولة إرجاع ذلك إلى عراقة الحضارة الصينية غير صحيح، ومع أنه صحيح أنه حتى إلى ما قبل الثورة الصناعية كانت الصين تمتلك بصفة عامة معدات تكنولوجية أكثر تقدماً من أية منطقة أخرى من العالم، إلا أن وضعها قد تراجع خلال قرن ونصف القرن ما أدى لحالة من البؤس الواسع النطاق، يماثل وضع بلدان التخوم التي دمرها التوسع الإمبريالي مثل الهند وغيرها. ويعود الفضل في التحسن الكبير في أوضاعها إلى ثورتها. وفي الوضع المقابل للصين من البلدان التي تأثرت بنتائج التوسع الرأسمالي العالمي أضع البرازيل، فهي "البلد الغني الذي لا يرى فيه المرء إلا الفقراء".

لقد دفعت الثورة الصينية مجتمع هذه البلاد نحو الحداثة، وهذا يظهر في جميع تصرفات مواطنيها الذين يعتبرون أنفسهم مسئولين عن تاريخهم. وهذه الحداثة تفسر السبب في أننا لا نرى في الصين التعبير الثقافوي المتشنج الذي نراه في بلدان أخرى مثل البلدان الإسلامية، أو الهند الهندوستانية، أو في أفريقيا جنوب الصحراء. والصينيون يعايشون العصر، ولا يجترون ذلك الحنان لماضٍ أسطوري يعيدون خلقه كما يحدث في بلدان أخرى، وهم لا يعانون من مشاكل "الهوية". والحداثة التي انغمس فيها الصينيون تمثل ورقة رابحة لضمان المستقبل، فالثورة والحداثة التي انغمس فيها الصينيون قد غيرت الشعب الصيني أكثر من أي شعب آخر. والطبقات الشعبية الصينية تثق في نفسها وتعرف كيف تناضل وأن النضال يحقق المكاسب. وقد صارت المساواة قيمة أساسية للأيديولوجيا المشتركة للصينيين، وروحهم القتالية في المعارك النضالية تستحق الإعجاب. والسلطة تعرف ذلك وتحاول الحد منه عن طريق منع بلورة جبهات للنضال تتجاوز المستوى الإقليمي (وذلك بمنع الطبقات الشعبية من تنظيم ذاتها بشكل مستقل)، كما تلجأ لفنون "التحاور" والتلاعب لتقلل من مخاطر الصراع الطبقي.

ومسنقبل الصين يبقى معلقاً، فالمعركة من أجل الاشتراكية لم تنتصر، ولكنها لم تضع بعد (حتى الآن ربما)، وفي رأيي أن هذا الضياع لا يتأكد إلا إذا تخلى النظام الصيني عن حق جميع الفلاحين في الحصول على الأرض. وإلى أن يحدث ذلك، يمكن للصراع السياسي والاجتماعي أن يؤثر على سير التطور. وتعمل الطبقة السياسية الحاكمة على السيطرة على هذا الصراع بأساليبها البيروقراطية الدكتاتورية، وتتصور بعض فئات هذه الطبقة منع ظهور البرجوازية بهذه الأساليب عينها. ولكن البرجوازية والطبقات المتوسطة بصفة عامة لم تقرر النضال من أجل الديمقراطية، وتقبل النموذج الأتوقراطي "على الطريقة الآسيوية" ببساطة، طالما تسمح بإشباع شهيتهم للاستهلاك. أما الطبقات الشعبية فتناضل من أجل حقوقها الاقتصادية والاجتماعية، فهل ستنجح في توحيد معاركها، واخنراع أشكال للتنظيم الفاعل، وصياغة برنامج بديل إيجابي، وأن تحدد محتوى الديمقراطية التي تخدم مصالحها وأساليبها؟

والبديل الوحيد القادر على ضمان استمرار تطور البلاد يجب أن يبنى على أساس إعطاء الأولوية لتوسع السوق الداخلي على أساس علاقات اجتماعية تقلل للحد الأدنى عدم المساواة الاجتماعية والإقليمية. وهذا يقتضي إخضاع العلاقات الخارجية لمتطلبات هذا المنطق النافذ.



