الثورة المصرية فى منتصف الطريق


سامح نجيب
2011 / 8 / 12 - 09:17     

لم تتوقف المعارك الفكرية والدعائية حول طبيعة الثورة المصرية وآفاق تطورها ودور القوى المختلفة فيها منذ لحظة اندلاعها. هل هي مجرد بداية تحول ديمقراطي محدود مثل ما حدث في أوروبا الشرقية عام ١٩٨٩ أم أنها أيضاً حبلى بثورة اجتماعية جذرية؟ هل هي ثورة شباب الطبقة الوسطى من مستخدمي وسائل الاتصال الحديثة أم ثورة شعبية عميقة؟ ما هو دور الطبقة العاملة في الثورة وما تأثير ذلك الدور على طبيعتها؟ كيف شاركت القوى السياسية ومازالت في أحداث الثورة سلباً وإيجاباً؟ ما هو دور ومصير القوات المسلحة وبقايا النظام القديم؟ كيف تتفاعل القوى العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع الثورة وكيف تخطط لإجهاضها واستيعابها؟
هناك تنويعة واسعة من الإجابات والأفكار حول كل تلك القضايا تعبر عن مختلف المصالح الاجتماعية والاتجاهات السياسية. وهذا الكتيب الصغير يمثل محاولة أولية من منظور اشتراكي ثوري لفهم تطور الثورة المصرية في شهورها الأولى.



مقدمة

تشكل الثورات الكبرى أحداثاً استثنائية في التاريخ البشري. فالتدخل المباشر للجماهير في صناعة التاريخ حدث جلل بكل معاني الكلمة. وهذا بلا شك ما ينطبق على الثورة المصرية التي بدأت في ٢٥ يناير ٢٠١١ ومازالت تزلزل بتطوراتها المنطقة العربية بل والعالم كله. صحيح أن شرارة الثورة جاءت من تونس، لكن اندلاع الثورة المصرية، والتي تقارن من حيث التعبئة الجماهيرية والعمق الاجتماعي بأهم الثورات في تاريخ البشرية مثل الثورة الفرنسية الكبرى ١٧٨٩ والثورة الروسية ١٩١٧ وثورة إيران ١٩٧٩ وفجرت موجة من الثورات في منطقتنا العربية في اليمن وسوريا والبحرين و ليبيا وحركات مناهضة الديكتاتورية في الأردن وعمان والمغرب والجزائر، تمثل بلا شك أحد أهم وأخطر التحديات التي تواجه الامبريالية الأمريكية ورأس المال العالمي في فترة العقود الأربع الأخيرة. وإذا ما وضعنا هذه الثورات في سياق أزمة الرأسمالية العالمية التي بدأت في 2008 ولازالت تتردد أصداؤها في أنحاء العالم، إضافة إلى تعاظم المقاومة الشعبية لإجراءات التقشف في أوروبا، يمكننا أن نؤكد أننا بصدد الدخول في مرحلة من الفرص والتحديات الاستثنائية أمام كل الثوريين الذين يريدون الإطاحة بالعفن الرأسمالي وبناء عالم أفضل.
مصر ليست أكثر البلدان العربية عددا في السكان فحسب بل تملك أيضا أكبر طبقة عاملة في المنطقة وأكثرها نضالية وخبرة. لذلك فإن مصير الثورة المصرية سوف يلعب دورا حاسما، ليس فقط في تحديد مستقبل الثورة العربية الأوسع، بل وسوف يحدد أيضا نجاح أو فشل الامبريالية الأمريكية ورأس المال العالمي في استيعاب هذا التحدي الرهيب.
وقت كتابة هذه الورقة (مايو ٢٠١١) لازالت معارك الثورة المصرية أبعد ما تكون عن الحسم. إننا بصدد عملية ثورية طويلة المدى، تشهد لحظات تقدم ولحظات تراجع، يتخللها فترات من الهجوم الرجعي يواجه بفترات من تعاظم الإضرابات والمظاهرات. أما قوى الرجعية، سواء على المستوى العالمي (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والسعودية وإسرائيل) أو على المستوى المحلي (الطبقة الحاكمة المصرية وجنرالات الجيش والجهاز الأمني) فتتوحد من أجل دفع عجلة الثورة إلى الوراء أو على الأقل احتوائها.
لم تتوقف المعارك الفكرية والدعائية حول طبيعة الثورة المصرية وآفاق تطورها ودور القوى المختلفة فيها منذ لحظة اندلاعها. هل هي مجرد بداية تحول ديمقراطي محدود مثل ما حدث في أوروبا الشرقية عام ١٩٨٩ أم أنها أيضاً حبلى بثورة اجتماعية جذرية؟ هل هي ثورة شباب الطبقة الوسطى من مستخدمي وسائل الاتصال الحديثة أم ثورة شعبية عميقة؟ ما هو دور الطبقة العاملة في الثورة وما تأثير ذلك الدور على طبيعتها؟ كيف شاركت القوى السياسية ومازالت في أحداث الثورة سلباً وإيجاباً؟ ما هو دور ومصير القوات المسلحة وبقايا النظام القديم؟ كيف تتفاعل القوى العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع الثورة وكيف تخطط لإجهاضها واستيعابها؟
هناك تنويعة واسعة من الإجابات والأفكار حول كل تلك القضايا تعبر عن مختلف المصالح الاجتماعية والاتجاهات السياسية. وهذا الكتيب الصغير يمثل محاولة أولية من منظور اشتراكي ثوري لفهم تطور الثورة المصرية في شهورها الأولى.


العقد الأخير في حكم مبارك

الثورة المصرية لم تأت من فراغ. وعلى الرغم من أن أحدا لم يكن ليتنبأ بتوقيت الحدث ذاته، إلا أن العقد الأخير من حكم حسني مبارك شهد درجات من التوتر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يصعب على النظام تحملها على المدى الطويل.
لقد اعتمد حكم مبارك على ثلاث سياسات مترابطة. أولها سياسة الاقتصاد الليبرالي الجديد التي زادت من اندماج الاقتصادي المصري بصورة غير متكافئة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وأدت داخلياً إلى إفقار الغالبية العظمى من الشعب، من أجل ضخ المزيد من الأرباح في خزائن الشركات متعددة الجنسية ومجموعة صغيرة من الرأسماليين المصريين.
وثانيها تكريس النظام وجيشه كحليف استراتيجي، أو بتعبير أدق دولة تابعة، لخدمة الامبريالية الأمريكية وإسرائيل. وثالثها ترسيخ دولة بوليسية متوحشة بغرض القضاء على أي حركة سياسية أو اجتماعية تقوم في وجه احتكار النظام للسلطة واحتكار الرأسماليين للثورة.
في المنطقة العربية، مثلما في أي مكان آخر من العالم، كان انفتاح الاقتصاد أمام الاستثمار والاستغلال بواسطة الشركات متعددة الجنسية هدفاً رئيسياً للامبريالية الأمريكية. لقد كان الإخضاع العسكري والاستراتيجي لهذه المنطقة الحيوية المنتجة للنفط ضروريا لتحرير اقتصادياتها. ولم تكن هناك حاجة لفرض ذلك على الأنظمة في المنطقة، حيث أنه تطابق مع مصالح الطبقات الحاكمة التي استخدمت مزيجا من الليبرالية الجديدة والتحالف مع الولايات المتحدة والدعم الإقليمي لإسرائيل من أجل دخول الأسواق العالمية ومشاركة كبرى الشركات متعددة الجنسية. بهذه الطريقة ضمنت الأنظمة الحاكمة أيضا دعم الولايات المتحدة لسياساتها القمعية والمعادية للديمقراطية على شاكلة نظام مبارك.
يقول أنطونيو جرامشي، الثوري الايطالي العظيم، إن الطبقات الحاكمة جميعاً تحتاج من أجل البقاء في السلطة إلى مزيج من الإجبار والقبول. نظام جمال عبد الناصر، على سبيل المثال، استخدم الإجبار لكنه أيضا قدم مكاسب اقتصادية واجتماعية لقطاعات كبيرة من الطبقة العاملة والفلاحين، كما أنه لعب دوراً قيادياً في معاداة الامبريالية وقدم الدعم للقضية الفلسطينية، مما سمح له بالاحتفاظ باحتكاره السلطة السياسية وأضعف تأثير المعارضة سواء من اليسار أو الإسلام السياسي حتى النكسة.
لكن سياسات السادات ومن بعده مبارك اجتثت تدريجياً من ذلك القبول النسبي الذي خلقه العقد الاجتماعي لفترة الناصرية. وفي سنوات حكم مبارك الثلاثين بوجه خاص اعتمد النظام بصورة متزايدة على القمع الوحشي وحده للحفاظ على سيطرته على السلطة.


الليبرالية الجديدة

رغم أن السادات هو الذي بدأ سياسات الانفتاح وتحرير الاقتصاد المصري في منتصف السبعينات إلا أن تلك الإجراءات اقتصرت في ذلك الوقت على تحرير التجارة وتيسير دور أكبر لرأس المال الخاص الأجنبي والمحلي، لكن الجزء الأكبر من الاقتصاد ظل تحت هيمنة الدولة والقطاع العام حتى منتصف الثمانينات.
لكن التسعينات شهدت بداية الهجوم الأشد على الطبقة العاملة وفقراء المدن والقطاعات الأفقر من الفلاحين. وفي العقدين التاليين تكونت طبقة جديدة من أصحاب البلايين في ارتباط عضوي بالدولة بدأت تهيمن على الاقتصاد والسياسة في مصر. وبالتعاون مع صندوق النقد الدولي بدأ النظام تطبيق برنامج التكيف الهيكلي في عام 1991.


الهجوم على الفلاحين

بداية تضمن البرنامج الاقتصادي التراجع عن كافة التشريعات الناصرية التي وفرت للقطاعات الأفقر من الفلاحين درجة من الحماية من توحش السوق الحر، حيث تم تحرير سعر المنتجات الزراعية ورفع الدعم عن البذور والأسمدة والآلات الزراعية. وفي عام 1992 صدر قانون الإيجارات الزراعية الذي سمح بارتفاع ضخم في الإيجارات وسمح بإخلاء المزارعين بعد فترة انتقالية خمس سنوات. وعليه شهدت الفترة التالية على 1997 إخلاء آلاف المزارعين المستأجرين وأسرهم من الأراضي التي أقاموا بها وزرعوها لأجيال، وعادت الأراضي للمالكين الأصليين، ومعظمهم من الملاك الغائبين.
الهجوم على الطبقة العاملة

بدأ برنامج الخصخصة في مصر عام 1996. وبحلول عام 2005 كان أكثر من 200 من إجمالي 314 شركة قطاع عام صناعية وخدمية قد تم خصخصتها إما كليا أو جزئيا، وانخفض عدد العاملين في القطاع بنسبة 50% في الفترة من منتصف التسعينات حتى عام 2005، وانتقلت ملكية 20% من القطاع البنكي من القطاع العام إلى القطاع الخاص. وكانت نتيجة هذه السياسات تدهور ظروف العمل بصورة لم تحدث من قبل وارتفاعاً سريعاً في معدلات البطالة ومزيدا من إفقار قطاعات واسعة من المصريين. وصاحب ذلك تراكم شديد للثراء بين كبار الضباط والمسئولين الحكوميين ورجال الأعمال ممن باعوا واشتروا وضاربوا طوال هذه الفترة.
منذ بدأ نظام مبارك تطبيق هذه السياسات الليبرالية الجديدة ارتفعت نسبة المصريين الذين يعيشون عند خط الفقر (أي 2$ في اليوم) أو تحته من 20 إلى 44%. وفي العقد الأخير من حكم مبارك، حيث بلغ معدل النمو الاقتصادي ذروته، ارتفعت نسبة المصريين الذين يعيشون في فقر مدقع من حوالي 16% إلى 20%.
أفكار الليبرالية الجديدة تدعو نظرياً إلى انكماش القطاع العام. أما في الممارسة، فإن الليبرالية الجديدة "القائمة على أرض الواقع" تعني إعادة توزيع الموارد العامة لصالح أقلية صغيرة، بحيث أصبح متاحا لأصحاب العلاقات الجيدة مع متخذي القرار (وأصحاب البلايين عادة ما يملكون هذه العلاقات) أن يشتروا الأصول المملوكة للدولة بنسبة ضئيلة من قيمتها السوقية. ومن ثم حققت الشركات المنتجة لمواد البناء الأساسية، مثل الحديد والصلب والأسمنت على سبيل المثال، مكاسب ضخمة من خلال العقود التي أبرمتها مع الحكومة.
يذكر أحمد النجار، مدير وحدة الدراسات الاقتصادية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، أن المسئولين الحكوميين باعوا الأراضي المملوكة للدولة بأقل الأسعار للعائلات ذات العلاقات بالدوائر السياسية. كما سمحوا لشركات أجنبية عملاقة بشراء الشركات المملوكة للدولة بأسعار زهيدة في مقابل الرشوة.
في عام 2004 شكل مبارك حكومة جديدة من كبار رجال الأعمال ومن "تكنوقراط حاصلين على درجات الدكتوراه" ممن كانوا في حقيقة الأمر من غلاة دعاة الليبرالية الجديدة من ذوي التعليم البريطاني من أنصار تاتشر ومن درسوا في أمريكا من أنصار ريجان. وقد قررت الحكومة الجديدة الإسراع في تطبيق برنامجها الليبرالي الجديد، فأصبح كل شيء معروضا للبيع، بما في ذلك المصانع والصحراء والأرض الزراعية والمطارات والنقل العام. وخفضت الحكومة الجديدة نسبة الضرائب على الدخول العليا من 42% إلى 20%، بحيث أصبح أصحاب البلايين والشركات يدفعون نفس النسبة من دخولهم مثلهم مثل صغار أصحاب المحلات.
في الفترة من 2005 إلى 2008، أغدقت المؤسسات العالمية، ولاسيما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، المديح على الحكومة المصرية بسبب تحقيقها معدل نمو اقتصادي بلغ 7%. لكن أحد خصائص معدلات النمو الاقتصادي في ظل الليبرالية الجديدة أنها تخفي التوزيع غير العادل لهذا النمو. وتفترض هذه النظرية أن معدلات النمو العالية تسفر عن تأثيرات تنساب إلى أسفل وتؤدي في نهاية المطاف إلى تحسين معيشة الفقراء. ولكن ذلك لا يحدث في الواقع. ففي مصر أنتجت معدلات النمو العالية ثراء فاحشاً لأقلية ضئيلة مع ارتفاع سريع لمعدلات الفقر والبطالة بين الأغلبية.
بعد سقوط مبارك، اكتشف المحققون الحجم الفلكي لثروات مبارك وأسرته ووزرائه ومسئولين كبار آخرين في الدولة والحزب. وقد فسرت بعض قطاعات الصحافة البورجوازية المصرية والغربية هذا الأمر بأنه نتيجة للرأسمالية الفاسدة وليس نتيجة لسياسات الليبرالية الجديدة وحرية السوق. ومن ثم أشاعوا أن فساد القائمين على الدولة ودمجهم للسلطة السياسية مع السلطة الاقتصادية هو ما منع السياسات الليبرالية الجديدة من تحسين مستوى معيشة الفقراء.
هناك مغالطتان في هذا التحليل. أولهما، أن العلاقة الوثيقة بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية قديمة قدم الرأسمالية ذاتها. والثانية، أن سياسات الليبرالية الجديدة لم تستهدف أبداً إلغاء أو التقليل من دور الدولة في الاقتصاد، وإنما تعظيم هذا الدور لتيسير تحقيق الأرباح الرأسمالية على حساب الطبقة العاملة، بما يخلق علاقة أكثر حميمية بين الدولة ورأس المال. هذه العلاقة بالذات هي التي تسمح بتعاظم الفساد والمحسوبية. بل يمكننا القول من خلال تحوير لمقولة شائعة بأن الرأسمالية تفسد ورأسمالية الليبرالية الجديدة تفسد بشكل مطلق.