الهند، قوة عظمى؟



لقد تجاوزت الهند المليار من السكان، كما حققت معدلات للنمو تتجاوز المتوسطات العالمية، وبذلك اعتُبرت الهند من القوى الصاعدة في القرن الواحد والعشرين.

وينبع شكي في صحة هذا التوقع من أن الهند المستقلة لم تتصدِ للتحدي الرئيسي الذي يواجهها، وهو التحويل الجذري للهياكل التي ورثتها عن الطريقة التي شكلتها بها الرأسمالية الاستعمارية. لقد حول الاستعمار البريطاني الهند القديمة إلى بلد زراعي رأسمالي تابع. ولتحقيق هذا الهدف أقام البريطانيون أشكالاً من المِلكية الخاصة للأرض الزراعية بما يحرم أغلبية الفلاحين من هذه الملكية. وتحولت أغلبية الفلاحين إلى فلاحين فقراء يكادون لا يملكون أرضاً، وكان ثمن هذا الاختيار "للطريق الرأسمالي" هو البؤس المدقع للأغلبية العظمى من الشعب الهندي. وحولت الهند المستقلة وعودها للفلاحين إلى إصلاح زراعي شكلي محدود الأثر. وقد اتخذ هذا الاختيار شكل "الثورة الخضراء" التي دعمت أوضاع الطبقات الريفية المسيطرة. ومع ذلك، فعندما قامت السلطات الشيوعية في كيرالا والبنغال الغربية بتجاوز هذا الإصلاح – بقدر ما سمح لها الدستور الهندي بذلك - كانت النتائج الاقتصادية والاجتماعية غير قليلة ودعمت مواقف منفذي الإصلاح.

وفي الهند يدعم استمرار أيديولوجية نظام الطوائف هذا الإرث الاستعماري الذي يعطل التقدم، فطوائف "المنبوذين" (ويطلق عليهم اليوم "الداليت")، والمستوعَبون (وهم أبناء القبائل) يكونون ربع عدد السكان (حوالي 250 مليوناً). وهم محرومون من جميع الحقوق خاصة الحصول على الأرض الزراعية مما يجعلهم كتلة من "أشباه العبيد" الذي يتملكهم "الآخرون". واستمرار هذه الظروف يدعم الأفكار والتصرفات الرجعية لهؤاء "الأخرين"ويسمح باستخدام السلطة لمصلحة الأقلية من أصحاب النفوذ، الأمر الذي يضعف من فاعلية احتجاجات المستغَلين – الأغلبية – الذين يقفون بين الأقلية المستغِلة والداليت المستعبدين.

وضعت حكومات حزب المؤتمر في الهند المستقلة برنامجاً وطنياً ينسجم مع مقتضيات عصره الذي تميز بانتصارات حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية. وكان الاستعمار قد فرض سياسة القضاء على الصناعة الهندية – المتقدمة آنذاك – لمصلحة بريطانيا التي كانت في طريقها للتصنيع. وهكذا أعطت الهند المستقلة الأولوية للتصنيع الذي جرى بقدر كبير من التخطيط المنظم، على الأقل في خلال المراحل الأولى في عهد نهرو، حيث كانت تجمع بين رأس المال الخاص الكبير ومشروعات القطاع العام التي طورت لتملأ الفراغ الذي تركه الاستعمار للإسراع بالنمو وتدعيم الصناعات الأساسية.

وهذه الاختلافات بين النموذج الهندي الوطني والصيني الشيوعي، تفسر الاختلاف الواضح بين النتائج المحققة لكل منهما. فمعدل نمو الإنتاج الصناعي والزراعي في الهند استمر أقل من مثيله الصيني بكثير. وفضلاً عن ذلك ففي حين صاحب النمو الصيني تحسن واضح في مستوى معيشة مجموع الطبقات الشعبية، فإن ذلك لم يتحقق في الهند، حيث كان المستفيد الوحيد هو الطبقات المتوسطة الجديدة التي توسعت في خلال ثلاثة عقود لتصير 15% من السكان بدلاً من 5% - أي أنها لا زالت الأقلية. أما الأغلبية من الطبقات الشعبية فتعاني من نقس درجة البؤس إن لم تكن قد زادت لدرجة ما.