الإمبريالية الأمريكية ونظام مبارك

منذ إبرام اتفاقية "السلام" بين مصر والكيان الصهيوني في عام 1979 أصبح التحالف المصري الأمريكي أحد أهم دعائم الهيمنة الأمريكية في المنطقة. في كل حرب وعدوان أمريكي وإسرائيلي في المنطقة لعب النظام المصري دور الخادم المخلص لحلفائه الاستراتيجيين. بداية من الحرب الإسرائيلية على لبنان في عام 1982 وحصارها القاتل لبيروت ومذابح صبرا وشاتيلا إلى الحرب البربرية على غزة في 2008 – 2009 استمر نظام مبارك في لعب دور الوكيل الأهم للامبريالية الأمريكية وإسرائيل.
يقول ناعوم تشومسكي:
التحالف مع الولايات المتحدة كان معناه "بالأساس استبعاد القوات المسلحة المصرية من الصراع العربي الإسرائيلي بحيث تتمكن إسرائيل من تركيز انتباهها (وقواتها المسلحة) على الأراضي المحتلة والحدود الشمالية."
في حرب الخليج الأولى شاركت القوات المسلحة المصرية، تحت قيادة الولايات المتحدة في هجوم عسكري شامل على العراق، أطلق عليه اسم "حرب تحرير الكويت". ولم يكن قائد الجيش المصري في هذه العملية أحدا سوى المشير محمد حسين طنطاوي، وزير دفاع مبارك منذ ذلك الوقت والحاكم الفعلي لمصر الآن بعد خلع سيده من السلطة.
بعد 11 سبتمبر 2011، لعب نظام مبارك دورا مركزيا في دعم وتيسير برنامج الولايات المتحدة الخاص باستخدام "الخبرة الخارجية في التعذيب" من خلال ما عرف باسم سياسة "التسليم الاستثنائي". في عام 2005 نشرت البي بي سي أن كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا أرسلت "إرهابيين مشتبه فيهم" للاعتقال في مصر. في هذا التقرير اعترف رئيس الوزراء المصري أنه منذ عام 2001 نقلت الولايات المتحدة أكثر من 60 معتقلا إلى مصر كجزء من "حربها على الإرهاب". وفي عام 2003 فتحت مصر قناة السويس أمام السفن الحربية الأمريكية لتدمر العراق. كما لعب مبارك دورا هاما في محاولات إضفاء الشرعية على الحكومات العميلة المتتالية في العراق والتي فرضها الاحتلال الأمريكي على الشعب العراقي.
وفي الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 كان النظام المصري داعما قويا لخطة الصهاينة لتدمير حزب الله وأدار حملة إعلامية مركزة لتشويه صورة الشيعة وإشعال التوترات الطائفية بين السنة والشيعة. كذلك حظيت الحرب الصهيونية على غزة عام 2008-2009 بالدعم الكامل لمبارك الذي التقى مسئولين إسرائيليين ساعات قبل بداية القصف. وقد لعب النظام المصري دورا حاسما في إحكام خناق الحصار على غزة وساهم في حرمان 1.5 مليون فلسطيني من احتياجات الحياة الأساسية من خلال إغلاقه لمعبر رفح.
وبالطبع حصل مبارك على مقابل سخي من الإدارات الأمريكية المتتالية، فقد حصل على ما يقرب من 2 مليار دولار أمريكي سنويا من الولايات المتحدة، وهو أعلى دعم خارجي بعد الدعم الذي تحصل عليه إسرائيل. كما يشير أحد التقارير المقدمة للكونجرس في سبتمبر 2009 إن الولايات المتحدة دعمت النظام المصري بما يتجاوز 64 مليار دولار منذ توقيع السادات لمعاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979 بما في ذلك 40 مليار تجهيزات عسكرية وأمنية. كذلك كوفئ النظام بإعفائه من دين قدره 7 مليار دولار في أبريل 1991 مقابل الدعم الذي قدمه في حرب الخليج في أوائل العام، كما تدخلت الولايات المتحدة مع نادي باريس لإعفاء مصر من نصف ديونها للحكومات الغربية والتي وصلت قيمتها في ذلك الوقت إلى 20 بليون دولار.
لقد استمر دعم الولايات المتحدة لنظام مبارك حتى النهاية. فحين سئل الرئيس باراك أوباما في حديثه مع البي بي سي أثناء زيارته للقاهرة في يونيو 2009 عما إذا كان يعتبر مبارك حاكما ديكتاتورا، أجاب الأول حاسما بالنفي. وحتى أثناء الثورة نفسها حين كان النظام يضرب ويعتقل ويقتل الآلاف من المصريين قالت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون "تقديرنا أن الحكومة المصرية مستقرة وتبحث عن سبل الاستجابة للاحتياجات والمطالب المشروعة للشعب المصري". وحين سئل روبرت جيبس المتحدث باسم البيت الأبيض عما إذا كانت الولايات المتحدة تعتقد أن الحكومة المصرية مستقرة، أجاب بدون تردد "نعم".


المقاومة: الانتفاضة الفلسطينية الثانية وغزو العراق

كان للانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر ٢٠٠٠ أثران هامان في مصر. الأثر الأول تمثل في انهيار عملية السلام التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية والتي لعب فيها النظام المصري دورا محوريا. فقد وصل المسار الذي بدأ في أوسلو بين المفاوضين الصهاينة والفلسطينيين في 1993 إلى حارة سد مع انصياع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية المنحازة للولايات المتحدة لكافة المطالب الإسرائيلية. في نفس الوقت استمر الصهاينة في احتلالهم لمزيد من الأراضي الفلسطينية كما استمر رفضهم للتنازل بشأن أي من القضايا المركزية مثل عودة اللاجئين الفلسطينيين وتحديد وضع القدس وشروط السيادة لأي دولة فلسطينية في المستقبل. وفي خلال هذا المسار مارس النظام المصري ضغوطا هائلة على الجانب الفلسطيني لتقديم المزيد والمزيد من التنازلات، مدعوما بالمديح المستمر من قبل القيادة الأمريكية والصهيونية "لحكمة القيادة المصرية".
إن اندلاع الانتفاضة الثانية لم يكشف عملية السلام باعتبارها واجهة لمزيد من العدوان والاحتلال الإسرائيلي فحسب، وإنما كشف أيضا التواطؤ الكامل للنظام المصري كحليف لإسرائيل وعدو للشعب الفلسطيني وطموحاته. لقد كان للانتفاضة الفلسطينية أثرا عظيما في مصر. ذلك أن الدور المشين للنظام من ناحية ومقاومة الشعب الفلسطيني وحركات المقاومة المسلحة الباسلة من ناحية أخرى ساهم في تثوير مئات الآلاف من شباب المصريين. وانتشرت المظاهرات الحاشدة في كافة أنحاء البلاد ونظم شباب الجامعات وطلاب المدارس المظاهرات التي كانت بمثابة أول اشتباك لهم مع السياسة. وتعاون الناصريون والإسلاميون والاشتراكيون في تنظيم الاحتجاجات وجمع التبرعات والأغذية والدواء في قوافل دعم الشعب الفلسطيني المحاصر.
في عام 2003 تعمقت واتسعت هذه اليقظة السياسية مع الغزو الأمريكي للعراق. وفي 20 مارس 2003 اجتاحت ميدان التحرير مظاهرة جذبت أكثر من أربعين ألف شخص يهتفون ضد الحرب، كما أحرق المتظاهرون صور مبارك واحتلوا الميدان لأربعة وعشرين ساعة فيما يبدو الآن وكأنه بروفة لاحتلاله الثوري في عام 2011.


الحركة الديمقراطية

العنف والقمع الذي استخدمه النظام في مواجهة هذه المظاهرات دفع بقضية الديمقراطية إلى السطح. حيث اجتمعت السلطوية والديكتاتورية الخانقة للنظام والعنف البوليسي والتعذيب والاعتقالات العشوائية والمحاكمات العسكرية للمدنيين مع المؤشرات القوية بأن مبارك يحضر ابنه جمال لخلافته كرئيس للبلاد، لتشكل مجتمعة العوامل الخلفية لصعود الحركة الديمقراطية المطالبة بإلغاء حالة الطوارئ والانتخابات الديمقراطية ورفض التمديد لمبارك والتوريث لابنه.
يوم 12 ديسمبر قام تجمع سياسي ضم الناصريين والاشتراكيين والإسلاميين والليبراليين بتنظيم أول مظاهرة في سلسلة من المظاهرات بعنوان "كفاية". لم تكن المظاهرات ضخمة واقتصر قوامها على بضعة آلاف في قمة عنفوانها لكن تأثيرها السياسي كان أكبر من أعداد المشاركين فيها. فقد تم تجاوز الممنوعات بالمطالبة بإنهاء حكم مبارك وكذلك المطالبة الواضحة بمحاكمة لواءات الشرطة بتهمة التعذيب والاعتقال غير القانوني، إضافة إلى محاسبة الأسرة الحاكمة وكبار مسئولي الدولة بتهمة الفساد. مع ذلك لم تنجح الحركة في تعبئة القطاعات الأوسع من الجماهير أو الربط ما بين مطالبها السياسية والمطالب الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تغلي تحت السطح وعلى وشك الانفجار. وفي عام 2005، حين تمكن النظام من تجديد رئاسة مبارك لفترة خامسة وتجديد العمل بقانون الطوارئ لعامين آخرين، حدث ركود في الحركة.


الحركة العمالية

لا شك أن موجة الإضرابات العمالية غير المسبوقة التي بدأت في عام 2006 واستمرت في الاتساع والعمق حتى بعد سقوط مبارك كانت ولازالت تمثل التحدي الأعظم للنظام. منذ 2004 كان هناك تصاعد بطيء في الإضرابات والاعتصامات، تسارع قليلاً بعد تشكيل وزارة نظيف في يوليو من نفس العام. ففي عام 2005 تم تنظيم 202 احتجاج عمالي جماعي، ارتفع إلى 222 في عام 2006 ثم إلى 617 عام 2007.
في ديسمبر 2006 بدأ عمال شركة الغزل والنسيج في المحلة، التي تضم أكثر من ربع عمال قطاع النسيج العام في مصر، بدأت إضرابا سوف يمثل نقطة تحول تاريخية في نضال الحركة العمالية. فبعد أن وعدت الحكومة بزيادة الحوافز السنوية لعمال القطاع العام، اكتشف عمال المحلة في ديسمبر أن الحكومة تراجعت عن وعدها. ومن ثم تولدت حالة من الغضب التي سريعا ما تحولت إلى خطوات تحضيرية للإضراب وبدأت القيادات العمالية في توزيع البيانات وإلقاء الخطب داعين للإضراب.
يوم 7 ديسمبر تجمع آلاف العمال عند واحدة من البوابات الرئيسية للشركة، وتظاهرت نحو 3000 عاملة من عاملات الغزل والنسيج في أنحاء قطاعات الشركة تدعو العمال إلى الانضمام إلى الإضراب. توقف الإنتاج تماما في كافة قطاعات قلعة النسيج العملاقة وأضرب حوالي 24 ألف عامل واحتلوا الشركة باعتصام استمر لثلاثة أيام. وطالب المضربون بصرف كامل حوافزهم التي وعدوا بها في مارس إضافة إلى مجموعة من المطالب خاصة بالانتقال والرعاية الطبية والحضانات وظروف العمل وسوء الإدارة. وبحلول اليوم الرابع وافقت الحكومة على أغلب المطالب ومن ثم توقف الإضراب مع تهديد بالمعاودة في حال لم تتم الاستجابة لباقي المطالب.
سرعان ما امتدت موجة الإضرابات التي بدأت في المحلة في ديسمبر 2006 بمعدل غير مسبوق، حيث انتقلت من القطاع العام إلى القطاع الخاص، إلى قطاعات الخدمة المدنية ومن المناطق الصناعية القديمة إلى المدن الصناعية الجديدة في كافة المناطق. انتقلت الإضرابات من قطاع النسيج إلى الهندسة والكيماويات والبناء والتشييد والنقل إلى قطاع الخدمات، حتى أنها وصلت إلى قطاعات لم يكن الإضراب جزءا من ثقافتها مثل المعلمين والأطباء والموظفين وحتى البائعة الجائلين. لقد نجحت موجة الإضرابات في تعميم حالة من الاحتجاج.
حتى في القطاعات التي كانت تمنع فيها الإضرابات بواسطة تشريعات خاصة تمكن العمال من تنظيم إضرابات واسعة متحديين التشريعات والسلطة في اتخاذ إجراءات عقابية ضدهم. وقد حدث ذلك في قطاع السكة الحديد ومترو القاهرة والمستشفيات والإسعاف وهيئة البريد والنقل العام، بل وأيضا، وهو أمر شديد الدلالة، في الصناعات التابعة للقوات المسلحة.
في سبتمبر 2007 نظم عمال النسيج في المحلة إضرابهم الثاني واحتلوا المصنع من جديد. فالحكومة لم تنفذ وعودها. وفي هذه المرة كان الإضراب أكثر نضالية عن الأول. وبعد ست أيام من الإضراب واحتلال الشركة فاز العمال بالحوافز وأجبروا مدير الشركة المكروه على الاستقالة. وقد اعتبر العمال أنهم لم يحققوا نصرا اقتصاديا فحسب، بل ونصرا سياسيا أيضا. فبالرغم من القوانين والقمع والتهديدات والترهيب انتصر العمال من خلال الفعل الجماعي ضد نظام شديد القمع. لقد كان انتصار العمال انتصارا للديمقراطية، خاصة الديمقراطية العمالية، حيث أثبت العمال للحركة الديمقراطية أنهم وحدهم يملكون القوة الجماعية لتحدي الديكتاتورية.
بحلول نهاية 2007 أضرب حوالي 55 ألفا من موظفي الضرائب العقارية ونظموا اعتصاما حاشدا أمام بوابة وزارة المالية، مطالبين بمساواتهم في الأجور مع أقرانهم المعينين في وزارة المالية. استمر الإضراب لثلاث شهور، وقد انتصر الإضراب بعد اعتصام استمر لإحدى عشر يوما في وسط القاهرة أمام وزارة المالية، حيث كسب موظفو الضرائب العقارية زيادة في الأجور بنسبة 325%، والأهم من ذلك تحولت لجنة الإضراب المنتخبة ديمقراطيا إلى اللجنة التنفيذية لأول نقابة مستقلة في مصر منذ عام 1957.
استمرت الإضرابات العمالية والاحتجاجات الاجتماعية في الانتشار في كافة أرجاء البلاد، فتتراجع لبعض شهور ثم تنطلق مرة أخرى بعنفوان أكثر في شهور أخرى. لقد بدأت الطبقة العاملة معركة المواجهة مع النظام، والثورة ضد الليبرالية الجديدة والديكتاتورية بلا رجعة.