والهند، بعكس الصين، بلد متعدد الأعراق، ولم تستطع بريطانيا فرض سيطرتها عليه إلا بفضل اللعب على الخلافات بين الشعوب (والدول) الهندية. ويحسب لحركة التحرر الوطني الهندية نجاحها في هذا المجال بشكل لا مثيل له في العالم، فقد نجحت هذه الحركة في توحيد ما يقرب من عشر أمم كببرة في "أمة" واحدة. ولا يهم هنا ما إذا كان وصف هذه الأمة بكلمة "بهارات" (ومن هنا المفهوم "بهاراتيا" الذي يمكن ترجمته إلى "الهندوية") مشكوك في صحته علمياً. فالهند بالفعل "أمة" تفرض حقيقتها على جميع مكوناتها، وحتى اليوم يفرض هذا الانتماء المشترك نفسه رغم تأكيد أية خصوصية محلية (بما في ذلك اللغوية). ولم تفشل حركة التحرر الوطني الهندية إلا في قضية واحدة وهي ضم مسلمي الهند في بناء الأمة الهندية الجديدة، فقد نجح الاستعمار البريطاني في تخريب المشروع الوطني الهندي بفصل جزء من مسلمي الهند لتكوين دولة باكستان (التي انقسمت فيما بعد ليستقل نصفها الشرقي مكوناً بنجلاديش). ومع ذلك فمسلمو الهند (ويمثلون 15% من مجموع السكان) قد اندمجو بشكل كامل وصحيح في جميع الجوانب الاجتماعية والسياسية للبلاد، ولا يقلل من هذا أن يبدو أحياناً أن هناك مشكلة إسلامية يستغلها الثقافويون من الهندوس إن لم يكونوا هم من يخلقها. ويعود النجاح في هذه القضية إلى الطبيعة العلمانية للدولة الهندية التي لم تنجح الموجة الثقافوية الهندوسية في المساس بها.

ولا شك أن هناك بعض المآخذ على هذه الصورة الإيجابية بشكل عام، فكبت مطالب السيخ (التي أدت لاغتيال إنديرا غاندي)، ومشكلة كشمير التي تبقى بلا حل، ترسم الحدود لقدرة النظام على حل المشاكل القومية بشكل سليم (حتى إذا وصفت بأوصاف مغايرة). ومع ذلك فقد أمكن وضع الحلول السليمة للمشاكل مع جميع أمم الشمال "الإندوآرية"، والجنوب "الدرافيدية"، وبذلك بنت سلطات دلهي الأسس المتينة للدولة الفدرالية (مع أنها في الحقيقة أكثر مركزية مما يوحي به الدستور).

وتثبت خبرة الهند المعاصرة التفوق الواضح للاختيار الديمقراطي على الإدارة الأوتوقراطية المدعى بأنها أكثر كفاءة، وذلك على الرغم من الحدود الواضحة، والطبيعة الطبقية للديمقراطية البرجوازية بصفة عامة، وتطبيقاتها الواقعية في الهند بصفة خاصة. وكان هذا الاختيار الذي يُنسب لحركة التحرر الوطني (حزب المؤتمر والشيوعيون) هو الوسيلة الوحيدة الفاعلة التي تسمح بإدارة المصالح الاجتماعية والإقليمية المتنوعة – حتى إذا كان ذلك لصالح الطبقات المتميزة فقط – واكتساب التأييد الشعبي لمشروع الأقلية التي تتكون منها الكتلة المهيمنة.

وكان من الضروري أن يتداعى المشروع الوطني الشعبوي الهندي، كما حدث في بلدان أخرى، لنفس الحدود والتناقضات الداخلية الخاصة بهذا المشروع. وهذا التداعي، وفقدان شرعية السلطة الذي صاحبه أعطى الفرصة لهجوم القوى الظلامية المسماة "بالهندوتفا"، الذي يعني إعطاء الأولوية للانتماء للدين الهندوسي لتحقيق "الهوية الحقيقية" لشعوب البلاد، وهو يتعارض مع مفهوم "البهاراتفا" الذي يعود لمفهوم الأمة. ومن المفهوم أن تأكيد الهندوية لا يمس الموروث الاستعماري في مجال ملكية الأرض الزراعية، ولا تراتبية تظام الطوائف بصفة خاصة. وبهذا المعتى فالأوهام الظلامية تخدم جيداً السلطات الكومبرادورية والإمبريالية. أما المميزات الخاصة التي تغرق فيها خطابها الذي يتجاوز مفهوم الوطنية بل حتى الإمبريالية فهو خالٍ من المضمون، ويغذي عودة ممارسات "الطائفية" (المعادية هنا للإسلام) التي سبق للسلطة الاستعمارية استخدامها لمواجهة التطلعات للتحرر الوطني التوحيدي الحداثي الديمقراطي العلماني.

ولكن هذا التراجع صحبه تجذير للصراع الاجتماعي، كما يشهد بذلك هجوم الناكساليين، والمشاركة القوية للمنبوذين (الداليت) في النضال السياسي والاجتماعي. كما يشهد بذلك تأكيد تمسك الطبقات المتوسطة بالديمقراطية والعلمانية، وهذا يفسر أن فقدان حزب المؤتمر لشرعيته تقريباً لم يؤدِ "للانتصار الكامل" لليمين. ويعني بناء بديل اجتماعي تقدمي بالضرورة، إعطاء إجابات مرضية على التحديات الأربعة التالية:

التحدي الأول: إيجاد حل جذري للقضية الريفية الهندية يقوم على حق الفلاحين في الحصول على الأرض بشكل يقلل من اوضاع اللامساواة بقدر الإمكان، وهذا بدوره يعني إلغاء تظام الطوائف والأيديولوجية التي تمنحه الشرعية. أو بعبارة أخرى أن تحقق الهند ثورة لا تقل راديكالية عن ثورة الصين!

التحدي الثاني: بناء وحدة جبهة العمل، بضم قطاعات الطبقات العاملة المستقرة منها والمهمشة، وهذا تحدٍ مشترك بين جميع بلدان العالم المعاصر وخاصة تلك المنتمية لتخوم النظام التي تأثرت بعملية الإفقار الخطيرة الجديدة (البطالة الواسعة، والتهميش، والتوسع في القطاع غير الرسمي البائس).

التحدي الثالث: المحافظة على وحدة شبه القارة الهندية، وتجديد أشكال الارتباط بين الشعوب التي تكون الأمة الهندية على أسس ديمقراطية أقوى. وإفشال استراتيجيات الإمبريالية التي تعمل دائماً على تجزئة "الدول الكبرى" التي تستطيع المقاومة أكثر كثيراً من الدول الصغيرة.

التحدي الرابع: تمحور اختيارات السياسة الدولية حول المحور الرئيسي وهو إعادة بناء "جبهة شعوب الجنوب" (وبخاصة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا) في ظروف تختلف كثيراً عن ظروف تكوين حركة عجم الانحياز في مرحلة باندونج (1955 – 1979). وإعطاء الأولوية الأولى في المرحلة الحالية لهدف إفشال مشروع الولايات المتحدة للسيطرة العسكرية على العالم، وتعطيل المناورات السياسية لواشنطن لمنع التقارب بين الهند والصين وروسيا.

والقوى السياسية والاجتماعية التي تعرقل توجه الهند في الاتجاهات المشار إليها أعلاه كبيرة، وهي تكون "جبهة مهيمنة" تجمع ما يقرب من خُمس عدد السكان، وتضم خلف البرجوازية الصناعية الكبيرة، التجار، والماليين، وكبار الملاك العقاريين، والكتلة الكبرى من الفلاحين الأغنياء والطبقات المتوسطة، وكبار البيروقراطيين والتكنوقراطيين. وهذه الكتلة التي تضم حوالي 200 مليوناً من الهنود كانت المستفيد الوحيد من المشروع القومي كما جرى تنفيذه حتى اليوم. ولا شك أنه في اللحظة الحالية حيث تنتصر اللبرالية المنفلتة فإن هذه الكتلة تأخذ في التشقق تحت تأثير توقف الحركية الاجتماعية التي تسمح بصعود الطبقات المتوسطة الدنيا المهددة بالإفقار بل حتى بالإملاق. وتسمح هذه الأوضاع لليسار بتطوير تاكتيكات تضعف من تماسك هذه القوى الرجعية بصفة عامة، وبالأخص قيادتها الكومبرادورية التي تنقل تأثير سيطرة الإمبريالية المعولمة. ولكنها في الوقت نفسه، تعطي الفرص لليمين في حالة تقاعس اليسار.