الأزمة الاقتصادية العالمية

ضاعف الكساد العظيم الذي هز العالم في 2008 من الأزمة في مصر، ولا زال يخلق شروطا لعدم الاستقرار. هنا نرصد تفاعلا بين ثلاث عوامل:
العامل الأول مرتبط باعتماد مصر الكبير على صادراتها لأوروبا، وهي الصادرات التي انخفضت سريعا نتيجة انخفاض الطلب الذي تلا الانكماش الاقتصادي. تقول أرقام البنك الدولي أن معدل النمو في الاقتصاد المصري المرتبط بتصدير السلع إلى الاتحاد الأوروبي انخفض من 33% في عام 2008 إلى ناقص 15% في يوليو 2009.
ثانيا، شهد الوضع مزيدا من التدهور مع بداية سياسات التقشف القاسية التي فرضت على أوروبا، حيث انخفضت تحويلات المهاجرين بنسبة 17% مقارنة بعام 2008، كما هبطت عائدات السياحة من 24% في عام 2008 إلى 1.1% في عام 2009، كما انخفضت عوائد قناة السويس بنسبة 7.2% مقارنة بعام 2008.
العنصر الثالث يرتبط بالارتفاع الشديد في أسعار السلع الغذائية الأساسية عالمياً. ذلك أن اعتماد مصر على استيراد الغذاء، خاصة القمح، صعب على الحكومة حماية الاقتصاد المحلي من تأثير الارتفاع العالمي في أسعار الغذاء. هذا وقد شهدت أسعار الغذاء في مصر تضخما من 17.2% في ديسمبر 2010 إلى 18.9% في يناير 2011. لقد جعلت الليبرالية الجديدة البلاد في موقف أضعف أمام الأزمة ذاتها، فارتفعت بشدة مظاهر انعدام المساواة، في نفس الوقت الذي ضعفت فيه إجراءات الدعم الاجتماعي. وبالتالي فقد تركزت آثار الأزمة على الشرائح الأكثر ضعفا في المجتمع المصري.
ما كانت الأزمة لتحدث في وقت أسوأ بالنسبة للنظام. ذلك أن اتساع الحركة العمالية والعودة البطيئة للحركة المطالبة بالديمقراطية مع اقتراب الانتخابات البرلمانية والرئاسية في عام 2010 كان يفرض على النظام أن تكون لديه إستراتيجية واضحة في كيفية التعامل مع هذه التحديات العميقة.
نحو الثورة

بدأت الاختلافات والانشقاقات تظهر بين الدوائر الحاكمة. هل يجب أن تسارع بتطبيق برنامجها الليبرالي الجديد وقمع المقاومة العمالية أم عليها أن تتريث وتحاول احتواء الحركة؟ هل تستمر في خطة توريث جمال مبارك للحكم، أم الأفضل اختيار شخص أكثر قبولا بين الشعب، من الجيش مثلا، ليصبح رئيس مصر القادم ومن ثم تهدئة المعارضة المتصاعدة للأسرة الحاكمة؟
ماذا إذا؟ القمع الشامل أم محاولة الاحتواء؟ الاحتواء قد يبدو وكأنه تنازل أمام الحركات القاعدية الآخذة في الانتشار وقد يؤدي إلى مزيد من الإصرار في مواجهة النظام. والقمع قد يؤدي إلى حالة غير محسوبة من الانفجار. ولم يكن لدى أي من الفريقين الثقة الكاملة في أن إستراتيجيته سوف تتمكن من إنقاذ النظام.
اتضحت درجة ارتباك النظام خلال الانتخابات البرلمانية في 2005 والتي تمت على ثلاث مراحل. في المرحلة الأولى بدا وكأن فريق الاحتواء قد انتصر، فقد كان التزوير قليلا ونجح الإخوان المسلمون في الحصول على 88 مقعد أي 20% من إجمالي المقاعد، مما تسبب في رعب فريق القمع، وبالتالي شهدت المرحلتان الثانية والثالثة تزويرا عنيفا أدى إلى الاحتفاظ بأغلبية المقاعد للحزب الحاكم.
بحلول 2010 أصبح لفريق القمع اليد العليا تماما: في مواجهة حركات الإضراب والاحتجاجات الآخذة في الاتساع واكتساب الإخوان المسلمين لمزيد من الثقة في أنفسهم، خاصة بعد فوز حماس بالانتخابات الفلسطينية في عام 2007، اتخذ القرار بالمضي قدما في خطة التوريث وتفريغ البرلمان من كل معارضة في انتخابات 2010، وذلك ضمن مؤشرات واضحة عن رضا الإدارة الأمريكية. مع ذلك بدأ تنفيذ الخطة بأياد مرتعشة وضمن معارضة لا يستهان بها بين كبار جنرالات الجيش وقيادات الحزب الوطني وكبار رجال الأعمال.
على المستوى المحلي كان لدينا إذا كل مقومات الثورة جاهزة: الطبقات الحاكمة غير قادرة على الحكم مثلما كانت تفعل في الماضي، والطبقات العاملة غير قادرة على الاستمرار في ظل استمرار الظروف المعيشية دون تحسن. وعلى المستوى العالمي، كانت هناك أزمة طاحنة، غير مسبوقة، تشكك في صلاحية النظام بأكمله وتتسبب في انشقاقات وارتباك داخل وبين الدول والبنوك والشركات متعددة الجنسيات المختلفة. في نفس الوقت، وفي صلة وثيقة بالأزمة، كانت هناك الهزيمة طويلة المدى للهيمنة الامبريالية الأمريكية الغارقة في مستنقعات العراق وأفغانستان.
هذه المعطيات العالمية والمحلية مهدت المسرح للثورة المصرية.


18 يومـــــا

"تمر عقود دون أن يحدث فيها شيء، وثمة أسابيع تحدث فيها عقود"
(فلاديمير لينين)
على مدى سنوات كان المدونون والنشطاء السياسيون، وأخيرا أيضا نشطاء الفيسبوك، يخططون ليوم احتجاجي، ويرسلون آلاف الرسائل الهاتفية، ويحصلون على دعم عشرات الآلاف في الفضاء الاليكتروني، وفي اليوم الموعود لا يظهر سوى بضعة مئات من الوجوه المألوفة، قد يصلوا في بعض الأحيان إلى الرقم السحري فيبلغ عددهم الألف. كنا نقف محاطين بثلاث أو أربع آلاف من قوات الأمن، وبعد الهتاف والخطب وبعض المواجهات مع الشرطة ينتهي اليوم.
لكن النشطاء كانوا أكثر تفاؤلا بيوم 25 يناير، ليس فقط بسبب عدد من قالوا أنهم سوف يشاركون، ولكن لأن عدوى الثورة التونسية وصلت إلى القاهرة والإسكندرية وباقي المدن الكبرى والمواقع العمالية، فأشعلت حماس الناس. المجموعات الصغيرة من تحالفات الشباب الديمقراطي والليبراليين والاشتراكيين والناصريين كانت متفائلة: هذه المرة قد يأتي بضعة آلاف، على الأقل في اثنين أو ثلاثة من المدن المركزية. بل قد نصل إلى عشرة آلاف! لكن أيا من النشطاء لم يكن ليتخيل في أوسع أحلامه ما حدث في ذلك اليوم.
قيادة الإخوان المسلمين أعلنت إنها لن تشارك في الحدث. مع ذلك ففكرة عدد من المظاهرات تبدأ من عدد من الأحياء العمالية وتسعى إلى التجمع في وسط المدن المختلفة – التحرير في القاهرة على سبيل المثال – بدت وكأنها فكرة تستحق المحاولة، خاصة وأن اليوم المذكور كان يوم الاحتفال بعيد الشرطة، في ذكرى مذبحة الشرطة بواسطة البريطانيين التي أشعلت الاحتجاجات التي أدت إلى حريق القاهرة في عام 1952. الكراهية المتزايدة والغضب بسبب عقود من الوحشية البوليسية والتعذيب والإهانة مصحوبة بالمعجزة التونسية سوف تجد صداها لدى الجماهير حتى ولو انضم القليلون منهم فقط إلى المظاهرة.
كانت الخطة أن تتبني المظاهرات المخطط لها عددا من المطالب الأساسية: العدالة الاجتماعية والحد الأدنى للأجور ورفع حالة الطوارئ واستقلال القضاء واستقالة حبيب العادلي وزير الداخلية صاحب السجل المروع في لتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان. كانت هناك أيضا مطالب بالإصلاح السياسي مثل حل البرلمان وعقد انتخابات جديدة بعد فضيحة انتخابات 2010 المزورة والتي أزالت كافة نواب المعارضة من البرلمان.
صباح 25 يناير بدأ النشطاء في التجمع عند الأماكن التي اتفقوا عليها في الأحياء الشعبية المختلفة. كان اليوم إجازة بسبب عيد الشرطة. لكن الشرطة لم تكن في إجازة على الإطلاق. فقد كان عشرات الآلاف من قوات الأمن ينتظرون في كل مكان. كانت هناك حالة من التوتر بين الشرطة ومئات الضباط في الملابس المدنية حاملين سلاحهم ومرتدين نظاراتهم السوداء المعتادة. يبدو أنهم كانوا أكثر إدراكا لمزاج الجماهير عن النشطاء. وكانت هناك تعبئة كاملة لقوات الأمن في كافة المدن الكبيرة والصغيرة على السواء.
بدأت المظاهرات بالشعارات المعتادة ضد العادلي ومبارك والحزب الوطني، وضد ارتفاع الأسعار والبطالة، ضد الفساد وجمال مبارك المكروه وضد إمبراطور الحديد ورجل الحزب الوطني القوي، أحمد عز. لكن مع أول ترديد للشعار التونسي الشهير "الشعب يريد إسقاط النظام" تبدل شيء ما، ليس فقط في مزاج المتظاهرين وإنما أيضا في الأعداد الرهيبة التي انضمت بسرعة إلى المتظاهرين، حيث توالى نزول الناس من بيوتهم ليشاركوا في المسيرات وفي الهتاف بحماس ألهب المشاعر. رجالا ونساء، شبابا وكبار السن، مسيحيين ومسلمين، جميعهم شارك، وكانت الأغلبية العظمى من فقراء المصريين. وكلما ارتفع صوتهم بهتاف ذلك الشعار السحري كلما ترددت أصداءه في الحارات وكلما انضمت أعداد أكبر من الجماهير إلى المسيرة. وتحولت المسيرات التي بدأت ببضعة مئات من النشطاء إلى مسيرات جماهيرية لعشرات الآلاف.
كان خوف وارتباك الشرطة محسوسا. في بعض الحالات هاجموا المتظاهرين ليتراجعوا سريعا أمام الهجوم المضاد للجماهير التي شعرت بالقوة والثقة والوحدة التي أربكت الضباط ذوي النظارات السوداء وجنود الأمن المركزي، وجميعهم من فقراء الفلاحين الذين جندوا لثلاث سنوات ليقوموا بالعمل القذر المتمثل في حماية الطبقة الحاكمة في مصر.
صدرت الأوامر للشرطة بالتراجع إلى المراكز الرئيسية في المدن في محاولة لمنع المتظاهرين من الوصول إلى مراكز المدن. وهناك دارت أعنف المعارك في ذلك اليوم التاريخي، حيث استخدم النظام خراطيم المياه والرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع بكميات رهيبة في محاولة لرد المتظاهرين. وكان الغاز المسيل للدموع هو الأكثر إيلاما، لكن المتظاهرين استوعبوا الموقف ونظموا توزيع الأقنعة الطبية وعلب الكولا والبصل التي وفرتها بدون مقابل ربات البيوت والصيادلة وأصحاب المقاهي في محاولة للانتصار على سحابة الغاز البيضاء. عشرات الآلاف من المتظاهرين تمكنوا من كسر الحواجز الأمنية والوصول إلى مراكز المدن، بما في ذلك بالطبع ميدان التحرير. لكن المعارك استمرت. وكان هناك الآلاف من المصابين وسقط أول أربعة شهداء في السويس في نهاية اليوم الأول من معركة التحرير، اليوم الذي أشعل الثورة المصرية.
استمرت المظاهرات والمعارك خلال اليومين التاليين، لكن التركيز الأكبر كان على تنظيم "جمعة الغضب"، يوم 28 يناير. لم يقتصر التنظيم على النشطاء المعتادين وإنما انضم إليهم الآلاف من القادة الجدد، شباب المناطق الشعبية، الذين اكتسبوا وعيهم السياسي في خضم معارك الثورة الفعلية تغنيهم عن سنوات من التثقيف السياسي.
هذه المرة قرر الإخوان المسلمون المشاركة. ثم أعلن النظام حظر التجول من السادسة مساءا إلى السادسة صباحا في مناطق المعارك الأساسية في القاهرة والإسكندرية والسويس والمحلة وألقي القبض على المئات.
كان النظام يواجه أمرا لا يفهمه. لقد فقدت الجماهير عقلها. إنهم يطالبون بالعدالة والحرية ومستعدون للموت في سبيلها بمئات الآلاف. تبخر الخوف من التعذيب والسجن وحتى الموت مع سحب الغاز المسيل للدموع التي ملأت سماء المدن المصرية.
لكن الجماهير لم تفقد عقلها. الجماهير كانت تحارب أكثر المعارك منطقية للحصول على الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة. لقد كان النظام هو من فقد عقله. ارتعب وبدأ يفقد صلته بالواقع. قررت الحكومة قطع شبكات الانترنت والهواتف المحمولة بافتراض أن هذه الخطوة اليائسة سوف تمنع المنظمين الافتراضيين لهذه المظاهرات من استخدام أيا من تلك الوسائل ومن ثم تضعف قدرتهم على التعبئة لمظاهرات الجمعة.
يبدو أن النظام صدق دعايته الخاصة بان هذا ما هو إلا ثورة الفيسبوك. لكن تقديرهم كان خاطئا للغاية. ذلك أن قطع الاتصالات لم يكن له أي أثر على الإطلاق، حيث أن قادة ومنظمي هذه المرحلة من الثورة لم تكن لهم أي علاقة بالفيسبوك وكانوا يستخدمون طرقا أكثر تقليدية للتواصل. بل أن قطع الاتصالات أشعل حماس المتظاهرين بعد أن اعتبروا هذه الخطوة دليلا على يأس وضعف النظام.
بعد صلاة الجمعة بدأ مئات الآلاف مسيراتهم من كافة المساجد والميادين الكبرى متجهين إلى الميادين الرئيسية في المدن. ومرة أخرى ركز الأمن قوته على المناطق الحيوية في محاولة أخيرة لكسر الموجة العارمة ومنع الملايين من الوصول إلى الميادين الرئيسية.
في القاهرة دارت المعارك في جميع الشوارع الرئيسية وعلى الكباري الكبرى المؤدية إلى التحرير، وفي نفس الوقت كانت تدور المعارك المشابهة في الشوارع الرئيسية للسويس والمحلة والإسكندرية وعشرات المدن الأخرى. هذه الشجاعة والتصميم الرائع للجماهير ومظاهراتهم موثق في آلاف الفيديوهات على اليوتيوب والشهادات الشخصية التي سوف تمثل كنزا من المعلومات لمؤرخي الثورة المصرية وللثوار في كافة أنحاء العالم.
استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع كالمعتاد والرصاص المطاطي وخراطيم المياه، ومن يأسها أضافت الذخيرة الحية والقناصة بل وحتى المدرعات لقمع المتظاهرين. فاستشهد المئات وأصيب الآلاف. لكن الشرطة هزمت هزيمة نكراء في كافة أنحاء البلاد وتراجعت سريعا، حيث تم حرق الآلاف من سيارات الشرطة والمدرعات وأقسام الشرطة، ولاذ بالفرار ضباط الشرطة الذين كانوا في يوم من الأيام مصدر رعب للمصريين. كذلك أحرقت مباني الحزب الحاكم وكل رمز أو صورة أو إشارة للديكتاتور المكروه.
مئات الآلاف وصلوا ميدان التحرير وبدءوا احتلالهم الشهير للميدان الذي انتهى بسقوط مبارك يوم 11 فبراير. جاء الناس من كل مناحي الحياة، أغلبهم من فقراء المصريين، لكن أيضا الكثيرون من أبناء الطبقة الوسطى، نساء بالنقاب جنبا إلى جنب مع نساء يرتدين الجينز، مسلمين ملتحين جنبا إلى جنب مع المسيحيين: جميعهم بتصميم لا يلين على إسقاط النظام.
بحلول الليل اختفت الشرطة باستثناء القوات التي بقيت لحماية وزارة الداخلية، المقر الرئيسي لتعذيب المواطنين. وحاول الكثيرون من المتظاهرين اقتحام المبنى، لكن القناصة أطلقوا النيران مستهدفين القتل. وقد استشهد العشرات وأصيب المئات في هذه المحاولة.
خلال انسحابهم من الشوارع بدأ ضباط الشرطة في فتح السجون وإطلاق سراح آلاف الجنائيين لبث حالة من الفزع والفوضى بين السكان. لكن خطتهم باءت بالفشل. فقد تكونت اللجان الشعبية في كل مكان في البلاد لحماية الأحياء وتنظيم المرور بل وحتى تنظيف الشوارع. وهنا أصدر الرئيس أوامره للجيش بأن ينزل إلى المدن لقمع الانتفاضة وإعادة "النظام" بعد اختفاء الشرطة.
مساء جمعة الغضب، ألقى مبارك خطابه الأول، يدين فيه الحكومة ويتهمها بعدم الكفاءة ويعد بتعديل وزاري. لم يعتذر للشهداء والمصابين، ولم يذكر أيا من المطالب الشعبية. جاء صوته بارداً نائياً، كما لو كان يتحدث عن بلد آخر وشعب آخر مثله مثل الكثير من الديكتاتوريين من قبله، يبدو كأنه لم يصدق أو يفهم ما يحدث. لقد احتقر الشعب ولم يدرك أنه أصبح فعليا جزءا من الماضي.
ولم يكن رد فعل الجماهير غاضبا فحسب بل يبدو أنهم قرأوا ما وراء كلماته. فقد كان صوته وشكله مثل أثر عتيق. في اليوم التالي عين مبارك اثنين من جنرالاته، رئيس المخابرات اللواء عمر سليمان في منصب نائب الرئيس، وهو المنصب الذي ظل شاغرا طوال حكم مبارك، كما عين اللواء أحمد شفيق رئيسا للوزراء.
ولم يكن مبارك موفقا في اختياره، فقد اختار شخصيتين مكروهتين من الدوائر المحيطة به مباشرة. ذلك أن عمر سليمان المعروف باسم "مهندس تعذيب" لعب دورا جوهريا في برامج التسليم الاستثنائي حيث تم تصدير المعتقلين إلى مصر وبلاد عربية أخرى ليتم تعذيبهم بها، كما أنه معروف بتحالفه الوثيق مع إسرائيل في أثناء الحرب على غزة.
يوم الاثنين أقسمت الوزارة الجديدة اليمين وقد احتفظ الديكتاتور فيها بأغلب الوزراء المكروهين في الحكومة السابقة بما في ذلك وزراء الدفاع والاتصالات والعدل والبترول والخارجية. وأقيل حبيب العادلي مع عدد من رجال الأعمال الوزراء الذين كانوا ضمن شلة جمال مبارك. وقد شعرت الجماهير بالإهانة من سطحية التنازلات مما أدى إلى مزيد من الغضب والتصميم على الاستمرار.
قوبل دخول مدرعات الجيش إلى الشوارع والمداخل الرئيسية لميدان التحرير والمدن الأخرى في البداية بالغضب. لكن وبسرعة وتلقائية شديدتين اندفعت أعداد كبيرة من الجماهير نحو الجنود تقبلهم وتصعد على مدرعاتهم وترفع العلم المصري وتهتف بصوت عال: الجيش والشعب يد واحدة! وبسرعة كبيرة رسم الشباب شعارات مضادة لمبارك على الدبابات. لم يكن هذا، كما افترض الكثيرون، لحظة ارتباك بين الجماهير بشأن دور الجيش، رغم وجود درجة من الارتباك. بل كان تحييدا عبقريا وسريعا للقوات المسلحة في الميادين والشوارع، مما جعل من المستحيل تقريبا على الجنود وصغار الضباط أن يطلقوا النار على الجماهير، حتى لو صدرت لهم الأوامر بذلك. لقد شهدت ثورات سابقة استخدام مثل هذا التكتيك الجماهيري الذي استهدف خلق علاقة من التآخي مع الجنود وصغار الضباط.
قرر المتظاهرون مظاهرات مليونية في كل المدن الكبرى يوم الثلاثاء 1 فبراير. وكان رد فعل لواءات الجيش واحدا من أهم النقاط المفصلية في الثورة، حيث أعلن المتحدث باسم القوات المسلحة اللواء إسماعيل عتمان على التليفزيون أن الجيش يحترم المطالب الشرعية للشعب وأنه لن يطلق النار.
لقد أدرك جنرالات الجيش أن الأمر بالهجوم على الثوار سوف يقسم القوات المسلحة ويثير آلاف الجنود وصغار الضباط ضدهم. كان جنرالات الجيش على استعداد للتضحية بمبارك لإنقاذ النظام، الأمر الذي اعتمد في النهاية على قدرتهم على الحفاظ على سيطرتهم على القوات.
يوم الاثنين، 31 يناير، ألقى نائب الرئيس الجديد عمر سليمان كلمة قال فيها أن مبارك طلب منه فتح حوار مع كافة مجموعات المعارضة، ومطالبة القضاء بإلغاء نتائج الانتخابات المشكوك في صحتها في نوفمبر الماضي. لقد كان ذلك تراجعا تكتيكا من قبل النظام لكسب الوقت وإجهاد المتظاهرين.