وهكذا تجد الأفلية التي تتكون منها هذه الكتلة نفسها في وضع لا يسمح في الهند، بتكرار الحل الوسط العمل/رأس المال الذي قام على أساسه الاختيار الاجتماعي للغرب المتقدم. وإدارة تماسك هذه الكتلة المهيمنة عن طريق الديمقراطية السياسية كما تُمارس في الهند لا تخفف من مضمونها الطبقي الرجعي، بل هي بالعكس تؤكدها. وفضلاً عن ذلك فهذه الكتلة المهيمنة "مرتبطة" بمنطق العولمة الرأسمالية السائدة، وحتى اليوم لا تطعن في هذه العولمة أياً من القوى السياسية المختلفة التي تعبر عنها. وهكذا يمكن أن نفهم لماذا يبقى "المشروع الوطني الهندي" هشاً وعرضة للفشل، وغير قادر على تحقيق الأهداف التي يضعها نصب عينيه، ألا وهو: حعل الهند "قوة رأسمالية حديثة وكبيرة".

وهذا الضعف تعبر عنه المواقف الانتهازية الكثيرة للطبقة السياسية الهندية، والتي كثبراً ما يتم الدفاع عنها غلى أنها نوع من الواقعية السياسية قصيرة المدى. وفي مواجهة المشروع الأمريكي للسيطرة العسكرية على العالم، وتوجهات الإمبريالية الجماعية للثالوث – رغم تململ بعض الشركاء – لم تستطع الطبقة السياسية الهندية أن تتصور الرد المناسب أو أن توجهه. وهذا الرد يعني بناء جبهة تجمع بين الهند والصين وروسيا، وهي حميعاً مهددة بالتحول إلى الكومبرادورية تحت تأثير توسع الإمبريالية الجماعية الجديدة. وقادة الهند لا يعملون على تحقيق ذلك، حتى عبر الإجراءات الحكومية المتشددة لهزيمة اليمين الهندوسي الكومبرادوري. وبالعكس فهم مصرون على إعطاء الأولوية لنزاعهم مع الصين، التي يعتبرونها عدواً عسكرياً محتملاً، ومنافساً اقتصادياً خطيراً في أسواق الرأسمالية العالمية. بل هم يعتقدون أنه يمكنهم "استخدام" التقارب المحتمل مع الولايات المتحدة لفرض نفسهم كأكبر حليف لها في آسيا.



البرازيل وبقية البلدان "البازغة"



كذلك يختلف وضع البرازيل تماماً عن وضع الصين، فهنا لم يجد أي من المشاكل الموروثة عن عهد الاستعمار أية بداية للحل، وخاصة المشكلة الزراعية الجوهرية. وسلطة الطبفات الحاكمة البرجوازية – وتضم الرأسماليين، والملاك العقاريين، والتكنوقراطيين في خدمتهم، وقطاعات الطبقات المتوسطة المستفيدة من التوسع الاقتصادي – تُمارس بكل صلف. ولا يندهش أحد من وصف الإعلام الغربي الرئيس لولا بأنه "رجل دولة نموذجي"، فاستراتيجيته – وهي الاختيار الرأسمالي اللبرالي الصريح، مع بعض إجراءات إعادة توزيع الثروة بهدف "التقليل من الفقر" (دون محاولة المساس بمصادر هذا الفقر) – هي بالضبط ما تنادي به القوى الذكية من القوى السياسية التي تعمل على المحافظة على سيطرة الاحتكارات الإمبريالية.

وتأتي بعد ذلك محموعة من البلدان البازغة، أو المرشحة لذلك – وتختلف من حالة لحالة – والتي تتميز بنقطتي ضعف، وأعني بها بعض بلدان جنوب شرق آسيا (خاصة تايلاند وماليزيا)، وجنوب أفريقيا، وإيران، وتركيا. فهي من جهة ليست ذات حجم قاري، وذلك يحرمها من القدرة على "التفاوض" مع الثالوث الإمبريالي، بل بعضها مستبعد نهائياً من ذلك (إيران). ومن جهة أخرى، فهي، مثل الهند والبرازيل، لم تمارس حلاً ولو جزئياً لميراث المرحلة الاستعمارية السابقة، خاصة فيما يتعلق بالمشكلة الزراعية. والسلطات الحاكمة في تلك البلدان لا تمتلك ما يكفي من المصداقية لدى طبقاتها الشعبية، وهي لذلك هشة وعرضة للسقوط ويمكن، إذا لم تتعرض "لثورة منتصرة"، أن تتجه يساراً إذا استطاعت الصراعات الاجتماعية تجميع كتلة اجتماعية بديلة عن تلك التي يعتمد عليها النظام.

وهناك بلد آسيوي آخر في طريقه نحو البزوغ وهو فيتنام التي يدفع إرث الثورة فيها (القريب من الصين من كثير من الوجوه بما فيها الإصلاح الزراعي الجذري) في اتجاهات تخدم مصالح الطبقات الشعبية أكثر من أي بلد آخر.



وما حال بقية بلدان الجنوب؟



وهناك فئة أخرى من بلدان الجنوب المختلفة ولكنها متشابهة من حيث إنها "غنية" من ناحية متوسط الدخل بالنسبة للفرد، ومن حيث إن دخلها ناشئ من استغلال بعض الموارد الطبيعية – خاصة البترول والغاز. وهذه البلدان تواجه تحدياً صعباً، وهو الخروج من دائرة الارتباط مع العولمة الإمبريالية المبني بالكامل تقريباً على هذه "الثروة"، وتصنيع ذاتها، وبناء (أو إعادة بناء) زراعة غير موجودة بالفعل. وبعض هذه البلدان يستحيل تقريباً أن تواجه هذا التحدي بجهودها الذاتية وهي بلدان الخليج العربية، وليبيا، والجابون. أما فنزويلا فتنتمي لهذه المجموعة، ولكنها قد اتخذت القرار بالتحرر من ربقتها، وهي تواجه صعوبات كبيرة وواضحة في هذا السبيل، والإغراء بأن تلجأ إلى أنصاف الحلول باستخدام جزء من ريع البترول لتخفيف حدة الفقر كبير. ولكن هناك رغبة واضحة في القيام بأكثر من ذلك، ولكنها تصطدم، كما يحدث في جميع بلدان هذه المجموعة، بطبقات مسيطرة اقتصادياً تتميز بثقافتها الكومبرادورية وبالتالي شديدة الرجعية.

أما بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، بما فيها روسيا، فيعمل الثالوث على ضمها إلى بلدان التخوم مثلها مثل بلدان أوروبا الشرقية التي صارت كنوع من "أمريكا اللاتينية بالنسبة لأوروبا الغربية" وخاصة ألمانيا. ولكن روسيا في إمكانها أن تقاوم بنجاح الوقوع في هذا المصير، ومعها ربما أوكرانيا وبلدان القوقاز ووسط آسيا. ولكنها لن تتمكن من ذلك إذا لم تتجاوز آفاق المشروع "الرأسمالي الوطني" لتتبنى مشروعاً اجتماعياً غير مرتبط ذا اتجاه اشتراكي.

وهزيمة المكسيك اليوم كاملة، ولكن ليس بالضرورة نهائية، وهي بفضل النافتا (اتفاقية التحارة الحرة لأمريكا الشمالية) صارت ولاية خارجية للولايات المتحدة، التي تخضع لها طبقتها الحاكمة دون تحفظ. ولن تتمكن المكسيك من الخروج من هذه الحمأة إلا إذا استعادت تقاليد ثورتها المجيدة التي بدأت في عام 1910، والتي نأمل أن تعود بفضل كفاح الزاباتيين الجدد.

أما الأرجنتين فستبقى "عصية على الحكم"، فهذا البلد يدفع ثمناً كبيراً "لتقدمه" منذ قرن من الزمان والذي وضعه على رأس بلدان التخوم التي اغتنت بفضل ارتباطها بالنظام الرأسمالي الإمبريالي حينئذ. وقد ورثت البيرونية هذه الأوهام، وحاولت استمرار هذه الأوضاع بعملية تصنيع متعجلة ، ولكنها فشلت لأنها لم تحقق الشروط اللازمة لمنع إعادة ربط نظامها الحديث بالنظام العالمي الذي لا زال يسيطر على تلك البلاد.