الثلاثاء أول فبراير

لم ينجح تكتيك النظام. حيث شارك الملايين في الاحتجاجات في هذا اليوم بما في ذلك مليونين في ميدان التحرير، ومليون في ميدان الشهداء بالإسكندرية و750 ألف في المنصورة و250 ألف في السويس. لقد كان عرضا شعبيا غير مسبوق للقوة والوحدة. هذه المرة لم يطالب المتظاهرون بالعزل الفوري لمبارك فحسب بل بإسقاط النظام كله.
تحول ميدان التحرير إلى كومونة مقاومة و"مهرجان للمضطهدين". وشعر الناس بأنهم على وشك أن ينتصروا في هذه المعركة التاريخية. وامتلأ الميدان بالإبداعات الفردية والجماعية: الآلاف من اليافطات واللوحات تحمل مطالب الشعب مرة بالشعر وأخرى بالنكات وثالثة بالروايات الشخصية والرسومات. واختفت جدران المباني تحت رسوم الجرافيتي والشعارات.
لم يكن التحرير محتلا بالمعنى المادي فحسب وإنما بالمعني المعنوي أيضا. فقد اختفى التحرش بالنساء واختفت التوترات بين الأقباط والمسلمين وتقاسم المعتصمون الطعام والمياه والسجائر وامتلأ الجو بالأغاني والموسيقى والشعر والهتافات. كانت مصر جديدة تتكون في الميدان.
لكن العدو ما كان ليستسلم سريعا. فقد كانت الطبقة الحاكمة تتآمر بحذر وتسعى إلى وأد هذا المجتمع الجديد.
مساء الثلاثاء ألقى مبارك خطابه الثاني ردا على المظاهرات الحاشدة في ذلك اليوم، ووعد بأنه لن يترشح مرة أخرى بعد انتهاء فترة رئاسته الحالية، وأنه لن يرحل تحت ضغط. ويبدو أن مستشاريه قاموا بأداء أفضل هذه المرة حيث أنه أخذ يذكر بخدماته للبلد على مدى ست عقود كما تعهد بإحداث إصلاحات واسعة. واختتم بأنه لن يجدد ترشحه في سبتمبر وأنه سوف يموت في مصر.
كان للخطاب آثر مربك على قطاعات من الجماهير الأقل تسييسا، وبدأ البعض يتساءل عما إذا كان من الصواب إنهاء التظاهر. "فالرجل تقدم في السن وسوف يترك الحكم بعد بضعة شهور". لكن النظام كان يستخدم في نفس الوقت تكتيكا موازيا من خلال حملة إعلامية كثيفة تحدثت عن المؤامرات لنشر الفوضى وأزمات الغذاء وانهيار الاقتصاد وخلو البنوك من الأموال وأن المتظاهرين مأجورين لدى هيئات أجنبية وأن التحرير قد تحول إلى مكان لممارسة الجنس وتعاطي المخدرات والكحوليات الخ. وامتلأت شبكات التليفزيون والصحف الحكومية بكل القذارة التي طالما حاولتها الطبقات الحاكمة على مدى التاريخ لتشويه صورة الثوار. لكن الانقسام بين الجماهير لم يدم طويلا، ذلك أن النظام قد خطط لثورة مضادة، شيطانية وعنيفة في اليوم التالي.