أما بلدان الجنوب التي "استبعدت" بالكامل من مزايا الارتباط بالتطور الرأسمالي/الإمبريالي، فتكون مجموعة أخرى تواجهها تحديات ذات طبيعة مختلفة. وفي هذه المجموعة نجد أغلب بلدان أفريقيا، والعالمين العربي والإسلامي، والإمبريالية لا تهتم يالنسبة لهذه البلدان إلا من ناحية مواردها الطبيعية (الأرض الزراعية التي تطمع فيها الصناعات الزراعية، والبترول، والثروات المعدنية)، والمهم هو أن التدخلات الإمبريالية في هذه البلدان تتسم عادة بالقسوة الزائدة. والفرق بين هذا الجنوب المهمش وبين البلدان البازغة هو أنه في حين أن الطبقة الحاكمة في هذه الأخيرة لها مشروع وطني – حتى وإن كان وطنياً برجوازياً – فإن الطبقة الحاكمة في الأولى ليس لها أي مشروع وطني سوى التأقلم يوماً بيوم مع إملاءات العولمة.

وتتميز صورة العالم المعاصر بالنجاحات المتحققة في أمريكا اللاتينية أكثر من أي مكان آخر. ولهذه النجاحات – رغم تعرضها للتراجع – دافعان، فمن جهة هي نتيجة للشعور الكاسح بضرورة تحرر المنطقة من التبعية الكاملة للولايات المتحدة التي يؤكدها باستمرار مواقف هذه الأخيرة من مبدأ مونرو (1823) وحتى أيامنا، ومن جهة أخرى، ظهور حركات شعبية قوية بدونها لم تكن هذه النجاحات ممكنة.



البديل: نحو موجة جديدة من المبادرات المستقلة للجنوب



يجب أن نأخذ في الاعتبار عند تحليل هذا التحدي العناصر الثلاثة التي تكون الواقع، وهي: الشعوب، والأمم، والدول.

من الممكن تكوين كتلة مهيمنة تضم الطبقات المختلفة المستغِلة والمسودة بديلة عن تلك التي تسمح بإعادة إنتاج نظام سيطرة الرأسمالية الإمبريالية وهي الكتلة المهيمنة الكومبرادورية والدولة التابعة في خدمتها.

وعندما نتحدث عن الأمم فهذا يشير إلى أن السيطرة الإمبريالية تنفي كرامة "الأمم" كما صاغها تاريخ مجتمعات التخوم، فهي تدمر بشكل منظم المكونات التي تسبغ عليها أصالتها لمصلحة عملية تشبه سطحي بالغرب غير ذات قيمة. وفي هذه الحالة يكون تحرر الشعوب أمراً لا ينفصم عن تحرر الأمم التي تضمها. وعندما نقول: "الأمم تريد التحرر" فهذا يكون بمعنى تكامل هذا التحرر مع تحرر الشعوب وليس في تناقض معه، وهذا يعني أن التحرر لا يؤدي لإعادة الماضي (أي وهم الماضوية الثقافوية)، بل اختراع المستقبل عبر التحول الجذري للإرث التاريخي بدلاً من استيراد "حداثة" اصطناعية كاذبة.

والإشارة للدولة مبنية على الاعتراف الضروري باستقلال السلطة الجزئي في علاقاتها مع الكتلة المهيمنة التي تمنحها الشرعية حتى إذا كانت هذه الأخيرة وطنية شعبية. والدافع لذلك ليس فقط حماية المكاسب الشعبية الوطنية من العدوان المستمر للإمبريالية المسيطرة على المستوى العالمي، وإنما كذلك، وربما بالأكثر، لأن "التقدم على الطريق الطويل" يقتضي بدوره تنمية القوى المنتجة، أي تحقيق ما تحرمه الإمبريالية على بلدان التخوم المعنية، أو بعبارة أخرى، إلغاء ميراث الاستقطاب العالمي المرتبط بالتوسع العالمي للرأسمالية التاريخية. وهذا البرنامج ليس مرادفاً "للحاق" بتقليد نماذج رأسمالية المركز، وهو أمر مستحيل، بل غير مرغوب فيه. وهو يفرض فهماً جديداً لمفهوم "التحديث/ التصنيع" مبني على المشاركة الفعالة للطبقات الشعبية في تحقيقه، وفي الاستفادة الفورية منه في كل مرحلة من تطوره.