الأربعاء 2 فبراير: موقعة الجمل

عدد من أصحاب المليارات البارزين وقيادات الحزب الوطني وضباط أمن الدولة يقودهم جمال مبارك وضعوا خطة لهجوم شرس وشامل على المتظاهرين. وتعهد كل رجل أعمال منهم بتجنيد الكثيرين من أتباعه من البلطجية المستعدين لفعل أي شيء مقابل المال. في نفس الوقت استدعى وزير الداخلية عددا من أشرس ضباط أمن الدولة للانضمام لمظاهرات الثورة المضادة المزمع تنظيمها يوم الأربعاء في إطار خطة محكمة للهجوم على المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية.
أكثر من عشر ضباط أمن دولة قاموا بدورهم بتجنيد سجناء سابقين ممن هربوا من السجون يوم 29 يناير واعدين إياهم بالمال والعفو الرئاسي من التهم الموجهة لهم. وقد وضعت الخطة لتنفذ في القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد ودمنهور وأسيوط ومدن أخرى.
لم يكن هذا التجنيد للبلطجية جديدا على الثورة المضادة، فقد وصف كارل ماركس كيف أن لويس بونابرت استخدم نفس التكتيك بعد ثورة 1848 في فرنسا في بناء جمعية ١٠ ديسمبر لقمع وإرهاب الثوار:
"ما بين بلطجية مرتزقة وقطاعات محطمة ومغامرة من أتباع البورجوازية ومتشردين وجنود مسرحين وسجناء مفرج عنهم وعبيد هاربين ونصابين ونشالين ومقامرين وقوادين وأصحاب بيوت دعارة وبوابين ومتسولين.. الخ، باختصار الكتلة غير المحددة والمتحللة المتناثرة هنا وهناك التي يطلق عليها الفرنسيين اسم "البوهيميين"؛ ومن هؤلاء أسس بونابرت قلب جمعية 10 ديسمبر."
كما أن استخدام هذه العناصر لم يكن جديدا في مصر أيضا. فقد استخدم التكتيك نفسه في تزوير الانتخابات وترهيب الناخبين والهجوم على المتظاهرين، خاصة أثناء العقد الأخير من حكم مبارك.
حوالي الساعة الثانية بعد الظهر يوم الأربعاء الموافق 2 فبراير بدأ تنفيذ خطة الهجوم. أكثر من 3000 بلطجي هاجموا الاعتصام من مدخلين من مداخل ميدان التحرير، وألقوا الحجارة والطوب على عشرات الآلاف من المتظاهرين السلميين المتجمعين في التحرير،على حين حمل غالبية المهاجمين دروعا لتحميهم من الحجارة التي ردها المتظاهرون عليهم. وعلى حين كان بعض البلطجية مسلحين بالبنادق، كانوا جميعا مسلحين بالشوم والمناجل والأمواس والسكاكين وأدوات حادة أخرى.
بعد حوالي ساعة من تبادل إلقاء الحجارة انتقل المهاجمون إلى المرحلة الثانية من الخطة وإذا بعشرات الأحصنة والجمال تهاجم المتظاهرين في مشهد يستدعي إلى الأذهان معارك القرون الوسطى. وبعد لحظات من الهرج والارتباك تصدى المتظاهرون للهجوم بأياديهم العارية وألقوا بأجسادهم على البلطجية فوق الجمال والأحصنة.
اندلعت المعارك عند كل مداخل الميدان، وبسرعة نظم المتظاهرون أنفسهم في خطوط دفاعية سميكة، وبدأ جمع الحجارة والطوب من كل أنحاء الميدان لصد الهجوم. كانت الدماء تسيل في كل مكان. كان المصابون في الخطوط الأولى ينقلون سريعا إلى المستشفيات الميدانية التي نظمها الأطباء والممرضون المتطوعون، وسريعا كان المصابون يستبدلون بمدافعين جدد.
نجح المتظاهرون في صد البلطجية، لكن الجميع كان يدرك أن هذا ليس سوى البداية. وبسرعة رهيبة تم بناء المتاريس عند كل مداخل الميدان تحضيرا للمعارك القادمة. وقد لعبت مجموعات الشباب الأكثر تنظيما، خاصة شباب الإخوان المسلمين، دورا محوريا في التحضير للمعركة وتنظيمها في مواجهة البلطجية.
جاء الهجوم المتوقع التالي في المساء حين تجمع الآلاف من البلطجية ورجال الشرطة بملابس مدنية والقناصة عند مدخل الميدان الأقرب إلى المتحف المصري وفوق أسطح العديد من البنايات، حيث سمح لهم الموقع المرتفع للكوبري وفوق البنايات بميزة تكتيكية للهجوم على المتظاهرين الذين قاموا بدعم المتاريس بسيارات الشرطة المحروقة وآلاف المقاتلين المستعدين للمعركة.
كان تقسيم العمل رائعا. الشباب الأقوى، خاصة من شباب الطبقات الشعبية، اتخذوا أماكنهم في الخطوط الأولى كقاذفي حجارة. آخرون كانوا يكسرون الرصيف ليوفروا مددا مستمرا من الحجارة للمقاتلين، يحملها فريق آخر للصفوف الأولى، على حين قامت النساء بإمداد المقاتلين بالماء طوال تلك الليلة الرهيبة والبطولية.
بدأ البلطجية هجومهم بتكثيف إلقاء الحجارة وزجاجات الصودا الخالية وقنابل المولوتوف. يبدو أن جزءا من الخطة كان يتضمن بدء الحرائق في المتحف المصري في محاولة لحرقة واتهام المتظاهرين بذلك – مثال جيد ودقيق على بربرية البورجوازية حين تتعرض للتهديد. احرقوا الفراعنة القدامى لإنقاذ فراعنة اليوم! لكن المتظاهرين نظموا المجموعات لحماية المتحف وقاموا بإطفاء الحرائق لحظة اشتعالها.
مئات المقاتلين في الصفوف الأولى اندفعوا في اتجاه بلطجية مبارك، تجاوزوا المتاريس وأصبحوا مكشوفين تماما أمام العدو، لكنهم استخدموا كل ما في عزمهم من قوة لمهاجمتهم بالحجارة. أصيب العشرات، فكانوا يحملون بعيدا عن منطقة الالتحام ليحل محلهم العشرات فورا. لقد أثبتت الأحداث أن فكرة الهجوم فيما وراء المتاريس، رغم ما تحمله من مخاطر، كانت ضربا من العبقرية الجماعية. فقد كانت بمثابة حرب نفسية لإرباك البلطجية، حيث أوضحت أن الثوار مستعدون للموت دفاعا عن قضيتهم. ما من قوى مرتزقة يمكنها أن تواجه هذه الروح على المدى الطويل.
بدأ القناصة في تصويب بنادق الليزر على المتظاهرين، الذين قفز العشرات منهم على المتاريس ليستقبلوا الرصاص بصدورهم. لقد كان هؤلاء مقاتلين أشاوس، هدفهم واضح ورسالتهم واضحة: إما النصر أو الشهادة!
في هذه الليلة استشهد عشرات المناضلين، وقام رفاقهم بحمل أجسادهم بفخر وتصميم إلى المستشفيات الميدانية. وأصيب الآلاف، وعمل الأطباء والتمريض طوال الليل في علاج الجروح وتهدئة المصابين. ومن بين هؤلاء مئات المصابين الذين ما أن تضمد جراحهم حتى يعودوا إلى الصفوف الأولى لاستكمال المعركة.
في نفس الوقت كانت معركة أخرى تدور فوق أسطح البنايات، بعضها احتله البلطجية وبعضها الثوار، وكانت الحرائق مشتعلة في كل مكان. مصنع صغير لكن فعال لعمل قنابل المولوتوف تأسس إلى جانب أحد المتاريس للرد على النار بالنار. البعض كان يأتي بالوقود والبعض الآخر كان يأتي بالزجاجات الفارغة والبعض الثالث يملؤها ويضعها الواحدة فوق الأخرى قبل أن يأتي فريق رابع ليحملها إلى الصفوف الأولى وإلى أسطح البنايات المحررة. بحلول الفجر انتصر الثوار وهرب البلطجية والشرطة. كانوا يجرون خوفا على حياتهم بعد أن وصل الثوار إلى الكوبري والتقاطعات خارج الميدان، وبعد أن تمكنوا من القبض على المئات، الذين نقلوا إلى الميدان وتعرضوا للضرب، وكذلك للحماية من المتظاهرين الذين أرادوا إعدامهم فورا. شيد الثوار سجنا ميدانيا ووضعوا فيه البلطجية المحتجزين، الذين اتضح أن اغلبهم يحملون بطاقات شرطة أو عضوية حزب وطني.
انتعشت الثورة بسبب تلك المعارك والانتصار فيها. وشعر من كان مرتبكا بعد خطاب مبارك بالغضب الشديد، فقد اتضح ان الخطاب لم يكن سوى خدعة تحضيرا للهجوم القاتل المزمع في اليوم التالي. كذلك انكشف دور الجيش المتواطئ للكثيرين، فقد بدا أي حديث عن حماية الجيش للثورة خاليا من أي مضمون في هذه اللحظة.
قبل بداية الهجوم بساعة أعلن الجيش للمتظاهرين على التليفزيون الرسمي أن "الرسالة وصلت" الحكومة، وناشدوا المتظاهرين إنهاء مظاهراتهم "والعودة للمنزل". لكن حين ناشد المتظاهرون وحدات الجيش أن تتدخل لحمايتهم أثناء الهجوم الوحشي الذي استمر 16 ساعة أعلن الجيش انه على الحياد، بل وانسحب من عند بعض المداخل رغم وعوده بحماية المتظاهرين المسالمين العزل.
مع بدايات اليوم التالي انضم مئات الآلاف من المصريين إلى زملائهم المتظاهرين لكي يعبروا عن دعمهم وتضامنهم. كان الاعتصام قد أعلن عن مظاهرات حاشدة يوم الجمعة التالية في كافة أنحاء مصر بعد صلاة الجمعة وأطلقوا علي اليوم "جمعة الرحيل" في إشارة إلى أملهم إجبار مبارك إما على الاستقالة أو ترك البلاد.
في وقت سابق كان عمر سليمان قد دعا إلى حوار وطني مع قوى المعارضة. والغريب في الأمر أن هذا الحوار قد تم فعليا يوم الأحد الموافق 6 فبراير، ولم يضم المعارضة الأليفة والمخلصة المكونة من رموز فاقدة لمصداقيتها من حزب التجمع، المفترض انه يساري وحزب الوفد فحسب، وإنما أيضا عددا من قيادات الإخوان المسلمين ونجيب سويرس، وبعض أعضاء ائتلافات الشباب، الذين لم ير أو يسمع أحد عن بعضهم من قبل، إضافة إلى البعض الذين وقع في فخ سليمان.
انعقد الاجتماع في قاعة حكومية ضخمة على جدرانها صورة ضخمة لحسني مبارك. وبالطبع حظا "الحوار" بتغطية إعلامية واسعة، لكن الشوارع والميادين كانت قد تجاوزت ألاعيب النظام بكثير، وعبر المتظاهرون عن غضبهم من رموز المعارضة التي شاركت في المحادثات، وقام شباب الإخوان بالهجوم الصريح على قيادتهم التي اتخذت قرارا اعتبروه خيانة للثورة والشهداء.
في نهاية الاجتماع أصدر النظام بيانا شكر فيه مبارك وأعاد سرد رواية النظام وتحليله للأحداث وادعى، عن غير حق، أن جميع المشاركين وافقوا على خريطة طريق لإيجاد حل "للأزمة"، التي قيل أنها نتيجة لمحدودية الإصلاحات الدستورية وفساد الانتخابات، مع الإبقاء على كافة مؤسسات الدولة ورموزها بما في ذلك البرلمان المزور. لم يعد البيان حتى بالرفع الفوري لحالة الطوارئ. ومن المفارقات أن يتحدث عمر سليمان بعد ذلك اللقاء بيوم على التليفزيون الرسمي فيقول أن "مصر ليست جاهزة للديمقراطية."
تحت ضغط من شبابها أعلنت قيادة الإخوان المسلمين فشل المحادثات وان سليمان لم يقدم أي شيء ذا أهمية. لكن صورة القيادة كانت اهتزت بين شبابها وزاد الشعور بفقدان الثقة فيها، متسببا في حالة من الغضب بين شباب الإخوان.
كان التوتر يزداد بين المتظاهرين بحثا عن تكتيك جديد. يوم الثلاثاء، 8 فبراير، نظم مئات الآلاف مظاهرات حاشدة أحاطت بمجلس الوزراء ومنعت رئيس الوزراء من الوصول إلى مكتبه. كما توجهت المظاهرات إلى البرلمان فأغلقته، ومنعت أي عضو برلماني من الدخول أو الخروج، واقسموا أنهم عن قريب سوف يحاصرون القصر الرئاسي. وقد شهدت المباني الحكومية في الإسكندرية تجمعات شبيهة حاصرت المداخل والمخارج.


العمال في الانتفاضة

طوال هذه الأحداث التاريخية تواجدت الطبقة العاملة بكثافة في أرض المعركة، وزادت مشاركتها في كل يوم عن سابقه. لكنهم شاركوا، ليس بشكل منظم كنقابات أو ممثلين لأماكن عمل، وإنما كأفراد. بالطبع سوف يعطي الإعلام صورة مختلفة عن الوضع. ذلك أن نجوم المقابلات الإعلامية كانوا جميعا من "ثوار" الطبقة المتوسطة المتعلمة الحاصلين على درجات جامعية والمنتمين لائتلاف أو آخر، يتحدثون بفخر باعتبارهم أبطال الثورة.
لكن الأسبوع الأخير من الانتفاضة شهد موجة من الإضرابات والتظاهرات العمالية في أهم القطاعات الصناعية، انتشرت كالنار في الهشيم، تحمل مطالب اقتصادية ومطلب الثورة الرئيسي بسقوط مبارك. وكانت القيادة في هذا الأمر لمحافظة السويس التي خاضت واحدة من أعنف المعارك ضد الشرطة يوم جمعة الغضب.
وفي يوم الثلاثاء، 8 فبراير، في حين ما كان ثوار التحرير يحاصرون البرلمان ومجلس الوزراء، أضرب أكثر من 6000 عامل بقناة السويس منضمين لعمال النسيج والحديد والصلب. وفي اليوم التالي نظم عمال البترول الاحتجاجات مطالبين برفع الأجور وضمانات العمل. ثم انتشرت الإضرابات سريعا في كل المدن الكبيرة والعديد من المدن الصغيرة فضمت عمال النقل العام وعمال النسيج والموظفين والعاملين الصحيين. وبحلول يوم الخميس 10 فبراير كانت الإضرابات قد امتدت من الإسكندرية في الشمال إلى أسوان في الجنوب. حتى المصانع الحربية، حيث يعمل العمال في ظل قوانين عسكرية صارمة، كانت مشتعلة بالإضرابات.
في أغلب أماكن العمل تشجع المضربون بانتفاضة الجماهير، فرفعوا من جديد مطالبهم الاقتصادية التي طالما ناضلوا من أجلها. لكنهم في بعض القطاعات الحيوية ذهبوا إلى ابعد من ذلك من خلال المواجهة المباشرة للديكتاتورية مطالبين بسقوط النظام. فقد أصدر عمال النقل العام بالقاهرة بيانا يوم 9 فبراير أعلنوا فيه عن تضامنهم الكامل مع أهداف الثورة وقاموا بتوزيعه في التحرير. وفي اليوم التالي أغلق المضربون الجراجات في كافة أنحاء المدينة.
حتى مجلة نيويورك تايمز اضطرت إلى الاعتراف بالدور الهام لتدخل الطبقة العاملة في تغيير صورة مصر بعد مبارك فقد كتبت بعد أيام من سقوطه:
"الاضطرابات العمالية هذا الأسبوع في مصانع النسيج وشركات الأدوية والصناعات الكيماوية ومطار القاهرة وقطاع النقل والبنوك برزت كأهم العناصر في بلد يمر بمرحة انتقالية بقيادة العسكر بعد 18 يوما من انتفاضة شعبية أنهت ثلاثة عقود من حكم مبارك".


نهاية مبارك

أصبح من الواضح لجنرالات الجيش والإدارة الأمريكية والطبقة الرأسمالية الحاكمة في مصر أن عليهم الإسراع بالتخلص من مبارك. فأعلن الإعلام أن مبارك سوف يلقي خطابا ثالثا في تلك الليلة، وانتظر الناس لساعات تأجل فيها بث الخطاب أكثر من مرة، وتتالت التصريحات من ضباط الجيش وقيادات الإخوان المسلمين والإدارة الأمريكية تشير إلى أن اللعبة على وشك أن تنتهي، وأن مبارك سوف يعلن استقالته. مع ذلك انتظرت الجماهير بكثير من الحذر. فبعد ثلاثة عقود من الكذب والخداع فقدت الجماهير الثقة في كل ما يصدر عن هذا النظام.
ألقى مبارك خطابه القصير في تلك الليلة وأعلن أنه باق إلى حين انتهاء مدة رئاسته وأنه يفوض عمر سليمان في ما له من صلاحيات. واندلع الغضب غير المسبوق بسبب هذا الخطاب المتعالي، وارتفعت آلاف الأحذية في الهواء مؤكدة استمرار الثورة.
كانت مظاهرات 11 فبراير بكل المقاييس هي الأقوى والأكثر اتساعا، حيث شارك أكثر من 15 مليون شخص في تلك المظاهرات في كل أنحاء البلاد وخرج العمال هذه المرة في مظاهرات منظمة انطلقت من اماكن العمل، مهددة بإصابة البلاد بالشلل إن لم يتنحى مبارك.
بنهاية ذلك اليوم تحقق أخيرا مطلب الجماهير وألقى عمر سليمان كلمته التي استمرت لعشرين ثانية، حين ظهر على التليفزيون الرسمي ليعلن استقالة مبارك من المنصب الذي احتله لثلاثين عاما، وأنه نقل سلطاته إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
انتصرت الثورة إذا في جولتها الأولى بعد استشهاد الآلاف وإصابة عشرات الآلاف. لكن مبارك كان قد ألقي به في مزبلة التاريخ. واحتفل المصريون في الميادين والشوارع مثلما لم يحتفلوا من قبل في تاريخ مصر المعاصر.
 
الجنرالات في السلطة والفترة الانتقالية

"الجيش دائما ما يكون نسخة من المجتمع الذي يخدمه، مع فارق أنه يكثف العلاقات الاجتماعية، كما يكثف إلى أقصى درجة من خصائصها الايجابية والسلبية"
ليون تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية.
لن نختلف أن الجنرالات والقادة الميدانيين في أي جيش هم أحد العناصر الأساسية في أي طبقة حاكمة، ومصر ليست استثناءا عن ذلك. فقيادات الجيش تربطهم آلاف الخيوط الذهبية بأصحاب الملايين ومسئولي الدولة الذين حكموا البلاد لعقود. وجميع أعضاء المجلس العسكري للقوات المسلحة هم رجال مختارون بدقة من قبل الديكتاتور المخلوع. فالمشير طنطاوي الذي يرأس المجلس كان وزير حربية مبارك منذ عام 1991، وولائه لمبارك مطلق، كما أنه كان أحد مستشاري وحلفاء مبارك المقربين.
كذلك تمثل المؤسسة العسكرية المصرية إمبراطورية عسكرية تسيطر على ما يقرب من 20% من الاقتصاد المصري، حيث تملك مساحات هائلة من الأراضي الزراعية والعقارات، إضافة إلى مؤسسات صناعية ضخمة تنتج كل شيء بداية من السلاح حتى الغسالات الكهربائية وتملك شركات السياحة والشركات التجارية وغيرها. هذه المؤسسة الاقتصادية ليست محصنة ضد الفساد الذي استشرى في كافة مؤسسات الدولة في فترة حكم مبارك، بل أن السرية التي تحمي ميزانية الجيش وماليته قد تجعله من أكثر المؤسسات فسادا.
كذلك ترتبط المؤسسة العسكرية ارتباطا وثيقا بالمؤسسة العسكرية الأمريكية حيث تحصل سنويا على ما يقرب من 1.3 مليون دولار أمريكي، وتشارك في تدريبات مشتركة منتظمة مع الجيش والبحرية الأمريكية. كما أن كل التدريبات الخاصة لضباط القوات المسلحة الأمريكية تتم في الولايات المتحدة الأمريكية، وكل السلاح المتطور الذي يملكه الجيش المصري مصنوع في الولايات المتحدة.
هذا على مستوى الجنرالات. أما على مستوى الجنود وصغار الضباط فهم غالبا مجندون من أصول عمالية أو فلاحية أو من الشرائح السفلى من الطبقة المتوسطة. الجنرالات يتحكمون في الجيش من خلال ضبط وربط صارم يتضمن العقوبات القاسية والإهانات والفصل الكامل ما بين طبقة الضباط المعينين وبين المجندين فيما يتعلق بطبيعة الغذاء وأماكن الإقامة بل وحتى المراحيض.
لم يكن قرار قيادة الجيش بعدم الهجوم على الثوار أثناء الثورة، كما ذكرنا من قبل، مؤشرا لتأييدها للثورة بأي درجة من الدرجات، وإنما كانت القيادة تدرك أن مثل هذه الأوامر سوف تشق الجيش. لقد ضحت قيادة الجيش بمبارك كي تنقذ النظام.
هناك خلط متعمد بين قيادات الجيش، وهم جزء لا يتجزأ من النظام البائد بمصالحه وفساده، وبين الجيش الذي يقوم بحماية الوطن، وكأن من ينتقد أو يفضح قيادات الجيش يضعف من قدرة الجيش على حماية الوطن. واقع الأمر أن العكس هو الصحيح. فإذا كنا نريد جيشاً يحمي الوطن والثورة فنحن في أمس احتياج لثورة في الجيش تطيح بقياداته المباركية الفاسدة والعميلة وتحوله إلى أداة في يد الجماهير الثائرة من خلال تحالف قوي بين الجنود وصغار الضباط وبين جماهير الثورة المصرية.
حين أُجبر المجلس العسكري على إزاحة مبارك من الصورة واستلام السلطة مباشرة، كان يدرك أن عليه أن يتحرك بحذر شديد بين تقديم التنازلات للجماهير من ناحية وبين حماية مصالح الطبقة الحاكمة، التي لم تمس، من ناحية أخرى. وكان يدرك أن تلك ليست بالمهمة السهلة.

التنازلات،محاولات الإكراه وضغط الجماهير

يوم 13 فبراير اتخذ المجلس العسكري قرارا بحل البرلمان وتجميد العمل بالدستور لكنه احتفظ بالحكومة المكروهة التي عينها مبارك، ووعد بالتحقيق في جرائم الشرطة ضد الشعب ومؤامرات وفساد النظام القديم. وفي 17 فبراير تم إلقاء القبض على حبيب العادلي ومساعديه، وفي نفس اليوم ألقي القبض أيضا على ثلاث وزراء من أصحاب البلايين هم أحمد المغربي وزهير جرانه وأحمد عز، إمبراطور الصلب وأمين التنظيم في الحزب الوطني. لكن المجلس العسكري استمر في المماطلة فيما يتعلق بمبارك وأسرته و"رجال الرئيس" الحقيقيين، أي دوائر الوزراء وكبار المسئولين الذين اعتمد عليهم الرئيس المخلوع خلال سنوات حكمه.
ومن جديد اندلعت المظاهرات يوم الجمعة 18 فبراير احتفالا بالانتصار الكبير وخلع مبارك وأيضا للمطالبة بتغيير الحكومة ومحاكمة الرئيس ورجاله.
في نفس الوقت قام المجلس الأعلى بتعيين هيئة من القضاة لوضع مشروع للتعديلات الدستورية تحضيرا لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية وانتخاب هيئة دستورية، على أن تعرض التعديلات للاستفتاء الشعبي يوم 19 مارس. وكانت اللجنة برئاسة المستشار طارق البشري المعروف بتعاطفه مع الإخوان المسلمين، كما ضمت في هيئتها أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المحافظين.
الحكومة الجديدة

"(لا يجوز لسياسات أي حكومة ثورية أبدا أن تغضب أي طرف كان بدون مبرر). ذلك كان، في نهاية الأمر، المبدأ الحاكم في اختيار الحكومة الانتقالية التي كان جل ما تخشاه أن تغضب أحدا من دوائر الطبقات المالكة"
ليون تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية.
فيما يتعلق بالمشاكل الجوهرية والأساسية الأكثر تأثيرا على حياة المواطنين، بدا وكأن الثورة قد قامت فقط لكي تبقي كل شيء على ما كان عليه.
لقد كان إسقاط حكومة أحمد شفيق التي عينها مبارك أحد أهم مطالب المظاهرات التي استمرت كل يوم جمعة. وفى يوم 3 مارس 2011 خضع المجلس العسكري لمطالب الجماهير وعين عصام شرف رئيسا للوزراء وأمره بتشكيل الحكومة الانتقالية. لكن شرف لم يحتفظ بعدد ممن عينهم مبارك فحسب، بل أضاف آخرين من بين كبار رجال الأعمال أو المرتبطين بشكل أو بآخر بالنظام القديم. وبالتالي فقد استمرت المبادرات الثورية.
في يومي الرابع والخامس من مارس اقتحم شباب المتظاهرين مقار أمن الدولة البغيضة التي كانت على مدى عقود مراكز لأبشع أنواع التعذيب والاعتقال والقتل. بدأت المبادرة في الإسكندرية وفي خلال ساعات تم اقتحام العشرات من تلك المقار الكريهة في كافة أنحاء البلاد. وما وجده المتظاهرون في هذه المقار، التي أخليت بسرعة شديدة، كان مذهلا: أطنان من الوثائق والفيديوهات وتسجيلات التحقيقات وتقارير عن كل حركة لعشرات الآلاف من النشطاء السياسيين. ورغم محاولة الضباط تدمير الكثير من الأدلة من خلال حرق وتقطيع المستندات إلا أنه لم يتوفر لديهم الوقت الكاف لإتمام المهمة.
العديد من المتظاهرين سبق لهم دخول هذه المباني، معصوبي الأعين، مقيدي اليدين، حيث تعرضوا للتعذيب والإهانات والصعق الكهربائي والاغتصاب وهم يسمعون الصراخ الرهيب لآخرين يتعرضون للتعذيب. لكنهم في ذلك اليوم دخلوا هذه المقار كفاتحين، فقد هرب جلادوهم وتركوا وراءهم سجلا من جرائمهم ضد الشعب المصري وضد الإنسانية. وفي يوم 15 مارس أجبر المجلس العسكري على الاستجابة لمطلب الجماهير بحل جهاز أمن الدولة.
ضمن أول التصريحات التي أطلقتها الحكومة الانتقالية الجديدة كان تصريحها بأنه لا تغيير في السياسات الاقتصادية للحكومة التي سوف تتمسك بسياسات السوق الحر. وكان المجلس العسكري في إعلان سابق قد أعلن أن الحكومة تبقى ملتزمة بكافة الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها وأنها تبقى حليفا وصديقا للولايات المتحدة.
يوم 23 مارس أصدرت الحكومة قانونا يجرم الإضرابات والاعتصامات التي تعطل أداء المؤسسات والخدمات، سواء كانت خاصة أو عامة، ونص القانون على عقوبة خرق هذا القانون بالسجن لمدة عام وغرامة قدرها خمسمائة ألف جنيها مصريا!
رغم ذلك، استمرت الإضرابات "في تعطيل عمل المؤسسات". في البداية لم تحاول الحكومة أو المجلس العسكري وضع القانون محل التطبيق. لكنهما، بالاشتراك مع البورجوازية والإعلام الحكومي والصحافة الرسمية والمعلقين الليبراليين والإسلاميين، اجتمعوا فيما يشبه حملة دعاية إعلامية ضد إضرابات العمال، فوصفوا مطالبهم بالمطالب الفئوية الضيقة والأنانية، والتي لا تأخذ في اعتبارها مصالح الأمة ككل. واستمرت الحملة تنعت العمال بأنهم مصدر ضرر للاقتصاد ومن ثم لمشروع إعادة بناء مصر، وأن ثورة 25 يناير كانت ثورة كل المصريين الشرفاء: الرأسماليين والعمال، الأثرياء والفقراء، وحتى إن كان الفقراء محقين في مطالبهم فعليهم أن يكونوا أكثر صبرا. عليهم أن ينتظروا حتى الانتهاء من المرحلة الانتقالية.
باختصار، بدأ يتكون توافق طبقي معاد للطبقة العاملة بين هذا التحالف البورجوازي الجديد حيث العمال المضربون "يتسببون في الفوضى ويهددون الانتقال السلمي للسلطة". بل أن البعض وصف الإضرابات العمالية بأنها ضمن عناصر الثورة المضادة التي يجب إيقافها فورا، حتى أن شرف، في أحد خطبه، شبهها بهجمات البلطجية.
استمرت الحملة الدعائية مدعومة بآلاف المقالات والبرامج الحوارية على التليفزيون والبيانات العسكرية والمقابلات مع الوزراء، وكلها تتحدث عن المرحلة الجديدة من الثورة التي تحتاج إلى "تدوير عجلة الإنتاج" التي يبدو أن العمال يريدون إيقافها. حتى أن لسان حال البورجوازية المصرية ومثقفيها كاد يوجه رسالة للطبقة العاملة مفادها: شكرا جزيلا، لقد ساعدتم في الإطاحة بمبارك والآن عودوا إلى العمل واصمتوا.
لكن العمال والفقراء رفضوا الرسالة. فقد استمرت الإضرابات والاعتصامات وقطع طرق السكة الحديد والمظاهرات أمام الوزارات بدون انقطاع.
بالطبع لم يكن المستهدف من هذه الرسالة تهديد العمال فحسب، بل كانت أيضا صرخة تعبوية للطبقة الوسطى. ذلك أن الحديث المستمر عن الفوضى والانهيار الاقتصادي في لحظة أزمة اقتصادية حقيقية هو فعليا أمر مفزع لأعداد كبيرة من صغار رجال الأعمال والبورجوازية الصغيرة التقليدية والحرفيين والفلاحين المالكين لقطع صغيرة من الأرض والذين أصبحوا غير قادرين على بيع منتجاتهم. لكن تحويل اللوم من الأزمة الاقتصادية وسياسات الليبرالية الجديدة، الأسباب الحقيقية لهذا البؤس، إلى العمال لم يكن محاولة لتحويل مسار الغضب الموجه ضد الحكومة فحسب، بل كان أيضا تحضيرا لبناء التحالفات الضرورية للمواجهة مع الطبقة العاملة في المستقبل.
شهر أبريل كان شهر الضغط من أسفل، حيث شهد تنازلات هامة من المجلس العسكري الحاكم، لكنه شهد أيضا تزايدا في القمع بواسطة الشرطة العسكرية، حيث أصبحت مماطلة المجلس العسكري في اعتقال ومحاكمة الرئيس السابق ومعاونيه مصدرا للقلق وأمرا غير مقبول للجماهير الثائرة. وبعد شهر العسل القصير بين الشعب والمجلس العسكري، الذي اعتبروه لفترة حامي الثورة، بدأت علامات الاستفهام تثار حول أداء المجلس وعلاقته بالثورة.
وفي يوم الجمعة، الموافق 1 أبريل، اندلعت مرة أخرى المظاهرات الحاشدة في ميدان التحرير والإسكندرية والسويس والمدن الكبرى الأخرى فيما عرف "بجمعة إنقاذ الثورة". وطالب المتظاهرون بحل الحزب الوطني والإسراع في تحقيقات الفساد وتقديم مبارك وابنيه وكبار مسئوليه للمحاكمة.
ويوم 8 أبريل اجتمع مئات الآلاف في ميدان التحرير في "جمعة التطهير والمحاكمة" فيما تطور ليصبح يوم المواجهة الأولى الكبرى بين المتظاهرين والشرطة العسكرية، حيث شارك في المظاهرات عدد من ضباط الجيش بملابسهم الرسمية وهتفوا ضد المشير طنطاوي وضد الفساد في الجيش وبدأ عدة آلاف من المتظاهرين، بما فيهم الضباط، اعتصاما في وسط الميدان، مقررين استمرار التظاهر خلال فترة الليل. لكن المجلس العسكري لم يتحمل هذا الشعور بالأخوة بين المتظاهرين والضباط ولا هذه الشعارات الجديدة ضد المجلس العسكري، فأعطيت الأوامر للشرطة العسكرية بفض الاعتصام بالعنف، وأطلقت الذخيرة الحية على الجماهير، فتسببت في مقتل شخص واحد على الأقل وإصابة العشرات، وألقي القبض على جميع الضباط المشاركين في الاعتصام.
بدأ الجيش إذا في استخدام المزيد والمزيد من القمع في محاولة لاحتواء الحركات الاحتجاجية. في جامعة القاهرة اقتحمت الشرطة العسكرية الحرم الجماعي، في سابقة هي الأولى من نوعها، لفض اعتصام طلاب كلية الإعلام وألقي القبض على مئات النشطاء في كافة أنحاء البلاد وتعرض الكثيرون منهم للتعذيب ووصل عدد المدنيين المقدمين للمحاكمات العسكرية حوالي عشرة آلاف. ولم تستثن الإجراءات القمعية عددا من المتظاهرات اللاتي تعرضن لكشف على عذريتهن بعد اعتقالهن بواسطة الجيش، فكان هذا الأداء تذكيرا بأن منهج الشرطة العسكرية لا يختلف عن منهج أمن الدولة.
في مواجهة اشتعال الغضب كان على المجلس العسكري أن يقدم بعض التنازلات لإحكام سيطرته على الموقف. لذلك فقد ألقي القبض على زكريا عزمي، كبير مستشاري الرئيس يوم 7 أبريل، وتلا ذلك القبض على أحمد نظيف (10 أبريل) وصفوت الشريف (11 أبريل) وفتحي سرور (13 أبريل). وفي نفس اليوم صدر الأمر بالقبض على مبارك وابنيه جمال وعلاء، حيث تم نقل الاثنين إلى سجن طره، على حين نقل مبارك إلى مستشفى شرم الشيخ تحت دعوى إصابته بنوبة قلبية.
مخاطر الثورة المضادة