والقول: "الدول تريد الاستقلال" يجب أن يُفهم كهدف مزدوج، وهو: الاستقلال (الكامل) عن الطبقات الشعبية، وكذلك الاستقلال عن ضغوط النظام الرأسمالي العالمي. والبرجوازية (وبشكل أوسع الطبقة الحاكمة في مراكز الدولة ولها دائماً توجهات برجوازية) هي في الوقت ذاته وطنية وكومبرادورية، فإذا ما سمحت لها الظروف بتوسيع هامش الاستقلال عن الإمبريالية المسيطرة، اختارت طريق "الدفاع عن المصالح الوطنية"، أما إذا لم تسمح بهذا الهامش، اندمجت في التبعية الكومبرادورية لما تفرضه الإمبريالية. و"الطبقة الحاكمة الجديدة" (أو المجموعة الحاكمة) تبقى ذات موقف ملتبس حتى إذا كانت مرتكزة على كتلة شعبية وذلك لما لها من توجه برجوازي جزئي على الأقل.

والربط الصحيح بين هذه العناصر الثلاثة للواقع يضمن نجاح التقدم على الطريق الطويل للتحرر، وهذا يعني تدعيم الطبيعة التكاملية بين مكاسب الشعب، وتحرر الأمة، ومنجزات سلطة الدولة. أما إذا سُمح للتناقضات بين القوى الشعبية والدولة أن تنمو وتتضخم، فستتعرض المكاسب الشعبية للضياع.

ولما كانت لا الشعوب، ولا الأمم، ولا الدول في بلدان التخوم مرتاحة في ظل النظام الإمبريالي، فإن الجنوب هو "منطقة الزوابع"، أي منطقة الهبات والانتفاضات الدائمة. والتاريخ المعاصر هو بصفة خاصة تاريخ هذه الهبات والمبادرات المستقلة (بمعنى المستقلة عن التوجهات السائدة على مستوى النظام الرأسمالي الإمبريالي القائم) للشعوب والأمم والدول في التخوم. وهذه المبادرات – رغم محدوديتها وتناقضاتها – هي التي شكلت التحولات الأكثر حسماً في العالم المعاصر، وذلك بأكثر بكثير من تأثير التقدم في قوى الإنتاج في مراكز النظام، والتأقلم الاجتماعي السهل نسبياً الذي واكبه فيها.

وهكذا يكون التراجع الطويل للرأسمالية/االإمبريالية التي عفا عليها الزمن، والانتقال الطويل نحو الاشتراكية هما القطبان المتعارضان للتحدي. والتراجع في حد ذاته لا يحقق تقدماً على طريق الاشتراكية، وبالعكس فإن منطق إجابات رأس المال على هذا التحدي تقود إلى المنحدر المنزلق إلى البربرية، أي إلى الأبارتهيد على المستوى العالمي. ومع ذلك فهذا التراجع يخلق في الوقت ذاته ظروفاً ملائمة للسير في الطريق الطويل نحو الاشتراكية.

كيف يتداخل هذان المستقبلان الممكنان؟ العالم الآخر الجاري بناؤه غير واضح، فهو يحمل في طياته الأسوأ والأفضل، وكلاهما ممكن (إذ ليس هناك قانون يتحكم في التاريخ قبل حدوثه بالفعل). لقد حدثت موجة أولى من مبادرات شعوب وأمم ودول التخوم في القرن العشرين وحتى عام 1980، وهناك موجة ثانية من هذه المبادرات قد بدأت بالفعل. فهتاك بلدان قد بزغت، وأخرى تقاوم شعوبها الأساليب التي تحاول بها الإمبريالية الجماعية للثالوث تكريس سيطرتها؛ والتدخلات العسكرية لواشنطن وحلفائها التابعين في حلف الأطلنطي تتعرض للفشل؛ وينهار النظام المالي المعولم، وتقوم مقامه بالتدريج أنظمة إقليمية مستقلة ذاتياً؛ ويبدأ احتكار التكنولوجيا من جانب الاحتكارات في التصدع؛ وتبدأ عملية استعادة السيطرة على الموارد الطبيعية؛ وقد نجحت بعض المنظمات الشعبية وأحزاب اليسار الراديكالي المناضلة في إفشال البرامج اللبرالية أو هي في طريقها لذلك. وهذه المبادرات جميعها، وهي أساساً معادية للإمبريالية، تملك في طياتها احتمال السير في الطريق الطويل نحو الاشتراكية.