مثلما هو الحال في أي ثورة لا يتوانى من فقدوا السلطة على عمل أي شيء كي يستعيدوها. وبالتالي فقد عكفت فلول الحزب الوطني وجهاز أمن الدولة وكبار رجال الأعمال المرتبطين بهما على المحاولة تلو الأخرى من أجل تجريد الثورة من مكتسباتها، فاستخدموا البلطجية في ترهيب المواطنين وخلق حالة من الفزع وعدم الأمان التي لازالت مستمرة حتى الآن. واستمرت الشرطة فيما بدا وكأنه إضراب غير معلن عن العمل، بسبب خوفهم من ناحية ومن ناحية أخرى لمضاعفة الشعور بانعدام الأمن في شوارع مصر. وكان أخطر مظاهر هذه الثورة المضادة الصعود السريع للجماعات السلفية التي بدأت تستهدف الأقباط.
يقول مصطفى عمر في واحدة من أهم مقالاته عن الثورة:
"بدءا من أوائل مارس، في قرية أطفيح، جنوب القاهرة، قامت مجموعة من السلفيين مع بضع فقراء الحضر المهمشين بحرق كنيسة تحت دعوى وجود علاقة بين رجل مسيحي وامرأة مسلمة. وفي أبريل شهدت محافظة قنا، حيث أغلبية السكان من الأقباط، عصيانا مدنيا نظمه السلفيون احتجاجا على تعيين محافظ جديد قبطي. واقع الأمر أن الكثير من الأقباط والمسلمين احتجوا على تعيين عماد ميخائيل بسبب تاريخه الحافل بالبطش كضابط أمن دولة سابق، لكن السلفيين عملوا على تحويل هذا الغضب على أساس ديني اعتراضا على ديانة المحافظ. وفي أوائل مايو حدث هجوم سلفي آخر على كنيسة في امبابه، بعد أن شنوا حملة تعبئة ضد الأقباط تحت دعوى أن القساوسة يحتجزون امرأة مسيحية متزوجة من رجل مسلم ضد إرادتها في الكنيسة. وحين تبادل المسلمون والأقباط إطلاق النار في امبابه على مدى ساعات، مما تسبب في مقتل 11 شخصا على الأقل، وقف ضباط الجيش والشرطة يتابعون الموقف دون تدخل. وما كانت حملة الكراهية ضد المسيحيين لتتوقف لولا حركة الاحتجاج القوية التي نظمها مسلمون ومسيحيون ضد حرق الكنيسة مما غل يد السلفيين بعض الشيء.
الثورة المضادة لم تنجح حتى الآن في تفريق أو إحباط الثورة المصرية. مع ذلك، لابد من الحذر الثوري. فمن يريدون الانتقام من الثورة لن يتوقفوا عن المحاولة، وما عجزوا عن تحقيقه بالجمال والأحصنة والبلطجية يوم 3 فبراير سوف يحاولونه من جديد باستخدام الأسلحة الآلية وقنابل الغاز والعنف الطائفي.

الإسلاميون والليبراليون والصراع على السلطة

لم يتمكن الإخوان المسلمون من الاشتراك في الثورة بدون تذبذب وانشقاقات. فما دفع قيادة الإخوان المسلمين إلى التحرك كان الضغط من التيارات المختلفة داخل الجماعة، خاصة شباب الجماعة الذين اندمجوا مع الجماهير في الشوارع أثناء الثورة، أكثر منها المشاركة المبدئية في الثورة.
هذا التذبذب وهذه الانشقاقات ليست جديدة على الإخوان المسلمين. ذلك أن تاريخ الجماعة يشهد بهذا الميل منذ أيام مؤسسها الإمام حسن البنا حتى اليوم. ففي نهاية الأربعينات من القرن الماضي نجحت الملكية في تدمير قلب الجماعة برغم قوتها وحجم عضويتها البالغ عندئذ نصف مليون عضو، بواسطة استخدام الخلافات الحادة داخلها وعدم حسم القيادة في مواجهة النظام. كما مرت الجماعة بأزمة شبيهة في أولى سنوات ما بعد ثورة يوليو 1952 حين سمحت الانقسامات الداخلية وتردد القيادة بتدميرها بواسطة النظام الناصري.
هذا التذبذب الدائم بين المعارضة والتوافق، بين التصعيد والتهدئة، هو نتيجة لطبيعة الإخوان المسلمين كجماعة شعبوية دينية مكونة من قطاعات من البورجوازية الحضرية جنبا إلى جنب مع قطاعات من البورجوازية الصغيرة التقليدية والحديثة (طلاب وخريجي الجامعات) والمعطلين عن العمل وقطاعات من الفقراء. هذا الهيكل قادر على الاستقرار طالما هناك استقرار سياسي واجتماعي، لكنه يتحول إلى قنبلة موقوتة في لحظات الأزمات الحادة، حين يصبح من المستحيل التوافق بين المصالح الاجتماعية المختلفة والمتضاربة تحت مظلة واحدة وشاملة.
لم يتوقف الإخوان المسلمون لدقيقة واحدة عن تكرار التصريحات ذاتها بشأن وطنية الجيش وقيادته وكون التعرض للجيش خط أحمر، وعن دوره في "حماية" الثورة وأن أي تحرك ضد الجيش هو خيانة للثورة. بل أن أحد تصريحات الأخوان على موقعهم على الانترنت نص على "أن الجيش يحاول أن يحافظ على درجة من الانضباط بين صفوفه، ومن حقه أن يفعل ذلك، فهو إن لم يتمكن من الحفاظ على انضباطه الداخلي لن يتمكن بالتالي من حماية الشعب. في الوقت الحالي، الجيش هو القوة الوحيدة المنظمة في مصر وليس من مصلحتنا أن نضعفها ولا أن نسمح لأي طرف آخر أن يضعفها. نحن نعلم من يريدون الدفع في هذا الاتجاه ونعرف أهدافهم ونواياهم. الإخوان المسلمون يريدون للثورة أن تنتصر ونحن ندرك أن موقف جيشنا العظيم من الثورة هو عنصر أساسي في نجاحها. منذ اللحظة الأولى قال الجيش للشعب "يمكنكم التعبير عن آرائكم بحرية والتظاهر أثناء النهار، لكن ليس أثناء حظر التجول الليلي والذي اختصر ليصبح أقل من ثلاث ساعات".
أما فيما يتعلق بالبعد الاجتماعي للثورة والآخذ في التبلور من خلال موجة عارمة من الاعتصامات والإضرابات استمدت عنفوانها من الثورة، فقد اتخذ الإخوان المسلمون نفس موقف الحكومة والمجلس العسكري وطالبوا "بالعودة للعمل من أجل إنقاذ الاقتصاد المصري. والإخوان المسلمون يناشدون كل قطاعات الشعب المصري العمل على تدوير عجلة الإنتاج والتنمية. والمظاهرات من أجل المطالب الاجتماعية، رغم كونها حق أساسي، إلا أنها مدمرة للإنتاج وضارة بالاقتصاد، خاصة وأن الثورة حريصة على استمرار بناء الاقتصاد. يجب على المواطنين أن يشعروا بأن تضحياتهم من أجل حياة كريمة لم تكن مجرد حديثا فارغا، بل يجب على المصريين أن يثبتوا أنهم قادرون على تحقيق مزيد من الانجازات فيما بعد الثورة، أي على المصريين أن يساعدوا مصر على الخروج من الأزمة الاقتصادية."
هذا الموقف لا يقتصر، بالطبع، على الإخوان المسلمين. ذلك أن القوى الليبرالية أيضا شاركت بحماس كبير في نفس الحملة المزدوجة: الدعم المطلق للمجلس العسكري والحملة المجنونة ضد إضرابات العمال تحت عنوان "تدوير عجلة الإنتاج". بل أن عمرو حمزاوي، أحد نجوم الليبرالية، اقترح تشكيل مجموعات من الشباب والشخصيات العامة لنشر الدعوة المعادية للإضرابات بين العمال. كما أن العديد من المثقفين وثوار الأمس البعيد يحرضون لقمع الإضرابات بالتعاون مع الجيش، في حملة لقمع المرحلة الثانية من الثورة.
أسس الإسلاميون والليبراليون كلاهما العديد من الأحزاب متوقعين أن تكون الانتخابات في شهر سبتمبر. وعلى الرغم من أن المشاهد من الخارج قد يبدو له أن الجدال والخلاف بين الليبراليين العلمانيين والإسلاميين غير قابل للحل بشأن تفاصيل الدستور وموقع الشريعة الإسلامية في مصر المستقبل الديمقراطية الخ، إلا أن الطرفين في واقع الأمر حليفان مقربان حين يتعلق الأمر بالصراع الطبقي وحدود الثورة. الطرفان يدعمان المجلس العسكري تماما ويدينان أي نقد للجيش، وكلاهما يدعم رأسمالية السوق الحر، لكنهما يعارضان بشدة استمرار الإضرابات. والأرجح أن الاثنين سوف ينتهي بهما الأمر في تحالف وثيق من أجل إنقاذ الرأسمالية وقمع العمال.

متاهة الدستور والانتخابات البرلمانية

ممثلو الطبقات العليا والمتوسطة من أحزاب ليبرالية وإسلامية وإصلاحية يريدون جميعاً تجاوز المرحلة الانتقالية بمخاطرها والوصول لما يعتبرونه بر الأمان وهو برلمان منتخب يهيمن على غالبيته توازن ما بين الليبراليين والإسلاميين المعتدلين ودستور متوازن حمال أوجه ككافة الدساتير، مليء بالمتناقضات، وحكومة ورئيس توافقيين يستمران على نفس النهج العام لنظام مبارك من حيث السياسات الاقتصادية والخارجية ولكن بالطبع بدرجة أقل من القمع والاحتكار والفساد.
ولأن هؤلاء جميعاً لا يريدون المساس بجوهر النظام فإنهم سوف يصطدمون بالضرورة مع غالبية الجماهير الثائرة التي خرجت ضد جوهر النظام وليس فقط شكله. لذلك نجد على الدوام محاولات إغراق من قبل الإعلام ونجوم السياسة من قيادات أحزاب إلى ائتلافات شبابية بتنوعها تشغل ساحة الرأي العام بتفاصيل الدستور أولاً أم الانتخابات، والانتخابات بالقائمة أم بالنظام الفردي، وهل نريد نظاما رئاسيا أم نظاما برلمانيا أم خليطا من الاثنين، وغيرها من القضايا التي لا تمس المطالب الملحة لغالبية الجماهير. هذا لا يعني أن تفاصيل العملية الديمقراطية غير مهمة، لكن أسلوب تناولها من قبل تلك القوى يفصلها قصداً عن مطالب الجماهير، بل ينظر لمطالب الجماهير الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها نوع من الأنانية الفئوية المعيقة للإجماع الوطني والديمقراطي.

ثورة العمال

موجة الإضرابات التي بدأت في الأسبوع الثالث من الثورة والتي وجهت الضربة القاضية لمبارك لم تنته بالطبع مع سقوط الديكتاتور. بل أن النصر السياسي بعزل الديكتاتور أعطى دافعا قويا لآلاف الإضرابات الاقتصادية والسياسية في كافة أنحاء البلاد. وخلال الشهرين اللذين تلا سقوط مبارك بلغ عدد الإضرابات وعدد العمال المشاركين فيها أكبر من إجمالي عددهم في الموجة التي امتدت من 2006 – 2009، وهي أقوى موجة في تاريخ مصر المعاصر.
والحقيقة أن موجة إضرابات ما بعد مبارك كانت امتدادا وتعميقا للموجة التي سبقت ذلك. ومن ثم تأسست عشرات النقابات المستقلة في خضم الصراع، وانتخبت قيادتها بديمقراطية من ضمن لجان الإضراب. كذلك انتشرت موجة الإضرابات بين الصناعات المختلفة وبين المهنيين وفي القطاع الخاص. وتضمنت المطالب مطالبا اقتصادية مباشرة ومطالب وطنية عامة مثل الحد الأدنى للأجور ومطالب بتطهير الفاسدين. كان انتشار الإضرابات وتجذرها غير مسبوق.
هؤلاء الذين رغبوا في ثورة سياسية ديمقراطية منظمة، وانتقال منظم من الديكتاتورية إلى الديمقراطية بقيادة الديمقراطيين البورجوازيين والإسلاميين المعتدلين، انتقال يدعمه سلبا الطبقة العامل والفقراء، هؤلاء يبدو أنهم لم يستوعبوا تماما ما هم بصدده.
خلال الأيام الأولى من الثورة حين كان الهدف المشترك يقتصر على خلع مبارك وتأسيس ديمقراطية برلمانية بدا الأمر وكان هناك توافق عبر الطبقات، قد يكون العلم المصري أفضل ما جسده. الفقراء المعطلون عن العمل وكبار التنفيذيين في الشركات وكل من بينهما كان يرفع العلم بفخر. الجميع، سواء من حاربوا عند المتاريس أو من ظهروا لاحقا حين أصبحت الأمور أكثر أمنا، جميعهم شعروا بأن الثورة وحدتهم: ثورة الشعب المصري بأكمله، بكل طبقاته موحد ضد الديكتاتورية البغيضة. لكن هذا الشعور بالوحدة كان سطحيا ومؤقتا.
ذلك أن شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة كانت تعني أمورا مختلفة للطبقات المختلفة المشاركة في الثورة. الحرية للعامل لم تكن تعني حرية التصويت في الانتخابات أو حرية التعبير فحسب، بل كانت تعني أيضا التحرر من الجوع والشعور بعدم الأمان وتهديد البطالة المستمر. العدالة الاجتماعية كانت تعني المساواة وإعادة توزيع الثروة وأجورا ورعاية صحية وسكن وتعليم وخدمات عامة أفضل. فالكرامة تبقى خالية من المضمون إلا إذا تضمنت وضع حد للفقر والعوز.
لكن الديمقراطي البورجوازي كان لديه بالطبع فهم مختلف لهذه الشعارات. فالحرية بالنسبة له تعني نموذجا برلمانيا على غرار النمط الغربي، والعدالة الاجتماعية تعني تحسنا بسيطا في ظروف الفقراء طالما لا يفزعون المستثمرين وطالما أن مطالبهم "واقعية" ولا تهدد بقاء الرأسمالية؛ والكرامة تعني وضع حد لوحشية الشرطة، دون أن تضع في اعتبارها القضايا الاجتماعية.
كذلك كانت هناك قطاعات أخرى من الشعب سوف تترجم هذه الشعارات إلى أشياء شديدة التباين، وقد دفع سقوط مبارك بهذه الاختلافات إلى السطح.
ذلك يأتي بنا إلى قضية العلاقة بين السياسة والاقتصاد وبشكل أكثر تحديدا بين الثورة الديمقراطية والثورة الاجتماعية. الثورة الديمقراطية التي تلعب فيها الطبقة العاملة دور رئيسيا هي في حد ذاتها ضمنيا ثورة اجتماعية. ذلك أنه منذ اللحظات الأولى للثورة تلوح في الأفق معارك الصراع الطبقي التالية.
في حالة مصر حيث قامت الثورة ليس فقط ضد ديكتاتورية متوحشة وإنما ديكتاتورية رأسمالية ليبرالية جديدة، وحيث سبق الثورة سلسلة من المعارك العمالية ضد سياسات الليبرالية الجديدة، ما كان الأمر ليختلف، ولا يمكن أن تحسم الثورة على غرار الثورات الملونة هذه المرة.
هذا التفاعل بين الاحتجاجات السياسية والاقتصادية أثناء الثورة وصفته بعبقرية المناضلة الماركسية البولندية روزا لوكسمبورج في تحليلها للثورة الروسية في عام 1905.
"لكن الحركة ككل لا تنتقل من النضال الاقتصادي إلى السياسي، ولا العكس. ذلك أن كل فعل سياسي جماهيري كبير، بعدما يصل إلى ذروته السياسية، يتفكك إلى كم ضخم من الإضرابات الاقتصادية. كل بداية جديدة وكل انتصار جديد للنضال السياسي يتحول إلى محفز قوي للنضال الاقتصادي، موسعا أفق إمكانياته الخارجية، ومكثفا من تصميم العمال على تحسين وضعهم ودفع عزيمتهم في النضال. بعد كل موجة من فوران الفعل السياسي يبقى بعض الزبد النضالي الذي يدفع مئات النضالات الاقتصادية إلى الأمام. والعكس صحيح. ذلك أن نضال العمال الذي لا يكل في مواجهة الرأسماليين يحافظ على عنفوانه ويضاعف طاقته مع كل تحول سياسي."
هذا التفاعل بين المطالب السياسية والاقتصادية هو سمة مركزية في الثورة المصرية. وأحد العناصر التي تكثف من هذا التفاعل في حالة ثورتنا هو درجة استمرار الترابط ما بين مؤسسات الدولة والحزب الحاكم وكبار رجال الأعمال.
لم تكن صدفة إذا أن يبرز شعار "تطهير النظام" كأحد أهم الشعارات بعد سقوط مبارك. معنى ذلك أن الثورة لن تنجح سوى بعد التطهير الكامل لكل أعضاء الحزب الوطني والمسئولين الفاسدين من كافة مؤسسات الدولة. لذلك لم يخل إضراب منذ الثورة من مطالب عزل ومحاكمة القيادات والمديرين الفاسدين المرتبطين بالحزب الوطني. وقد اندمج هذا المطلب السياسي تماما ضمن باقي المطالب الاقتصادية من حد أدنى للأجور والتثبيت للعمالة المؤقتة وتحسين شروط العمل، الخ.
الوضع أشبه بما حدث أثناء ثورة البرتغال في عام 1974، على حد تفسير الماركسي البريطاني توني كليف في تحليله الهام لتلك الثورة:
"التطهير كان يعني أكثر بكثير من سجن رجال البوليس السري. بل أن التطهير الحقيقي والكامل كان يعني فعليا التدمير التام لهياكل الدولة الرأسمالية. وحيث أن سيطرة الدولة تعني التحكم في كافة مناحي الحياة الاجتماعية، والبنوك، والكنائس والمدارس والجامعات والمكاتب وإدارات المصانع، فإن التطهير الكامل كان يعني تدمير الهرمية الاجتماعية بأكملها بداية من مجالس الإدارة وحتى أصغر رئيس للعمال."
لذلك، فإن ما بدأ في مصر يوم 25 يناير كثورة سياسية ديمقراطية خالصة يمكن أن يتطور ليصبح ثورة تتحدى دعائم المجتمع الرأسمالي ذاتها.

ما بين طموح التوقعات والأزمة الاقتصادية

العنصر الآخر الذي يدفع بالثورة المصرية فيما يتجاوز حدود الانتقال الديمقراطي البورجوازي هو زيادة عمق التناقض بين طموحات ومطالب العمال المصريين والفقراء من ناحية والأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها الرأسمالية المصرية من ناحية أخرى. فالجماهير تتوقع زيادة في الأجور وانخفاض في معدلات البطالة وسكن وتعليم ورعاية صحية أفضل. لكن كل هذه الأمور سوف تسير من سيء إلى أسوأ في إطار النظام الرأسمالي.
صحيح أن الاقتصاد المصري كان مأزوما من قبل الثورة، لكن الأمور ساءت بشدة منذ ذلك الوقت. ربما تكون أوضح المشكلات الحالية هي التضخم. ذلك أن أسعار الغذاء على سبيل المثال ارتفعت بنسبة 20% في أبريل 2011 مقارنة بنفس الوقت من العام الماضي. كما شهدت معدلات البطالة ارتفاعا حادا، ضاعف منه عودة مئات الآلاف من العاملين من ليبيا، حيث بلغ عدد العمال المصريين العاملين هناك حوالي 1.5 مليون عامل. لكن الثورة والحرب الأهلية هناك تسببتا في انخفاض حاد في تحويلات العمال التي تمثل مصدرا هاما من مصادر العملة الأجنبية. كذلك انخفض الدخل من السياحة التي تمثل 11% من الدخل القومي، وبذلك انضم مئات الآلاف إلى ملايين الشباب المعطلين عن العمل.
في محاولة لتثبيت الاقتصاد حاولت الحكومة الاستفادة من الاحتياطي الأجنبي في دعم الجنيه المصري وبالتالي انخفض الاحتياطي من 34 مليار دولار إلى 28 مليار دولار في الشهور الثلاث الأخيرة. ومع ذلك فقد استمر الجنيه المصري في الانخفاض. وأصبح الخطر طويل المدى الذي يهدد الاقتصاد هو مزيد من انخفاض الاحتياطي يليه تذبذب الجنيه ثم انهيار قيمته تماما.
لقد قدر عجز الميزانية في عام 2011 بما يزيد عن 9% وانكمش معدل النمو بحوالي 4.2% في الربع الأول من العام.
معنى كل ما سبق أنه إما أن الرأسمالية المصرية على وشك الانهيار أو أن الطبقة العاملة والفقراء في مصر سوف يجبرون على دفع ثمن هذه الأزمة. لكن الطبقة العاملة والفقراء ثاروا، ومستمرون في الثورة، بالتحديد لأنهم كانوا يدفعون ثمن الليبرالية الجديدة وإخفاقاتها لعقود. ما ينتظرونه الآن هو وضع حد للفقر والبطالة والإهانة وعدم الشعور بالكرامة الذي طالما عانوا منه.
الجنرالات والرأسماليون وحكوماتهم الانتقالية غير قادرين على تقديم أي تنازلات حقيقية للعمال بدون القطع ليس فقط مع الليبرالية الجديدة وإنما أيضا مع هيكل الاقتصاد الرأسمالي ذاته. وذلك أمر ليس مستحيلا فحسب، بل أنه بمثابة الانتحار بالنسبة لحكام وملاك مصر، الذين سوف يحاربون بكل ما أوتوا من قوة وسلطة لإنقاذ النظام ولإجبار الفقراء على دفع الثمن. لكن الفقراء أيضا سوف يحاربون بكل ما أوتوا من قوة وعزم لإنقاذ ثورتهم.
هناك معارك حادة وعنيفة تلوح في الأفق.


تدخل الرأسمالية العالمية

الرأسمالية المصرية هي جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي العالمي، وبقاؤها يعتمد على صلاتها الحيوية التي تربطها باقتصاديات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج، وهي بالتحديد الأطراف التي تلجأ إليها الحكومة الانتقالية طلبا للمساعدة. وهذا هو بالضبط ما حدث. ذلك أن إعلان المجلس العسكري والحكومة الانتقالية، كما هو متوقع، رغبتها في الاستمرار في نفس السياسات الاقتصادية والخارجية التي انتهجها النظام السابق، جعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، متحمسة لتقديم المساعدة.
لقد أعلن اجتماع الثمانية الكبار الذي عقد يومي 26 و 27 مايو بحضور عصام شرف تقديم حوالي 20 مليار دولار أمريكي لكل من مصر وتونس. وإذا أضفنا إلى هذا الرقم الدعم المقدم لمصر من دول الحليج فإن مصر تصبح على وشك الحصول على حوالي 15 مليار دولار كقروض واستثمارات ومعونة من الحكومات والمؤسسات المالية الدولية. لكن هذه الأموال لا تأتي بدون شروط. فالمنح مشروطة باستمرار سياسات الليبرالية الجديدة بما يعني الخصخصة والتفكيك وتشجيع الاستثمار الأجنبي.
يوم 24 مايو تم الإعلان عن هذه الشروط بعد إعلان البنك الدولي وصندوق النقد منحهما 4.5 مليار دولار لمصر على مدى عامين. وإدراكا منه أن "الإصلاح على نفس القدر من أهمية الأموال" أوضح صندوق النقد خلال قمة الثمانية الكبار توقعاته من مصر قبل أن تبدأ الأموال في التدفق:
"القضاء على معدلات البطالة العالية سوف يستدعي زيادة كبيرة في معدلات النمو الاقتصادي. إن تحقيق هذه المعدلات العالية من النمو سوف يؤدي إلى مزيد من الاستثمار وتحسين الإنتاج. ورغم أننا قد نحتاج إلى بعض الزيادة في الإنفاق الاجتماعي، على سبيل المثال، لتحسين البنية التحتية والخدمات في المناطق الريفية الأكثر احتياجا، إلا أن الدور الرئيسي يجب أن يكون مع القطاع الخاص، بما في ذلك جذب الاستثمار الأجنبي المباشر. من هنا يجب على السياسات الحكومية أن تدعم بيئة تسمح بازدهار القطاع الخاص."
لذلك فإن الجهد الرئيسي الذي تبذله المؤسسات المالية الدولية في مرحلة ما بعد مبارك هو الضغط من أجل الإسراع في تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة التي انتهجها نظام مبارك. وهي نفس السياسات التي أدت إلى إفقار الشعب وتركز الثروة في أيدي أقلية ضئيلة وتيسير التزاوج بين الدولة وأصحاب البلايين.
هذا هو بالضبط ما ثرنا ضده وهو بالضبط ما يقدم لنا مرة أخرى بتعديل بسيط في الإخراج.

التحضير للثورة الثانية

كما ذكرنا أعلاه تتضمن الثورة تفاعلا معقدا بين المطالب السياسية والاقتصادية وبين مرحلتيها الديمقراطية والاجتماعية. فلا توجد أسواراً فاصلة بين مراحل الثورة. فتحقيق المطالب الديمقراطية الأساسية للثورة، والذي بالكاد بدأ، لا يمكن الحفاظ عليها واستكمالها سوى بالمشاركة الواسعة لجماهير الطبقة العاملة، مما يؤدي بالضرورة إلى التعميق الاجتماعي للثورة الديمقراطية ويبرز المطالب الاجتماعية التي لا يمكن تحقيقها في إطار النظام الرأسمالي وأزماته اللانهائية.
بالتالي فإن الاستكمال الحقيقي للثورة الديمقراطية يتطلب أن تبادر الطبقة العاملة بقيادة فقراء الفلاحين والمدن والقطاعات المظلومة في المجتمع، فقراء الأقباط والنوبيين وبدو سيناء. هذا أمر ضروري لإنقاذ الثورة من الاحتواء والرجعية والثورة المضادة ومن ثم التحضير لانتفاضة جديدة تستكمل إسقاط النظام وتستكمل عملية التطهير من خلال تدمير هياكل دولة النظام القديمة. ومن بعدها البدء في بناء "الجمهورية الاجتماعية" من خلال استيلاء الطبقة العاملة على السلطة السياسية بدعم من فقراء الريف والمدن وكل قطاعات المجتمع المقموعة والمستغلة ليس فقط على يد النظام القديم وإنما أيضا على يد ما يسمى بالنظام الانتقالي وجنرالاته.
لا يمكن تحقيق هذه المهام من خلال تنظيم النقابات المستقلة واللجان الشعبية فحسب، رغم ما لها من دور حيوي في الانتفاضة القادمة. هناك احتياج حيوي لبناء حزب ثوري، حزب لا تقتصر مهمته على توحيد الشرائح الأكثر تقدما من الطبقة العاملة وإنما أيضا جذب القطاعات الأقل تنظيما والمنعزلة في الطبقة. يجب أن يصبح هذا الحزب "منبرا للمظلومين" وأن ينتصر لبرنامجه بين كل ضحايا الاستغلال والقمع الذين لن تنتهي معاناتهم سوى بقيادة الطبقة العاملة.
الوضوح والصدق عنصران هامان للغاية في هذه المرحلة الثورية. سوف يحاربنا العدو بشراسة. وسوف يلعب الجيش دورا ضخما في محاولة قمع، لا الانتفاضة فحسب، وإنما أيضا أي بقايا لمنظمات عمالية مستقلة. لذلك من الهام جدا في المعارك القادمة أن نكسب الجنود وشباب الضباط إلى صف الثورة لكي نكشف ونعزل وفي النهاية نهزم قيادة الجيش.
الفجوة كبيرة بين الحجم والقوة الحالية لليسار الثوري في مصر والمهام الملقاة على عاتقه. لكننا نعلم أن نضالنا يمكن أن يكون له تأثير حقيقي في تشكيل النضالات القادمة. من كانوا منا في ميدان التحرير أثناء المرحلة الأولى من الثورة والذين اعتقدوا أن العمال قادرون على القضاء على مبارك لم ينتظروا الإضرابات فحسب، بل ذهبوا وتحاوروا مع القيادات في أماكن عملهم من أجل استخدام قوتهم الجماعية ضد النظام.
إن الأزمة الثورية التي تعيشها مصر والعالم العربي، والتي زاد من حجمها سياق الأزمة الاقتصادية العالمية، هي على قدر من العمق والاتساع يجعل من الصعب على أعدائنا أن يجدوا لها حلا في المستقبل القريب.
والأرجح أن الثورة سوف تمتد لسنوات وليس فقط لشهور، مما يمكن الثوريين من فرصة تاريخية حقيقية. فإذا اخترنا المسار الصحيح فما يتعلق بالقضايا الرئيسية في الاستراتيجية والتكتيك الثوري وإذا تعلمنا الدروس الحقيقة من إخفاقات ونجاحات الثورات السابقة فإننا يمكن أن نتحدث عن إمكانية لانتصار تاريخي للطبقة العاملة في مصر والمنطقة.
وهناك عنصر جوهري آخر يمكن أن يكون الفيصل بين النصر والهزيمة هو الأممية الثورية. فالطبقة الرأسمالية العالمية تتوحد وتنظم نفسها لاحتواء وخنق الثورة المصرية. لكن الرأسمالية العالمية تعيش أزمة طويلة وممتدة. في كل أنحاء العالم تحاول الطبقات الحاكمة أن تجبر الطبقات العاملة على دفع ثمن هذه الأزمة. وفي كل مكان تتصاعد المقاومة وتتعمق بداية من الإضرابات والمظاهرات الحاشدة في اليونان وأسبانيا اللتين استلهمتا وألهمتها الثورة المصرية. والثورتان في اليمن وسوريا مستمرتان على الرغم من أنهما تواجهان قمعا وحشيا. كل انتصار للطبقات العاملة والجماهير في منطقة ما أو بلد ما سوف يعطي دفعة هائلة للآخرين. لكننا لا نستطيع أن نعتمد فقط على التفاعل العفوي نسبيا بين هذه الثورات والحركات. نحن في حاجة إلى تنظيم التضامن الأممي واستخدام هذه اللحظة التاريخية لبناء منظماتنا في كافة أنحاء العالم.
لأول مرة منذ عقود، لدينا فرصة حقيقية للنصر